الكتاب: البرهان في علوم القرآن المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه   (ثم صوَّرته دار المعرفة، بيروت، لبنان - وبنفس ترقيم الصفحات) عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   (الكتاب مقابل) ---------- البرهان في علوم القرآن الزركشي، بدر الدين الكتاب: البرهان في علوم القرآن المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه   (ثم صوَّرته دار المعرفة، بيروت، لبنان - وبنفس ترقيم الصفحات) عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   (الكتاب مقابل) الكتاب: البرهان في علوم القرآن المؤلف : بَدْر الدِّينِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن بهادر الزركشي (المتوفى: 794هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه (ثم صورته دار المعرفة، بيروت، لبنان - وبنفس ترقيم الصفحات) عدد الأجزاء: 4 [الكتاب مقابل وترقيمه موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 (جميع الحقوق محفوظة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 مقدمة 1 - بَدْر الدِّينِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن بهادر الزركشي أحد العلماء الأثبات الذين نجموا بمصر في القرن الثامن، وجهبذ من جهابذة أهل النظر وأرباب الاجتهاد، وهو أيضا علم من أعلام الفقه والحديث والتفسير وأصول الدين. ولد بالقاهرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة حينما كانت معمورة بالمدارس، غاصة بالفضلاء وحملة العلم، زاخرة بدور الكتب الخاصة والعامة، والمساجد الحافلة بطلاب المعرفة، والوافدين من شتى الجهات، ولم يكد يجاوز سن الحداثة حتى انتظم في حلقات الدروس، وتفقه بمذهب الشافعي، وحفظ كتاب المنهاج في الفروع للإمام النووي، وصار يعرف بالمنهاجى نسبة إلى هذا الكتاب. وكان الشيخ جمال الدين الإسنوي رئيس الشافعية بالديار المصرية بدر العلماء الزاهر، وكوكبهم المتألق، وإمام أهل الحديث بالمدرسة الكاملية غير مدافع، فلزمه وتلمذ له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ونهل من علمه ما شاء الله له أن ينهل، فكان من أنجب تلاميذه وأوعاهم، وأفضلهم وأذكاهم، كما تخرج على الشيخ سراج الدين البلقيني، والحافظ مغلطاي، وغيرهم من شيوخ مصر وعلمائها. ثم ترامت إليه شهرة الشيخ شهاب الدين الأذرعي بحلب، والحافظ بن كثير بدمشق فشد إليهما الرحال، قصد إلى حلب أولا حيث أخذ عن الأذرعي الفقه والأصول، ثم عمد إلى دمشق حيث تلقى على ابن كثير الحديث، ثم عاد إلى القاهرة وقد جمع أشتات العلوم، وأحاط بالأصول والفروع، وعرف الغامض والواضح، ووعى الغريب والنادر، واستقصى الشاذ والمقيس، إلى ذكاء وفطنة، وثقافة والمعية، فأهله كل ذلك للفتيا والتدريس، والتوفر على الجمع والتصنيف، واجتمع له من المؤلفات في عمره القصير ما لم يجتمع لغيره من أفذاذ الرجال، وإن كان هذا الفضل لم يعرفه الناس إلا بعد وفاته، وحين توارت شمس حياته. وكان رضى الخلق، محمود الخصال، عذب الشمائل، متواضعا رقيقا، يلبس الخلق من الثياب، ويرضى بالقليل من الزاد، لا يشغله عن العلم شيء من مطالب الدنيا، أو شئون الحياة. قال ابن حجر: (وكان مقطعا في منزله لا يتردد إلى احد الا إلى سوق الكتب، وإذا حضر إليها لا يشترى شيئا، وإنما يطالع في حانوت الكتبي طول نهاره ومعه ظهور أوراق يعلق فيها ما يعجبه، ثم يرجع فينقله إلى تصانيفه) وحكى تلميذه شمس الدين البرماوي أنه كان منقطعا إلى الاشتغال بالعلم لا يشتغل عنه بشيء، وله أقارب يكفونه أمر دنياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وكان يكتب مصنفاته بنفسه، وخطه رديء جدا قل من يحسن استخراجه، كما أخبر بذلك ابن العماد، ولهذا شاع في الكتب المنقولة عن خطه الغموض والإبهام والتحريف والتصحيف، ولقي منها القراء والدارسون العناء الكثير. وتولى من المناصب خانقاه كريم الدين بالقرافة الصغرى. وتوفى بمصر في رجب سنة أربع وتسعين وسبعمائة، ودفن بالقرافة بالقرب من تربة بكتمر الساقي يرحمه الله. 2 - مؤلفاته 1 - الإجابة على إيراد ما استدركته عائشة على الصحابة طبع بالمطبعة الهاشمية بدمشق سنة 1939، بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني. 2 - إعلام الساجد بأحكام المساجد. منه نسخة خطية بمكتبة الجامع المقدس بصنعاء، كتبت سنة 791، وعنها نسخة مصورة على الميكروفلم بدار الكتب المصرية. ومنه نسخة أيضا في مكتبة آصاف (2: 1148) ، وأخرى في مكتبة رامبور (1: 166) . 3 - البحر المحيط في أصول الفقه. ومنه نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 483 - أصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 4 - البرهان في علوم القرآن ويأتي الكلام عليه. 5 - تخريج أحاديث الشرح الكبير للرافعي، المسمى بكتاب،، فتح العزيز على كتاب الوجيز،، ذكره السيوطي في حسن المحاضرة وصاحب كشف الظنون، وسماه الزركشي في كتاب الإجابة ص 87: (الذهب الإبريز، في تخريج أحاديث فتح العزيز) . 6 - تشنيف المسامع بجمع الجوامع طبع في مجموع شروح جمع الجوامع بمصر سنة 1322 هـ، ومنه نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 489 - أصول 7 - تفسير القران ذكره السيوطي وقال: انه وصل فيه إلى سورة مريم، وكذا أورده صاحب كشف الظنون 8 - تكملة شرح المنهاج للإمام النووي. ذكره الأسدي في الطبقات، وابن العماد في الشذرات، وصاحب كشف الظنون وذكر الأستاذ سعيد الأفغاني أن منه نسخة خطية بدار الكتب الظاهرية بدمشق (الجزء الثالث) برقم 345 - فقه الشافعي وكان الإسنوي بدا في شرح المنهاج، وسماه ((كافي المحتاج إلى شرح المنهاج)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ووصل فيه إلى باب المساقاة ولم يتمه، فأكمله الزركشي 9 - التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح طبع بالمطبعة المصرية بمصر سنة 1933 م. ومنه نسخ خطية بدار الكتب المصرية بالأرقام: 122، 123، 124، 125، 126، 1550، 35 م، 3 ش - حديث. 10 - خادم الرافعي والروضة في الفروع ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة، ج والسيوطي في حسن المحاضرة، وابن العماد في الشذرات، وقال صاحب كشف الظنون: (ذكر في بغية المستفيد انه أربعة عشر مجلدا، كل منها خمس وعشرون كراسة، ثم إنى رأيت المجلد الأول منها افتتح بقوله: الحمد لله الذي أمدنا بنعمائه ... ، وذكر انه شرح فيه مشكلات الروضة وفتح مغلقات فتح العزيز، وهو على أسلوب التوسط للأذرعي، وأخذه جلال الدين السيوطي، واختصره من الزكاة إلى آخر الحج ولم يتمه، وسماه تحصين الخادم) . وقال ابن حجر: (جمع الخادم على طريق المهمات، فاستمد من التوسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 للأذرعي، لكن شحنه بالفوائد الزوائد، من المطلب وغيره) . ومنه نسخة خطية نفيسة بدار الكتب المصرية برق 21602 ب تقع في خمسة عشر مجلدا. 11 - خبايا الزوايا في الفروع ذكره صاحب كشف الظنون وقال: (ذكر فيه ما ذكره الرافعي والنووي في غير مظنته من الأبواب، فرد كل شكل إلى شكله، وكل فرع إلى أصله، واستدرك عليه عز الدين حمزة بن احمد الحسيني الدمشقي المتوفى سنة 874 وسماه بقايا الخبايا. ولبدر الدين ابن السعادات محمد بن محمد البلقيني المتوفى سنة 890 حاشية عليه) . ومنه نسخة خطية بالمكتبة التيمورية برقم 307 - فقه، ونسخة بمكتبة جوته برقم 981، ونسخة بمكتبة البودليانا 1: 277. 12 - خلاصة الفنون الأربعة ومنه نسخة خطية بمكتبة برلين برقم 5320 13 - الديباج في توضيح المنهاج ذكره السيوطي، وصاحب كشف الظنون، وهو غير تكملة شرج المنهاج. ونقل الأستاذ سعيد الأفغاني أن منه نسخة خطية في دار الكتب الظاهرية بدمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 في مجلد - برقم 68 فقه الشافعي. ومنه أيضا نسختان بدار الكتب المصرية برقمي 102، 1137 - فقه الشافعي. - الذهب الإبريز في تخريج أحاديث العزيز = تخريج أحاديث الرافعي. 14 - ربيع الغزلان في الأدب ذكره الأسدي في الطبقات، وصاحب كشف الظنون. 15 - رسالة في كلمات التوحيد. منها نسخة بمكتبة البلدية بالإسكندرية برقم 87 - فنون متنوعة 16 - زهر العريش في أحكام الحشيش منه نسخة خطية في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم 3812، ونسخة بدار الكتب المصرية برقم 150 مجاميع، ونسخة في مكتبة قوله برقم 25 مجاميع، ونسخة في مكتبة برلين برقم 5486، ونسخة في مكتبة جوته برقم 2096. 17 - سلاسل الذهب في الأصول منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 22095 ب، كتبت في عصر المؤلف. 18 - شرح الأربعين النووية. ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 19 - شرح البخاري ذكره السيوطي وكذا ابن حجر وقال: (شرع في شرح البخاري وترك مسودة وقفت على بعضها، ولخص منها كتاب التنقيح في مجلد) 20 - شرح التنبيه للشيرازي ذكره السيوطي وصاحب كشف الظنون، ومنه نسخة خطية في مكتبة برلين برقم 4466، وأخرى في باتانا 1: 91. - شرح الجامع الصحيح = شرح البخاري - شرح جمع الجوامع = تشنيف المسامع 21 - شرح الوجيز في الفروع للغزالي ذكر الأستاذ سعيد الأفغاني أن منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق برقم 2392. 22 - عقود الجمان وتذييل وفيات الأعيان لابن خلكان ذكر العلامة احمد تيمور في مقال له عن نوادر المخطوطات بمجلة الهلال سنة 28 أن منه نسخة في خزانة عارف حكمت بالمدينة. 23 - الغرر السوافر فيما يحتاج إليه المسافر. منه نسخة خطية بمكتبة توبنجن بألمانيا، وعنها نسخة مصورة بالميكروفلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية. وذكر صاحب كشف الظنون انه مختصر على ثلاثة أبواب: الباب الأول في مدلول السفر، والثاني في ما يتعلق عند السفر، والثالث في الآداب المتعلقة بالسفر. - غنية المحتاج في شرح المنهاج = الديباج. 24 - فتاوى الزركشي ذكره صاحب كشف الظنون. 25 - في أحكام التمني منه نسخة خطية بمكتبة برلين برقم 5410 26 - القواعد في الفروع ذكره صاحب كشف الظنون وقال: (رتبها على حروف المعجم، وشرحها سراج الدين العبادي في مجلدين، واختصر الشيخ عبد الوهاب الأصل كما ذكر في متنه) . وذكر الأستاذ الأفغاني انه من (مخطوطات دمشق واسمه: القواعد والزوائد) . ومنه نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية برقمي 853، 1103 - فقه شافعي، ونسخة بمكتبة الأزهر برقم 151 - أصول، ونسخة بالخزانة التيمورية برقم 230 - أصول ونسخة بمكتبة برلين برقم 4605، ونسختان في احمد الثالث برقمي 1238، 1239 27 - اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة. أورده بروكلمن في الذيل، وذكره صاحب كشف الظنون غفلا من اسم المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 28 - لقطة العجلان وبلة الظمآن في أصول الفقه والحكمة والمنطق. طبع بمصر سنة 1326 هـ مع تعليقات للشيخ جمال الدين القاسمي، وطبع مرة أخرى بدمشق. ومنه نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 573 - أصول 29 - مالا يسع المكلف جهله. منه نسخة خطية محفوظة بمكتبة الاوسكريال برقم 707. 30 - مجموعة الزركشي - في فقه الشافعي منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 253 - فقه شافعي 31 - المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر منه نسخة خطية في المكتبة التيمورية برقم 451 - حديث تيمور. وذكر الأستاذ سعيد الأفغاني أن منه نسخة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 1115 - حديث - المنثور = القواعد - النكت على البخاري = التنقيح. 32 - النكت على عمدة الأحكام. ذكره ابن تغرى بردى في المنهل الصافي. 33 - النكت على ابن الصلاح ذكره السيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 3 - كتاب البرهان وكتاب البرهان في علوم القرآن من الكتب العتيدة التي جمعت عصارة أقوال المتقدمين، وصفوة آراء العلماء المحققين، حول القرآن الكريم، وكتاب الله الخالد، كسره على سبعة وأربعين نوعا، كل نوع يدور حول موضوع خاص من علوم القرآن ومباحثه، يستأهل كل نوع أن يكون موضوعا خاص، حاول في كل موضوع أن يؤرخ له، ويحصى الكتب التي الفت فيه، ويشير إلى العلماء والمحدثين، إلى مباحث الفقهاء والأصوليين، إلى قضايا المتكلمين وأصحاب الجدل، إلى مسائل العربية وآراء أرباب الفصاحة والبيان، فجاء كما شاء الله كتابا فريدا في فنه، شريفا في أغراضه، مع سداد المنهج، وعذوبة المورد، وغزارة المادة، بعيدا عن التعمية واللبس، ناوئا عن الحشو والفضول. ولكن هذا الكتاب لم يكن معروفا عند الباحثين، ولا متداولا بين الطلاب والدارسين، عدا قلة من المشغوفين بمعرفة النوادر ورواد المكتبات، شأنه شأن الكثير من كتب الزركشي على عظيم خطرها، وجلالة موضوعاتها، ومقدار غنائها ونفعها، حتى جاء جلال الدين السيوطي ووضع كتابه الإتقان، فدل الناس في مقدمته عليه، وأشاد به، وعده أصلا من الأصول التي بنى عليها كتابه، وتأسي طريقته، وتقيل مذهبه، وسار في الدرب الذي رسمه، ونقل كثيرا من فصوله، مرة معزوة إليه، ومرة بدون عزو، وإن كان فيما نقل عنه اقتضب الكلام اقتضابا، واختصره اختصارا، وبهذا ظفر كتاب الإتقان بمنزلة مرموقة عند العلماء، وغدا مرجعا للباحثين حقبة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الزمان، وظل كتاب البرهان متواريا عن العيان، مطمورا في زوايا النسيان. وأعان على ذلك قلة نسخة المخطوطة، وتعذر الانتفاع بها. 4 - نسخ الكتاب وحينما تهيأ لي العمل في هذا الكتاب وقفت على النسخ الآتية: 1 - نسخة مكتوبة بقلم نسخ واضح، قوبلت على أصلها، كما قوبلت على نسخة بخط المصنف، طالعها بعض العلماء واثبتوا بعض التعليقات على حواشيها، ومنهم العلامة محب الدين بن الشحنة المتوفى سنة 815 هـ، مكتوبة بخط قديم ربما كان في عصر المصنف، كتبها احمد بن احمد المقدسي. والموجود من هذه النسخ الجزء الأول ينتهى بانتهاء الكلام في أقسام معنى الكلام ويقع في مائة وستين ورقة، وعدد اسطر صفحاتها سبعة وعشرون سطرا. وهى محفوظة بدار الكتب المصرية بمكتبة طلعت، برقم 456 - تفسير. وقد رمزت إليها بالحرف ط. 2 - نسخة وقعت في مجلدين: الأول كتب بخط نسخ واضح مضبوط بالحركات، ويبدو انه من خطوط القرن التاسع. ويقع في ست ومائتي ورقة، وعدد اسطر كل صفحة خمسة وعشرون سطرا، وبه بياضات متفرقة في بعض المواضع. والثاني يكمل هذه النسخة بخطوط حديثة متعددة، آخره مؤرخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 في 11 ذي القعدة سنة 1335 بدون ذكر للأصل المنسوخ عنه، وبه أيضا بياضات متفرقة في بعض الأماكن ومواضع نقص. ويقع في ست وثلثمائة ورقة، وعدد اسطر كل صفحة خمسة وعشرون سطرا وهى محفوظة بالخزانة التيمورية برقم 256 - تفسير. وقد رمزت إليها بالحرف ت. 3 - نسخة مصورة عن نسخة مكتوبة بقلم معتاد بدون تاريخ، منقولة عن نسخة أخرى جاء في آخرها أنها كتبت (في رَابِعَ عَشَرَ شَهْرِ شَعْبَانَ الْفَرْدِ مِنْ شُهُورِ سنة تسع وسبعين وثمانمائة) . ويبدو من خطها أنها مكتوبة في القرن العاشر وتقع في ثنتين وثلاثين وثلاثمائة ورقة، وعدد اسطر الصفحة واحد وثلاثون سطرا، وبأولها فهرس لفصول الكتاب وأبوابه وأقسامه. واصل هذه النسخة محفوظ بمكتبة مدينة، الملحقة بمكتبة طوبقبوا سراي باستانبول برقم 170. وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف م. وقد اتخذت هذه النسخ أصلا للعمل في الكتاب، واثبت ما اخترت منها، وأوضحت في الحاشية وجوه الاختلاف، كما أنى رجعت إلى ما تيسر لي الاطلاع عليه من الكتب التي رجع إليها المؤلف، في التفسير والحديث والفقه والنحو واللغة كالصرف والرسم والبلاغة والقراءات، فكان لها الفضل الكبير في جلاء الغامض، وتصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المحرف، وتوضيح المشكل، وإكمال الناقص، كما أعانتني في الحواشي التي وشيت بها الكتاب. وما عدا العنوانات التي وضعها المؤلف جعلته بين علامتي الزيادة، وألحقت بكل جزء فهارس موضوعاته، أما الفهارس المفصلة العامة فسترد في آخر الكتاب إن شاء الله. وقد بذلت في تحقيقه ما استطعت من الجهد،. من الله أستمد الرضا وأستمنحه القبول. مصر الجديدة في 21 رمضان سنة 1276 21 أبريل سنة 1957 محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 نموذج لأول صفحة من نسخة تيمور (ت) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 نموذج لآخر صفحة من نسخة طلعت (ط) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 البرهان في علوم القرآن للإمام بَدْر الدِّينِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الزَّرْكَشِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 المجلد الأول بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف قال الشيخ الإمام العلامة وحيد الدهر وفريد العصر جامع شتات الْفَضَائِلِ وَنَاصِرُ الْحَقِّ بِالْبُرْهَانِ مِنَ الدَّلَائِلِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَدْر الدِّينِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الزَّرْكَشِيّ الشَّافِعِيُّ بَلَّغَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَرْجُوهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَوَّرَ بِكِتَابِهِ الْقُلُوبَ وأنزل في أوجز لفظه وأعجز أسلوبه فَأَعْيَتْ بَلَاغَتُهُ الْبُلَغَاءَ وَأَعْجَزَتْ حِكْمَتُهُ الْحُكَمَاءَ وَأَبْكَمَتْ فصاحته الخطباء. أحمده أن جعل فَاتِحَةَ أَسْرَارِهِ وَخَاتِمَةَ تَصَارِيفِهِ وَأَقْدَارِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى وَنَبِيُّهُ الْمُرْتَضَى الظَّافِرُ مِنَ الْمَحَامِدِ بِالْخَصْلِ الظَّاهِرُ بِفَضْلِهِ عَلَى ذَوِي الْفَضْلِ مُعَلِّمُ الْحِكْمَةِ وَهَادِي الْأُمَّةِ أَرْسَلَهُ بِالنُّورِ السَّاطِعِ وَالضِّيَاءِ اللَّامِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ وَصَحْبِهِ الْأَخْيَارِ أَمَّا بعد: فإن أول مَا أُعْمِلَتْ فِيهِ الْقَرَائِحُ وَعَلِقَتْ بِهِ الْأَفْكَارُ اللواقح فحص عَنْ أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ وَالْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَعَالِمُ وَتَثْبُتُ الدَّعَائِمُ فَهُوَ الْعِصْمَةُ الْوَاقِيَةُ وَالنِّعْمَةُ الْبَاقِيَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالدَّلَالَةُ الدَّامِغَةُ وَهُوَ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَالْحَكَمُ الْعَدْلُ عِنْدَ مشتبهات الأمور وهو الكلام الجزل والفصل الذي ليس بحزن سِرَاجٌ لَا يَخْبُو ضِيَاؤُهُ وَشِهَابٌ لَا يَخْمَدُ نوره وثناؤه وَبَحْرٌ لَا يُدْرَكُ غَوْرُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ وَتَظَافَرَ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ وَتَظَاهَرَتْ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ وَتَقَارَنَ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ وَمَقَاطِعُهُ وَحَوَتْ كُلَّ الْبَيَانِ جَوَامِعُهُ وَبَدَائِعُهُ قَدْ أَحْكَمَ الْحَكِيمُ صِيغَتَهُ ومعناه وَقَسَّمَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ إِلَى مَا يُنَشِّطُ السَّامِعَ وَيُقَرِّطُ الْمَسَامِعَ مِنْ تَجْنِيسٍ أَنِيسٍ وَتَطْبِيقٍ لَبِيقٍ وَتَشْبِيهٍ نَبِيهٍ وَتَقْسِيمٍ وَسِيمٍ وَتَفْصِيلٍ أَصِيلٍ وَتَبْلِيغٍ بليغ وتصدير بالحسن جدير وترديد ماله مزيد إلى غير ذلك مما أجرى الصِّيَاغَةِ الْبَدِيعَةِ، وَالصِّنَاعَةِ الرَّفِيعَةِ، فَالْآذَانُ بِأَقْرَاطِهِ حَالِيَةٌ، وَالْأَذْهَانُ مِنْ أَسْمَاطِهِ غَيْرُ خَالِيَةٍ فَهُوَ مِنْ تُنَاسُبِ أَلْفَاظِهِ وَتَنَاسُقِ أَغْرَاضِهِ قِلَادَةٌ ذَاتُ اتِّسَاقٍ، وَمِنْ تَبَسُّمِ زَهْرِهِ وَتَنَسُّمِ نَشْرِهِ، حَدِيقَةٌ مُبْهِجَةٌ لِلنُّفُوسِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَحْدَاقِ، كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهُ لَهَا مِنْ نَفْسِهَا طَرَبٌ، وَمِنْ ذَاتِهَا عَجَبٌ، وَمِنْ طَلْعَتِهَا غُرَّةٌ، وَمِنْ بَهْجَتِهَا دُرَّةٌ، لَاحَتْ عَلَيْهِ بَهْجَةُ الْقُدْرَةِ، وَنَزَلَ مِمَّنْ لَهُ الْأَمْرُ، فَلَهُ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ سُلْطَانٌ وَإِمْرَةٌ، بَهَرَ تَمَكُّنُ فواصله، وحسن ارتباط أواخره وأوائله وَبَدِيعُ إِشَارَاتِهِ وَعَجِيبُ انْتِقَالَاتِهِ مِنْ قِصَصٍ بَاهِرَةٍ إِلَى مَوَاعِظَ زَاجِرَةٍ وَأَمْثَالٍ سَائِرَةٍ وَحِكَمٍ زَاهِرَةٍ وَأَدِلَّةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ ظَاهِرَةٍ وَأَمْثَالٍ بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ سائرة ومواقع تعجب واعتبار ومواطن تنزيل وَاسْتِغْفَارٍ إِنْ كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ تَرْجِيَةً بَسَطَ وَإِنْ كَانَ تَخْوِيفًا قَبَضَ وَإِنْ كَانَ وَعْدًا أَبْهَجَ وَإِنْ كَانَ وَعِيدًا أَزْعَجَ وَإِنْ كَانَ دَعْوَةً حَدَبَ وَإِنْ كَانَ زَجْرَةً أَرْعَبَ وَإِنْ كَانَ مَوْعِظَةً أَقْلَقَ وَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا شَوَّقَ. هَذَا وَكَمْ فِيهِ مِنْ مَزَايَا ... وَفِي زَوَايَاهُ مِنْ خَبَايَا وَيُطْمِعُ الْحَبْرَ فِي التَّقَاضِي ... فَيَكْشِفُ الْخَبَرَ عَنْ قَضَايَا فَسُبْحَانَ مَنْ سَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْقُلُوبِ وَصَرَّفَهُ بِأَبْدَعِ مَعْنًى وَأَغْرَبِ أُسْلُوبٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 لَا يَسْتَقْصِي مَعَانِيَهُ فَهْمُ الْخَلْقِ وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ذُو اللِّسَانِ الطَّلْقِ فَالسَّعِيدُ مَنْ صَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ وَوَقَفَ فِكْرَهُ وَعَزْمَهُ عَلَيْهِ وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهِ وَاصْطَفَاهُ لِلتَّذْكِيرِ بِهِ وَتَذَكُّرِهِ فَهُوَ يَرْتَعُ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ وَيَكْرَعُ مِنْهُ فِي حِيَاضٍ أَنْدَى عَلَى الْأَكْبَادِ مِنْ قَطْرِ النَّدَى ... وَأَلَذُّ فِي الْأَجْفَانِ مِنْ سِنَةِ الْكَرَى يَمْلَأُ الْقُلُوبَ بِشْرًا وَيَبْعَثُ الْقَرَائِحَ عَبِيرًا وَنَشْرًا يُحْيِي الْقُلُوبَ بِأَوْرَادِهِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ رُوحًا فَقَالَ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ] غَافِرٍ: من الآية15 [فَسَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حَيَاةِ الْأَبَدِ وَلَوْلَا الرُّوحُ لَمَاتَ الْجَسَدُ فَجَعَلَ هَذَا الرُّوحَ سببا للاقتدار وعلما للاعتبار يَزِيدُ عَلَى طُولِ التَّأَمُّلِ بَهْجَةً ... كَأَنَّ الْعُيُونَ النَّاظِرَاتِ صَيَاقِلُ وَإِنَّمَا يَفْهَمُ بَعْضَ مَعَانِيهِ وَيَطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِهِ وَمَبَانِيهِ مَنْ قَوِيَ نَظَرُهُ وَاتَّسَعَ مجاله في الفكر وتدبره وامتد باعه ووقت طباعه وامتد في فنون الأدب وأحتط بِلُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ الْحَرَالِّيُّ فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب الْمُنَزَلِ: لِلَّهِ تَعَالَى مَوَاهِبُ جَعَلَهَا أُصُولًا لِلْمَكَاسِبِ فَمَنْ وَهَبَهُ عَقْلًا يَسَّرَ عَلَيْهِ السَّبِيلَ وَمَنْ رَكَّبَ فِيهِ خُرْقًا نَقَصَ ضَبْطُهُ مِنَ التَّحْصِيلِ وَمَنْ أَيَّدَهُ بِتَقْوَى الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أُمُورِهِ عَلَّمَهُ وَفَهَّمَهُ قَالَ: وَأَكْمَلُ الْعُلَمَاءِ مَنْ وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهْمًا فِي كَلَامِهِ وَوَعْيًا عَنْ كِتَابِهِ وَتَبْصِرَةً فِي الْفُرْقَانِ وَإِحَاطَةً بِمَا شَاءَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ فَفِيهِ تَمَامُ شُهُودِ ماكتب اللَّهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ ذِكْرِهِ الْحَكِيمِ بِمَا يُزِيلُ بِكَرِيمِ عِنَايَتِهِ مِنْ خَطَأِ اللَّاعِبِينَ إِذْ فِيهِ كُلُّ الْعُلُومِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ وَجَمِيعُ الْقُرْآنِ شَرْحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا زَادَ غَيْرُهُ: وَجَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى شَرْحٌ لِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ وَكَمَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ سِوَاهُ فَعُلُومُهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ عَدَاهُ قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كمن هو أعمى} وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} . قال مجاهد: الفهم والإصابة في القرآن. وقال. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي عِلْمَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . قَالَ: أَحْرِمُهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَجْتَمِعُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْحُطَامِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ أَبَدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: مَثَلُ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَثَلُ الْأَسَدِ لَا يُمَكِّنُ مِنْ غيله سواه. قال ذو النورين المصري: أبى الله عز وجل إلا أن يحرم قُلُوبَ الْبَطَّالِينَ مَكْنُونَ حِكْمَةِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . وقال: {أفلا يتدبرون القرآن} . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} . قَالَ: الْقُرْآنُ، يَقُولُ: أَرْشِدْنَا إِلَى عِلْمِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عِلْمُ الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الذَّكُورُ مِنَ الرِّجَالِ. وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فحكمه إلى الله} يَقُولُ: إِلَى كِتَابِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وَكُلُّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ مُنْتَزَعٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ بُرْهَانٌ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ وَقَالَ: أَرَادَ بِهِ أُصُولَ الْعِلْمِ. وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عُلَمَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ كَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقَضَاءِ وَزَيْدٍ بِالْفَرَائِضِ وَمُعَاذٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأُبَيٍّ بِالْقِرَاءَةِ فَلَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَحْرًا إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِاخْتِصَاصِهِ دُونَهُمْ بِالتَّفْسِيرِ وَعِلْمِ التَّأْوِيلِ وَقَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْغَيْبِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ. وَقَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَعُمِّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِنَ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ نَعَمْ كَانَ لِعَلِيٍّ فِيهِ الْيَدُ السَّابِقَةُ قَبْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْقَائِلُ: لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُمْلِيَ وِقْرَ بَعِيرٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ لَفَعَلْتُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَمَّا صَدْرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَيَّدُ فِيهِمْ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَيَتْلُوهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ تَجَرَّدَ لِلْأَمْرِ وَكَمَّلَهُ وَتَتَبَّعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَانَ جِلَّةٌ مِنَ السَّلَفِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا يُعَظِّمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَيَتَوَقَّفُونَ عَنْهُ تَوَرُّعًا وَاحْتِيَاطًا لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ إِدْرَاكِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ طَبَقَةٌ فَطَبَقَةٌ فَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا وكل ينفق مما رزق اللَّهُ وَلِهَذَا كَانَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَوْ أُعْطِيَ الْعَبْدُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْفَ فَهْمٍ لَمْ يَبْلُغْ نِهَايَةَ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ نِهَايَةٌ فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِفَهْمِ كَلَامِهِ وإنما يفهم كل بمقدار مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا تَبْلُغُ إِلَى نِهَايَةِ فَهْمِهِ فُهُومٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ. وَلَمَّا كَانَتْ عُلُومُ الْقُرْآنِ لَا تَنْحَصِرُ وَمَعَانِيهِ لَا تُسْتَقْصَى وَجَبَتِ الْعِنَايَةُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَمِمَّا فَاتَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَضْعُ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ على أنواع علومه وكما وَضَعَ النَّاسُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْحَدِيثِ فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى ـ وَلَهُ الْحَمْدُ ـ فِي وَضْعِ كِتَابٍ فِي ذَلِكَ جَامِعٍ لَمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي فُنُونِهِ وَخَاضُوا فِي نُكَتِهِ وَعُيُونِهِ وَضَمَّنْتُهُ مِنَ الْمَعَانِي الْأَنِيقَةِ وَالْحِكَمِ الرَّشِيقَةِ مَا يَهُزُّ الْقُلُوبَ طَرَبًا وَيُبْهِرُ الْعُقُولَ عَجَبًا لِيَكُونَ مِفْتَاحًا لِأَبْوَابِهِ وَعُنْوَانًا عَلَى كِتَابِهِ مُعِينًا لِلْمُفَسِّرِ عَلَى حَقَائِقِهِ وَمُطْلِعًا عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِهِ وَدَقَائِقِهِ وَاللَّهُ الْمُخَلِّصُ وَالْمُعِينُ وَعَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ وَبِهِ أَسْتَعِينُ وَسَمَّيْتُهُ البرهان في علوم القرآن. هذه فِهْرِسْتُ أَنْوَاعِهِ: الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْآيَاتِ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ الْفَوَاصِلِ الرَّابِعُ: مَعْرِفَةُ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ الْخَامِسُ: عِلْمُ الْمُتَشَابِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 السَّادِسُ: عِلْمُ الْمُبْهَمَاتِ السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ الثَّامِنُ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ التَّاسِعُ: فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ الْعَاشِرُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ مَا نَزَلَ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ عَلَى كَمْ لُغَةٍ نَزَلَ الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي بَيَانِ جَمْعِهِ وَمَنْ حَفِظَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ تَقْسِيمِهِ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ السَّادِسَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْحِجَازِ السَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ ما فيه من لُغَةِ الْعَرَبِ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ غَرِيبِهِ التَّاسِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ التَّصْرِيفِ الْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ كَوْنِ اللَّفْظِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَحْسَنَ وَأَفْصَحَ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ بِزِيَادَةٍ أو نقصان الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ فَضَائِلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ خَوَاصِّهِ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي آدَابِ تِلَاوَتِهِ الثَّلَاثُونَ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ الْكَائِنَةِ فِيهِ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ جَدَلِهِ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ ناسخه ومنسوخه الخامس والثلاثون: معرفة توهم الْمُخْتَلِفِ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي حُكْمِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ إِعْجَازِهِ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ وُجُوبِ تَوَاتُرِهِ الْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ مُعَاضَدَةِ السُّنَّةِ لِلْكِتَابِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ وُجُوبِ الْمُخَاطِبَاتِ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي أَقْسَامِ مَعْنَى الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي ذِكْرِ مَا يَتَيَسَّرُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَدَوَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إِلَّا وَلَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ اسْتِقْصَاءَهُ لَاسْتَفْرَغَ عُمُرَهُ ثُمَّ لَمْ يُحْكِمْ أَمْرَهُ وَلَكِنِ اقْتَصَرْنَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى أُصُولِهِ وَالرَّمْزِ إِلَى بَعْضِ فُصُولِهِ فَإِنَّ الصِّنَاعَةَ طَوِيلَةٌ وَالْعُمُرَ قَصِيرٌ ماذا عسى أن يبلغ لسان لتقصير قَالُوا خُذِ الْعَيْنَ مِنْ كُلٍّ فَقُلْتُ لَهُمْ فِي الْعَيْنِ فَضْلٌ وَلَكِنْ نَاظِرُ الْعَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فصل: في علم التفسير التَّفْسِيرُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهْمُ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانُ مَعَانِيهِ وَاسْتِخْرَاجُ أَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ وَاسْتِمْدَادُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَعِلْمِ الْبَيَانِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَاتِ وَيَحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ من الموضوعات ما بين مختصر ومبسوط وكلهم يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَنِّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ فَالزَّجَّاجُ والواحدي في البسيط يغلب عليهما الغريب وَالثَّعْلَبِيُّ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْقَصَصُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عِلْمُ الْبَيَانِ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عِلْمُ الْكَلَامِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَاطَبَ خَلْقَهُ بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَلِذَلِكَ أَرْسَلَ كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى التَّفْسِيرِ لِمَا سَنَذْكُرُ بَعْدَ تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَضَعَ مِنَ الْبَشَرِ كِتَابًا فَإِنَّمَا وَضَعَهُ لِيُفْهَمَ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْحٍ وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الشُّرُوحِ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: كَمَالُ فَضِيلَةِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ يَجْمَعُ الْمَعَانِيَ الدَّقِيقَةَ فِي اللَّفْظِ الْوَجِيزِ فَرُبَّمَا عَسُرَ فَهْمُ مُرَادِهِ فَقَصَدَ بِالشَّرْحِ ظُهُورَ تِلْكَ الْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ وَمِنْ هُنَا كَانَ شَرْحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ تَصْنِيفَهُ أَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ شَرْحِ غَيْرِهِ لَهُ. وَثَانِيهَا: قَدْ يَكُونُ حَذَفَ بَعْضَ مُقَدِّمَاتِ الْأَقْيِسَةِ أَوْ أَغْفَلَ فِيهَا شُرُوطًا اعْتِمَادًا عَلَى وُضُوحِهَا أَوْ لِأَنَّهَا مِنْ عِلْمٍ آخَرَ فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ لِبَيَانِ الْمَحْذُوفِ وَمَرَاتِبِهِ وَثَالِثُهَا: احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ كَمَا فِي الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ وَدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ إِلَى بَيَانِ غَرَضِ الْمُصَنِّفِ وَتَرْجِيحِهِ وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّصَانِيفِ مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ بَشَرٌ من السهو والغلط وتكرار الشَّيْءِ وَحَذْفِ الْمُهِمِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فِي زَمَنِ أَفْصَحِ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ ظَوَاهِرَهُ وَأَحْكَامَهُ أَمَّا دَقَائِقُ بَاطِنِهِ فَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ مِنْ سُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَكْثَرِ كَسُؤَالِهِمْ لما نزل {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} فَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشِّرْكِ وَاسْتَدَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَكَسُؤَالِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ فَقَالَ: "ذَلِكَ الْعَرْضُ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عذب" وكقصة عدي ابن حَاتِمٍ فِي الْخَيْطِ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وغير ذلك مما سألوا عن آحاد مِنْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا عَنْهُمْ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ بِجُمْلَتِهِ فَنَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَى مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَزِيَادَةٍ عَلَى مَا لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ لِقُصُورِنَا عَنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ اللُّغَةِ بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ فَنَحْنُ أَشَدُّ النَّاسِ احْتِيَاجًا إِلَى التَّفْسِيرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَفْسِيرَهُ يَكُونُ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ بَسْطِ الْأَلْفَاظِ الْوَجِيزَةِ وَكَشْفِ مَعَانِيهَا وَبَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ تَرْجِيحِ بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى بَعْضٍ لِبَلَاغَتِهِ وَلُطْفِ مَعَانِيهِ وَلِهَذَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ قَانُونٍ عَامٍّ يُعَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهِ عَلَيْهِ وَيُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَمُرَكَّبَاتِهَا وَسِيَاقِهِ وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَهْمِ ويدق عنه الفهم بين أَقْدَاحِهِمْ حَدِيثٌ قَصِيرٌ هُوَ سِحْرٌ وَمَا سِوَاهُ كَلَامُ وَفِي هَذَا تَتَفَاوَتُ الْأَذْهَانُ وَتَتَسَابَقُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ مُسَابَقَةَ الرِّهَانِ فَمَنْ سَابَقَ بِفَهْمِهِ وَرَاشَقَ كَبِدَ الرَّمْيَةِ بِسَهْمِهِ وَآخَرُ رَمَى فَأَشْوَى وَخَبَطَ فِي النَّظَرِ خَبْطَ عَشْوَا كَمَا قِيلَ وَأَيْنَ الدَّقِيقُ مِنَ الرَّكِيكِ وَأَيْنَ الزُّلَالُ مِنَ الزعاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وقال القاضي شمس الدين الْخُوَيِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عِلْمُ التَّفْسِيرِ عَسِيرٌ يَسِيرٌ أَمَّا عُسْرُهُ فَظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ كَلَامُ مُتَكَلِّمٍ لَمْ يَصِلِ النَّاسُ إِلَى مُرَادِهِ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ وَلَا إِمْكَانَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْعَارِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ أَوْ يَسْمَعَ مِمَّنْ سمع منه أما الْقُرْآنُ فَتَفْسِيرُهُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِأَنْ يُسْمَعَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ إِلَّا فِي آيَاتٍ قَلَائِلَ فَالْعِلْمُ بِالْمُرَادِ يُسْتَنْبَطُ بِأَمَارَاتٍ وَدَلَائِلَ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتَفَكَّرَ عِبَادُهُ فِي كِتَابِهِ فَلَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْمُرَادِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَوَّبَ رَأْيَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَصَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى جَوَازِ التَّفْسِيرِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْتَخِرُ وَيَقُولُ كَتَبْتُ هَذَا وَمَا طَالَعْتُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ فَخْرٌ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ النَّقْصِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَزِيَّةَ مَا قَالَهُ عَلَى مَا قِيلَ وَلَا مَزِيَّةَ مَا قِيلَ عَلَى مَا قَالَهُ فَبِمَاذَا يَفْتَخِرُ وَمَعَ هَذَا مَا كَتَبْتُ شَيْئًا إِلَّا خَائِفًا مِنَ اللَّهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ فَمَا كَانَ حَسَنًا فَمِنَ اللَّهِ وَفَضْلِهِ بِوَسِيلَةِ مُطَالَعَةِ كَلَامِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَمَا كَانَ ضَعِيفًا فمن النفس الأمارة بالسوء فصل: في علوم القرآن ذكر القاضي أبو بكر بن الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ إِنَّ عُلُومَ القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 خَمْسُونَ عِلْمًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَسَبْعَةُ آلَافِ عِلْمٍ وَسَبْعُونَ أَلْفَ عِلْمٍ عَلَى عَدَدِ كَلِمِ الْقُرْآنِ مَضْرُوبَةً فِي أَرْبَعَةٍ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَحَدٌّ وَمَقْطَعٌ وَهَذَا مُطْلَقٌ دُونَ اعْتِبَارِ تَرَاكِيبِهِ وَمَا بَيْنَهَا مِنْ رَوَابِطَ وَهَذَا مَا لَا يُحْصَى وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَأُمُّ عُلُومِ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ تَوْحِيدٌ وَتَذْكِيرٌ وَأَحْكَامٌ فَالتَّوْحِيدُ تَدْخُلُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْرِفَةُ الْخَالِقِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالتَّذْكِيرُ وَمِنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَتَصْفِيَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْأَحْكَامُ وَمِنْهَا التَّكَالِيفُ كُلُّهَا وَتَبْيِينُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالنَّدْبُ فَالْأَوَّلُ {وإلهكم إله واحد} فِيهِ التَّوْحِيدُ كُلُّهُ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ والثاني {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} والثالث {وأن احكم بينهم} ولذلك قيل في معنى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {قُلْ هُوَ الله أحد} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ". يَعْنِي فِي الْأَجْرِ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقِيلَ ثُلُثُهُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَهَذِهِ السُّورَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى صَارَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّ فيها الأقسام الثلاثةفأما التَّوْحِيدُ فَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ {يَوْمِ الدِّينِ} وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَأَمَّا التَّذْكِيرُ فَمِنْ قَوْلِهِ {اهْدِنَا} إِلَى آخِرِهَا فَصَارَتْ بِهَذَا أُمًّا لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَنْهَا كُلُّ نبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وَقِيلَ صَارَتْ أُمًّا لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِالْقَبْلِيَّةِ وَالْأُمُّ قَبْلَ الْبِنْتِ وَقِيلَ سُمِّيَتْ فَاتِحَةً لِأَنَّهَا تَفْتَحُ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ عَلَى وُجُوهٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا وَقَالَ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بَرَّجَانَ فِي كِتَابِ الْإِرْشَادِ وَجُمْلَةُ الْقُرْآنِ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ عُلُومٍ عِلْمِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ ثُمَّ عِلْمِ النُّبُوَّةِ وَبَرَاهِينِهَا ثُمَّ عِلْمِ التَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَةِ قَالَ وَهُوَ أَعْسَرُ لِإِغْرَابِهِ وَقِلَّةِ انْصِرَافِ الْهِمَمِ إِلَى تَطَلُّبِهِ مِنْ مَكَانِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ وَقِيلَ سِتَّةٌ وَزَادَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ التَّوْحِيدِ وَالْأَخْبَارِ وَالدِّيَانَاتِ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ:. وَهَذِهِ السُّورَةُ تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ كُلَّهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِينَ شَيْئًا الْإِعْلَامِ وَالتَّنْبِيهِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَوَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَعْلِيمِ الْإِقْرَارِ بِاسْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَعْلِيمِ الِاعْتِرَافِ بِإِنْعَامِهِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ وَالْبَيَانِ عن الرغبة والرهبة الخير وَالشَّرِّ وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَنَعْتِ الْحِكْمَةِ وَفَضْلِ الْمَعْرِفَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وَمَدْحِ الْأَبْرَارِ وَذَمِّ الْفُجَّارِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّوْكِيدِ والتفريع وَالْبَيَانِ عَنْ ذَمِّ الْإِخْلَافِ وَشَرَفِ الْأَدَاءِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِي وَعَلَى التَّحْقِيقِ أَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي قَالَهَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ تَشْمَلُ هَذِهِ كُلَّهَا بَلْ أَضْعَافَهَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُسْتَدْرَكُ وَلَا تُحْصَى غَرَائِبُهُ وَعَجَائِبُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هو} وَقَالَ غَيْرُهُ عُلُومُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ الْإِعْرَابُ وَهُوَ فِي الْخَبَرِ وَالنَّظْمُ وَهُوَ الْقَصْدُ نَحْوَ {اللائي لم يحضن} مَعْنًى بَاطِنٌ نُظِمَ بِمَعْنًى ظَاهِرٍ وَقَوْلُهُ {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يعيده قل الله يبدأ الخلق} كَأَنَّهُ قِيلَ قَالُوا وَمَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول: " {الله يبدأ الخلق} لَفْظٌ ظَاهِرٌ نُظِمَ بِمَعْنًى بَاطِنٍ وَالتَّصْرِيفُ فِي الْكَلِمَةِ كَأَقْسَطَ عَدَلَ وَقَسَطَ جَارَ وَبَعُدَ ضِدُّ قَرُبَ وَبَعِدَ هَلَكَ وَالِاعْتِبَارُ وَهُوَ مِعْيَارُ الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ وَبِهِ يَكُونُ الِاسْتِنْبَاطُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَهُوَ كَثِيرٌ منه ما يعرف بفحوى الكلام وَمَعْنَى اعْتَبَرْتُ الشَّيْءَ طَلَبْتُ بَيَانَهُ عَبَّرْتُ الرُّؤْيَا بينتها قال الله تعالى {فاعتبروا} بَعْدَ {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الكتاب من ديارهم} دَلَّ عَلَى أَنَّ انْتِقَامَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ من أعظم الوجوهو {لأول الْحَشْرِ} دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهَا تَوَابِعَ لِأَنَّ أَوَّلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ آخِرَ وَكَانَ هَذَا فِي بَنِي النَّضِيرِ ثُمَّ أَهْلِ نَجْرَانَ {ما ظننتم أن يخرجوا} إِلَّا بِنَبَأٍ وَأَنَّهُمْ يَسْتَقِلُّونَ عَدَدَ مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَوْلَا أن كتب الله عليهم الجلاء} فيه دليل على أن الإخراج مثل العذاب في الشدة إِذْ جُعِلَ بَدَلَهُ وَقَدْ يَتَعَدَّدُ الِاعْتِبَارُ نَحْوُ أَتَانِي غَيْرُ زَيْدٍ أَيْ أَتَيَاهُ أَوْ أَتَاهُ غَيْرُ زَيْدٍ لَا هُوَ لَوْ شِئْتَ أَنْتَ لم أفعل أَمَرْتَنِي أَوْ نَهَيْتَنِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَوْ شاء الله ما عبدنا} رَدٌّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ بدليل قوله {والله أمرنا بها} {وإذا حللتم فاصطادوا} فَالِاعْتِبَارُ إِبَاحَةٌ وَمِنَ الِاعْتِبَارِ مَا يَظْهَرُ بِآيٍ أخر كقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بصيرا} فهذه تعتبر بآخر الواقعة مِنْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ أَيْ أَحَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَنْزِلَةٍ لَهُ وَاللَّهُ بصير بمنازلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَمِنْهُ مَا يَظْهَرُ بِالْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ من كان عدوا لجبريل فإنه نزله} بِمَعْنَى الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَوْ جَاءَ بِهِ مِيكَائِيلُ لَاتَّبَعْنَاكَ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْخَيْرِ وَجِبْرِيلُ لَمْ يَأْتِ بِالْخَيْرِ قَطُّ" وَأَيُّ خَيْرٍ أَجَلُّ مِنَ الْقُرْآنِ! وَمِنْ ضُرُوبِ النَّظْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى {من كان يريد العزة فلله} إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنْ يَعْتَبِرَ أَنَّ الْعِزَّةَ لَهُ لَمْ يَنْتَظِمْ بِهِ مَا بَعْدَهُ وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ انتظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 النَّوْعُ الْأَوَّلُ:مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَقَدِ اعْتَنَى بِذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ وَأَفْرَدُوا فِيهِ تَصَانِيفَ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَمِنْ أَشْهَرِهَا تَصْنِيفُ الْوَاحِدِيِّ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى التَّارِيخِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ وَمِنْهَا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَمِنْهَا الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحَ الْقُشَيْرِيُّ بَيَانُ سَبَبِ النُّزُولِ طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَمْرٌ تَحَصَّلَ لِلصَّحَابَةِ بِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِالْقَضَايَا وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَيَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ فَإِنَّ مَحَلَّ السَّبَبِ لا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 إخراجه بالاجتهاد والإجماع كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ لِأَنَّ دُخُولَ السَّبَبِ قَطْعِيٌّ وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ لِتَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى وُرُودِ الْعُمُومِ أَثَرًا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَجْوِيزِ إِخْرَاجِ مَحَلِّ السَّبَبِ بِالتَّخْصِيصِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ وَالثَّانِي أَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ مَحَلِّ السُّؤَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى السَّائِلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ النُّصُوصِيَّةُ فِي السَّبَبِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَتُؤَثِّرُ أَيْضًا فِيمَا وَرَاءَ مَحَلِّ السَّبَبِ وَهُوَ إِبْطَالُ الدَّلَالَةِ عَلَى قَوْلٍ وَالضَّعْفُ عَلَى قَوْلٍ وَمِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا دَفْعُ تَوَهُّمِ الْحَصْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا مَعْنَاهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي ما أوحي إلي محرما} الْآيَةَ إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا حَرَّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَكَانُوا عَلَى المضادة والمحادة جاءت الْآيَةُ مُنَاقِضَةً لِغَرَضِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا حَلَالَ إِلَّا مَا حَرَّمْتُمُوهُ وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ نَازِلًا مَنْزِلَةَ مَنْ يَقُولُ لَا تَأْكُلِ الْيَوْمَ حَلَاوَةً فَتَقُولُ لَا آكُلُ الْيَوْمَ إِلَّا الْحَلَاوَةَ وَالْغَرَضُ الْمُضَادَّةُ لَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ حِلَّ ما وراءه إذا الْقَصْدُ إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ لَا إِثْبَاتُ الْحِلِّ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: "وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَلَوْلَا سَبْقُ الشَّافِعِيِّ إِلَى ذَلِكَ لَمَا كُنَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 نَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ مَالِكٍ فِي حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَتْهُ الْآيَةُ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّافِعِيِّ أَجْرَاهُ مَجْرَى التَّأْوِيلِ "وَمَنْ قَالَ بِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ دُونَ سَبَبِهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّأْوِيلِ وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ فِي مَوَاضِعَ اتَّفَقُوا عَلَى تَعْدِيَتِهَا إِلَى غَيْرِ أَسْبَابِهَا كَنُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ وَآيَةِ اللَّعَّانِ فِي شَأْنِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَنُزُولِ حَدِّ الْقَذْفِ فِي رُمَاةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ {والذين يرمون المحصنات} فَجَمَعَهَا مَعَ غَيْرِهَا إِمَّا تَعْظِيمًا لَهَا إِذْ أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَمَنْ رَمَى أُمَّ قَوْمٍ فَقَدْ رَمَاهُمْ وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّعْمِيمِ وَلَكِنَّ الرُّمَاةَ لَهَا كَانُوا مَعْلُومِينَ فَتَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَمَنْ يَقُولُ بِمُرَاعَاةِ حُكْمِ اللَّفْظِ كَانَ الِاتِّفَاقُ هَاهُنَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَصْلِ وَمَنْ قَالَ بِالْقَصْرِ عَلَى الْأَصْلِ خَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدَلِيلٍ وَنَظِيرُ هَذَا تَخْصِيصُ الِاسْتِعَاذَةِ بِالْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} لِخُرُوجِهِ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ أَنَّ بَنَاتِ لَبِيَدٍ سَحَرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا قَالَ أَبُو عَبِيدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو لبيد ابن الْأَعْصَمِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَاتُ عَلَى الْأَسْبَابِ خَاصَّةً وَتُوضَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعَ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْآيِ رِعَايَةً لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ السِّيَاقِ فَذَلِكَ الَّذِي وُضِعَتْ مَعَهُ الْآيَةُ نَازِلَةً عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لِلْمُنَاسَبَةِ إِذْ كَانَ مَسُوقًا لَمَّا نَزَلَ فِي مَعْنًى يَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ اللَّفْظِ الْعَامِّ أَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ وَضْعًا تَحْتَ اللَّفْظِ الْعَامِّ فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ كَالسَّبَبِ فَلَا يَخْرُجُ وَيَكُونُ مُرَادًا مِنَ الْآيَاتِ قَطْعًا؟ أولا ينتهي في القوة إِلَى ذَلِكَ؟ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ غَيْرُهُ وَتَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ مُشَبَّهَةً بِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ دُونَ السَّبَبِ وفوق العموم الْمُجَرَّدِ وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} فَإِنَّ مُنَاسَبَتَهَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ كَانَ قَدِمَ إِلَى مَكَّةَ وَشَاهَدَ قَتْلَى بَدْرٍ وَحَرَّضَ الْكُفَّارَ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ وَغَزْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ مَنْ أَهْدَى سَبِيلًا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُمْ فَقَالَ أَنْتُمْ كَذِبًا مِنْهُ وَضَلَالَةً لَعَنَهُ اللَّهُ فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ شَارَكَهُ فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يجدون عندهم في كتابهم بعث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتَهُ وَقَدْ أُخِذَتْ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقُ أَلَّا يَكْتُمُوا ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ وَكَانَ ذَلِكَ أَمَانَةً لَازِمَةً لَهُمْ فَلَمْ يؤدوها وخانوا فيها وذلك مناسب لقوله {ن اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهُ النُّظُمِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كِتْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِمْ إِنِ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا فَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَةً مِنْهُمْ فَانْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ انْتَهَى وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا أَنْ قِصَّةَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ كَانَتْ عَقِبَ بَدْرٍ وَنُزُولُ {إِنَّ الله يأمركم} فِي الْفَتْحِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا وَبَيْنَهُمَا سِتُّ سِنِينَ لِأَنَّ الزَّمَانَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَضْعُ آيَةٍ فِي مَوْضِعٍ يُنَاسِبُهَا وَالْآيَاتُ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى أَسْبَابِهَا وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلِمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهَا مَوَاضِعُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْعِلْمِ إِزَالَةُ الْإِشْكَالِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ تَلَا {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} إِلَى قَوْلِهِ {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ فَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ انْتَهَى قَالَ بَعْضُهُمْ وَمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ سُؤَالِ مَرْوَانَ لَا يَكْفِي لِأَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنَ السَّبَبِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 زُورٍ" وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَثَرِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُمَا الْفَرَحُ وَحُبُّ الْحَمْدِ لَا عَلَيْهِمَا أَنْفُسِهِمَا إِذْ هُمَا مِنَ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا قُلْتُ: لَا يَخْفَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنَ السَّبَبِ لَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ خَاصٌّ وَنَظِيرُهُ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمَ بِالشِّرْكِ فِيمَا سَبَقَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية فحكي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكَرِبَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ الْخَمْرُ مُبَاحَةٌ وَيَحْتَجَّانِ بهذه الآية وخفي عليهما سَبَبُ نُزُولِهَا فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالُوا كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهَا رِجْسٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إن ارتبتم} الْآيَةَ قَدْ أَشْكَلَ مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ عَلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ بَيَّنَهُ سَبَبُ النُّزُولِ رُوِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا عِدَّةَ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَمَا عِدَّةُ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ؟ فَنَزَلَتْ فَهَذَا يبين معنى {إن ارتبتم} أَيْ إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حُكْمُهُنَّ وَجَهِلْتُمْ كَيْفَ يَعْتَدِدْنَ فَهَذَا حُكْمُهُنَّ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} فَإِنَّا لَوْ تَرَكْنَا مَدْلُولَ اللَّفْظِ لَاقْتَضَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَلَا يُفْهَمُ مُرَادُ الْآيَةِ حَتَّى يُعْلَمَ سَبَبُهَا وَذَلِكَ أَنَّهَا نزلت لما صلى النبي صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا} فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ قَوْمًا أَرَادُوا الْخُرُوجَ لِلْجِهَادِ فَمَنَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ أَنْزَلَ فِي بَقِيَّتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةَ فَقَالَ {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فصل: فيما نزل مكررا وَقَدْ يُنَزَّلُ الشَّيْءَ مَرَّتَيْنِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَذْكِيرًا بِهِ عِنْدَ حُدُوثِ سَبَبِهِ خَوْفَ نِسْيَانِهِ وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي الْفَاتِحَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ وَأُخْرَى بِالْمَدِينَةِ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فَقَالَ الرَّجُلُ أَلِي هَذَا؟ فَقَالَ بَلْ لِجَمِيعِ أُمَّتِي فَهَذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ وَالرَّجُلُ قَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ أَبُو الْيُسْرِ وَسُورَةُ هُودٍ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلِهَذَا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا وَلَا إِشْكَالَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَمِثْلُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله تعالى {ويسألونك عن الروح} أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنِ الرُّوحِ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ فِي سُورَةِ {سُبْحَانَ} وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنْ أَهْلِ الكهف قيل ذَلِكَ بِمَكَّةَ وَأَنَّ الْيَهُودَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَوَابَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي {قل هو الله أحد} أَنَّهَا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَأَنَّهَا جَوَابٌ لِأَهْلِ الكتاب بالمدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْمُسَيَّبِ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ وَتَلَكَّأَ عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قربى} وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ {إِنَّكَ لَا تهدي من أحببت} وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَمَوْتُ أَبِي طَالِبٍ كَانَ بِمَكَّةَ فَيُمْكِنُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَجُعِلَتْ أَخِيرًا فِي بَرَاءَةٌ وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ سَبَبٌ مِنْ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ تَقْتَضِي نُزُولَ آيَةٍ وَقَدْ نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَتَضَمَّنُهَا فَتُؤَدَّى تِلْكَ الْآيَةُ بِعَيْنِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِهَا وَبِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ وَالْعَالِمُ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ حَوَادِثُ فَيَتَذَكَّرُ أَحَادِيثَ وَآيَاتٍ تَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خَطَرَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَادِثَةُ قَبْلُ مَعَ حِفْظِهِ لِذَلِكَ النَّصِّ ومما يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِنُزُولِ الْآيَةِ قد يكون من هذا الباب لاسيما وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فِي كَذَا فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ هَذَا الْحُكْمَ لَا أَنَّ هَذَا كان السبب في نزولها وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنَ الْمَرْفُوعِ الْمُسْنَدِ كَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي قوله تعالى {نساؤكم حرث لكم} . وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْمُسْنَدِ وَكَذَلِكَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَجَعَلُوا هَذَا مِمَّا يُقَالُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَبِالتَّأْوِيلِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْآيَةِ لَا مِنْ جِنْسِ النَّقْلِ لِمَا وقع فصل: خصوص السبب وعموم الصيغة وَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ خَاصًّا وَالصِّيغَةُ عَامَّةً لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في نفس سُورَةِ الْهُمَزَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَاصًّا وَالْوَعِيدُ عَامًّا لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ وَلِيَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى التَّعْرِيضِ بِالْوَارِدِ فِيهِ فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه تقدم نزول الآية على الحكم وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى} فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَسْنَدَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ عِيدٌ وَلَا زَكَاةٌ وَأَجَابَ البغوي في تفسيره انه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ كَمَا قَالَ {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حل بهذا الْبَلَدِ} فَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَظُهُورُ أَثَرِ الْحِلِّ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ حَتَّى: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ" وَكَذَلِكَ نَزَلَ بِمَكَّةَ {سيهزم الجمع ويولون الدبر} قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كُنْتُ لَا أَدْرِي: أَيَّ الْجَمْعِ يُهْزَمُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فَائِدَةٌ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَتْ أُمِّي حَلَفَتْ أَلَّا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ حَتَّى أُفَارِقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} وَالثَّانِيَةُ أَنِّي كُنْتُ أَخَذْتُ سَيْفًا فَأَعْجَبَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ لِي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فنزلت {يسألونك عن الْأَنْفَالِ} وَالثَّالِثَةُ أَنِّي كُنْتُ مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقْسِمَ مَالِي أَفَأُوصِي بِالنِّصْفِ فَقَالَ لَا فَقُلْتُ الثُّلُثُ فَسَكَتَ فَكَانَ الثُّلُثُ بَعْدُ جَائِزًا وَالرَّابِعَةُ أَنِّي شَرِبْتُ الْخَمْرَ مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَضَرَبَ رَجُلٌ منهم أنفي بلحى جَمَلٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَبْدَءُوا بذكر سبب النزول ووقع البحث أَيُّمَا أَوْلَى الْبَدَاءَةُ بِهِ بِتَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ أَوْ بِالْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّهَا الْمُصَحِّحَةُ لِنَظْمِ الْكَلَامِ وَهِيَ سَابِقَةٌ عَلَى النُّزُولِ؟ وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى سَبَبِ النُّزُولِ كَالْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} فَهَذَا يَنْبَغِي فِيهِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ السَّبَبِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْوَسَائِلِ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ وجه المناسبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 النَّوْعُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْآيَاتِ وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ شَيْخُ الشَّيْخِ أَبِي حَيَّانَ وَتَفْسِيرُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ عِلْمٌ شَرِيفٌ تُحْزَرُ بِهِ الْعُقُولُ وَيُعْرَفُ بِهِ قَدْرُ الْقَائِلِ فِيمَا يَقُولُ وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ الْمُقَارَبَةُ وَفُلَانٌ يُنَاسِبُ فُلَانًا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ وَيُشَاكِلُهُ وَمِنْهُ النَّسِيبُ الَّذِي هُوَ الْقَرِيبُ الْمُتَّصِلُ كَالْأَخَوَيْنِ وَابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَا مُتَنَاسِبَيْنِ بِمَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَمِنْهُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْعِلَّةِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ الْوَصْفُ الْمُقَارِبُ لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ مُقَارَبَتُهُ لَهُ ظُنَّ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلِهَذَا قِيلَ الْمُنَاسَبَةُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَكَذَلِكَ الْمُنَاسَبَةُ في فواتح الآي وخواتمها ومرجعها والله أعلم إلى معنى مَا رَابَطَ بَيْنَهُمَا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ أَوْ خَيَالِيٌّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أنواع العلاقات أو التلازم الذهي كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالنَّظِيرَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ وَنَحْوِهِ أَوِ التَّلَازُمِ الْخَارِجِيِّ كَالْمُرَتَّبِ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُجُودِ الْوَاقِعِ فِي بَابِ الْخَبَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بِأَعْنَاقِ بَعْضٍ فَيَقْوَى بِذَلِكَ الِارْتِبَاطُ وَيَصِيرُ التَّأْلِيفُ حاله حال الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتَلَائِمِ الْأَجْزَاءِ وَقَدْ قَلَّ اعْتِنَاءُ الْمُفَسِّرِينَ بِهَذَا النَّوْعِ لِدِقَّتِهِ وَمِمَّنْ أَكْثَرَ مِنْهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ أَكْثَرُ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ مَحَاسِنَ الْكَلَامِ أَنْ يَرْتَبِطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِئَلَّا يَكُونَ مُنْقَطِعًا. وَهَذَا النَّوْعُ يُهْمِلُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَفَوَائِدُهُ غَزِيرَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تَكُونَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَّسِقَةَ الْمَعَانِي مُنْتَظِمَةَ الْمَبَانِي عِلْمٌ عَظِيمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا عَالِمٌ وَاحِدٌ عَمِلَ فِيهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا فيه فلما لَمْ نَجِدْ لَهُ حَمَلَةً وَرَأَيْنَا الْخَلْقَ بِأَوْصَافِ الْبَطَلَةِ خَتَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ ورددناه إليه وقال الشيخ أبو الحسن الشهراباني أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ بِبَغْدَادَ عِلْمَ الْمُنَاسَبَةِ وَلَمْ نَكُنْ سَمِعْنَاهُ مَنْ غَيْرِهِ هُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ وَكَانَ يَقُولُ عَلَى الْكُرْسِيِّ إِذَا قرئ عليه الآية لِمَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ السُّورَةِ؟ وَكَانَ يُزْرِي عَلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمُنَاسَبَةِ انْتَهَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْمُنَاسَبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ ارْتِبَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ قَالَ: وَمَنْ رَبَطَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِمَا لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حَسَنُ الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنْ أَحْسَنِهِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلِأَسْبَابِ مُخْتَلِفَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى رَبْطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَرْتَبِطَ تَصَرُّفُ الْإِلَهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَامِهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ كَتَصَرُّفِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ وَتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِأُمُورٍ مُتَوَافِقَةٍ وَمُتَخَالِفَةٍ وَمُتَضَادَّةٍ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَطْلُبَ رَبْطَ بَعْضِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي نَفْسِهَا وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِهَا انْتَهَى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُحَقِّقِينَ: قَدْ وَهِمَ مَنْ قَالَ: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حَسَبُ الْوَقَائِعِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ تَنْزِيلًا وَعَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ تَرْتِيبًا فَالْمُصْحَفُ كَالصُّحُفِ الْكَرِيمَةِ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ مُرَتَّبَةً سُوَرُهُ كُلُّهَا وَآيَاتُهُ بِالتَّوْقِيفِ وَحَافِظُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَوِ اسْتُفْتِيَ فِي أَحْكَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ نَاظَرَ فِيهَا أَوْ أَمْلَاهَا لَذَكَرَ آيَةَ كُلِّ حُكْمٍ عَلَى مَا سُئِلَ وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يَتْلُ كَمَا أَفْتَى وَلَا كَمَا نَزَلَ مُفَرَّقًا بَلْ كَمَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ وَمِنَ الْمُعْجِزِ الْبَيِّنِ أُسْلُوبُهُ وَنَظْمُهُ الْبَاهِرُ فَإِنَّهُ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثم فصلت من لدن حكيم خبير} قَالَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا؟ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ وَهَكَذَا فِي السُّوَرِ يُطْلَبُ وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَمَا سِيقَتْ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قُلْتُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ توقيفي وهذا الرَّاجِحُ كَمَا سَيَأْتِي وَإِذَا اعْتَبَرْتَ افْتِتَاحَ كُلِّ سُورِهِ وَجَدْتَهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا خَتَمَ بِهِ السُّورَةَ قَبْلَهَا ثُمَّ هُوَ يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى كَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِالْحَمْدِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الحمد لله رب العالمين} وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِـ {الْحَمْدُ} أَيْضًا فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ من قبل} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظلموا والحمد لله رب العالمين} وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْحَدِيدِ بِالتَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سورة الواقعة من الأمر به وكافتتاح الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيه} إِشَارَةٌ إِلَى {الصِّرَاطَ} فِي قَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المستقيم} كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِبَاطُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالْفَاتِحَةِ وَهُوَ يَرُدُّ سُؤَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلِ ارْتِبَاطَ سُورَةِ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} بِسُورَةِ الْفِيلِ حَتَّى قَالَ الْأَخْفَشُ: اتِّصَالُهَا بِهَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَمِنْ لَطَائِفِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ أَنَّهَا كَالْمُقَابِلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ السَّابِقَةَ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ فِيهَا الْمُنَافِقَ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ الْبُخْلِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالرِّيَاءِ فِيهَا وَمَنْعِ الزَّكَاةِ فَذَكَرَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ البخل {إنا أعطيناك الْكَوْثَرِ} أَيِ الْكَثِيرَ وَفِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ {فَصَلِّ} أَيْ دُمْ عَلَيْهَا وَفِي مُقَابَلَةِ الرِّيَاءِ {لِرَبِّكَ} أَيْ لِرِضَاهُ لَا لِلنَّاسِ وَفِي مُقَابَلَةِ مَنْعِ الْمَاعُونِ {وَانْحَرْ} وَأَرَادَ بِهِ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِ الْأَضَاحِيِّ فَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ الْعَجِيبَةَ وَكَذَلِكَ مُنَاسَبَةُ فَاتِحَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِالتَّسْبِيحِ وَسُورَةِ الْكَهْفِ بِالتَّحْمِيدِ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ حَيْثُ جَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحْمِيدِ يقال سبحان الله والحمد الله وَذَكَرَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي بَعْضِ دروسه مناسبة استفتاحها بِذَلِكَ مَا مُلَخَّصُهُ أَنَّ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتُتِحَتْ بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ كَذَّبُوا ذَلِكَ وَقَالُوا كَيْفَ يَسِيرُ فِي لَيْلَةٍ من مكة إلى بيت المقدس وعادوا وَتَعَنَّتُوا وَقَالُوا صِفْ لَنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرُفِعَ لَهُ حَتَّى وَصْفَهُ لَهُمْ وَالسَّبَبُ فِي الْإِسْرَاءِ أَوَّلًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صحة قوله بصعود السموات فَافْتُتِحَتْ بِالتَّسْبِيحِ تَصْدِيقًا لِنَبِيِّهِ فِيمَا ادَّعَاهُ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَهُ تَكْذِيبُ عِنَادٍ فَنَزَّهَ نَفْسَهُ قَبْلَ الإخبار بهذا الذي كذبوه أما الْكَهْفُ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَبَسَ الْوَحْيُ وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ لم يقطع نعمه عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَتَمَّ عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ فَنَاسَبَ افْتِتَاحُهَا بِالْحَمْدِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّوَرِ فَمَا ظَنُّكَ بِالْآيَاتِ وَتَعَلُّقِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ بَلْ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ كله كالكلمة الواحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أنواع ارتباط الآي بعضها ببعض عُدْنَا إِلَى ذِكْرِ ارْتِبَاطِ الْآيِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَنَقُولُ ذِكْرُ الْآيَةِ بَعْدَ الْأُخْرَى إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَهُمَا لِتَعَلُّقِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَعَدَمِ تَمَامِهِ بِالْأُولَى فَوَاضِحٌ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الثَّانِيَةُ لِلْأُولَى عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّفْسِيرِ أَوِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّشْدِيدِ وَهَذَا الْقِسْمُ لَا كَلَامَ فِيهِ وَإِمَّا أَلَّا يَظْهَرَ الِارْتِبَاطُ بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ عَنِ الْأُخْرَى وَأَنَّهَا خِلَافُ النَّوْعِ الْمَبْدُوءِ بِهِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ المشترك في الحكم أولا: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْسِيمُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} وقوله {والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} وَفَائِدَةُ الْعَطْفِ جَعْلُهُمَا كَالنَّظِيرَيْنِ وَالشَّرِيكَيْنِ وَقَدْ تَكُونُ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا الْمُضَادَّةَ وَهَذَا كَمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ وَالرَّغْبَةِ بَعْدَ الرَّهْبَةِ وَعَادَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِذَا ذَكَرَ أَحْكَامًا ذَكَرَ بَعْدَهَا وَعْدًا وَوَعِيدًا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ بما سبق ثم يذكر آيات التوحيد والتنزيه لِيُعْلَمَ عِظَمُ الْآمِرِ وَالنَّاهِي وَتَأَمَّلْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَغَيْرَهَا تَجِدْهُ كَذَلِكَ وَقَدْ تَأْتِي الجملة معطوفة على ما قبلها ويشكل وَجْهَ الِارْتِبَاطِ فَتَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا يَلْتَحِقُ بِهَا مَا هُوَ فِي معناها: فمنها قوله تعالى يسألونك {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظهورها} الْآيَةَ فَقَدْ يُقَالُ أَيُّ رَابِطٍ بَيْنَ أَحْكَامِ الأهلة وبين حكم إِتْيَانِ الْبُيُوتِ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي تَمَامِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا مَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فِيهِ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ وَمُصْلِحَةٌ لِعِبَادِهِ فَدَعُوا السُّؤَالَ عَنْهُ وَانْظُرُوا فِي وَاحِدَةٍ تَفْعَلُونَهَا أَنْتُمْ مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ فِي شَيْءٍ وَأَنْتُمْ تَحْسَبُونَهَا بِرًّا الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ فِي الْحَجِّ فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَائِطًا وَلَا دَارًا وَلَا فُسْطَاطًا مِنْ بَابٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدَرِ نَقَبَ نَقْبًا فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ أَوْ يَتَّخِذُ سُلَّمًا يَصْعَدُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخِبَاءِ فَقِيلَ لَهُمْ لَيْسَ الْبِرُّ بِتَحَرُّجِكُمْ مِنْ دُخُولِ الْبَابِ لَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِمُ السُّؤَالُ عَنْ هَذَا وَتَرْكُهُمُ السُّؤَالَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَنَظِيرُهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْجَوَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سئل عن المتوضئ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَعْكِيسِهِمْ فِي سُؤَالِهِمْ وَأَنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَتْرُكُ بَابًا وَيَدْخُلُ مَنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَقِيلَ لَهُمْ لَيْسَ الْبِرُّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَعْكِيسِ الْأَسْئِلَةِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {وأتوا البيوت من أبوابها} أَيْ بَاشِرُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا الَّتِي يَجِبُ أن تباشر عَلَيْهَا وَلَا تَعْكِسُوا وَالْمُرَادُ أَنْ يُصَمِّمَ الْقَلْبُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ اللَّهِ حِكْمَةٌ مِنْهُ وَأَنَّهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فَإِنَّ فِي السُّؤَالِ اتِّهَامًا وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إلى المسجد الأقصى} إلى أن قال {وآتينا موسى الكتاب} فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: أَيُّ رَابِطٍ بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَ {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ؟ وَوَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ التَّقْدِيرَ: أَطْلَعْنَاهُ عَلَى الْغَيْبِ عِيَانًا وَأَخْبَرْنَاهُ بِوَقَائِعِ مَنْ سَلَفَ بَيَانًا لِتَقُومَ أَخْبَارُهُ عَلَى مُعْجِزَتِهِ بُرْهَانًا أَيْ سُبْحَانَ الَّذِي أَطْلَعَكَ على بعض آياته لتقصها ذكرا وَأَخْبَرَكَ بِمَا جَرَى لِمُوسَى وَقَوْمِهِ فِي الْكَرَّتَيْنِ لِتَكُونَ قِصَّتُهُمَا آيَةً أُخْرَى أَوْ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِمُحَمَّدٍ إِلَى رَبِّهِ كَمَا أُسْرِيَ بِمُوسَى مِنْ مِصْرَ حِينَ خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنه كان عبدا شكورا} لِيَتَذَكَّرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا حَيْثُ نَجَّاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ إِذْ لَوْ لَمْ يَنْجُ أَبَاهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ نُوحٍ لَمَا وُجِدُوا وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ نُوحًا كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ وَالْوَلَدُ سِرُّ أَبِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا شَاكِرِينَ كَأَبِيهِمْ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسِيرُوا سَيْرَتَهُ فَيَشْكُرُوا وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَكَيْفَ تَلِيقُ صِفَتُهُ بِالْفَاصِلَةِ وَيَتِمُّ النَّظْمُ بِهَا مَعَ خُرُوجِهَا مخرج المرور عن الكلام الأول إلى ذكره ومدحه بشكره وأن يعتقدوا تَعْظِيمِ تَخْلِيصِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الطُّوفَانِ بِمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ وَنَجَّاهُمْ مِنْهُ حِينَ أَهْلَكَ مَنْ عَدَاهُمْ وَقَدْ عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَاخِذُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِيمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ ثُمَّ عَادَ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ كَيْ يَتَذَكَّرُوا وَيَعْرِفُوا قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نُوحٍ الَّذِي وَلَدَهُمْ وهم ذريته فلما صاروا إِلَى جَهَالَتِهِمْ وَتَمَرَّدُوا عَادَ عَلَيْهِمُ التَّعْذِيبُ ثُمَّ ذكر تَعَالَى فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِصَّةِ بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةِ الْعَدَدِ كَثِيرَةِ الْفَوَائِدِ لَا يُمْكِنُ شَرْحُهَا إِلَّا بِالتَّفْصِيلِ الْكَثِيرِ وَالْكَلَامِ الطويل مَعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّدْرِيجِ الْعَجِيبِ وَالْمَوْعِظَةِ الْعَظِيمَةِ بِقَوْلِهِ {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فلها} ولم يَنْقَطِعْ بِذَلِكَ نِظَامُ الْكَلَامِ إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى قَوْلِهِ {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عدتم عدنا} يَعْنِي إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الطَّاعَةِ عُدْنَا إِلَى الْعَفْوِ ثُمَّ خَرَجَ خُرُوجًا آخَرَ إِلَى حِكْمَةِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ الْآيَةُ الْكُبْرَى وَعَلَى هَذَا فَقِسِ الِانْتِقَالَ مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْكَلَامُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالتَّخَلُّصِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ الْمَعْرُوفُ بِالْغَانِمِيِّ وَقَالَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَمِنْ أَحْسَنِ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأرض} الْآيَةَ فَإِنَّ فِيهَا خَمْسَ تَخَلُّصَاتٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ بِصِفَةِ النُّورِ وَتَمْثِيلِهِ ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى ذِكْرِ الزُّجَاجَةِ وَصِفَاتِهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذكر النور والزيت يستمد منه ثم التخلص مِنْهُ إِلَى ذِكْرِ الشَّجَرَةِ ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْ ذِكْرِهَا إِلَى صِفَةِ الزَّيْتِ ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْ صِفَةِ الزَّيْتَ إِلَى صِفَةِ النُّورِ وَتَضَاعُفِهِ ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ بِالْهُدَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {سَأَلَ سَائِلٌ بعذاب واقع} الْآيَةَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا عَذَابَ الْكُفَّارِ وَأَنْ لَا دَافِعَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثُمَّ تَخَلَّصَ إِلَى قَوْلِهِ {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} بوصف {الله ذي المعارج} منه قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قال لأبيه وقومه ما تعبدون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 إِلَى قَوْلِهِ {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ من المؤمنين} فهذا تخلص من قصة إبراهيم وقومه إلى قوله هَكَذَا وَتَمَنِّي الْكُفَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ وَهَذَا تَخَلُّصٌ عَجِيبٌ وَقَوْلُهُ {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين} وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنْ أَحْوَالِ أَصْنَامِهِمْ إِلَى ذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ أُولَئِكَ لِي أَعْدَاءٌ إِلَّا اللَّهَ فَانْتَقَلَ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فهم لا يهتدون لا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ {أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أم شجرة الزقوم} وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّخَلُّصِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلُصَ مِنْ وَصْفِ الْمُخْلِصِينَ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ إِلَى وَصْفِ الظَّالِمِينَ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ وَمِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ذَكَرَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ الْمَاضِينَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ فِي آخِرِهَا {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة} إِلَى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ التَّخَلُّصِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَاعْلَمْ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ التَّخَلُّصَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْطِئَةِ لَهُ وَمِنْ بَدِيعِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {نحن نقص عليك أحسن القصص} يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَطَّأَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَى ذِكْرِ الْقِصَّةِ يُشِيرُ إِلَيْهَا بِهَذِهِ النُّكْتَةِ مِنْ بَابِ الْوَحْيِ وَالرَّمْزِ وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ مُوَطِّئًا لِلتَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ مُبْتَدَأِ خَلْقِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ ونوحا} الآية وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تولوا فثم وجه الله} فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ مَا وَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} الآية؟ قال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ الدَّهَّانَ يَقُولُ وَجْهُ اتِّصَالِهَا هُوَ أَنَّ ذِكْرَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ سَبَقَ أَيْ فَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ذَلِكَ وَاسْتَقْبِلُوهَا فَإِنَّ لِلَّهِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} الآية فَإِنَّهُ يُقَالُ مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالسَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْجَوَابُ أنه جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَجْرَى الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى أهل الوبر فإن كل انْتِفَاعِهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ مِنَ الْإِبِلِ فَتَكُونُ عِنَايَتُهُمْ مَصْرُوفَةً إِلَيْهَا وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ تَرْعَى وتشرب وذلك بنزول المطر وهو سبب تقلب وجوههم في السماء ثم لا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَأْوًى يُؤْوِيهِمْ وَحِصْنٍ يَتَحَصَّنُونَ بِهِ وَلَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ كَالْجِبَالِ ثُمَّ لَا غِنًى لَهُمْ لِتَعَذُّرِ طُولِ مُكْثِهِمْ فِي مَنْزِلٍ عَنِ التَّنَقُّلِ مِنْ أَرْضٍ إِلَى سِوَاهَا فَإِذَا نَظَرَ الْبَدَوِيُّ فِي خَيَالِهِ وَجَدَ صُورَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاضِرَةً فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} فَيُقَالُ: أَيُّ ارْتِبَاطٍ بَيْنَهُمَا؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ {مَنْ} خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ تُتْرَكُ عِبَادَتُهُ أَوْ مُعَادِلُ الْهَمْزَةِ تَقْدِيرُهُ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ كَمَنْ لَيْسَ بِقَائِمٍ وَوَجْهُ الْعَطْفِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَاضِحٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَعْنَى أَتَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ وَلَمْ يَكْفِ التَّرْكُ حَتَّى جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى إِذَا انْتَفَتِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِغَيْرِ الْمُسَاوِي حُكْمَ الْمُسَاوِي! وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم} إِلَى قَوْلِهِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أو كالذي مر على قرية} عَطَفَ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ مَعَ أَنَّ شَرْطَ الْعَطْفِ الْمُشَاكَلَةُ فَلَا يَحْسُنُ فِي نَظِيرِ الْآيَةِ {ألم تر إلى ربك} {أو كالذي} وَوَجْهُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَابَهَةِ أَنَّ {أَلَمْ تَرَ} بِمَنْزِلَةِ هَلْ رَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِمَنْزِلَتِهَا لِأَنَّ {أَلَمْ تَرَ} مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفِ النَّفْيِ وَلِذَلِكَ يُجَابُ بِبَلَى وَالِاسْتِفْهَامُ يُعْطِي النَّفْيَ إِذْ حَقِيقَةُ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ عِنْدَ الْمُسْتَفْهِمِ وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ مَكَانَ حَرْفِ النَّفْيِ وَنَفْيُ النَّفْيِ إِيجَابٌ فَصَارَ بِمَثَابَةِ رَأَيْتَ غَيْرَ أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُؤْتَى بِحَرْفِهِ لِوُجُودِهِ فِي اللَّفْظِ فَلِذَلِكَ أَعْطَى مَعْنَى هَلْ رَأَيْتَ فَإِنْ قُلْتَ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ إلى ورأيت يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ؟ أُجِيبُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى تَنْظُرُ الْقِسْمُ الثَّانِي: أَلَّا تَكُونَ مَعْطُوفَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دِعَامَةٍ تُؤْذِنُ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ وَهِيَ قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ مُؤْذِنَةٌ بِالرَّبْطِ وَالْأَوَّلُ مَزْجٌ لَفْظِيٌّ وَهَذَا مَزْجٌ مَعْنَوِيٌّ تَنْزِلُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأُولَى مَنْزِلَةَ جُزْئِهَا الثَّانِي وَلَهُ أَسْبَابٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أَحَدُهَا: التَّنْظِيرُ فَإِنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنْ دَأْبِ الْعُقَلَاءِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {كَمَا أخرجك ربك من بيتك بالحق} عَقِبَ قَوْلِهِ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَمْضِيَ لِأَمْرِهِ فِي الْغَنَائِمِ عَلَى كُرْهٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمَا مَضَى لِأَمْرِهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ لِطَلَبِ الْعِيرِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأَنْفَالِ وَحَاجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَادَلُوهُ فَكَرِهَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّفْلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ بِهَا وَأَمْرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَيُطِيعُوهُ وَلَا يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ شَيْءٍ مَا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَوَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ قَالَ {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فريقا من المؤمنين لكارهون} يريد أن كراهتهم لِمَا فَعَلْتَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ كَكَرَاهَتِهِمْ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أنكم تنطقون} وَقِيلَ: الْكَافُ صِفَةٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَتَأْوِيلُهُ: افْعَلْ فِي الْأَنْفَالِ كَمَا فَعَلْتَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَإِنْ كَرِهَ الْقَوْمُ ذَلِكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم} مَعْنَاهُ: كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَكَذَلِكَ أُتِمُّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَشَبَّهَ كَرَاهَتَهُمْ مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ الْأَنْفَالِ وَقِسْمَتِهَا بِالْكَرَاهَةِ فِي مَخْرَجِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا بِهِ مِنْ صِفَةٍ وَصِلَةٍ فَهُوَ مِنْ نَفْسِ الْكَلَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {كما أنزلنا على المقتسمين} بَعْدَ قَوْلِهِ {وَقُلْ إِنِّي أَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 النذير المبين} فإن فيه محذوفا كأنه قال أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عُقُوبَةً أَوْ عَذَابًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {لا تحرك به لسانك لتعجل به} وَقَدِ اكْتَنَفَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ قَوْلُهُ {بَلِ الْإِنْسَانُ على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} وَقَوْلُهُ {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} فَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِكَ لِلرَّجُلِ وَأَنْتَ تُحَدِّثُهُ بِحَدِيثٍ فَيَنْتَقِلُ عَنْكَ وَيُقْبِلُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ: أَقْبِلْ عَلَيَّ وَاسْمَعْ مَا أَقُولُ وَافْهَمْ عَنِّي وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ تَصِلُ حَدِيثَكَ فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ قَاطِعًا لَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِهِ مُشَوِّقًا لِلْكَلَامِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَسَمِعَ الْقُرْآنَ حَرَّكَ لِسَانَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ تَدَبَّرْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ولا تتلقفه بِلِسَانِكَ فَإِنَّمَا نَجْمَعُهُ لَكَ وَنَحْفَظُهُ عَلَيْكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كفروا من دينكم} إلى قوله {الأسلام دينا} فَإِنَّ الْكَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا {ذلكم فسق} وَوَسَّطَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَرْغِيبًا فِي قَبُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالْعَمَلِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَمَوْتِ كَلِمَتِهِمْ وَإِكْمَالِ الدِّينِ وَيَدُلُّ على اتصال فمن اضطر بِقَوْلِهِ {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} آيَةَ الْأَنْعَامِ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضطر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الثَّانِي: الْمُضَادَّةُ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية فإنه أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ حَدِيثًا عَنِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَأَنَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الَّذِينَ مِنْ صِفَاتِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ فَرَجَعَ إِلَى الْحَدِيثِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أَكْمَلَهُ عَقَّبَ بِمَا هُوَ حَدِيثٌ عَنِ الْكُفَّارِ فَبَيْنَهُمَا جَامِعٌ وَهْمِيٌّ بِالتَّضَادِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَحِكْمَتُهُ التَّشْوِيقُ وَالثُّبُوتُ عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا قِيلَ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا جَامِعٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَدِيثًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَرْضِ لَا بِالذَّاتِ وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ الَّذِي هُوَ مَسَاقُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ الْحَدِيثُ عَنِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مُفْتَتَحُ الْقَوْلِ قُلْنَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجَامِعِ ذَلِكَ بَلْ يَكْفِي التَّعَلُّقُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَيَكْفِي فِي وَجْهِ الرَّبْطِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الْقَصْدَ تَأْكِيدُ أَمْرِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالْحَثُّ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عبدنا} الآية فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ الثَّالِثُ: الِاسْتِطْرَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يا بني آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيات الله لعلهم يذكرون} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الاستطراد عقب ذكر بدو السوءات وَخَصْفِ الْوَرَقِ عَلَيْهَا إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ اللِّبَاسِ وَلِمَا فِي الْعُرْيِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالْفَضِيحَةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ السَّتْرَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّقْوَى وَجَعَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ قَوْلَهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لا يستكبرون} وَقَالَ: كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَجْرِيَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إلى الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ وَمِنْهُ الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى آخَرَ تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ {هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب} فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ لَمَّا انْتَهَى ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّنْزِيلِ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ نَوْعًا آخَرَ وَهُوَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا فَقَالَ {هَذَا ذِكْرٌ} فَأَكَّدَ تِلْكَ الإخباريات بَاسِمِ الْإِشَارَةِ تَقُولُ أُشِيرُ عَلَيْكَ بِكَذَا ثُمَّ تَقُولُ بَعْدَهُ هَذَا الَّذِي عِنْدِي وَالْأَمْرُ إِلَيْكَ وقال {وإن للمتقين لحسن مآب} كما يقول المصنف هذا باب يَشْرَعُ فِي بَابٍ آخَرَ وَلِذَلِكَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ {هَذَا وَإِنَّ للطاغين لشر مآب} فصل في اتصال اللفظ والمعنى على خلاف وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُتَّصِلًا بِالْآخَرِ وَالْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مودة} فَقَوْلُهُ {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} مَنْظُومٌ بِقَوْلِهِ {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الشَّمَاتَةِ وَقَوْلُهُ {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وهم ينظرون} فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بعد ما تبين كأنما يساقون} وَقَوْلُهُ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} جَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ من الدمع} وَقَوْلُهُ {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} دَاخِلٌ فِي الشَّرْطِ وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الخوف أذاعوا به} إلى قوله: {إلا قليلا} فَقَوْلُهُ {إِلَّا قَلِيلًا} مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يستنبطونه منهم} ومثل بقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} عَلَى تَأْوِيلِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي رَحْمَتِهِ وَاتَّبَعُوا الشَّيْطَانَ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ وَمِمَّا يَحْتَمِلُ الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أن ترفع ويذكر فيها اسمه} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} أَيِ الْمِصْبَاحُ فِي بُيُوتٍ وَيَكُونُ تَمَامُهُ عَلَى قوله: {ويذكر فيها اسمه} و (يسبح له فيها رِجَالٌ) صِفَةٌ لِلْبُيُوتِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا خبرا لقوله: و {رجال لا تلهيهم} وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا قَوْلُهُ: {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كتاب مبين} مستأنف لأنه لو جعل متصلا بيعزب لَاخْتَلَّ الْمَعْنَى إِذْ يَصِيرُ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ مَا يَعْزُبُ عَنْ ذِهْنِي إِلَّا فِي كِتَابٍ أي استدراكه وقوله: {فيه هدى للمتقين} مِنْهُمْ مَنْ قَضَى بِاسْتِئْنَافِهِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخبر ومنهم من قضى بجعل {فيه} خبر {لا} و {هدى} نصب عَلَى الْحَالِ فِي تَقْدِيرِ هَادِيًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولا يخفى انقطاع: {الذين يحملون العرش} عن قوله: {أنهم أصحاب النار} وكذا: {فلا يحزنك قولهم} عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وما يعلنون} وكذلك قوله: {فأصبح من النادمين} عَنْ قَوْلِهِ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نفس} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 النوع الثالث: معرفة الفواصل ورؤوس الآي ... النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ الْفَوَاصِلِ وَرُءُوسِ الْآيِ وَهِيَ كَلِمَةٌ آخِرَ الْآيَةِ كَقَافِيَةِ الشِّعْرِ وَقَرِينَةِ السَّجْعِ وَقَالَ الدَّانِيُّ: كَلِمَةٌ آخِرَ الْجُمْلَةِ قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْطَلَحِ وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي تمثيل سيبويه {يوم يأت} و {ما كنا نبغ} وليسا رأس أي لِأَنَّ مُرَادَهُ الْفَوَاصِلُ اللُّغَوِيَّةُ لَا الصِّنَاعِيَّةُ وَيَلْزَمُ أبا عمرو إمالة {من أعطى} لِأَبِي عَمْرٍو وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الْفَوَاصِلُ حُرُوفٌ مُتَشَاكِلَةٌ فِي الْمَقَاطِعِ يَقَعُ بِهَا إِفْهَامُ الْمَعَانِي انْتَهَى وَفَرَّقَ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ وَرُءُوسِ الْآيِ قَالَ أَمَّا الْفَاصِلَةُ فَهِيَ الْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ مِمَّا بَعْدَهُ وَالْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ قَدْ يَكُونُ رَأْسَ آيَةٍ وَغَيْرَ رَأْسٍ وَكَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الْفَوَاصِلُ يَكُنَّ رُءُوسَ آيٍ وَغَيْرَهَا وَكُلُّ رَأْسِ آيَةٍ فَاصِلَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَاصِلَةٍ رَأْسَ آيَةٍ فَالْفَاصِلَةُ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ وَتَجْمَعُ الضَّرْبَيْنِ وَلِأَجْلِ كَوْنِ مَعْنَى الْفَاصِلَةِ هَذَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي تَمْثِيلِ القوافي {يوم يأت} و {ما كنا نبغ} -وَهُمَا غَيْرُ رَأْسِ آيَتَيْنِ بِإِجْمَاعٍ -مَعَ {إِذَا يسر} وَهُوَ رَأْسُ آيَةٍ بِاتِّفَاقٍ انْتَهَى وَتَقَعُ الْفَاصِلَةُ عِنْدَ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الْخِطَابِ لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ بِهَا وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي يُبَايِنُ الْقُرْآنُ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ وَتُسَمَّى فَوَاصِلَ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عِنْدَهَا الْكَلَامَانِ وذلك أن آخر الآية قد فَصْلٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا وَلَمْ يُسَمُّوهَا أَسْجَاعًا فَأَمَّا مُنَاسَبَةُ فَوَاصِلَ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ فصلت آياته} وَأَمَّا تَجَنُّبُ أَسْجَاعٍ فَلِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ سَجَعَ الطَّيْرُ فَشُرِّفَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِشَيْءٍ فِيهِ لَفْظٌ هُوَ أَصْلٌ فِي صَوْتِ الطَّائِرِ وَلِأَجْلِ تَشْرِيفِهِ عَنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْحَادِثِ فِي اسْمِ السَّجْعِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ آحَادِ النَّاسِ وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِصِفَةٍ لَمْ يَرِدِ الْإِذْنُ بِهَا وَإِنْ صَحَّ الْمَعْنَى ثُمَّ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فَقَالُوا السَّجْعُ هُوَ الَّذِي يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ يُحِيلُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَالْفَوَاصِلُ التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة فينفسها قال الرُّمَّانِيُّ فِي كِتَابِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْفَوَاصِلَ بَلَاغَةٌ وَالسَّجْعَ عَيْبٌ وَتَبِعَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَنُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ امْتِنَاعُ كَوْنِ فِي الْقُرْآنِ سجعا قَالَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قَالَ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُخَالِفِيهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ فَضَلُّ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّفَاضُلُ فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ كَالتَّجْنِيسِ وَالِالْتِفَافِ وَنَحْوِهَا قَالَ وَأَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ هارون عليهما السلام ولما كان السجع قيل في موضع {هارون وموسى} وَلَمَّا كَانَتِ الْفَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْوَاوِ والنون قيل {موسى وهارون} قَالُوا: وَهَذَا يُفَارِقُ أَمْرَ الشِّعْرِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْخِطَابِ إِلَّا مَقْصُودًا إِلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ كَانَ دُونَ الْقَدْرِ الَّذِي نُسَمِّيهِ شِعْرًا وَذَلِكَ الْقَدْرُ يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مِنَ الْمُفْحَمِ كَمَا يَتَّفِقُ وَجُودُهُ فِي الشِّعْرِ وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ السَّجْعِ فَهُوَ كَثِيرٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ كُلُّهُ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ قَالَ: وَبَنَوُا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَحْدِيدِ مَعْنَى السَّجْعِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هُوَ مُوَالَاةُ الْكَلَامِ عَلَى وزن واحد قل ابن دريد سجعت الحمامة رَدَّدَتْ صَوْتَهَا قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الَّذِي يَزْعُمُونَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ سَجْعًا لَكَانَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ إِعْجَازٌ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هُوَ سَجْعٌ مُعْجِزٌ لَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا شِعْرٌ مُعْجِزٌ وَكَيْفَ وَالسَّجْعُ مما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 كُهَّانُ الْعَرَبِ تَأْلَفُهُ وَنَفْيُهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونَ حُجَّةً مِنْ نَفْيِ الشِّعْرِ لِأَنَّ الْكِهَانَةَ تُخَالِفُ النُّبُوَّاتِ بِخِلَافِ الشِّعْرِ وَمَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ سَجْعٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ مَجِيئَهُ عَلَى صُورَتِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ هُوَ لِأَنَّ السَّجْعَ مِنَ الْكَلَامِ يَتْبَعُ الْمَعْنَى فِيهِ اللَّفْظَ الَّذِي يُؤَدِّي السَّجْعَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا اتَّفَقَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَى السَّجْعِ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَقَعَ فِيهِ تَابِعًا لِلْمَعْنَى وَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِمَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ بِأَلْفَاظِهِ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ فِيهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُنْتَظِمًا دُونَ اللَّفْظِ وَمَتَى ارْتَبَطَ الْمَعْنَى بِالسَّجْعِ كَانَ إِفَادَةُ السَّجْعِ كَإِفَادَةِ غَيْرِهِ وَمَتَى انْتَظَمَ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ دُونَ السَّجْعِ كَانَ مُسْتَجْلِبًا لِتَحْسِينِ الكلام دون تصحيح المعنى قال وأما ما ذَكَرُوهُ فِي تَقْدِيمِ مُوسَى عَلَى هَارُونَ فِي مَوْضِعٍ وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَجْلِ السَّجْعِ ولتساوي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ فَمَرْدُودٌ بَلِ الْفَائِدَةُ فِيهِ إِعَادَةُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا وَذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الصَّعْبِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَقْوَى الْبَلَاغَةُ وَلِهَذَا أُعِيدَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْقَصَصِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى تَرْتِيبَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بمثله مبتدأ به ومكررا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَلَوْ أَمْكَنَهُمُ الْمُعَارَضَةُ لَقَصَدُوا تِلْكَ الْقِصَّةَ وَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ لَهُمْ تُؤَدِّي إِلَى تِلْكَ الْمَعَانِي ونحوها وجعلوها بإزاء ما جاء به وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما حكى وجاء به وكيف وقد قال: لهم: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} فعلى هذا يكون المقصد بِتَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَتَأْخِيرِهَا إِظْهَارُ الإعجاز على الطريقين جميعا دون السجع الذي توهموه إِلَى أَنْ قَالَ: فَبَانَ بِمَا قُلْنَا أَنَّ الْحُرُوفَ الْوَاقِعَةَ فِي الْفَوَاصِلِ مُنَاسِبَةٌ مَوْقِعَ النَّظَائِرِ التي تقع في الأسجاع لا يخرجها عن حدها ولا يدخلها فِي بَابِ السَّجْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يَذُمُّونَ كُلَّ سَجْعٍ خَرَجَ عَنِ اعْتِدَالِ الْأَجْزَاءِ فَكَانَ بعض مصاريعه كلمتين وبعضها يبلغ كَلِمَاتٍ وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَصَاحَةً بَلْ يَرَوْنَهُ عَجْزًا فَلَوْ فَهِمُوا اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى السَّجْعِ لَقَالُوا نَحْنُ نُعَارِضُهُ بِسَجْعٍ مُعْتَدِلٍ فَنَزِيدُ فِي الفصاحة على طريق القرآن ونتجاوز حده في البراعة والحسن انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالرُّمَّانِيُّ رَدَّ عَلَيْهِمَا الْخَفَاجِيُّ فِي كِتَابِ سِرِّ الْفَصَاحَةِ فَقَالَ: وَأَمَّا قول الرماني إن السجع عيب والفواصل على الإطلاق بَلَاغَةٌ فَغَلَطٌ فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالسَّجْعِ مَا يَتْبَعُ الْمَعْنَى وَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَذَلِكَ بَلَاغَةٌ وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا تَقَعُ الْمَعَانِي تَابِعَةً لَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ مُتَكَلَّفٌ فَذَلِكَ عَيْبٌ وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قَالَ وَأَظُنُّ أَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى تَسْمِيَةِ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ فَوَاصِلَ وَلَمْ يُسَمُّوا مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ سَجْعًا رَغْبَتُهُمْ فِي تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنِ الْوَصْفِ اللَّاحِقِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنِ الْكَهَنَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا غَرَضٌ فِي التَّسْمِيَةِ قَرِيبٌ وَالْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَاهُ ثُمَّ قَالَ وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْأَسْجَاعَ حُرُوفٌ مُتَمَاثِلَةٌ فِي مَقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ أَنَّ السَّجْعَ مَحْمُودٌ فَهَلَّا وَرَدَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا وَمَا الْوَجْهُ فِي وُرُودِ بَعْضِهِ مَسْجُوعًا وَبَعْضِهِ غَيْرَ مَسْجُوعٍ قُلْنَا إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَعَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَكَانَ الْفَصِيحُ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا لِمَا فِيهِ من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع لاسيما فِيمَا يَطُولُ مِنَ الْكَلَامِ فَلَمْ يَرِدْ كُلُّهُ مسجوعا جريا منه على عرفهم في اللطيفة الْعَالِيَةِ مِنْ كَلَامِهِمْ وَلَمْ يَخْلُ مِنَ السَّجْعِ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى الصِّفَةِ السابقة وعليها ورد في فصيح كلامهم فلم يجز أن يكون عاليا في الفصاحة وقد أدخل فيه بشرط من شروطها فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي وُرُودِ بَعْضِهِ كَذَلِكَ وَبَعْضِهِ بِخِلَافِهِ وَخُصَّتْ فَوَاصِلُ الشِّعْرِ بِاسْمِ الْقَوَافِي لأن الشاعر يقفوها أي يتبعها في شعره لَا يَخْرُجُ عَنْهَا وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ فَاصِلَةٌ لِأَنَّهَا تَفْصِلُ آخِرَ الْكَلَامِ فَالْقَافِيَةُ أَخَصُّ فِي الِاصْطِلَاحِ إِذْ كُلُّ قَافِيَةٍ فَاصِلَةٌ وَلَا عَكْسَ وَيَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْقَافِيَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا سَلَبَ عَنْهُ اسْمَ الشِّعْرِ وجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 سَلْبُ الْقَافِيَةِ أَيْضًا عَنْهُ لِأَنَّهَا مِنْهُ وَخَاصَّةٌ بِهِ فِي الِاصْطِلَاحِ وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْقَافِيَةِ في القرآن لا تطلق الْفَاصِلَةُ فِي الشِّعْرِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَتَعَدَّاهُ قِيلَ وَقَدْ يَقَعُ فِي الْقُرْآنِ الْإِيطَاءُ وَهُوَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ فِيهِ إِنَّمَا يُقَبَّحُ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {كأنهم لا يعلمون} ثُمَّ قَالَ فِي آخَرَيْنِ: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ثلاث فواصل متوالية يعلمون يُعَلِّمُونَ يُعَلِّمُونَ فَهَذَا لَا يُقَبَّحُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلًا وَاحِدًا قِيلَ وَيَقَعُ فِيهِ التَّضْمِينُ وَلَيْسَ بقبيح إنما يقبح في الشعر ومنه سورتا الْفِيلِ وَقُرَيْشٍ فَإِنَّ اللَّامَ فِي: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} قيل إنها متعلقة {فجعلهم} فِي آخِرِ الْفِيلِ وَحَكَى حَازِمٌ فِي مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ خِلَافًا غَرِيبًا فَقَالَ وَلِلنَّاسِ فِي الْكَلَامِ المنثور من جهة تقطيعه إلى مقادير تتقارب فِي الْكَمِّيَّةِ وَتَتَنَاسَبُ مَقَاطِعُهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنْهَا أَوْ بِالنُّقْلَةِ مِنْ ضَرْبٍ وَاقِعٍ فِي ضَرْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إِلَى ضَرْبٍ آخَرَ مُزْدَوِجٍ فِي كل ضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ضَرْبٌ مِنْهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَى الِازْدِوَاجِ وَمِنْ جِهَةِ مَا يَكُونُ غَيْرَ مُقَطَّعٍ إِلَى مَقَادِيرَ بقصد تناسب أَطْرَافِهَا وَتَقَارُبِ مَا بَيْنَهَا فِي كَمِّيَّةِ الْأَلْفَاظِ وَالْحُرُوفِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: مِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ تَقْطِيعَ الْكَلَامِ إِلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ مُتَقَارِبَةٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ إِلَّا مَا يَقَعُ بِهِ الْإِلْمَامُ فِي النَّادِرِ مِنَ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّنَاسُبَ الْوَاقِعَ بِإِفْرَاغِ الْكَلَامِ فِي قَوَالِبِ التَّقْفِيَةِ وَتَحْلِيَتِهَا بِمُنَاسَبَاتِ الْمَقَاطِعِ أَكِيدٌ جِدًّا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْوَسَطُ أَنَّ السَّجْعَ لَمَّا كَانَ زِينَةً لِلْكَلَامِ فَقَدْ يَدْعُو إِلَى التكلف فرئي ألا يستعمل في الْكَلَامِ وَأَنْ لَا يُخْلَى الْكَلَامُ بِالْجُمْلَةِ مِنْهُ أَيْضًا وَلَكِنْ يُقْبَلُ مِنَ الْخَاطِرِ فِيهِ مَا اجتلبه عفوا بخلاف التكلف وهذا رأي أبي الفرج قدامة قالحازم: وَكَيْفَ يُعَابُ السَّجْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِ الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَوَرَدَتِ الْفَوَاصِلُ فِيهِ بِإِزَاءِ وُرُودِ الْأَسْجَاعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِئْ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ جَمِيعًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًّا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَلِمَا فِي الطَّبْعِ مِنَ الْمِلَلِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الِافْتِنَانَ فِي ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ أَعْلَى مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ضَرْبٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا وَرَدَتْ بَعْضُ آيِ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةَ الْمَقَاطِعِ وَبَعْضُهَا غير متماثل [إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل] وَاعْلَمْ أَنَّ إِيقَاعَ الْمُنَاسَبَةِ فِي مَقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ حيث تطرد متأكد جدا ومؤثر فِي اعْتِدَالِ نَسَقِ الْكَلَامِ وَحُسْنِ مَوْقِعِهِ مِنَ النَّفْسِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا وَلِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ لِأَجْلِهَا فِي مَوَاضِعَ:. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أَحَدُهَا زِيَادَةُ حَرْفٍ لِأَجْلِهَا وَلِهَذَا أُلْحِقَتِ الْأَلِفُ بِـ (الظُّنُونِ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظنونا} لِأَنَّ مَقَاطِعَ فَوَاصِلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَلِفَاتٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ تَنْوِينٍ فِي الْوَقْفِ فَزِيدَ عَلَى النُّونِ ألف لِتُسَاوِيَ الْمَقَاطِعَ وَتُنَاسِبَ نِهَايَاتِ الْفَوَاصِلِ وَمِثْلُهُ: {فَأَضَلُّونَا السبيلا} ، {وأطعنا الرسولا} وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ ذَلِكَ وَقَالَ لَمْ تُزَدِ الْأَلِفُ لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ كَمَا قَالَ قَوْمٌ لِأَنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وهو يهدي السبيل} وفيها: {فأضلونا السبيلا} . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا رَأْسُ آيَةٍ وَثَبَتَتِ الْأَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ تِلْكَ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَوْ كَانَ لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الآي لثبت من الجميع قال: وَإِنَّمَا زِيدَتِ الْأَلِفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْقِسْمَيْنِ وَاسْتِوَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ تِلْكَ وَكَذَلِكَ لِحَاقُ هَاءِ السَّكْتِ في قوله: {ما هيه} فِي سُورَةِ الْقَارِعَةِ هَذِهِ الْهَاءُ عَدَّلَتْ مَقَاطِعَ الْفَوَاصِلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَانَ لِلَحَاقِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَعَلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ-يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ لِحَاقُ النون في المواضع التي قد تَكَلَّمُ فِي لِحَاقِ النُّونِ إِيَّاهَا نَحْوِ قَوْلِهِ تعالى: {وكل في فلك يسبحون} وقوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} فَإِنَّ مِنْ مَآخِذِ الْفَصَاحَةِ وَمَذَاهِبِهَا أَنْ يَكُونَ وُرُودُ هَذِهِ النُّونِ فِي مَقَاطِعِ هَذِهِ الْأَنْحَاءِ لِلْآيِ رَاجِحَ الْأَصَالَةِ فِي الْفَصَاحَةِ لِتَكُونَ فَوَاصِلُ السُّوَرِ الْوَارِدِ فِيهَا ذَلِكَ قَدِ اسْتُوثِقَ فِيمَا قَبْلَ حُرُوفِهَا الْمُتَطَرِّفَةِ وُقُوعُ حَرْفَيِ الْمَدِّ وَاللِّينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقوله تعالى: {وطور سينين} وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ لِقَوْلِهِ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طور سيناء} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يعلمون} كَرَّرَ لَعَلَّ مُرَاعَاةً لِفَوَاصِلِ الْآيِ إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ لَقَالَ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ فَيَعْلَمُوا بِحَذْفِ النُّونِ عَلَى الْجَوَابِ الثَّانِي: حَذْفُ هَمْزَةٍ أَوْ حَرْفٍ اطِّرَادًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {والليل إذا يسر} الثَّالِثُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَجْرُورَاتِ وَبِذَلِكَ يُجَابُ عَنْ سُؤَالٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لكم علينا به تبيعا} فَإِنَّهُ قَدْ تَوَالَتِ الْمَجْرُورَاتُ بِالْأَحْرُفِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ اللام في: {لكم} والباء في {به} وعلى فِي {عَلَيْنَا} وَكَانَ الْأَحْسَنُ الْفَصْلَ وَجَوَابُهُ أَنَّ تَأَخُّرَ {تَبِيعًا} وَتَرْكَ الْفَصْلِ أَرْجَحُ مِنْ أَنْ يُفْصَلَ بِهِ بَيْنَ بَعْضِ الرَّوَابِطِ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ علينا به تبيعا} فَإِنَّ فَوَاصِلَهَا كُلَّهَا مَنْصُوبَةٌ مُنَوَّنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْلِهِ {تَبِيعًا} لِتَكُونَ نِهَايَةُ هَذِهِ الْآيَةِ مُنَاسِبَةً لِنِهَايَاتِ مَا قَبْلَهَا حَتَّى تَتَنَاسَقَ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ الرَّابِعُ: تَأْخِيرُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُقَدَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ فِي نفسه خيفة موسى} لأن أصل الكلام أَنْ يَتَّصِلَ الْفِعْلُ بِفَاعِلِهِ وَيُؤَخَّرَ الْمَفْعُولُ لَكِنْ أُخِّرَ الْفَاعِلُ وَهُوَ مُوسَى لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ قُلْتُ لِلتَّأْخِيرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ تَتَشَوَّقُ لِفَاعِلِ أَوْجَسَ فَإِذَا جَاءَ بَعْدَ أَنْ أُخِّرَ وَقَعَ بِمَوْقِعٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وأجل مسمى} فَإِنَّ قَوْلَهُ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} مَعْطُوفٌ عَلَى {كَلِمَةٌ} وَلِهَذَا رُفِعَ وَالْمَعْنَى {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} فِي التَّأْخِيرِ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} لَكَانَ الْعَذَابُ لِزَامًا لَكِنَّهُ قَدَّمَ وَأَخَّرَ لِتَشْتَبِكَ رُءُوسُ الْآيِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفَهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي {لَكَانَ} أَيْ لَكَانَ الْأَجَلُ الْعَاجِلُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَازِمَيْنِ لَهُ كَمَا كَانَا لَازِمَيْنِ لِعَادٍ وَثَمُودَ وَلَمْ يَنْفَرِدِ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى دُونَ الْأَجَلِ الْعَاجِلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ جَاءَ آل فرعون النذر} فَأَخَّرَ الْفَاعِلَ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفقون} أَخَّرَ الْفِعْلَ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهَا وَقَدَّمَهُ فِيمَا قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} لتوافق رءوس الْآيِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ لِلِاخْتِصَاصِ وَمِنْهُ تَأْخِيرُ الِاسْتِعَانَةِ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين} وَهِيَ قَبْلَ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ لِأَجْلِ فَوَاصِلِ السُّورَةِ فِي أَحَدِ الْأَجْوِبَةِ الْخَامِسُ: إِفْرَادُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُجْمَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جنات ونهر} قَالَ الْفَرَّاءُ الْأَصْلُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّمَا وَحَّدَ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ فَقَابَلَ بِالتَّوْحِيدِ رُءُوسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الْآيِ وَيُقَالُ النَّهْرُ الضِّيَاءُ وَالسَّعَةُ فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَوْلُهُ {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عضدا} قَالَ: ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ أَيْ أَعْضَادًا وَإِنَّمَا أَفْرَدَ لِيَعْدِلَ رُءُوسَ الْآيِ بِالْإِفْرَادِ وَالْعَضُدُ الْمُعِينُ السَّادِسُ: جَمْعُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُفْرَدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} فَإِنَّ الْمُرَادَ وَلَا خُلَّةٌ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى لَكِنْ جَمَعَهُ لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ السَّابِعُ: تَثْنِيَةُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُفْرَدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قال: الفراء هَذَا بَابُ مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي تَثْنِيَةِ الْبُقْعَةِ الواحدة وجمعها كقوله ديار لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ وَقَوْلِهِ بَطْنُ الْمَكَّتَيْنِ وَأُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى نَوَاحِيهَا أَوْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ لَهَا وَجْهَيْنِ وَأَنَّكَ إِذَا أَوْصَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا يَمِينًا وَشِمَالًا رَأَيْتَ فِي كِلْتَا النَّاحِيَتَيْنِ مَا يَمْلَأُ عَيْنَكَ قُرَّةً وَصَدْرَكَ مَسَرَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قَالَ وَإِنَّمَا ثَنَّاهُمَا لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ رِعَايَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا عَلَى هَذَا الْوَزْنِ وَالْقَوَافِي تحتمل في الزيادة والنقصان مالا يَحْتَمِلُهُ سَائِرُ الْكَلَامِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَيْهِ وَأَغْلَظَ وَقَالَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي رُءُوسِ الْآيِ زِيَادَةُ هَاءِ السَّكْتِ أَوِ الْأَلِفِ أَوْ حَذْفُ هَمْزَةٍ أَوْ حَرْفٍ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الله وعد جنتين فنجعلهما جَنَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ رُءُوسِ الْآيِ فَمَعَاذَ اللَّهِ وَكَيْفَ هَذَا وَهُوَ يَصِفُهَا بِصِفَاتِ الِاثْنَيْنِ قال: {ذواتا أفنان} ثم قال فيها {فيهما} وَلَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ فِي خَزَنَةِ النَّارِ إِنَّهُمْ عِشْرُونَ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمُ اللَّهُ تِسْعَةَ عَشَرَ لِرَأْسِ الْآيَةِ مَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا كقول الفراء قلت وكأن الملجيء لِلْفَرَّاءِ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فإن الجنة هي المأوى} وَعَكْسُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} عَلَى أَنَّ هَذَا قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ خُصُوصًا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْفَرَّاءِ قوله: {ذواتا أفنان} الثَّامِنُ: تَأْنِيثُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُذْكَرَ كَقَوْلِهِ تعالى {كلا إنه تذكرة} وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَيْهَا لِلْفَاصِلَةِ التَّاسِعُ: كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسم ربك الأعلى} وقال فِي الْعَلَقِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ربك الذي خلق} فزاد في الْأُولَى {الْأَعْلَى} وَزَادَ فِي الثَّانِيَةِ: {خَلَقَ} مُرَاعَاةً لِلْفَوَاصِلِ فِي السُّورَتَيْنِ وَهِيَ فِي سَبِّحْ {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} وَفِي الْعَلَقِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} الْعَاشِرُ: صَرْفُ مَا أَصْلُهُ أَلَّا يَنْصَرِفَ كقوله تعالى: {قواريرا قواريرا} صَرَفَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ آخِرُ الْآيَةِ وَآخِرُ الثَّانِي بِالْأَلِفِ فَحَسُنَ جَعْلُهُ مَنَوَّنًا لِيُقْلَبَ تَنْوِينُهُ أَلِفًا فَيَتَنَاسَبُ مَعَ بَقِيَّةِ الْآيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {سَلَاسِلَا وأغلالا} فَإِنَّ {سَلَاسِلَا} لَمَّا نُظِمَ إِلَى {وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} صُرِفَ وَنُوِّنَ لِلتَّنَاسُبِ وَبَقِيَ قَوَارِيرَ الثَّانِي فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آخِرَ الْآيَةِ جَازَ صَرْفُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَّنَ قَوَارِيرًا الْأَوَّلَ نَاسَبَ أَنْ يُنَوَّنَ قَوَارِيرًا الثَّانِي لِيَتَنَاسَبَا وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُنَوِّنْ قَوَارِيرًا الثَّانِيَ إِلَّا مَنْ يُنَوِّنُ قَوَارِيرًا الْأَوَّلَ وَزَعَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ صَرْفَ مَا كَانَ جَمْعًا فِي الْقُرْآنِ لِيُنَاسِبَ رُءُوسَ الْآيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا} وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ سَلَاسِلًا لَيْسَ رَأْسَ آيَةٍ وَلَا قَوَارِيرًا الثَّانِي وَإِنَّمَا صُرِفَ لِلتَّنَاسُبِ وَاجْتِمَاعِهِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُنْصَرِفَاتِ فَيُرَدُّ إِلَى الأصل ليتناسب معهاونظيره فِي مُرَاعَاةِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْأَفْصَحَ أَنْ يُقَالَ بَدَأَ ثُلَاثِيٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودون} وقال تعالى: {كيف بدأ الخلق} ثُمَّ قَالَ {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يعيده} فَجَاءَ بِهِ رُبَاعِيًّا فَصِيحًا لِمَا حَسَّنَهُ مِنَ التَّنَاسُبِ بِغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُعِيدُهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْحَادِيَ عَشَرَ: إِمَالَةُ مَا أَصْلُهُ أَلَّا يُمَالَ كإمالة ألف {والضحى والليل إذا سجى} لِيُشَاكِلَ التَّلَفُّظُ بِهِمَا التَّلَفُّظَ بِمَا بَعْدَهُمَا وَالْإِمَالَةُ أَنْ تَنْحُوَ بِالْأَلِفِ نَحْوَ الْيَاءِ وَالْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا هُوَ التَّنَاسُبُ وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ الْإِمَالَةُ لِلْإِمَالَةِ وَقَدْ يُمَالُ لِكَوْنِهَا آخِرَ مُجَاوِرِ مَا أُمِيلَ آخِرُهُ كَأَلِفِ تَلَا فِي قَوْلِهِ تعالى {والقمر إذا تلاها} فَأُمِيلَتْ أَلِفُ تَلَاهَا لِيُشَاكِلَ اللَّفْظُ بِهَا اللَّفْظَ الَّذِي بَعْدَهَا مِمَّا أَلِفُهُ غَيْرُ يَاءٍ نَحْوِ {جلاها} و {غشاها} فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا جَعَلْتَ إِمَالَةَ {تَلَاهَا} لِمُنَاسَبَةِ ما قبلها أعني {ضحاها} قِيلَ لِأَنَّ أَلِفَ {ضُحَاهَا} عَنْ وَاوٍ وَإِنَّمَا أميل لمناسبة ما بعده الثَّانِيَ عَشَرَ: الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الْمُضِيِّ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَفَرِيقًا قَتَلْتُمْ كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فَقَالَ {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وتأسرون فريقا} وذلك لأجل أنها هنا رأس آية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 تفريعات ختم مقاطع الفواصل بحروف المد واللين ثُمَّ هُنَا تَفْرِيعَاتٌ الْأَوَّلُ قَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ خَتْمُ كَلِمَةِ الْمَقْطَعِ مِنَ الْفَاصِلَةِ بِحُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ وَإِلْحَاقِ النُّونِ وَحِكْمَتُهُ وُجُودُ التمكن من التطريب بذلكقال سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا إِذَا تَرَنَّمُوا فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ الْأَلِفَ وَالْوَاوَ وَالْيَاءَ مَا يُنَوَّنُ وَمَا لَا يُنَوَّنُ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَدَّ الصَّوْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَإِذَا أَنْشَدُوا وَلَمْ يَتَرَنَّمُوا فَأَهْلُ الْحِجَازِ يَدَعُونَ القوافي على حالها في الترنم وناس مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُبَدِّلُونَ مَكَانَ الْمَدَّةِ النُّونَ انْتَهَى وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَعْذَبِ مَقْطَعٍ وَأَسْهَلِ موقف مبنى الفواصل على الوقف الثَّانِي: إِنَّ مَبْنَى الْفَوَاصِلِ عَلَى الْوَقْفِ وَلِهَذَا شَاعَ مُقَابَلَةُ الْمَرْفُوعِ بِالْمَجْرُورِ وَبِالْعَكْسِ وَكَذَا الْمَفْتُوحُ وَالْمَنْصُوبُ غَيْرُ الْمَنَوَّنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا خلقناهم من طين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 لازب} مع تقدم قوله {عذاب واصب} و {شهاب ثاقب} وكذا {بماء منهمر} و {قد قدر} وَكَذَا {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} مع {وينشئ السحاب الثقال} وَعِبَارَةُ السَّكَّاكِيِّ قَدْ تُعْطِي اشْتِرَاطَ كَوْنِ السَّجْعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِعْرَابِ لِمَا قَبْلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الْخَشَّابِ مُعْتَرِضًا عَلَى قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ التَّاسِعَةِ والعشرين: يا صارفا عني المودة ... وَالزَّمَانُ لَهُ صُرُوفْ وَمُعَنِّفِي فِي فَضْحِ مَنْ ... جاوزت تعنيف العسوف لا تلحني فيما أتيت ... فَإِنَّنِي بِهِمُ عَرُوفْ وَلَقَدْ نَزَلْتُ بِهِمْ فَلَمْ ... أرهم يراعون الضيوف وبلوتهم فوجدتهم ... لما سبكتهمو زيوف ألا ترى أنها إِذَا أَطْلَقْتَ ظَهَرَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ مَرْفُوعَيْنِ وَالرَّابِعُ والخامس منصوبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَالثَّانِي مَجْرُورًا وَكَذَا بَاقِي الْقَصِيدَةِ وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا سَبَقَ وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ الْأَسْجَاعِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةَ الْأَعْجَازِ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْقَرَائِنِ وَالْمُزَاوَجَةُ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالْوَقْفِ وَلَوْ وُصِلَتْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِجْرَاءِ كُلِّ الْقَرَائِنِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الْإِعْرَابِ فَعَطَّلْتَ عَمَلَ السَّاجِعِ وَفَوَّتَّ غَرَضَهُمْ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ يُخْرِجُونَ الْكَلِمَ عَنْ أَوْضَاعِهَا لِغَرَضِ الِازْدِوَاجِ فَيَقُولُونَ آتِيكَ بِالْغَدَايَا وَالْعَشَايَا مَعَ أَنَّ فِيهِ ارْتِكَابًا لِمَا يُخَالِفُ اللُّغَةَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المحافظة على الفواصل لحسن النظم والتئامه الثَّالِثُ: ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا تَحْسُنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَوَاصِلِ لِمُجَرَّدِهَا إِلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمَعَانِي عَلَى سَدَادِهَا عَلَى النَّهْجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حُسْنُ النَّظْمِ وَالْتِئَامِهِ كَمَا لَا يحسن تخير الألفاظ المونقة في السمع السلسلة عَلَى اللِّسَانِ إِلَّا مَعَ مَجِيئِهَا مُنْقَادَةً لِلْمَعَانِي الصحيحة المنتظمة فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مؤاده عَلَى بَالٍ فَلَيْسَ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي فَتِيلٍ أو نقير ومع ذلك يكون قوله {وبالآخرة هم يوقنون} وَقَوْلُهُ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَرْكُ رِعَايَةِ التَّنَاسُبِ فِي الْعَطْفِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ إِيثَارًا لِلْفَاصِلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَفْظِيٌّ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَإِنَّمَا عُدِلَ إِلَى هَذَا لقصد الاختصاص تقسيم الفواصل باعتبار المتماثل والمتقارب في الحروف الرَّابِعُ: أَنَّ الْفَوَاصِلَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَقَاطِعِ وَهَذَا يَكُونُ فِي السَّجْعِ وَإِلَى مَا تَقَارَبَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَقَاطِعِ وَلَمْ تَتَمَاثَلْ وَهَذَا لَا يَكُونُ سَجْعًا وَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي الْمُتَمَاثِلَ والمتقارب من أن يَأْتِي طَوْعًا سَهْلًا تَابِعًا لِلْمَعَانِي أَوْ مُتَكَلَّفًا يَتْبَعُهُ الْمَعْنَى فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْمُودُ الدَّالُّ عَلَى الثَّقَافَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ وَالثَّانِي هُوَ الْمَذْمُومُ فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لِعُلُوِّهِ فِي الْفَصَاحَةِ وَقَدْ وَرَدَتْ فَوَاصِلُهُ متماثلة ومتقاربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 مِثَالُ الْمُتَمَاثِلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خلق الأرض والسماوات العلى الرحمن على العرش استوى} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ والليل إذا يسر} إِلَى آخِرِهِ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مَنْ {يَسْرِ} طَلَبًا لِلْمُوَافَقَةِ فِي الْفَوَاصِلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشق الْقَمَرِ} وَجَمِيعُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الِازْدِوَاجِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {فلا أقسم بالخنس الجوار الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طبق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فلا تنهر} وقوله تعالى {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وإن لك لأجرا غير ممنون} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الغي ثم لا يقصرون} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ من راق} الآية وقوله تعالى {لنخرجنك يا شعيب وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنا} وَمِثَالُ الْمُتَقَارِبِ فِي الْحُرُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى {الرَّحْمَنِ الرحيم مالك يوم الدين} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الكافرون هذا شيء عجيب} وَهَذَا لَا يُسَمَّى سَجْعًا قَطْعًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِإِطْلَاقِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ السَّجْعَ مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فَوَاصِلَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَلْ تَنْحَصِرُ فِي الْمُتَمَاثِلَةِ وَالْمُتَقَارِبَةِ وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدِّ الْفَاتِحَةِ سَبْعِ آيَاتٍ مَعَ الْبَسْمَلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ الْمُثْبِتَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ قال: {صراط الذين} إلخ السورة آية وَاحِدَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا أَسْقَطَ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ قَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آيَةٌ وَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} آيَةٌ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى لِأَنَّ فَاصِلَةَ قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لَا تُشَابِهَ فَاصِلَةَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَرِعَايَةُ التَّشَابُهِ فِي الْفَوَاصِلِ لَازِمٌ وَقَوْلُهُ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لَيْسَ مِنَ الْقِسْمَيْنِ فَامْتَنَعَ جَعْلُهُ مِنَ الْمَقَاطِعِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيات لكن الخلاف في كيفية العدد [تقسيم الفواصل باعتبار المتوازي والمتوازن والمطرف] الخامس: قسم البديعيون السجع والفواصل أَيْضًا إِلَى مُتَوَازٍ وَمُطَرَّفٍ [وَمُتَوَازِنٍ] وَأَشْرَفُهَا الْمُتَوَازِي وَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ الْكَلِمَتَانِ فِي الْوَزْنِ وَحُرُوفِ السَّجْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ موضوعة} وَقَوْلِهِ: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَالْمُطَرَّفُ أَنْ يَتَّفِقَا فِي حُرُوفِ السَّجْعِ لَا فِي الْوَزْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا لَكُمْ لَا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا} وَالْمُتَوَازِنُ أَنْ يُرَاعَى فِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ الْوَزْنُ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المستقيم} فلفظ الكتاب والصراط متوازنان ولفظ المستبين والمستقيم مُتَوَازِنَانِ وَقَوْلِهِ {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وتكون الجبال كالعهن} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى} وَقَوْلِهِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} إِلَى آخِرِهَا وَقَوْلِهِ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى. . . . .} إلى آخرها وقد تكرر في سورة حمعسق فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ من بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ما استجيب له} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ السَّبْعِ فَجَمَعَ فِي فَوَاصِلِهَا بين شديد وقريب وبعيد وعزيز ونصيب وأليم وكبير عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَفِي الْمُفَصَّلِ خَاصَّةً فِي قِصَارِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ بَدَلَهُ التَّرْصِيعَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْفِقْرَتَيْنِ مُؤَلَّفًا مِنْ كَلِمَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالثَّانِي مُؤَلَّفًا مِنْ مِثْلِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الوزن والتقفية وتقابل الْقَرَائِنِ قِيلَ وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْقِسْمُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَزَعَمَ بَعْضِهِمْ أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} وليس كذلك لورود لفظة إن ولفي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّطْرَيْنِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ التَّرْصِيعِ إِذْ شَرَطُهُ اخْتِلَافُ الْكَلِمَاتِ فِي الشَّطْرَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ: بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ سُورَةُ الْوَاقِعَةِ مِنْ نوع الترصيع وتتبع آخر آيها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا مُوَازَنَةً قَالُوا وَأَحْسَنُ السَّجْعِ مَا تَسَاوَتْ قَرَائِنُهُ لِيَكُونَ شَبِيهًا بِالشِّعْرِ فَإِنَّ أَبْيَاتَهُ مُتَسَاوِيَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي سِدْرٍ مخضود وطلح منضود وظل ممدود} وَعِلَّتُهُ أَنَّ السَّمْعَ أَلِفَ الِانْتِهَاءَ إِلَى غَايَةٍ في الخفة بالأولى فإذا زيد عليها ثَقُلَ عَنْهُ الزَّائِدُ لِأَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ وُصُولِهَا إِلَى مِقْدَارِ الْأَوَّلِ كَمَنْ تَوَقَّعَ الظَّفَرَ بِمَقْصُودِهِ ثم ما طَالَتْ قَرِينَتُهُ الثَّانِيَةُ كَقَوْلِهِ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ما ضل صاحبكم وما غوى} أَوِ الثَّالِثَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} وَهُوَ إِمَّا قَصِيرٌ كَقَوْلِهِ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عصفا} أَوْ طَوِيلٌ كَقَوْلِهِ: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَوْ مُتَوَسِّطٌ كَقَوْلِهِ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} ائتلاف الفواصل مع ما يدل عليه الكلام السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ فِيهَا إِيقَاعُ الْمُنَاسَبَةِ مَقَاطِعُ الْكَلَامِ وَأَوَاخِرُهُ وَإِيقَاعُ الشَّيْءِ فِيهَا بِمَا يُشَاكِلُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُنَاسِبَةً لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَإِلَّا خَرَجَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَنْ بَعْضٍ. وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ وَمِنْهُ مَا يُسْتَخْرَجُ بِالتَّأَمُّلِ لِلَّبِيبِ. وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: التَّمْكِينِ وَالتَّوْشِيحِ وَالْإِيغَالِ وَالتَّصْدِيرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّهُ أَنْ كَانَ تَقَدَّمَ لَفْظُهَا بِعَيْنِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ سُمِّيَ تَصْدِيرًا وَإِنْ كَانَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أَثْنَاءِ الصَّدْرِ سُمِّي تَوْشِيحًا وَإِنْ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا بَعْدَ تَمَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ سُمِّيَ إِيغَالًا وَرُبَّمَا اخْتَلَطَ التَّوْشِيحُ بِالتَّصْدِيرِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَدْرُهُ يَدُلُّ عَلَى عَجُزِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ التَّصْدِيرِ لَفْظِيَّةٌ وَدَلَالَةَ التَّوْشِيحِ مَعْنَوِيَّةٌ. الْأَوَّلُ: التَّمْكِينُ وَهُوَ أَنْ تُمَهِّدَ قَبْلَهَا تَمْهِيدًا تَأْتِي بِهِ الْفَاصِلَةُ مُمْكِنَةً فِي مَكَانِهَا مُسْتَقِرَّةً فِي قَرَارِهَا مُطْمَئِنَّةً فِي مَوْضِعِهَا غَيْرَ نَافِذَةٍ وَلَا قَلِقَةٍ مُتَعَلِّقًا مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ كُلِّهِ تَعَلُّقًا تَامًّا بِحَيْثُ لَوْ طُرِحَتِ اخْتَلَّ الْمَعْنَى وَاضْطَرَبَ الْفَهْمُ وَهَذَا الْبَابُ يُطْلِعُكَ عَلَى سِرٍّ عَظِيمٍ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ القتال وكان الله قويا عزيزا} ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَوِ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} لَأَوْهَمَ ذَلِكَ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ مُوَافَقَةَ الْكُفَّارِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرِّيحَ الَّتِي حَدَثَتْ كَانَتْ سَبَبَ رُجُوعِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا مَا أَرَادُوا وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ لِيُعْلِمَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَزِيدَهُمْ يَقِينًا وَإِيمَانًا عَلَى أَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُمْتَنِعُ وَأَنَّ حِزْبَهُ كَذَلِكَ وَأَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ الَّتِي هَبَّتْ لَيْسَتِ اتِّفَاقًا بَلْ هِيَ مِنْ إِرْسَالِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ كَعَادَتِهِ وَأَنَّهُ يُنَوِّعُ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَزِيدَهُمْ إِيمَانًا وَيَنْصُرَهُمْ مَرَّةً بِالْقِتَالِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَتَارَةً بِالرِّيحِ كَيَوْمِ الْأَحْزَابِ وَتَارَةً بِالرُّعْبِ كَبَنِي النَّضِيرِ وَطَوْرًا يَنْصُرُ عَلَيْهِمْ كَيَوْمِ أُحُدٍ تَعْرِيفًا لَهُمْ أَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تُغْنِي شَيْئًا وَأَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ كَيَوْمِ حُنَيْنٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يمشون في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وأنفسهم أفلا يبصرون} فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الَّتِي الْمَوْعِظَةُ فِيهَا سَمْعِيَّةٌ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ أَوَلَمْ يَرَوْا وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَوْعِظَةِ: {أفلا يسمعون} لأنه تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكِتَابِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ أَوْ أَخْبَارُ القرون وهو كما يُسْمَعُ وَكَيْفَ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الَّتِي مَوْعِظَتِهَا مَرْئِيَّةٌ: {أَوْلَمَ يَرَوْا} وَقَالَ بَعْدَهَا أَفَلَا يُبْصِرُونَ لِأَنَّ سَوْقَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ مرئي. ومنه قوله تعالى: {قالوا يا شعيب أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنك لأنت الحليم الرشيد} فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا تَامًّا لِذِكْرِ الْحُلُمِ وَالرُّشْدِ لِأَنَّ الْحُلُمَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ وَالرُّشْدُ حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ فَكَانَ آخِرُ الْآيَةِ مُنَاسِبًا لِأَوَّلِهَا مُنَاسَبَةً مَعْنَوِيَّةً وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ مُلَاءَمَةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَدَّمَ نَفْيَ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ لَهُ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} خِطَابًا لِلسَّامِعِ بِمَا يَفْهَمُ إِذِ الْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ لَطِيفٍ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أَلَا تَرَى أَنَّ حَاسَّةَ الْبَصَرِ إِنَّمَا تُدْرِكُ اللَّوْنَ مِنْ كُلِّ مُتَلَوِّنٍ وَالْكَوْنَ مِنْ كُلِّ مُتَكَوِّنٍ فَإِدْرَاكُهَا إنما هو للمركبات دون المفردات ولذلك لَمَّا قَالَ {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ الْخَبِيرُ مُخَصِّصًا لِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا كَانَ خَبِيرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ لِلشَّيْءِ قَدْ يدركه ليخبره ولما كان الأمر كذلك أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أَنَّهُ يُدْرِكُ كُلَّ شَيْءٍ مَعَ الْخِبْرَةِ بِهِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِبْصَارَ بِإِدْرَاكِهِ لِيَزِيدَ فِي الْكَلَامِ ضَرْبًا مِنَ الْمَحَاسِنِ يُسَمَّى التَّعَطُّفَ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ لَا تُبْصِرُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُبْصِرُ الْأَبْصَارَ لَمْ تَكُنْ لَفَظَتَا {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} مُنَاسِبَتَيْنِ لِمَا قَبْلَهُمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لهو الغني الحميد} إلى قوله {لرؤوف رحيم} إِنَّمَا فَصَّلَ الْأُولَى بِـ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الرَّحْمَةِ لِخَلْقِهِ بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّهُ خَبِيرٌ بِنَفْعِهِمْ وَإِنَّمَا فَصَّلَ الثَّانِيَةَ بِـ غَنِيٌّ حَمِيدٌ لِأَنَّهُ قَالَ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا لِحَاجَةٍ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمَا جَوَادٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ غَنِيٌّ نَافِعًا غِنَاهُ إِلَّا إِذَا جَادَ بِهِ وَإِذَا جَادَ وَأَنْعَمَ حَمِدَهُ الْمُنْعِمُ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ فذكر الحمد عَلَى أَنَّهُ الْغَنِيُّ النَّافِعُ بِغِنَاه خَلْقَهُ وَإِنَّمَا فصل الثالثة بـ رؤوف رَحِيمٌ لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَّدَ لِلنَّاسِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَسْخِيرِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ وَإِجْرَاءِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ لَهُمْ وَتَسْيِيرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ وَجَعْلِهِ السَّمَاءَ فَوْقَهُمْ وَإِمْسَاكِهِ إِيَّاهَا عَنِ الْوُقُوعِ حَسُنَ خِتَامُهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَوَاصِلَ مَعَ اخْتِلَافِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} الْآيَاتِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ الله لهو الغني الحميد} فَقَالَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُ لَيْسَ لِحَاجَةٍ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ جَوَادٌ بِهِ وَإِذَا جَادَ بِهِ حَمِدَهُ الْمُنْعِمُ عليه إذ حميد كثير المحامد الْمُوجِبَةِ تَنْزِيهَهُ عَنِ الْحَاجَةِ وَالْبُخْلِ وَسَائِرِ النَّقَائِضِ فَيَكُونُ غَنِيًّا مُفَسَّرًا بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ لِتَقْدِيرِ غَنِيٌّ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تسمعون} لَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْجَاعِلُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ جَعْلَ اللَّيْلِ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ صَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ سَرْمَدٌ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَظَرْفُ اللَّيْلِ ظَرْفٌ مُظْلِمٌ لَا ينفذ فيه البصر لاسيما وَقَدْ أَضَافَ الْإِتْيَانَ بِالضِّيَاءِ الَّذِي تَنْفُذُ فِيهِ الْأَبْصَارُ إِلَى غَيْرِهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَصَارَ النَّهَارُ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ إِذْ نُسِبَ وُجُودُهُ إِلَى غَيْرِ مُوجِدٍ وَاللَّيْلُ كَأَنَّهُ لَا موجود سواه إذ جعل سَرْمَدًا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَقُولَ {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاعِ وَالظَّرْفِ اللَّيْلِيِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلِاسْتِمَاعِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِبْصَارِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ جَعْلَ النَّهَارِ سَرْمَدًا إِلَيْهِ صَارَ النَّهَارُ كَأَنَّهُ سَرْمَدٌ وَهُوَ ظَرْفٌ مُضِيءٌ تُنَوِّرُ فِيهِ الْأَبْصَارُ وَأَضَافَ الْإِتْيَانُ بِاللَّيْلِ إِلَى غيره وغيره ليس بفاعل على الحقيقة فصار اللَّيْلُ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ إِذْ نُسِبَ وُجُودُهُ إِلَى غَيْرِ مُوجِدٍ وَالنَّهَارُ كَأَنَّهُ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ إِذْ جَعَلَ وَجُودَهُ سَرْمَدًا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَقُولَ {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} إِذِ الظَّرْفُ مُضِيءٌ صَالِحٌ لِلْإِبْصَارِ وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يعقلون} فَإِنَّ الْبَلَاغَةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةُ الْآيَةِ الْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْعَالَمَ بِجُمْلَتِهِ حَيْثُ قَالَ {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَمَعْرِفَةُ الصَّانِعِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَرِعَ لَهُ قَادِرٌ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُودِ صَانِعٍ مُخْتَارٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى صِفَاتِهِ مُرَتَّبَةً عَلَى دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِهِ فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنَ التَّصْدِيقِ بِذَاتِهِ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةً عَلَى صِفَاتِهِ لِتَقَدُّمِ الْمَوْصُوفِ وُجُودًا وَاعْتِقَادًا عَلَى الصِّفَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الآية الثانية {لقوم يعقلون} فإن سر الإنسان وتدبر خلقة الحيوان أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ وَتَفَكُّرُهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ يَقِينًا فِي مُعْتَقَدِهِ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ جُزْئِيَّاتِ الْعَالَمِ مِنِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِنْزَالِ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ يَقْتَضِي رَجَاحَةَ الْعَقْلِ وَرَصَانَتِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ مَنْ صَنَعَ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ هُوَ الَّذِي صَنَعَ الْعَالَمَ الْكُلِّيَّ الَّتِي هِيَ أَجْرَامُهُ وَعَوَارِضُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا صَنَعَ بَعْضًا فَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ لِلْعَالَمِ الْكُلِّيِّ صَانِعًا مُخْتَارًا فَلِذَلِكَ اقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَإِنِ احْتِيجَ إِلَى الْعَقْلِ فِي الْجَمِيعِ إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهُ هَاهُنَا أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِذْ بَعْضُ مَنْ يَعْتَقِدُ صَانِعَ الْعَالِمِ رُبَّمَا قَالَ إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْآثَارِ يَصْنَعُ بَعْضًا فَلَا بُدَّ إِذًا مِنَ التَّدَبُّرِ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ وَرَاجِحِ الْعَقْلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ: {يا بني إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لطيف خبير} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ قَوِيَّةٌ لِأَنَّ مَنْ دَلَّ عَدُوَّهُ على عورة نفسه وأعطاه سلاحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 لِيَقْتُلَهُ بِهِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ مَقْلُوبَ العقل فلهذا ختمها بقوله {أفلا تعقلون} وَهَذِهِ الْفَاصِلَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي سِيَاقِ إِنْكَارِ فِعْلٍ غَيْرِ مُنَاسِبٍ فِي الْعَقْلِ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تتلون الكتاب أفلا تعقلون} ، لِأَنَّ فَاعِلَ غَيْرِ الْمُنَاسِبِ لَيْسَ بِعَاقِلٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بيننا بالحق وهو الفتاح العليم} خَتَمَ بِصِفَةِ الْعِلْمِ إِشَارَةً إِلَى الْإِحَاطَةِ بِأَحْوَالِنَا وَأَحْوَالِكُمْ وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَنَسْأَلُهُ الْقَضَاءَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا وَمِنْكُمْ فَصْلٌ وَقَدْ تَجْتَمِعُ فَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيُخَالِفُ بَيْنَهَا وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا فِي أَوَائِلِ النَّحْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَدَأَ فِيهَا بِذِكْرِ الْأَفْلَاكِ فَقَالَ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بالحق} ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: {مِنْ نُطْفَةٍ} . وأشار إلى عجائب الحيوان فقال: {والأنعام} ثُمَّ عَجَائِبِ النَّبَاتِ فَقَالَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ في ذلك لآية لقوم يتفكرون} فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ التَّفَكُّرَ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِحُدُوثِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ النَّبَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَفِيهِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ طَبَائِعَ الْفُصُولِ وَحَرَكَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؟ وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ لَا جَرَمَ كَانَ مَجَالُ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بَاقِيًا إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَغَيُّرَاتِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ مَرْبُوطَةٌ بِأَحْوَالِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ فَتِلْكَ الْحَرَكَاتُ حَيْثُ حَصَلَتْ فَإِنْ كَانَ حُصُولُهَا بِسَبَبِ أَفْلَاكٍ أُخْرَى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ فَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون} ، فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَقْلَ وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا فَاعْلَمْ أَنَّ التَّسَلْسُلَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ انْتِهَاءُ الْحَرَكَاتِ إِلَى حَرَكَةٍ يَكُونُ مُوجِدُهَا غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ وَهُوَ الْإِلَهُ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ وَالثَّانِي: أَنَّ نِسْبَةَ الْكَوَاكِبِ وَالطَّبَائِعِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ إِنَّا نَرَى الْوَرَقَةَ الْوَاحِدَةَ مِنَ الْوَرْدِ أَحَدَ وَجْهَيْهَا فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ وَالْآخَرُ فِي غَايَةِ السَّوَادِ فَلَوْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي الْآثَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ قَادِرٌ مُخْتَارٌ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَرْسَخُ فِي عَقْلِكَ أَنَّ الْمُوجَبَ بِالذَّاتِ وَالطَّبْعِ لَا يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى حُصُولِ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ هُوَ الطَّبَائِعَ بَلِ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ فَلِهَذَا جَعَلَ مَقْطَعَ الْآيَةِ التَّذَكُّرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تَنْبِيهٌ مِنْ بَدِيعِ هَذَا النَّوْعِ اخْتِلَافُ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَالْمُحَدِّثُ عَنْهُ وَاحِدٌ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {وَإِنْ تعدوا نعمت اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا حَصَلَتِ النِّعَمُ الْكَثِيرَةُ فَأَنْتَ آخِذُهَا وَأَنَا مُعْطِيهَا فَحَصَلَ لَكَ عِنْدَ أَخْذِهَا وَصْفَانِ كَوْنُكَ ظَلُومًا وَكَوْنُكَ كَفَّارًا وَلِي عِنْدَ إِعْطَائِهَا وَصْفَانِ وَهَمًّا أَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أُقَابِلُ ظُلْمَكَ بِغُفْرَانِي وَكُفْرَكَ بِرَحْمَتِي فَلَا أُقَابِلُ تَقْصِيرَكَ إِلَّا بِالتَّوْفِيرِ وَلَا أُجَازِي جَفَاءَكَ إِلَّا بِالْوَفَاءِ انْتَهَى وَهُوَ حَسَنٌ لَكِنْ بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ وَهُوَ مَا الْحِكْمَةُ فِي تخصيص آية النحل بوصف المنعم وَآيَةِ إِبْرَاهِيمَ بِوَصْفِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي وَصْفِ الْإِنْسَانِ وَمَا جُبِلَ عَلَيْهِ فَنَاسَبَ ذِكْرُ ذَلِكَ عُقَيْبَ أَوْصَافِهِ وَأَمَّا آيَةُ النَّحْلِ فَسِيقَتْ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتِ أُلُوهِيَّتِهِ وَتَحْقِيقِ صِفَاتِهِ فَنَاسَبَ ذِكْرَ وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ التَّرَاكِيبَ مَا أَرْقَاهَا فِي دَرَجَةِ الْبَلَاغَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} وَفِي فُصِّلَتْ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَحِكْمَةُ فَاصِلَةِ الْأُولَى أَنَّ قَبْلَهَا: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يكسبون} فَنَاسَبَ الْخِتَامُ بِفَاصِلَةِ الْبَعْثِ لِأَنَّ قَبْلَهُ وَصَفَهُمْ بِإِنْكَارِهِ وَأَمَّا الْأُخْرَى فَالْخِتَامُ بِهَا مُنَاسِبٌ أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَنْ عَمِلَ شَيْئًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يشاء} خَتَمَ الْآيَةَ مَرَّةً بِقَوْلِهِ: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عظيما} ومرة بقوله: {ضلالا بعيدا} لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَزَلَ فِي الْيَهُودِ وَهُمُ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِهِ وَالثَّانِي نَزَلَ فِي الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كتاب وكان ضلاهم أَشَدَّ وَقَوْلُهُ فِي الْمَائِدَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أنزل الله} ذكرها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَخَتَمَ الْأُولَى بِالْكَافِرِينَ وَالثَّانِيَةَ بِالظَّالِمِينَ وَالثَّالِثَةَ بِالْفَاسِقِينَ فَقِيلَ لِأَنَّ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْيَهُودِ وَالثَّالِثَةَ نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ النَّصَارَى وَقِيلَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِنْكَارًا لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْحَقِّ مَعَ اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَحَكَمَ بِضِدِّهِ فَهُوَ ظَالِمٌ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْحَقِّ جَهْلًا وَحَكَمَ بِضِدِّهِ فَهُوَ فَاسِقٌ وَقِيلَ الْكَافِرُ وَالظَّالِمُ وَالْفَاسِقُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُفْرُ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ وَاجْتِنَابِ صُورَةِ التَّكْرَارِ وَقِيلَ غَيْرُ ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 تَنْبِيهٌ عَكَسَ هَذَا اتِّفَاقُ الْفَاصِلَتَيْنِ وَالْمُحَدِّث عَنْهُ مختلف كقوله تعالى في سورة النور {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إِلَى قَوْلِهِ {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ والله عليم حكيم} ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْأُولَى عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ حَكِيمٌ فِي بَيَانِ مُرَادِهِ وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ عَلِيمٌ بِمَصَالِحَ الْأَنَامِ حَكِيمٌ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَوَابِ عَنْ حِكْمَةِ التَّكْرَارِ تَنْبِيهٌ حَقُّ الْفَاصِلَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَمْكِينُ الْمَعْنَى الْمَسُوقِ إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّ بَعْثَ الرَّسُولِ تَوْلِيَةٌ وَالتَّوْلِيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ عَزِيزٍ غَالِبٍ عَلَى مَا يُرِيدُ وَتَعْلِيمُ الرَّسُولِ الْحِكْمَةَ لِقَوْمِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى حِكْمَةِ مُرْسِلِهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْمُرْسِلِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَكِيمًا فَلَا جَرَمَ كَانَ اقْتِرَانُهُمَا مناسبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إن الله غفور رحيم} وجه المناسبة في الحكم مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِنَّ مَنْ حَضَرَ الْمُوصِيَ فَرَأَى مِنْهُ جَنَفًا عَلَى الْوَرَثَةِ فِي وَصِيَّتِهِ مَعَ فَقْرِهِمْ فَوَعَظَهُ فِي ذَلِكَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى رَضُوا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهُوَ غَفُورٌ لِلْمُوصِي إِذَا ارْتَدَعَ بِقَوْلِ مَنْ وَعَظَهُ فَرَجَعَ عَمَّا هَمَّ بِهِ وَغُفْرَانُهُ لِهَذَا بِرَحْمَتِهِ لَا خَفَاءَ بِهِ وَالْإِثْمُ الْمَرْفُوعُ عَنِ الْقَائِلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِثْمَ التَّبْدِيلِ السَّابِقِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ بدله بعد ما سمعه} يَعْنِي مِنَ الْمُوصِي أَيْ لَا يَكُونُ هَذَا الْمُبَدِّلُ دَاخِلًا تَحْتَ وَعِيدِ مَنْ بَدَّلَ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّ تَبْدِيلَ هَذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً فَلَا يَكُونُ كَغَيْرِهِ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى ذَلِكَ مَوَاضِعُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحكيم} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يُوهِمُ أَنَّ الْفَاصِلَةَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَكَذَا نُقِلَتْ عَنْ مُصْحَفِ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ شنبوذ ولكن إذا أمعن النَّظَرُ عُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ التِّلَاوَةُ لِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ العذاب إلا من ليس فوقه أحد يَرُدَّ عَلَيْهِ حُكْمَهُ فَهُوَ الْعَزِيزُ لِأَنَّ الْعَزِيزَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ هُوَ الْغَالِبُ مِنْ قَوْلِهِمْ عَزَّهُ يَعِزُّهُ عِزًّا إِذَا غَلَبَهُ وَوَجَبَ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَكِيمِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَكِيمَ مَنْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ فَاللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُخْفِي وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ فَيَتَوَهَّمُ الضُّعَفَاءُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْحِكْمَةِ فَكَانَ فِي الْوَصْفِ بِالْحَكِيمِ احْتِرَاسٌ حَسَنٌ أَيْ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ فَلَا مُعْتَرَضَ عَلَيْكَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ وَالْحِكْمَةُ فِيمَا فعلته قيل: وَقِيلَ لَا يَجُوزُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَطَعَ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . وقيل لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 مَقَامٌ تَبَرٍّ فَلَمْ يَذْكُرِ الصِّفَةَ الْمُقْتَضِيَةَ اسْتِمْطَارَ الْعَفْوِ لَهُمْ وَذَكَرَ صِفَةَ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ وَقَوْلُهُ: {الْحَكِيمُ} الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ إِنْ عَفَا عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْغُفْرَانِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى تَسْلِيمِ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ هُوَ أَمَلَكُ لَهُمْ وَلَوْ قِيلَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأُوهِمَ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ وَلَا يَسُوغُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَهُمْ عِبَادُهُ عَذَّبَهُمْ أَوْ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ فَلِأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ تُعَذِّبُ مَنِ الْعَادَةُ أَنْ تَحْكُمَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْعُبُودِيَّةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: يَا رَبِّ إِنْ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيتُ ... فَأَنْتَ لَا تَنْسَى وَلَا تَمُوتُ وَاللَّهُ لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى وَلَا يَمُوتُ أَخْطَأَ رُؤْبَةُ أَوْ أَصَابَ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنْ أَخْطَأْتُ تَجَاوَزْتَ لِضَعْفِي وَقُوَّتِكَ وَنَقْصِي وَكَمَالِكَ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ الله عزيز حكيم} والجواب ما ذكرناه ومثله قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنك أنت العزيز الحكيم} وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ غَافِرٍ فِي قَوْلِ السَّادَةِ الْمَلَائِكَةِ: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إنك أنت العزيز الحكيم} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حكيم} فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَوَّلِ النَّظَرِ أَنَّ الْفَاصِلَةَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّوْبَةِ وَخُصُوصًا مِنْ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَلَكِنَّ هَاهُنَا مَعْنًى دَقِيقٌ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ: {حَكِيمٌ} وَهُوَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى فَائِدَةِ مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ وَهِيَ السَّتْرُ عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْعَظِيمَةِ وَذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْحِكَمِ فَلِهَذَا كَانَ حَكِيمٌ بَلِيغًا فِي هَذَا الْمَقَامِ دُونَ رَحِيمٌ وَمِنْ خَفِيِّ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم} وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ والله على كل شيء قدير} فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى الذِّهْنِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْخَتْمُ بِالْقُدْرَةِ وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الْخَتْمُ بالعلم لكن إذا أمعن النَّظَرُ عُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ التِّلَاوَةُ فِي الْآيَتَيْنِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْخِطَابِ ذُو عُقُوبَةٍ شَدِيدَةٍ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ نَفْيًا لِلِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ وَمَعْنَاهُ لَا تَغْتَرُّوا بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَذَابَهُ عَنْكُمْ وَقَرِيبٌ مِنْهُ: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن لا يملكون منه خطابا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإن الله عزيز حكيم} فَمُنَاسَبَةُ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ أَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشْرَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ زُهَاءَ أَلْفٍ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وقال المنافقون: {غر هؤلاء دينهم} حَتَّى أَقْدَمُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِمْ عَدَدًا أَوْ أَكْثَرِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَتَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ الله عزيز حكيم} فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْخِتَامِ بِالْحِلْمِ وَالْمَغْفِرَةِ عُقَيْبَ تَسَابِيحِ الْأَشْيَاءِ وَتَنْزِيهِهَا أَجَابَ صَاحِبُ الْفُنُونِ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنْ فَسَّرْنَا التَّسْبِيحَ عَلَى مَا دَرَجَ فِي الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعِبَرِ وَأَنَّهَا مُسَبِّحَاتٌ بِمَعْنَى مُوَدِّعَاتٍ مِنْ دَلَائِلِ الْعِبَرِ وَدَقَائِقِ الْإِنْعَامَاتِ وَالْحِكَمِ مَا يُوجِبُ تَسْبِيحَ الْمُعْتَبِرِ الْمُتَأَمِّلِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ مِنْ كَبِيرِ إِغْفَالِكُمُ النَّظَرُ فِي دَلَائِلِ الْعِبَرِ مَعَ امْتِلَاءِ الأشياء بذلك وموضع العتب قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عليها وهم عنها معرضون} كَذَلِكَ مَوْضِعُ الْمَعْتَبَةِ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تسبيحهم} وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفُوا بِالتَّأَمُّلِ مَا يُوجِبُ الْقُرْبَةَ لِلَّهِ مِمَّا أَوْدَعَ مَخْلُوقَاتِهِ بِمَا يُوجِبُ تَنْزِيهَهُ فَهَذَا مَوْضِعُ حِلْمٍ وَغُفْرَانٍ عَمَّا جَرَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالْإِهْمَالِ الثَّانِي: إِنْ جَعَلْنَا التَّسْبِيحَ حَقِيقَةً فِي الْحَيَوَانَاتِ بِلُغَاتِهَا فَمَعْنَاهُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تُسَبِّحُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَتُحَمِّدُهُ وَلَا عِصْيَانَ فِي حَقِّهَا وَأَنْتُمْ تَعْصُونَ فَالْحِلْمُ وَالْغُفْرَانُ لِلتَّقْدِيرِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الْعِصْيَانُ وَفِي الْحَدِيثِ: " لَوْلَا بَهَائِمُ رُتَّعٌ وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا" الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي أَوَّلِهَا: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شيء إلا يسبح بحمده} ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ لِتَسَابِيحِ الْمُسَبِّحِينَ حَلِيمًا عَنْ تَفْرِيطِهِمْ غَفُورًا لِذُنُوبِهِمْ أَلَا تَرَاهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الغفور الرحيم} وَكَأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ إِمَّا الْعَفْوُ عَنْ تَرْكِ الْبَحْثِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفَهْمِ لِمَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعِبَرِ وَأَنْتُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ أَوْ يُرِيدُ بِهَا الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تُسَبِّحُهُ وَمِنْهَا مَا يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ فَيَغْفِرُ عِصْيَانَهُمْ بِتَسَابِيحِهِمْ. تَنْبِيهٌ قَدْ تَكُونُ الْفَاصِلَةُ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْغَضِّ فِي سُورَةِ النُّورِ: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وَقَوْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِطَلَبِ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ: {لَعَلَّهُمْ يرشدون} وَقِيلَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَإِنَّمَا يَحْتَاجُونَ لِلْإِرْشَادِ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ ذُكِرَتْ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ وَتَعْظِيمِ رَمَضَانَ وَتَعْلِيمِهِمُ الدُّعَاءَ فِيهِ وَأَنَّ أرحى أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الثَّانِي: التَّصْدِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} وَقَوْلِهِ: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وأكبر تفضيلا} وَقَوْلِهِ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تستعجلون} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يتوب عليه} وَقَوْلِهِ: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أنفسهم يظلمون} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بينهم فيما فيه يختلفون} وَقَوْلِهِ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا ساء ما يزرون} فجعل لفاصلة: {يَزْرُونَ} لِجِنَاسِ: {أَوْزَارِهِمْ} وَإِنَّمَا قَالَ: {عَلَى ظُهُورِهِمْ} وَلَمْ يَقُلْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لِأَنَّ الظَّهْرَ أَقْوَى لِلْحَمْلِ فَأَشَارَ إِلَى ثِقَلِ الْأَوْزَارِ وَقَوْلِهِ: {فَقُلْتُ استغفروا ربكم إنه كان غفارا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَقَوْلِهِ: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} وَقَوْلِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شهيدا} وَقَوْلِهِ: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المطهرين} الثالث: التوشيح ويسمى بِهِ لِكَوْنِ نَفْسِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهِ نَزَلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْوِشَاحِ وَنَزَلَ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَآخِرَهُ مَنْزِلَةَ الْعَاتِقِ وَالْكَشْحِ اللَّذَيْنِ يَجُولُ عَلَيْهِمَا الْوِشَاحُ وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ إِنَّ الْفَاصِلَةَ تُعْلَمُ قَبْلَ ذِكْرِهَا. وَسَمَّاهُ ابْنُ وَكِيعٍ الْمَطْمَعَ لِأَنَّ صَدْرَهُ مَطْمَعٌ فِي عَجْزِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وآل عمران على العالمين} فَإِنَّ مَعْنَى اصْطِفَاءِ الْمَذْكُورِينَ يُعْلَمُ مِنْهُ الْفَاصِلَةُ إِذِ الْمَذْكُورُونَ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْعَالَمِينَ وَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هم مظلمون} فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ حَافِظًا لِهَذِهِ السُّورَةِ مُتَيَقِّظًا إِلَى أَنَّ مَقَاطِعَ فَوَاصِلِهَا النُّونُ الْمُرْدَفَةُ وَسَمِعَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} عَلِمَ أَنَّ الْفَاصِلَةَ مُظْلِمُونَ فَإِنَّ مَنِ انْسَلَخَ النَّهَارُ عَنْ لَيْلِهِ أَظْلَمَ مَا دَامَتْ تِلْكَ الْحَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَقَوْلِهِ {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يعمل مثقال ذرة شرا يره} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يَدُلُّ عَلَى التَّقْسِيمِ وقوله: {أسروا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخبير} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إن الله على كل شيء قدير} الرَّابِعُ: الْإِيغَالُ وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ تجاوز الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ آخِذٌ فِيهِ وَبَلَغَ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْحَدِّ يُقَالُ أَوْغَلَ فِي الْأَرْضِ الْفُلَانِيَّةِ إِذَا بَلَغَ مُنْتَهَاهَا فَهَكَذَا الْمُتَكَلِّمُ إِذَا تَمَّ مَعْنَاهُ ثُمَّ تَعَدَّاهُ بِزِيَادَةٍ فِيهِ فَقَدْ أَوْغَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحسن من الله حكما لقوم يوقنون فَإِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى فَاصِلَةٍ تُنَاسِبُ الْقَرِينَةَ الْأَوْلَى فَلَمَّا أَتَى بِهَا أَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذا ولوا مدبرين} فَإِنَّ الْمَعْنَى قَدْ تَمَّ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعْلَمَ تَمَامُ الْكَلَامِ بِالْفَاصِلَةِ فَقَالَ: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى: {مُدْبِرِينَ} وَقَدْ أَغْنَى عَنْهَا: {وَلَّوْا} قُلْتُ لَا يُغْنِي عَنْهَا: {وَلَّوْا} فَإِنَّ التَّوَلِّيَ قَدْ يَكُونُ بِجَانِبٍ دُونِ جَانِبٍ بدليل قوله: {أعرض ونأى بجانبه} وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الْجَانِبِ هُنَا مَجَازًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ أَرَادَ تَتْمِيمَ الْمَعْنَى بِذِكْرِ تَوَلِّيهِمْ فِي حَالِ الْخِطَابِ لِيَنْفِيَ عَنْهُمُ الْفَهْمَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنَ الْإِشَارَةِ فَإِنَّ الْأَصَمَّ يَفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ مَا يَفْهَمُ السَّمِيعُ بِالْعِبَارَةِ ثُمَّ إِنَّ التَّوَلِّيَ قَدْ يَكُونُ بِجَانِبٍ مَعَ لَحَاظِهِ بِالْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَحْصُلُ لَهُ إِدْرَاكُ بَعْضِ الْإِشَارَةِ فَجَعَلَ الْفَاصِلَةَ: {مُدْبِرِينَ} لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّوَلِّيَ كَانَ بِجَمِيعِ الْجَوَانِبِ بِحَيْثُ صَارَ مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا مُسْتَدْبَرًا فَاحْتَجَبَ الْمُخَاطِبُ عَنِ الْمُخَاطَبِ، أَوْ صَارَ مِنْ وَرَائِهِ فَخَفِيَتْ عَنْ عَيْنِهِ الْإِشَارَةُ كَمَا صُمَّ أُذُنَاهُ عَنِ الْعِبَارَةِ فَحَصَلَتِ الْمُبَالَغَةُ مِنْ عَدَمِ الْإِسْمَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ بِنَفْيِ الْإِسْمَاعِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ مِنْ إِيغَالِ الِاحْتِيَاطِ الَّذِي أُدْمِجَتْ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْإِسْمَاعِ وَقَدْ يَأْتِي الِاحْتِيَاطُ فِي غَيْرِ الْمَقَاطِعِ مِنْ مَجْمُوعِ جُمَلٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي ضُرُوبٍ مِنَ الْكَلَامِ شَتَّى يَحْمِلُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ وقوله: {فأتوا بسورة من مثله} وقوله فأتوا بعشر سور مثله كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يَجْحَدُ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ دِرْهَمًا وَلَا دَانَقًا وَلَا حَبَّةً وَلَا كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا وَلَوْ قَالَ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا لَأَغْنَى فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّ التَّفْصِيلَ أَدَلُّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَعَلَى شِدَّةِ الِاسْتِبْعَادِ فِي الْإِنْكَارِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون} فَإِنَّ الْمَعْنَى تَمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بِقَوْلِهِ: {أَجْرًا} ثُمَّ زَادَ الْفَاصِلَةَ لِمُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الآي فأوغل بها كما ترى حتى أتى بها تفيد معنى زائدا عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ فَصْلٌ: فِي ضَابِطِ الْفَوَاصِلِ ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ وَلِمَعْرِفَتِهَا طَرِيقَانِ تَوْقِيفِيٌّ وَقِيَاسِيٌّ الْأَوَّلُ: التَّوْقِيفِيُّ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً وَقَرَأْتُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إلى {الذين} تَقِفُ عَلَى كُلِّ آيَةٍ فَمَعْنَى يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً أَيْ يَقِفُ عَلَى كُلِّ آيَةٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ لِيُعَلِّمَ رُءُوسَ الْآيِ قَالَ وَوَهَمَ فِيهِ مَنْ سَمَّاهُ وَقْفَ السُّنَّةِ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ تَعَبُّدًا فَهُوَ مَشْرُوعٌ لَنَا وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَا فَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ فَاصِلَةٌ وَمَا وَصَلَهُ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاصِلَةٍ وَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ مَرَّةً وَوَصَلَهُ أُخْرَى احْتَمَلَ الْوَقْفُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْرِيفِهِمَا أَوْ لِتَعْرِيفِ الْوَقْفِ التَّامِّ أَوْ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَالْوَصْلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاصِلَةٍ أَوْ فَاصِلَةً وَصَلَهَا لِتَقَدُّمِ تَعْرِيفِهَا الثَّانِي: الْقِيَاسِيُّ وَهُوَ مَا أُلْحِقَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ لِمُنَاسِبٍ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مَحَلُّ فَصْلٍ أَوْ وَصْلٍ وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ جَائِزٌ وَوَصْلُ الْقُرْآنِ كُلُّهُ جَائِزٌ فَاحْتَاجَ الْقِيَاسِيُّ إِلَى طَرِيقٍ تَعْرِفُهُ فَأَقُولُ فَاصِلَةُ الْآيَةِ كَقَرِينَةِ السَّجْعَةِ فِي النَّثْرِ وَقَافِيَةُ الْبَيْتِ فِي النَّظْمِ وَمَا يُذْكَرُ مِنْ عُيُوبِ الْقَافِيَةِ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 اخْتِلَافِ الْحَذْوِ وَالْإِشْبَاعِ وَالتَّوْجِيهِ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الفاصلة وجاز الانتقال فِي الْفَاصِلَةِ وَالْقَرِينَةِ وَقَافِيَةِ الْأُرْجُوزَةِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى آخَرَ بِخِلَافِ قَافِيَةِ الْقَصِيدِ. وَمِنْ ثَمَّ ترى: {يرجعون} مع: {عليم} و: {الميعاد} مع: {الثواب} و: {الطارق} مع: {الثاقب} والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة فِي الْآيَةِ وَالسَّجْعَةِ الْمُسَاوَاةُ وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعَ العادون على ترك عد: {ويأت بآخرين} و: {ولا الملائكة المقربون} بالنساء و {كذب بها الأولون} بسبحان و {لتبشر به المتقين} بمريم و {لعلهم يتقون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بطه و: {من الظلمات إلى النور} وَ: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بالطلاق لَمْ يُشَاكِلْ طَرَفَيْهِ. وَعَلَى تَرْكِ عَدِّ: {أَفَغَيْرَ دين الله يبغون} بآل عمران و {أفحكم الجاهلية يبغون} بالمائدة وَعَدُّوا نَظَائِرَهَا لِلْمُنَاسَبَةِ نَحْوَ {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} بِآلِ عمران و: {على الله كذبا} بالكهف و: {والسلوى} بطه. وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الْأَمْرَانِ فِي كَلِمَةٍ فَيُخْتَلَفُ فِيهَا فَمِنْهَا الْبَسْمَلَةُ وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْضُ آيَةٍ فِي النمل وبعضها في أثناء الفاتحة فِي بَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ نَزَلَتْ فِيهِ عَدَّهَا آيَةً وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِثْبَاتِهَا بِالْقِيَاسِ لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ خِلَافًا لِلدَّانِيِّ وَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ لَمْ تَنْزِلْ مَعَهُ لَمْ يَعُدَّهَا وَلَزِمَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ أن يعد عوضها وهو بعد اهْدِنَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: "قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نصفين" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أَيْ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ تُعَدُّ مِنْهَا وَلَا لِلْعَبْدِ إِلَّا هَاتَانِ وَ {الْمُسْتَقِيمَ} مُحَقَّقٌ فَقُسِّمَتَا بَعْدَهَا قِسْمَيْنِ فَكَانَتْ {عَلَيْهِمْ} الْأُولَى وَهِيَ مُمَاثِلَةٌ فِي الرَّوِيِّ لِمَا قَبْلَهَا وَمِنْهَا حُرُوفُ الْفَوَاتِحِ فَوَجْهُ عَدِّهَا اسْتِقْلَالُهَا عَلَى الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَمُنَاسَبَةِ الرَّوِيِّ وَالرِّدْفِ وَوَجْهُ عَدَمِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالتَّعَلُّقُ على الجزء ومنها بالبقرة {عذاب أليم} و {إنما نحن مصلحون} فَوَجْهُ عَدِّهِ مُنَاسَبَةَ الرَّوِيِّ وَوَجْهُ عَدَمِهِ تَعَلُّقُهُ بِتَالِيهِ وَمِنْهَا: {إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} بِآلِ عِمْرَانَ حملا على ما في الأعراف والشعراء والسجدة والزخرف ومنها {فبشر عباد} بالزمر لتقدير تاليه مفعولا ومبتدأ ومنها {وَالطُّورِ} وَ {الرَّحْمَنُ} وَ {الْحَاقَّةُ} وَ {الْقَارِعَةُ} و {والعصر} حملا على {والفجر} و {وَالضُّحَى} لِلْمُنَاسَبَةِ لَكِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْكَمِّيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 النوع الرابع: في جَمْعُ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ قَدِيمًا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَمَعَ فِيهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابن الزاغوني وأبو الفرج بن الْجَوْزِيِّ وَالدَّامْغَانِيُّ الْوَاعِظُ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ وَسُمِّيَ كِتَابُهُ الْأَفْرَادَ فَالْوُجُوهُ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي عِدَّةِ مَعَانٍ كَلَفْظِ الْأَمَةِ وَالنَّظَائِرُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَقِيلَ النَّظَائِرُ فِي اللَّفْظِ وَالْوُجُوهُ فِي الْمَعَانِي وَضَعُفَ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَكَانَ الْجَمْعُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرِكَةِ وَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ اللَّفْظَ الَّذِي مَعْنَاهُ وَاحِدٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَيَجْعَلُونَ الْوُجُوهَ نَوْعًا لِأَقْسَامٍ وَالنَّظَائِرَ نَوْعًا آخَرَ كَالْأَمْثَالِ وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَتِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى عِشْرِينَ وَجْهًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كلام البشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ فِي صَدْرِ كِتَابِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا لَا يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيهًا كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً فَمِنْهُ الْهُدَى سَبْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا: بِمَعْنَى الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ على هدى من ربهم} وبمعنى الدين: {إن الهدى هدى الله} وَبِمَعْنَى الْإِيمَانِ: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} وبمعنى الداعي: {ولكل قوم هاد} {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} وَبِمَعْنَى الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} وبمعنى المعرفة: {وبالنجم هم يهتدون} وبمعنى الرشاد: {اهدنا الصراط المستقيم} وَبِمَعْنَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} {من بعد ما تبين لهم الهدى} وَبِمَعْنَى الْقُرْآنِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وبمعنى التوراة: {ولقد آتينا موسى الهدى} وبمعنى الاسترجاع: {وأولئك هم المهتدون} ونظيرها في التغابن: {ومن يؤمن بالله} أَيْ فِي الْمُصِيبَةِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: {يهد قلبه} لِلِاسْتِرْجَاعِ وَبِمَعْنَى الْحُجَّةِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين} بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ربه} أَيْ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْحُجَّةِ. وَبِمَعْنَى التَّوْحِيدِ: {إن نتبع الهدى معك} وبمعنى السنة: {وإنا على آثارهم مهتدون} وَبِمَعْنَى الْإِصْلَاحِ: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} وَبِمَعْنَى الْإِلْهَامِ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} هَدَى كُلًّا فِي مَعِيشَتِهِ وَبِمَعْنَى التَّوْبَةِ: {إِنَّا هدنا إليك} أَيْ تُبْنَا وَهَذَا كَثِيرُ الْأَنْوَاعِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ الْأَفْرَادِ: كُلُّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ الْأَسَفِ فَمَعْنَاهُ الْحُزْنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ عليه السلام {يا أسفى على يوسف} إلا قوله تعالى: {فلما آسفونا} فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَغْضَبُونَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ موسى عليه السلام {غضبان أسفا} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُغْتَاظًا وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْبُرُوجِ فَإِنَّهَا الْكَوَاكِبُ كَقَوْلِهِ تعالى {والسماء ذات الْبُرُوجِ} إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} فَإِنَّهَا الْقُصُورُ الطِّوَالُ المرتفعة في السماء الْحَصِينَةُ. وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالْبَحْرِ الْمَاءُ وَبِالْبَرِّ التُّرَابُ الْيَابِسُ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الرُّومِ: {ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْبَرِّيَّةِ وَالْعُمْرَانِ وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي الْبَرِّ قَتْلُ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ وَفِي {البحر} أخذ الملك كل سفينة غصبا والبخس فِي الْقُرْآنِ النَّقْصُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا يخاف بخسا ولا رهقا} إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَشَرَوْهُ بثمن بخس} فَإِنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ قَالُوا بَخْسٌ: حَرَامٌ. وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْلِ فَهُوَ الزَّوْجُ كقوله تعالى: {وبعولتهن أحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بردهن} إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا فِي الصَّافَّاتِ: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} فَإِنَّهُ أَرَادَ صَنَمًا وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْبُكْمِ فَهُوَ الْخَرَسُ عَنِ الْكَلَامِ بِالْإِيمَانِ كقوله: {صم بكم} . إِنَّمَا أَرَادَ بُكْمٌ عَنِ النُّطْقِ وَالتَّوْحِيدِ مَعَ صِحَّةِ أَلْسِنَتِهِمْ إِلَّا حَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي سُورَةِ بني إسرائيل: {عميا وبكما وصما} وَالثَّانِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أحدهما أبكم} فَإِنَّهُمَا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَانِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْكَلَامِ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ {جِثِيًّا} فمعنا جَمِيعًا إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الشَّرِيعَةِ: {وَتَرَى كل أمة جاثية} فَإِنَّهُ أَرَادَ تَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَكُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ حُسْبَانٌ فَهُوَ مِنَ الْعَدَدِ غَيْرَ حَرْفٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْعَذَابِ وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ حسرة فهو الندامة كقوله عز وجل {يا حسرة على العباد} إلا التي في سورة آل عمران {يجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ حُزْنًا وَكُلُّ شَيْءٍ فِي القرآن الدحض والداحض فمعناه الباطل كقوله: {حجتهم داحضة} إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {فَكَانَ مِنَ المدحضين} وَكُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رِجْزٍ فَهُوَ الْعَذَابُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 {لئن كشفت عنا الرجز} إلا في سورة المدثر والرجز فاهجر فَإِنَّهُ يَعْنِي الصَّنَمَ فَاجْتَنِبُوا عِبَادَتَهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رَيْبٍ فَهُوَ شَكٌّ غَيْرَ حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {نَتَرَبَّصُ بِهِ ريب المنون} فَإِنَّهُ يَعْنِي حَوَادِثَ الدَّهْرِ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي القرآن يرجمنكم ويرجموكم فهو القتل غَيْرَ الَّتِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ {لأرجمنك} يعني لأشتمنك قلت وقوله {رجما بالغيب} أَيْ ظَنًّا وَالرَّجْمُ أَيْضًا الطَّرْدُ وَاللَّعْنُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلشَّيْطَانِ رَجِيمٌ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ زُورٍ فَهُوَ الْكَذِبُ وَيُرَادُ بِهِ الشِّرْكُ غَيْرَ الَّتِي فِي الْمُجَادَلَةِ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وزورا فَإِنَّهُ كَذِبٌ غَيْرُ شِرْكٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ زَكَاةٍ فَهُوَ الْمَالُ غَيْرَ الَّتِي في سورة مريم وحنانا من لدنا وزكاة فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَطُّفًا وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ زَاغُوا وَلَا تُزِغْ فَإِنَّهُ مِنْ مَالُوا وَلَا تُمِلْ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {وإذ زاغت الأبصار} بِمَعْنَى شَخَصَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ يسخرون وسخرنا فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ غَيْرَ الَّتِي فِي سورة الزخرف {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} فإنه أراد أعوانا وَخَدَمًا وَكُلُّ سَكِينَةٍ فِي الْقُرْآنِ طُمَأْنِينَةٌ فِي الْقَلْبِ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {فِيهِ سكينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 من ربكم} فَإِنَّهُ يَعْنِي شَيْئًا كَرَأْسِ الْهِرَّةِ لَهَا جَنَاحَانِ كَانَتْ فِي التَّابُوتِ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ السَّعِيرِ فَهُوَ النَّارُ وَالْوَقُودُ إِلَّا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وسعر} فَإِنَّهُ الْعِنَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ شَيْطَانٍ فَإِنَّهُ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ وَذُرِّيَّتُهُ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَإِذَا خَلَوْا إلى شياطينهم} فَإِنَّهُ يُرِيدُ كَهَنَتَهُمْ مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحَيِيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَأَبِي يَاسِرٍ أَخِيهِ وَكُلُّ شَهِيدٍ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُ الْقَتْلَى فِي الْغَزْوِ فَهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمُورِ النَّاسِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وادعوا شهداءكم} فَإِنَّهُ يُرِيدُ شُرَكَاءَكُمْ وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ فَهُمْ أَهْلُ النَّارِ إِلَّا قَوْلَهُ: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} فَإِنَّهُ يُرِيدُ خَزَنَتَهَا وَكُلُّ صَلَاةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ عِبَادَةٌ وَرَحْمَةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَصَلَوَاتٌ ومساجد} فَإِنَّهُ يُرِيدُ بُيُوتَ عِبَادَتِهِمْ وَكُلُّ صَمَمٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ لِلْإِيمَانِ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {عُمْيًا وبكما وصما} مَعْنَاهُ لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا وَكُلُّ عَذَابٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ التَّعْذِيبُ إِلَّا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وليشهد عذابهما} فإنه يريد الضرب والقانتون الْمُطِيعُونَ لَكِنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْبَقَرَةِ {كل له قانتون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مَعْنَاهُ مُقِرُّونَ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} يَعْنِي مُقِرُّونَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَكُلُّ كَنْزٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْمَالُ إِلَّا الَّذِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ {وكان تحته كنز لهما} فَإِنَّهُ أَرَادَ صُحُفًا وَعِلْمًا وَكُلُّ مِصْبَاحٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْكَوْكَبُ إِلَّا الَّذِي فِي سُورَةِ النور {المصباح في زجاجة} فَإِنَّهُ السِّرَاجُ نَفْسُهُ النِّكَاحُ فِي الْقُرْآنِ التَّزَوُّجُ إِلَّا قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النكاح} فإنه يعني الحلم النبأ والأنباء فِي الْقُرْآنِ الْأَخْبَارُ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَعَمِيَتْ عليهم الأنباء} فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْحُجَجِ الْوُرُودُ فِي الْقُرْآنِ الدُّخُولُ إِلَّا فِي الْقَصَصِ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} يَعْنِي هَجَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وسعها} يَعْنِي عَنِ الْعَمَلِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ النساء {لا ما آتاها} يَعْنِي النَّفَقَةَ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ يَأْسٍ فَهُوَ الْقُنُوطُ إِلَّا الَّتِي فِي الرَّعْدِ: {أفلم ييأس الذين آمنوا} أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ أَنْشَدَنِي أَبِي فَارِسُ بْنُ زَكَرِيَّا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تيئسوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ قَالَ الصَّاغَانِيُّ: الْبَيْتُ لِسَحِيمِ بْنِ وَثِيلٍ الْيَرْبُوعِيِّ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الصَّبْرِ مَحْمُودٌ إِلَّا قَوْلَهُ عز وجل {لولا أن صبرنا عليها} و: {واصبروا على آلهتكم} انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَزَادَ غَيْرُهُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّكُمْ فَهُوَ بِمَعْنَى لِكَيْ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي الشُّعَرَاءِ: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فَإِنَّهُ لِلتَّشْبِيهِ أَيْ كَأَنَّكُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي القرآن أقسطوا فهو بمعنى العدل إلا واحد في الجن: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} يَعْنِي الْعَادِلِينَ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ هَذَا بِاعْتِبَارِ صُورَةِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَمَادَّةُ الرُّبَاعِيِّ تُخَالِفُ مَادَّةَ الثُّلَاثِيِّ وَكُلُّ كِسَفٍ فِي الْقُرْآنِ يَعْنِي جَانِبًا مِنَ السَّمَاءِ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الروم: {ويجعله كسفا} يَعْنِي السَّحَابَ قَطْعًا وَكُلُّ مَاءٍ مَعِينٍ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الْجَارِي غَيْرَ الَّذِي فِي سُورَةِ تبارك فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَاءُ الطَّاهِرُ الَّذِي تَنَالُهُ الدِّلَاءُ وَهِيَ زَمْزَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ "لِئَلَّا" فَهُوَ بِمَعْنَى كَيْلَا غَيْرَ وَاحِدٍ فِي الْحَدِيدِ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الكتاب} يَعْنِي لِكَيْ يَعْلَمَ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} يَعْنِي ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَنُورَ النَّهَارِ وَكُلُّ صَوْمٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الصِّيَامُ الْمَعْرُوفُ إِلَّا الَّذِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} يَعْنِي صَمْتًا وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حاضرة البحر} أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُضُورِ هُنَا الْمُشَاهَدَةُ قَالَ وَهُوَ بِالظَّاءِ بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَالتَّحْوِيطِ قَالَ وَلَمْ يَأْتِ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى {فكانوا كهشيم المحتظر} قِيلَ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ {وَمَا أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَخْبَرَنَا بِهِ وَمَا فِيهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ} فَلَمْ يُخْبِرْنَا بِهِ حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ مَوْضِعًا وَهُوَ قوله وما يدريك لعل الساعة قريب وَقِيلَ الْإِنْفَاقُ حَيْثُ وَقَعَ الْقُرْآنُ فَهُوَ الصَّدَقَةُ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مثل ما أنفقوا} فإن المراد به المهر وهو صَدَقَةٌ فِي الْأَصْلِ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَى النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 النوع الخامس: علم المتشابه وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ وَنَظَّمَهُ السَّخَاوِيُّ وَصَنَّفَ في توجيهه الكرماني كتاب البرهان والرازي دُرَّةُ التَّأْوِيلِ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ أَبْسَطُهَا فِي مُجَلَّدَيْنِ وَهُوَ إِيرَادُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي صُوَرٍ شَتَّى وَفَوَاصِلَ مُخْتَلِفَةٍ وَيَكْثُرُ فِي إِيرَادِ الْقَصَصِ وَالْأَنْبَاءِ وَحِكْمَتُهُ التَّصَرُّفُ فِي الْكَلَامِ وَإِتْيَانُهُ عَلَى ضُرُوبٍ لِيُعْلِمَهُمْ عَجْزَهُمْ عَنْ جَمِيعِ طُرُقِ ذَلِكَ مُبْتَدَأً بِهِ وَمُتَكَرِّرًا وَأَكْثَرُ أَحْكَامِهِ تَثْبُتُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَلِهَذَا جَاءَ بِاعْتِبَارَيْنِ وَفِيهِ فصول الفصل الأول: المتشابه باعتبار الأفراد الْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ عَلَى نَظْمٍ وفي آخَرَ عَلَى عَكْسِهِ وَهُوَ يُشْبِهُ رَدَّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ كَثِيرٌ فَفِي الْبَقَرَةِ {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وَفِي الْأَعْرَافِ {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} وفي البقرة {والنصارى والصابئين} وفي الحج: {والصابئين والنصارى} في البقرة والأنعام {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وَفِي آلِ عِمْرَانَ {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} في البقرة: {ويكون الرسول عليكم شهيدا} وفي الحج {شهيدا عليكم} فِي الْبَقَرَةِ {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وباقي القرآن {لغير الله به} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فِي الْبَقَرَةِ {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كسبوا} وفي إبراهيم {مما كسبوا على شيء} في آل عمران {ولتطمئن قلوبكم به} وفي الأنفال {ولتطمئن به قلوبكم} فِي النِّسَاءِ {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} وَفِي الْمَائِدَةِ {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} فِي الْأَنْعَامِ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كل شيءء} وَفِي حم الْمُؤْمِنِ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إله إلا هو} في الأنعام {نحن نرزقكم وإياهم} وفي بني إسرائيل {نرزقهم وإياكم} في النحل {وترى الفلك مواخر فيهر} وفي فاطر {فيه مواخر} فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن} وفي الكهف {في هذا القرآن للناس} فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بيني وبينكم} وفي العنكبوت {بيني وبينكم شهيدا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فِي الْمُؤْمِنِينَ {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قبل} وَفِي النَّمْلِ {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قبل} فِي الْقَصَصِ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يسعى} وَفِي يس {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} فِي آلِ عِمْرَانَ {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} وَفِي كهيعص {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ من الكبر عتيا} الثَّانِي: مَا يُشْتَبَهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَفِي الْبَقَرَةِ {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} وفي يس {سواء} بِزِيَادَةِ وَاوٍ لِأَنَّ مَا فِي الْبَقَرَةِ جُمْلَةٌ هِيَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ إِنَّ وَمَا فِي يس جملة عطفت بالواو على جملة في البقرة {فأتوا بسورة من مثله} وَفِي غَيْرِهَا بِإِسْقَاطِ {مِنْ} لِأَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ وَأَوَّلَهُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ حَسُنَ دُخُولُ {مِنْ} فِيهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّحَدِّيَ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا {مِنْ} لَكَانَ التَّحَدِّي وَاقِعًا عَلَى بَعْضِ السُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بالسهل في البقرة: {فمن تبع هداي} وفي طه: {فمن تبع هداي} لأجل قوله هناك {يتبعون الداعي} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 في البقرة: {يذبحون} بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: {يَسُومُونَكُمْ} ومثله في الأعراف: {يقتلون} وفي إبراهيم {ويذبحون} بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يعدد الْمِحَنَ عَلَيْهِمْ فِي الْبَقَرَةِ: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظلمون} وفي آل عمران: {ولكن أنفسهم يظلمون} فِي الْبَقَرَةِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومن كان مريضا} ثم قال: {فمن كان منكم مريضا} فِي الْبَقَرَةِ {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بما تعملون خبير} وسائر ما في القرآن بإسقاط من وَفِيهَا: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يزكيهم} وَفِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم} قَالُوا: وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ السُّؤَالِ لَمْ يَقَعْ عَنْهُ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ ينسفها ربي نسفا} الْآيَةَ لِأَنَّ الْأَجْوِبَةَ فِي الْجَمِيعِ كَانَتْ بَعْدَ السُّؤَالِ وَفِي طه كَانَتْ قَبْلَ السُّؤَالِ وَكَأَنَّهُ قبل إِنْ سُئِلْتَ عَنِ الْجَوَابِ فَقُلْ فِي الْأَعْرَافِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} بِغَيْرِ وَاوٍ وَلَيْسَ فِي القرآن غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 في البقرة: {ويكون الدين لله} وفي الأنفال: {كله لله} في آل عمران: {اشهدوا بأنا مسلمون} وفي المائدة: {بأننا مسلمون} فِي آلِ عِمْرَانَ: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ المنير} بِبَاءٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وفي فاطر {بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} بِثَلَاثِ بَاءَاتٍ، فِي آلِ عِمْرَانَ {هَا أَنْتُمْ أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} وَسَائِرُ مَا فِي الْقُرْآنِ {هَؤُلَاءِ} بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ، فِي النِّسَاءِ: {خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} بالواو وفي: {براءة} {ذلك} بِغَيْرِ وَاوٍ. فِي النِّسَاءِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} وفي المائدة بزيادة: {منه} فِي الْأَنْعَامِ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لكم إني ملك} فَكَرَّرَ: {لِكُمْ} وَقَالَ فِي هُودٍ: {وَلَا أَقُولُ لكم إني ملك} لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ لَكُمْ فِي قِصَّتِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَاكْتَفَى بِذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وفي القلم: {بمن ضل عن سبيله} بِزِيَادَةِ الْبَاءِ وَلَفْظِ الْمَاضِي وَفِي النَّجْمِ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بمن اهتدى} فِي الْأَنْعَامِ {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وما نحن بمبعوثين} وفي سورة المؤمنين بِزِيَادَةِ نَمُوتُ وَفِيهَا أَيْضًا: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ وَفِيهَا {جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} وفي فاطر {خلائف في الأرض} بِإِثْبَاتِ {فِي} ، فِي الْأَعْرَافِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تسجد} وفي ص: {أن تسجد} وفي الحجر: {ألا تكون مع الساجدين} فَزَادَ: {لَا} فِي الْأَعْرَافِ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فإذا جاء أجلهم} بِالْفَاءِ وَكَذَا حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي يُونُسَ فِي الْأَعْرَافِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} بغير واو وفي المؤمنين وهود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} بِالْوَاوِ فِي الْأَعْرَافِ: {كَذَّبُوا مِنْ قبل} وفي يونس بزيادة {به} {كذبوا به من قبل} فِي الْأَعْرَافِ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} وفي الشعراء بزيادة: {بسحره} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فِي هُودٍ: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا} وفي إبراهيم: {وإنا لفي شك مما تدعونا} في يوسف: {وما أرسلنا من قبلك} وفي الأنبياء: {وما أرسلنا قبلك} فِي النَّحْلِ: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وفي العنكبوت: {من بعد موتها} وكذلك حذف من من قوله: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} وفي الحج: {من بعد علم شيئا} فِي الْحَجِّ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أعيدوا فيها} وفي السجدة: {منها أعيدوا فيها} في النمل: {وألق عصاك} وفي القصص: {وأن ألق عصاك} فِي الْعَنْكَبُوتِ: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} وفي هود: {ولما جاءت} بغير أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فِي الْعَنْكَبُوتِ: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ موتها} بِزِيَادَةِ {مِنْ} لَيْسَ غَيْرَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: {إن الساعة لآتية} وفي طه: {آتية} فِي النَّحْلِ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وفي الأعراف {من دونه} فِي الْمُؤْمِنِينَ: {مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مبين} وفي المؤمن بإسقاط ذكر الأخ في البقرة: {يذبحون أبناءكم} وفي سورة إبراهيم: {ويذبحون} بِالْوَاوِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ تَقَدَّمَ: {وذكرهم بأيام الله} وَهِيَ أَوْقَاتُ عُقُوبَاتٍ إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وَاللَّائِقُ أَنْ يُعَدِّدَ امْتِحَانَهُمْ تَعْدِيدًا يُؤْذِنُ بِصِدْقِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ لِتَكْثِيرِ الْمِنَّةِ وَلِذَلِكَ أَتَى بِالْعَاطِفِ لِيُؤْذِنَ بِأَنْ إِسَامَتَهُمُ الْعَذَابَ مُغَايِرٌ لِتَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَهُوَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّسْخِيرِ بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَقَرَةِ فَإِنَّ مَا بَعْدَ: {يَسُومُونَكُمْ} تَفْسِيرٌ لَهُ فَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ وَلِأَجْلِ مُطَابَقَةِ السَّابِقِ جَاءَ فِي الْأَعْرَافِ: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ} ليطابق: {سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم} الثالث: التقديم وَالتَّأْخِيرِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَمِنْهُ فِي الْبَقَرَةِ: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} مؤخر وما سواه: {يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وَمِنْهُ تَقْدِيمُ اللَّعِبِ عَلَى اللَّهْوِ فِي مَوْضِعَيْنِ من سورة الأنعام وَكَذَلِكَ فِي الْقِتَالِ وَالْحَدِيدِ وَقَدَّمَ اللَّهْوَ عَلَى اللعب في الأعراف والعنكبوت وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّعِبَ فِي الْأَكْثَرِ لِأَنَّ اللَّعِبَ زَمَانُ الصِّبَا وَاللَّهْوَ زَمَانُ الشَّبَابِ وَزَمَانُ الصِّبَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَمَانِ اللَّهْوِ تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرَهُ في الحدي: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب} أَيْ كَلَعِبِ الصِّبْيَانِ: {وَلَهْوٌ} أَيْ كَلَهْوِ الشَّبَابِ: {وزينة} كزينة النساء: {وتفاخر} كَتَفَاخُرِ الْإِخْوَانِ: {وَتَكَاثُرٌ} كَتَكَاثُرِ السُّلْطَانِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي تَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللَّهْوِ قَوْلُهُ: {وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا إن كنا فاعلين} وَقَدَّمَ اللَّهْوَ فِي الْأَعْرَافِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ عَلَى تَرْتِيبِ مَا انْقَضَى وَبَدَأَ بِمَا بِهِ الْإِنْسَانُ انْتَهَى مِنَ الْحَالَيْنِ وَأَمَّا الْعَنْكَبُوتُ فَالْمُرَادُ بِذِكْرِهِمَا زَمَانُ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ قَلِيلُ الْبَقَاءِ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الحيوان} أَيِ الْحَيَاةُ الَّتِي لَا أَبَدَ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ لِأَبَدِهَا فَبَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهْوِ لِأَنَّهُ فِي زَمَانِ الشَّبَابِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ زَمَانِ اللَّعِبِ وَهُوَ زَمَانُ الصِّبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَمِنْهُ تَقْدِيمُ لَفْظِ الضَّرَرِ عَلَى النَّفْعِ فِي الأكثر لأن العابد يعبد معبودا خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ أَوَّلًا ثُمَّ طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ وَحَيْثُ تَقَدَّمَ النَّفْعُ عَلَى الضُّرِّ فَلِتَقَدُّمِ مَا يَتَضَمَّنُ النَّفْعَ وَذَلِكَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا بِلَفْظِ الِاسْمِ وَهِيَ فِي الْأَعْرَافِ والرعد وسبأ وَأَرْبَعَةٌ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَهِيَ فِي الْأَنْعَامِ: {مَا لا ينفعنا ولا يضرنا} وَفِي آخِرِ يُونُسَ: {مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يضرك} وَفِي الْأَنْبِيَاءِ: {مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يضركم} وَفِي الْفُرْقَانِ: {مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} أَمَّا فِي الْأَعْرَافِ فَلِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: {مَنْ يَهْدِ الله فهو المهتدي ومن يضلل} فَقَدَّمَ الْهِدَايَةَ عَلَى الضَّلَالِ وَبَعْدَ ذَلِكَ: {لَاسْتَكْثَرْتُ من الخير وما مسني السوء} فقدم الخير على السوء وكذا قَدَّمَ النَّفْعَ عَلَى الضُّرِّ أَمَّا فِي الرَّعْدِ فَلِتَقَدُّمِ الطَّوْعِ فِي قَوْلِهِ: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أما فِي سَبَأٍ فَلِتَقَدُّمِ الْبَسْطِ فِي قَوْلِهِ: {يَبْسُطُ الرزق لمن يشاء ويقدر} وَفِي يُونُسَ قَدَّمَ الضُّرَّ عَلَى الْأَصْلِ وَلِمُوَافَقَةِ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّ فِيهَا: {مَا لَا يَضُرُّهُمْ ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ينفعهم} وفيها: {وإذا مس الأنسان الضر} فَتَكُونُ الْآيَةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ فَلِسَابِقَةِ مَعْنًى يَتَضَمَّنُ نَفْعًا أَمَّا الْأَنْعَامُ فَفِيهَا: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يؤخذ منها} ثُمَّ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا} وَفِي يُونُسَ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا ينفعك ولا يضرك} وَفِي الْأَنْبِيَاءِ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْكُفَّارِ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْمُجَادَلَةِ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شيئا ولا يضركم} وَفِي الْفُرْقَانِ تَقَدَّمَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} نِعَمًا جَمَّةً فِي الْآيَاتِ ثُمَّ قَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يضرهم} فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الْمُطَّرِدَةَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ اتِّسَاقًا مِنَ الْعُقُودِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عدل} ثم قال سبحانه فِي السُّورَةِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئا} الآيةوفيها سؤالان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أَحَدُهُمَا:أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْأُولَى قَدَّمَ نَفْيَ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ عَلَى أَخْذِ الْعَدْلِ وَفِي الثَّانِي قَدَّمَ نَفْيَ قَبُولِ الْعَدْلِ عَلَى الشَّفَاعَةِ السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فِي الْأُولَى: {ولا يقبل منها شفاعة} وفي الثانية: {ولا تنفعها شفاعة} فَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَهَلْ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ بَابِ التَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّنَقُّلِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى النَّقْلِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ لَكِنَّهُ يَشْتَمِلُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى فَائِدَةٍ وَحِكْمَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلت من لدن حكيم خبير} وَلَمْ يَقُلْ مِنْ رَحْمَنٍ وَلَا رَحِيمٍ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ كِلَاهُمَا فِي حَقِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَبْنَاءُ أَبْنَائِهِمْ وَسَيَشْفَعُ لَنَا آبَاؤُنَا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَنْفَعُهُمُ الشَّفَاعَةُ وَلَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَتَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَابَ عَنْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهَا وَذَكَرَ اللَّهُ فِي الْآيَتَيْنِ النَّفْسَ مُتَكَرِّرَةً ثُمَّ أَتَى بِضَمِيرٍ يُحْتَمَلُ رُجُوعُهُ إِلَى الْأُولَى أَوْ إِلَى الثَّانِيَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ وَلَكِنْ قَدْ يَعُودُ إِلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا} فَالضَّمِيرُ فِي التَّعْزِيرِ وَالتَّوْقِيرِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي التَّسْبِيحِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ في الأولى {ولا يقبل منها شفاعة} الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 النَّفْسِ الْأُولَى وَهِيَ الشَّفَاعَةُ لِغَيْرِهَا فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرَ الشَّفَاعَةِ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ أَخْبَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِلْمَشْفُوعِ احْتِقَارًا لَهُ وَعَدَمَ الِاحْتِفَاءِ بِهِ وَهَذَا الْخَبَرُ يَكُونُ بَاعِثًا لِلسَّامِعِ فِي تَرْكِ الشَّفَاعَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ لَا يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة} لو شَفَعَتْ يَعْنِي وَهُمْ لَا يَشْفَعُونَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُؤَيِّسًا لَهُمْ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَنْفَعُونَهُمْ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: {وَلَا يؤخذ منها عدل} إِنْ جَعَلْنَا الضَّمِيرَ فِي: {مِنْهَا} رَاجِعًا إِلَى الشَّافِعِ أَيْضًا فَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الشَّافِعَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ شَيْئًا لِيَكُونَ مُؤَكِّدًا لِقَبُولِ شَفَاعَتِهِ فَمِنْ هَذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الشَّفَاعَةِ عَلَى دَفْعِ الْعَدْلِ وَإِنْ جَعْلَنَا الضَّمِيرَ رَاجِعًا إِلَى الْمَشْفُوعِ فِيهِ فَهُوَ أَحْرَى بِالتَّأْخِيرِ لِيَكُونَ الشَّافِعُ قَدْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ شَفَاعَتَهُ قَدْ قُبِلَتْ فَتَقْدِيمُ الْعَدْلِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُؤَسِّسًا لِحُصُولِ مَقْصُودِ الشَّفَاعَةِ وَهُوَ ثَمَرَتُهَا لِلْمَشْفُوعِ فِيهِ وَأَمَّا الْآيَةَ الثَّانِيَةُ: فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {مِنْهَا عَدْلٌ} رَاجِعٌ إِلَى النَّفْسِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ النَّفْسُ الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ الْجَرِيمَةِ فَلَا يُقْبَلُ منها عدل لأن العادة بَذْلَ الْعَدْلِ مِنْ صَاحِبِ الْجَرِيمَةِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الشَّفَاعَةِ فِيهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فَنَاسَبَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْفِدْيَةُ مِنَ الْمَشْفُوعِ لَهُ عَلَى الشَّفَاعَةِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ النَّفْسَ الْمَطْلُوبَةَ بِجُرْمِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ عَنْ نَفْسِهَا ولا تنفعها شفاعة شافع فيها وقد بَذْلَ الْعَدْلِ لِلْحَاجَةِ إِلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ مَنْ طُلِبَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأُولَى {ولا يقبل منها شفاعة} وفي الثانية: {ولا تنفعها شفاعة} لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع وتنفع المشفوع له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وقال الراغب إنما كرر {لا} فيهما عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ بِالْوَاعِظِ إِذَا وَعَظَ لِأَمْرٍ فَإِنَّهُ يُكَرِّرُ اللَّفْظَ لِأَجْلِهِ تَعْظِيمًا لِلْآمِرِ قَالَ وأما تغييره النظم فلما كان قبول وَأَخْذُهُ وَقَبُولُ الشَّفَاعَةِ وَنَفْعُهَا مُتَلَازِمَةً لَمْ يَكُنْ بَيْنَ اتِّفَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَاخْتِلَافِهَا فَرْقٌ فِي الْمَعْنَى وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ لَمَّا كَانَ النَّاسُ مُتَفَاوِتِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يُشْفَعَ فِيهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَدْلِ الَّذِي يُخْرِجُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْعَدْلَ مُقَدَّمًا عَلَى الشَّفَاعَةِ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقِسْمَيْنِ فَقَدَّمَ الشَّفَاعَةَ بِاعْتِبَارِ طَائِفَةٍ وَقَدَّمَ الْعَدْلَ بِاعْتِبَارِ أُخْرَى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الظَّاهِرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا نَفَى قَبُولَ الشَّفَاعَةِ لَا نَفْعَهَا وَنَفَى أَصْلَ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْفِدَاءُ وَبَدَأَ بِالشَّفَاعَةِ لِتَيْسِيرِهَا عَلَى الطَّالِبِ أَكْثَرَ مِنْ تَحْصِيلِ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْفِدَاءُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ زِيَادَةُ تَأْكِيدِهَا بَدَأَ فِيهَا بِالْأَعْظَمِ الَّذِي هُوَ الْخَلَاصُ بِالْعَدْلِ وَثَنَّى بِنَفْعِ الشَّفَاعَةِ فقال: {ولا تنفعها شفاعة} وَلَمْ يَقُلْ لَا تُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ قَبُولِهَا لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ تَكُونُ نَافِعَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ وَتَنْفَعُ لِأَغْرَاضٍ مِنْ وَعْدٍ بِخَيْرٍ وَإِبْدَالِ الْمَشْفُوعِ بِغَيْرِهِ فَنَفْيُ النَّفْعِ أَعَمُّ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نَفْيِ الْقَبُولِ وَنَفْيِ النَّفْعِ بِالشَّفَاعَةِ تَلَازُمٌ كَمَا ادَّعَاهُ الرَّاغِبُ وَكَانَ التَّقْدِيرُ بِالْفِدَاءِ الَّذِي هُوَ نَفْيُ قَبُولِ الْعَدْلِ وَنَفْيُ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ شَيْئَيْنِ مُؤَكِّدَيْنِ لِاسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ نَفْيُ قَبُولِهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَخْبَرَ بِنَفْيِ النَّفْعِ لَا بِنَفْيِ الْقَبُولِ فَقَالَ: {فَمَا تنفعهم شفاعة الشافعين} وقال: {ولا تنفع الشفاعة عنده} الْآيَةَ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ عَمَّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أَبَا طَالِبٍ؟ فَقَالَ: "وَجَدْتُهُ فَنَقَلْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ" مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشَفَّعُ فِيه فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} فَنَفَى الشَّفَاعَةَ وَلَمْ يَنْفِ نَفْعَهَا قِيلَ: مِنْ بَابِ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ أَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَسْبَابَ الْمُنْجِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَنَفَاهَا هُنَاكَ وَهِيَ إِمَّا الْبَيْعُ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ الْإِنْسَانُ إِلَى الْمَقَاصِدِ أَوِ الْخُلَّةِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ وَبَدَأَ بِنَفْيِ الْمَحَبَّةِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وُقُوعًا مِنَ الصَّدَاقَةِ وَالْمُخَالَّةِ وَثَنَّى بِنَفْيِ الْخُلَّةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْأَغْرَاضِ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا وَذَكَرَ ثَالِثًا نَفْيَ الشَّفَاعَةِ أَصْلًا وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ قَبُولِهَا فَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى تَكْرَارِ الْجُمَلِ فِي الْآيَاتِ لِيُفِيدَ قُوَّةَ الدَّلَالَةِ الرَّابِعُ: بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ كَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: {ويقتلون النبيين بغير الحق} وفي آل عمران: {بغير حق} وقوله في البقرة: {هذا بلدا آمنا} وفي سورة إبراهيم {هذا بلدا آمنا} لِأَنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زرع} وَيَكُونُ {بَلَدًا} هُنَا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَ: {آمَنَّا} صِفَتُهُ وَفِي إِبْرَاهِيمَ: {الْبَلَدَ} مَفْعُولٌ أَوَّلُ وَ: {آمَنَّا} الثَّانِي وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الحكيم} وفي الأنفال: {إن الله عزيز حكيم} وَقَوْلُهُ فِي حم السَّجْدَةِ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هو السميع العليم} وفي الأعراف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 {إنه سميع عليم} لِأَنَّهَا فِي حم مُؤَكَّدَةٌ بِالتَّكْرَارِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يلقاها إلا الذين صبروا} فَبَالَغَ بِالتَّعْرِيفِ وَلَيْسَ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَجَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مَعْرِفَةٌ وَالْخَبَرُ نَكِرَةٌ الْخَامِسُ بِالْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} وفي آل عمران: {معدودات} لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجَمْعِ إِذَا كَانَ وَاحِدُهُ مذكر أَنْ يَقْتَصِرَ فِي الْوَصْفِ عَلَى التَّأْنِيثِ نَحْوُ: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مبثوثة} فَجَاءَ فِي الْبَقَرَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَفِي آلِ عِمْرَانَ عَلَى الْفَرْعِ السَّادِسُ: إِبْدَالُ حَرْفٍ بِحَرْفِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {اسْكُنْ أَنْتَ وزوجك الجنة وكلا} بالواو وفي الأعراف: {فكلا} بالفاء وحكمته أَنَّ: {اسْكُنْ} فِي الْبَقَرَةِ مِنَ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ الْإِقَامَةُ فَلَمْ يَصْلُحْ إِلَّا بِالْوَاوِ وَلَوْ جَاءَتِ الْفَاءُ لَوَجَبَ تَأْخِيرُ الْأَكْلِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْإِقَامَةِ وَالَّذِي فِي الْأَعْرَافِ مِنَ الْمَسْكَنِ وَهُوَ اتِّخَاذُ الْمَوْضِعِ سَكَنًا فَكَانَتِ الْفَاءُ أَوْلَى لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسْكَنِ لَا يَسْتَدْعِي زَمَنًا مُتَجَدِّدًا وزاد في البقرة: {رغدا} لقوله: {وَقُلْنَا} بِخِلَافِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ فِيهَا: {قَالَ} وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا فِي الْأَعْرَافِ خِطَابٌ لَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَمَا فِي الْبَقَرَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا} بالفاء وفي الأعراف بالواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فِي الْبَقَرَةِ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءك من العلم} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنْ بَعْدِ مَا جاءك} فِي الْبَقَرَةِ: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هم ينصرون} . وفي غيرها: {ولا هم ينظرون} في البقرة: {وما أنزل إلينا} ، وفي آل عمران: {علينا} فِي الْأَنْعَامِ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظروا} ، وَفِي غَيْرِهَا: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} في الأعراف: {وما كان جواب قومه} بِالْوَاوِ وَفِي غَيْرِهَا بِالْفَاءِ. فِي الْأَعْرَافِ: {آمَنْتُمْ به} وفي الباقي: {آمنتم له} فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} وفى لقمان: {إلى أجل مسمى} لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْكَهْفِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} ، وفي السجدة: {ثم أعرض عنها} في طه: {أفلم يهد لهم} ، بالفاء وفي السجدة: {أولم يهد} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 في القصص: {وما أوتيتم من شيء} ، وفي الشورى: {فما أوتيتم} بِالْفَاءِ فِي الطُّورِ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، و: {واصبر لحكم ربك} ، بِالْوَاوِ فِيهِمَا وَفِي الصَّافَّاتِ: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بعض} ، وفي القلم: {فاصبر لحكم ربك} ، بالفاء فيهما كما أن: {وبئس القرار} ، و {ويذبحون} بِالْوَاوِ فِيهِمَا فِي إِبْرَاهِيمَ فِي الْأَعْرَافِ: {سُقْنَاهُ لبلد ميت} ، وفي فاطر: {إلى بلد} السَّابِعُ إِبْدَالُ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى: فِي الْبَقَرَةِ: {مَا ألفينا عليه آباءنا} ، وفي لقمان: {وجدنا} في البقرة: {فانفجرت} وفي الأعراف: {فانبجست} في البقرة: {فأزلهما الشيطان} ، وفي الأعراف {فوسوس لهما الشيطان} فِي آلِ عِمْرَانَ {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي ولد} ، وَفِي مَرْيَمَ: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} ، لأنه تقدم ذكره في {لأهب لك غلاما زكيا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فِي النِّسَاءِ: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} ، وفي الأحزاب: {شيئا أو تخفوه} فِي الْأَنْعَامِ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الحي} ، والثاني {يخرج} بالفعل في الكهف: {ولئن رددت إلى ربي} ، وفى حم: {ولئن رجعت} في طه: {فلما أتاها} ، وفي النمل: {فلما جاءها} في طه: {وسلك لكم فيها سبلا} ، وفي الزخرف: {وجعل لكم فيها سبلا} فِي الْأَنْبِيَاءِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ ربهم} ، وفي الشعراء {من الرحمن} فِي النَّمْلِ: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} ، وفى الزمر: {فصعق} فِي الْأَحْزَابِ فِي أَوَّلِهَا: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، وفيها: {بما تعملون بصيرا} بعد: {وجنودا لم تروها} {عذابا أليما} ، بعد {ليسأل الصادقين} ، و {عذابا مهينا} ، بعد {يؤذون الله ورسوله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 {أجرا كريما} بعد: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} ، و {رزقا كريما} بعد {نؤتها أجرها مرتين} {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} موضعان في الأحزاب وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خلت} وفي البقرة: {وهدى وبشرى للمؤمنين} وفي النحل: {للمسلمين} ، في موضعين في المائدة: {قل هل أنبئكم} وبالنون في الكهف الثامن: الإدغام وتركه في النساء والأنفال: {ومن يشاقق الرسول} ، وفي الحشر بالإدغام. في الأنعام: {لعلهم يتضرعون} وفي الأعراف: {يضرعون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الْفَصْلُ الثَّانِي: مَا جَاءَ عَلَى حَرْفَيْنِ {لَعَلَّكُمْ تتفكرون} : في القرآن اثنان في البقرة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} ، اثْنَانِ فِي يُونُسَ والنمل {أن الله غفور حليم} ، في البقرة وفي آل عمران: {أن الله غفور حليم} ، وأما: {والله غفور حليم} فَوَاحِدَةٌ فِي الْبَقَرَةِ وَكَذَلِكَ فِيهَا: {غَنِيٌّ حَلِيمٌ} ، وَلَيْسَ غَيْرَهُ {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} ، حَرْفَانِ، فِي الزُّخْرُفِ وفي الذاريات. {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، اثْنَانِ فِي قِصَّةِ نوح في هود والمؤمنون فِي السُّورَتَيْنِ بِالْفَاءِ. وَ {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} اثنان في هود والزخرف {مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} اثْنَانِ فِي الْعَنْكَبُوتِ وسبأ وَأَمَّا الَّذِي فِي الْقَصَصِ فَهُوَ {مِنْ عِبَادِهِ ويقدر لولا أن} ، وَبَاقِي الْقُرْآنِ: {وَيَقْدِرُ} فَقَطْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 {فَلَمَّا أَنْ} حَرْفَانِ فِي يُوسُفَ: {فَلَمَّا أَنْ جاء البشير} وَفِي الْقَصَصِ {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} بِالْوَاوِ حَرْفَانِ فِي الأنعام وفي يونس: {فمن أظلم} بِالْفَاءِ {أَعْرِضْ} حَرْفَانِ فِي الْكَهْفِ وَفِي السَّجْدَةِ إلا أن الأول: {فأعرض} والثاني {ثم أعرض} {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ الطَّاعَةِ حَرْفَانِ وَهُمَا فِي آلِ عِمْرَانَ،: {قُلْ أَطِيعُوا الله والرسول فإن تولوا} {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} بِغَيْرِ تَاءِ التَّأْنِيثِ حَرْفَانِ وَهُمَا في آل عمران {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} ، حَرْفَانِ فِي آلِ عمران وفي الأنفال {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} بِالْفَاءِ، حَرْفَانِ فِي آلِ عِمْرَانَ وفي الأنعام {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ} حَرْفَانِ وَهُمَا فِي الْأَنْعَامِ {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، حَرْفَانِ فِي التَّوْبَةِ وفي المنافقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} بِزِيَادَةِ اللَّامِ حَرْفَانِ في الحج: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} حرفان في هود فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَشُعَيْبٍ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ما كان فيه الصيحة فهو {ديارهم} عَلَى الْجَمْعِ وَمَا كَانَ فِيهِ الرَّجْفَةُ فَهُوَ {دارهم} بالتوحيد {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} بِتَكْرِيرِ مِنْ حَرْفَانِ هُمَا فِي هُودٍ. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} حَرْفَانِ فِي العنكبوت والزمر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} بِلَفْظِ التَّوْحِيدِ حرفان في الحجر والعنكبوت: {تبع} بإسقاط الألف حرفان في البقرة وآل عمران {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خبيرا} حرفان في الفرقان وفي آلم السجدة {إلى أجل مسمى} حرفان في لقمان وحم عسق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 اللهو قبل اللعب حرفان في الأعراف والعنكبوت {أولم يهد} بالواو حرفان في الأعراف وآلم السجدة {ثم يوم القيامة} حرفان في النحل والعنكبوت {إ لا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} بِزِيَادَةِ {من} حرفان في آل عمران والنور {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} بِغَيْرِ مِنْ حَرْفَانِ في البقرة والنساء {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حَرْفَانِ فِي آلِ عمران وفي الحديد. {له مقاليد السماوات والأرض} في الزمر وحم عسق. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إِخْبَارًا عن الجماعة الغيب حرفان في الأعراف وسبأ {أَمْوَاتٌ} بِالرَّفْعِ فِي الْبَقَرَةِ: {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} وفي النحل: {أموات غير أحياء} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الْفَصْلُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} ثَلَاثَةٌ فِي الْقُرْآنِ في الروم وفاطر والمؤمن. {فنجيناه} بالفاء في يونس والأنبياء والشعراء {قليلا ما تذكرون} ثلاثة في الأعراف والنمل والحاقة. {لعلهم يتذكرون} اثنان في الأعراف والثالث في الأنفال. {تتذكرون} بتائين متكررتين ثلاثة في الأنعام والم السجدة والمؤمن. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} فِي الْبَقَرَةِ وآل عمران وإبراهيم. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} فِي النِّسَاءِ والتوبة والصف. {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ وفي النساء والتوبة وَلَكِنْ هُوَ فِيهِمَا بِالنَّفْيِ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لقومه يا قوم} في البقرة وفي المائدة وفي الصف {فلهم أجرهم} في البقرة اثنان والثالث في التين والزيتون إِلَّا أَنَّهُ بِإِسْقَاطِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} ، فِي هُودٍ والرعد والمؤمن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} ، فِي الْبَقَرَةِ ويوسف والمؤمن {وهم بالآخرة هم كافرون} ، في هود ويوسف والسجدة {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} ، بِزِيَادَةِ من في الأنعام وص والم السجدة لَكِنْ بِلَفْظِ {مِنَ الْقُرُونِ} {أَجْمَعُونَ} بِالْوَاوِ فِي الحجر والشعراء وص {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فِي الْمَائِدَةِ والنور والحشر {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فِي آلِ عمران والمائدة ولقمان {ولو شئنا} ، في الأعراف والفرقان والم السجدة {من ذنوبكم} ، بزيادة من في إبراهيم والأحقاف ونوح {مبينات} ، في النور اثنان والثالث في الطلاق {لولا أنزل عليه} ، في الرعد اثنان والثالث في يونس {جنات عدن يدخلونها} ، في الرعد والنحل وفاطر {فما كان الله ليظلمهم} ، في الروم والتوبة والعنكبوت لكن بالواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 {لعلي} ، في الحج وسبأ ونون {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} ، فِي سَبَأٍ اثنان وفي آخر فاطر {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} ، بِوَاوٍ فِي الْبَقَرَةِ والحجر وص {ونزلنا} ، ثلاثة أحرف في طه والنحل وق والباقي وأنزلنا {فإن توليتم} ، في المائدة ويونس والتغابن {ألم يروا} ، بغير واو في النحل والنمل ويس {أمواتا} ، بالنصب في البقرة {وكنتم أمواتا} ، وآل عمران {في سبيل الله أمواتا} ، وفي المرسلات {أحياء وأمواتا} {أجلا} ، بالنصب في الأنعام وبني إسرائيل والمؤمن {أإذا كُنَّا تُرَابًا} ، بِغَيْرِ ذِكْرِ الْعِظَامِ فِي الرَّعْدِ والنمل وق ، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} ، فِي الرَّعْدِ والروم والمؤمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الْفَصْلُ الرَّابِعُ: مَا جَاءَ عَلَى أَرْبَعَةِ حُرُوفٍ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، بِتَكْرِيرِ {من} في يونس والحج والنمل والزمر {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، فِي الْمَائِدَةِ اثنان في ص وآخر الزخرف {أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} ، بِإِسْقَاطِ مِنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ والأنبياء والفرقان وسبأ {أهؤلاء} ، بألف قبل الهاء في المائدة والأنعام والأعراف وسبأ {من تحتهم} ، في الأنعام والأعراف ويونس والكهف وأما {تجري تحتها الأنهار} ، فَمَوْضِعٌ وَاحِدٌ فِي بَرَاءَةٌ {أَوْ أَنْ} ، بِهَمْزَةٍ قَبْلَ الْوَاوِ فِي هُودٍ {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ} ، وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} ، وفي طه {أو أن يطغى} ، وَفِي الْمُؤْمِنِ {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الفساد} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، فِي النِّسَاءِ اثنان وفي الأحزاب والإنسان {آبَاؤُهُمْ} ، بِالرَّفْعِ فِي الْبَقَرَةِ {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يعقلون شيئا} ، وَفِي الْمَائِدَةِ {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شيئا} ، وفي هود {إلا كما يعبد آباؤهم} وَفِي يس {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} ، {قل يا أيها الناس} في الأعراف وفي يونس اثنان منها وفي الحج {نصرف الآيات} في الأنعام ثلاثة والرابع في الأعراف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فِي المائدة والأنعام والقصص والأحقاف {مباركا} بالنصب في آل عمران ومريم والمؤمنين وق {مبارك} ، في الأنعام اثنان وفي الأنبياء وص {مَا كَسَبَتْ} بِحَذْفِ الْبَاءِ مِنْ أَوَّلِهِ فِي البقرة وآل عمران اثنان وفي إبراهيم {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ قَبْلَ الواو في آل عمران والنساء والنحل وغافر {ألم يروا} بغير واو في الأنعام والأعراف والنمل ويس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 {ولبئس} في البقرة اثنان {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ} وَ {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} وفي الحج {ولبئس العشير} وفي النور {ولبئس المصير} وَأَمَّا {فَلَبِئْسَ} بِالْفَاءِ فَمَوْضِعٌ وَاحِدٌ فِي النَّحْلِ {فلبئس مثوى المتكبرين} {إلا قليل} بالرفع في النساء والتوبة وهود والكهف {أفلم يسيروا} في يوسف وفي الحج وفي المؤمن وفي القتال {قل سيروا في الأرض} فِي الْأَنْعَامِ {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ غَيْرُهُ وَفِي النمل {قل سيروا في الأرض فانظروا} وكذا في العنكبوت والروم {أفرأيت} بالفاء بعد الهمزة في مريم والشعراء والجاثية والنجم اللعب قبل اللهو في الأنعام اثنان وفي القتال والحديد {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي الْبَقَرَةِ والرعد والروم والنحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} عَلَى لفظ الجمع في يونس {لآية لقوم يسمعون} بالتوحيد في النحل كذلك وبالجمع في الروم والم السجدة {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} فِي مَرْيَمَ والعنكبوت ويس والأحقاف {وما ظلمناهم} في هود والنحل اثنان وفي الزخرف {وإذ قلنا للملائكة} في البقرة وبني إسرائيل والكهف وطه والأنبياء والنبيين بِغَيْرِ حَقٍّ فِي آلِ عِمْرَانَ {النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حق} وفيها {ويقتلون الأنبياء بغير حق} وَفِيهَا أَيْضًا {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وَفِي النساء فَأَمَّا الَّذِي فِي الْبَقَرَةِ {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحق} فَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الْفَصْلُ الْخَامِسُ: مَا جَاءَ عَلَى خَمْسَةِ حُرُوفٍ {حكيم عليم} في الأنعام ثلاثة والرابع في الحجر والخامس في النمل {مغفرة ورزق كريم} في الأنفال اثنان وفي الحج والنور وسبأ الأرض قبل السماء في آل عمران ويونس وإبراهيم وطه والعنكبوت {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي الرَّعْدِ والروم والزمر والجاثية وبلفظ التوحيد في النحل {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بِتَكْرِيرِ الطَّاعَةِ فِي النساء والمائدة والنور والقتال والتغابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مِنْهَا حَرْفَانِ بِالْوَاوِ في التوبة {وذلك هو الفوز العظيم} وكذلك في المؤمن والباقي بلا واو في يونس والدخان والحديد الْفَصْلُ السَّادِسِ: مَا جَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَحْرُفٍ {في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} في الأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والروم والزمر {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مِنْهَا بِوَاوٍ وَاحِدٌ فِي النساء {خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} وفي المائدة {ذلك الفوز العظيم} ومثله في التوبة موضعان والصف والتغابن {فمن أظلم} بالفاء في الأنعام موضعان والأعراف ويونس والكهف والزمر {ويسألونك} بالواو ثلاث في البقرة وبني إسرائيل والكهف وطه {فبئس} بالفاء في ص اثنان وفي الزمر وفى غافر والزخرف والمجادلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 {نزلنا} بغير واو في البقرة والنساء والأنعام موضعان والحجر والإنسان {قل يا أهل الكتاب} في آل عمران ثلاثة وَفِي الْمَائِدَةِ ثَلَاثَةٌ الْفَصْلُ السَّابِعُ: مَا جَاءَ عَلَى سَبْعَةِ حُرُوفٍ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فِي الْبَقَرَةِ وإبراهيم والقصص ثلاثة مواضع والزمر والدخان {السماوات والأرض وما بينهما} في مريم والشعراء والصافات وص موضعان والزخرف والدخان الْمَرْأَةُ مَكْتُوبَةٌ بِالتَّاءِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ فِي آل عمران وفي يوسف موضعان {امرأت العزيز} وفي القصص {امرأت فرعون} وفي التحريم ثلاثة مواضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الْفَصْلُ الثَّامِنُ: مَا جَاءَ عَلَى ثَمَانِيَةِ حُرُوفٍ النفع قبل الضر في الأنعام والأعراف ويونس والرعد والأنبياء والفرقان والشعراء وسبأ {يتذكر} بتاء في الرعد وطه والملائكة وص والزمر والمؤمن والنازعات والفجر الْفَصْلُ التَّاسِعِ: مَا جَاءَ عَلَى تِسْعَةِ حُرُوفٍ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بِغَيْرِ تَكْرَارِ مَنْ في آل عمران والرعد وفى بني إسرائيل ومريم والأنبياء والنور والنمل والروم والرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بِالْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي الأنعام والأعراف والأنفال ويونس والقصص موضعان والزمر والذي في الدخان والطور {يَكُ} بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ نُونٍ بَعْدَ الْكَافِ في الأنفال والتوبة والنحل ومريم والمؤمن موضعان وفي المدثر موضعان بِالنُّونِ فِي أَوَّلِهِ وَفِي الْقِيَامَةِ {أَلَمْ يَكُ نطفة} الْفَصْلُ الْعَاشِرُ: مَا جَاءَ عَلَى عَشَرَةِ أَحْرُفٍ {ولما} ، بالواو في هود ويوسف وفي غيرهما بالفاء في هود أربعة أحرف وفي يوسف ستة {أَنْ لَا} ، تُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ بِالنُّونِ مُنْفَصِلَةً عشرة في الأعراف موضعان والتوبة وفى هود موضعان والحج ويس والدخان والممتحنة والقلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الْفَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ: مَا جَاءَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ حَرْفًا أَحَدَ عَشَرَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} فِي التوبة والرعد والنحل والكهف ومريم وطه والملائكة وص والمؤمن والصف ولم يكن {ما في السماوات والأرض} في البقرة والنساء والأنعام ويونس والنحل والنور والعنكبوت ولقمان والحديد والحشر والتغابن {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} فِي النِّسَاءِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ والمائدة والتوبة موضعان والأحزاب والتغابن والطلاق والجن والبرية {وتلك} بالواو في البقرة وآل عمران والأنعام وهود والكهف والشعراء والعنكبوت والزخرف والمجادلة والحشر والطلاق {نعمت الله} كتبت بالتاء في أحد عشر موضعا في البقرة {اذكروا نعمت الله عليكم} وفي آل عمران والمائدة وإبراهيم موضعان والنحل ثلاثة مواضع ولقمان وفاطر والطور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 {فِي مَا} كُتِبَتْ مُنْفَصِلَةً فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا فِي الْبَقَرَةِ: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أنفسهن من معروف} وفي المائدة: {ليبلوكم في ما آتاكم} وفي الأنعام: {في ما أوحي إلي} وفيها أيضا: {ليبلوكم في ما آتاكم} وَفِي الْأَنْبِيَاءِ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالدون} وفي النور: {لمسكم في ما أفضتم} وَفِي الشُّعَرَاءِ: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} وفي الروم: {شركاء في ما رزقناكم} وفي الزمر: {في ما هم فيه يختلفون} وَفِيهَا أَيْضًا: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي ما كانوا} وَفِي الْوَاقِعَةِ: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الْفَصْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ: مَا جَاءَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ليس فيها خالدين في البقرة موضعان وآل عمران والمائدة والرعد والنحل والحج موضعان والفرقان والزمر والقتال والفتح والصف والتحريم والبروج {السماء والأرض} بالتوحيد في البقرة والأعراف ويونس والأنبياء موضعان وفي الحج والنمل موضعان والروم وسبأ والملائكة وص والدخان والذاريات والحديد الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مَا جَاءَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عشر وجه {أَكُ} {نَكُ} وَ {يَكُ} وَ {تَكُ} بِحُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ فِي أَوَّلِهَا وَبِغَيْرِ نُونٍ فِي آخِرِهَا في النساء {وإن تك حسنة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والأنفال {لم يك مغيرا} وَفِي التَّوْبَةِ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} وَفِي هُودٍ مَوْضِعَانِ {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} ، {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ منه إنه الحق} وَفِي النَّحْلِ مَوْضِعَانِ: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، {ولا تك في ضيق} وفي مريم: ثلاثة مواضع وفي لقمان وغافر أربع مواضع وفي المدثر موضعان وفي القيامة الْفَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: فِيمَا جَاءَ عَلَى عِشْرِينَ وَجْهًا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} عَلَى التَّوْحِيدِ في البقرة وآل عمران وهود والحجر وفي النحل خمسة أحرف بالتوحيد وفي الشعراء ثمانية في النمل والعنكبوت وسبأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الْفَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وعشرين حرفا وذلك {نَزَّلَ} وَ {نُزِّلَ} فِي الْبَقَرَةِ {ذَلِكَ بِأَنَّ الله نزل الكتاب} وفي آل عمران {نزل عليك الكتاب} وَفِي النِّسَاءِ مَوْضِعَانِ {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رسوله} ، {وقد نزل عليكم في الكتاب} وَفِي الْأَنْعَامِ {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وَفِي الْأَعْرَافِ مَوْضِعَانِ: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا من سلطان} {إن وليي الله الذي نزل الكتاب} وفي الحجر: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر} وَفِي النَّحْلِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفي بني إسرائيل {وبالحق نزل} وَفِي الْفُرْقَانِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا {تَبَارَكَ الَّذِي نزل الفرقان} {ونزل الملائكة تنزيلا} {لولا نزل عليه القرآن} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وفي الشعراء {نزل به الروح الأمين} وَفِي الْعَنْكَبُوتِ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ موتها} وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} بِزِيَادَةِ مِنْ غَيْرُهُ وَفِي الصَّافَّاتِ {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} وفي الزمر {الله نزل أحسن الحديث} وَفِي الزُّخْرُفِ مَوْضِعَانِ {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ} {والذي نزل من السماء ماء بقدر} وَفِي الْقِتَالِ مَوْضِعَانِ {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى محمد} {ما نزل الله سنطيعكم} وفى الحديد {ما نزل من الحق} وَفِي تَبَارَكَ {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 النَّوْعُ السَّادِسُ: عَلَمُ الْمُبْهَمَاتِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أبو القاسم السهيلي كتابه المسمى بالتعريف وَالْإِعْلَامِ وَتَلَاهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ المسمى بالتكميل والإتمام وهو الْمُبْهَمَاتِ الْمُصَنَّفَةِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ وَكَانَ فِي السلف من يعنى بِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ طَلَبْتُ الَّذِي خَرَجَ فِي بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْحَثُ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِاسْتِئْثَارِهِ بِعِلْمِهِ كَقَوْلِهِ {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} وَالْعَجَبُ مِمَّنْ تَجَرَّأَ وَقَالَ قِيلَ إِنَّهُمْ قُرَيْظَةُ وَقِيلَ مِنَ الْجِنِّ وَلَهُ أَسْبَابُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الأول: أن يكون أبهم في موضع استغناء بِبَيَانِهِ فِي آخِرٍ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تعالى {مالك يوم الدين} بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} الآية وقوله: {الذين أنعمت عليهم} وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خليفة} والمراد آدم والسياق بينه وقوله: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} والمراد بهم المهاجرون لِقَوْلِهِ فِي الْحَشْرِ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا من ديارهم وأموالهم} وَقَدِ احْتَجَّ بِهَا الصِّدِّيقُ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ فَقَالَ نَحْنُ الصَّادِقُونَ وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا أَيْ تَبَعًا لَنَا وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهَا دُونَهُمْ لِأَنَّهُ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} يَعْنِي مَرْيَمَ وَعِيسَى وَقَالَ {آيَةً} وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ وَهُمَا آيَتَانِ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ وِلَادَتُهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَيَّنَ لِاشْتِهَارِهِ كَقَوْلِهِ {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وَلَمْ يَقُلْ حَوَّاءُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَيْرَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَكَقَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ربه} وَالْمُرَادُ النَّمْرُوذُ لِأَنَّهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الذي اشتراه من مصر} وَالْمُرَادُ الْعَزِيزُ وَقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدم بالحق} ، وَالْمُرَادُ قَابِيلُ وَهَابِيلُ وَقَوْلِهِ: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إن هذا إلا أساطير الأولين} قَالُوا: وَحَيْثُمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فَقَائِلُهَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُهَا لِأَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ فَارِسَ وَتَعَلَّمَ الْأَخْبَارَ ثُمَّ جَاءَ وَكَانَ يَقُولُ أَنَا أُحَدِّثُكُمْ أَحْسَنَ مِمَّا يُحَدِّثُكُمْ مُحَمَّدٌ وَإِنَّمَا يُحَدِّثُكُمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ نَزَلَ: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنزل الله} وَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلِهِ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} فَإِنَّهُ تَرَجَّحَ كَوْنُهُ مَسْجِدَ قُبَاءَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} لِأَنَّهُ أُسِّسَ قَبْلَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَحَدْسُ هَذَا بِأَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُدَّةُ وَالْوَقْتُ وَكِلَاهُمَا أُسِّسَ عَلَى هَذَا مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَيْ مِنْ أَوَّلِ عَامٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُرَادُ الْآيَةِ الثَّالِثُ: قَصْدُ السَّتْرِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي اسْتِعْطَافِهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 بَلَغَهُ عَنْ قَوْمٍ شَيْءٌ خَطَبَ فَقَالَ: "مَا بَالُ رِجَالٍ قَالُوا كَذَا" وَهُوَ غَالِبُ مَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نبذه فريق منهم} قِيلَ هُوَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَقَوْلِهِ {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى} وَالْمُرَادُ هُوَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٍ وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدنيا} وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا من الكتاب} وقوله: {وقالت طائفة من أهل الكتاب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الرَّابِعُ: أَلَّا يَكُونَ فِي تَعْيِينِهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} وَالْمُرَادُ بِهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} وَالْمُرَادُ أَيْلَةُ وَقِيلَ طَبَرِيَّةُ {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ} والمراد نينوى {أتيا أهل قرية} قِيلَ بَرْقَةُ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي قوله: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} قِيلَ: آزَرُ اسْمُ صَنَمٍ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ دَعْ آزَرَ وَقِيلَ كَلِمَةُ زَجْرٍ وَقِيلَ بَلْ هُوَ اسْمُ أَبِيهِ وَعَلَى هَذَا فَالْفَائِدَةُ أَنَّ الْأَبَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ فَقَالَ آزَرَ لِرَفْعِ الْمَجَازِ الْخَامِسُ: التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْمِيمِ وَهُوَ غير خاص بخلاف مالو عُيِّنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى الله ورسوله} ، قَالَ: عِكْرِمَةُ أَقَمْتُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَسَأَلُ عَنْهُ حَتَّى عَرَفْتُهُ هُوَ ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ وَكَانَ مَرِيضًا فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْهِجْرَةِ خَرَجَ مِنْهَا فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ وَقَوْلِهِ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وعلانية} قيل نزلت في علي كان معه أربع دَوَانِقَ فَتَصَدَّقَ بِوَاحِدٍ بِالنَّهَارِ وَآخَرَ بِاللَّيْلِ وَآخَرَ سِرًّا وَآخَرَ عَلَانِيَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقوله: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ كَانَ له كلاب خمسة قَدْ سَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ أَعْلَامٍ السَّادِسُ: تَعْظِيمُهُ بِالْوَصْفِ الْكَامِلِ دُونَ الِاسْمِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الفضل منكم} والمراد الصديق وكذلك: {والذي جاء بالصدق} يعني محمدا {وصدق به} يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَدَخَلَ فِي الْآيَةِ كُلُّ مصدق ولذلك قال {أولئك هم المتقون} السَّابِعُ تَحْقِيرُهُ بِالْوَصْفِ النَّاقِصِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كفروا بآياتنا} وقوله: {إن شانئك هو الأبتر} والمراد فيها العاص بن وائل وقوله: {إن جاءكم فاسق} وَالْمُرَادُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وأما قوله: {تبت يدا أبي لهب} فذكره هنالك للتنبيه على أن ما له لِلنَّارِ ذَاتِ اللَّهَبِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَدْ يَكُونُ لِلشَّخْصِ اسْمَانِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لنكتة فمنه قوله تعالى في مخاطبة الْكِتَابِيِّينَ {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَلَمْ يُذْكَرُوا فِي القرآن إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بِهَذَا دُونَ يَا بَنِي يَعْقُوبَ وَسِرُّهُ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا خُوطِبُوا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَذُكِّرُوا بِدِينِ أَسْلَافِهِمْ مَوْعِظَةً لَهُمْ وَتَنْبِيهًا مِنْ غَفْلَتِهِمْ سُمُّوا بِالِاسْمِ الَّذِي فِيهِ تَذْكِرَةٌ بِاللَّهِ فَإِنَّ إِسْرَائِيلَ اسْمٌ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي التَّأْوِيلِ وَلِهَذَا لَمَّا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا إِلَى الْإِسْلَامِ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ إن الله قد حسن اسْمَ أَبِيكُمْ يُحَرِّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَلَمَّا ذَكَرَ مَوْهِبَتَهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَتَبْشِيرَهُ بِهِ قَالَ يَعْقُوبَ وَكَانَ أَوْلَى مِنْ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهَا مَوْهِبَةٌ تَعْقُبُ أُخْرَى وَبُشْرَى عَقَّبَ بِهَا بُشْرَى فَقَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسحاق يعقوب} وَإِنْ كَانَ اسْمُ يَعْقُوبَ عِبْرَانِيًّا لَكِنَّ لَفْظَهُ مُوَافِقٌ لِلْعَرَبِيِّ مِنَ الْعَقِبِ وَالتَّعْقِيبِ فَانْظُرْ مُشَاكَلَةَ الِاسْمَيْنِ لِلْمَقَامَيْنِ فَإِنَّهُ مِنَ الْعَجَائِبِ وَكَذَلِكَ حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ نُوحًا سَمَّاهُ بِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْغَفَّارِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى كَثْرَةِ نَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ عِيسَى {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسمه أحمد} وَلَمْ يَقُلْ مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَدَ حَمِدَ رَبَّهُ فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَذَكَّرَهُ عِيسَى بِهِ وَمِنْهُ أَنَّ مَدْيَنَ هُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ مَدْيَنَ قَالَ أخاهم شعيبا وَحَيْثُ أَخْبَرَ عَنِ الْأَيْكَةِ لَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ والحكمة فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أنه لما عرفها بِالنَّسَبِ وَهُوَ أَخُوهُمْ فِي ذَلِكَ النَّسَبِ ذَكَّرَهُ وَلَمَّا عَرَّفَهُمْ بِالْأَيْكَةِ الَّتِي أَصَابَهُمْ فِيهَا الْعَذَابُ لَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ وَأَخْرَجَهُ عَنْهُمْ وَمِنْهُ: {وَذَا النون} فَأَضَافَهُ إِلَى الْحُوتِ وَالْمُرَادُ يُونُسُ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحوت} والإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب وَلَفْظُ النُّونِ أَشْرَفُ مِنَ الْحُوتِ وَلِذَلِكَ وُجِدَ في حروف التهجي كقوله {ن والقلم} وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ قَسَمٌ وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ مَا يُشَرِّفُهُ بِذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {تَبَّتْ يدا أبي لهب} فَعَدَلَ عَنِ الِاسْمِ إِلَى الْكُنْيَةِ إِمَّا لِاشْتِهَارِهِ بِهَا أَوْ لِقُبْحِ الِاسْمِ فَقَدْ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ قَبِيلَةً مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ بِاسْمِهَا إِلَّا قُرَيْشًا سَمَّاهُمْ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ لِيَبْقَى عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ ذِكْرُهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ بَالَغَ فِي الصِّفَاتِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ إِنْسَانًا بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم} الْآيَةَ قِيلَ إِنَّهُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وَقَوْلِهِ: {ويل لكل همزة لمزة} قِيلَ إِنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ كَانَ يَهْمِزُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الثَّالِثُ: قِيلَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَةً فِي الْقُرْآنِ وَسَمَّاهَا بِاسْمِهَا إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَهَا فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا لِحِكْمَةٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْأَشْيَاخِ قَالَ إِنَّ الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم ولا يبتذلون أسماءهم يُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْعُرْسِ وَالْعِيَالِ وَالْأَهْلِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا ذَكَرُوا الْإِمَاءَ لَمْ يُكَنُّوا عَنْهُنَّ وَلَمْ يَصُونُوا أَسْمَاءَهُنَّ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّصْرِيحِ بِهَا فَلَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِي مَرْيَمَ وَفِي ابْنِهَا مَا قَالَتْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِهَا وَلَمْ يُكَنِّ عنها تأكيدا لأمر العبودية الَّتِي هِيَ صِفَةٌ لَهَا وَإِجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذِكْرِ أَبْنَائِهَا وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ عِيسَى لَا أَبَ لَهُ وَاعْتِقَادُ هَذَا وَاجِبٌ فَإِذَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ مَنْسُوبًا إِلَى الْأُمِّ اسْتَشْعَرَتِ الْقُلُوبُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا اعْتِقَادُهُ مِنْ نَفْيِ الْأَبِ عَنْهُ وَتَنْزِيهِ الْأُمِّ الطَّاهِرَةِ عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ الرَّابِعُ: وَأَمَّا الرِّجَالُ فَذَكَرَ مِنْهُمْ كَثِيرًا وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} إِنَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ زَيْدًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ السِّجِلِّ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ الْمُرَادُ بقوله تعالى: {كطي السجل للكتب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 النَّوْعُ السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَالسُّوَرِ اعْلَمْ أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً وَفِيهَا يُلْغَزُ فَيُقَالُ أَيُّ شَيْءٍ إِذَا عَدَدْتَهُ زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَإِذَا عَدَدْتَ نِصْفَهُ كان دون العشرين؟ وقد افتح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ عَنْهَا الاستفتاح بالثناء الْأَوَّلُ: اسْتِفْتَاحُهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالثَّنَاءُ قِسْمَانِ إِثْبَاتٌ لِصِفَاتِ الْمَدْحِ وَنَفْيٌ وَتَنْزِيهٌ مِنْ صفات النقص والإثبات نَحْوُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فِي خَمْسِ سُوَرٍ وَ {تَبَارَكَ} فِي سُورَتَيْنِ الْفَرْقَانِ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفرقان} والملك {تبارك الذي بيده الملك} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والتنزيه نحو {سبحان الذي أسرى بعبده} {سبح اسم ربك الأعلى} {سبح لله ما في السماوات} {يسبح لله} كِلَاهُمَا فِي سَبْعِ سُوَرٍ فَهَذِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سورة استفتحت بالثناء على الله لِثُبُوتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنِصْفُهَا لِسَلْبِ النَّقَائِصِ قُلْتُ وَهُوَ سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ الْأُلُوهِيَّةِ قَالَ صَاحِبُ الْعَجَائِبِ سَبَّحَ لِلَّهِ هَذِهِ كَلِمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهَا فَبَدَأَ بِالْمَصْدَرِ مِنْهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ثُمَّ الْمَاضِي سَبَّحَ لِلَّهِ في الحديد والحشر والصف لِأَنَّهُ أَسْبَقُ الزَّمَانَيْنِ ثُمَّ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجُمُعَةِ والتغابن ثُمَّ بِالْأَمْرِ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى اسْتِيعَابًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا وَهِيَ أَرْبَعٌ الْمَصْدَرُ وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ وَالْأَمْرُ الْمُخَاطَبُ فَهَذِهِ أُعْجُوبَةٌ وَبُرْهَانٌ 2 الاستفتاح بحروف التهجي الثَّانِي اسْتِفْتَاحُ السُّوَرِ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي نَحْوُ الم المص المر كهيعص طه طس طسم حم حمعسق ق ن وَذَلِكَ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحُرُوفَ الَّتِي افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا السُّوَرَ وَجَدْتَهَا نِصْفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ وَالصَّادَ وَالرَّاءَ وَالْكَافَ وَالْهَاءَ وَالْيَاءَ وَالْعَيْنَ وَالطَّاءَ وَالسِّينَ وَالْخَاءَ وَالْقَافَ وَالنُّونَ فِي تِسْعٍ وعشرين عَدَدُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ثُمَّ تَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى أصناف أجناس الحروف المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة وَالْمُسْتَعْلِيَةِ وَالْمُنْخَفِضَةِ وَحُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ ثُمَّ إِذَا اسْتَقْرَيْتَ الْكَلَامَ تَجِدُ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِيَ أَكْثَرُ دَوْرًا مِمَّا بَقِيَ وَدَلِيلُهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَمَّا كَانَتْ أَكْثَرَ تَدَاوُرًا جَاءَتْ فِي مُعْظَمِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ فَسُبْحَانَ الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَتُهُ انْتَهَى قِيلَ وَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْنَافِ الشَّدِيدَةُ وَالْمُنْفَتِحَةُ وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى نِصْفَهَا أَمَّا حُرُوفُ الصَّفِيرِ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِصْفٌ فَجَاءَ مِنْهَا السِّينُ وَالصَّادُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الزَّايُ وَكَذَلِكَ الْحُرُوفُ اللَّيِّنَةُ ثَلَاثَةٌ ذَكَرَ مِنْهَا اثْنَيْنِ الْأَلِفَ وَالْيَاءَ أَمَّا الْمُكَرَّرُ وَهُوَ الرَّاءُ وَالْهَاوِي وَهُوَ الْأَلِفُ وَالْمُنْحَرِفُ وَهُوَ اللَّامُ فَذَكَرَهَا وَلَمْ يَأْتِ خَارِجًا عَنْ هَذَا النَّمَطِ إِلَّا مَا بَيْنَ الشَّدِيدَةِ وَالرِّخْوَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ وَهَذَا التَّدَاخُلُ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ قِسْمٍ قَبْلَهُ وَلَوْلَاهُ لَمَا انْقَسَمَتْ هَذِهِ الأقسام كلها ووهم الزمخشري في عدد حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ إِنَّمَا ذَكَرَ نِصْفَهَا فَإِنَّهَا خَمْسَةٌ ذُكِرَ مِنْهَا حَرْفَانِ الْقَافُ وَالطَّاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى نِصْفِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِآيَةٍ فَلْيَأْخُذِ الشَّطْرَ الْبَاقِيَ وَيُرَكِّبْ عَلَيْهِ لَفْظًا مُعَارَضَةً لِلْقُرْآنِ وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَقَائِقِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُتَهَجَّاةَ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ حَرْفًا فَالْكَافُ وَالنُّونُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَالْعَيْنُ وَالْيَاءُ وَالْهَاءُ وَالْقَافُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ وَالصَّادُ فِي ثَلَاثَةٍ وَالطَّاءُ فِي أَرْبَعَةٍ وَالسِّينُ فِي خَمْسَةٍ وَالرَّاءُ فِي سِتَّةٍ وَالْحَاءُ فِي سَبْعَةٍ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالْمِيمُ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ وَهُمَا كُنْ وَاحِدٌ عَيْهَقٌ اثنان ثلاثة صا ... دُ الطَّاءُ أَرْبَعَةٌ وَالسِّينُ خَمْسٌ عَلَا وَالرَّاءُ سِتٌّ وَسَبْعُ الْحَاءُ آلُ وَدَجٍ ... وَمِيمُهَا سَبْعَ عَشْرٍ تَمَّ وَاكْتَمَلَا وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً وَجُمْلَتُهَا مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ نَصٌّ حَكِيمٌ قَاطِعٌ لَهُ سِرٌّ وَجَمَعَهَا السُّهَيْلِيُّ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ يَسْطَعْ نُورُ حَقٍّ كُرِهَ وَهَذَا الضَّابِطُ فِي لَفْظِهِ ثِقَلٌ وَهُوَ غَيْرُ عَذْبٍ فِي السَّمْعِ وَلَا فِي اللَّفْظِ وَلَوْ قَالَ لَمْ يكرها نص حق سطح لَكَانَ أَعْذَبَ وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَ بِقَوْلِهِ طَرَقَ سمعك النصيحة وصن سرا يقطعك حمله وعلى صِرَاطِ حَقٍّ يُمْسِكُهُ وَقِيلَ مَنْ حَرَصَ عَلَى بَطِّهِ كَاسِرٌ وَقِيلَ سِرٌّ حَصِينٌ قَطَعَ كَلَامَهُ ثُمَّ بَنَيْتُهَا ثَلَاثَةَ حُرُوفٍ مُوَحَّدَةٍ ص ق ن وَعَشَرَةً مَثْنَى طه طس يس حم وَاثْنَا عَشَرَ مُثَلَّثَةَ الْحُرُوفِ الم الر طسم وَاثْنَانِ حُرُوفُهَا أَرْبَعَةٌ المص المر وَاثْنَانِ حُرُوفُهَا خمسة كهيعص حمعسق وَأَكْثَرُ هَذِهِ السُّوَرِ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِذِكْرِ الْحُرُوفِ ذُكِرَ مِنْهَا مَا هُوَ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ وَمَا هُوَ أَرْبَعَةٌ أَحْرُفٍ سُورَتَانِ وَمَا ابْتُدِئَ بِخَمْسَةِ أحرف سورتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَأَمَّا مَا بُدِئَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَرْفًا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ اسْمًا لِشَيْءٍ خَاصٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ حَرْفًا وَقَالَ أَرَادَ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْحُرُوفَ مُفْرَدَهَا ومنظومتها فأما ما ابتدئ بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَفِيهِ سِرٌّ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَلِفَ إِذَا بُدِئَ بِهَا أَوَّلًا كَانَتْ هَمْزَةً وَهِيَ أَوَّلُ الْمَخَارِجِ مِنْ أَقْصَى الصَّدْرِ وَاللَّامُ مِنْ وَسَطِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَهِيَ أَشَدُّ الْحُرُوفِ اعْتِمَادًا عَلَى اللِّسَانِ وَالْمِيمُ آخِرُ الْحُرُوفِ وَمَخْرَجُهَا مِنَ الْفَمِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَصْلُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ أَعْنِي الْحَلْقَ وَاللِّسَانَ وَالشَّفَتَيْنِ وَتَرَتَّبَتْ فِي التَّنْزِيلِ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى الْوَسَطِ إِلَى النِّهَايَةِ فَهَذِهِ الْحُرُوفُ تَعْتَمِدُ الْمَخَارِجَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي يَتَفَرَّعُ مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ مَخْرَجًا لِيَصِيرَ مِنْهَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا عَلَيْهَا مَدَارُ كَلَامِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ مَعَ تَضَمُّنِهَا سِرًّا عَجِيبًا وَهُوَ أَنَّ الْأَلِفَ لِلْبِدَايَةِ وَاللَّامَ لِلتَّوَسُّطِ وَالْمِيمَ لِلنِّهَايَةِ فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ عَلَى الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَالْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا وَكُلُّ سُورَةٍ اسْتَفْتَحَتْ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَبْدَأِ الْخَلْقِ وَنِهَايَتِهِ وَتَوَسُّطِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ وَغَايَتِهِ وَعَلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْبِدَايَةِ مِنَ الشرائع والأوامر فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السَّجْدَةِ وَسُورَةِ الرُّومِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ كَثُرَتْ فِي الْفَوَاتِحِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ لِكَثْرَتِهَا فِي الْكَلَامِ وَأَيْضًا مِنْ أَسْرَارِ عِلْمِ الْحُرُوفِ أَنَّ الْهَمْزَةَ مِنَ الرِّئَةِ فَهِيَ أَعْمَقُ الْحُرُوفِ وَاللَّامَ مَخْرَجُهَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ مُلْصَقَةٌ بِصَدْرِ الْغَارِ الْأَعْلَى مِنَ الْفَمِ فَصَوْتُهَا يَمْلَأُ مَا وَرَاءَهَا مِنْ هَوَاءِ الْفَمِ وَالْمِيمَ مُطَبَقَةٌ لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقا وَيُرْمَزُ بِهِنَّ إِلَى بَاقِي الْحُرُوفِ كَمَا رَمَزَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" إِلَى الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِمَا وَتَأَمَّلِ اقْتِرَانَ الطَّاءِ بِالسِّينِ وَالْهَاءِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الطَّاءَ جَمَعَتْ مِنْ صِفَاتِ الْحُرُوفِ خَمْسَ صِفَاتٍ لَمْ يَجْمَعْهَا غَيْرُهَا وَهِيَ الْجَهْرُ وَالشِّدَّةُ وَالِاسْتِعْلَاءُ وَالْإِطْبَاقُ وَالْإِصْمَاتُ وَالسِّينُ مَهْمُوسٌ رِخْوٌ مُسْتَفِلٌ صَفِيرٌ مُنْفَتِحٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ إِلَى الطَّاءِ حَرْفٌ يُقَابِلُهَا كَالسِّينِ وَالْهَاءِ فَذَكَرَ الْحَرْفَيْنِ اللَّذَيْنِ جَمَعَا صِفَاتِ الْحُرُوفِ وَتَأَمَّلِ السُّورَةَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ كَيْفَ تَجِدُ السُّورَةَ مَبْنِيَّةً عَلَى كَلِمَةِ ذَلِكَ الْحَرْفِ فمن ذلك: {ق والقرآن المجيد} فَإِنَّ السُّورَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَلِمَاتِ الْقَافِيَةِ مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَمِنْ ذِكْرِ الْخَلْقِ وَتَكْرَارِ الْقَوْلِ وَمُرَاجَعَتِهِ مِرَارًا وَالْقُرْبِ مِنِ ابْنِ آدَمَ وَتَلَقِّي الْمَلَكَيْنِ وَقَوْلِ الْعَتِيدِ وَذِكْرِ الرَّقِيبِ وَذِكْرِ السَّابِقِ وَالْقَرِينِ وَالْإِلْقَاءِ فِي جَهَنَّمَ وَالتَّقَدُّمِ بِالْوَعْدِ وَذِكْرِ الْمُتَّقِينَ وَذِكْرِ الْقَلْبِ وَالْقَرْنِ وَالتَّنْقِيبِ فِي الْبِلَادِ وَذِكْرِ الْقَتْلِ مَرَّتَيْنِ وَتَشَقُّقِ الْأَرْضِ وَإِلْقَاءِ الرَّوَاسِي فِيهَا وَبُسُوقِ النَّخْلِ وَالرِّزْقِ وَذِكْرِ الْقَوْمِ وَخَوْفِ الْوَعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَسِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَعَانِي السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِمَا فِي حَرْفِ الْقَافِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْجَهْرِ وَالْقَلْقَلَةِ وَالِانْفِتَاحِ وَإِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةَ إِيضَاحٍ فَتَأَمَّلْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ ص مِنَ الْخُصُومَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَأَوَّلُهَا خُصُومَةُ الْكُفَّارِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقولهم: {أجعل الآلهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 إلها واحدا} إِلَى آخِرِ كَلَامِهِمْ ثُمَّ اخْتِصَامُ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ دَاوُدَ ثُمَّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ اخْتِصَامُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فِي الْعِلْمِ وَهُوَ الدَّرَجَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ ثُمَّ تَخَاصُمُ إِبْلِيسَ وَاعْتِرَاضُهُ عَلَى رَبِّهِ وَأَمْرُهُ بِالسُّجُودِ ثُمَّ اخْتِصَامُهُ ثَانِيًا فِي شَأْنِ بَنِيهِ وَحَلِفِهِ لَيُغْوِينَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا أَهْلَ الْإِخْلَاصِ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ سُورَةُ: {ن وَالْقَلَمِ} فَإِنَّ فَوَاصِلَهَا كُلَّهَا عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مَعَ مَا تَضَمَّنَتْ مِنَ الْأَلْفَاظِ النُّونِيَّةِ وَتَأَمَّلْ سُورَةَ الْأَعْرَافِ زَادَ فِيهَا ص لِأَجْلِ قَوْلِهِ: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حرج} وَشَرَحَ فِيهَا قَصَصَ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى المص: {أَلَمْ نشرح لك صدرك} وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُصَوِّرُ وَقِيلَ أَشَارَ بِالْمِيمِ لِمُحَمَّدٍ وَبِالصَّادِ لِلصِّدِّيقِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ لِمُصَاحَبَةِ الصَّادِ الْمِيمَ وَأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا كَمُصَاحَبَةِ الصِّدِّيقِ لِمُحَمَّدٍ وَمُتَابَعَتِهِ لَهُ وَجَعَلَ السُّهَيْلِيُّ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَزَادَ فِي الرَّعْدِ رَاءً لِأَجْلِ قَوْلِهِ: {اللَّهُ الذي رفع السماوات} وَلِأَجْلِ ذِكْرِ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَغَيْرِهِمَا وَاعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {الم ذلك الكتاب} وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم فيسأل عن حكمة ذلك. تنبيهات ثُمَّ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْكَامٍ تَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْفَوَاتِحِ الشَّرِيفَةِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ لَمْ يَعُدُّوا شَيْئًا مِنْهَا آيَةً وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَمِنْهَا مَا عَدُّوهُ آيَةً وَمِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 مَا لَمْ يُعِدُّوهُ آيَةً وَهُوَ عِلْمٌ تَوْقِيفِيٌّ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ كَمَعْرِفَةِ السُّوَرِ أَمَّا الم فَآيَةٌ حَيْثُ وَقَعَتْ مِنَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بها وهي ست وكذلك المص آية والمر لم تعد آية والر ليست بآية من سورها الخمس وطسم آية في سوريتيها وطه ويس آيتان وطس ليست بآية وحم آية في سورها كلها وحم عسق آيتان وكهيعص آية واحدة وص وق ون لَمْ تُعَدَّ وَاحِدَةٌ مِنْهَا آيَةً وَإِنَّمَا عُدَّ مَا هُوَ فِي حُكْمِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ آيَةً كما عد الرحمن وحده ومداهمتان وحدها آيتين على طريق التوقيف: وقال الو احدي فِي الْبَسِيطِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ لَا يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْهَا آيَةً إِلَّا فِي طه وَسِرُّهُ أَنَّ جَمِيعَهَا لَا يُشَاكِلُ مَا بَعْدَهُ مِنْ رُءُوسِ الْآيِ فَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ آيَةً بِخِلَافِ طه فَإِنَّهَا تُشَاكِلُ مَا بَعْدَهَا الثَّانِي: هذه الفواتح الشريفة على ضربين أحدهما: امالا يتأتى فيه إعراب نحو كهيعص والم وَالثَّانِي: مَا يَتَأَتَّى فِيهِ وَهُوَ إِمَّا أَنْ يكون اسما مفردا كص وق ون أَوْ أَسْمَاءً عِدَّةً مَجْمُوعُهَا عَلَى زِنَةِ مُفْرَدٍ ك حم وطس ويس فَإِنَّهَا مُوَازَنَةٌ لِقَابِيلَ وَهَابِيلَ وَكَذَلِكَ طسم يَتَأَتَّى فيها أن تفتح نونها فتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسما واحدا كدار انجرد فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مَحْكِيٌّ لَيْسَ إِلَّا وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَسَائِغٌ فِيهِ الْأَمْرَانِ الْإِعْرَابُ وَالْحِكَايَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُوقَفُ عَلَى جَمِيعِهَا وَقْفَ التَّمَامِ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى مَعْنًى مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَى مَا بَعْدَهُ وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تُجْعَلْ أَسْمَاءً لِلسُّورِ وَيُنْعَقْ بِهَا كَمَا يُنْعَقُ بِالْأَصْوَاتِ أَوْ جُعِلَتْ وَحْدَهَا أَخْبَارَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {الم الله} أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ الم ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الرَّابِعُ: أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ الشَّرِيفَةِ عَلَى صُورَةِ الْحُرُوفِ أَنْفُسِهَا لَا عَلَى صُورَةِ أَسَامِيهَا وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكَلِمَةَ لَمَّا كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ ذَوَاتِ الْحُرُوفِ وَاسْتَمَرَّتِ الْعَادَةُ مَتَى تَهَجَّيْتَ وَمَتَى قِيلَ لِلْكَاتِبِ اكْتُبْ كَيْتَ وَكَيْتَ أَنْ يُلْفَظَ بِالْأَسْمَاءِ وَتَقَعَ فِي الْكِتَابَةِ الْحُرُوفُ أَنْفُسُهَا فَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ لِلْمُشَاكَلَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي كِتَابَةِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ وَأَيْضًا فَإِنَّ شُهْرَةَ أَمْرِهَا وَإِقَامَةَ ألسنة الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ لَهَا وَأَنَّ اللَّافِظَ بِهَا غَيْرُ مُتَهَجَّاةٍ لَا يَجِيءُ بِطَائِلٍ فِيهَا وَأَنَّ بَعْضَهَا مُفْرَدٌ لَا يَخْطُرُ بِبَالٍ غَيْرُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَوْرِدِهِ أَمِنْتَ وُقُوعَ اللَّبْسِ فِيهَا وَقَدِ اتَّفَقَتْ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ أَشْيَاءُ خَارِجَةٌ عَنِ الْقِيَاسَاتِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا عِلْمُ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ ثُمَّ مَا عَادَ ذَلِكَ بِنَكِيرٍ وَلَا نُقْصَانٍ لِاسْتِقَامَةِ اللَّفْظِ وَبَقَاءِ الْحِفْظِ وَكَانَ اتِّبَاعُ خَطِّ الْمُصْحَفِ سُنَّةً لَا تُخَالَفُ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَوَائِلَ السُّوَرِ عَلَى قولين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أَحَدِهِمَا: أَنَّ هَذَا عِلْمٌ مَسْتُورٌ وَسِرٌّ مَحْجُوبٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ قَالَ الشَّعْبِيُّ إِنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ نُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ الْعِلْمَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَقَدْ أَنْكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَفْهَمُهُ الْخَلْقُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ كَمَا جَازَ التَّعَبُّدُ بِمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فِي الْأَفْعَالِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَقْوَالِ بِأَنْ يَأْمُرَنَا اللَّهُ تَارَةً بِأَنْ نَتَكَلَّمَ بِمَا نَقِفُ عَلَى مَعْنَاهُ وَتَارَةً بِمَا لَا نَقِفُ عَلَى مَعْنَاهُ وَيَكُونُ الْقَصْدُ مِنْهُ ظُهُورَ الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ. الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مَعْلُومٌ وَذَكَرُوا فِيهِ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ وَجْهًا فَمِنْهَا الْبَعِيدُ وَمِنْهَا القريب أحدها وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمٍ من أسمائه سبحانه فالألف من الله واللام من لطيف والميم من مجيد أو الألف من آلائه واللام من لطفه والميم مَنْ مَجْدِهِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَهَذَا وَجْهٌ جَيِّدٌ وَلَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَاهِدٌ قُلْنَا لَهَا قِفِي فَقَالَتْ ق فَعَبَّرَ عَنْ قَوْلِهَا وقفت بق الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ بِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ مُحَمَّدٌ هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ لَا شَكَّ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ إِذْ كَانَتْ مَادَّةَ البيان وما في كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ بِاللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهِيَ أُصُولُ كَلَامِ الْأُمَمِ بِهَا يَتَعَارَفُونَ وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِ: {الْفَجْرِ} {وَالطُّورِ} فَكَذَلِكَ شَأْنُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الْقَسَمِ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الثَّالِثُ: أَنَّهَا الدَّائِرَةُ مِنَ الْحُرُوفِ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ فَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ آلَائِهِ أَوْ بَلَائِهِ أَوْ مُدَّةِ أَقْوَامٍ أَوْ آجَالِهِمْ فَالْأَلِفُ سَنَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْفُرْقَانَ فَلَمْ يَدَعْ نَظْمًا عَجِيبًا وَلَا عِلْمًا نَافِعًا إِلَّا أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ الرَّابِعُ: وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الم أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي المص أنا الله أفصل والر أَنَا اللَّهُ أَرَى وَنَحْوُهُ مِنْ دَلَالَةِ الْحَرْفِ الواحد على الاسم العام وَالصِّفَةِ التَّامَّةِ الْخَامِسُ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّورِ فَ الم اسم لهذه وحم اسْمٌ لِتِلْكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ وُضِعَتْ لِلتَّمْيِيزِ فَهَكَذَا هَذِهِ الْحُرُوفُ وُضِعَتْ لِتَمْيِيزِ هَذِهِ السُّوَرِ مِنْ غَيْرِهَا وَنَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ وَأَنَّ سِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَجَدْنَا الم افْتُتِحَ بِهَا عِدَّةُ سُوَرٍ فَأَيْنَ التَّمْيِيزُ قُلْنَا قَدْ يَقَعُ الْوِفَاقُ بَيْنَ اسْمَيْنِ لِشَخْصَيْنِ ثُمَّ يُمَيِّزُ بَعْدَ ذَلِكَ بصفة وقعت كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ وَزَيْدٌ ثُمَّ يُمَيَّزَانِ بِأَنْ يُقَالَ زَيْدٌ الْفَقِيهُ وَزَيْدٌ النَّحْوِيُّ فَكَذَلِكَ إِذَا قرأ القارئ الم ذلك الكتاب فَقَدْ مَيَّزَهَا عَنْ الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ السَّادِسُ: أَنْ لِكُلِّ كِتَابٍ سِرًّا وَسِرُّ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَأَظُنُّ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُ مِنَ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قُلْتُ وَقَدِ اسْتَخْرَجَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَغْرِبِ مِنْ قوله تعالى {الم غلبت الرُّومِ} فُتُوحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِنْقَاذَهُ مِنَ الْعَدُوِّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَكَانَ كَمَا قَالَ السَّابِعُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ والغوا فيه} فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ وَيَكُونُ تَعَجُّبُهُمْ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ الثَّامِنُ: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ذُكِرَتْ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ أب ت ث فَجَاءَ بَعْضُهَا مُقَطَّعًا وَجَاءَ تَمَامُهَا مُؤَلَّفًا لِيَدُلَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ أَنَّهُ بِالْحُرُوفِ الَّتِي يَعْقِلُونَهَا وَيَبْنُونَ كَلَامَهُمْ مِنْهَا التَّاسِعُ: وَاخْتَارَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا تَأْوِيلًا وَاحِدًا فَيُقَالُ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا افْتَتَحَ السُّوَرَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِرَادَةً مِنْهُ لِلدَّلَالَةِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَتَكُونُ هَذِهِ الْحُرُوفُ جَامِعَةً لِأَنْ تَكُونَ افْتِتَاحًا وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَضَعَهَا هَذَا الْوَضْعَ فَسَمَّى بِهَا وَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي آجَالِ قَوْمٍ وَأَرْزَاقِ آخَرِينَ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ وَمَجْدِهِ وَأَنَّ الِافْتِتَاحَ بِهَا سَبَبٌ لِأَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ وَأَنَّ فِيهَا إِعْلَامًا لِلْعَرَبِ أَنَّ الْقُرْآنَ الدَّالَّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَنَّ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ نُزُولِهِ بِالْحُرُوفِ الْمُتَعَالِمَةِ بَيْنَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَجُحُودِهِمْ وَأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْهَا إِذَا وَقَعَ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ فَهُوَ اسْمٌ لِتِلْكَ السُّورَةِ قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ الْجَامِعُ لِلتَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الْعَاشِرُ: أَنَّهَا كَالْمُهَيِّجَةِ لِمَنْ سَمِعَهَا مِنَ الْفُصَحَاءِ وَالْمُوقِظَةِ لِلْهِمَمِ الرَّاقِدَةِ مِنَ الْبُلَغَاءِ لِطَلَبِ التَّسَاجُلِ والأخذ في التفاصيل وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ زَمْجَرَةِ الرَّعْدِ قِبَلَ النَّاظِرِ فِي الْأَعْلَامِ لِتَعْرِفَ الْأَرْضُ فَضْلَ الْغَمَامِ وَتَحَفَظَ مَا أُفِيضَ عَلَيْهَا مِنَ الْإِنْعَامِ وَمَا هَذَا شَأْنُهُ خَلِيقٌ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهِ بَعْدَ حِفْظِ مَبَانِيهِ الْحَادِيَ عَشَرَ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تِعْدَادَ هَذِهِ الْحُرُوفِ مِمَّنْ لَمْ يُمَارِسِ الْخَطَّ وَلَمْ يُعَانِ الطَّرِيقَةَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} الثَّانِيَ عَشَرَ: انْحِصَارُهَا فِي نِصْفِ أَسْمَاءِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ لِأَنَّهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى مَنْ عَدَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا وَقَالَ لَا مُرَكَّبَةٌ مِنَ اللَّامِ وَالْأَلِفِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا وَالنُّطْقُ بِلَا فِي الْهِجَاءِ كَالنُّطْقِ فِي لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاضِعَ جَعَلَ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ صَدْرَ اسْمِهِ إِلَّا الْأَلِفَ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُبْتَدَأَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَطْبُوعًا عَلَى السُّكُونِ فَلَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ أَصْلًا تُوِصِّلَ إِلَيْهِ بِاللَّامِ لِأَنَّهَا شَابَهَتْهُ فِي الِاعْتِدَادِ وَالِانْتِصَابِ وَلِذَلِكَ يُكْتَبُ عَلَى صُورَةِ الْأَلِفِ إِلَّا إِذَا اتَّصَلَ بِمَا بَعْدَهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ اسْمُ الْأَلِفِ فِي أَوَّلِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ قُلْتُ ذَلِكَ اسْمُ الْهَمْزَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صَدْرُهُ وَالثَّانِي أنتها صَدْرُ مَا تَصَدَّرَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ لِتَكُونَ صُورَتُهُ ثَلَاثًا وَإِنَّمَا كَانَتْ صَدْرَهُ لِأَنَّ صُورَتَهَا كَالْمُتَكَرِّرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهَا تَلْبَسُ صُورَةَ الْعَيْنِ وَصُورَةَ الْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ لِمَا يَعْرِضُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَلِذَلِكَ أَخَّرُوا مَا بَعْدَ الطَّاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وَالظَّاءِ وَالْعَيْنِ لِأَنَّ صُورَتَهَا لَيْسَتْ مُتَكَرِّرَةً وَجَوَابُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَرْفَ لَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ فَيَتَعَيَّنُ سُقُوطُ حَرْفٍ لِأَنَّهُ الْأَلْيَقُ بِالْإِيجَازِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: مَجِيئُهَا فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً بِعَدَدِ الْحُرُوفِ فَإِنْ قُلْتَ هَلَّا رُوعِيَ صُورَتُهَا كَمَا رُوعِيَ عَدَدُهَا قُلْتُ عُرِضَ لِبَعْضِهَا الثِّقَلُ لَفْظًا فَأُهْمِلَ. فَصْلٌ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ ضَرُورِيَّةً فِي النُّطْقِ وَاجِبَةً فِي الْهِجَاءِ لَازِمَةَ التَّقَدُّمِ فِي الْخَطِّ وَالنُّطْقِ إِذِ الْمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ فَقُدِّمَتْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتُ عَلَى مُرَكَّبَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ فَلَيْسَ فِي الْمُفْرَدِ مَا فِي الْمُرَكَّبِ بَلْ فِي الْمُرَكَّبِ مَا فِي الْمُفْرَدِ وَزِيَادَةٌ وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ بَاقِيًا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حُرُوفَهُ كَالْعَلَائِمِ مُبَيِّنَةً أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ مِنْ قَبِيلِ تِلْكَ الَّتِي أُنْزِلَتْ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ مَثَلًا حَتَّى كَأَنَّهَا تَتِمَّةٌ لَهَا وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُدَّةٌ وَأَمَّا نُزُولُ ذَلِكَ فِي مُدَدٍ وَأَزْمِنَةٍ أَوْ نُزُولُ سُوَرٍ خَالِيَةٍ عَنِ الْحُرُوفِ فَبِحَسَبِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَأَمَّا تَرْتِيبُ وَضْعِهَا فِي الْمُصْحَفِ أَعْنِي السُّوَرَ فَلَهُ أَسْبَابٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّوْعِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَأَمَّا زِيَادَةُ بَعْضِ الْحُرُوفِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ وَتَغْيِير بَعْضِهَا فَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِعْلَامُ بِالْحُرُوفِ فَقَطْ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى فَرَضَ الْإِنْسَانُ فِي بَعْضِهَا شَيْئًا مِثْلَ {الم} السَّجْدَةِ لَزِمَهُ فِي مِثْلِهَا مِثْلُهُ كألف لَامْ مِيمْ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ دَلَّهُ ذَلِكَ الثَّانِي عَلَى بُطْلَانِ الْأَوَّلِ وَتَحَقَّقَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِيَ عَلَامَاتُ الْمَكْتُوبِ وَالْمَنْطُوقِ وَأَمَّا كَوْنُهَا اخْتَصَّتْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى السُّوَرِ وَأَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى جُمْلَةِ الْمَنْطُوقِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ وَلِهَذَا حَصَلَتْ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً بِعَدَدِ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ وَلَوْ كَانَ الْقَصْدُ الِاحْتِوَاءَ عَلَى نِصْفِ الْكِتَابِ لَجَاءَتْ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً وَهَذَا الِاحْتِوَاءُ لَيْسَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مِنْ وَجْهٍ يَرْجِعُ إِلَى النُّطْقِ وَالْفَصَاحَةِ وَتَرْكِيبِ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا يَقْتَضِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ التَّعْجِيزُ وَيَحْتَمِلُ لِأَنْ يَكُونَ لَمَعَانٍ أُخَرَ يَجِدُهَا مَنْ يَفْتَحِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ أَوْ هِبَةً مِنْ لَدُنْهُ سُبْحَانَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي بَقِيَّةِ السُّوَرِ أَيْضًا كَمَا فِي ذَوَاتِ الْحُرُوفِ بَلْ هَذِهِ خُصِّصَتْ بِعَلَامَاتٍ لِفَضِيلَةٍ وَجَبَ مِنْ أَجْلِهَا أَنْ تُعْلَمَ عَلَيْهَا السُّوَرُ لِيُنَبِّهَ عَلَى فَضْلِهَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاحْتِمَالِ وَالْأَوْلَى أَنَّ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً لِتَكُونَ عِدَّةُ السُّوَرِ دَالَّةً لَنَا عَلَى عِدَّةِ الْحُرُوفِ فَتَكُونَ السُّوَرُ مِنْ جِهَةِ الْعِدَّةِ مُؤَدِّيَةً إِلَى الْحُرُوفِ مِنْ جِهَةِ الْعِدَّةِ فَيُعْلَمَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ عِوَضٌ عَنْ تِسْعَةٍ وعشرين 3ـ الاستفتاح بالنداء النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ اسْتِفْتَاحِ السُّوَرِ النِّدَاءُ نَحْوُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {يَا أَيُّهَا النبي} {يا أيها المدثر} وذلك في عشر سور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 4ـ الاستفتاح بالجمل الخبرية الرَّابِعُ: الْجُمَلُ الْخَبَرِيَّةُ نَحْوُ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} {براءة من الله} {أتى أمر الله} {اقترب للناس حسابهم} {قد أفلح المؤمنون} {سورة أنزلناها} {تنزيل الكتاب} {الذين كفروا} {إنا فتحنا} {اقتربت الساعة} {الرحمن علم القرآن} {قد سمع الله} {الحاقة} {سأل سائل} {إنا أرسلنا} {لا أقسم} في موضعين {عبس} {إنا أنزلناه} {لم يكن} {القارعة} {ألهاكم} {إنا أعطيناك} فتلك ثلاث وعشرون سورة 5ـ الاستفتاح بالقسم الْخَامِسُ الْقَسَمُ نَحْوُ {وَالصَّافَّاتِ} {وَالذَّارِيَاتِ} {وَالطُّورِ} {وَالنَّجْمِ} {وَالْمُرْسَلَاتِ} {وَالنَّازِعَاتِ} {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَالْفَجْرِ} {وَالشَّمْسِ} {وَاللَّيْلِ} {وَالضُّحَى} {وَالتِّينِ} {وَالْعَادِيَاتِ} {وَالْعَصْرِ} فتلك خمس عشرة سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 6ـ الاستفتاح بالشرط السَّادِسُ: الشَّرْطُ نَحْوُ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} {إِذَا زُلْزِلَتِ} {إِذَا جاء نصر الله} فذلك سبع سور 7ـ الاستفتاح بالأمر االسَّابِعُ الِاسْتِفْتَاحُ بِالْأَمْرِ فِي سِتِّ سُوَرٍ {قُلْ أوحي} {اقرأ باسم ربك} {قل يا أيها الْكَافِرُونَ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {قُلْ أَعُوذُ} في سورتين 8ـ الاستفتاح بالاستفهام الثامن لفظ الاستفهام في {هل أتى} {عم يتساءلون} {هل أتاك} {ألم نشرح} {ألم تر} {أرأيت} فتلك ست سور 9ـ الاستفتاح بالدعاء التَّاسِعُ الدُّعَاءُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 10 ـ الاستفتاح بالتعليل الْعَاشِرُ التَّعْلِيلُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ نَحْوِ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} هَكَذَا جَمَعَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ قَالَ وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِسْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الدُّعَاءِ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ الْخَبَرِ وَكَذَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلُّهُ خَبَرٌ إِلَّا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فَإِنَّهُ يَدْخُلُ أَيْضًا فِي قِسْمِ الْأَمْرِ وَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بعبده} يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ وَنُظِمَ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِثُبُو ... تِ الْمَدْحِ وَالسَّلْبِ لَمَّا اسْتَفْتَحَ السُّوَرَا وَالْأَمْرُ شَرْطُ الندا التعليل والقسم الدعا حُرُوفُ التَّهَجِّي اسْتَفْهِمِ الْخَبَرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 النَّوْعُ الثَّامِنُ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ وَهِيَ مِثْلُ الْفَوَاتِحِ فِي الْحُسْنِ لِأَنَّهَا آخِرُ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ فَلِهَذَا جَاءَتْ مُتَضَمِّنَةً لِلْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ مَعَ إِيذَانِ السَّامِعِ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ حَتَّى يَرْتَفِعَ مَعَهُ تَشَوُّفُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُذْكَرُ بَعْدُ وَمِنْ أَوْضَحِهِ خَاتِمَةُ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} وَخَاتِمَةُ سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا القوم الفاسقون} وَلِأَنَّهَا بَيْنَ أَدْعِيَةٍ وَوَصَايَا وَفَرَائِضَ وَمَوَاعِظَ وَتَحْمِيدٍ وَتَهْلِيلٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَتَفْصِيلِ جُمْلَةِ الْمَطْلُوبِ فِي خَاتِمَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إِذِ الْمَطْلُوبُ الْأَعْلَى الْإِيمَانُ الْمَحْفُوظُ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُسَبِّبَةِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَالضَّلَالِ فَفَصَّلَ جُمْلَةَ ذَلِكَ بُقُولِهِ {الذين أنعمت عليهم} وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْإِنْعَامَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ ليتناول كل إنعام لأن من أنعم عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِكُلِّ نِعْمَةٍ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ مُسْتَتْبِعَةٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضالين} يعني أنهم جمعوا بين النعمة الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ السَّلَامَةِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَالضَّلَالِ الْمُسَبَّبَيْنِ عَنْ مَعَاصِيهِ وَتَعَدِّي حدوده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَكَالدُّعَاءِ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سورة البقرة وَكَالْوَصَايَا الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ بِالصَّبْرِ عَلَى تَكَالِيفِ الدِّينِ وَالْمُصَابَرَةِ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ وَمُعَاقَبَتِهِمْ وَالصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْحَرْبِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي الْغَزْوِ الْمَحْضُوضِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَالتَّقْوَى الْمَوْعُودِ عَلَيْهَا بِالتَّوْفِيقِ فِي الْمَضَايِقِ وَسُهُولَةِ الرِّزْقِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ، وَبِالْفَلَاحِ لِأَنَّ {لَعَلَّ} مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَكَالْوَصَايَا والفرائض التي ختمت بها سورة النساء وَحَسُنَ الْخَتْمُ بِهَا لِأَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْمَائِدَةِ {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} وَلِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْظِيمِ اخْتُيرَتْ مَا عَلَى مَنْ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا وَكَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِ الْعِقَابِ بِالسُّرْعَةِ وَتَوْكِيدِ الرَّحْمَةِ بِالْكَلَامِ الْمُفِيدِ لِتَحْقِيقِ الوقوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وَكَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْعِبَادَةِ بِوَصْفِ حَالِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِي ختمت به سورة الأعراف وَالْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ الَّذِي خَتَمَ به الأنفال وَوَصْفِ الرَّسُولِ وَمَدْحِهِ وَالِاعْتِدَادِ عَلَى الْأُمَمِ بِهِ وَتَسْلِيمِهِ وَوَصَّيْتِهِ وَالتَّهْلِيلِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ بَرَاءَةٌ وَتَسْلِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي خَتَمَ بِهَا سورة يونس ومثلها خاتمة هود وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَدْحِهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ سُورَةَ يوسف وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ الَّذِي خَتَمَ به الرعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَمَدْحِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ فَائِدَتِهِ وَالْعِلَّةِ فِي أَنَّهُ إله واحد الذي ختمت به إبراهيم ووصيته الرسول التي ختم بها الحجر وَتَسْلِيَةُ الرَّسُولِ بِطُمَأْنِينَتِهِ وَوَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي ختمت به النحل والتحميد الذي ختمت به سبحان وَتَحْضِيضِ الرَّسُولِ عَلَى الْبَلَاغِ وَالْإِقْرَارِ بِالتَّنْزِيهِ وَالْأَمْرِ بالتوحيد الذي ختمت به الكهف وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى نِصْفِ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ مِثَالًا لمن نظر في بقيته فصل: في مناسبة فواتح السور وخواتمها وَمِنْ أَسْرَارِهِ مُنَاسَبَةُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ وَخَوَاتِمِهَا وَتَأَمُّلْ سُورَةَ الْقَصَصِ وَبُدَاءَتِهَا بِقِصَّةِ مَبْدَأِ أَمْرِ مُوسَى ونصرته وقوله: {فلن أكون ظهيرا للمجرمين} وَخُرُوجِهِ مِنْ وَطَنِهِ وَنُصْرَتِهِ وَإِسْعَافِهِ بِالْمُكَالَمَةِ وَخَتْمِهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلَّا يكون ظهيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 لِلْكَافِرِينَ وَتَسْلِيَتِهِ بِخُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ وَالْوَعْدِ بِعَوْدِهِ إليها بقوله {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى معاد} قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فَاتِحَةَ سُورَةِ المؤمنين: {قد أفلح الْمُؤْمِنُونَ} وَأَوْرَدَ فِي خَاتِمَتِهَا: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكافرون} فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة فصل: في مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها وَمِنْ أَسْرَارِهِ مُنَاسَبَةُ فَاتِحَةِ السُّورَةِ بِخَاتِمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حَتَّى إِنَّ مِنْهَا مَا يُظْهِرُ تَعَلُّقُهَا بِهِ لَفْظًا كَمَا قِيلَ فِي {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكول} {لإيلاف قُرَيْشٍ} وَفِي الْكَوَاشِيِّ لَمَّا خَتَمَ سُورَةَ النِّسَاءِ آمِرًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ أَكَّدَ ذَلِكَ بقوله في أول سورة المائدة {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 النَّوْعُ التَّاسِعُ: مَعْرِفَةُ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَمَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَتَرْتِيبِ ذَلِكَ وَمِنْ فَوَائِدِهِ مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْمَكِّيُّ أَكْثَرُ مِنَ الْمَدَنِيِّ اعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ اصْطِلَاحَاتٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَالْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَالْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا وَقَعَ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدَنِيَّ مَا وَقَعَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الْكُفْرُ فَخُوطِبُوا يأيها النَّاسُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ دَاخِلًا فِيهَا وَكَانَ الغالب على أهل المدينة الإيمان فخوطبوا يأيها الَّذِينَ آمَنُوا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ دَاخِلًا فِيهِمْ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ إِلَّا آيَةً وَهِيَ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فيه إلى الله} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بمنى انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ونزولها هناك لا يخرجها عن المدني بالاصطلاح الثَّانِي أَنَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَدَنِيٌّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً واحدة نزلت في مكة في عثمان ابن طَلْحَةَ حِينَ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ وَيُسَلِّمَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ جُمْلَةِ عَلَامَاتِهِ أن كل سورة فيها يأيها الناس وليس فيها يأيها الَّذِينَ آمَنُوا فَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَفِي الْحَجِّ اخْتِلَافٌ وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا كَلَّا فَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا حُرُوفُ الْمُعْجَمِ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا البقرة وآل عِمْرَانَ وَفِي الرَّعْدِ خِلَافٌ وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى الْبَقَرَةِ وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ فَمَدَنِيَّةٌ سِوَى الْعَنْكَبُوتِ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ كُلُّ سُورَةٍ ذُكِرَتْ فِيهَا الْحُدُودُ وَالْفَرَائِضُ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي بِإِسْنَادِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ قَالَ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَمَا نَزَلَ فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَهُوَ مِنَ الْمَكِّيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَهُوَ مِنَ الْمَدَنِيِّ وَمَا كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ يأيها الذين آمنوا فهو مدني وما كان يأيها النَّاسُ فَهُوَ مَكِّيٌّ وَذَكَرَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إِلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ مَا كَانَ مِنْ حَدٍّ أَوْ فَرِيضَةٍ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ وَالْعَذَابِ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ بِمَكَّةَ وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ لِمَعْرِفَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ طَرِيقَانِ سَمَاعِيٌّ وَقِيَاسِيٌّ فَالسَّمَاعِيُّ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا نُزُولُهُ بِأَحَدِهِمَا وَالْقِيَاسِيُّ قَالَ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ كل سورة فيها يأيها النَّاسُ فَقَطْ أَوْ كَلَّا أَوْ أَوَّلُهَا حُرُوفُ تهج سوى الزهراوين والرعد فِي وَجْهٍ أَوْ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ سِوَى الطُّولَى فَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَكِّيَّةٌ وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا فَرِيضَةٌ أَوْ حَدٌّ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ انْتَهَى وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ نزل فيه يأيها النَّاسُ فَهُوَ بِمَكَّةَ وَكُلُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ بِالْمَدِينَةِ وَهَذَا مُرْسَلٌ قَدْ أُسْنِدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْهِجْرَةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْأَعْمَشِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِهِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي أَوَاخِرَ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَكَذَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ ثُمَّ قَالَ وَهَذَا يَرْوِيهِ غَيْرُ قَيْسٍ عَنْ عَلْقَمَةَ مُرْسَلًا وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ إِلَّا قَيْسٌ انْتَهَى وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ أَخَذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ وَفِيهَا: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} وفيها {يا أيها النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وسورة النساء مدنية وفيها: {يا أيها الناس اتقوا ربكم} وفيها: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس} وسورة الحج مكية وفيها: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} فَإِنْ أَرَادَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْغَالِبَ ذَلِكَ فَهُوَ صَحِيحٌ وَلِذَا قَالَ مَكِّيٌّ: هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَكْثَرِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ وَفِي كثير من السور المكية {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا} انْتَهَى وَالْأَقْرَبُ تَنْزِيلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَكِّيٌّ وَمَدَّنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ الْمَقْصُودُ بِهِ أَوْ جُلُّ الْمَقْصُودِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفِي تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ أَنَّ ما في القرآن يأيها الناس مكي وما كان يأيها الَّذِينَ آمَنُوا فَبِالْمَدِينَةِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ إِنْ كَانَ الرُّجُوعُ فِي هَذَا إِلَى النَّقْلِ فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ حُصُولَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ دُونَ مَكَّةَ فَضَعِيفٌ إِذْ يَجُوزُ خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَتِهِمْ وَاسْمِهِمْ وَجِنْسِهِمْ وَيُؤْمَرُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِبَادَةِ كَمَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُونَ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا والازدياد منها انتهى فصل ويقع السؤال أَنَّهُ هَلْ نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: فِي الِانْتِصَارِ إِنَّمَا هَذَا يَرْجِعُ لِحِفْظِ الصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ مِنْ مَعْرِفَةِ مُعَظِّمِي الْعَالِمِ وَالْخَطِيبِ وَأَهْلِ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ كَلَامِهِ وَمَعْرِفَةِ كُتُبِهِ وَمُصَنَّفَاتِهِ مِنْ أَنْ يَعْرِفُوا مَا صَنَّفَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَحَالُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ أَمْثَلُ وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ أَشَدُّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ وَلَا وَرَدَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ اعْلَمُوا أَنَّ قدر ما نزل بِمَكَّةَ كَذَا وَبِالْمَدِينَةِ كَذَا وَفَصَّلَهُ لَهُمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لَظَهَرَ وَانْتَشَرَ وَإِنَّمَا لَمْ يفعله أنه لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ الْأُمَّةِ وَإِنْ وَجَبَ فِي بَعْضِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرِفَةُ تَارِيخِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُمَا فَقَدْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصِّ الرَّسُولِ بِعَيْنِهِ وَقَوْلُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ الْمَكِّيُّ وَهَذَا هُوَ الْآخِرُ الْمَدَنِيُّ وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَبِرُوا أَنَّ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ تَفْصِيلَ جَمِيعِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِمَّا لَا يَسُوغُ الْجَهْلُ بِهِ لَمْ تَتَوَفَّرِ الدَّوَاعِي عَلَى إِخْبَارِهِمْ بِهِ وَمُوَاصَلَةِ ذِكْرِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَعْرِفَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَاغَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ مَكِّيٌّ أَوْ مَدَنِيٌّ وَأَنْ يعلموا فِي الْقَوْلِ بِذَلِكَ ضَرْبًا مِنَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَلْزَمِ النَّقْلَ عَنْهُمْ ذِكْرُ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ آيَةٍ أُنْزِلَتْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ مَكِّيَّةً أَوْ مَدَنِيَّةً فَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ فِي ذَلِكَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَطَلَ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ وُجُوبِ نَقْلِ هَذَا أَوْ شُهْرَتِهِ فِي النَّاسِ وَلُزُومِ الْعِلْمِ بِهِ لَهُمْ وَوُجُوبِ ارْتِفَاعِ الْخِلَافِ فِيهِ فَصْلٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ عُلُومِ الْقُرْآنِ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِ الْقُرْآنِ عِلْمُ نُزُولِهِ وَجِهَاتِهِ وَتَرْتِيبِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ ابْتِدَاءً وَوَسَطًا وَانْتِهَاءً وَتَرْتِيبِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ كَذَلِكَ ثُمَّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَحُكْمُهُ مَدَنِيٌّ وَمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَحُكْمُهُ مَكِّيٌّ وَمَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ مَا يُشْبِهُ نُزُولَ الْمَكِّيِّ فِي الْمَدَنِيِّ وَمَا يُشْبِهُ نُزُولَ الْمَدَنِيِّ فِي الْمَكِّيِّ ثُمَّ مَا نَزَلَ بِالْجُحْفَةِ وَمَا نَزَلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا نَزَلَ بِالطَّائِفِ وَمَا نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ مَا نَزَلَ لَيْلًا وَمَا نَزَلَ نَهَارًا وَمَا نَزَلَ مُشَيَّعًا وَمَا نَزَلَ مُفْرَدًا ثُمَّ الْآيَاتِ الْمُدْنِيَاتِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ ثُمَّ مَا حُمِلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَا حُمِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمَا حُمِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ثُمَّ مَا نَزَلَ مُجْمَلًا وَمَا نَزَلَ مُفَسَّرًا وَمَا نَزَلَ مَرْمُوزًا ثُمَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَدَنِيٌّ هَذِهِ خَمْسَةُ وَعِشْرُونَ وَجْهًا مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَيُمَيِّزْ بَيْنَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ ثُمَّ تَرْتِيبُهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ثُمَّ {ن وَالْقَلَمِ} ثُمَّ {يا أيها المزمل} ثم {يا أيها الْمُدَّثِّرُ} ثُمَّ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ثُمَّ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ثُمَّ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ثُمَّ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ثُمَّ {وَالْفَجْرِ} ثُمَّ {وَالضُّحَى} ثُمَّ {أَلَمْ نَشْرَحْ} ثُمَّ {وَالْعَصْرِ} ثُمَّ {وَالْعَادِيَاتِ} ثُمَّ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ثُمَّ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ثُمَّ {أَرَأَيْتَ الَّذِي} ثُمَّ {قُلْ يا أيها الْكَافِرُونَ} ثُمَّ سُورَةُ الْفِيلِ ثُمَّ الْفَلَقِ ثُمَّ النَّاسِ ثُمَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثُمَّ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ثُمَّ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} ثُمَّ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ثُمَّ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ثُمَّ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ثُمَّ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ثُمَّ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} ثُمَّ {الْقَارِعَةِ} ثُمَّ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثُمَّ الْهُمَزَةِ ثُمَّ الْمُرْسَلَاتِ ثُمَّ {ق وَالْقُرْآنِ} ثُمَّ {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ثُمَّ الطَّارِقِ ثُمَّ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} ثُمَّ {ص وَالْقُرْآنِ} ثُمَّ الْأَعْرَافِ ثُمَّ الْجِنِّ ثُمَّ {يس} ثُمَّ الْفُرْقَانِ ثُمَّ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ مَرْيَمَ ثُمَّ طه ثُمَّ الْوَاقِعَةِ ثُمَّ الشُّعَرَاءِ ثُمَّ النَّمْلِ ثُمَّ الْقَصَصِ ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ يُونُسَ ثُمَّ هُودٍ ثُمَّ يُوسُفَ ثُمَّ الْحِجْرِ ثُمَّ الْأَنْعَامِ ثُمَّ الصَّافَّاتِ ثُمَّ لُقْمَانَ ثُمَّ سَبَأٍ ثُمَّ الزُّمَرِ ثُمَّ حم الْمُؤْمِنِ ثُمَّ حم السَّجْدَةِ ثُمَّ حم عسق ثُمَّ حم الزُّخْرُفِ ثُمَّ حم الدُّخَانِ ثُمَّ حم الْجَاثِيَةِ ثُمَّ حم الْأَحْقَافِ ثُمَّ وَالذَّارِيَاتِ ثُمَّ الْغَاشِيَةِ ثُمَّ الْكَهْفِ ثُمَّ النَّحْلِ ثُمَّ نُوحٍ ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ {الم تَنْزِيلُ} ثُمَّ {وَالطُّورِ} ثُمَّ الْمُلْكِ ثُمَّ {الْحَاقَّةُ} ثُمَّ {سَأَلَ سَائِلٌ} ثُمَّ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ثُمَّ {وَالنَّازِعَاتِ} ثُمَّ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ثُمَّ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ثم الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَقَالَ ابن عباس الْعَنْكَبُوتِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ الْمُؤْمِنُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فَهَذَا تَرْتِيبُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّتِ الرِّوَايَةُ مِنَ الثِّقَاتِ وَهِيَ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سُورَةً ذِكْرُ تَرْتِيبِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً فَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِيهَا سُورَةُ الْبَقَرَةِ ثُمَّ الْأَنْفَالِ ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ الْأَحْزَابِ ثُمَّ الْمُمْتَحِنَةِ ثُمَّ النِّسَاءِ ثُمَّ {إِذَا زُلْزِلَتْ} ثُمَّ الْحَدِيدِ ثُمَّ مُحَمَّدٍ ثُمَّ الرَّعْدِ ثُمَّ الرَّحْمَنِ ثُمَّ {هَلْ أَتَى} ثُمَّ الطَّلَاقِ ثُمَّ {لَمْ يَكُنْ} ثُمَّ الْحَشْرِ ثُمَّ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} ثُمَّ النُّورِ ثُمَّ الْحَجِّ ثُمَّ الْمُنَافِقُونَ ثُمَّ المجادلة ثم الحجرات ثم {يا أيها النبي لم تحرم} ثُمَّ الصَّفِّ ثُمَّ الْجُمُعَةِ ثُمَّ التَّغَابُنِ ثُمَّ الْفَتْحِ ثُمَّ التَّوْبَةِ ثُمَّ الْمَائِدَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْمَائِدَةِ عَلَى التَّوْبَةِ: "وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم المائدة في خطبة حجة الوداع وقال يأيها النَّاسُ إِنَّ آخِرَ الْقُرْآنِ نُزُولًا سُورَةُ الْمَائِدَةِ فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا" فَهَذَا تَرْتِيبُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَدَنِيَّةٌ وَاخْتَلَفُوا فِي: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَدَنِيَّةٌ وَقَالَ عَطَاءٌ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَجَمِيعُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سُورَةً وَجَمِيعُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً عَلَى اختلاف الروايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ذكر مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَحُكْمُهُ مَدَنِيٌّ مِنْهَا قَوْلُهُ تعالى {يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شعوبا وقبائل} الْآيَةَ وَلَهَا قِصَّةٌ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ وَنُزُولُهَا بِمَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْمَائِدَةِ {الْيَوْمَ أكملت لكم دينكم} إلى قوله {الخاسرين} نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةَ وَالنَّاسُ وُقُوفٌ بِعَرَفَاتٍ فَبَرَكَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَيْبَةِ الْقُرْآنِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ لِنُزُولِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَهِيَ عِدَّةُ آيَاتٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا ذِكْرُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَحِكَمُهُ مَكِّيٌّ مِنْهُ الْمُمْتَحِنَةِ إِلَى آخِرِهَا وَهِيَ قِصَّةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَسَارَةَ وَالْكِتَابِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهَا وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ فَخَاطَبَ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ من بعد ما ظلموا} إِلَى آخَرَ السُّورَةِ مَدَنِيَّاتٌ يُخَاطِبُ بِهَا أَهْلَ مكة ومنها سورة الرعد يخاطب أَهْلَ مَكَّةَ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ومن أول براءة إلى قوله: {إنما المشركون نجس} خِطَابٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وحكمه مدني وما أنزل فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَحُكْمُهُ مَكِّيٌّ مَا يُشْبِهُ تَنْزِيلَ الْمَدِينَةِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّجْمِ {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأثم} يعني كل ذنب عاقبته النار {والفواحش} يَعْنِي كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ حَدٌّ {إِلَّا اللَّمَمَ} وَهُوَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ مِنَ الذُّنُوبِ نَزَلَتْ فِي نَبْهَانَ وَالْمَرْأَةِ الَّتِي رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وَاسْتَقَرَّتِ الرِّوَايَةُ بِمَا قُلْنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ حَدٌّ وَلَا غَزْوٌ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هُودٍ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أبي مقبل الحسين بْنِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ وَالْمَرْأَةِ الَّتِي اشْتَرَتْ مِنْهُ التَّمْرَ فَرَاوَدَهَا مَا يُشْبِهُ تَنْزِيلَ مَكَّةَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا} نزلت في نصارى نجران ومنهم السيد والعاقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ومنها سورة {والعاديات ضبحا} فِي رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْفَالِ {وَإِذْ قَالُوا اللهم إن كان هذا هو الحق} الْآيَةَ مَا نَزَلَ بِالْجُحْفَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لرادك إلى معاد} نَزَلَتْ بِالْجُحْفَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرٌ مَا نَزَلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الزُّخْرُفِ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يعبدون} نَزَلَتْ عَلَيْهِ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ مَا نَزَلَ بِالطَّائِفِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْفُرْقَانِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الْآيَةَ وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ وَقَوْلُهُ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يوعون فبشرهم بعذاب أليم} يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ مَا نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرَّعْدِ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " اكْتُبْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَتَابَعْنَاكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وهم يكفرون بالرحمن} إلى قوله {متاب} مَا نَزَلَ لَيْلًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَوَّلِ سورة الحج {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عظيم} نَزَلَتْ لَيْلًا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ وَالنَّاسُ يَسِيرُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى في المائدة: {والله يعصمك من الناس} نَزَلَتْ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ فَأَتَاهُ حُذَيْفَةُ وَسَعْدٌ فِي آخَرِينَ مَعَهُمُ الْحَجَفُ وَالسُّيُوفُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْمَةٍ مَنْ أَدَمٍ فَبَاتُوا عَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَ هَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم رأسه من الخيمة فقال: "يأيها النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدَ عَصَمَنِي اللَّهُ" وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {إنك لا تهدي من أحببت} الآية قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ فِي اللِّحَافِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ نَهَارًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 مَا نَزَلَ مُشَيَّعًا سُورَةُ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ طَبَّقُوا مَا بين السموات وَالْأَرْضِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَخَرَّ سَاجِدًا قُلْتُ ذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ جَاءَ مِنْ حديث أبي ابن كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَلَمْ نَرَ لَهُ إِسْنَادًا صَحِيحًا وَقَدْ رُوِيَ مَا يُخَالِفُهُ فَرُوِيَ أَنَّهَا لم ينزل جُمْلَةً وَاحِدَةً بَلْ نَزَلَ مِنْهَا آيَاتٌ بِالْمَدِينَةِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا فَقِيلَ ثَلَاثٌ هِيَ قَوْلُهُ تعالى قل تعالوا إِلَخِ الْآيَاتِ وَقِيلَ سِتٌّ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَسَائِرُهَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَمَانُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَسُورَةُ يُونُسَ نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا نَزَلَتْ وَمَعَهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَسَائِرُ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ بِلَا تَشْيِيعٍ الْآيَاتُ الْمَدَنِيَّاتُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْهَا سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَهِيَ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ خَلَا سِتِّ آيَاتٍ وَاسْتَقَرَّتْ بِذَلِكَ الروايات {وما قدروا الله حق قدره} نَزَلَتْ هَذِهِ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} نزلت في عبد الله بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخِي عُثْمَانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ حِينَ قَالَ: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخر} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اكتب: {فتبارك الله} إلخ الْآيَةَ فَقَالَ إِنْ كُنْتُ نَبِيًّا فَأَنَا نَبِيٌّ لِأَنَّهُ خَطَرَ بِبَالِي مَا أَمْلَيْتَ عَلَيَّ فَلَحِقَ كافرا وأما قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء} فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ حِينَ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ وَثَلَاثُ آيَاتٍ من آخرها: {قل تعالوا} إلى قوله: {تتقون} سورة الأعراف مكية إلا ثلاث آيات: {واسألهم عن القرية التي كانت} إلى قوله: {وإذ نتقنا الجبل} سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي قَتْلَى بَدْرٍ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نعمت الله كفرا} إلخ الآيتين سُورَةُ النَّحْلِ مَكِّيَّةٌ إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا في الله من بعد ما ظلموا} والباقي مدني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك} يَعْنِي ثَقِيفًا وَلَهُ قِصَّةٌ سُورَةُ الْكَهْفِ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} نَزَلَتْ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَلَهُ قِصَّةٌ سُورَةُ الْقَصَصِ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آية: {الذين آتيناهم الكتاب} يَعْنِي الْإِنْجِيلَ: {مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} يَعْنِي الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَسْلَمُوا وَلَهُمْ قِصَّةٌ سُورَةُ الزُّمَرِ مَكِّيَّةٌ غير قوله: {قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ الْحَوَامِيمُ كُلُّهَا مَكِّيَّاتٌ غَيْرَ آيَةٍ فِي الْأَحْقَافِ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} الْآيَاتُ الْمَكِّيَّةُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْفَالِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فيهم} الآية يعني أهل مكة حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ اسْتَقَرَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ سُورَةُ التَّوْبَةِ مَدَنِيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ: {لَقَدْ جاءكم} إِلَخْ السُّورَةِ سُورَةُ الرَّعْدِ مَدَنِيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} إِلَى قوله: {جميعا} سُورَةُ الْحَجِّ مَدَنِيَّةٌ وَفِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ مَكِّيَّاتٌ قَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} إلى قوله: {عقيم} وَلَهُ قِصَّةٌ سُورَةُ: {أَرَأَيْتَ} مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: {فويل للمصلين} إِلَى آخِرِهَا فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ كَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ مَا حُمِلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوَّلُ سُورَةٍ حُمِلَتْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ سُورَةُ يُوسُفَ انْطَلَقَ بِهَا عَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ فِي الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَعَرَضَ عليهم الإسلام فأسلموا وهم أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ قَرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي بَنِي زُرَيْقٍ فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ بُيُوتٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَوَى ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ رومان عن عطاء عن ابن يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ حُمِلَ بَعْدَهَا: {قل هو الله أحد} إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ حُمِلَ بَعْدَهَا الْآيَةَ الَّتِي في الأعراف {قل يا أيها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} إِلَى قوله: {تهتدون} فَأَسْلَمَ عَلَيْهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَهُ قِصَّةٌ مَا حُمِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْأَنْفَالُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الْآيَةَ وَذَلِكَ حِينَ أَوْرَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ كِتَابَ مُسْلِمِي مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَيَّرُونَا قَتْلَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ وَالْأَسَارَى فِي الشَّهْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الْحَرَامِ فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ إِنْ عَيَّرُوكُمْ فَعَيِّرُوهُمْ بِمَا صَنَعُوا بِكُمْ ثُمَّ حُمِلَتْ آيَةُ الرِّبَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فِي حُضُورِ ثَقِيفٍ وَبَنِي الْمُغِيرَةِ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَامِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَكَّةَ فقرأ عتاب عليهم: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} فَأَقَرُّوا بِتَحْرِيمِهِ وَتَابُوا وَأَخَذُوا رُءُوسَ الْأَمْوَالِ ثُمَّ حُمِلَتْ مَعَ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ قَرَأَهُنَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى النَّاسِ وَفِي تَرْتِيبِهَا قِصَّةٌ ثُمَّ حُمِلَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ الْآيَةَ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} إلى قوله: {عفوا غفورا} فَلَا تُعَاقِبُهُمْ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْهِجْرَةِ فَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ قَالَ جُنْدَعُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ ثُمَّ الْجُنْدَعِيُّ لِبَنِيهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا أَلَسْتُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنِّي لَا أَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ فَحَمَلَهُ بَنُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ فَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْتُهُ فَقَالُوا لَوْ لَحِقَ بِنَا لَكَانَ أَكْمَلَ لِأَجْرِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله ورسوله} إلى قوله {غفورا رحيما} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مَا حُمِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ هِيَ سِتُّ آيَاتٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ في خصومة الرهبان والقسيسين: {قل يا أهل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} فَقَرَأَهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمْ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديا ولا نصرانيا} قَالَ النَّجَاشِيُّ صَدَقُوا مَا كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ قَرَأَ جَعْفَرٌ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الْآيَةَ قَالَ النَّجَاشِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي وَلِيٌّ لِأَوْلِيَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: صَدَقُوا وَالْمَسِيحِ ثُمَّ أَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ وَأَسْلَمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَآخِرِ مَا نَزَلَ فَأَمَّا أَوَّلُهُ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ صَلَّى الله عليه وسلم: {اقرأ باسم ربك} ثُمَّ الْمُدَّثِّرِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَرِيحًا وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} وَهُوَ مُخْتَصَرٌ وَفِي الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَقَدْ جَاءَ مَا يُعَارِضُ هَذَا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ جَابِرًا سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ قِصَّةَ بَدْءِ الْوَحْيِ فَسَمِعَ آخِرَهَا وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهَا فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ نَعَمْ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ: {اقْرَأْ} وَفَتْرَةِ الْوَحْيِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: "بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بين السماء والأرض فجثثت منه فرقا فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى {يا أيها المدثر قم فأنذر} فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءٍ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ وَأَخْبَرَ في حديث عائشة أن نُزُولَ: {اقْرَأْ} كَانَ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَهُوَ أَوَّلُ وَحْيٍ ثُمَّ فَتَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الْوَحْيَ تَتَابَعَ بَعْدَ نزول {يا أيها الْمُدَّثِّرُ} فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ: {اقْرَأْ} أَوَّلُ مَا نَزَلَ مُطْلَقًا وَأَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ لَا تَضَادَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَلْ أَوَّلُ مَا نَزَلِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ بِغَارِ حِرَاءٍ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَصَبَّتْ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي بيت خديجة {يا أيها الْمُدَّثِّرُ} فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: {اقْرَأْ} رجع فتدثر فأنزل عليه {يا أيها الْمُدَّثِّرُ} وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا وَذَكَرَ نُزُولَ الْمَلَكِ عَلَيْهِ وَقَوْلَهُ قُلْ {الحمد لله رب العالمين} إِلَى آخِرِهَا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: فِي الِانْتِصَارِ وَهَذَا الْخَبَرُ مُنْقَطِعٌ وَأَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ {اقْرَأْ باسم ربك} ويليه في القوة {يا أيها الْمُدَّثِّرُ} وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأول ما نزل من أوامر التبليغ {يا أيها الْمُدَّثِّرُ} وَأَوَّلَ مَا نَزَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 مِنَ السُّوَرِ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَهَذَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ "أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ" "وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ الدِّمَاءُ" وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَوَّلَ مَا يُحْكَمُ فِيهِ مِنَ الْمَظَالِمِ الَّتِي بَيْنَ الْعِبَادِ الدِّمَاءُ وَأَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الْفَرَائِضِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ وقيل أول ما نزل للرسالة {يا أيها المدثر} وللنبوة {اقرأ باسم ربك} فإن العلماء قالوا قَوْلِهِ تَعَالَى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} دَالٌّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَى الشَّخْصِ عَلَى لسان الملك بتكليف خاص وقوله تعالى {يا أيها المدثر قم فأنذر} دَلِيلٌ عَلَى رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَى الشَّخْصِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ بِتَكْلِيفٍ عَامٍّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الِانْتِصَارِ رِوَايَةَ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ: {اقْرَأْ} ثَلَاثَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ نُوحٍ وَثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ أَوَّلُ سورة أنزلت اقرأ ثم نوح وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهم الجنة} وَرَوَى فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهِ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الْآيَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَأَمَّا آخِرُهُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وَعَنْ عَائِشَةَ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَقِيلَ {وَاتَّقُوا يَوْمًا ترجعون فيه إلى الله} وَقَالَ السُّدِّيُّ آخِرُ مَا نَزَلَ {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في الكلالة} وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ كَامِلَةً سُورَةُ بَرَاءَةٌ وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ النِّسَاءِ وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ثُمَّ قَالَ وَأَخْطَأَ أَبُو إِسْحَاقَ ثُمَّ سَاقَ سَنَدَهُ مِنْ طُرُقٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَوَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا وَقِيلَ تِسْعُ لَيَالٍ انْتَهَى وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} ثُمَّ قَرَأَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ثُمَّ قَرَأَ إلى: {وهو رب العرش العظيم} قَالَ هَذَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَخَتَمَ بِمَا فَتَحَ بِهِ بِالَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا أنا فاعبدون} وَقَالَ بَعْضُهُمْ رَوَى الْبُخَارِيُّ آخِرُ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا وَرَوَى مُسْلِمٌ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ جَمِيعًا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا رُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ قَائِلُهُ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَتَغْلِيبِ الظَّنِّ وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا طَعَنَ بِهِ الطَّاعِنُونَ مِنْ عَدَمِ الضَّبْطِ وَيُحْتَمَلُ أَنًّ كُلًّا مِنْهُمْ أَخْبَرَ عَنْ آخِرِ مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَوْ قَبْلَ مَرَضِهِ بِقَلِيلٍ وَغَيْرُهُ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ هُوَ لِمُفَارَقَتِهِ لَهُ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ بِقُرْآنٍ بَعْدَهُ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ آيَةٍ تَلَاهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَعَهَا فَيُؤْمَرُ بِرَسْمِ ما نزل معها وَتِلَاوَتِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسْمِ مَا نَزَلَ آخِرًا وَتِلَاوَتِهِ فَيَظُنُّ سَامِعُ ذَلِكَ أَنَّهُ آخِرُ مَا نَزَلَ فِي التَّرْتِيبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ عَلَى كَمْ لُغَةٍ نَزَلَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى. إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" زَادَ مُسْلِمٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ وَأَخْرَجَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتِنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسِلْهُ اقْرَأْ فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ" ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ فَقَالَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَفِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكُهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ" وَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا وَلَا حَرَجَ وَلَكِنْ لَا تَخْتِمُوا ذِكْرَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ وَلَا ذِكْرَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ" وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ سَمُرَةَ يَرْفَعُهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِالسَّبْعَةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ أَبُو شَامَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنَّ بَعْضَهُ أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أحرف كحذره والرهب والصدق فَيُقْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ أَرَادَ أُنْزِلَ ابْتِدَاءً على ثلاثة ثم زيد إلى سبعة ومعنى جَمِيعُ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْهُ مَا يُقْرَأُ عَلَى حَرْفَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَكْثَرَ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمَا يُقَارِبُ مَعْنَاهَا وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَأْتِ فِي مَعْنَى هَذَا السَّبْعِ نَصٌّ وَلَا أَثَرٌ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِهَا وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبَسْتِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا وَقَالَ وَقَفْتُ مِنْهَا عَلَى كَثِيرٍ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْقَارِئِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْحَصْرَ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي سَبْعَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْآنَ نَقْرَؤُهَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أَمْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَالُ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَلَى مَا هُوَ الْآنَ هُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ وَهْبٍ وَالطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلِ اسْتَقَرَّ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَرَأَوْا أَنَّ ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَمَشَقَّةِ نُطْقِهِمْ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ اقْتَضَتِ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَأُذِنَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى حَرْفِهِ أَيْ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى أَنِ انْضَبَطَ الْأَمْرُ فِي آخِرِ الْعَهْدِ وَتَدَرَّبَتِ الْأَلْسُنُ وَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْوَاحِدَةِ فَعَارَضَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ الْآخِرَةِ وَاسْتَقَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ فَنَسَخَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْمَأْذُونَ فِيهَا بِمَا أَوْجَبَهُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا النَّاسُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْآتِي مِنْ مُرَاعَاةِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْعَجُوزِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَمِنَ التَّصْرِيحِ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ مثل هلم وتعال القول في القراءات السبع وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَبْعًا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْكَلِمَةَ الْمَنْظُومَةَ حَرْفًا وَتُسَمِّي الْقَصِيدَةَ بِأَسْرِهَا كَلِمَةً وَالْحَرْفُ يَقَعُ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَرْفُ أَيْضًا الْمَعْنَى وَالْجِهَةُ قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النحوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَالثَّانِي وَهُوَ أَضْعَفُهَا أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ وَالْحَرْفُ هَاهُنَا الْقِرَاءَةُ وَقَدْ بَيَّنَ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ إِنَّمَا هُوَ كُلُّهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي كَتَبَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفَ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ قَالَ تَدَبَّرْتُ وُجُوهَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهَا سَبْعَةً مِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ وَلَا يَزُولُ مَعْنَاهُ وَلَا صُورَتُهُ مِثْلُ {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} و: {أطهر لكم} {ويضيق صدري} {ويضيق صدري} وَمِنْهَا مَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ وَيَزُولُ بِالْإِعْرَابِ وَلَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ كَقَوْلِهِ {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وَ {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وَمِنْهَا مَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِالْحُرُوفِ وَاخْتِلَافِهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ كقوله {كيف ننشزها} و {ننشرها} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَلَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ {كالعهن المنفوش} والصوف الْمَنْفُوشِ وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَمَعْنَاهُ مِثْلُ {طلح منضود} وَطَلْعٍ وَمِنْهَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الموت بالحق} وسكرة الْحَقِّ بِالْمَوْتِ وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ مِثْلُ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقِرَاءَةُ ابن مسعود {تسع وتسعون نعجة} أنثى {وأما الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنَ} وَكَانَ كَافِرًا قَالَ أبو عمرو وَجْهٌ حَسَنٌ مِنْ وُجُوهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ قَالَ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ وَالْآخَرُ مِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ {الذكر والأنثى} كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهم فإنك أنت الغفور الرحيم} وَقِرَاءَةُ عُمَرَ {فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْكُلُّ حَقٌّ وَالْمُصْحَفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ مُصْحَفُ عُثْمَانَ وَرَسْمُ الْحُرُوفِ وَاحِدٌ إِلَّا مَا تَنَوَّعَتْ فِيهِ الْمَصَاحِفُ وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا مِثْلُ اللَّهُ الْغَفُورُ وإن اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَالثَّالِثُ: سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْحَائِهِ فَبَعْضُهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَقَصَصٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا قَالَ كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ نَزَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ زَاجِرٌ وَآمِرٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَقُولُوا {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربنا} قَالَ وَهُوَ حَدِيثٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَقَالَ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَلَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ الَّتِي أَجَازَ لَهُمُ الْقِرَاءَةَ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا وَإِنَّمَا الْحَرْفُ فِي هَذِهِ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَالطَّرِيقَةِ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يعبد الله على حرف} وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ رَدَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ مَنْ أَوَّلَهُ بِهَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ مِنْهَا حَرَامًا لَا مَا سِوَاهُ أَوْ يَكُونُ حَلَالًا لَا مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُقْرَأُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ كُلُّهُ أَوْ حَرَامٌ كله أو أمثال كله حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَقَالَ هُوَ كَمَا قَالَهُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذِهِ لَا تُسَمَّى أَحْرُفًا وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ وَلَا تَحْلِيلِ حَرَامٍ وَلَا فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَإِبْدَالِ حَرْفٍ بِحَرْفٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ إِبْدَالِ آيَةِ أَمْثَالٍ بِآيَةِ أَحْكَامٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ هَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ مَسْعُودٍ ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْقَاطِ ابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ سَبْعَةِ أَحْرُفٍ أَيْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللُّغَاتُ الَّتِي أُبِيحَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ لُغَاتٍ لِسَبْعِ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ هَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ أَيْ نَزَلَ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَبَعْضُهُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ تَمِيمٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ أَزْدٍ وَرَبِيعَةَ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ اللُّغَاتِ وَمَعَانِيهَا فِي هَذَا كُلِّهِ وَاحِدَةٌ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبُ وَحَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْقَاضِي أبي بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي التَّهْذِيبِ إِنَّهُ الْمُخْتَارُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُثْمَانَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِكَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدٌ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا نَزَلْ بِلِسَانِهِمْ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شعب الإيمان: إنه الصحيح أي أن الْمُرَادُ اللُّغَاتُ السَّبْعُ الَّتِي هِيَ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَمِعْتُ الْقُرَّاءَ فَوَجَدْتُهُمْ مُتَقَارِبِينَ اقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ قَالَ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ لَكِنْ إِنَّمَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ مُثْبَتَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَحَمَلُوهَا عَنْهُمْ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً فِي اللُّغَةِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ إِنْزَالِهِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي الإمامة وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالُوا لَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ إِلَّا بِلُغَةِ قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قومه} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي الْقُرْآنِ حَرْفًا وَاحِدًا يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ وَغَلَّطَهُ ابن الأنباري بحروف منها: {وعبد الطاغوت} وقوله: {أرسله معنا غدا يرتع ويلعب} وقوله: {باعد بين أسفارنا} وقوله: {بعذاب بئيس} وغير ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ أَنْكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ سَبْعَ لُغَاتٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكِرِ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِ الَّتِي طُبِعَ عَلَيْهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ كِلَاهُمَا قُرَشِيٌّ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمَا وَمُحَالٌ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ عُمَرُ لُغَتَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي تَعْيِينِ السَّبْعِ فَأَكْثَرُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ ذَلِكَ وَقَاعِدَتُهُ قُرَيْشٌ ثُمَّ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتُرْضِعَ فِيهِمْ وَنَشَأَ وَتَرَعْرَعَ وَهُوَ مُخَالِطٌ فِي اللِّسَانِ كِنَانَةَ وَهُذَيْلًا وَثَقِيفًا وَخُزَاعَةَ وَأَسَدًا وَضَبَّةَ وَأَلْفَافَهَا لِقُرْبِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَتَكْرَارِهِمْ عَلَيْهَا ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ تَمِيمًا وَقَيْسًا وَمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ وَسَكَنَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنْ قُلْنَا مِنَ الْأَحْرُفِ لقريش ومنها لكنانة وَلِأَسَدٍ وَهُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ وَضَبَّةَ وَأَلْفَافِهَا وَقَيْسٍ لَكَانَ قَدْ أَتَى عَلَى قَبَائِلِ مُضَرَ فِي قِرَاءَاتٍ سَبْعٍ تَسْتَوْعِبُ اللُّغَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا الْفَصَاحَةُ وَسَلِمَتْ لُغَاتُهَا مِنْ الدَّخَلِ وَيَسَّرَهَا اللَّهُ لِذَلِكَ ليظهر أنه نَبِيِّهِ بِعَجْزِهَا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَيُثْبِتَ سَلَامَتَهَا أَنَّهَا فِي وَسَطِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ وَنَجْدٍ وَتِهَامَةَ فَلَمْ تُفَرِّقْهَا الْأُمَمُ. وَقِيلَ: هَذِهِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ كُلُّهَا فِي مُضَرَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُثْمَانَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ مُضَرَ قَالُوا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِقُرَيْشٍ وَمِنْهَا لِكِنَانَةَ وَمِنْهَا لِأَسَدٍ وَمِنْهَا لِهُذَيْلٍ وَمِنْهَا لِضَبَّةَ وَلِطَابِخَةَ فَهَذِهِ قَبَائِلُ مُضَرَ تَسْتَوْعِبُ سَبْعَ لُغَاتٍ وَتَزِيدُ. قَالَ: أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَنْكَرَ آخَرُونَ كَوْنَ كُلِّ لُغَاتِ مُضَرَ فِي القرآن لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فِيهَا شَوَاذَّ لَا يُقْرَأُ بِهَا مِثْلَ كَشْكَشَةِ قَيْسٍ وَعَنْعَنَةِ تَمِيمٍ فَكَشْكَشَةُ قَيْسٍ يَجْعَلُونَ كَافَ الْمُؤَنَّثِ شِينًا فَيَقُولُونَ فِي: {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سريا} رَبُّشِ تَحْتَشِ وَعَنْعَنَةُ تَمِيمٍ وَيَقُولُونَ فِي أَنْ عَنْ فَيَقْرَءُونَ {فَعَسَى اللَّهُ ((عَنْ)) يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} وَبَعْضُهُمْ يُبْدِلُ السِّينَ تَاءً فَيَقُولُ فِي النَّاسِ النَّاتُ وَهَذِهِ لُغَاتٌ يُرْغَبُ بِالْقُرْآنِ عَنْهَا وَمَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ مَعَارَضٌ بِمَا سَبَقَ أَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ قُرَيْشٍ وَهَذَا أَثْبَتُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ثِقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُ هَلْ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْفِظُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ سَبْعَ مَرَّاتٍ؟ فَيُقَالُ لَهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ تَجْتَمِعُ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ قُلْنَا كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي فِي كُلِّ عَرْضَةٍ بِحَرْفٍ إِلَى أَنْ تَمُرَّ سَبْعَةٌ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِهَوَازِنَ وَثِنْتَانِ لِسَائِرِ النَّاسِ وَالْخَامِسُ: الْمُرَادُ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ نَحْوَ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ وَأَنْظِرْ وَأَخِّرْ وَأَمْهِلْ وَنَحْوِهِ وَكَاللُّغَاتِ الَّتِي فِي أُفٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهَا لُغَاتٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُرَكِّبُ لُغَةً بَعْضَهَا بَعْضًا وَمُحَالٌ أَنْ يُقْرِئَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا بِغَيْرِ لُغَتِهِ وَأُسْنِدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أضاء لهم مشوا فيه} سَعَوْا فِيهِ قَالَ فَهَذَا مَعْنَى السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ وَهْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَفِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْهَا حَرْفٌ واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِنَّمَا هَذِهِ الْأَحْرُفُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَتْ تَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ واحتج ابن عبد البر بحديث سلمان بْنِ صُرَدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَرَأَ أُبَيٌّ آيَةً وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ آيَةً خِلَافَهَا وَقَرَأَ رَجُلٌ آخَرُ خِلَافَهُمَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: " أَلَمْ تَقْرَأْ آيَةَ كَذَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَلَمْ تَقْرَأْ آيَةَ كَذَا فَقَالَ: كُلُّكُمْ مُحْسِنٌ مُجْمِلٌ" وَقَالَ: "يَا أُبَيُّ إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ عَلَى حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ فَقَالَ لِيَ الْمَلَكُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقُلْتُ عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ؟ فَقَالَ عَلَى ثَلَاثَةٍ هَكَذَا حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ ليس فيها إلا شاف قُلْتُ غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْتُ سَمِيعًا حَكِيمًا أَوْ قُلْتُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَوْ قُلْتُ عَزِيزًا حَكِيمًا أَيَّ ذَلِكَ قُلْتُ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا ضَرْبَ الْمَثَلِ لِلْحُرُوفِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مَعَانٍ مُتَّفِقٌ مَفْهُومُهَا مُخْتَلِفٌ مَسْمُوعُهَا لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعْنًى وَضِدُّهُ وَلَا وَجْهَ يُخَالِفُ مَعْنَى وَجْهٍ خِلَافًا يَنْفِيهِ وَيُضَادُّهُ كَالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ الْعَذَابِ وَضِدُّهُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكَرَةَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقْرَأْ عَلَى حَرْفٍ فَقَالَ مِيكَائِيلُ اسْتَزِدْهُ فَقَالَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَالَ مِيكَائِيلُ اسْتَزِدْهُ حَتَّى بَلَغَ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَقَالَ اقْرَأْهُ فَكُلٌّ شَافٍ كَافٍ إِلَّا أَنْ تَخْلِطَ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ وَآيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ نَحْوَ هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَعَجِّلْ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {لِلَّذِينَ آمنوا انظرونا} "أَمْهِلُونَا أَخِّرُونَا ارْقُبُونَا وَ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مشوا فيه} مَرُّوا فِيهِ سَعَوْا فِيهِ قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِلَّا أَنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ هُوَ فِيهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ وَعَلَى هَذَا أهل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ فِي كِتَابِ التَّرْغِيبِ مِنْ جَامِعِهِ قَالَ: قِيلَ لِمَالِكٍ: أَتُرَى أَنْ تَقْرَأَ مِثْلَ مَا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: {فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: جَائِزٌ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" وَمِثْلُ يَعْلَمُونَ وَتَعْلَمُونَ قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى بِاخْتِلَافِهِمْ بَأْسًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ وَلَهُمْ مَصَاحِفُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ فَقَالَ لِي ذَهَبَ وَأَخْبَرَنِي مَالِكٌ قَالَ أَقْرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا: {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ طَعَامُ الْيَتِيمِ فَقَالَ طَعَامُ الْفَاجِرِ فَقُلْتُ لِمَالِكٍ أَتَرَى أَنْ يُقْرَأَ بِذَلِكَ قَالَ نَعَمْ أَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاسِعًا قَالَ: أَبُو عُمَرَ مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يُقْرَأَ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزِ الْقِرَاءَةُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ مَا عَدَا مُصْحَفَ عُثْمَانَ لَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُجْرَى مَجْرَى خَبَرِ الْآحَادِ لَكِنَّهُ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى الْقَطْعِ فِي رَدِّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قَرَأَ فِي صَلَاةٍ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُخَالِفُ الْمُصْحَفَ لَمْ يُصَلَّ وَرَاءَهُ قَالَ وَعُلَمَاءُ مَكِّيُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا شُذُوذًا لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ مِنْهُمُ إلا عثمان وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْهَا إِلَّا حَرْفُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الَّذِي جَمَعَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمَصَاحِفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 السَّادِسُ: أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {أُفٍّ لَكُمْ} فَهَذَا عَلَى سَبْعَةِ أوجه بالنصب والجر والرفع وكل وجه التنوين وَغَيْرِهِ وَسَابِعُهَا: الْجَزْمُ وَمِثْلَ قَوْلِهِ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} وَنَحْوِهِ وَيُحْتَمَلُ فِي الْقُرْآنِ تِسْعَةُ أَوْجُهٍ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْآيَاتِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَجُوزُ فِي حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ كُلِّهَا أَنْ تُقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تَحْتَمِلُ أَنْ تُقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا قَلِيلٌ مِثْلَ {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} و: {تشابه علينا} و {بعذاب بئيس} وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ هَذَا وَقَالَ الشَّيْخُ: شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ وَهَذَا الْمَجْمُوعُ فِي الْمُصْحَفِ هَلْ هُوَ جَمِيعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُقِيمَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا أَوْ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْهَا مَيْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَنَّهُ جَمِيعُهَا وَصَرَّحَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ بَعْدِهِ بِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنْهَا وَمَالَ الشَّيْخُ الشَّاطِبِيُّ إِلَى قَوْلِ الْقَاضِي فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَإِلَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ فِيمَا جَمَعَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالسَّابِعُ: اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ ظَهَرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَبَطَهَا عَنْهُ الْأَئِمَّةُ وَأَثْبَتَهَا عُثْمَانُ وَالصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَأَخْبَرُوا بِصِحَّتِهَا وَإِنَّمَا حَذَفُوا مِنْهَا مَا لَمْ يَثْبُتْ مُتَوَاتِرًا وَأَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا تَارَةً وَأَلْفَاظُهَا أُخْرَى وَلَيْسَتْ مُتَضَادَّةً وَلَا مُنَافِيَةً وَالثَّامِنُ: قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ لِضَرُورَةٍ دَعَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّ ذِي لُغَةٍ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ لُغَتِهِ ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَالْكُتَّابُ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ فَارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَعَادَ مَا يُقْرَأُ بِهِ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَالتَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ عِلْمُ الْقُرْآنِ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْيَاءَ عِلْمُ الْإِثْبَاتِ وَالْإِيجَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} {وإلهكم إله واحد} وَعِلْمُ التَّنْزِيهِ كَقَوْلِهِ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يخلق} ، {ليس كمثله شيء} وعلم صفات الذات كقوله: {ولله العزة} ، {الملك القدوس} وعلم صفات الفعل كقوله: {واعبدوا الله} .: {واتقوا الله} {وأقيموا الصلاة} ، {لا تأكلوا الربا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَعِلْمُ الْعَفْوِ وَالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا الله} {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عذابي هو العذاب الأليم} وَعِلْمُ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وعلم النبوات كقوله: {رسلا مبشرين ومنذرين} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} والإمامات كقوله: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر منكم} {ومن يشاقق الرسول} {كنتم خير أمة} والعاشر: أن المراد به سَبْعَةُ أَشْيَاءَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَالنَّصُّ والمؤول وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَأَقْسَامُهُ حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي بِسَنَدٍ لَهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْحَادِي عَشَرَ: حَكَاهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَذْفُ وَالصِّلَةُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَالْقَلْبُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالتَّكْرَارُ وَالْكِنَايَةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ وَالظَّاهِرُ وَالْغَرِيبُ وَالثَّانِي عَشَرَ: وَحَكَاهُ عَنِ النُّحَاةِ أَنَّهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وَالتَّصْرِيفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَالْإِعْرَابُ وَالْأَقْسَامُ وَجَوَابُهَا وَالْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ وَالتَّصْغِيرُ وَالتَّعْظِيمُ وَاخْتِلَافُ الْأَدَوَاتِ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهَا بِمَعْنًى وَمَا لَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَدَاءِ وَاللَّفْظِ جَمِيعًا وَالثَّالِثَ عَشَرَ: حَكَاهُ عَنِ الْقُرَّاءِ أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ التِّلَاوَةِ وَكَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا مِنْ إِظْهَارٍ وَإِدْغَامٍ وَتَفْخِيمٍ وَتَرْقِيقٍ وَإِمَالَةٍ وَإِشْبَاعٍ وَمَدٍّ وَقَصْرٍ وَتَخْفِيفٍ وَتَلْيِينٍ وَتَشْدِيدٍ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَحَكَاهُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُبَادَلَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَهِيَ الزُّهْدُ وَالْقَنَاعَةُ مَعَ الْيَقِينِ وَالْحَزْمُ وَالْخِدْمَةُ مَعَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ وَالْفُتُوَّةُ مَعَ الْفَقْرِ وَالْمُجَاهَدَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّضَرُّعُ وَالِاسْتِغْفَارُ مَعَ الرِّضَا وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ مَعَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ قِيلَ أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إِلَى الصِّحَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَبْعُ لُغَاتٍ وَالسِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ تَسْهِيلُهُ عَلَى النَّاسِ لِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن للذكر} فَلَوْ كَانَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لَانْعَكَسَ الْمَقْصُودُ قَالَ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ الَّتِي نَتَدَاوَلُهَا الْيَوْمَ غَيْرُ تِلْكَ بَلْ هَذِهِ حُرُوفٌ مِنْ تلك الأحرف السبعة كَانَتْ مَشْهُورَةً وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ لَكِنْ لَمَّا خَافَتِ الصَّحَابَةُ مِنِ اخْتِلَافِ الْقُرْآنِ رَأَوْا جَمْعَهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ تَعَيَّنَ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْرُفِ وَلَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْآنَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَشْبَهُ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ كُلُّ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ بِلُغَتِهِمْ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ مِنَ الْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَالْإِمَالَةِ وَالتَّفْخِيمِ وَالْإِشْمَامِ وَالْهَمْزِ وَالتَّلْيِينِ وَالْمَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ اللُّغَاتِ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجَهٍ مِنْهَا فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّ الْحَرْفَ هُوَ الطَّرَفُ وَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ من يعبد الله على حرف} أَيْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَهُ فِي السَّرَّاءِ دُونَ الضَّرَّاءِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ هِيَ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي قَرَأَهَا الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ الْمُصْحَفِ وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ اخْتِيَارَاتُ أُولَئِكَ الْقُرَّاءِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اخْتَارَ فِيمَا رَوَى وَعَلِمَ وَجْهَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا هُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدَهُ وَالْأَوْلَى وَلَزِمَ طَرِيقَةً مِنْهَا وَرَوَاهَا وَقَرَأَ بِهَا وَاشْتُهِرَتْ عَنْهُ وَنُسِبَتْ إِلَيْهِ فَقِيلَ حَرْفُ نَافِعٍ وَحَرْفُ ابْنِ كَثِيرٍ وَلَمْ يَمْنَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَرْفَ الْآخَرِ وَلَا أَنْكَرَهُ بَلْ سَوَّغَهُ وَحَسَّنَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارَانِ وَأَكْثَرُ وَكُلٌّ صَحِيحٌ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُمْ وَكَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ تَوْسِعَةً مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ إِذْ لَوْ كُلِّفَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَرْكَ لُغَتِهِ والعدول عن عادة نشئوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِمَالَةِ وَالْهَمْزِ وَالتَّلْيِينِ وَالْمَدِّ وَغَيْرِهِ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: "يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأُ كِتَابًا قَطُّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ قَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْزَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أحدها أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي عِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةٍ وَقِيلَ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مَا يُقَدِّرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْزَالَهُ فِي كُلِّ السَّنَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهُرُ وَأَصَحُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ جِهَةِ حَسَّانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَجَعَلَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَحَسَّانُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْأَشْرَسِ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ وَبِالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَبِالثَّالِثِ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ إِظْهَارُ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَفْهَمَ كَلَامَهُ جِبْرِيلَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ عَالٍ مِنَ الْمَكَانِ وَعَلَّمَهُ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ جِبْرِيلُ أَدَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ يَهْبِطُ فِي الْمَكَانِ وَالتَّنْزِيلُ لَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْخَلَعَ مِنْ صُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأَخَذَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَلَكَ انْخَلَعَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَ الرَّسُولُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ الْحَالَيْنِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ حِكَايَةَ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ أَحَدُهَا أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى وَأَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلِ قَافٍ وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مَعَانٍ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْغَزَالِي إِنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ سُتْرَةٌ لمعانيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَعَانِي خَاصَّةً وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} وَالثَّالِثُ: أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَلْقَى عَلَيْهِ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ أُنْزِلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: مَا السِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ قِيلَ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِأَمْرِهِ وأمر من نزل عليه وذلك بإعلان سكان السموات السَّبْعِ أَنَّ هَذَا آخِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِأَشْرَفِ الْأُمَمِ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُ عَلَيْهِمْ وَلَوْلَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا بِسَبَبِ الْوَقَائِعِ لَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ جُمْلَةً فَإِنْ قِيلَ: فِي أَيِّ زَمَانٍ نَزَلَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا بَعْدَ ظُهُورِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ قَبْلَهَا قُلْتُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَهَا وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَوَجْهُ التَّفْخِيمِ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَفَائِدَتُهُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ فَإِنْ قُلْتَ: فَقَوْلُهُ {إِنَّا أنزلناه في ليلة الْقَدْرِ} مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ جُمْلَةً أَمْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَمَا نَزَلَ جُمْلَةً؟ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ قُلْتُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا حَكَمْنَا بِإِنْزَالِهِ فِي الْقَدْرِ وَقَضَائِهِ وَقَدَّرْنَاهُ فِي الْأَزَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْمَاضِي وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْ يَنْزِلُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي إِمَّا لِتَحَقُّقِهِ وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ حَالَ اتِّصَالِهِ بِالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ يَكُونُ الْمُضِيُّ فِي مَعْنَاهُ مُحَقَّقًا لِأَنَّ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا كَانَ بَعْدَ نُزُولِهِ جُمْلَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فَإِنْ قُلْتَ: مَا السِّرُّ فِي نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا وَهَلَّا نَزَلَ جُمْلَةً كَسَائِرِ الْكُتُبِ قُلْتُ هَذَا سُؤَالٌ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَابَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جملة واحدة} ، يَعْنُونَ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرسل فأجابهم الله بِقَوْلِهِ: {كَذَلِكَ} أَيْ أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا {لِنُثَبِّتَ به فؤادك} أَيْ لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ كَانَ أَقْوَى لِلْقَلْبِ وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ وَتَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ الْعَزِيزِ فَحَدَثَ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ وَلِهَذَا كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلام وقيل: معنى {لنثبت به فؤادك} لنحفظه فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ فَفُرِّقَ عَلَيْهِ لِيُيَسَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبًا قَارِئًا فَيُمْكِنُهُ حِفْظُ الْجَمِيعِ إِذَا نُزِّلَ جُمْلَةً فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ فِي الْقُدْرَةِ إِذَا نُزِّلَ جُمْلَةً أَنْ يَحْفَظَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفْعَةً قُلْتُ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ لَازِمَ الْوُقُوعِ وَأَيْضًا فِي الْقُرْآنِ أَجْوِبَةٌ عَنْ أَسْئِلَةٍ فَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَفَرُّقِ النُّزُولِ وَلِأَنَّ بَعْضَهُ مَنْسُوخٌ وَبَعْضَهُ نَاسِخٌ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قِيلَ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى نَبِيٍّ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ وَهُوَ مُوسَى وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ مُفَرَّقًا لِأَنَّهُ أُنْزِلَ غَيْرَ مَكْتُوبٍ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ وَقِيلَ مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ لِأَجْلِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَنَّ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَمِنْهُ مَا هُوَ جَوَابٌ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ أُمُورٍ وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْكَارٌ لِمَا كَانَ انْتَهَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ أَوْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَقِيلَ عَشْرٌ وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهَا عَشْرٌ وَكَانَ كُلَّمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ وَيَقُولُ فِي مُفْتَرِقَاتِ الْآيَاتِ ضَعُوا هَذِهِ فِي سُورَةِ كَذَا وَكَانَ يَعْرِضُهُ جِبْرِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً وَعَامَ مَاتَ مَرَّتَيْنِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَسَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ وَأَنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورُ أَجْلِي وَأَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ كَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاعْتِكَافَ فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يعتكف عشرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 النوع الثاث عَشَرَ: فِي بَيَانِ جَمْعِهِ وَمَنْ حَفِظَهُ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم ... النوع الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي بَيَانِ جَمْعِهِ وَمَنْ حَفِظَهُ من الصحابة رضي الله عنهم جمع القرآن على عهد أبي بكر رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عِنْدَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ بِيَوْمِ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَقَدْ رَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا أَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ وَاجْمَعْهُ قال زيد فو الله لوكلفني نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ التَّوْبَةِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى قُبِضَ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ سُمِعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ فُقِدَتْ آيَةٌ مِنَ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عاهدوا الله عليه} فألحقناها في سورتها وخزبمة الْأَنْصَارِيُّ شَهَادَتُهُ بِشَهَادَتَيْنِ وَقَوْلُ زِيدٍ لَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ لَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ قَدْ سَمِعَهَا وَعَلِمَ مَوْضِعَهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ نَسِيَهَا فَلَمَّا سَمِعَ ذَكَرَهُ وَتَتَبُّعُهُ لِلرِّجَالِ كَانَ لِلِاسْتِظْهَارِ لَا لِاسْتِحْدَاثِ الْعِلْمِ وَسَيَأْتِي أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا اشْتَهَرُوا بِهِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَهُمْ حَفِظَهُ وَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَجْمُوعُهُ مَحْفُوظٌ كُلُّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ أَيَّامَ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَلَّفًا عَلَى هَذَا التَّأْلِيفِ إِلَّا سُورَةَ بَرَاءَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قُلْتُ لِعُثْمَانَ مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ عُثْمَانُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُهُ فَقَالَ ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثُمَّ كَتَبْتُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ عَلَى هَذَا التَّأْلِيفِ وَالْجَمْعِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تَرَكَ جَمْعَهُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ النَّسْخَ كَانَ يَرِدُ عَلَى بَعْضٍ فَلَوْ جَمَعَهُ ثُمَّ رُفِعَتْ تِلَاوَةُ بَعْضٍ لَأَدَّى إِلَى الِاخْتِلَافِ وَاخْتِلَاطِ الدِّينِ فَحَفِظَهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ إِلَى انْقِضَاءِ زَمَانِ النَّسْخِ ثُمَّ وُفِّقَ لِجَمْعِهِ الخلفاء الراشدين نسخ القرآن في المصاحف وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْمَصَاحِفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَهَا فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ الصِّدِّيقُ ثُمَّ أَمَرَ عُثْمَانُ حِينَ خَافَ الِاخْتِلَافَ فِي الْقِرَاءَةِ بِتَحْوِيلِهِ مِنْهَا إِلَى الْمَصَاحِفِ هَكَذَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ التَّأْلِيفَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِّينَا عَنْهُ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْمُصْحَفِ كَانَ فِي زمن أبي بكر وَالنَّسْخُ فِي الْمَصَاحِفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَكَانَ مَا يَجْمَعُونَ وَيَنْسَخُونَ مَعْلُومًا لَهُمْ بِمَا كَانَ مُثْبَتًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشُورَةِ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَارْتَضَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَحُمِدَ أَثَرُهُ فِيهِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الَّذِي اسْتَبَدَّ بِهِ عُثْمَانُ جَمْعُ النَّاسِ عَلَى قِرَاءَةٍ مَحْصُورَةٍ وَالْمَنْعُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ لَمْ يَقْصِدْ عُثْمَانُ قَصْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي جَمْعِ نَفْسِ الْقُرْآنِ بَيْنَ لَوْحَيْنِ وَإِنَّمَا قَصَدَ جَمْعَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمَعْرُوفَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلْغَاءَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَخْذَهُمْ بِمُصْحَفٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ وَلَا تَأْوِيلَ أُثْبِتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 مَعَ تَنْزِيلٍ وَمَنْسُوخُ تِلَاوَتِهِ كُتِبَ مَعَ مُثْبَتِ رَسْمِهِ وَمَفْرُوضِ قِرَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ خَشْيَةَ دُخُولِ الْفَسَادِ وَالشُّبْهَةِ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدُ انْتَهَى وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي القراء وقال حذيفة لِعُثْمَانَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا في الكتاب اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا الصُّحُفَ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ قَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ فِي كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ وَفِي هَذِهِ إِثْبَاتٌ ظَاهِرٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ جَمَعُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَالَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى جَمْعِهِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ فَخَافُوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته وَكَتَبُوهُ كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ قَدَّمُوا شَيْئًا أَوْ أَخَّرُوا وَهَذَا التَّرْتِيبُ كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْقِيفٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِبَ تِلْكَ الْآيَةِ فَثَبَتَ أَنَّ سَعْيَ الصَّحَابَةِ فِي جَمْعِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا فِي تَرْتِيبٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ فِي مَصَاحِفِنَا الْآنَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنزل فيه القرآن} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثُمَّ كَانَ يَنْزِلُ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} فَتَرْتِيبُ النُّزُولِ غَيْرُ تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ وَكَانَ هَذَا الِاتِّفَاقُ مِنَ الصَّحَابَةِ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ وَرَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَتَسْهِيلًا وَتَحْقِيقًا لِوَعْدِهِ بِحِفْظِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وَزَالَ بِذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: كَانَتْ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاحِدَةً كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقِرَاءَةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِهَا حَتَّى مَاتَ وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ الصِّدِّيقُ فِي جَمْعِهِ وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ كَتَبَةَ الْمُصْحَفِ وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ: جَمْعُ الْقُرْآنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا تَأْلِيفُ السُّوَرِ كَتَقْدِيمِ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَتَعْقِيبِهَا بِالْمِئِينَ فَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّتْهُ الصَّحَابَةُ وَأَمَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ وَهُوَ جَمْعُ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ فَهُوَ تَوْقِيفِيٌّ تَوَلَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمَّاسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ الْحَدِيثَ قَالَ وَفِيهِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ جَمْعَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ جُمِعَ بَعْضُهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جُمِعَ بِحَضْرَةِ الصِّدِّيقِ وَالْجَمْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مُحْدَثَةً فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَإِنَّمَا أَمَرَ الصِّدِّيقُ بِنَسْخِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مكان وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرٌ فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِأَصْحَابِ الرِّقَاعِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ قِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَنَظْمٍ مَعْرُوفٍ وَقَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ سَنَةً فَكَانَ تَزْوِيدُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ من ذهاب شيء من صحيحه فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ يَفْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَمَّنَهُ مِنَ النِّسْيَانِ بِقَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ الله} أَنْ يُرْفَعَ حُكْمُهُ بِالنَّسْخِ فَحِينَ وَقَعَ الْخَوْفُ مِنْ نِسْيَانِ الْخَلْقِ حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ فَأُحْدِثَ بِضَبْطِهِ مَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَجَمَعْتُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ مَا أَوْهَمَ بَعْضَ النَّاسِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدٌ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أُوهِمَ وَإِنَّمَا طُلِبَ الْقُرْآنُ مُتَفَرِّقًا لِيُعَارَضَ بِالْمُجْتَمِعِ عِنْدَ مَنْ بَقِيَ مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ لِيَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي عِلْمِ مَا جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فَلَا يَغِيبُ عَنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ أَحَدٌ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ فِيمَا يُودَعُ المصحف ولا يشكو فِي أَنَّهُ جُمِعَ عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَدْتُ آخِرَ بَرَاءَةَ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَلَمْ أَجِدْهَا مَعَ غَيْرِهِ يَعْنِي مِمَّنْ كَانُوا فِي طَبَقَةِ خُزَيْمَةَ لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ وَأَمَّا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَبِغَيْرِ شَكٍّ جَمَعُوا الْقُرْآنَ وَالدَّلَائِلُ عَلَيْهِ مُتَظَاهِرَةٌ قَالَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لم يجمعوا السنن في كتاب إذ لَمْ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا كَمَا ضُبِطَ الْقُرْآنُ قَالَ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْمَصَاحِفَ التي كتب منها القرآن كانت عنده الصِّدِّيقِ لِتَكُونَ إِمَامًا وَلَمْ تُفَارِقِ الصِّدِّيقَ فِي حَيَاتِهِ وَلَا عُمَرَ أَيَّامَهُ ثُمَّ كَانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ لَا تُمَكِّنُ مِنْهَا وَلَمَّا احْتِيجَ إِلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ فَأَخَذَ ذَلِكَ الْإِمَامُ وَنَسَخَ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَى الْكُوفَةِ وَكَانَ النَّاسُ مَتْرُوكِينَ عَلَى قِرَاءَةِ مَا يَحْفَظُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ حَتَّى خِيفَ الْفَسَادُ فَجُمِعُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا قَالَ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ جَامِعَ الْقُرْآنِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا حَمَلَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ عَلَى اخْتِيَارٍ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ شَهِدَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمَّا خَشِيَ الْفِتْنَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ فِي حُرُوفِ الْقِرَاءَاتِ وَالْقُرْآنِ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَتِ الْمَصَاحِفُ بِوُجُوهٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمُطْلَقَاتِ عَلَى الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ بِهَا الْقُرْآنُ فَأَمَّا السَّابِقُ إِلَى جَمْعِ الْجُمْلَةِ فَهُوَ الصِّدِّيقُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قال رحم الله أبا بكر هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ وَلَمْ يَحْتَجِ الصَّحَابَةُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَى جَمْعِهِ عَلَى وَجْهِ مَا جَمَعَهُ عُثْمَانُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِي أَيَّامِهِمَا مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ مَا حَدَثَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَلَقَدْ وُفِّقَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَرَفَعَ الِاخْتِلَافَ وَجَمَعَ الْكَلِمَةَ وأراح الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وَأَمَّا تَعَلُّقُ الرَّوَافِضِ بِأَنَّ عُثْمَانَ أَحْرَقَ الْمَصَاحِفَ فَإِنَّهُ جَهْلٌ مِنْهُمْ وَعَمًى فَإِنَّ هَذَا مِنْ فَضَائِلِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ أَصْلَحَ وَلَمَّ الشَّعَثَ وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَوْ تَرَكَهُ لَعَصَى لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيعِ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ أَنَّهُ كُتِبَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَأَنَّهُ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ جَمَعَهُ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ قَالَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ أَحْرَقَ الْمَصَاحِفَ فَإِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَوْ ثَبَتَ لَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَحْرَقَ مَصَاحِفَ قَدْ أُودِعَتْ مَا لَا يُحِلُّ قِرَاءَتُهُ وَفِي الْجُمْلَةِ إِنَّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ غَيْرُ مُعَانِدٍ وَلَا طَاعِنٍ فِي التَّنْزِيلِ وَلَمْ يَحْرِقْ إِلَّا مَا يَجِبُ إِحْرَاقُهُ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ بَلْ رَضُوهُ وَعَدُّوهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ لَوْ وَلِيتُ مَا وَلِيَ عُثْمَانُ لَعَمِلْتُ بِالْمَصَاحِفِ مَا عَمِلَ انْتَهَى ملخصا فائدة: في عدد مصاحف عثمان قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالدَّانِيُّ فِي الْمُقْنِعِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ جَعَلَهُ عَلَى أَرْبَعِ نُسَخٍ وَبَعَثَ إِلَى كُلِّ نَاحِيَةٍ وَاحِدًا الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَتَرَكَ وَاحِدًا عِنْدَهُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ جَعَلَهُ سَبْعَ نُسَخٍ وَزَادَ إِلَى مَكَّةَ وَإِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الْبَحْرَيْنِ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فَصْلٌ: فِي بَيَانِ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ حِفْظًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفِظَهُ فِي حَيَاتِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهُ كَانَ يَحْفَظُهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ أَقَلُّهُمْ بَالِغُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ وَجَاءَ في ذلك أخبار ثابتة في الترمذي والمستدرك وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَهَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ومعاذ بن جبل وزيد ابن ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدٌ وَأَبُو زَيْدٍ وَاخْتَلَفُوا فِي رَجُلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعُثْمَانُ وَقِيلَ عُثْمَانُ وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَعَنِ الشَّعْبِيِّ جَمَعَهُ سِتَّةٌ أُبَيٌّ وَزَيْدٌ وَمُعَاذٌ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَمُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ قَدْ أَخَذَهُ إِلَّا سُورَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً قَالَ وَلَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ غَيْرَ عُثْمَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ وَقَدْ أَشْبَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ الْكَلَامَ فِي حَمَلَةِ الْقُرْآنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَضْعَافَ هَذِهِ الْعُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ خِلَافَ ذَلِكَ وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ كَثْرَةُ الْقُرَّاءِ الْمَقْتُولِينَ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ بِالْيَمَامَةِ وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ قُتِلَ سَبْعُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ الْقُرَّاءَ ثُمَّ أَوَّلَ الْقَاضِي الْأَحَادِيثَ السَّابِقَةَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا اضْطِرَابُهَا وَبَيَّنَ وَجْهَ الِاضْطِرَابِ فِي الْعَدَدِ وَإِنْ خُرِّجَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا بِتَقْرِيرِ سَلَامَتِهَا فَالْمَعْنَى لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْجُهِ وَالْأَحْرُفِ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي نَزَلَ به إلا أولئك النفر ومنه أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَأُزِيلُ رَسْمُهُ بَعْدَ تِلَاوَتِهِ مَعَ مَا ثَبَتَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ فَرْضُ حِفْظِهِ وَتِلَاوَتِهِ إِلَّا تِلْكَ الْجَمَاعَةُ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ مِنْ فِيهِ تَلَقِّيًا غَيْرُ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ وَغَيْرُ ذلك. قال الماوردي: وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْهُ سِوَى أَرْبَعَةٍ وَالصَّحَابَةُ مُتَفَرِّقُونَ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهُ سِوَى أَرْبَعَةٍ فَقَدْ حَفِظَ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ مِئُونَ لَا يُحْصَوْنَ قَالَ الشَّيْخُ: وَقَدْ سَمَّى الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْقُرَّاءَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ لَهُ فَسَمَّى عَدَدًا كَثِيرًا قُلْتُ وَذَكَرَ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ الْقُرَّاءِ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ هُمُ الَّذِينَ عَرَضُوهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّصَلَتْ بِنَا أَسَانِيدُهُمْ وَأَمَّا مَنْ جَمَعَهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِنَا فَكَثِيرٌ فَقَالَ ذِكْرُ الَّذِينَ عَرَضُوا عَلَى النَّبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَهُمْ سَبْعَةٌ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا عُثْمَانُ ثُمَّ رَدَّ عَلَى الشَّعْبِيِّ قَوْلَهُ بِأَنَّ عَاصِمًا قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ أَقْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ قَالَ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ مُشْكِلٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ: وَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ غَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي زَيْدٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَلَكِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِنَا قِرَاءَتُهُمْ قَالَ وَقَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن السائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ تَقْسِيمِهِ بِحَسَبِ سُوَرِهِ وترتيب السور والآيات وعددها [تقسيم القرآن بحسب سوره] قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الطُّوَلُ وَالْمِئُونَ وَالْمَثَانِي وَالْمُفَصَّلُ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ جِهَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُعْطِيتُ السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ وَأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ وَأُعْطِيتُ الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ" وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ فِيهِ لِينٌ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عِمْرَانَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. فَالسَّبْعُ الطُّوَلُ أَوَّلُهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا بَرَاءَةُ لِأَنَّهُمْ كانوا يعدون الأنفال وبراءة سُورَةً وَاحِدَةً وَلِذَلِكَ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا نَزَلَتَا جَمِيعًا فِي مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُمِّيَتْ طُوَلًا لِطُولِهَا وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ عَدَّ السَّبْعَ الطول البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس وَالطُّوَلُ بِضَمِّ الطَّاءِ جَمْعُ طُولَى كَالْكُبَرِ جَمْعُ كُبْرَى قَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ وَكَسْرُ الطَّاءِ مَرْذُولٌ وَالْمِئُونَ: مَا وَلِيَ السَّبْعَ الطُّوَلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنْهَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ آيَةٍ أَوْ تُقَارِبُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَالْمَثَانِي: مَا وَلِيَ الْمِئِينَ وَقَدْ تُسَمَّى سُوَرُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا مَثَانِيَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {كِتَابًا متشابها مثاني} : {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَثَانِيَ لِأَنَّ الْأَنْبَاءَ وَالْقِصَصَ تُثَنَّى فِيهِ وَيُقَالُ إِنَّ الْمَثَانِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} هِيَ آيَاتُ سُورَةِ الْحَمْدِ سَمَّاهَا مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَالْمُفَصَّلُ: مَا يَلِي الْمَثَانِيَ مِنْ قِصَارِ السُّوَرِ سُمِّيَ مُفَصِّلًا لِكَثْرَةِ الفصول التي بين السور ببسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَقِيلَ لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ فِيهِ وَآخِرُهُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وَفِي أَوَّلِهِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا أَحَدُهَا: الْجَاثِيَةُ ثَانِيهَا: الْقِتَالُ وَعَزَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ ثَالِثُهَا: الْحُجُرَاتُ رَابِعُهَا: ق قِيلَ: وَهِيَ أَوَّلُهُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِهِ يَرْوِيهِ عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا عبد الرحمن يعلى الطائفي قال حدثني عمر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ فَسَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُحَزِّبُ الْقُرْآنَ قَالَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ ق وَقِيلَ إِنَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ فِي الْمُسْنَدِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حَكَاهُ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الْخَامِسُ: الصَّافَّاتُ السَّادِسُ: الصَّفُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 السَّابِعُ: تَبَارَكَ حَكَى هَذِهِ الثَّلَاثَةَ ابْنُ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيُّ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ الثَّامِنُ: {إِنَّا فتحنا لك} حكاه الدذماري فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ الْمُسَمَّى رَفَعَ التَّمْوِيهِ التَّاسِعُ: {الرَّحْمَنُ} حَكَاهُ ابْنُ السَّيِّدِ فِي أَمَالِيهِ عَلَى الْمُوَطَّأِ وَقَالَ إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ كَذَلِكَ الْعَاشِرُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} الْحَادِي عَشَرَ: {سَبَّحَ} حَكَاهُ ابْنُ الْفِرْكَاحِ فِي تَعْلِيقِهِ عَنِ الْمَرْزُوقِيِّ الثَّانِي عَشَرَ: {وَالضُّحَى} وَعَزَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، لِابْنِ عَبَّاسٍ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِهِ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْقَارِئَ يَفْصِلُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ بِالتَّكْبِيرِ قَالَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُرَّاءِ مَكَّةَ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَثَرِ أَنَّ أَوَّلَهُ ق قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فِي بَابِ تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا جرار بْنُ تَمَّامٍ ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ وَهَذَا لَفْظُهُ عَنْ عَبْدِ الله بن عبد الرحمن يَعْلَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ جَدِّهِ أَوْسٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ قَالَ فَنَزَلَتِ الْأَحْلَافُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي مَالِكٍ فِي قُبَّةٍ لَهُ قَالَ مُسَدَّدٌ وَكَانَ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ الْعَشَاءِ يحدثنا قال أبو سعيد قائما على راحلته ثُمَّ يَقُولُ لَا سَوَاءَ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ قَالَ مُسَدَّدٌ بِمَكَّةَ فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نُدَالُ عَلَيْهِمْ وَيُدَالُونَ عَلَيْنَا فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَبْطَأَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ فَقُلْتُ لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَلَيْنَا اللَّيْلَةَ قَالَ إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حزبي من القرآن فكرهت أن أجي حَتَّى أُتِمَّهُ قَالَ أَوْسٌ فَسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ فَقَالُوا ثَلَاثٌ وَخُمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ رَوَاهُ ابن ماجه عن أبي بكر بن شَيْبَةَ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ بِهِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَبُو يَعْلَى الطَّائِفِيُّ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا عَدَدْتَ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سُورَةً كَانَتِ الَّتِي بَعْدَهُنَّ سورة ق بيانه ثلاث البقرة وآل عمران والنساء وخمس المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة وسبع يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل وتسع سبحان والكهف وَمَرْيَمُ وَطه وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالنُّورُ وَالْفُرْقَانُ وإحدى عشرة الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس وثلاث عشرة الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والفتح والحجرات ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَأَوَّلُهُ سُورَةُ ق وأما آل حاميم فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّ حم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أُضِيفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ سُوَرُ اللَّهِ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَكَمَا قِيلَ بَيْتُ اللَّهِ قَالَ الْكُمَيْتُ وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حم آيَةً تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ وَقَدْ يُجْعَلُ اسْمًا لِلسُّورَةِ وَيَدْخُلُ الْإِعْرَابُ عَلَيْهَا وَيُصْرَفُ وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ فِي الْجَمْعِ الْحَوَامِيمُ كَمَا يُقَالُ طس وَالطَّوَاسِينُ وَكَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنْ يُقَالَ الحواميم وإما يُقَالُ آلُ حم قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا وَلُبَابُ الْقُرْآنِ حم أو قال الحواميم وقال مسعر بن كدام كَانَ يُقَالُ لَهُنَّ الْعَرَائِسُ ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَقَالَ حُمَيْدُ بن زنجويه ثنا عبد الله إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ فَقَالَ عَجِبْتُ مِنَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عِظَمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ الرَّوْضَاتِ مَثَلُ حم فِي الْقُرْآنِ أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فَصْلٌ: فِي عَدَدِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ الْمُقْرِئُ عَدَدُ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً وَقَالَ بَعَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ إِلَى قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فَجَمَعَهُمْ وَاخْتَارَ مِنْهُمُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَأَبَا الْعَالِيَةِ وَنَصْرَ بْنَ عَاصِمٍ وَعَاصِمًا الْجَحْدَرِيَّ وَمَالِكَ بْنَ دِينَارٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ عُدُّوا حُرُوفَ الْقُرْآنِ فَبَقَوْا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَعُدُّونَ بِالشَّعِيرِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ حُرُوفِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا انْتَهَى وَقَالَ غَيْرُهُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيَاتِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَمِائَتَا آيَةٍ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ وَقِيلَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً وَقِيلَ مِائَتَانِ وَتِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً وَقِيلَ مِائَتَانِ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ آيَةً أَوْ سِتٌّ وَعِشْرُونَ آيَةً وَقِيلَ مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ فَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ شَاذَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً وَأَمَّا حُرُوفُهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ حَرْفٍ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَرْفٍ وَقَالَ سَلَّامٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَمَعَ الْقُرَّاءَ وَالْحُفَّاظَ وَالْكُتَّابَ فَقَالَ أَخْبِرُونِي عَنِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمْ مِنْ حَرْفٍ هُوَ قَالَ فَحَسَبْنَاهُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعُونَ ألف وَسَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ حَرْفًا قَالَ فَأَخْبِرُونِي عَنْ نِصْفِهِ فَإِذَا هُوَ إِلَى الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 في الكهف {وليتلطف} وَثُلُثُهُ الْأَوَّلُ عِنْدَ رَأْسِ مِائَةٍ مِنْ بَرَاءَةَ وَالثَّانِي عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ أَوْ إِحْدَى وَمِائَةٍ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَالثَّالِثُ إِلَى آخِرِهِ وَسُبْعُهُ الْأَوَّلُ إِلَى الدَّالِ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ به ومنهم من صد عنه} وَالسُّبْعُ الثَّانِي إِلَى التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الأعراف: {حبطت أعمالهم} وَالثَّالِثُ إِلَى الْأَلِفِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الرعد: {أكلها} وَالرَّابِعُ إِلَى الْأَلِفِ فِي الْحَجِّ مِنْ قَوْلِهِ: {جعلنا منسكا} وَالْخَامِسُ: إِلَى الْهَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأَحْزَابِ: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} وَالسَّادِسُ إِلَى الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْفَتْحِ: {الظانين بالله ظن السوء} وَالسَّابِعُ: إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ قَالَ سَلَامٌ عَلِمْنَا ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قَالُوا وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُبْعَ الْقُرْآنِ فَالْأَوَّلُ إلى آخر الأنعام والثاني إلى وليتلطف مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ وَالثَّالِثُ إِلَى آخِرِ الْمُؤْمِنِ وَالرَّابِعُ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ خِلَافًا فِي هَذَا كُلِّهِ وَأَمَّا التَّحْزِيبُ وَالتَّجْزِئَةُ فَقَدِ اشْتُهِرَتِ الْأَجْزَاءُ مِنْ ثَلَاثِينَ كَمَا فِي الرَّبِعَاتِ بِالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سَأَلَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ قَالُوا ثَلَاثٌ وَخُمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ ق حَتَّى يَخْتِمَ أَسْنَدَ الزُّبَيْدِيُّ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ عَنِ الْمُبَرِّدِ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمُصْحَفَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ لَهُ مُصْحَفٌ نَقَطَهُ لَهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَمَرَ أَبَا الْأَسْوَدِ أَنْ يَنْقُطَ الْمَصَاحِفَ وَذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْأَمْصَارِ أَنَّ نَصْرَ بْنَ عَاصِمٍ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ نَصْرُ الْحُرُوفِ وَأَمَّا وَضْعُ الْأَعْشَارِ فَقِيلَ إِنَّ الْمَأْمُونَ الْعَبَّاسِيَّ أَمَرَ بِذَلِكَ وَقِيلَ إِنَّ الْحَجَّاجَ فَعَلَ ذَلِكَ وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَدَ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً كَمَا هِيَ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ أَوَّلُهَا الْفَاتِحَةُ وَآخِرُهَا النَّاسُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ بجعل الأنفال والتوبة سُورَةً وَاحِدَةً لِاشْتِبَاهِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ الْبَسْمَلَةِ وَيَرُدُّهُ تَسْمِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلًّا مِنْهُمَا وَكَانَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ اثْنَا عَشَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا الْمُعَوِّذَتَانِ لِشُبْهَةِ الرُّقْيَةِ وَجَوَابُهُ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمْ وَمَا كَتَبَ الْكُلَّ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سِتَّ عَشْرَةَ وَكَانَ دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْقُنُوتِ فِي آخِرِهِ كَالسُّورَتَيْنِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِمْ وَهُوَ دُعَاءٌ كُتِبَ بَعْدَ الْخَتْمَةِ وَعَدَدُ آيَاتِهِ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ستة آلاف ومائتان وَثَمَانِ عَشْرَةَ وَعَطَاءٍ سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسَبْعُونَ وَحُمَيْدٌ سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ وَرَاشِدٌ سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَقَالَ حُمَيْدٌ الأعرج نصفه: {معي صبرا} في الكهف وقيل عين {تستطيع} وقيل ثاني لا مي: {وليتلطف} وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي عَدِّ الْآيِ وَالْكَلِمِ وَالْحُرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَسَلَّمَ كَانَ يَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ لِلتَّوْقِيفِ فَإِذَا عُلِمَ مَحَلُّهَا وَصَلَ لِلتَّمَامِ فَيَحْسَبُ السَّامِعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ فَاصِلَةً وَأَيْضًا الْبَسْمَلَةُ نَزَلَتْ مَعَ السُّورَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ نَزَلَتْ فِيهِ عَدَّهَا وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي الْكَلِمَةِ أن الكلمة لها حقيقة ومجاز وَرَسْمٌ وَاعْتِبَارُ كُلٍّ مِنْهَا جَائِزٌ وَكُلٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ اعْتَبَرَ أَحَدَ الْجَوَائِزِ وَأَطْوَلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ هِيَ الْبَقَرَةُ وَأَقْصَرُهَا الْكَوْثَرُ وَأَطْوَلُ آيَةٍ فِيهِ آيَةُ الدَّيْنِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ كَلِمَةً وَخَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ حَرْفًا وَأَقْصَرُ آيَةٍ فِيهِ: {وَالضُّحَى} ثُمَّ: {وَالْفَجْرِ} كُلُّ كَلِمَةٍ خَمْسَةُ أَحْرُفٍ تَقْدِيرًا ثُمَّ لَفْظًا سِتَّةٌ رَسْمًا لَا: {مُدْهَامَّتَانِ} لِأَنَّهَا سَبْعَةُ أَحْرُفٍ لَفْظًا وَرَسْمًا وَثَمَانِيَةٌ تَقْدِيرًا وَلَا: {ثم نظر} لِأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ خَمْسَةُ أَحْرُفٍ رَسْمًا وَكِتَابَةً وَسِتَّةُ أَحْرُفٍ تَقْدِيرًا خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَأَطْوَلُ كَلِمَةٍ فِيهِ لفظا وكتابة بلا زيادة: {فأسقيناكموه} أحد عشر لفظا ثم: {اقترفتموها} عشرة وكذا: {أنلزمكموها} {والمستضعفين} ثم {ليستخلفنهم} تِسْعَةٌ لَفْظًا وَعَشَرَةٌ تَقْدِيرًا وَأَقْصَرُهَا نَحْوَ بَاءِ الْجَرِّ حَرْفٌ وَاحِدٌ لَا أَنَّهَا حَرْفَانِ خِلَافًا للداني فيهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فصل أنصاف القرآن ثمانية قَالَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَهُ ثمانية أنصاف باعتبار آية فَنِصْفُهُ بِالْحُرُوفِ النُّونُ مِنْ قَوْلِهِ: {نُكْرًا} فِي سورة الكهف والكاف مِنْ نِصْفِهِ الثَّانِي وَنِصْفُهُ بِالْكَلِمَاتِ الدَّالُ مِنْ قوله: {والجلود} في سورة الحج وقوله تعالى: {ولهم مقامع من حديد} مِنْ نِصْفِهِ الثَّانِي وَنِصْفُهُ بِالْآيَاتِ: {يَأْفِكُونَ} مِنْ سورة الشعراء وقوله تعالى: {فألقي السحرة} مِنْ نِصْفِهِ الثَّانِي وَنِصْفُهُ عَلَى عَدَدِ السُّوَرِ فَالْأَوَّلُ الْحَدِيدُ وَالثَّانِي مِنْ الْمُجَادَلَةِ فَائِدَةٌ سُئِلَ ابْنُ مُجَاهِدٍ كَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَّا غُرُورًا} ؟: فَأَجَابَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ النساء وسبحان والأحزاب وفاطر وَسُئِلَ الْكِسَائِيُّ كَمْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً أَوَّلُهَا شين؟ فأجاب أربع آيات: {شهر رمضان} {شهد الله} {شاكرا لأنعمه} {شرع لكم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الدين} وَسُئِلَ كَمْ آيَةً آخِرُهَا شِينٌ؟ فَأَجَابَ: اثْنَانِ: {كالعهن المنفوش} {لإيلاف قُرَيْشٍ} وَسُئِلَ آخَرُ: كَمْ {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ؟ قَالَ: خمسة ثلاثة في الأنعام وفي الحجر واحد وفي النحل واحد أَكْثَرُ مَا اجْتَمَعَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَحَرِّكَةِ ثَمَانِيَةٌ وَذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ أَحَدُهُمَا: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كوكبا} فَبَيْنَ وَاوِ كَوْكَبًا وَيَاءِ رَأَيْتُ ثَمَانِيَةُ أَحْرُفٍ كلهن متحركات وَالثَّانِي قَوْلُهُ: {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يحكم الله لي} عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ حَرَّكَ الْيَاءَ فِي قَوْلِهِ {لِيَ} وَ {أَبِيَ} وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ: {سَنَشُدُّ عضدك بأخيك} وَفِي الْقُرْآنِ سُوَرٌ مُتَوَالِيَاتٌ كُلُّ سُورَةٍ تَجْمَعُ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لك صدرك} إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ وَآيَةٌ وَاحِدَةٌ تَجْمَعُ حُرُوفَ المعجم قوله تعالى {محمد رسول الله. . . .} الْآيَةَ وَسُورَةٌ كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا فِيهَا اسْمُهُ تَعَالَى وَهِيَ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ وَفِي الْحَجِّ سِتَّةُ آيَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ فِي آخِرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: {ليدخلنهم مدخلا يرضونه} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ أَوَّلُهَا: {قُلْ يَا أَيُّهَا} ثلاث: {قل يا أيها النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم} {قل يا أيها الكافرون} وفي: {يا أيها الأنسان ما غرك بربك الكريم} : {يا أيها الأنسان إنك كادح} آيَةٌ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا سِتَّةَ عَشَرَ مِيمًا وهي: {قيل يا نوح اهبط بسلام} لآية وآية فيها ثلاث وثلاثون ميما: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم} سُورَةٌ تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ آيَةٍ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ سُورَةُ يُوسُفَ آيَةٌ فيها: {الجنة} مرتان لا: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الجنة} ثَلَاثُ آيَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ الْأُولَى رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ ووالأخرى رَدٌّ عَلَى الْمُجَبِّرَةِ وَالْأُخْرَى رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ قوله: {إذ نسويكم برب العالمين} رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} رَدٌّ عَلَى الْمُجَبِّرَةِ : {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَاءٌ بَعْدَهَا حَاءٌ لَا حَاجِزَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي موضعين في البقرة : {عقدة النكاح حتى} وفي الكهف: {لا أبرح حتى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 لَيْسَ فِيهِ كَافَانِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا حَرْفَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْبَقَرَةِ: {مناسككم} ، وفي المدثر: {ما سلككم في سقر} وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَرْتِيبِهِ فَأَمَّا الْآيَاتُ فِي كل سورة وضع الْبَسْمَلَةِ أَوَائِلَهَا فَتَرْتِيبُهَا تَوْقِيفِيٌّ بِلَا شَكٍّ وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَعْكِيسُهَا قَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ هُوَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةَ تُرِكَتْ بِلَا بَسْمَلَةٍ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: تَرْتِيبُ الْآيَاتِ أَمْرٌ وَاجِبٌ وَحُكْمٌ لَازِمٌ فَقَدْ كَانَ جِبْرِيلُ يَقُولُ ضَعُوا آيَةَ كَذَا فِي مَوْضِعِ كذا وأسند البيهقي في كتاب المدخل والدلائل عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ كُنَّا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ إِذْ قَالَ: "طُوبَى لِلشَّامِ" فَقِيلَ لَهُ وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهِ" زَادَ فِي الدَّلَائِلِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ فِي الرِّقَاعِ قَالَ: وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَأْلِيفَ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي سُوَرِهَا وَجَمْعِهَا فِيهَا بِإِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وقل فِيهِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ جَمْعَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ جُمِعَ بَعْضُهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جُمِعَ بِحَضْرَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَالْجَمْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ كَانَ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ وَاخْتُلِفَ فِي الْحَرْفِ الَّذِي كَتَبَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفَ فَقِيلَ حَرْفُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقِيلَ حَرْفُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِأَنَّهُ الْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ وَمَعْنَى حَرْفِ زَيْدٍ أَيْ قراءته وطريقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وفي كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد عن أَبِي وَائِلٍ قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا فَقَالَ ذَاكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ فَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ تَوْقِيفٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ من فعل الصحابة أو يُفَصَّلْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِيمَا اعْتَمَدَهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى الثَّانِي وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى أُمَّتِهِ بَعْدَهُ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالثَّانِي يَقُولُ: إِنَّهُ رَمَزَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَسْبَابِ نُزُولِهِ وَمَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ إِنَّمَا أَلَّفُوا الْقُرْآنَ عَلَى مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِ بِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ اجْتِهَادٌ مِنْهُمْ فَآلَ الْخِلَافُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ ذَلِكَ بِتَوْقِيفٍ قَوْلِيٍّ أَمْ بِمُجَرَّدِ اسْتِنَادٍ فِعْلِيٍّ وَبِحَيْثُ بَقِيَ لَهُمْ فِيهِ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانُوا قَدْ سَمِعُوهُ مِنْهُ كَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُهُ فَفِي مَاذَا أَعْمَلُوا الْأَفْكَارَ وَأَيُّ مَجَالٍ بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ قِيلَ قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ" الْحَدِيثَ فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا فَعَلَ هَذَا إِرَادَةً لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأُمَّةِ وَتِبْيَانًا لِجَلِيلِ تِلْكَ النِّعْمَةِ كَانَ مَحَلًّا لِلتَّوَقُّفِ حَتَّى اسْتَقَرَّ النَّظَرُ عَلَى رَأْيِ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ الْأَكْثَرُ فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَالَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ السُّوَرِ كَانَ قَدْ عَلِمَ تَرْتِيبَهَا فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالسَّبْعِ الطِّوَالِ وَالْحَوَامِيمِ وَالْمُفَصَّلِ وَأَشَارُوا إِلَى أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَوَّضَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى الْأُمَّةِ بَعْدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْآثَارُ تَشْهَدُ بِأَكْثَرَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَبْقَى مِنْهَا قَلِيلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ، كقوله اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران رواه مسلم ولحديث سعيد بْنِ خَالِدٍ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّبْعِ الطِّوَالِ فِي رَكْعَةٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَفِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجْمَعُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي فَذَكَرَهَا نَسَقًا كَمَا اسْتَقَرَّ تَرْتِيبُهَا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ تَأْلِيفَ السُّوَرِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطُّوَلَ وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمِئِينَ وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ" قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَ الْقُرْآنِ مَأْخُوذٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا جُمِعَ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ سُورَةٌ عَلَى حِدَةٍ وَلَيْسَتْ مِنْ بَرَاءَةَ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ جَمْعُ الْقُرْآنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا تَأْلِيفُ السُّوَرِ كَتَقْدِيمِ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَتَعْقِيبِهَا بِالْمِئِينَ فَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الَّذِي تَوَلَّاهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ فَضَمُّ الْآيِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَعْقِيبُ الْقِصَّةِ بِالْقِصَّةِ فَذَلِكَ شَيْءٌ تَوَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي الْبُرْهَانِ تَرْتِيبُ السُّوَرِ هَكَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ كُلَّ سَنَةٍ مَا كَانَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ مِنْهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سور} معناه مثل البقرة إلى سور هُودٍ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُورَةَ هُودٍ مكية وأن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة مَدَنِيَّاتٌ نَزَلَتْ بَعْدَهَا وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {وَرَتِّلِ القرآن ترتيلا} أَيْ اقْرَأْهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَجَاءَ النَّكِيرُ عَلَى مَنْ قَرَأَهُ مَعْكُوسًا وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَلَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ لَنَزَلَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ سُوَرُهُ وَآيَاتُهُ نُزُولًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ وَلِأَنَّ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَمِعَا نُزُولًا وَأَبْلَغُ الْحِكَمِ فِي تَفَرُّقِهِ مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على الناس على مكث} وَهَذَا أَصْلٌ بُنِيَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فَإِنْ قِيلَ قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ فِي الْمُصْحَفِ السُّوَرَ عَلَى تَارِيخِ نُزُولِهَا وَقَدَّمَ الْمَكِّيَّ عَلَى الْمَدَنِيِّ وَمِنْهُمْ جَعَلَ من أوله: {اقرأ باسم ربك} وَهُوَ أَوَّلُ مُصْحَفِ عَلِيٍّ وَأَمَّا مُصْحَفُ ابْنِ مسعود فأوله: {مالك يوم الدين} ثُمَّ الْبَقَرَةُ ثُمَّ النِّسَاءُ عَلَى تَرْتِيبٍ مُخْتَلِفٍ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ كَانَ أَوَّلُهُ الْحَمْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ثُمَّ النِّسَاءَ ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ ثُمَّ الْأَنْعَامَ ثُمَّ الْأَعْرَافَ ثُمَّ الْمَائِدَةَ عَلَى اخْتِلَافٍ شَدِيدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ مَكِّيٌّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَأَنَّ وَضْعَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْأَوَّلِ هُوَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ فُرِّقَ فِي بِضْعٍ وَعِشْرِينَ فَكَانَتِ السُّورَةُ تَنْزِلُ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ وَالْآيَةُ جَوَابًا لِمُسْتَخْبِرٍ وَيَقِفُ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْضِعِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ فَاتِّسَاقُ السُّوَرِ كَاتِّسَاقِ الْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ كُلُّهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ قَدَّمَ سُورَةً أَوْ أَخَّرَهَا فقد أفسد نظم لآيات قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَمَنْ نَظَمَ السُّوَرَ عَلَى الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَضَعُ الْفَاتِحَةَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْضِعِ نُزُولِهَا وَيُضْطَرُّ إِلَى تَأْخِيرِ الْآيَةِ فِي رَأْسِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ وَمَنْ أَفْسَدَ نَظْمَ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ تَنْبِيهٌ تَرْتِيبُ وَضْعِ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ لِتَرْتِيبِ وَضْعِ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ أَسْبَابٌ تُطْلِعُ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ صَادِرٌ عَنْ حَكِيمٍ أَحَدُهَا بِحَسَبِ الْحُرُوفِ كَمَا فِي الْحَوَامِيمِ وَثَانِيهَا لِمُوَافَقَةِ أَوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا كَآخِرِ الْحَمْدِ فِي الْمَعْنَى وَأَوَّلِ الْبَقَرَةِ وَثَالِثُهَا لِلْوَزْنِ فِي اللَّفْظِ كَآخِرِ تَبَّتْ وَأَوَّلِ الْإِخْلَاصِ وَرَابِعُهَا لِمُشَابَهَةِ جُمْلَةِ السُّورَةِ لِجُمَلِهِ الْأُخْرَى مِثْلَ: {وَالضُّحَى} وَ: {أَلَمْ نَشْرَحْ} قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ تَضَمَّنَتِ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالِالْتِجَاءَ إِلَيْهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَالصِّيَانَةَ عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين وآل عِمْرَانَ مُكَمِّلَةٌ لِمَقْصُودِهَا فَالْبَقَرَةُ بِمَنْزِلَةِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ على الحكم وآل عِمْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْخُصُومِ وَلِهَذَا قُرِنَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُتَشَابِهِ مِنْهَا بِظُهُورِ الْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ فَإِنَّهُ نَزَلَ أَوَّلُهَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ النَّصَارَى وَآخِرُهَا يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ أُحُدٍ وَالنَّصَارَى تَمَسَّكُوا بِالْمُتَشَابِهِ فَأُجِيبُوا عَنْ شُبَهِهِمْ بِالْبَيَانِ وَيَوْمَ أُحُدٍ تَمَسَّكَ الْكُفَّارُ بِالْقِتَالِ فَقُوبِلُوا بِالْبَيَانِ وَبِهِ يُعْلَمُ الْجَوَابُ لِمَنْ تَتَبَّعَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَأَوْجَبَ الْحَجَّ فِي آلِ عِمْرَانَ وَأَمَّا فِي الْبَقَرَةِ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَأَمَرَ بِتَمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ الْبَيْتَ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَكَانَ خِطَابُ النَّصَارَى فِي آلِ عِمْرَانَ أَكْثَرَ كَمَا أَنَّ خِطَابَ الْيَهُودِ فِي الْبَقَرَةِ أَكْثَرُ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أَصْلٌ وَالْإِنْجِيلَ فَرْعٌ لَهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ دَعَا الْيَهُودَ وَجَاهَدَهُمْ وَكَانَ جِهَادُهُ لِلنَّصَارَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَمَا كَانَ دُعَاؤُهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ قَبْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِهَذَا كَانَتِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ فِيهَا الدِّينُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ فَخُوطِبَ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ وَالسُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فِيهَا خِطَابُ مَنْ أَقَرَّ بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فَخُوطِبُوا يَا أَهْلَ الْكِتَابِ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَمَّا سُورَةُ النِّسَاءِ فَتَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ التي بين الناس وهي نوعان محلوقة لِلَّهِ تَعَالَى وَمَقْدُورَةٌ لَهُمْ كَالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَلِهَذَا افْتَتَحَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نفس واحدة وخلق منها زوجها} ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وَبَيَّنَ الَّذِينَ يَتَعَاهَدُونَ وَيَتَعَاقَدُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ والمواريث ومنها العهود الَّتِي حَصَلَتْ بِالرِّسَالَةِ وَالَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى الرُّسُلِ وَأَمَّا الْمَائِدَةُ فَسُورَةُ الْعُقُودِ وَبِهِنَّ تَمَامُ الشَّرَائِعِ قَالُوا وَبِهَا تَمَّ الدِّينُ فَهِيَ سُورَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 التَّكْمِيلِ بِهَا ذِكْرُ الْوَسَائِلِ كَمَا فِي الْأَنْعَامِ والأعراف ذِكْرُ الْمَقَاصِدِ كَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَتَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَتَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ تَمَامِ الْإِحْرَامِ وَإِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ مِنْ تَمَامِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِيهَا مَا يَخْتَصُّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْوُضُوءِ وَالْحُكْمِ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ تَعَالَى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} وَذَكَرَ أَنَّهُ مَنِ ارْتَدَّ عَوَّضَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ وَلَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ كَامِلًا وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّهَا آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا وَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ الأربع المدنيات: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة مِنْ أَحْسَنِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ وَإِنْ كَانَ مُصْحَفُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قُدِّمَتْ فِيهِ سُورَةُ النِّسَاءِ عَلَى آلِ عِمْرَانَ وَتَرْتِيبُ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا أَوْجَبَهُ اللَّهُ بَلْ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ لِكُلِّ مُصْحَفٍ تَرْتِيبٌ وَلَكِنَّ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ أَكْمَلُ وَإِنَّمَا لَمْ يُكْتَبْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْحَفٌ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى تَغْيِيرِهِ كُلَّ وَقْتٍ فَلِهَذَا تَأَخَّرَتْ كِتَابَتُهُ إِلَى أَنْ كَمُلَ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَهُ ثُمَّ نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَى الْأَمْصَارِ فَائِدَةٌ سبب سقوط البسملة أول براءة اخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ فِي سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ بَرَاءَةَ فَقِيلَ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ وَأَرَادُوا نَقْضَهُ كَتَبُوا لَهُمْ كِتَابًا وَلَمْ يَكْتُبُوا فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الْبَسْمَلَةَ فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ لِلْكُفَّارِ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ وَلَمْ يُبَسْمِلْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ وبراءة من آخره وكانت قصتها شبيها بِقِصَّتِهَا وَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا وَظَنَنَّا أَنَّهَا منها ثم فرقت بينهما ولم أكتب بَيْنَهُمَا الْبَسْمَلَةَ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ لِطُولِهَا وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ اخْتَلَفُوا هَلْ هُمَا سورتان أو الأنفال سورة وبراءة سُورَةٌ تُرِكَتِ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَهُمَا وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ ذلك فقال لأن البسملة أمان وبراءة نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ لَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَزَلَ بِهَا فِيهَا فائدة في بيان لفظ السورة لغة واصطلاحا قَالَ الْقُتَيْبِيُّ السُّورَةُ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ فَمَنْ هَمَزَهَا جَعَلَهَا مِنْ أَسْأَرْتُ أَيْ أَفْضَلْتُ مِنَ السور وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّرَابِ فِي الْإِنَاءِ كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهَا جَعَلَهَا مِنَ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ وَسَهَّلَ هَمْزَتَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ شَبَّهَهَا بِسُورِ الْبِنَاءِ أَيْ الْقِطْعَةِ مِنْهُ أَيْ مَنْزِلَةٍ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وَقِيلَ مِنْ سُورِ الْمَدِينَةِ لِإِحَاطَتِهَا بِآيَاتِهَا وَاجْتِمَاعِهَا كَاجْتِمَاعِ الْبُيُوتِ بِالسُّورِ وَمِنْهُ السُّوَارُ لِإِحَاطَتِهِ بِالسَّاعِدِ وَعَلَى هَذَا فَالْوَاوُ أَصْلِيَّةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ السُّورَةِ بِمَعْنَى الْمَرْتَبَةِ لِأَنَّ الْآيَاتِ مَرَتَّبَةٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ تَرْتِيبًا مُنَاسِبًا وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ بِالْمُنَاسَبَاتِ وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي شَرْحِ مَنْهُوكَةِ أَبِي نُوَاسٍ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سُورَةً لِارْتِفَاعِ قَدْرِهَا لِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمِنْهُ رَجُلٌ سَوَّارٌ أَيْ مُعَرْبِدٌ لِأَنَّهُ يَعْلُو بِفِعْلِهِ وَيَشْتَطُّ وَيُقَالُ أَصْلُهَا مِنَ السَّوْرَةِ وَهِيَ الْوَثْبَةُ تَقُولُ سُرْتُ إِلَيْهِ وَثُرْتُ إِلَيْهِ وَجَمْعُ سُورَةِ الْقُرْآنِ سُوَرٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَجَمْعُ سُورَةِ الْبِنَاءِ سُورٌ بِسُكُونِهَا وَقِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {إذ تسوروا المحراب} نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ عُلْوٍ فَسُمِّيَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِ لِتَرَكُّبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَقِيلَ لِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَشَأْنِ قَارِئِهِ ثُمَّ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُقَالَ سُورَةُ كَذَا وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا مُقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: حَدُّ السُّورَةِ قُرْآنٌ يَشْتَمِلُ عَلَى آيٍ ذَوَاتِ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ وَأَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْطِيعِ الْقُرْآنِ سُوَرًا؟ قُلْتُ: هِيَ الْحِكْمَةُ فِي تَقْطِيعِ السُّوَرِ آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ لِكُلِّ آيَةٍ حَدٌّ وَمَطْلَعٌ حَتَّى تَكُونَ كُلُّ سُورَةٍ بَلْ كُلُّ آيَةٍ فَنًّا مُسْتَقِلًّا وَقُرْآنًا مُعْتَبَرًا وَفِي تَسْوِيرِ السُّورَةِ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ السُّورَةِ بِمُجَرَّدِهَا مُعْجِزَةً وَآيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُوِّرَتِ السُّوَرُ طِوَالًا وَقِصَارًا وَأَوْسَاطًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الطُّولَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِعْجَازِ فَهَذِهِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَهِيَ مُعْجِزَةٌ إِعْجَازَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ ظَهَرَتْ لِذَلِكَ حِكْمَةٌ فِي التَّعْلِيمِ وَتَدْرِيجِ الْأَطْفَالِ مِنَ السُّوَرِ الْقِصَارِ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مَا فَوْقَهَا يَسِيرًا يَسِيرًا تَيْسِيرًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ لِحِفْظِ كِتَابِهِ فَتَرَى الطِّفْلَ يَفْرَحُ بِإِتْمَامِ السُّورَةِ فَرَحَ مَنْ حَصَلَ عَلَى حَدٍّ مُعْتَبَرٍ وَكَذَلِكَ الْمُطِيلُ فِي التِّلَاوَةِ يَرْتَاحُ عِنْدَ خَتْمِ كُلِّ سُورَةٍ ارْتِيَاحَ الْمُسَافِرِ إِلَى قَطْعِ المراحل المسماة مرحلة بعد مرحلة أخرى إلى أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ نَمَطٌ مُسْتَقِلٌّ فَسُورَةُ يُوسُفَ تُتَرْجِمُ عَنْ قِصَّتِهِ وَسُورَةُ بَرَاءَةَ تُتَرْجِمُ عَنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَكَامِنِ أَسْرَارِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا كَانَتِ الْكُتُبُ السَّالِفَةُ كَذَلِكَ؟ قُلْتُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَاتٍ مِنْ نَاحِيَةِ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ وَالْآخَرُ أَنَّهَا لَمْ تُيَسَّرْ لِلْحِفْظِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَوَائِدُ فِي تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ وَتَقْطِيعِهِ سُوَرًا كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ مُسَوَّرَةً وَبَوَّبَ الْمُصَنِّفُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَبْوَابًا مُوَشَّحَةَ الصُّدُورِ بِالتَّرَاجِمِ مِنْهَا أَنَّ الْجِنْسَ إِذَا انْطَوَتْ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ وَأَصْنَافٌ كَانَ أَحْسَنَ وَأَفْخَمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَابًا وَاحِدًا وَمِنْهَا أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا خَتَمَ سُورَةً أَوْ بَابًا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ أَخَذَ فِي آخِرِهِ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ وَأَبْعَثَ عَلَى التَّحْصِيلِ مِنْهُ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكِتَابِ بِطُولِهِ وَمِثْلُهُ الْمُسَافِرُ إِذَا قَطَعَ مِيلًا أَوْ فَرْسَخًا وَانْتَهَى إِلَى رَأْسِ بَرِّيَّةٍ نَفَّسَ ذَلِكَ مِنْهُ وَنَشَّطَهُ لِلْمَسِيرِ وَمِنْ ثَمَّةَ جُزِّئَ الْقُرْآنُ أَجْزَاءً وَأَخْمَاسًا وَمِنْهَا أَنَّ الْحَافِظَ إِذَا حَذَقَ السُّورَةَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً فَيَعْظُمُ عِنْدَهُ مَا حَفِظَهُ وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وآل عِمْرَانَ جَلَّ فِينَا وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةٍ أَفْضَلَ وَمِنْهَا أَنَّ التَّفْصِيلَ يُسَبِّبُ تَلَاحُقَ الْأَشْكَالِ وَالنَّظَائِرِ وَمُلَاءَمَةَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ وَبِذَلِكَ تَتَلَاحَظُ الْمَعَانِي وَالنَّظْمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الفوائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فائدة في بيان معنى الآية لغة واصطلاحا أَمَّا الْآيَةُ فَلَهَا فِي اللُّغَةِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: جَمَاعَةُ الْحُرُوفِ قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ تَقُولُ الْعَرَبُ خَرَجَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ ثَانِيهَا: الْآيَةُ الْعَجَبُ تَقُولُ الْعَرَبُ فُلَانٌ آيَةٌ فِي الْعِلْمِ وَفِي الْجَمَالِ قَالَ الشَّاعِرُ آيَةٌ فِي الْجَمَالِ لَيْسَ لَهُ فِي الْـ حُسْنِ شِبْهٌ وَمَا لَهُ مِنْ نَظِيرِ فَكَأَنَّ كُلَّ آيَةٍ عَجَبٌ فِي نَظْمِهَا وَالْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِيهَا ثَالِثُهَا_الْعَلَامَةُ تَقُولُ الْعَرَبُ: خَرِبَتْ دَارُ فُلَانٍ وَمَا بَقِيَ فِيهَا آيَةٌ أَيْ عَلَامَةٌ فَكَأَنَّ كُلَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتُلِفَ فِي وَزْنِهَا فَقَالَ سِيبَوَيْهِ فَعَلَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَأَصْلُهَا أَيَيَةٌ تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَجَاءَتْ آيَةً وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَصْلُهَا آيِيَةُ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٌ حُذِفَتِ الْيَاءُ الْأُولَى مَخَافَةَ أَنْ يُلْتَزَمَ فِيهَا مِنَ الْإِدْغَامِ مَا لَزِمَ فِي دَابَّةٍ وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمُفْرَدِ فِي مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ حَدُّ الْآيَةِ قُرْآنٌ مُرَكَّبٌ مِنْ جُمَلٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا ذُو مَبْدَأٍ وَمَقْطَعٍ مُنْدَرِجٍ فِي سُورَةٍ وَأَصْلُهَا الْعَلَامَةُ ومنه: {إن آية ملكه} لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ لِلْفَضْلِ وَالصِّدْقِ أَوِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ كَلِمَةٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: الْآيَةُ طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ بَيْنَهَا شَبَهٌ بِمَا سِوَاهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وَقِيلَ: هِيَ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ فِي السُّوَرِ، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهَا وَعَلَى عَجْزِ الْمُتَحَدَّى بِهَا وَقِيلَ: لِأَنَّهَا عَلَامَةُ انْقِطَاعِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ وَانْقِطَاعِهَا عَمَّا بَعْدَهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَسْمِيَةَ أَقَلَّ مِنَ الْآيَةِ آيَةً لَوْلَا أَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ وَقَالَ: ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ آيَةً إلا: {مدهامتان} وَقَالَ.: بَعْضُهُمْ الصَّحِيحُ أَنَّهَا إِنَّمَا تُعْلَمُ بِتَوْقِيفٍ مِنَ الشَّارِعِ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ كَمَعْرِفَةِ السُّورَةِ فَالْآيَةُ طَائِفَةُ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ عُلِمَ بِالتَّوْقِيفِ انْقِطَاعُهَا مَعْنًى عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا فِي آخِرِ الْقُرْآنِ وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا والذي بَعْدَهَا فِي غَيْرِهِمَا غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَتِ السُّورَةُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْآيَاتُ عِلْمُ تَوْقِيفٍ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ فَعَدُّوا: {الم} آيَةً حَيْثُ وَقَعَتْ مِنَ السورة المفتتح بها وهي ست، وكذلك: {المص} آية، و {المر} لَمْ تُعَدَّ آيَةً وَ {الر} لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِي سُوَرِهَا الْخَمْسِ وَ: {طسم} آيَةٌ فِي سورتيها، وَ: {طه} وَ: {يس} آيَتَانِ وَ {طس} لَيْسَتْ بِآيَةٍ وَ {حم} آيَةٌ فِي سُوَرِهَا كلها و {حم عسق} آيتان و: {كهيعص} آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَ {ص} وَ {ق} وَ {ن} ثَلَاثَتُهَا لَمْ تَعُدَّ آيَةً هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ عَدَاهُمْ لَمْ يَعُدُّوا شَيْئًا مِنْهَا آية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا عَدُّوا {يس} آيَةً وَلَمْ يَعُدُّوا {طس} لِأَنَّ {طس} تُشْبِهُ الْمُفْرَدَ كَقَابِيلَ فِي الزِّنَةِ وَالْحُرُوفِ وَ {يس} تُشْبِهُ الْجُمْلَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَهُ يَاءٌ وَلَيْسَ لَنَا مُفْرَدٌ أَوَّلُهُ يَاءٌ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْمُلْكِ ثَلَاثُونَ آيَةً وَصَحَّ أَنَّهُ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ قَالَ وَتَعْدِيدُ الْآيِ مِنْ مُفَصَّلَاتِ الْقُرْآنِ وَمِنْ آيَاتِهِ طَوِيلٌ وَقَصِيرٌ وَمِنْهُ مَا يَنْقَطِعُ وَمِنْهُ مَا يَنْتَهِي إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي أثنائه كقوله: {أنعمت عليهم} عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا آيَةً وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ فِي ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ السَّلَفِ وَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَهِيَ اللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ وَقَدْ تكون على حرفين مثل ما ولي وله ولك وَقَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ عَشَرَةَ أحرف مثل: {ليستخلفنهم} و: {أنلزمكموها} و {فأسقيناكموه} وَقَدْ تَكُونُ الْكَلِمَةُ آيَةً مِثْلَ: {وَالْفَجْرِ} ، {وَالضُّحَى} ، {وَالْعَصْرِ} وَكَذَلِكَ {الم} وَ {طه} وَ {يس} وَ {حم} فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَ {حم عسق} عِنْدَهُمْ كَلِمَتَانِ وَغَيْرُهُمْ لَا يُسَمِّي هَذِهِ آيَاتٍ بَلْ يَقُولُ هَذِهِ فَوَاتِحُ لِسُوَرٍ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ لَا أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ وَحْدَهَا آيَةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: {مُدْهَامَّتَانِ} فِي سُورَةِ الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 خاتمة: في تعدد أسماء السور قد يكون للسورة اسم وَهُوَ كَثِيرٌ وَقَدْ يَكُونُ لَهَا اسْمَانِ كَسُورَةِ الْبَقَرَةِ يُقَالُ لَهَا فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ لِعِظَمِهَا وَبَهَائِهَا وآل عِمْرَانَ يُقَالُ اسْمُهَا فِي التَّوْرَاةِ طَيِّبَةٌ حَكَاهُ النقش والنحل تُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمَ لِمَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ عَلَى عِبَادِهِ وَسُورَةِ: {حم عسق} وَتُسَمَّى الشُّورَى وَسُورَةِ الْجَاثِيَةِ وَتُسَمَّى الشَّرِيعَةَ وَسُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُسَمَّى الْقِتَالُ وَقَدْ يَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ كَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَالْعُقُودِ وَالْمُنْقِذَةِ وَرَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِيهِ حَدِيثًا وَكَسُورَةِ غَافِرٍ وَالطَّوْلِ وَالْمُؤْمِنِ لِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَجُلٌ مؤمن} . وَقَدْ يَكُونُ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ كَسُورَةِ براءة والتوبة وَالْفَاضِحَةِ وَالْحَافِرَةِ لِأَنَّهَا حَفَرَتْ عَنْ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا زَالَ يَنْزِلُ: {وَمِنْهُمْ} حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا وَقَالَ حُذَيْفَةُ هِيَ سُورَةُ الْعَذَابِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ كُنَّا نَدْعُوهَا الْمُشَقْشِقَةَ وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ كَانَتْ تُدْعَى الْمُبَعْثِرَةَ وَيُقَالُ لَهَا الْمُسَوِّرَةُ وَيُقَالُ لَهَا الْبَحُوثُ وَكَسُورَةِ الْفَاتِحَةِ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ لَهَا بِضْعَةً وَعِشْرِينَ اسْمًا الْفَاتِحَةَ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأُمَّ الْكِتَابِ وَأُمَّ الْقُرْآنِ وَثَبَتَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ كَرَاهِيَةَ تَسْمِيَتِهَا عَنْ قَوْمٍ وَالسَّبْعَ الْمَثَانِي وَالصَّلَاةَ ثَبَتَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْحَمْدَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَسُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ أَوْ أُنْزِلَتْ مَرَّتَيْنِ وَالْوَافِيَةَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ تَبْعِيضَهَا لَا يَجُوزُ وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَالْكَنْزَ لِمَا ذَكَرْنَا وَالشَّافِيَةَ وَالشِّفَاءَ وَالْكَافِيَةَ وَالْأَسَاسَ وَيَنْبَغِي الْبَحْثُ عَنْ تَعْدَادِ الْأَسَامِي: هَلْ هُوَ تَوْقِيفِيٌّ أَوْ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ؟ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَنْ يَعْدِمَ الْفَطِنُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَقْتَضِي اشْتِقَاقَ أسمائها وهو بعيد خاتمة أخرى: في اختصاص كل سورة بما سميت يَنْبَغِي النَّظَرُ فِي وَجْهِ اخْتِصَاصِ كُلِّ سُورَةٍ بِمَا سُمِّيَتْ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ تُرَاعِي فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ أَخْذَ أَسْمَائِهَا مِنْ نَادِرٍ أَوْ مُسْتَغْرَبٍ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ مِنْ خَلْقٍ أَوْ صِفَةٍ تَخُصُّهُ أَوْ تَكُونُ مَعَهُ أَحْكَمُ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَسْبَقُ لِإِدْرَاكِ الرَّائِي لِلْمُسَمَّى وَيُسَمُّونَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْكَلَامِ أَوِ الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ فِيهَا وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ أَسْمَاءُ سُوَرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَتَسْمِيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِهَذَا الِاسْمِ لِقَرِينَةِ ذِكْرِ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا وَعَجِيبِ الْحِكْمَةِ فِيهَا وَسُمِّيَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَا تَرَدَّدَ فِيهَا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَتَسْمِيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ أَحْوَالِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْأَنْعَامِ فِي غَيْرِهَا إِلَّا أَنَّ التَّفْصِيلَ الْوَارِدَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {ومن الأنعام حمولة وفرشا} إلى قوله: {أم كنتم شهداء} لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 كَمَا وَرَدَ ذِكْرُ النِّسَاءِ فِي سُوَرٍ إِلَّا أَنَّ مَا تَكَرَّرَ وَبُسِطَ مِنْ أَحْكَامِهِنَّ لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَكَذَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ الْمَائِدَةِ فِي غَيْرِهَا فَسُمِّيَتْ بِمَا يَخُصُّهَا فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ هُودٍ ذِكْرُ نُوحٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَلِمَ تَخْتَصُّ بَاسْمِ هُودٍ وَحْدَهُ وَمَا وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِهِ وَقِصَّةُ نُوحٍ فِيهَا أَطْوَلُ وَأَوْعَبُ قِيلَ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَصَصُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ والشعراء بِأَوْعَبَ مِمَّا وَرَدَتْ فِي غَيْرِهَا وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ اسْمُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَكَرُّرِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ تَكَرَّرَ فِيهَا عِنْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَالتَّكْرَارُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ فِيهَا وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ تَكْرَارِ اسْمِ هُودٍ قِيلَ لَمَّا جُرِّدَتْ لِذِكْرِ نُوحٍ وَقِصَّتِهِ مَعَ قَوْمِهِ سُورَةٌ بِرَأْسِهَا فَلَمْ يَقَعْ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ كَانَتْ أَوْلَى بِأَنْ تُسَمَّى بِاسْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ سُورَةٍ تَضَمَّنَتْ قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ غَيْرِهِ وَإِنْ تكرر اسمه فيها أما هُودٍ فَكَانَتْ أَوْلَى السُّوَرِ بِأَنْ تُسَمَّى بِاسْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَسْمِيَةَ سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ يَجْرِي فِيهَا مِنْ رَعْيِ التَّسْمِيَةِ مَا ذَكَرْنَا وَانْظُرْ سُورَةَ ق لِمَا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْكَلِمَاتِ بِلَفْظِ الْقَافِ وَمِنْ ذَلِكَ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وَلِيَتْهُ حَتَّى لَمْ تَكُنْ لِتَرِدَ {الم} فِي مَوْضِعِ {الر} وَلَا {حم} فِي موضع {طس} لاسيما إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا أَعْلَامٌ لَهَا وَأَسْمَاءٌ عَلَيْهَا وَكَذَا وَقَعَ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا مَا كَثُرَ تَرْدَادُهُ فِيمَا يَتَرَكَّبُ مِنْ كَلِمِهَا وَيُوَضِّحُهُ أَنَّكَ إِذَا نَاظَرْتَ سُورَةً مِنْهَا بِمَا يُمَاثِلُهَا فِي عَدَدِ كَلِمَاتِهَا وَحُرُوفِهَا وَجَدْتَ الْحُرُوفَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا تِلْكَ السُّورَةُ إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا أَكْثَرَ عَدَدًا فِي كَلِمَاتِهَا مِنْهَا فِي نَظِيرَتِهَا وَمُمَاثِلَتِهَا فِي عَدَدِ كَلِمِهَا وَحُرُوفِهَا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ بِسُورَةٍ مِنْهَا مَا يُمَاثِلُهَا فِي عَدَدِ كَلِمِهَا فَفِي اطِّرَادِ ذَلِكَ فِي الْمُمَاثَلَاتِ مِمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 يُوجَدُ لَهُ النَّظِيرُ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ لَوْ وُجِدَ مَا يُمَاثِلُهَا لَجَرَى عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ وَقَدِ اطَّرَدَ هَذَا فِي أَكْثَرِهَا فَحُقَّ لِكُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا أَلَّا يُنَاسِبَهَا غَيْرُ الْوَارِدِ فِيهَا فَلَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ {ق} مِنْ سُورَةِ {ن} لَمْ يُمْكِنْ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ الْوَاجِبِ مُرَاعَاتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنَ الْكَلِمِ الْوَاقِعِ فِيهَا {الر} مِائَتَا كَلِمَةٍ وَعِشْرُونَ أَوْ نَحْوُهَا فَلِهَذَا افْتُتِحَتْ بِـ {الر} وَأَقْرَبُ السُّوَرِ إِلَيْهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ سُورَةُ النَّحْلِ وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْهَا مِمَّا يُرَكَّبُ عَلَى {الر} مِنْ كَلِمِهَا مِائَتَا كَلِمَةٍ مَعَ زِيَادَتِهَا فِي الطُّولِ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ وَرَدَتِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَّلِهَا {الر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 النوع الخامس عشر: معرفة أسمائه واشتقاقاتها أسماء القرآن وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْحَرَالِيُّ جُزْءًا وَأَنْهَى أَسَامِيَهُ إِلَى نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْقُرْآنَ بِخَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ اسْمًا سَمَّاهُ كِتَابًا فَقَالَ: {حم وَالْكِتَابِ المبين} وَسَمَّاهُ قُرْآنًا فَقَالَ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} الْآيَةَ وَسَمَّاهُ كَلَامًا فَقَالَ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَسَمَّاهُ نُورًا فَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} وسماه هدى فقال: {هدى ورحمة للمحسنين} وَسَمَّاهُ رَحْمَةً فَقَالَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبذلك فليفرحوا} وَسَمَّاهُ فُرْقَانًا فَقَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ على عبده} الْآيَةَ وَسَمَّاهُ شِفَاءً فَقَالَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هو شفاء} وَسَمَّاهُ مَوْعِظَةً فَقَالَ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ ربكم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَسَمَّاهُ ذِكْرًا فَقَالَ: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} وسماه كريما فقال: {إنه لقرآن كريم} وَسَمَّاهُ عَلِيًّا فَقَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لدينا لعلي حكيم} وسماه حكمة فقال: {حكمة بالغة فما تغن النذر} وَسَمَّاهُ حَكِيمًا فَقَالَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الحكيم} وَسَمَّاهُ مُهَيْمِنًا فَقَالَ: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب ومهيمنا عليه} وَسَمَّاهُ مُبَارَكًا فَقَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} الْآيَةَ وَسَمَّاهُ حَبْلًا فَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعا} وَسَمَّاهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَقَالَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مستقيما} وَسَمَّاهُ الْقَيِّمَ فَقَالَ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قيما} وسماه فصلا فقال: {إنه لقول فصل} وَسَمَّاهُ نَبَأً عَظِيمًا فَقَالَ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النبأ العظيم} وَسَمَّاهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فَقَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} الآية وَسَمَّاهُ تَنْزِيلًا فَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَسَمَّاهُ رُوحًا فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا من أمرنا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وسماه وحيا فقال: {إنما أنذركم بالوحي} وَسَمَّاهُ الْمَثَانِيَ فَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المثاني} وسماه عربيا فقال: {قرآنا عربيا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَسَمَّاهُ قَوْلًا فقال: {ولقد وصلنا لهم القول} وسماه بصائر فقال: {هذا بصائر للناس} وسماه بيانا فقال: {هذا بيان للناس} وسماه علما فقال: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم} وَسَمَّاهُ حَقًّا فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الحق} وَسَمَّاهُ الْهَادِيَ فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي} وسماه عجبا فقال: {قرآنا عجبا يهدي} وسماه تذكرة فقال: {وإنه لتذكرة} وَسَمَّاهُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَقَالَ: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوثقى} وسماه متشابها فقال: {كتابا متشابها} وسماه صدقا فقال: {والذي جاء بالصدق} أي بالقرآن وسماه عدلا فقال: {وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَسَمَّاهُ إِيمَانًا فَقَالَ: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} وسماه أمرا فقال: {ذلك أمر الله} وسماه بشرى فقال: {هدى وبشرى} وَسَمَّاهُ مَجِيدًا فَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} وسماه زبورا فقال: {لقد كتبنا في الزبور} الْآيَةَ وَسَمَّاهُ مُبِينًا فَقَالَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} وَسَمَّاهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَقَالَ: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ} وسماه عزيزا فقال: {وإنه لكتاب عزيز} وسماه بلاغا فقال: {هذا بلاغ للناس} وسماه قصصا فقال: {أحسن القصص} وَسَمَّاهُ أَرْبَعَةَ أَسَامِي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: {في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة} ، انْتَهَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسَامِي فَأَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ مصدر كتب يكتب كتابة وَأَصْلُهَا الْجَمْعُ وَسُمِّيَتِ الْكِتَابَةُ لِجَمْعِهَا الْحُرُوفَ فَاشْتُقَّ الْكِتَابُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مِنَ الْقِصَصِ وَالْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى أَوْجُهٍ مَخْصُوصَةٍ وَيُسَمَّى الْمَكْتُوبُ كِتَابًا مَجَازًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 مكنون} أَيِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْكِتَابَةُ حَرَكَاتٌ تَقُومُ بِمَحَلِّ قُدْرَةِ الْكَاتِبِ خُطُوطٌ مَوْضُوعَةٌ مُجْتَمِعَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَقَدْ يَغْلَطُ الْكَاتِبُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ هُوَ اسْمٌ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ بَلْ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ بِكَلَامِ اللَّهِ وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرْيِ وَهُوَ الْجَمْعُ وَمِنْهُ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الرَّاغِبُ لَا يُقَالُ لِكُلِّ جَمْعٍ قُرْآنٌ وَلَا لِجَمْعِ كَلِّ كَلَامٍ قُرْآنٌ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِي الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَا أَصْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ كُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتَهُ فَقَدْ قَرَأْتَهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ سُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ جَمَعَ السُّوَرَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَقَالَ الرَّاغِبُ سُمِّيَ قُرْآنًا لِكَوْنِهِ جَمَعَ ثَمَرَاتِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ السَّابِقَةِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ جَمَعَ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ كُلِّهَا بِمَعَانٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى مَا فَرَّطْنَا في الكتاب من شيء وقال بعض المتأخرين: لا يكون القرآن وقرأ مَادَّتُهُ بِمَعْنَى جَمَعَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جمعه وقرآنه} فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا مَادَّتُهُ قَرَأَ بِمَعْنَى أَظْهَرَ وَبَيَّنَ وَالْقَارِئُ يُظْهِرُ الْقُرْآنَ وَيُخْرِجُهُ وَالْقُرْءُ الدَّمُ لِظُهُورِهِ وَخُرُوجِهِ وَالْقُرْءُ الْوَقْتُ فَإِنَّ التَّوْقِيتَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا يَظْهَرُ وَقِيلَ: سُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عَنْهُ وَالتِّلَاوَةَ مِنْهُ وَقَدْ قُرِئَتْ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وَفِي تَارِيخِ بَغْدَادَ لِلْخَطِيبِ فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ قَالَ وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ وَكَانَ يَقُولُ الْقُرْآنُ اسْمٌ وَلَيْسَ مَهْمُوزًا وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ قَرَأْتُ وَلَوْ أُخِذَ مِنْ قَرَأْتُ لَكَانَ كُلُّ مَا قُرِئَ قُرْآنًا وَلَكِنَّهُ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يُهْمَزُ قَرَأْتُ وَلَا يُهْمَزُ الْقُرَانُ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ كَانَ ابْنُ كَثِيرٍ يَقْرَأُ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَهْمِزُ قَرَأْتُ وَلَا يَهْمِزُ الْقُرْانَ وَيَقُولُ هُوَ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ قَالَ: الْوَاحِدِيُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ غَيْرُ مُشْتَقٍّ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَقَالَ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا ضَمَمْتُهُ إِلَيْهِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِقِرَانِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ فِيهِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قِرَانٌ قَالَ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْقُرَانُ بِغَيْرِ هَمْزٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرَائِنِ لِأَنَّ الْآيَاتِ مِنْهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُشَابِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَهِيَ حِينَئِذٍ قَرَائِنُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْوٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَرْكَ الْهَمْزِ فِيهِ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ وَنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ وَقَوْلُهُ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَيْ جَمْعَهُ فِي قَلْبِكَ حِفْظًا، وَعَلَى لِسَانِكَ تِلَاوَةً وَفِي سَمْعِكَ فَهْمًا وَعِلْمًا وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ تُسْمَعُ قِرَاءَتُهُ الْمَخْلُوقَةُ وَيُفْهَمُ مِنْهَا كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 لَا تَفْهَمُوا وَلَا تَعْقِلُوا لِأَنَّ السَّمْعَ الطَّبِيعِيَّ يَحْصُلُ لِلسَّامِعِ شَاءَ أَوْ أَبَى وَأَمَّا الْكَلَامُ فَمُشْتَقٌّ مِنَ التَّأْثِيرِ يُقَالُ كَلَمَهُ إِذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالْجَرْحِ فَسُمِّيَ الْكَلَامُ كَلَامًا لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ فَائِدَةً لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَأَمَّا النُّورُ فَلِأَنَّهُ يُدْرَكُ بِهِ غَوَامِضُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ هُدًى فَلِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً بَيِّنَةً إِلَى الْحَقِّ وَتَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ ذِكْرًا فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالتَّحْذِيرِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَهُوَ مَصْدَرُ ذَكَرْتُ ذِكْرًا وَالذِّكْرُ الشَّرَفُ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إليكم كتابا فيه ذكركم} أَيْ شَرَفُكُمْ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ تِبْيَانًا فَلِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَنْوَاعَ الْحَقِّ وَكَشَفَ أَدِلَّتَهُ أَمَّا تَسْمِيَتُهُ بَلَاغًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ حَالَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِهِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مُبَيِّنًا فَلِأَنَّهُ أَبَانَ وفرق بين الحق والباطل وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَلِأَنَّهُ بَشَّرَ بِالْجَنَّةِ وَأَنْذَرَ مِنَ النَّارِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ عَزِيزًا أَيْ يُعْجِزُ وَيَعِزُّ عَلَى مَنْ يَرُومُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لئن اجتمعت الأنس والجن} الْآيَةَ وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ إِنَّمَا المراد أن يأتوا بمثل هذا الإخبار وَالْقِرَاءَةِ بِالْوَضْعِ الْبَدِيعِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْعَزِيزِ نَفْيُ الْمَهَانَةِ عَنْ قَارِئِهِ إِذَا عَمِلَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ فُرْقَانًا فَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَبِهِ سُمِّيَ عمر بن الخطاب الفارق وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مَثَانِيَ فَلِأَنَّ فِيهِ بَيَانُ قَصَصِ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ فَيَكُونُ الْبَيَانُ ثَانِيًا لِلْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فَيُبَيِّنُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَقِيلَ سُمِّيَ مَثَانِيَ لِتَكْرَارِ الْحِكَمِ وَالْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ فِيهِ وَقِيلَ إِنَّهُ اسْمُ الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ وَحْيًا وَمَعْنَاهُ تعريف الشيء خفية سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلَامِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ أَوْ بِإِلْهَامٍ كَالنَّحْلِ وَإِشَارَةِ النَّمْلِ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَحْيِ وَالْعَجَلَةِ لِأَنَّ فِيهِ إِلْهَامًا بِسُرْعَةٍ وَخِفْيَةٍ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ حَكِيمًا فَلِأَنَّ آيَاتِهِ أُحْكِمَتْ بِذِكْرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَأُحْكِمَتْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ عَلَامَتَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَعَمِلَ بِهِ ارْتَدَعَ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مُصَدِّقًا فَإِنَّهُ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ الْمَاضِينَ أَوْ كُتُبَهُمْ قَبْلَ أَنْ تُغَيَّرَ وَتُبَدَّلَ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مُهَيْمِنًا فَلِأَنَّهُ الشَّاهِدُ لِلْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بَلَاغًا فَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْإِعْلَامِ وَالْإِبْلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ شِفَاءً فَلِأَنَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ كَانَ لَهُ شِفَاءً مِنْ سَقَمِ الْكُفْرِ وَمَنْ عَلِمَهُ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ لَهُ شِفَاءً مِنْ سَقَمِ الْجَهْلِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ رَحْمَةً فَإِنَّ مَنْ فَهِمَهُ وَعَقِلَهُ كَانَ رَحْمَةً لَهُ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ قَصَصًا فَلِأَنَّ فِيهِ قَصَصَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ وَأَخْبَارَهُمْ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مَجِيدًا وَالْمُجِيدُ الشَّرِيفُ فَمِنْ شَرَفِهِ أَنَّهُ حُفِظَ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَجَعَلَهُ مُعْجِزًا فِي نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يُؤْتَى بِمِثْلِهِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ تَنْزِيلًا فَلِأَنَّهُ مَصْدَرُ نَزَّلْتُهُ لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْمَعَ جِبْرِيلَ كَلَامَهُ وَفَهَّمَهُ إِيَّاهُ كَمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ نَزَلَ بِهِ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَدَّاهُ هُوَ كَمَا فَهَّمَهُ وَعَلَّمَهُ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بَصَائِرَ فَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ وَهُوَ جَامِعٌ لِمَعَانِي أَغْرَاضِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تعالى: {ولا رطب ولا يابس} وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ ذِكْرَى فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} فَالْمُرَادُ بِالزَّبُورِ هُنَا جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِزَبُورِ دَاوُدَ وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَكَرَ الشيخ شهيب الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ فِي قوله تعالى: {ورزق ربك خير وأبقى} قَالَ: يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَالَ السَّخَاوِيُّ يَعْنِي مَا رَزَقَكَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِمَّا رَزَقَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا فَائِدَةٌ ذَكَرَ الْمُظَفَّرِيُّ فِي تَارِيخِهِ لَمَّا جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ قَالَ سَمُّوهُ فقال بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 سَمُّوهُ إِنْجِيلًا فَكَرِهُوهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَمُّوهُ السِّفْرَ فَكَرِهُوهُ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَأَيْتُ لِلْحَبَشَةِ كِتَابًا يَدْعُونَهُ الْمُصْحَفَ فَسَمَّوْهُ بِهِ فَائِدَةٌ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ سَمِعْتُ أَبَا الكرم النحوي بِبَغْدَادَ وَسُئِلَ كُلُّ كِتَابٍ لَهُ تَرْجَمَةٌ فَمَا تَرْجَمَةُ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ولينذروا به} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 النوع السَّادِسَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ... النوع السادس: مَعْرِفَةُ مَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الْحَادِي عَشَرَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْكَعْبَيْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ جَدِّ قُرَيْشٍ وَكَعْبِ بْنِ عَمْرٍو جَدِّ خُزَاعَةَ فَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ سلمة إنما نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَلِسَانِ خُزَاعَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ وَاحِدَةً وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْكَعْبَيْنِ كَعْبِ قُرَيْشٍ وَكَعْبِ خُزَاعَةَ قِيلَ وَكَيْفَ ذَاكَ قَالَ لِأَنَّ الدَّارَ وَاحِدَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْنِي أَنَّ خُزَاعَةَ جِيرَانُ قُرَيْشٍ فَأَخَذُوا بِلُغَتِهِمْ وَأَمَّا الْكَلْبِيُّ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْهَا خَمْسٌ بِلُغَةِ الْعَجُزِ مِنْ هَوَازِنَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْعَجُزُ هُمْ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ وجشم ابن بكر وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَثَقِيفٌ وَهَذِهِ الْقَبَائِلُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا عُلْيَا هَوَازِنَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَفْصَحُ العرب عليا وهوازن وَسُفْلَى تَمِيمٍ فَهَذِهِ عُلْيَا هَوَازِنَ وَأَمَّا سُفْلَى تَمِيمٍ فَبَنُو دَارِمٍ وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ بِكُلِّ لِسَانٍ وَقِيلَ إِنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فِي الرِّسَالَةِ لَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِاللُّغَةِ إِلَّا نَبِيٌّ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ يُرِيدُ مَنْ بُعِثَ بِلِسَانِ جَمَاعَةِ الْعَرَبِ حَتَّى يُخَاطِبَهَا بِهِ قَالَ وَقَدْ فَضَّلَ الْفَرَّاءُ لُغَةَ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ اللُّغَاتِ وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ الْعَرَبِ فَيَخْتَارُونَ مِنْ كُلِّ لُغَةٍ أَحْسَنَهَا فَصَفَا كَلَامُهُمْ وَذَكَرَ قُبْحَ عَنْعَنَةِ تَمِيمٍ وَكَشْكَشَةِ رَبِيعَةَ وَعَجْرَفَةِ قَيْسٍ وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَأْتِينَا بِكَلَامٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَا نَعْرِفُهُ وَلَنَحْنُ الْعَرَبُ حَقًّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رَبِّي عَلَّمَنِي فَتَعَلَّمْتُ وَأَدَّبَنِي فَتَأَدَّبْتُ" قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَسْتُ أَعْرِفُ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَرَفَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ قَوْلُ: مَنْ قَالَ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ مَعْنَاهُ عندي في الأغلب لأن لغة غير قريش موجودة في جميع القرآن مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَنَحْوِهَا وَقُرَيْشٌ لَا تَهْمِزُ وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ صَارَ فِي عَجُزِ هَوَازِنَ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ خَصَّ هَؤُلَاءِ دُونَ رَبِيعَةَ وَسَائِرِ الْعَرَبِ لِقُرْبِ جِوَارِهِمْ مِنْ مَوْلِدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْزِلِ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا رَبِيعَةُ وَمُضَرُ أَخَوَانِ قَالَ وَأَحَبُّ الْأَلْفَاظِ واللغات إلينا أن نقرأ بِهَا لُغَاتُ قُرَيْشٍ ثُمَّ أَدْنَاهُمْ مِنْ بُطُونِ مُضَرَ وَقَالَ: الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ فَمِنَ الْقَلِيلِ إِدْغَامُ: {ومن يشاق الله} فِي الْحَشْرِ، {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ فَإِنَّ الإدغام في المجزوم والاسم المضاعف لغة تَمِيمٍ وَلِهَذَا قَلَّ وَالْفَكُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلِهَذَا كَثُرَ نَحْوُ {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دينه} {وليملل وليه} و {يحببكم الله} {ويمددكم} {ومن يشاقق} في النساء والأنفال {من يحادد الله} {فليمدد} {واحلل عقدة} و {اشدد به أزري} {ومن يحلل عليه غضبي} قَالَ: وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ {إِلَّا اتِّبَاعَ الظن} لِأَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِيِّينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الْتِزَامُ النَّصْبِ فِي الْمُنْقَطِعِ وَإِنْ كَانَ بَنُو تَمِيمٍ يَتَّبِعُونَ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى نَصْبِ {مَا هذا بشرا} لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله} أنه استثناء منقطع جاء على لغة تَمِيمٍ ثُمَّ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 النوع السَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَلَا يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ وَتِلَاوَتُهُ إِلَّا بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وقوله: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا} الآية يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُعْجِزَةً شَاهِدَةً لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَدَلَالَةً قَاطِعَةً لِصِدْقِهِ وَلِيَتَحَدَّى الْعَرَبَ الْعُرَبَاءَ بِهِ وَيُحَاضِرَ الْبُلَغَاءَ وَالْفُصَحَاءَ وَالشُّعَرَاءَ بِآيَاتِهِ فَلَوِ اشْتَمَلَ عَلَى غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ فِي بَابِ الْبَيَانِ الْخَامِسِ مَا نَصُّهُ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ مَنْ لَوْ أَمْسَكَ عَنْ بَعْضِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ لَكَانَ الْإِمْسَاكُ أولى به وأقرب من السلامة له فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنَّ فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَأَعْجَمِيًّا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ووجد قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ مَنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ تَقْلِيدًا لَهُ وَتَرْكًا لِلْمَسْأَلَةِ لَهُ عَنْ حُجَّتِهِ وَمَسْأَلَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَبِالتَّقْلِيدِ أَغْفَلَ مَنْ أَغْفَلَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُمْ هَذَا كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِيهِ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْقَوْلَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَذَا بِالنَّبَطِيَّةِ فَقَدْ أَكْبَرَ الْقَوْلَ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وَمَعْنَاهُ أَتَى بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ شَيْءٌ لَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا عَجَزَتْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِلُغَاتٍ لَا يَعْرِفُونَهَا وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ لِأَنَّهَا تَرْجَمَةٌ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَجَازَتِ الصَّلَاةُ بِكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ انْتَهَى وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ جَوَازُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ لَكِنْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ الطُّورُ جبل بالسريانية وطفقا أي قصدا بالرومية والقسط والقسطاس العدل بالرومية: {إنا هدنا إليك} تبنا بالعبرانية والسجل الكتاب بالفارسية والرقيم اللوح بالرومية والمهل عكر الزيت بلسان أهل المغرب والسندس الرقيق من الستر بالهندية والإستبرق الغليظ بالفارسية بحذف القاف السري النهر الصغير باليونانية طه أَيْ طَأْ يَا رَجُلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ يُصْهَرُ أي ينضج بلسان أهل المغرب سينين الحسن بالنبطية المشكاة الكوة بالحبشية وقيل الزجاجة تسرج الدري المضيء بالحبشية الأليم المؤلم بالعبرانية: {ناظرين إناه} أَيْ نُضْجَهُ بِلِسَانِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ: {الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أَيْ الْأُولَى بِالْقِبْطِيَّةِ وَالْقِبْطُ يُسَمُّونَ الْآخِرَةَ الْأُولَى والأولى الآخرة: {وراءهم ملك} أي أمامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 بالقبطية اليم البحر بالقبطية بطائنها ظواهرها بالقبطية الأب الْحَشِيشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَشَأَ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ قَامَ من الليل: {كفلين من رحمته} قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضعفين بلغة الحبشة القسورة الْأَسَدُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ والإنجيل أَعْجَمِيَّانِ وَرَجَّحَ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ الْأَنْجِيلِ بِالْفَتْحِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى سَائِرِ اللُّغَاتِ إِنَّمَا اتَّفَقَ فِيهَا أَنْ تَتَوَارَدَ اللُّغَاتُ فَتَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ وَالْفُرْسُ وَالْحَبَشَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَحَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَلْ كَانَ لِلْعَرَبِ الْعَارِبَةِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ بَعْضُ مُخَالَطَةٍ لِسَائِرِ الألسن بتجارات وبرحلتي قريش وبسفر مسافرين كسفر أَبِي عَمْرٍو إِلَى الشَّامِ وَسَفَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَسَفَرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَسَفَرِ الْأَعْشَى إِلَى الحيرة وصحبته لنصاراها مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ فَعَلَّقَتِ الْعَرَبُ بِهَذَا كُلِّهِ أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةً غَيَّرَتْ بَعْضَهَا بِالنَّقْصِ مِنْ حُرُوفِهَا وَجَرَتْ فِي تَخْفِيفِ ثِقَلِ الْعُجْمَةِ وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي أَشْعَارِهَا وَمُحَاوَرَاتِهَا حَتَّى جَرَتْ مَجْرَى الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ وَوَقَعَ بِهَا الْبَيَانُ وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فَإِنْ جَهِلَهَا عَرَبِيٌّ فَكَجَهْلِهِ الصَّرِيحِ بِمَا فِي لُغَةِ غَيْرِهِ وَكَمَا لَمْ يَعْرِفِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى فَاطِرٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ فَحَقِيقَةُ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ أَعْجَمِيَّةٌ لَكِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ وَعَرَّبَتْهَا فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ بِهَذَا الْوَجْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 قَالَ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّ اللُّغَتَيْنِ اتَّفَقَتَا فِي لَفْظِهِ فَذَلِكَ بَعِيدٌ بَلْ إِحْدَاهُمَا أَصْلٌ وَالْأُخْرَى فَرْعٌ فِي الْأَكْثَرِ لِأَنَّا لَا نَدْفَعُ أَيْضًا جَوَازَ الِاتِّفَاقَاتِ إِلَّا قَلِيلًا شَاذًّا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِنَّمَا وُجِدَتْ هَذِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ اللُّغَاتِ وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ قَدْ سَبَقَهَا غَيْرُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بلسان قومه} وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَنَسَبَ الْقَوْلَ بِوُقُوعِهِ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمَنْعَ إِلَى أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالصَّوَابُ عِنْدِي مَذْهَبٌ فِيهِ تَصْدِيقُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ أُصُولُهَا أَعْجَمِيَّةٌ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ إِلَّا أَنَّهَا سَقَطَتْ إِلَى الْعَرَبِ فَعَرَّبَتْهَا بِأَلْسِنَتِهَا وَحَوَّلَتْهَا عَنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ إِلَى أَلْفَاظِهَا فَصَارَتْ عَرَبِيَّةً ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَقَدِ اخْتَلَطَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَهُوَ صَادِقٌ وَمَنْ قَالَ أَعْجَمِيَّةٌ فَصَادِقٌ قال وإنما فسر هَذَا لِئَلَّا يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الْفُقَهَاءِ فَيَنْسِبَهُمْ إِلَى الْجَهْلِ وَيَتَوَهَّمَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى كتاب الله بغير ما أراده الله جل وعز فَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِالتَّأْوِيلِ وَأَشَدَّ تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ قَائِلًا فِي مَقَالَتِهِ يَنْسُبُهُ إِلَى الْجَهْلِ فَقَدِ اختلف الصدر الأول في تأويل آي من الْقُرْآنِ قَالَ فَالْقَوْلُ إِذَنْ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَإِنْ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْأَوَائِلِ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ غَرِيبِهِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمَدْلُولِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ كِتَابَ الْمَجَازِ وَأَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ يا قوتة الصراط ومن أشهرها كتاب ابن عزيز والغريبين لِلْهَرَوِيِّ وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ الْمُفْرَدَاتِ لِلرَّاغِبِ وَهُوَ يَتَصَيَّدُ الْمَعَانِيَ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ خاصة قال الشيخ أبو عمرو ابن الصَّلَاحِ وَحَيْثُ رَأَيْتَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي فَالْمُرَادُ بِهِ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ كَالزَّجَّاجِ وَمَنْ قَبْلَهُ وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَالُوا كَذَا انْتَهَى وَيَحْتَاجُ الْكَاشِفُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ اللُّغَةِ اسْمًا وَفِعْلًا وَحَرْفًا فَالْحُرُوفُ لِقِلَّتِهَا تَكَلَّمَ النُّحَاةُ عَلَى مَعَانِيهَا فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمْ وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ وَأَكْثَرُ الْمَوْضُوعَاتِ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ كِتَابُ ابْنِ سَيِّدٍ فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي مِائَةِ سِفْرٍ بَدَأَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 بِالْفَلَكِ وَخَتَمَ بِالذَّرَّةِ وَمِنَ الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ كِتَابُ الأزهري والموعب لابن التياني والمحكم لابن سيده وكتاب الجامع للقزاز والصحاح للجوهري والبارع لأبي علي القالي ومجمع الْبَحْرَيْنِ لِلصَّاغَانِيِّ وَمِنَ الْمَوْضُوعَاتِ فِي الْأَفْعَالِ كِتَابُ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ وَكِتَابُ ابْنِ طَرِيفٍ وَكِتَابُ السَّرَقُسْطِيِّ الْمَنْبُوزِ بِالْحِمَارِ وَمِنْ أَجْمَعِهَا كِتَابُ ابْنِ الْقَطَّاعِ وَمَعْرِفَةُ هَذَا الْفَنِّ لِلْمُفَسِّرِ ضَرُورِيٌّ وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ يَحْيَى بْنُ نَضْلَةَ الْمَدِينِيُّ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يُفَسِّرُ كِتَابَ اللَّهِ غَيْرِ عَالِمٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ إِلَّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِذَا سَأَلْتُمُونِي عَنْ غَرِيبِ اللُّغَةِ فَالْتَمِسُوهُ فِي الشِّعْرِ فَإِنَّ الشِّعْرَ دِيوَانُ الْعَرَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وَعَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} قَالَ مَا جَمَعَ وَأَنْشَدَ إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا حقائقا مستوثقات لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا وَقَالَ مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} . حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنَ الْحَمْيَرِيَّ وَهِيَ تَقُولُ أُفَاتِحُكَ يَعْنِي أُقَاضِيكَ وَفِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: {متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} يَعْنِي مَتَى هَذَا الْقَضَاءُ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ العليم} وقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مُبِينًا} وَقَالَ أَيْضًا مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعربيان يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا أَنَا فَطَرْتُهَا يَعْنِي ابْتَدَأْتُهَا وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ: مَاتَ وَتَرَكَ أَرْبَعَةً مِنَ الْوَلَدِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْوَرَاءِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وراء إسحاق يعقوب} قَالَ وَلَدُ الْوَلَدِ وَمَسَائِلُ نَافِعٍ لَهُ عَنْ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاسْتِشْهَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كل جواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بيت ذكرها الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى النَّحْوِيِّينَ احْتِجَاجَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ بِالشِّعْرِ وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الشِّعْرَ أَصْلًا لِلْقُرْآنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّحْوِيُّونَ أَنْ يُثْبِتُوا الْحَرْفَ الْغَرِيبَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالشِّعْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا أنزلناه قرآنا عربيا} وقال تعالى: {بلسان عربي مبين} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْهِمُ الْحَرْفُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلُغَتِهِمْ رَجَعُوا إِلَى دِيوَانِهِمْ فَالْتَمَسُوا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا تَضَمَّنَهُ أَلْفَاظُهَا يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ كَفَى فِيهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشِّعْرِ وَيَنْبَغِي الْعِنَايَةُ بِتَدَبُّرِ الْأَلْفَاظِ كَيْ لَا يَقَعَ الْخَطَأُ كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكِبَارِ فَرَوَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ ساهون} فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْ صِلَاتِهِ وَلَا يَدْرِي عَنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ قَالَ الْحَسَنُ مَهْ يَا أَبَا الْعَالِيَةِ لَيْسَ هَكَذَا بَلِ الَّذِينَ سَهَوْا عَنْ مِيقَاتِهِمْ حَتَّى تَفُوتَهُمْ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: {عَنْ صَلَاتِهِمْ} فَلَمَّا لَمْ يَتَدَبَّرْ أبو العالية حرف في وعن تَنَبَّهَ لَهُ الْحَسَنُ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا فَهِمَ أَبُو الْعَالِيَةِ لَقَالَ فِي صَلَاتِهِمْ فَلَمَّا قَالَ عَنْ صَلَاتِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّهَابُ عَنِ الْوَقْتِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عن ذكر الرحمن} أَنَّهُ مِنْ عَشَوْتُ أَعْشُو عَشْوًا إِذَا نَظَرْتُ وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ يُعْرِضْ وَإِنَّمَا غَلِطَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَشَوْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَعَشَوْتُ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ فؤاد أم موسى فارغا} قَالَ فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ لِعِلْمِهَا أَنَّهُ لَمْ يَغْرَقْ وَمِنْهُ دَمٌ فَرَاغٌ أَيْ لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ أَخْطَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَعْنَى لَوْ كَانَ قَلْبُهَا فارغا من الحزن عليه لما قال: {لولا أن ربطنا على قلبها} لِأَنَّهَا كَادَتْ تُبْدِي بِهِ وَهَذَا الْبَابُ عَظِيمُ الْخَطَرِ وَمِنْ هُنَا تَهَيَّبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَتَرَكُوا الْقَوْلَ فِيهِ حَذَرًا أَنْ يَزِلُّوا فَيَذْهَبُوا عَنِ الْمُرَادِ وَإِنْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِاللِّسَانِ فُقَهَاءَ فِي الدِّينِ وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ وَهُوَ إِمَامُ اللُّغَةِ لَا يُفَسِّرُ شَيْئًا مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: {شغفها حبا} فَسَكَتَ وَقَالَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلًا لِبَعْضِ الْعَرَبِ فِي جَارِيَةٍ لِقَوْمٍ أَرَادُوا بَيْعَهَا أَتَبِيعُونَهَا وَهِيَ لَكُمْ شَغَافٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا وَلِهَذَا حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعَلُّمِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ معاني العربية وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْعَالِمِ بِحَقَائِقِ اللُّغَةِ وَمَوْضُوعَاتِهَا تَفْسِيرُ شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا يَكْفِي فِي حَقِّهِ تَعَلُّمُ الْيَسِيرِ مِنْهَا فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ وَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَفْصَحِ قُرَيْشٍ سُئِلَ أبو بكر عن الأب فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كَلَامِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ وَقَرَأَ عُمَرُ سُورَةَ عَبَسَ فَلَمَّا بَلَغَ الْأَبَّ قَالَ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فما الأب ثم قال لعمرك يابن الْخَطَّابِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عند ربنا} وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فَمَا الْأَبُّ ثُمَّ قَالَ مَا كُلِّفْنَا أَوْ مَا أُمِرْنَا بِهَذَا وَمَا ذَاكَ بِجَهْلٍ مِنْهُمَا لِمَعْنَى الْأَبِّ وَإِنَّمَا يُحْتَمَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْأَبَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي لُغَتِهِمَا أَوْ فِي لُغَاتٍ فَخَشِيَا إِنْ فَسَّرَاهُ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْأَبِّ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ فَقِيلَ مَا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ وَأَمَّا مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّ فَالْحَصِيدُ وَالثَّانِي التِّبْنُ خَاصَّةً وَالثَّالِثُ كُلُّ مَا نَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالرَّابِعُ مَا سِوَى الْفَاكِهَةِ وَالْخَامِسُ الثِّمَارُ الرَّطْبَةُ وَفِيهِ بَعْدٌ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَدْخُلُ فِي الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ وَلَا يُقَالُ أُفْرِدَتْ لِلتَّفْصِيلِ إِذْ لَوْ أُرِيدُ ذَلِكَ لتأخر ذكرها نحو {فاكهة ونخل ورمان} وَالسَّادِسُ أَنَّ رَطْبَ الثِّمَارِ هُوَ الْفَاكِهَةُ وَيَابِسَهَا هُوَ الْأَبُّ وَالسَّابِعُ أَنَّهُ لِلْأَنْعَامِ كَالْفَاكِهَةِ لِلنَّاسِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ عُمَرَ غَيْرَ مَا سَبَقَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ وَإِنْ شُهِرَ كَمَا خَفِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى فاطر السموات والثاني تَخْوِيفَ غَيْرِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلتَّفْسِيرِ بِمَا لَا يَعْلَمُ كَمَا كَانَ يَقُولُ أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا شَرِيكُكُمْ يُرِيدُ الِاحْتِرَازَ فَإِنَّ مَنِ احْتَرَزَ قَلَّتْ روايته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ التَّصْرِيفِ وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الْكَلِمَةَ بِبِنْيَتِهَا وَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَعْلُ الْكَلِمَةِ عَلَى صِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَعَانِي وَيَنْحَصِرُ فِي التَّصْغِيرِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْمَصْدَرِ وَاسْمَيِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ وَالثَّانِي: تَغْيِيرُ الْكَلِمَةِ لِمَعْنًى طَارِئٍ عَلَيْهَا وَيَنْحَصِرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْحَذْفِ وَالْإِبْدَالِ وَالْقَلْبِ وَالنَّقْلِ وَالْإِدْغَامِ وفائدة التصريف حصول المعاني المختلفة المتشعبة عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ فَالْعِلْمُ بِهِ أَهَمُّ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّحْوِ فِي تَعَرُّفِ اللُّغَةِ لِأَنَّ التَّصْرِيفَ نَظَرٌ فِي ذَاتِ الْكَلِمَةِ وَالنَّحْوَ نَظَرٌ فِي عوراضها وَهُوَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُفَسِّرُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ مَنْ فَاتَهُ عِلْمُهُ فَاتَهُ الْمُعْظَمُ لِأَنَّا نَقُولُ وَجَدَ كَلِمَةٌ مُبْهَمَةٌ فَإِذَا صَرَّفْنَاهَا اتَّضَحَتْ فَقُلْنَا فِي الْمَالِ وُجْدًا وَفِي الضَّالَّةِ وِجْدَانًا وَفِي الْغَضَبِ مَوْجِدَةً وَفِي الْحُزْنِ وَجْدًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 حطبا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فَانْظُرْ كَيْفَ تَحَوَّلَ الْمَعْنَى بِالتَّصْرِيفِ مِنَ الْجَوْرِ إِلَى الْعَدْلِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ فَيَقُولُونَ لِلطَّرِيقِ فِي الرَّمْلِ خِبَّةٌ وَلِلْأَرْضِ الْمُخْصِبَةِ وَالْمُجْدِبَةِ خُبَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ أَنَّ مَادَّةَ دَكَرَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مُهْمَلَةٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فَكَتَبَ التَّاجُ الْكِنْدِيُّ عَلَى الطُّرَّةِ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُهْمَلٌ مُسْتَعْمَلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وادكر بعد أمة} {فهل من مدكر} . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ سَهْوٌ أَوْجَبَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ قَاعِدَةِ التَّصْرِيفِ فَإِنَّ الدَّالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَدَلٌ مِنَ الذَّالِ لِأَنَّ ادَّكَرَ أَصْلُهُ اذْتَكَرَ افْتَعَلَ مِنَ الذِّكْرِ وَكَذَلِكَ مُدَّكِرٌ أَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ مُفْتَعِلٌ مِنَ الذِّكْرِ أَيْضًا فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ ذَالًا وَالذَّالُ كَذَلِكَ وَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى فَصَارَ اللَّفْظُ بِهِمَا كَمَا تَرَى وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {سول لهم} سَهَّلَ لَهُمْ رُكُوبَ الْمَعَاصِي مِنَ السَّوَلِ وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ وَقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ جَمِيعًا يُعَرِّضُ بِابْنِ السِّكِّيتِ وَقَالَ أَيْضًا مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الإمام في قوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} جَمْعُ أُمٍّ وَأَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بأمهاتهم دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 آبَائِهِمْ لِئَلَّا يَفْتَضِحَ أَوْلَادُ الزِّنَا قَالَ وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّهُمَا أَبْدَعُ أَصِحَّةُ لَفْظَةِ أُمَّهْ أَمْ بَهَاءُ حِكْمَتِهِ يَعْنِي أَنَّ أُمًّا لَا يُجْمَعُ عَلَى إِمَامٍ هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الصِّنَاعَةَ وَلَا لُغَةَ الْعَرَبِ وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قوله تعالى: {فادارأتم فيها} هو تفاعلتم أصله تدارأتم فَأُرِيدَ مِنْهُ الْإِدْغَامُ تَخْفِيفًا وَأُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ دَالٌ فَسُكِّنَ لِلْإِدْغَامِ فَاجْتُلِبَتْ لَهَا أَلِفُ الْوَصْلِ فَحَصَلَ عَلَى افَّاعَلْتُمْ وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: {ادَّارَأْتُمْ} افْتَعَلْتُمْ وَغَلِطَ مِنْ أَوْجُهٍ أَوَّلًا أَنَّ: {ادَّارَأْتُمْ} عَلَى ثَمَانِيَةِ أَحْرُفٍ وَافْتَعَلْتُمْ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَالثَّانِي أَنَّ الَّذِي يَلِي أَلِفَ الْوَصْلِ تَاءٌ فَجَعَلَهَا دَالًا وَالثَّالِثُ أَنَّ الَّذِي يَلِي الثَّانِيَ دَالٌ فَجَعَلَهَا تَاءً وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْفِعْلَ الصَّحِيحَ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ مَا بَعْدَ تَاءِ الِافْتِعَالِ مِنْهُ إِلَّا مُتَحَرِّكًا وَقَدْ جَعَلَهُ هَذَا سَاكِنًا وَالْخَامِسُ: أَنَّ هَاهُنَا قَدْ دَخَلَ بَيْنَ التَّاءِ وَالدَّالِ زَائِدٌ وَفِي افْتَعَلَتْ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ وَالسَّادِسُ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْأَلِفَ مَنْزِلَةَ الْعَيْنِ وَلَيْسَتْ بعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَالسَّابِعُ: أَنَّ تَاءَ افْتَعَلَ قَبْلَهُ حَرْفَانِ وَبَعْدَهُ حَرْفَانِ وَ {ادَّارَأْتُمْ} بَعْدَهَا ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ وَقَالَ: ابْنُ جِنِّي مَنْ قَالَ اتَّخَذْتُ افْتَعَلْتُ مِنَ الْأَخْذِ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَالَ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ وَأَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى فَسَادِهِ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ تَاءً وَذَلِكَ غَيْرُ معروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 النوع العشرون: معرفة الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا وَتَرْكِيبِهَا وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَقَدِ انْتَدَبَ النَّاسُ لِتَأْلِيفِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَمِنْ أَوْضَحِهَا كِتَابُ الْحَوْفِيِّ وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ الْمُشْكِلُ وَكِتَابُ أَبِي الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيِّ وكتاب المنتخب الهمداني وَكِتَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ وَتَلَاهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ قَالُوا: وَالْإِعْرَابُ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الْمَعَانِيَ وَيُوقِفُ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِكَ مَا أَحْسَنَ زَيْدًا وَلَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ وَكَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فَرَّقُوا بِالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ الْمَعَانِي فَقَالُوا مِفْتَحٌ للآلة التي يفتح بها ومفتح لموضع الفتح ومقص للآلة ومقص لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْقَصُّ وَيَقُولُونَ امْرَأَةٌ طَاهِرٌ مِنَ الْحَيْضِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُشَارِكُهَا فِي الطَّهَارَةِ. وَعَلَى النَّاظِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْكَاشِفِ عَنْ أَسْرَارِهِ النَّظَرُ فِي هَيْئَةِ الْكَلِمَةِ وَصِيغَتِهَا وَمَحَلِّهَا كَكَوْنِهَا مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَوْ فَاعِلَةً أَوْ مَفْعُولَةً أَوْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ أَوْ فِي جَوَابٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْرِيفٍ أَوْ تَنْكِيرٍ أَوْ جَمْعِ قِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى مَا يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مُرَكَّبًا قَبْلَ الْإِعْرَابِ فَإِنَّهُ فَرْعُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْرَابُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ فِي كَلَالَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يورث كلالة} أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ أَوْ لِلْمَالِ فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلْمَيِّتِ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ وَإِنَّ كَانَ تَامَّةٌ لَا خَبَرَ لَهَا بِمَعْنَى وَجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً وَالْكَلَالَةُ خَبَرَهَا وَجَازَ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ النَّكِرَةِ لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ يُورَثُ وَالْأَوَّلُ أَوْجُهُ وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْوَرَثَةِ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُورَثُ لَكِنْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذا كلالة وعلى هذا فكان نَاقِصَةٌ وَيُورَثُ خَبَرٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً فيورث صِفَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا فَتَكُونُ صِفَتُهُ وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْمَالِ فَهِيَ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليورث كَمَا تَقُولُ وَرَّثْتُ زَيْدًا مَالًا وَقِيلَ تَمْيِيزٌ وليس بشيء ومن جعل الكلالة الْوَارِثَةَ فَهِيَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 مَحْذُوفٍ أَيْ وَارِثُهُ كَلَالَةً أَيْ يُورَثُ بِالْوِرَاثَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْكَلَالَةَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ: {يُورَثُ} بِفَتْحِ الرَّاءِ فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: {يُورِثُ} بِكَسْرِهَا مُخَفَّفَةً أَوْ مُشَدَّدَةً فَالْكَلَالَةُ هِيَ الْوَرَثَةُ أَوِ الْمَالُ وَمِنْ ذَلِكَ تُقَاةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} فِي نَصْبِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى تَفْسِيرِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ فَهِيَ مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتا} وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَإِنْ كانت جمعا كرام ورماة فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَمِنْ ذَلِكَ إِعْرَابُ أحوى من قوله: {غثاء أحوى} وَفِيهِ قَوْلَانِ مُتَضَادَّانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَفَافِ وَالْيُبْسِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنْ شِدَّةِ الخضرة كما فسر: {مدهامتان} فعلى الأول هو صفة لغثاء وَعَلَى الثَّانِي هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَرْعَى وَأُخِّرَ لِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} فَإِنَّهُ قِيلَ الْكِفَاتُ الْأَوْعِيَةُ وَمُفْرَدُهَا كَفْتٌ وَالْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ كِنَايَةٌ عَمَّا نَبَتَ وَمَا لَا يَنْبُتُ وَقِيلَ الْكُفَاتُ مَصْدَرُ كَفَتَهُ إِذَا ضَمَّهُ وَجَمَعَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ: {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} صِفَةٌ لِكِفَاتًا كَأَنَّهُ قِيلَ أَوْعِيَةٌ حَيَّةٌ وَمَيِّتَةٌ أَوْ حَالَانِ وَعَلَى الثَّانِي فَهُمَا مَفْعُولَانِ لِمَحْذُوفٍ وَدَلَّ عَلَيْهِ كِفَاتًا أَيْ يَجْمَعُ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {سَبْعًا من المثاني} فإنه إن كان المراد به القرآن فمن للتبعيض والقرآن حِينَئِذٍ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَإِنْ كانت الفاتحة فمن لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَيْ سَبْعًا هِيَ الْمَثَانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 تَنْبِيهٌ قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ هَذَا تَفْسِيرُ معنى وهذا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى لَا يَضُرُّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} : تَقْدِيرُهُ مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ وَاخْتَلَفَ الشَّارِحُونَ فِي فَهْمِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فَقِيلَ هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى وَقِيلَ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفَانِ حَذْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَذْفُ دَاعِيهِمْ وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الثَّانِي وَحَذْفٌ مِنَ الثَّانِي وَهُوَ حَذْفُ الْمَنْعُوقِ وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَالثَّانِي: تَجَنُّبُ الْأَعَارِيبِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى اللُّغَاتِ الشَّاذَّةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْأَفْصَحِ مِنْ لُغَةِ قُرَيْشٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ الْقُرْآنُ لَا يُعْمَلُ فِيهِ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ فَاشٍ دَائِرٌ عَلَى أَلْسِنَةِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ دُونَ الشَّاذِّ النَّادِرِ الَّذِي لَا يُعْثَرُ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ أَوْ مَوْضِعَيْنِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ غَلَطُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُعْرِبِينَ حِينَ جَعَلُوا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْجِوَارِ قوله تعالى: {وأرجلكم} فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ وَإِنَّمَا ذَلِكَ ضَرُورَةٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْفَصِيحُ وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا أُمِنَ اللَّبْسُ وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ مَعَ عَدَمِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَأَيْضًا فَنَحْنُ فِي غِنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ إِنَّ الْعَرَبَ يَقْرُبُ عِنْدَهَا الْمَسْحُ مَعَ الْغُسْلِ لِأَنَّهُمَا أَسَاسُ الْمَاءِ فَلَمَّا تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى حَصَلَ الْعَطْفُ كَقَوْلِهِ: * مُتَقَلِّدًا سيفا ورمحا * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمُشَارَكَةُ فِي الْمَعْنَى حَسُنَ الْعَطْفُ وَإِلَّا امْتَنَعَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ بَلْ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَهَذَا بِخِلَافِ صَرْفِ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي قوله تعالى: {سلاسلا وأغلالا} فَإِنَّمَا أُجِيزَ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ وَالْعَطْفُ عَلَى الْجِوَارِ خُرُوجٌ عَنِ الْأَصْلِ فَافْتَرَقَا الثَّالِثُ: تَجَنُّبُ لَفْظِ الزَّائِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ التَّكْرَارِ وَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ كَقَوْلِهِمْ الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَنَحْوِهِ مُرَادُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَاهُ بِحَذْفِهَا لَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَمَلُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي الْمُعْتَمَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَمُتَعَارَفِهِمْ وَهُوَ كَثِيرٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ هَذَا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ وَهَذَا لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الزِّيَادَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ وَيَقُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَحْمُولَةُ عَلَى الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا فَلَا أَقْضِي عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ دُرُسْتُوَيْهِ قَالَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِلَيْنَا بِهِ حَاجَةً لَكِنَّ الْحَاجَاتِ إِلَى الْأَشْيَاءِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ فليست الحاجة إلى اللفظ الذي زيد عندها ولا زيادة كالحاجة إلى الألفاظ التي رأوها مزيدة عَلَيْهِ وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ يُسَمُّونَ الزَّائِدَ صِلَةً وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ مُقْحَمًا وَيَقَعُ ذلك في عبارة مستوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الرَّابِعُ: تُجَنُّبُ الْأَعَارِيبِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالْمُنَافِيَةُ لِنَظْمِ الْكَلَامِ كَتَجْوِيزِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي {لِلْفُقَرَاءِ} في سورة الحشر أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} وَهَذَا فَصْلٌ كَبِيرٌ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَرِيبُ بِقَرَابَتِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُهُ وَنَظِيرُهُ إعراب بعضهم {الذين ظلموا. . . . .} بَدَلًا مِنَ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ للناس حسابهم} الْخَامِسُ: تَجَنُّبُ التَّقَادِيرِ الْبَعِيدَةِ وَالْمَجَازَاتِ الْمُعَقَّدَةِ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يُجَوِّزُهُ النُّحَاةُ فِي شعر امرئ القيس وغيره وأن نقول في نحو: {اغفر لنا} و: {اهدنا} فعلي دعاء أو سؤال ولا نقول فِعْلَيْ أَمْرٍ تَأَدُّبًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ الْعُلُوَّ وَالِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي الْبَصَائِرِ سَأَلْتُ السِّيرَافِيَّ عن قوله تعالى: {قائما بالقسط} بِمَ انْتَصَبَ قَالَ بِالْحَالِ قُلْتُ لِمَنِ الْحَالُ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى قُلْتُ فَيُقَالُ لِلَّهِ حَالٌ قَالَ إِنَّ الْحَالَ فِي اللَّفْظِ لَا لِمَنْ يُلْفَظُ بِالْحَالِ عَنْهُ وَلَكِنَّ التَّرْجَمَةَ لَا تَسْتَوْفِي حَقِيقَةَ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصُوغَ الْوَهْمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صِيَاغَةً تَسْكُنُ إِلَيْهَا النَّفْسُ وَيَنْتَفِعُ بِهَا الْقَلْبُ ثُمَّ تَكُونُ حَقَائِقُ الْأَلْفَاظِ فِي مُفَادِهَا غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا مَنْقُوضَةٍ بِاعْتِقَادٍ وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى بُعْدٍ مِنَ اللَّفْظِ كَذَلِكَ الْحَقِيقَةُ عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْوَهْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 السَّادِسُ: الْبَحْثُ عَنِ الْأَصْلِيِّ وَالزَّائِدِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الذي بيده عقدة النكاح} فَإِنَّهُ قَدْ نَتَوَهَّمُ الْوَاوَ فِي الْأُولَى ضَمِيرَ الْجَمْعِ فَيُشْكِلُ ثُبُوتُ النُّونِ مَعَ أَنْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْوَاوُ هُنَا لَامُ الْكَلِمَةِ وَالنُّونُ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ فَبَنَى الْفِعْلَ مَعَهَا عَلَى السُّكُونِ فَإِذَا وُصِلَ النَّاصِبُ أَوِ الْجَازِمُ لَا تُحْذَفُ النُّونُ وَمِثْلُهُ النِّسَاءُ يَرْجُونَ بِخِلَافِ الرِّجَالُ يَرْجُونَ فَإِنَّ الْوَاوَ فِيهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ وَالنُّونُ حِرَفُ عَلَامَةٍ لِلرَّفْعِ وَأَصْلُهُ يَرْجُوُونَ أُعِلَّتْ لَامُ الْكَلِمَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ التَّصْرِيفُ فَإِذَا دَخَلَ الْجَازِمُ حُذِفَ النُّونُ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللَّفْظُ وَاخْتَلَفَ فِي التَّقْدِيرِ وَكَذَلِكَ يُبْحَثُ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ فِي التَّقْدِيرِ وَلَا يُؤْخَذُ بِالظَّاهِرِ فَفِي نحو قوله تعالى: {لا مرحبا بهم} يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ: {مَرْحَبًا} نَصَبَ اسْمَ لَا وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ شَرْطَ عَمَلِهَا فِي الِاسْمِ أَلَّا يَكُونَ مَعْمُولًا لِغَيْرِهَا وَإِنَّمَا نُصِبَ بفعل مضمر يجب إضماره {لَا} دُعَاءٌ، وَ {بِهِمْ} بَيَانٌ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ مَرْحَبًا وَأَجَازَ فِي جُمْلَةِ: {لَا مَرْحَبًا} أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً وَأَنْ تَكُونَ حَالًا أَيْ هَذَا فَوْجٌ مَقُولًا لَهُ: {لَا مَرْحَبًا} وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدَّرَ مَقُولًا فَمَقُولًا هُوَ الْحَالُ وَ: {لَا مَرْحَبًا} مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {واعلموا أن فيكم رسول الله} يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الظَّرْفَ قَبْلَهُ خَبَرُ أَنَّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فِيهِمْ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّهُ لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَإِنَّمَا: {فِيكُمْ} حَالٌ وَالْمَعْنَى وَاعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِيكُمْ لَوْ أَطَاعَكُمْ لَكَانَ كَذَا وَمِنْهُ قوله تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا} وقوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فَإِنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ فِيهِمَا بَعْدَ النَّفْيِ مَقْرُونًا بِالْفَاءِ وَفِي الْأُولَى حُذِفَتِ النُّونُ وَفِي الثَّانِيَةِ أَثْبَتَهَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَجَوَابُهُ أَنَّ حَذْفَ النون جوابا للنفي هو على أحد معنى نَصْبٍ مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا أَيْ مَا يَكُونُ إِتْيَانٌ وَلَا حَدِيثٌ وَالْمَعْنَى الثَّانِي إِثْبَاتُ الْإِتْيَانِ وَنَفْيُ الْحَدِيثِ أَيْ مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا أَيْ تَأْتِينَا غَيْرَ مُحَدِّثٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْآيَةِ وَأَمَّا إِثْبَاتُ النُّونِ فَعَلَى الْعَطْفِ وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نتبعه} وقوله: {أبشر يهدوننا} حَيْثُ انْتَصَبَ بَشَرًا فِي الْأَوَّلِ وَارْتَفَعَ فِي الثَّانِي فَيُقَالُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ نَصْبَ بَشَرًا عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالشَّاغِلُ لِلْعَامِلِ مَنْصُوبٌ فَصَحَّ لِعَامِلِهِ أَنْ يُفَسِّرَ نَاصِبًا وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَالشَّاغِلُ مَرْفُوعٌ مُفَسِّرٌ رَافِعًا وَهَذَا كَمَا تَقُولُ أَزَيْدٌ قَامَ؟ فَزَيْدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ لطلب أداء الْفِعْلِ فَهَذَا فِي الِاشْتِغَالِ وَالشَّاغِلُ مَرْفُوعٌ وَتَقُولُ فِيمَا الشَّاغِلُ فِيهِ مَنْصُوبٌ أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ؟ وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى نَصْبِ قَلِيلٍ فِي: {فشربوا منه إلا قليلا} اختلفوا في: {ما فعلوه إلا قليل} وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ: {قَلِيلًا} الْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ وَالثَّانِي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَنْفِيٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَجْمَعُوا عَلَى النَّصْبِ فِي: {فلا يؤمنون إلا قليلا} مَعَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ مُوجَبٍ؟ قِيلَ لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ فَالتَّقْدِيرُ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا وَمِثْلُهُ: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فِي سُورَةِ الحديد قَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِ: {كَلٍّ} وَوَافَقَ الْجَمَاعَةَ على النصب في النساء وَالْفَرْقُ أَنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ شُغِلَ الْخَبَرُ بِهَاءٍ مُضْمَرَةٍ وَلَيْسَ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَيُخْتَارُ لِأَجْلِهَا النَّصْبُ فَرُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا اخْتِيرَ فِيهَا النَّصْبُ لِأَنَّ قَبْلَهُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَهِيَ قوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} تَنْبِيهٌ قَدْ يَتَجَاذَبُ الْإِعْرَابُ وَالْمَعْنَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يُلِمُّ بِهِ كَثِيرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ أَنَّ الْمَعْنَى يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ وَالْإِعْرَابَ يمنع منه قالوا والتمسك بصحة المعنى يؤول لِصِحَّةِ الْإِعْرَابِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلَى رجعه لقادر يوم تبلى السرائر} فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ {يَوْمٌ} يَقْتَضِي الْمَعْنَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ رَجْعٌ أَيْ أَنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَقَادِرٌ لَكِنَّ الْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ لِعَدَمِ جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ يُجْعَلُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تدعون إلى الأيمان فتكفرون} فَالْمَعْنَى يَقْتَضِي تَعَلُّقَ إِذْ بِالْمَقْتِ وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُهُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إن ربهم بهم يومئذ لخبير} فالمعنى أن العامل في إذا خبير والإعراب يمنعه لأن ما بعد إِنَّ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ الْعَامِلُ تَنْبِيهٌ عَلَى النَّحْوِيِّ بَيَانُ مَرَاتِبِ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْعُمْدَةِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْفَضْلَةِ وَمَرْتَبَةَ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْخَبَرِ وَمَرْتَبَةَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَإِنْ كَانَا فَضْلَتَيْنِ وَمَرْتَبَةَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِذَا اتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِمَا مَرْتَبَتُهُ التَّقْدِيمُ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى مَا مَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا لَفْظًا وَمَرْتَبَةً وَإِذَا اتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِمَا مَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى مَا مَرْتَبَتُهُ التَّقْدِيمُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقَدَّمًا لَفْظًا مُؤَخَّرًا رُتْبَةً فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي دَارِهِ زَيْدٌ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْخَبَرِ وَمَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ وَلَا يَجُوزُ صَاحِبُهَا فِي الدَّارِ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْمُبْتَدَأِ وَمَرْتَبَتُهُ التقديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 النوع الحادي والعشرون: مَعْرِفَةُ كَوْنِ اللَّفْظِ وَالتَّرْكِيبِ أَحْسَنَ وَأَفْصَحَ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفَ كَثِيرَةً وَأَجْمَعُهَا مَا جَمَعَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ النَّقِيبِ مُجَلَّدَيْنِ قَدَّمَهُمَا أَمَامَ تَفْسِيرِهِ وَمَا وَضَعَهُ حَازِمٌ الأندلسي المسمى بمنهاج الْبُلَغَاءِ وَسِرَاجِ الْأُدَبَاءِ وَهَذَا الْعِلْمُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْمُفَسِّرِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْجَازُ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَتَأْلِيفِ النَّظْمِ وَأَنْ يُوَاخِي بَيْنَ الْمَوَارِدِ وَيَعْتَمِدَ مَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ حَتَّى لَا يَتَنَافَرَ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَأَمْلَأُ النَّاسِ بِهَذَا صَاحِبُ الْكَشَّافِ قَالَ السَّكَّاكِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ الْإِعْجَازِ عَجِيبٌ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا وَكَالْمَلَاحَةِ وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِهِ لِذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إِلَّا إِتْقَانُ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالتَّمَرُّنُ فِيهِمَا وَقَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ حَقِّ مُفَسِّرِ كِتَابِ اللَّهِ الْبَاهِرِ وَكَلَامِهِ الْمُعْجِزِ أَنْ يَتَعَاهَدَ فِي مَذَاهِبِهِ بَقَاءَ النَّظْمِ عَلَى حُسْنِهِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى كَمَالِهَا وَمَا وَقَعَ بِهِ التَّحَدِّي سَلِيمًا مِنَ الْقَادِحِ وَإِذَا لَمْ يَتَعَاهَدْ أَوْضَاعَ اللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ تَعَاهُدِ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى مَرَاحِلَ وَادَّعَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ فِي كِتَابِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الْعِلْمِ لَا يُعَدُّ مِنَ الْبَلَاغَةِ الْقُرْآنِيَّةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خِلَافِ أَسَالِيبِهِمْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ عَدَدْتَ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِهِ مَعَ أَنَّ سَلَفَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَخُوضُوا فِيهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هَذَا أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 قُلْتُ: إِنَّمَا سَكَتَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ تَعْلِيمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَتَعْرِيفُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ وَلَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ تَعْلِيمُ طُرُقِ الْفَصَاحَةِ وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَكُونَ مُعْجِزَةً وَمَا قُصِدَ بِهِ الْإِعْجَازُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِهِ فَلَمْ يَكُنِ الْخَوْضُ فِيهِ مُسَوَّغًا إِذِ الْبَلَاغَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فِيهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ موجود في الصحف الأولى لامع هَذِهِ الْبَلَاغَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَإِنَّمَا كَانَ بَلِيغًا بِحَسَبِ كَمَالِ الْمُتَكَلِّمِ فَلِهَذَا لَمْ يَتَكَلَّمِ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ وَكَانَ مَعْرِفَتُهُمْ بِأَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانٍ بِخِلَافِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فَلِهَذَا تَكَلَّمُوا فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ بِأَوْضَاعِهَا هِيَ عُمْدَةُ التَّفْسِيرِ الْمُطْلِعِ عَلَى عَجَائِبِ كَلَامِ اللَّهِ وَهِيَ قَاعِدَةُ الْفَصَاحَةِ وَوَاسِطَةُ عِقْدِ الْبَلَاغَةِ وَلَوْ لَمْ يُحَبِّبِ الْفَصَاحَةَ إِلَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ علم القرآن خلق الأنسان علمه البيان} لَكَفَى وَالْمَعْلُومَاتُ كَثِيرَةٌ وَمِنَنُ اللَّهِ تَعَالَى جَمَّةٌ وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا تَعْلِيمَ الْبَيَانِ وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ للناس} وقال تعالى: {تبيانا لكل شيء} وَلِحَذْفِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} نُكْتَةٌ عِلْمِيَّةٌ فَإِنَّهُ جَعَلَ تَعْلِيمَ الْبَيَانِ فِي وِزَانِ خَلْقِهِ وَكَالْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} لِأَنَّهُ حَيٌّ نَاطِقٌ وَكَأَنَّهُ إِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ بِقَوْلِهِمْ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ تُفِيدُ قُوَّةَ الْإِفْهَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ وَيُرَادُ مِنْهُ لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنِ اتِّبَاعِ التَّصْدِيقِ بِهِ وَإِذْعَانِ النَّفْسِ لَهُ وَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِمَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا الْبَلِيغُ مثبتا ونافيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} بَعْدَ ذِكْرِهِ النُّطْفَةَ وَمُتَعَلَّقَهَا فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ وَكَقَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فَمَنْ يَقْرَعُ سَمْعَهُ هَذَا الْكَلَامُ الْمُعْجِزُ اسْتَشْعَرَ مِنْ رَوْعَةِ النَّفْسِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ مَا يُمَكِّنُ خشية الله وعظمته من قبله وَمِنْهَا بَيَانُ الْحَقِّ فِيمَا يُشْكِلُ مِنَ الْأُمُورِ غَيْرِ الْعَقَائِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فاجنح لها وتوكل على الله} وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ" فَانْظُرْ كَيْفَ أَعْطَى فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ الْيَسِيرَةِ الْحُجَّةَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ احْتِلَامَ الْمَرْأَةِ فَلَا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ وَلَا أَشْفَى لِلْمُرْتَابِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَرَى إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ عِيَانًا وَهُوَ شِبْهُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ وَيَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُحَالُ الشَّبَهُ عَلَيْهِ غَيْرَ الَّذِي أَنْكَرَ وَمِنْهَا تَمْكِينُ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنَ النُّفُوسِ مِثْلَ الِاسْتِعْطَافِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْإِرْضَاءِ وَالْإِغْضَابِ وَالتَّشْجِيعِ وَالتَّخْوِيفِ وَيَكُونُ فِي مَدْحٍ وَذَمٍّ وَشِكَايَةٍ وَاعْتِذَارٍ وَإِذْنٍ وَمَنْعٍ وَيَنْضَمُّ إِلَى قُوَّةِ الْقَوْلِ الْبَلَاغِيِّ مَعْنًى مُتَّصِلٌ إِعَانَةً لَهَا مِثْلَ فَضِيلَةِ الْقَائِلِ وَحَمِيَّةِ النَّازِعِ وَقُوَّةِ الْبَلِيغِ عَلَى إِطْرَاءِ نَفْسِهِ وَتَحْسِينِ رَأْيِهِ وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءُ الْمُخَاطَبِ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ وَزِيَادَةِ تَفَهُّمٍ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وفرادى ثم تتفكروا} وكذلك قوله: {وما يعقلها إلا العالمون} وَسِرُّ هَذَا أَنَّ السَّامِعَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُثْنَى عَلَيْهِمْ فَيُسَارِعُ إِلَى التَّصْدِيقِ وَيُلْقَى فِي نَفْسِهِ نُورٌ مِنَ التَّوْفِيقِ وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ الْبَلَاغِيُّ مَا يُسَمَّى الضَّمِيرَ وَيُسَمَّى التَّمْثِيلَ وَأَعْنِي بِالضَّمِيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أن يضمر بالقول المجادل به البيان أَحَدِ حَرْفَيْهِ كَقَوْلِ الْفَقِيهِ النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْإِضْمَارُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ أَيْضًا كَقَوْلِكَ لَوْ كَانَ فُلَانٌ عَزِيزًا لَمَنَعَ بِأَعِنَّةِ الْخَيْلِ جَارَهُ أَوْ جَوَادًا لَشَبَّ لِسَارِي اللَّيْلِ نَارَهُ مُعَوِّلًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَا مَنَعَ وَلَا شَبَّ فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الْبُخْلُ وَالذِّلَّةُ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك} وَقَدْ شَهِدَ الْحِسُّ وَالْعِيَانُ أَنَّهُمْ مَا انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَهِيَ الْمُضْمَرَةُ فَانْتَفَى عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَظٌّ غَلِيظُ الْقَلْبِ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا أُبْرِزَ فِيهِ هَذَا الْمُضْمَرُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مَوْلًى هَجَوْتُهُ وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى مَوَالِيَا وَمِثَالُ الِاسْتِمَالَةِ وَالِاسْتِعْطَافِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ من الخاسرين} وَحَسْبُكَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ حِينَ سَمِعَ شِعْرَ الْقَائِلَةِ: مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ قَالَ: لَوْ بَلَغَنِي شِعْرُهَا قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ لَمَا قَتَلْتُهُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَنَحْنُ الْكَاتِبُونَ وَقَدْ أَسَأْنَا فَهَبْنَا لِلْكِرَامِ الكاتبينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وَمِنَ الِاسْتِمَالَةِ وَالِاسْتِرْضَاءِ مَا لَا يَخْرِقُ السَّمْعَ أَنْفَذُ مِنْهُ إِلَى الْقُلُوبِ وَأَوْقَعُ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ وَقَدْ وَجَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي غَيْرِهِمْ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ كَذَا أَلَمْ أَجِدْكُمْ كَذَا ثُمَّ قَالَ أَجِيبُونِي فَمَا زَادُوا عَلَى قَوْلِهِمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَا إِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فلصدقتم وَلَصَدَقْتُمْ جِئْتَنَا بِحَالِ كَذَا وَكَذَا" فَانْظُرْ مَا أَعْجَبَ هَذَا اسْتَشْعَرَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ إِمْسَاكَهُمْ عَنِ الْجَوَابِ أَدَبٌ مَعَهُ لَا عَجْزٌ عَنْهُ فَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا صُدِّقُوا وَلَمْ يَكُنْ هُوَ بِالَّذِي يَغْضَبُ مِنْ سَمَاعِهِ ثُمَّ زَادَهُمْ تَكْرِيمًا بِقَوْلِهِ: "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ الناس بالشاة وَالْبَعِيرِ وَتَنْصَرِفُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ" ثُمَّ زَادَ يَمِينَهُ الْمُبَارَكَةَ الْبَرَّةَ عَلَى فَضْلِ مَا يَنْصَرِفُونَ بِهِ اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَحَبَّتِهِ وَتَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِشَفَاعَتِهِ وَمِمَّا تَجِدُ مِنْ هَذَا الطِّرَازِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أُنَاسٌ أَعْرَضُوا عَنَّا بِلَا جُرْمٍ وَلَا مَعْنَى أَسَاءُوا ظَنَّهُمْ فِينَا فَهَلَّا أَحْسَنُوا الظَّنَّا فَإِنْ عَادُوا لَنَا عُدْنَا وَإِنْ خَانُوا فَمَا خُنَّا وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَغْنَوْا فَإِنَّا عَنْهُمْ أغنى وإن قالوا ادن منا بعد بَاعَدْنَا مَنِ اسْتَدْنَى وَمِنَ الْإِغْضَابِ الْعَجِيبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فأولئك هم الظالمون} وقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقوله: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: إِذَا وَالَى صَدِيقُكَ مَنْ تُعَادِي فَقَدْ عَادَاكَ وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ وَمِنْ قِسْمِ التَّشْجِيعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وَكَفَى بِحُبِّ اللَّهِ مُشَجِّعًا عَلَى مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُبَاشَرَةِ الطِّعَانِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَالْقَوْمُ صَبَرُوا وَالْمَلِكُ الْحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَدَهُمْ بِالْمَدَدِ الْكَثِيرِ ثُمَّ قَالَ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الحكيم} وَقَوْلُهُ: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} وَفِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْقِسْمِ مَا يُرَادُ بِهِ الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالثَّانِي بِالْحَرْبِ وَالِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهَا بِالْعُدَّةِ وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بأيديكم إلى التهلكة} {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} وَمِنْهُ الْإِبَانَةُ بِالْمَدْحِ وَرُبَّمَا مُدِحَ الْكَرِيمُ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الزِّلَّةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالذَّنْبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيمَا أَسَرَّ سَيِّدُ الْبَشَرِ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مِمَّنْ أَظْهَرَهُ عَلَى إِفْشَائِهِ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عرف بعضه وأعرض عن بعض ولذلك قيل: ليس الغي بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَمِنْهُ التَّمْثِيلُ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ يُسَلِّمُهُ السَّامِعُ وَيُقَوِّيهِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ الْأَشْقِيَاءِ تَحْذِيرًا لِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَأَخْبَارِ السُّعَدَاءِ تَرْغِيبًا لِمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الثواب وفي الحديث "أرأيت لو مضضت أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ " كَيْفَ ظَهَرَ إِمْكَانُ نَقْلِ الْحُكْمِ مِنْ شَبَهٍ إِلَى شَبَهٍ وَمِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ التَّرْغِيبَ مَعَ التَّرْهِيبِ وَيُشْفِعَ الْبِشَارَةَ بِالْإِنْذَارِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَسِرُّهُ إِرَادَةُ التَّسْلِيطِ لِاكْتِسَابِ مَا يُزْلِفُ وَالتَّثْبِيطُ عَنِ اقْتِرَافِ مَا يُتْلِفُ فَلَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ وَأَعْمَالَهُمْ وَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ ثَنَّاهُ بِبِشَارَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهٌ لِيَكُنْ مَحَطُّ نَظَرِ الْمُفَسِّرِ مُرَاعَاةَ نَظْمِ الْكَلَامِ الَّذِي سِيقَ لَهُ وَإِنْ خَالَفَ أَصْلَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِثُبُوتِ التَّجَوُّزِ وَلِهَذَا تَرَى صَاحِبَ الْكَشَّافِ يَجْعَلُ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ مُعْتَمَدًا حَتَّى كَأَنَّ غيره مطروح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 النوع الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نقص أو تغييرحركة أَوْ إِثْبَاتِ لَفْظٍ بَدَلَ آخَرَ وَذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ وَيُوجَدُ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ عِلْمِ الْقِرَاءَةِ وَأَحْسَنُ الْمَوْضُوعِ لِلْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ كِتَابُ التَّيْسِيرِ لِأَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ وَقَدْ نَظَمَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ الشَّاطِبِيُّ فِي لَامِيَّتِهِ الَّتِي عَمَّ النَّفْعُ بِهَا وَكِتَابُ الْإِقْنَاعِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَاذِشِ وَفِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ كِتَابُ الْمِصْبَاحِ لِأَبِي الْكَرَمِ الشَّهْرُزُورِيِّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْقِرَاءَاتِ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ وَالْقِرَاءَاتُ هِيَ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ فِي كَتَبَةِ الْحُرُوفِ أَوْ كَيْفِيِّتِهَا مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَثْقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ هَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ بَلْ مَشْهُورَةٌ وَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِ المبرد قراءة حمزة {والأرحام} و {مصرخي} وَلَا بِإِنْكَارِ مَغَارِبَةِ النُّحَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 كَابْنِ عُصْفُورٍ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ {قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شركائهم} وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ أَمَّا تَوَاتُرُهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ إِسْنَادَ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ عَنِ الْوَاحِدِ لَمْ تُكْمِلْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ فِي اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ وَهَذَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ وَقَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الثَّانِي: اسْتَثْنَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ قَوْلَنَا إِنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ مُتَوَاتِرَةٌ مَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ وَمَثَّلَهُ بِالْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ يَعْنِي فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَدَّ وَالْإِمَالَةَ لَا شَكَّ فِي تَوَاتُرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَدُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَدٌّ وَالْإِمَالَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا إِمَالَةٌ وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي تَقْدِيرِ الْمَدِّ فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ طَوِيلًا وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ قَصِيرًا وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي الْقَصْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَزَايَدَ فَحَمْزَةُ وَوَرْشٌ بِمِقْدَارِ سِتِّ لُغَاتٍ وَقِيلَ خَمْسٌ وَقِيلَ أَرْبَعٌ وَعَنْ عَاصِمٍ ثَلَاثٌ وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَلِفَانِ وَنِصْفٌ وَقَالُونَ أَلِفَانِ وَالسُّوسِيِّ أَلِفٌ وَنِصْفٌ قَالَ الدَّانِيُّ في التيسير أطوالهم مَدًّا فِي الضَّرْبَيْنِ جَمِيعًا يَعْنِي الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْفَصِلَ وَرْشٌ وَحَمْزَةُ وَدُونَهُمَا عَاصِمٌ وَدُونَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَدُونَهُمَا أَبُو عَمْرٍو مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَقَالُونُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَشِيطٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى التَّقْرِيبِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مِقْدَارِ مَذَاهِبِهِمْ مِنَ التحقيق والحذف انْتَهَى كَلَامُهُ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ أَصْلَ الْمَدِّ مُتَوَاتِرٌ وَالِاخْتِلَافُ وَالطُّرُقُ إِنَّمَا هُوَ فِي كَيْفِيَّةِ التلفظ به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وكان الإمام أبو القاسم الشاطبي يَقْرَأُ بِمَدَّتَيْنِ طُولَى لِوَرْشٍ وَحَمْزَةَ وَوُسْطَى لِمَنْ بَقِيَ وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كره قرأة حَمْزَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ طُولِ الْمَدِّ وَغَيْرِهِ فَقَالَ لَا تُعْجِبُنِي وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً لَمَا كَرِهَهَا وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقُرَّاءُ أَنَّ الْإِمَالَةَ قِسْمَانِ إِمَالَةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ أَنْ يُنْحَى بِالْأَلِفِ إِلَى الياء وتكون الياء أقرب بالفتحة إلى الكسر وَتَكُونُ الْكَسْرَةُ أَقْرَبَ وَإِمَالَةٌ تُسَمَّى بَيْنَ بَيْنَ وَهِيَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَالْفَتْحَةَ أَقْرَبُ وَهَذِهِ أَصْعَبُ الْإِمَالَتَيْنِ وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَلَا شَكَّ فِي تَوَاتُرِ الْإِمَالَةِ أَيْضًا وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهَا مُبَالَغَةً وَحُضُورًا أَمَّا تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَخْفِيفٌ وَتَلْيِينٌ وَتَسْهِيلٌ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّخْفِيفِ وَكُلٌّ مِنْهَا مُتَوَاتِرٌ بِلَا شَكٍّ: أَحَدُهَا: النَّقْلُ وَهُوَ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الساكن قبلها، نحو: {قد أفلح} بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ الْفَتْحَةُ إِلَى دَالِ قد وتسقط الهمزة فَيَبْقَى اللَّفْظُ بِدَالٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا فَاءٌ وَهَذَا النَّقْلُ قِرَاءَةُ نَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ وَرْشٍ فِي حَالِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ فِي حَالِ الْوَقْفِ الثَّانِي: أَنْ تُبْدَلَ الْهَمْزَةُ حَرْفَ مَدٍّ مِنْ جِنْسِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا إِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ أُبْدِلَتْ أَلِفُهَا نَحْوَ بَاسٍ وَهَذَا الْبَدَلُ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَنَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ وَرْشٍ فِي فَاءِ الْفِعْلِ وَحَمْزَةَ إِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ الْهَمْزِ بَيْنَ بَيْنَ وَمَعْنَاهُ أَنْ تُسَهَّلَ الْهَمْزَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَرْفِ الَّذِي مِنْهُ حَرَكَتُهَا فَإِنْ كَانَتْ مَضْمُومَةً سُهِّلَتْ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ أَوْ مَفْتُوحَةً فَبَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ أَوْ مَكْسُورَةً فَبَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ وَهَذَا يُسَمَّى إِشْمَامًا وَقَرَأَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قل آلذكرين} وَنَحْوِهِ وَذَكَرَهُ النُّحَاةُ عَنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 قَالَ: ابْنُ الْحَاجِبِ فِي تَصْرِيفِهِ وَاغْتُفِرَ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ فِي نَحْوِ آلْحَسَنُ عِنْدَكَ؟ وَآيْمُنُ اللَّهِ يَمِينُكَ؟ وَهُوَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ أَوَّلُهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ مَفْتُوحَةٌ وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مَا فِيهِ لَامُ التَّعْرِيفِ مُطْلَقًا وَفِي ايْمُنِ اللَّهِ وَايْمُ اللَّهِ خَاصَّةً إِذْ لَا أَلِفَ وَصْلٍ مَفْتُوحَةً سِوَاهَا وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَوْفَ لَبْسِ الْخَبَرِ بِالِاسْتِخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا أَلْحَسَنُ عِنْدَكَ وَحَذَفُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مِثْلِهَا لَمْ يُعْلَمْ أَسْتِخْبَارٌ هُوَ أَمْ خَبَرٌ؟ فَأَتَوْا بِهَذِهِ عِوَضًا عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ قَبْلَ السَّاكِنِ فَصَارَ قَبْلَ السَّاكِنِ مَدَّةٌ فَقَالُوا آلْحَسَنُ عِنْدَكَ وَكَذَلِكَ آيْمُنُ اللَّهِ يَمِينُكَ فِيمَا ذَكَرَهُ وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَجْعَلُ هَمْزَةَ الْوَصْلِ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ بَيْنَ وَيَقُولُ آلْحَسَنُ عِنْدَكَ وَآيْمُنُ اللَّهِ يَمِينُكَ فِيمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْقُرَّاءِ بِالْوَجْهَيْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَقَدْ أَشَارَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى التَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ فَكَتَبُوا صُورَةَ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} وَاوًا عَلَى إِرَادَةِ التَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ قَالَهُ الدَّانِيُّ وَغَيْرُهُ الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ الْإِسْقَاطِ وَهُوَ أَنْ تُسْقَطَ الْهَمْزَةُ رَأْسًا وَقَدْ قَرَأَ بِهِ أَبُو عَمْرٍو فِي الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْحَرَكَةِ فَأَسْقَطَ الْأُولَى مِنْهُمَا عَلَى رَأْيِ الشَّاطِبِيِّ وَقِيلَ الثَّانِيَةَ فِي نَحْوِ: {جَاءَ أَجَلُهُمْ} وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَفْتُوحَتَيْنِ نَافِعٌ مِنْ طَرِيقِ قَالُونَ وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْبَزِّيِّ وَجَاءَ هَذَا الْإِسْقَاطُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي قِرَاءَةِ قُنْبُلٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي: {أَيْنَ شركاي الذين كنتم تشاقون فيهم} بإسقاط همزة: {شركائي} الثَّالِثُ: أَنَّ الْقِرَاءَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَيْسَتِ اخْتِيَارِيَّةً خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ تَدُورُ مَعَ اخْتِيَارِ الْفُصَحَاءِ وَاجْتِهَادِ الْبُلَغَاءِ وَرُدَّ على حمزة قراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 {والأرحام} بِالْخَفْضِ وَمِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ أَنْ خَطَّئُوا حَمْزَةَ فِي قراءته: {وما أنتم بمصرخي} بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَكَذَا أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي عَمْرٍو إِدْغَامَهُ الرَّاءَ عِنْدَ اللَّامِ فِي: {يَغْفِلَّكُمْ} وَقَالَ: الزَّجَّاجُ إِنَّهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ وَلَا تُدْغَمُ الرَّاءُ فِي اللَّامِ إِذَا قُلْتَ مُرْلِي بِكَذَا لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفٌ مُكَرَّرٌ وَلَا يُدْغَمُ الزَّائِدُ فِي النَّاقِصِ لِلْإِخْلَالِ بِهِ فَأَمَّا اللَّامُ فَيَجُوزُ إِدْغَامُهُ فِي الرَّاءِ وَلَوْ أُدْغِمَتِ اللَّامُ فِي الرَّاءِ لَزِمَ التَّكْرِيرُ مِنَ الرَّاءِ وَهَذَا إِجْمَاعُ النَّحْوِيِّينَ انْتَهَى وَهَذَا تَحَامُلٌ وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا هذا بشرا} وَبَنُو تَمِيمٍ يَرْفَعُونَهُ إِلَّا مَنْ دَرَى كَيْفَ هِيَ فِي الْمُصْحَفِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ مَا روي عنه انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الرابع: ما تضمنه التيسير والشاطبية قَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ لَمْ يَحْوِيَا جَمِيعَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَإِنَّمَا هِيَ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنْهَا وَمَنْ عُنِيَ بِفَنِّ الْقِرَاءَاتِ وَطَالَعَ مَا صَنَّفَهُ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ عَلِمَ ذَلِكَ الْعِلْمَ الْيَقِينَ وَذَلِكَ أَنَّ بِلَادَنَا جَزِيرَةَ الْأَنْدَلُسِ لَمْ تَكُنْ مِنْ قَدِيمٍ بِلَادَ إِقْرَاءِ السَّبْعِ لِبُعْدِهَا عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَاجْتَازُوا عِنْدَ الْحَجِّ بِدِيَارِ مِصْرَ وَتَحَفَّظُوا مِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ حُرُوفِ السَّبْعِ وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ بِمِصْرَ إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ رِوَايَاتٌ مُتَّسِعَةٌ وَلَا رِحْلَةٌ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي اتَّسَعَتْ فِيهَا الرِّوَايَاتُ كَأَبِي الطَّيِّبِ بْنِ غَلْبُونَ وَابْنِهِ أَبِي الْحَسَنِ طَاهِرٍ وَأَبِي الْفَتْحِ فَارِسِ بْنِ أَحْمَدَ وَابْنِهِ عَبْدِ الْبَاقِي وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ نَفِيسٍ وَكَانَ بِهَا أَبُو أَحْمَدَ السَّامَرِّيُّ وَهُوَ أَعْلَاهُمْ إِسْنَادًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وَسَبَبُ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَاتِ بِدِيَارِ مِصْرَ مَا كَانَ غَلَبَ عَلَى أَهْلِهَا مِنْ تَغَلُّبِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ عَلَيْهَا وَقَتْلِ مُلُوكِهِمُ الْعُلَمَاءَ فَكَانَ مِنْ قُدَمَاءِ عُلَمَائِنَا مِمَّنْ حَجَّ يَأْخُذُ بِمِصْرَ شَيْئًا يَسِيرًا كَأَبِي عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيِّ صَاحِبِ الرَّوْضَةِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ رَحَلَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ لِطُولِ إِقَامَتِهِ بِدَانِيَةَ فَأَخَذَ عَنِ أبي خافان وَفَارِسٍ وَابْنِ غَلْبُونَ وَصَنَّفَ كِتَابَ التَّيْسِيرِ وَقَرَأَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَرَحَلَ أَيْضًا أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ جُبَارَةَ الْأَنْدَلُسِيُّ فَأَبْعَدَ فِي الشُّقَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَ طَرِيقِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَصَنَّفَ كِتَابَ الْكَامِلِ يَحْتَوِي عَلَى الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَوْسَعَ رِحْلَةً مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ شُيُوخًا وَقَدْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِمَكَّةَ أَبُو مَعْشَرٍ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَارِزِينِيُّ وَكَانَا مُتَّسِعَيِ الرواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وَكَانَ بِمِصْرَ أَبُو عَلِيٍّ الْمَالِكِيُّ مُؤَلِّفُ الرَّوْضَةِ وَكَانَ قَدْ قَرَأَ بِالْعِرَاقِ وَأَقْرَأَ بِمِصْرَ وَبَعْدَهُمُ التَّاجُ الْكِنْدِيُّ فَأَقْرَأَ النَّاسَ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ لَمْ تَصِلْ إِلَى بِلَادِنَا وَكَانَ أَيْضًا ابْنُ مَامَوَيْهِ بِدِمَشْقَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ وَبِمِصْرَ النِّظَامُ الْكُوفِيُّ يُقْرِئُ بِالْعَشْرِ وَبِغَيْرِهَا كَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ وَالْحَسَنِ وَكَانَ بِمَكَّةَ أَيْضًا زَاهِرُ بْنُ رُسْتُمَ وَأَبُو بَكْرٍ الزِّنْجَانِيُّ وَكَانَا قَدْ أَخَذَا عَنْ أَبِي الْكَرَمِ الشَّهْرُزُورِيِّ كِتَابَ الْمِصْبَاحِ الزَّاهِرِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الْبَوَاهِرِ وَأَقْرَأَهُ الزِّنْجَانِيُّ لِبَعْضِ شُيُوخِنَا وَكَانَ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوثِيُّ بِدِمَشْقَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ أَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَاصِلُ اتِّسَاعُ رِوَايَاتِ غَيْرِ بِلَادِنَا وأن الذي تضمنه التيسير والتبصرة والكافي وَغَيْرُهَا مِنْ تَآلِيفِهِمْ إِنَّمَا هُوَ قُلٌّ مِنْ كُثْرٍ وَنَزْرٌ مِنْ بَحْرٍ وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مَثَلًا قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْشٍ وَقَالُونَ وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْ نَافِعٍ غيرهما منهم إسماعيل بن أبي جعفر المدني وأبو خلف وابن حبان والأصمعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 والسبتي وَغَيْرُهُمْ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ وَأَوْثَقُ مِنْ وَرْشٍ وَقَالُونَ وَكَذَا الْعَمَلُ فِي كُلِّ رَاوٍ وَقَارِئٍ الْخَامِسُ: أَنَّ بِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ يَظْهَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَحْكَامِ وَلِهَذَا بَنَى الْفُقَهَاءُ نَقْضَ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ وَعَدَمَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ فِي {لمستم} و {لامستم} وَكَذَلِكَ جَوَازُ وَطْءِ الْحَائِضِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ وَعَدَمِهِ إِلَى الْغُسْلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} وكذلك آية السجدة في سورة النمل مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ قَالَ الْفَرَّاءُ مَنْ خَفَّفَ: {أَلَا} كَانَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ وَمَنْ شَدَّدَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَمْرٌ بِهِ وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ إِذَا قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بِهِمَا جَمِيعًا وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بِقِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُ أَذِنَ أَنْ يُقْرَأَ بِقِرَاءَتَيْنِ وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ لِأَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ ثُمَّ اخْتَارُوا فِي الْمَسْأَلَةِ تَوَسُّطًا وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ تَفْسِيرٌ يُغَايِرُ الْآخَرَ فَقَدْ قَالَ بِهِمَا جَمِيعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وَتَصِيرُ الْقِرَاءَاتُ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَلَا تقربوهن حتى يطهرن} وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُمَا وَاحِدًا كَالْبُيُوتِ وَالْبِيُوتِ وَالْمُحْصَنَاتِ وَالْمُحْصِنَاتِ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ فَإِنَّمَا قَالَ بِأَحَدِهِمَا وَأَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِهِمَا لِكُلِّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَا تَعَوَّدَ لِسَانُهُمْ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا صَحَّ أَنَّهُ قَالَ بِأَحَدِهِمَا فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَالَ؟ قِيلَ: بِلُغَةِ قُرَيْشٍ انْتَهَى السَّادِسُ: أَنَّ الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَكُنْ مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا إِلَّا فِي قَرْنِ الْأَرْبَعِمِائَةِ جَمَعَهَا أبو بكر ابن مُجَاهِدٍ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّسِعُ الرِّوَايَةِ وَالرِّحْلَةِ كَغَيْرِهِ وَالْمُرَادُ بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الْمَنْقُولَةُ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ: أَحَدُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ الْقُرَشِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو سَعِيدٍ وَقِيلَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ وَقِيلَ أَبُو الصَّلْتِ وَيُقَالُ لَهُ الدَّارِيُّ وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ وَسَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَغَيْرَهُ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ الثَّانِي: نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ مَوْلَى جَعْوَنَةَ بْنِ شَعُوبٍ اللَّيْثِيِّ هُوَ مَدَنِيٌّ أَصْلُهُ مِنْ أَصْبَهَانَ كُنْيَتُهُ أَبُو رُوَيْمٍ وَقِيلَ أَبُو الْحَسَنِ وَقِيلَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقِيلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أَبُو عَبْدِ اللَّهِ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ الثَّالِثُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ الْيَحْصُبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وُلِدَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ وَفِي كُنْيَتِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا أَبُو عَمْرٍو وَقِيلَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُثْمَانَ وَأَبُو مُغِيثٍ الرَّابِعُ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ قِيلَ اسْمُهُ زَبَّانُ وَقِيلَ يَحْيَى وَقِيلَ عُثْمَانُ وَقِيلَ مَحْبُوبٌ وَقِيلَ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَقَرَأَ عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ الْخَامِسُ: عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ بِفَتْحِ النُّونِ أَبُو بَكْرٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَقِيلَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ قَالَ سُفْيَانُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا بَهْدَلَةُ هُوَ أَبُو النَّجُودِ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ بَهْدَلَةُ أُمُّهُ قَالَ أَبُو بَكْرِ دَاوُدَ هَذَا خَطَأٌ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ أَبِي أَنَا أَخْتَارُ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ السَّادِسُ: حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزَّيَّاتُ التَّيْمِيُّ مَوْلَاهُمْ الْكُوفِيُّ أَبُو عُمَارَةَ تُوُفِّيَ بِحُلْوَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ ومائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 السَّابِعُ: الْكِسَائِيُّ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمْ الْكُوفِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ كَانَ قَرَأَ عَلَى حَمْزَةَ قَالَ مَكِّيٌّ وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالسَّبْعَةِ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ وَإِنَّمَا كَانَ السَّابِعُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ فَأَثْبَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ فِي سَنَةِ ثلاثمائة أونحوها الْكِسَائِيَّ فِي مَوْضِعِ يَعْقُوبَ وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو. قَالَ مَكِّيٌّ: وَإِنَّمَا كَانُوا سَبْعَةً لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ وَوَجَّهَ بِهَا إِلَى الْأَمْصَارِ فَجَعَلَ عَدَدَ الْقُرَّاءِ عَلَى عَدَدِ الْمَصَاحِفِ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ عَدَدَهُمْ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهِيَ سَبْعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ عَدَدَهُمْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَمْتَنِعْ ذلك إذا عَدَدُ الرُّوَاةِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَقَدْ أَلَّفَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمُقْرِئُ وَكَانَ قَبْلَ ابْنِ مُجَاهِدٍ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ وَسَمَّاهُ كِتَابَ الْخَمْسَةِ ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةً مِنَ الْقُرَّاءِ لَا غَيْرَ وَأَلَّفَ غَيْرُهُ كِتَابًا وَسَمَّاهُ الثَّمَانِيَةَ وَزَادَ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ انْتَهَى قُلْتُ: وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ ثَلَاثَةً وَسَمَّاهُ كِتَابَ الْعَشْرَةِ قَالَ مَكِّيٌّ: وَالسَّبَبُ فِي اشْتِهَارِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ وَوَجَّهَهَا إِلَى الْأَمْصَارِ وَكَانَ الْقُرَّاءُ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَثِيرِي الْعَدَدِ فَأَرَادَ النَّاسُ أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي الْعَصْرِ الرَّابِعِ عَلَى مَا وَافَقَ الْمُصْحَفَ فَنَظَرُوا إِلَى إِمَامٍ مَشْهُورٍ بِالْفِقْهِ وَالْأَمَانَةِ فِي النَّقْلِ وَحُسْنِ الدِّينِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ قَدْ طَالَ عُمُرُهُ وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ وَأَجْمَعَ أَهْلُ مِصْرَ عَلَى عَدَالَتِهِ فَأَفْرَدُوا مِنْ كُلِّ مِصْرٍ وَجَّهَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ مُصْحَفًا إِمَامًا هَذِهِ صِفَةُ قِرَاءَتِهِ عَلَى مُصْحَفِ ذَلِكَ الْمِصْرِ فَكَانَ أَبُو عَمْرٍو مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَسَوَادِهَا وَالْكِسَائِيُّ مِنَ الْعِرَاقِ وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وَابْنُ عَامِرٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَنَافِعٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ مِمَّنِ اشْتُهِرَتْ إِمَامَتُهُمْ وَطَالَ عُمُرُهُمْ فِي الْإِقْرَاءِ وَارْتَحَلَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبُلْدَانِ وَأَوَّلُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَتَابَعَهُ النَّاسُ وَأَلْحَقُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِهَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ قِرَاءَةَ ثَلَاثَةٍ وَهُمْ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ وَخَلَفٌ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ قَعْقَاعٍ الْمَدَنِيُّ شَيْخُ نَافِعٍ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِفُ رَسْمَ السَّبْعِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِ الْكَافِي لَهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَلِمَ أَدْخَلْتُمْ قِرَاءَةَ أَبِي حَفْصٍ الْمَدَنِيِّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ فِي جُمْلَتِهِمْ وَهُمْ خَارِجُونَ عَنِ السَّبْعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا اتَّبَعْنَا قِرَاءَتَهُمَا كَمَا اتَّبَعْنَا السَّبْعَةَ لِأَنَّا وَجَدْنَا قِرَاءَتَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي وَجَدْنَاهُ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ بَعْدَهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالثِّقَةِ بِهِمَا وَاتِّصَالِ إِسْنَادِهِمَا وَانْتِفَاءِ الطَّعْنِ عَنْ رِوَايَتِهِمَا ثُمَّ إِنَّ الْتَمَسُّكَ بِقِرَاءَةِ سَبْعَةٍ فَقَطْ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ وَلَا سُنَّةٌ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تُؤْخَذَ الْقِرَاءَةُ إِذَا اتَّصَلَتْ رواتها نَقْلًا وَقِرَاءَةً وَلَفْظًا وَلَمْ يُوجَدْ طَعْنٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهَا وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمْنَا السَّبْعَةَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ نُقَدِّمُ أَبَا جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ عَلَى غَيْرِهِمَا وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" انْصِرَافُهُ إِلَى قِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ يولدون من بعد عصر الصَّحَابَةِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُتَعَرِّيًا عَنْ فَائِدَةٍ إِلَى أَنْ يُحْدِثُوا وَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَقْرَءُوا إِلَّا بِمَا عَلِمُوا أَنَّ السَّبْعَةَ مِنَ الْقُرَّاءِ يَخْتَارُونَهُ قَالَ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَامَّةِ يَتَعَلَّقُونَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ الْكَوَاشِيُّ كُلُّ مَا صح سنده واستقام مع جهة العربية وافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبع الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مُجْتَمِعِينَ أو متفرقين فعلى هذا الأصل يبني من يقول القراءات عن سبعة كان أو سَبْعَةِ آلَافٍ وَمَتَى فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَاحْكُمْ بِأَنَّهَا شَاذَّةً وَلَا يُقْرَأُ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَاذِّ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ مَا يُذْكَرُ مِنَ الشَّوَاذِّ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى حَسَبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ أَوْ مُرَجِّحًا وَقَالَ مَكِّيٌّ وَقَدِ اخْتَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ اخْتِيَارَاتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَرْفِ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ قُوَّةُ وَجْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَمُوَافَقَتُهُ لِلْمُصْحَفِ واجتماع العامة عليه والعامة عندهم هو مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فَذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ تُوجِبُ الِاخْتِيَارَ وَرُبَّمَا جَعَلُوا الْعَامَّةَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وربما جعلوا الاعتبار بما اتَّفَقَ عَلَيْهِ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ فَقِرَاءَةُ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ أَوْلَى الْقِرَاءَاتِ وَأَصَحُّهَا سَنَدًا وَأَفْصَحُهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَيَتْلُوهَا فِي الْفَصَاحَةِ خَاصَّةً قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ كُلُّ قِرَاءَةٍ سَاعَدَهَا خَطُّ الْمُصْحَفِ مَعَ صِحَّةِ النَّقْلِ فِيهَا وَمَجِيئِهَا عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَإِنِ اخْتَلَّ أَحَدُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَى تِلْكَ القراءة أنها شاذة وضعيفة أشار إلى جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ صَنَّفَهُ فِي مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَأَمَرَ بِإِلْحَاقِهِ بِكِتَابِ الْكَشْفِ وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِهِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 قَالَ أَبُو شَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ وَرَدَ إِلَى دِمَشْقَ اسْتِفْتَاءٌ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ عَنِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ هَلْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا؟ وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ عَشْرًا كُلُّ آيَةٍ بِقِرَاءَةِ قَارِئٍ فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِ عَصْرِنَا منهم شيخنا الشافعية والمالكية حينئذ وكلاهما أبو عمر وَعُثْمَانُ يَعْنِي ابْنَ الصَّلَاحِ وَابْنَ الْحَاجِبِ قَالَ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْرُوءُ بِهِ عَلَى تَوَاتُرِ نَقْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا وَاسْتَفَاضَ نَقْلُهُ بِذَلِكَ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ كَهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْيَقِينُ وَالْقَطْعُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ وَتَمَهَّدَ فِي الْأُصُولِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ مَا عَدَا الْعَشَرَةِ فَمَمْنُوعٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ لَا مَنْعَ كَرَاهَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَمَمْنُوعٌ مِنْهُ مِمَّنْ عَرَفَ الْمَصَادِرَ وَالْمَعَانِيَ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَوَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَقُومَ بِوَاجِبِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقَلَهَا مَنْ نَقَلَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ لِفَوَائِدَ منها ما يتعلق بعلم العربية لا القراءة بِهَا هَذَا طَرِيقُ مَنِ اسْتَقَامَ سَبِيلُهُ ثُمَّ قَالَ وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مَا نُقِلَ قُرْآنًا مِنْ غَيْرِ تَوَاتُرٍ وَاسْتِفَاضَةٍ مُتَلَقَّاةٍ بِالْقَبُولِ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمُحْتَسِبُ لِابْنِ جَنِّي وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى عَلَى تَجْوِيزِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُلَ قُرْآنًا فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَصْلًا وَالْمُتَجَرِّئُ عَلَى ذَلِكَ مُتَجَرِّئٌ عَلَى عَظِيمٍ وَضَالٌّ ضَلَالًا بَعِيدًا فَيُعَزَّرُ وَيُمْنَعُ بِالْحَبْسِ وَنَحْوِهِ وَيَجِبُ مَنْعُ الْقَارِئِ بِالشَّوَاذِّ وَتَأْثِيمُهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِشَرْطِهِ وَأَمَّا إِذَا شَرَعَ الْقَارِئُ فِي قِرَاءَةٍ فَيَنْبَغِي أَلَّا يَزَالُ يَقْرَأُ بِهَا مَا بَقِيَ لِلْكَلَامِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ وَمَا خَالَفَ هَذَا فَمِنْهُ جَائِزٌ وَمُمْتَنِعٌ وَعُذْرُهُ مَانِعٌ مِنْ قِيَامِهِ بِحَقِّهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ أَوْ جَاهِلًا وَإِذَا قَرَأَهَا قَارِئٌ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ عُرِّفَ بِهِ وَأُمِرَ بِتَرْكِهَا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أُدِّبَ بِشَرْطِهِ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ أُدِّبَ عَلَى إِصْرَارِهِ وَحُبِسَ إِلَى أَنْ يَرْتَدِعَ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا تبديل آتينا بأعطينا وسولت بزينت وَنَحْوِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّوَاذِّ وَهُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَالتَّأْدِيبُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ أَوْجَبُ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي آيِ الْعُشْرِ الْوَاحِدِ فَالْأَوْلَى أَلَّا يَفْعَلَ نَعَمْ إِنْ قَرَأَ بِقِرَاءَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ إِحْدَاهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأُخْرَى مثل أن يقرأ نغفر لكم بالنون وخطيئاتكم بالجمع ومثل: {أن تضل إحداهما فتذكر} بِالنَّصْبِ فَهَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ وَحُكْمُ الْمَنْعِ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ: وَالْمَنْعُ مِنْ هَذَا ظَاهِرٌ وَأَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يمنع مِنْهُ فَإِنَّ الْجَمْعَ جَائِزٌ وَالتَّخْيِيرُ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا بِمَا ثَبَتَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ حُرُوفٍ تَوْسِعَةً عَلَى الْقُرَّاءِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّقَ بِالْمَنْعِ مِنْ هَذَا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ نَعَمْ أَكْرَهُ تَرْدَادَ الْآيَةِ بِقِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ زَمَانِنَا في جمع القرآن لِمَا فِيهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شيء من الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَدْ بَلَغَنِي كَرَاهَتُهُ عَنْ بَعْضِ مُتَصَدِّرِي الْمَغَارِبَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ قُلْتُ: وَمَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخَانِ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ فَغَالِطٌ أَوْ جَاهِلٌ فَلَوْ خَالَفَ وقرأ بالشاذ أنكر عليه قرءاتها فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ مَنْ قَرَأَ بِالشَّوَاذِّ وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالشَّوَاذِّ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يقرأ بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الْأَمْرُ السَّابِعُ: أَنَّ حَاصِلَ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ يَرْجِعُ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الِاخْتِلَافُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ أَوْ فِي حَرَكَاتِ بَقَائِهَا بِمَا لَا يُزِيلُهَا عَنْ صُورَتِهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا يُغَيِّرُ معناها نحو {البخل} و {البخل} و {ميسرة} و {ميسرة} {وما هن أمهاتهم} ، {وهن أطهر لكم} و {أطهر لكم} {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} {وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الكفور} الثَّانِي: الِاخْتِلَافُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ فِي حَرَكَاتٍ بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا وَلَا يُزِيلُهَا عَنْ صُورَتِهَا فِي الْخَطِّ نَحْوَ {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} و {ربنا باعد بين أسفارنا} و {إذ تلقونه} و {تلقونه} {وادكر بعد أمة} و {بعد أمة} وَهُوَ كَثِيرٌ يُقْرَأُ بِهِ لِمَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ الثَّالِثُ: الِاخْتِلَافُ فِي تَبْدِيلِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ دُونَ إِعْرَابِهَا بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا وَلَا يغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 صُورَةَ الْخَطِّ بِهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ نَحْوَ {كيف ننشزها} و {ننشزها} وَ {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} وَ {فَزَّعَ عَنْ قلوبهم} و {يقص الحق} و {يقضي الحق} وَهُوَ كَثِيرٌ يُقْرَأُ بِهِ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ وَوَجْهُهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِصُورَةِ الْخَطِّ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ الرَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُغَيِّرُ صُورَتَهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا نَحْوَ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وَ {إِلَّا زَقْيَةً واحدة} و {كالعهن المنفوش} و {كالصوف المنقوش} فَهَذَا يُقْبَلُ إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ لِمُخَالَفَتِهِ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَبَتَ عَنْ آحَادٍ الْخَامِسُ: الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُزِيلُ صُورَتَهَا فِي الْخَطِّ وَيُزِيلُ مَعْنَاهَا نحو {الم تنزيل الكتاب} في موضع {الم ذلك الكتاب} و {طلح منضود} وَ {طَلْعٍ مَنْضُودٍ} فَهَذَا لَا يُقْرَأُ بِهِ أَيْضًا لِمُخَالَفَتِهِ الْخَطَّ وَيُقْبَلُ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَضَادٌّ لِمَا عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ السَّادِسُ: الِاخْتِلَافُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نَحْوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ الْمَوْتِ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ} وَبِهَذَا قَرَأَ ابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 مَسْعُودٍ فَهَذَا يُقْبَلُ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ وَلِأَنَّهُ غير وَاحِدٌ السَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِي الْحُرُوفِ والكلم نحو: {وما عملته أيديهم} {وما عملت} و {نعجة أنثى} وَنَظَائِرِهِ فَهَذَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ حُكْمًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ وَيُقْرَأُ مِنْهُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْمَصَاحِفُ فِي إِثْبَاتِهِ وَحَذْفِهِ نَحْوَ {تَجْرِي تَحْتَهَا} فِي بَرَاءَةَ عِنْدَ رَأْسِ الْمِائَةِ وَ {مِنْ تَحْتِهَا} وَ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغني الحميد} في الحديد وَ {فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَصَاحِفُ الَّتِي وَجَّهَ بِهَا عُثْمَانُ إلى الأمصار فيقرأ به إذ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ خَطِّ الْمُصْحَفِ وَلَا يُقْرَأُ مِنْهُ مَا لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الْمَصَاحِفُ لَا يُزَادُ شَيْءٌ لَمْ يُزَدْ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ شَيْءٌ لَمْ يُنْقَصْ مِنْهَا الْأَمْرُ الثَّامِنُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَبْيِينُ مَعَانِيهَا وَذَلِكَ كَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ حَافِظُوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وَكَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَمِثْلُ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فيهن} وَكَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: {وَإِنْ كَانَ له أخ أو أخت من أم فلكل. . . . . . . .} وَكَمَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الحج} قلت: وكذا قراءته "وأيقن أنه الفراق" وَقَالَ: ذَهَبَ الظَّنُّ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ يُرِيدُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّفْظُ الَّذِي يَصْلُحُ لِلشَّكِّ وَجَاءَ اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ مُصَرِّحٌ بِالْيَقِينِ انْتَهَى وَكَقِرَاءَةِ جابر: "فإن الله من بعد إكراههن له غفور رحيم" فَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَمَا شَاكَلَهَا قَدْ صَارَتْ مُفَسِّرَةً لِلْقُرْآنِ وَقَدْ كَانَ يُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فِي التَّفْسِيرِ فَيُسْتَحْسَنُ ذَلِكَ فَكَيْفَ إِذَا رُوِيَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ صَارَ فِي نَفْسِ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَأَقْوَى فَأَدْنَى مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَعْرِفَةُ صِحَّةِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْعَامَّةُ فَضْلَهُ إِنَّمَا يعرف ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الْعُلَمَاءُ وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ بِهِمَا وَجْهُ الْقُرْآنِ كَقِرَاءَةِ من قرأ {يقض الحق} فَلَمَّا وَجَدْتُهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ {يَقْضِي الحق} علمت أنها إنما هي {يقض} فَقَرَأْتُهَا عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ وَاعْتُبِرَتْ صِحَّتُهَا بِتِلْكَ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {أَخْرَجْنَا لهم دابة من الأرض تكلمهم} ثُمَّ لَمَّا وَجَدْتُهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ تُنَبِّئُهُمْ عَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَ الْقِرَاءَةِ {تُكَلِّمُهُمْ} فِي أَشْبَاهٍ من هذا كثيرة فَائِدَةٌ قِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو رَاجِعَةٌ إِلَى أُبَيٍّ وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانٍ وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ إِلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَائِدَةٌ قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ إِذَا شَكَّ الْقَارِئُ فِي حَرْفٍ هَلْ هُوَ مَمْدُودٌ أَوْ مَقْصُورٌ فَلْيَقْرَأْ بِالْقَصْرِ وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ هَلْ هُوَ مَفْتُوحٌ أَوْ مَكْسُورٌ فَلْيَقْرَأْ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ لَحْنٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ وَتَبْيِينُ وَجْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كُلُّ قَارِئٍ وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ وَبِهِ تُعْرَفُ جَلَالَةُ الْمَعَانِي وَجَزَالَتُهَا وَقَدِ اعْتَنَى الْأَئِمَّةُ بِهِ وَأَفْرَدُوا فِيهِ كُتُبًا مِنْهَا كِتَابُ الْحُجَّةِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَكِتَابُ الْكَشْفِ لِمَكِّيٍّ وَكِتَابُ الْهِدَايَةِ لِلْمَهْدَوِيِّ وَكُلٌّ مِنْهَا قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى فَوَائِدَ وَقَدْ صَنَّفُوا أَيْضًا فِي تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ الشَّوَاذِّ وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ الْمُحْتَسِبِ لِابْنِ جِنِّي وَكِتَابُ أَبِي الْبَقَاءِ وَغَيْرِهِمَا وَفَائِدَتُهُ كَمَا قَالَ الْكَوَاشِيُّ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى حَسَبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ أَوْ مُرَجِّحًا إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تُرَجَّحُ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى تَرْجِيحًا يَكَادُ يُسْقِطُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا مُتَوَاتِرَةٌ وَقَدْ حَكَى أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ عَنْ ثَعْلَبَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا اخْتَلَفَ الْإِعْرَابُ فِي الْقُرْآنِ عَنِ السَّبْعَةِ لَمْ أُفَضِّلْ إِعْرَابًا عَلَى إِعْرَابٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا خَرَجْتُ إِلَى الْكَلَامِ كَلَامِ النَّاسِ فَضَّلْتُ الْأَقْوَى وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَقَدْ حَكَى اخْتِلَافَهُمْ فِي تَرْجِيحِ: {فَكُّ رقبة} بِالْمَصْدَرِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ فَقَالَ وَالدِّيَانَةُ تَحْظُرُ الطَّعْنَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْجَمَاعَةُ وَلَا يَجُوزُ أن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 مَأْخُوذَةً إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" فَهُمَا قِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ: السَّلَامَةُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ أَنَّهُ إِذَا صَحَّتِ الْقِرَاءَتَانِ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَلَّا يُقَالَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْثَمُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانَ رُؤَسَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْقِرَاءَاتِ وَالتَّفَاسِيرِ مِنَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ قِرَاءَةِ {مَلِكِ} وَ {مالك} حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُبَالِغُ إِلَى حَدٍّ يَكَادُ يُسْقِطُ وَجْهَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَلَيْسَ هَذَا بِمَحْمُودٍ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاتِّصَافِ الرَّبِّ تَعَالَى بِهِمَا ثُمَّ قَالَ حَتَّى إِنِّي أُصَلِّي بِهَذِهِ فِي رَكْعَةٍ وَبِهَذِهِ فِي رَكْعَةٍ وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَقَدْ ذَكَرَ التَّوْجِيهَ فِي قِرَاءَةِ {وَعَدْنَا} وَ {واعدنا} لَا وَجْهَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَبَعْضٍ فِي مَشْهُورِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْقُرَّاءِ وَالنَّحْوِيِّينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الطَّرِيقِ حَتَّى يَأْتِيَ هَذَا الْقَوْلُ بَلْ مَرْجِعُهُ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ أَوْ ظُهُورِ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقَارِئَ يَخْتَارُ رِوَايَةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُهُمْ عَلَى قراءة الجمهور في: {فنادته الملائكة} فَقَالَ أَكْرَهُ التَّأْنِيثَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فِي زَعْمِهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَكَذَلِكَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ تَاءٍ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ إِحْدَاهُمَا الْبَتَّةَ وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ {فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ} مَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الملائكة مراد به الواحد فصل: في توجيه القراءة الشاذة وَتَوْجِيهُ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَقْوَى فِي الصِّنَاعَةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وُضِعَ فِيهِ كِتَابُ الْمُحْتَسِبِ لِأَبِي الْفَتْحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسْتَوْفَ وَأَوْسَعُ مِنْهُ كِتَابُ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ وَقَدْ يُسْتَبْشَعُ ظَاهِرُ الشَّاذِّ بَادِيَ الرَّأْيِ فَيَدْفَعُهُ التَّأْوِيلُ كَقِرَاءَةِ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعَمُ وَلَا يُطْعِمُ} عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ لِلْمَفْعُولِ دُونَ الثَّانِي وَتَأْوِيلُ الضَّمِيرِ فِي: {وَهُوَ} رَاجِعٌ إِلَى الْوَلِيِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوَّرَ} بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الباري فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ الَّذِي بَرَأَ الْمُصَوَّرَ وَكَقِرَاءَةِ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عباده العلماء} وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ لَا الْخَوْفِ وَكَقِرَاءَةِ: {فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى التَّكَلُّمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَى فَإِذَا أَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُكَ تَقْصِدُهُ وَجَاءَ قَوْلُهُ: {عَلَى اللَّهِ} عَلَى الِالْتِفَاتِ وَإِلَّا لَقَالَ: {فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ} وَقَدْ نُسِبَ الْعَزْمُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَقَوْلُهُ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ وَبِهِ يُعْرَفُ كَيْفَ أَدَاءُ الْقُرْآنِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَاسْتِنْبَاطَاتٌ غَزِيرَةٌ وَبِهِ تَتَبَيَّنُ مَعَانِي الْآيَاتِ وَيُؤْمَنُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الوقوع في المشكلات وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الزَّجَّاجُ قَدِيمًا كِتَابَ الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ عَبَّادٍ وَالدَّانِيُّ وَالْعُمَانِيُّ وغيرهم وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يعلمون مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} قال فانقطع الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 واستأنس له ابن النحاس بقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَطِيبِ: "بِئْسَ الْخَطِيبُ أنت" حين قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمها وَوَقَفَ قَالَ قَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِلَ كلامه فيقول ومن يعصمها فَقَدْ غَوَى أَوْ يَقِفَ عَلَى وَرَسُولِهِ فَقَدْ رشد فإذا كان مثل هذا مَكْرُوهًا فِي الْخُطَبِ فَفِي كَلَامِ اللَّهِ أَشَدُّ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلٌّ كَافٍ شَافٍ مَا لَمْ تُخْتَمْ آيَةُ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَوْ آيَةُ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِلتَّمَامِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعَذَابِ وَالنَّارِ وَتُفْصَلَ عَمَّا بَعْدَهَا نَحْوَ : {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَلَا تُوصَلَ بِقَوْلِهِ: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} وكذا قوله: {حقت كلمت رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} وَلَا تُوصَلُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} وَكَذَا: {يدخل من يشاء في رحمته} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَلَ بِقَوْلِهِ: {وَالظَّالِمُونَ} وَقِسْ على هذا نظائره حاجة هذا الفن إلى مختلف العلوم وَهَذَا الْفَنُّ مَعْرِفَتُهُ تَحْتَاجُ إِلَى عُلُومٍ كَثِيرَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ لَا يَقُومُ بالتمام في الوقف إِلَّا نَحْوِيٌّ عَالِمٌ بِالْقِرَاءَاتِ عَالِمٌ بِالتَّفْسِيرِ وَالْقَصَصِ وَتَلْخِيصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ عَالِمٌ بِاللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَقَالَ غَيْرُهُ وَكَذَا عِلْمُ الْفِقْهِ وَلِهَذَا مَنْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ وَقَفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْبَلُوا لهم شهادة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّحْوِ وَتَقْدِيرَاتِهِ فَلِأَنَّ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى كَمِلَّةِ أَوْ أَعْمَلَ فِيهَا مَا قَبْلَهَا لَمْ يَقِفْ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَكَذَا الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عوجا} ثُمَّ يَبْتَدِئُ: {قَيِّمًا} لِئَلَّا يُتَخَيَّلَ كَوْنُهُ صِفَةً له إذا الْعِوَجُ لَا يَكُونُ قَيِّمًا وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ النَّحَّاسِ عَنْ قَتَادَةَ وَهَكَذَا الْوَقْفُ عَلَى مَا فِي آخِرِهِ هَاءٌ فَإِنَّكَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ تُثْبِتُ الْهَاءَ إِذَا وَقَفْتَ وَتَحْذِفُهَا إِذَا وَصَلْتَ فَتَقُولُ قِهْ وَعِهْ وَتَقُولُ قِ زَيْدًا وَعِ كَلَامِي فَأَمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كتابيه} و {حسابيه} و {سلطانيه} و {ما هيه} و {لم يتسنه} و {اقتده} وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ بِالْهَاءِ وَلَا يُوصَلُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فِي حُكْمِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْقَاطُ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ فَإِنْ أَثْبَتَهَا خَالَفَ الْعَرَبِيَّةَ وَإِنْ حَذَفَهَا خَالَفَ مُرَادَ الْمُصْحَفِ وَوَافَقَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَإِذَا هُوَ وَقَفَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنَ الْخِلَافَيْنِ وَاتَّبَعَ الْمُصْحَفَ وَكَلَامَ الْعَرَبِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جوزوا الْوَصْلَ فِي ذَلِكَ قُلْنَا: أَتَوْا بِهِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا زَمَنَ الْفَصْلِ بين النطقين فظن من لا خيرة لَهُ أَنَّهُمْ وَصَلُوا وَصْلًا مَحْضًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وَمِثْلُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ ربي} بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي حَالِ الْوَصْلِ اتَّبَعُوا فِي إِثْبَاتِهَا خَطَّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوهَا فِيهِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ فَلِهَذَا أَثْبَتُوهَا فِي حَالِ الْوَصْلِ وَهُمْ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ فَلِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى: {فَإِنَّهَا محرمة عليهم أربعين سنة} كان المعنى مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَإِذَا وَقَفَ عَلَى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} كَانَ الْمَعْنَى مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أبدا وأن التيه أربعين فَرَجَعَ فِي هَذَا إِلَى التَّفْسِيرِ فَيَكُونُ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكَذَا يُسْتَحَبُّ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {مَنْ بعثنا من مرقدنا} ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى الْمَعْنَى فَكَقَوْلِهِ: {قَالَ اللَّهُ عَلَى ما نقول وكيل} فَيَقِفُ عَلَى: {قَالَ} وَقْفَةً لَطِيفَةً لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ كون الاسم الكريم فاعل: {قَالَ} وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَا يَجِبُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إ} ثُمَّ يَبْتَدِئُ: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وَقَوْلُهُ: {فلا يصلون إليكما بآياتنا} قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ الْأَحْسَنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الْوَقْفُ عَلَى: {إِلَيْكُمَا} لِأَنَّ إِضَافَةَ الْغَلَبَةِ إِلَى الْآيَاتِ أَوْلَى مِنْ إِضَافَةِ عَدَمِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ الْعَصَا وَصِفَاتُهَا وَقَدْ غَلَبُوا بِهَا السَّحَرَةَ وَلَمْ تَمْنَعْ عَنْهُمْ فِرْعَوْنَ وَكَذَا يستحب الوقف على قوله: {أولم يتفكروا} وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} فَإِنَّ ذلك يبين أنه رد لقول الكفار: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} وَقَالَ الدَّانِيُّ إِنَّهُ وَقْفٌ تَامٌّ وَكَذَا الْوَقْفُ على قوله: {ولذلك خلقهم} وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ أَيْ لِأَنْ يَرْحَمَهُمْ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: {وَلَا يزالون مختلفين} يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعني أهل الإسلام {ولذلك خلقهم} أي لِرَحْمَتِهِ خَلَقَهُمْ وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {يُوسُفُ أعرض عن هذا} وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} فَإِنَّ بِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ بِالْإِعْرَاضِ وَهُوَ الصَّفْحُ عَنْ جَهْلِ مَنْ جَهِلَ قَدْرَهُ وَأَرَادَ ضُرَّهُ وَالْمَرْأَةُ أُمِرَتْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا لِأَنَّهَا هَمَّتْ بِمَا يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَلِذَلِكَ أُمِرَتْ بِهِ وَلَمْ يَهِمَّ بِذَلِكَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ وإنما هم بدفعها عن نفسه لِعِصْمَتِهِ وَلِذَلِكَ أَكَّدَ أَيْضًا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْوَقْفَ على قوله تعالى: {ولقد همت به} وَالِابْتِدَاءَ بِقَوْلِهِ: {وَهَمَّ بِهَا} وَذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَقَدْ قَالَ الدَّانِيُّ إِنَّهُ كَافٍ وَقِيلَ تَامٌّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ هَمَّ بِدَفْعِهَا وَعَلَى هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى: {هَمَّتْ بِهِ} كَالْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ تعالى: {لنبين لكم} وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَهَمَّ بِهَا} كَالِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} وَمِثْلُهُ الْوَقْفُ مُرَاعَاةً لِلتَّنْزِيهِ عَلَى قوله: {وهو الله} وقد ذكر صاحب الاكتفا أَنَّهُ تَامٌّ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ الله يعلم سركم وجهركم في السموات وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ حَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: {مُسْتَهْزِئُونَ الله يستهزئ} قَالَ لَيْسَ: {مُسْتَهْزِئُونَ} بِوَقْفٍ صَالِحٍ لَا أُحِبُّ استئناف {الله يستهزئ} وَلَا اسْتِئْنَافَ {وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} حَتَّى أَصِلَهُ بِمَا قَبْلَهُ قَالَ وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ إِسْنَادُ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى الْجَزَاءِ عليهما وذلك على سبيل المزاوجة فَإِذَا اسْتَأْنَفْتَ وَقَطَعْتَ الثَّانِيَ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْهَمَ أنك تسنده إلى الله مُطْلَقًا وَالْحُكْمُ فِي صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ تُصَانَ عَنِ الْوَهْمِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تأويله إلا الله} قال صاحب الاكتفا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 إِنَّهُ تَامٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَيُصَدِّقُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ عَلَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الله ولدا} وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ} وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ تَامٌّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي تَعَقَّبَ فِيهِ على صاحب الاكتفا وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ فِيهِ مَوَاقِفَ كَثِيرَةً وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} ثُمَّ رَدَّ قَوْلَهُمْ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ} فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَمِثْلُهُ الْوَقْفُ على قوله تعالى: {الشيطان سول لهم} والابتداء بقوله: {وأملى لهم} قال صاحب الكافي {سَوَّلَ لَهُمْ} كَافٍ سَوَاءٌ قُرِئَ: {وَأُمْلِيَ لَهُمْ} عَلَى مَا يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَوْ {وَأُمْلِي لَهُمْ} عَلَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْإِمْلَاءَ فِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} فَيَحْسُنُ قَطْعُهُ مِنَ التَّسْوِيلِ الَّذِي هُوَ مُسْنَدٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ قَطْعُهُ بِالْوَقْفِ لِيُفْصَلَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ وَلَقَدْ نَبَّهَ بَعْضُ مَنْ وَصَلَهُ عَلَى حُسْنِ هَذَا الْوَقْفِ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْوَصْلَ هُوَ الْأَصْلُ وَمِثْلُهُ الْوَقْفُ على قوله: {رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها} وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} وَذَلِكَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرَّهْبَانِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ خَلَقَ كَمَا جَعَلَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدِ ابْتَدَعُوهَا فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تعملون} هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وَقَدْ نُسِبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ إِلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ فِي الْإِيضَاحِ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى {جَعَلْنَا} مَعَ وَصْفِهَا بِقَوْلِهِ: {ابْتَدَعُوهَا} لِأَنَّ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَا يَبْتَدِعُونَهُ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ بِالْوَقْفِ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَمِثْلُهُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ الله هو مولاه} وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أَيْ مُعِينُونَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً وَأَمَّا احْتِيَاجُهُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِالْقِرَاءَاتِ فَلِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ {ويقولون حجرا محجورا} بفتح الحاء كان هذا التمام وَإِنْ ضَمَّ الْحَاءَ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ فَالْوَقْفُ عِنْدَ {حُجْرًا} لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ إِذَا نَزَلَ بالواحد منهم شدة قال حجرا فقيل له مَحْجُورًا أَيْ لَا تُعَاذُونَ كَمَا كُنْتُمْ تُعَاذُونَ فِي الدُّنْيَا حَجَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا قَرَأَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} إِلَى قَوْلِهِ: {قِصَاصٌ} فَهُوَ التَّامُّ إِذَا نَصَبَ {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وَمَنْ رَفَعَ فَالْوَقْفُ عِنْدَ: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَتَكُونُ {وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ} ابْتِدَاءَ حُكْمٍ في المسلمين وما قبله في التوراة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ يَبْتَغُونَ فِي الْوَقْفِ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسَ آيَةٍ وَنَازَعَهُمْ فيه بعض المتأخرين في ذلك وقال هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ فيقول: {الحمد لله رب العالمين} ويقف ثم يقول: {الرحمن الرحيم} وَهَكَذَا رَوَتْ أَمُّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً وَمَعْنَى هَذَا الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَأَكْثَرُ أَوَاخِرِ الْآيِ فِي الْقُرْآنِ تَامٌّ أَوْ كَافٍ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْقِصَارِ الْآيِ نَحْوَ الْوَاقِعَةِ قَالَ وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ أَعْنِي الْوَقْفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ إِلَى تَتَبُّعِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ وَالْوَقْفِ عِنْدَ رُءُوسِ انْتِهَائِهَا وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ وَرَجَّحَ الْوَقْفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا قُلْتُ وَحَكَى النَّحَّاسُ عَنِ الْأَخْفَشِ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُقُوفُ عَلَى قَوْلِهِ: {هدى للمتقين} لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ أَقْسَامُ الْوَقْفِ وَالْوَقْفُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ تَامٌّ مُخْتَارٌ وَكَافٍ جَائِزٌ وَحَسَنٌ مَفْهُومٌ وَقَبِيحٌ مَتْرُوكٌ وَقَسَّمَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَأَسْقَطَ الْحَسَنَ وَقَسَّمَهُ آخَرُونَ إِلَى اثْنَيْنِ وَأَسْقَطَ الْكَافِيَ وَالْحَسَنَ فَالتَّامُّ هُوَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا بَعْدَهُ فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 كقوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ كَقَوْلِهِ: {وأولئك هم المفلحون} ثم يبتدئ بقوله: {إن الذين كفروا} وكذا: {وأنهم إليه راجعون} ثم يبتدئ بقوله: {يا بني إسرائيل} وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة كقوله: {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} هُنَا التَّمَامُ لِأَنَّهُ انْقَضَى كَلَامُ بِلْقِيسَ ثُمَّ قال تعالى: {وكذلك يفعلون} وَهُوَ رَأْسُ الْآيَةِ كَذَلِكَ: {عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} هُوَ التَّمَامُ لِأَنَّهُ انْقِضَاءُ كَلَامِ الظَّالِمِ الَّذِي هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} وَهُوَ رَأْسُ آيَةٍ وَقَدْ يُوجَدُ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مصبحين {مصبحين وبالليل} {مُصْبِحِينَ} رَأْسُ الْآيَةِ: {وَبِاللَّيْلِ} التَّمَامُ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ وَالصُّبْحُ وَبِاللَّيْلِ وَكَذَلِكَ: {يَتَّكِئُونَ} {وزخرفا} رَأْسُ الْآيَةِ: {يَتَّكِئُونَ} {وَزُخْرُفًا} هُوَ التَّمَامُ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {سُقُفًا} وَآخِرُ كُلِّ قِصَّةٍ وَمَا قَبْلَ أَوَّلِهَا وَآخِرُ كُلِّ سُورَةٍ تَامٌّ وَالْأَحْزَابُ وَالْأَنْصَافُ وَالْأَرْبَاعُ وَالْأَثْمَانُ وَالْأَسْبَاعُ وَالْأَتْسَاعُ وَالْأَعْشَارُ وَالْأَخْمَاسُ وَقَبْلَ يَاءِ النِّدَاءِ وفعل الأمر والقسم ولامه دون القول والله بَعْدَ رَأْسِ كُلِّ آيَةٍ وَالشَّرْطُ مَا لَمْ يتقدم جوابه وكان الله وذلك ولولا غَالِبُهُنَّ تَامٌّ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُنَّ قَسَمٌ أَوْ قَوْلٌ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَالْكَافِي مُنْقَطِعٌ فِي اللَّفْظِ مُتَعَلِّقٌ فِي الْمَعْنَى فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ أَيْضًا بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 بعده نحو: {حرمت عليكم أمهاتكم} هُنَا الْوَقْفُ ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَهَكَذَا بَاقِي الْمَعْطُوفَاتِ وَكُلُّ رَأْسِ آيَةٍ بَعْدَهَا لام كي وإلا بمعنى لكن وإن المكسورة المشددة والاستفهام وبل وألا المخففة والسين وسوف على التهدد ونعم وبئس وكيلا وَغَالِبُهُنَّ كَافٍ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُنَّ قَوْلٌ أَوْ قَسَمٌ وَقِيلَ أَنْ الْمَفْتُوحَةُ الْمُخَفَّفَةُ فِي خَمْسَةٍ لا غير البقرة: {وأن تصوموا} {وأن تعفوا} {وأن تصدقوا} {والنساء} {وأن تصبروا} {والنور} {وأن يستعففن} وَالْحَسَنُ هُوَ الَّذِي يَحْسُنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى نَحْوَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَفْهُومٌ وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لَا يَحْسُنُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْرُورٌ وَالِابْتِدَاءُ بِالْمَجْرُورِ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَالْقَبِيحُ هُوَ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ نَحْوَ: {الْحَمْدُ} فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمَوْصُوفِ دُونَ الصِّفَةِ وَلَا عَلَى الْبَدَلِ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَلَا عَلَى الْمَعْطُوفِ دون المعطوف عليه نحو: {كذبت ثمود} وَلَا عَلَى الْمَجْرُورِ دُونَ الْجَارِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ كفر الذين قالوا} {ومن يقل منهم} وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مريم} ، {إن الله ثالث ثلاثة} ، {إني إله} لِأَنَّ الْمَعْنَى يَسْتَحِيلُ بِهَذَا فِي الِابْتِدَاءِ وَمَنْ تَعَمَّدَهُ وَقَصَدَ مَعْنَاهُ فَقَدْ كَفَرَ وَمِثْلُهُ فِي الْقُبْحِ الْوَقْفُ عَلَى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ} و {مثل السوء ولله} وَشَبَهُهُ وَمِثْلُهُ: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ولأبويه} و {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى} وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَأَشْنَعُ الْوَقْفُ عَلَى النَّفْيِ دُونَ حُرُوفِ الْإِيجَابِ نَحْوَ: {لَا إِلَهَ إِلَّا الله} {وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا} وَكَذَا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا} وَ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أضل أعمالهم والذين آمنوا} فَإِنِ اضْطُرَّ لِأَجْلِ التَّنَفُّسِ جَازَ ذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَا قَبْلَهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِمَا بَعْدَهُ وَلَا حَرَجَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ تَعَلَّقَتِ الْآيَةُ بِمَا قَبْلَهَا تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا كَانَ الْوَقْفُ كَافِيًا نَحْوَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ} وَإِنْ كَانَ مَعْنَوِيًّا فَالْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا حَسَنٌ كَافٍ نَحْوَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا لَفْظِيًّا وَلَا مَعْنَوِيًّا فتام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 كقوله: {ولا هم يحزنون} بعده {الذين يأكلون الربا} وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مُضَادَّةً لِمَا قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ: {أنهم أصحاب النار الذين يحملون العرش} فَالْوَقْفُ عَلَيْهِ قَبِيحٌ وَاعْلَمْ أَنَّ وَقْفَ الْوَاجِبِ إذا وقفت قبل والله ثم ابتدأت بوالله وَهُوَ الْوَقْفُ الْوَاجِبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَذَرَ الْمَوْتِ والله محيط بالكافرين} وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: الْجُمْلَةُ التَّأْلِيفِيَّةُ إِذَا عُرِفَتْ أَجْزَاؤُهَا، وَتَكَرَّرَتْ أَرْكَانُهَا كَانَ مَا أَدْرَكَهُ الْحِسُّ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ فَلَهُ أَنْ يَقِفَ كَيْفَ شَاءَ وَسَوَاءٌ التَّامٌّ وَغَيْرُهُ إِلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يُوقَفَ عَلَى الْأَتَمِّ وَمَا يُقَدَّرُ بِهِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَضْرُبٍ تَامٍّ وَشَبِيهٍ بِهِ وَنَاقِصٍ وَحَسَنٍ وَشَبِيهٍ بِهِ وَقَبِيحٍ وَشَبِيهٍ بِهِ وَصَنَّفُوا فِيهِ تَصَانِيفَ فَمِنْهَا مَا أَثَرُوهُ عَنِ النُّحَاةِ وَمِنْهَا مَا أَثَرُوهُ عَنِ الْقُرَّاءِ وَمِنْهَا مَا اسْتَنْبَطُوهُ وَمِنْهَا مَا اقْتَدَوْا فِيهِ بِالسُّنَّةِ فَقَطْ كَالْوَقْفِ عَلَى أَوَاخِرِ الْآيِ وَهِيَ مَوَاقِفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ التَّامَّ وَالنَّاقِصَ وَالْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ وَتَسْمِيَتَهُ بِذَلِكَ بِدَعَةٌ وَمُتَعَمِّدُ الْوَقْفِ عَلَى نَحْوِهِ مُبْتَدِعٌ قَالَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ وَهُوَ كَالْقِطْعَةِ الْوَاحِدَةِ فَكُلُّهُ قُرْآنٌ وَبَعْضُهُ قُرْآنٌ وَكُلُّهُ تام حسن وبعضه تام حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانٍ النَّحْوِيُّ عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَلَا عَلَى الرَّافِعِ دُونَ الْمَرْفُوعِ وَلَا عَلَى الْمَرْفُوعِ دُونَ الرَّافِعِ وَلَا عَلَى النَّاصِبِ دُونَ الْمَنْصُوبِ وَلَا عَكْسِهِ وَلَا عَلَى الْمُؤَكَّدِ دُونَ التَّأْكِيدِ وَلَا عَلَى الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا دُونَ اسْمِهَا وَلَا عَلَى اسْمِهَا دُونَ خَبَرِهَا وَكَذَا ظَنَنْتُ وَلَا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا عَلَى الْمُفَسَّرِ عَنْهُ دُونَ التَّفْسِيرِ وَلَا عَلَى الْمُتَرْجَمِ عَنْهُ دُونَ الْمُتَرْجَمِ وَلَا عَلَى الْمَوْصُولِ دُونَ صِلَتِهِ وَلَا عَلَى حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ دُونَ مَا اسْتُفْهِمَ بِهِ عَنْهُ وَلَا عَلَى حَرْفِ الْجَزَاءِ دُونَ الْفِعْلِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى الَّذِي يَلِيهِ دُونَ الْجَوَابِ وَجَوَّزَ أَبُو عَلِيٍّ الْوَقْفَ عَلَى مَا قَبْلَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَكِنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلا ما اضطررتم إليه} وكقوله: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} و {إلا اتباع الظن} وَنَحْوِهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَجُوزُ الْوَقْفُ دُونَ: {إلا خطأ} {إلا اللمم} {إلا سلاما} لِأَنَّ الْمَعْنَى لَكِنْ يَقَعُ خَطَأً وَلَكِنْ قَدْ يُلَمُّ وَلَكِنْ يُسَلِّمُونَ سَلَامًا وَجَمِيعُهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَقَالَ: غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُبْدَلِ دُونَ الْبَدَلِ إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ كَتَعَلُّقِ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ أَوْ أَقْوَى لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 مَسْأَلَةٌ فَصَّلَ بَعْضُهُمْ فِي الصِّفَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَمْتَنِعُ الْوَقْفُ عَلَى مَوْصُوفِهَا دُونَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ لِلْمَدْحِ فَيَجُوزُ وَجَرَى عَلَيْهِ الرُّمَّانِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصابرين} قَالَ: وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَعَامِلُ الصِّفَةِ فِي الْمَدْحِ غَيْرُ عَامِلِ الْمَوْصُوفِ فَلِهَذَا جَازَ قَطْعُهَا عَمَّا قَبْلَهَا بِخِلَافِ الِاخْتِصَاصِ فَإِنَّ عَامِلَهَا عَامِلُ الْمَوْصُوفِ وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يُؤَيِّدُهُ مَسْأَلَةٌ لَا خِلَافَ فِي التَّسَامُحِ بِالْوَقْفِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ دُونَ الْمُسْتَثْنَى إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ مُطْلَقًا وَفَصَّلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ فَقَالَ يَجُوزُ إِنْ صُرِّحَ بِالْخَبَرِ وَلَا يَجُوزُ إِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا صُرِّحَ بِالْخَبَرِ اسْتَقَلَّتِ الْجُمْلَةُ وَاسْتَغْنَتْ عَمَّا قَبْلَهَا وَإِذَا لَمْ يُصَرَّحُ بِهِ كَانَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا قَالَ وَوَجْهُ مَنْ جَوَّزَ مُطْلَقًا أَنَّهُ فِي مَعْنَى مُبْتَدَأٍ حُذِفَ خَبَرُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَكَانَ مِثْلَ قَوْلِنَا زَيْدٌ لِمَنْ قَالَ مَنْ أَبُوكَ أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْمُنْقَطِعِ فِي قَوْلِكَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا الْحَارِثُ لَكِنَّ الْحَارِثَ فِي الدَّارِ وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّ الْحَارِثَ مُبْتَدِئًا بِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ لَكَانَ حَسَنًا أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ الْوَقْفِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 لا يظلم الناس شيئا} وَالِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فَكَذَلِكَ هَذَا وَوَجْهُ مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مَا رَأَى مِنِ احْتِيَاجِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ إِلَى مَا قَبْلَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدِ اسْتِعْمَالُ إِلَّا وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِلَّا مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهَا لَفْظًا أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ غَيْرُ حِمَارٍ فَوَقَفْتَ عَلَى مَا قَبْلَ غَيْرُ وَابْتَدَأْتَ بِهِ كَانَ قَبِيحًا فَكَذَلِكَ هَذَا وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مُشْعِرٌ بِتَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا الْحِمَارُ هُوَ الَّذِي صَحَّحَ قَوْلَكَ إِلَّا الْحِمَارُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ إِلَّا الْحِمَارُ عَلَى انْفِرَادِهِ كَانَ خَطَأً مَسْأَلَةٌ اخْتُلِفَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ النِّدَائِيَّةِ وَالْمُحَقِّقُونَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى الْجَوَازِ لِأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ هِيَ فِي الْمَعْنَى قَاعِدَةٌ في "الذي" و"الذين" في القرآن جمع ما في القرآن من الذين والذي يَجُوزُ فِيهِ الْوَصْلُ بِمَا قَبْلَهُ نَعْتًا لَهُ وَالْقَطْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ إِلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ فَإِنَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا هُوَ الْمُعَيَّنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تلاوته} الثَّانِي: قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يعرفون أبناءهم} في البقرة الثالث: في الأنعام كذلك الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ} الْخَامِسُ: فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ درجة عند الله} السَّادِسُ: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ على وجوههم إلى جهنم} السَّابِعُ: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّاسِ يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الْقَارِئُ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَيَبْتَدِئَ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ} إِنْ جَعَلَهُ عَلَى الْقَطْعِ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ بِخِلَافِ مَا إِذَا جَعَلَهُ صِفَةً وَهَذَا يَرْجِعُ لِمَا سَبَقَ عَنِ الرُّمَّانِيِّ مِنَ الْفَصْلِ بِالصِّفَةِ بين التخصيصية والقطيعة وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ حِكَايَةُ الْقَوْلِ قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مردود بقوله تعالى: {ولا يحزنك قولهم} فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَقْفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 هُنَا لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} لَيْسَ مِنْ مَقُولِهِمْ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ الدَّهَّانَ يَقُولُ حَيْثُ كَانَ فِيهِ إِضْمَارٌ مِنَ الْقُرْآنِ حَسُنَ الْوَقْفُ مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَيْنَا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر} فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ هَاهُنَا لِأَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ فضرب فانفلق فصل ملخص في تقسيمات الوقف فَصْلٌ جَامِعٌ لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُسْتَوْفَى فِي الْعَرَبِيَّةِ قَالَ تَقْسِيمُهُمُ الْوَقْفَ إِلَى الْجَوْدَةِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْقِسْمَةُ بِهَا صَحِيحَةً مُسْتَوْفَاةً عَلَى مُسْتَعْمِلِهَا وَقَدْ حَصَلَ لِقَائِلِهَا مِنَ التَّشْوِيشِ مَا إِذَا شِئْتَ وَجَدْتَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُصَنَّفَةِ فِي الْوُقُوفِ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ الْوَقْفُ ضَرْبَانِ اضْطِرَارِيٌّ وَاخْتِيَارِيٌّ فَالِاضْطِرَارِيُّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ انْقِطَاعُ النَّفَسِ فَقَطْ وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ مَوْضِعًا دُونَ مَوْضِعٍ حَتَّى إِنَّ حَمْزَةَ كَانَ يَقِفُ فِي حَرْفِهِ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ تَقَعُ فِيهَا الْهَمْزَةُ مُتَوَسِّطَةً أَوْ مُتَطَرِّفَةً إِذَا أَرَادَ تَسْهِيلَهَا وَحَتَّى إِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات} قَالُوا وَقَفَ هُنَا بِالتَّاءِ عَلَى نَحْوِ جَاءَنِي طَلْحَتُ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتِمَّ عِنْدَ ذَاكَ وَكَوَقْفِهِ عَلَى {إِلَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 من قوله: {وإذا خلوا إلى} بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا كَهَذِهِ الصُّورَةِ خَلَوْ لَى وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ فِي الْمَنْظُومِ مِنَ الْقَوْلِ حَيْثُ شِئْتَ وَهَذَا هُوَ أَحْسَنُ الْوَقْفَيْنِ وَالِاخْتِيَارِيُّ وَهُوَ أَفْضَلُهُمَا هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ انْفِصَالِ مَا بَيْنَ جُزْأَيِ الْقَوْلِ وَيَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الِانْفِصَالِ أَقْسَامًا الْأَوَّلُ: التَّامُّ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي كل واحد من جزأي القولين اللذين يكتفانه عن الآخر كالوقف على: {نستعين} مِنْ قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَالْآخَرُ {اهدنا الصراط المستقيم} مُسْتَغْنٍ عَنِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ الْإِفَادَةِ النَّحْوِيَّةِ وَالتَّعَلُّقِ اللَّفْظِيِّ الثَّانِي: النَّاقِصُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مُسْتَغْنِيًّا عَمَّا بَعْدَهُ وَلَا يَكُونُ مَا بَعْدَهُ مُسْتَغْنِيًا عَمَّا قَبْلَهُ كَالْوَقْفِ عَلَى: {المستقيم} من قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} وَلِأَنَّ لَكَ أَنْ تَسْكُتَ عَلَى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ مُبْتَدِئًا: {صِرَاطَ الذين أنعمت عليهم} فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ هَاهُنَا الْفِعْلُ الَّذِي يَنْتَصِبُ بِهِ {صِرَاطَ} ؟ قُلْنَا: أَوَّلُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قَدَّرْتَ الْفِعْلَ قَبْلَ {صِرَاطَ} لَمْ تَكُنْ مُبْتَدِئًا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ثُمَّ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ الْوَقْفُ تَامًّا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهِ يَسْتَغْنِي حِينَئِذٍ عَنِ الْآخَرِ وَالنَّحْوِيُّونَ يَكْرَهُونَ الْوَقْفَ النَّاقِصَ فِي التَّنْزِيلِ مَعَ إِمْكَانِ التَّامِّ فَإِنْ طَالَ الْكَلَامُ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ وَقْفٌ تَامٌّ حَسُنَ الْأَخْذُ بِالنَّاقِصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أوحي} إلى قوله: {فلا تدعو مع الله أحدا} إِنْ كَسَرْتَ بَعْدَهُ {إِنَّ} فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فَتَحْتَهَا فَإِلَى قَوْلِهِ: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} لِأَنَّ الْأَوْجَهَ فِي {أَنَّ} فِي الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى {أُوحِيَ} وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ جعل الوقف التام {حطبا} وحمل {وأن لو استقاموا} عَلَى الْقَسَمِ فَاضْطَرَّ فِي {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} إلى أن جعل التقدير، {فلا تدعو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي فَتْحِ {أَنَّ} فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا به ولن نشرك بربنا أحدا} فَلِمَ لَا يَلْزَمُ مَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ التَّامَّ {حطبا} أَلَّا يَقِفَ قَبْلَهُ عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ فِي كَسْرِ {إِنَّ} فِي أَوَّلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ دَاخِلَةٌ فِي الْقَوْلِ وَمَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْقَوْلِ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ دُونَهُ كَمَا أَنَّ الْمَعْطُوفَ إِذَا تَبِعَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي إِعْرَابِهِ الظَّاهِرِ وَالْمُقَدَّرِ لَا يَتَقَدَّمُهُ الْوَقْفُ تَامًّا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ الْفَصْلُ بِالْمَكْسُورَاتِ بَيْنَ: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} وَبَيْنَ: {وَأَنَّهُ لما قام عبد الله} فِيمَنْ فَتَحَهُمَا وَقَدْ عَطَفَ بِالثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى قِيلَ: أَمَّا عِنْدَنَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِفَصْلٍ لِأَنَّ مَا بَعْدَ: {إِنَّا سَمِعْنَا} مِنَ الْمَكْسُورَاتِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْقَوْلِ وَالْقَوْلُ أَعْنِي {فَقَالُوا} مَعْطُوفٌ عَلَى {اسْتَمَعَ} وَ {اسْتَمَعَ} مِنْ صِلَةِ أَنَّ الْأُولَى الْمَفْتُوحَةَ فَالْمَكْسُورَاتُ تَكُونُ فِي خَبَرِ الْمَفْتُوحَةِ الْأُولَى فَيُعْطَفُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ بِلَا فَصْلٍ بَيْنَهَا وَالثَّانِيَةُ عِنْدَنَا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} ثُمَّ الثَّالِثَةُ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ المساجد لله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ثُمَّ إِنْ فَتَحْتَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأنه لما قام عبد الله} رَابِعَةٌ تَابِعَةٌ فَإِنْ فَتَحْتَ الَّتِي بَعْدَ: {سَمِعْنَا} كَانَتْ هِيَ وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: {حَطَبًا} دَاخِلَةٌ فِي الْقَوْلِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الثَّانِيَةَ: ثُمَّ تُعَدُّ بَعْدَهَا عَلَى النَّسَقِ وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا الشمس كورت} إلى قوله: {علمت نفس ما أحضرت} وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ الثَّالِثُ: الْأَنْقَصُ وَمَثَّلَ لَهُ بقراءة بعضهم: {وإن كلا لما ليوفينهم} وقراءة بعضهم {لكن هو الله} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّامَّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مُهْلَةٌ وَتَرَاخٍ فِي اللَّفْظِ وَالنَّاقِصُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ بَيْنَ جُزْأَيِ الْقَوْلِ إِلَّا قَلِيلُ لُبْثٍ وَالَّذِي دُونَهُمَا لَا لُبْثَ فِيهِ وَلَا مُهْلَةَ أَصْلًا ثُمَّ إِنَّ كُلًّا مِنَ التَّامِّ وَالنَّاقِصِ يَنْقَسِمُ في ذاته أقساما فالتام أتمه مالا يَتَعَلَّقُ اللَّاحِقُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِالسَّابِقِ مَعْنًى كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَفْظًا وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض} وَشَأْنُ مَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِالْآخَرِ مَعْنًى وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَفْظًا وذلك كقوله: {يا حسرة عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَتَعَلُّقُ الثَّانِي فِيهِ بِالْأَوَّلِ تَعَلُّقُ الْحَالِ بِذِي الحال معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} إلى قوله {فجعلهم جذاذا} إلى قوله: {قال بل فعله كبيرهم هذا} فهذه الحال قد عطف بعضها فِي الْمَعْنَى وَظَاهِرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الِاسْتِئْنَافُ فِي اللَّفْظِ وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهُمْ بِهِ مستمسكون بل قالوا} وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بَلْ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا ونحو: {وكنتم أزواجا ثلاثة} ، فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ لَفْظًا إِذْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مَعْنًى وَتَعَلُّقُهُ قَرِيبٌ مِنْ تَعَلُّقِ الصفة بالموصوف إلى قوله: {وتصلية جحيم} ونحو قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم} فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِ تَامٌّ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِالْأَتَمِّ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مَعْنًى وَإِنْ كَانَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقِسْ عَلَى هَذَا مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ أَنْوَاعِ الْوُقُوفِ اسْتِعْمَالًا وَلَيْسَ إِذَا حَاوَلْتَ بَيَانَ قِصَّةٍ وَجَبَ عَلَيْكَ أَلَّا تَقِفَ إِلَّا فِي آخِرِهَا لِيَكُونَ الْوَقْفُ الْقَوْلَ عَلَى الْأَتَمِّ وَمِنْ ثَمَّ أَتَى بِهِ مَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ عَلَى {عَلَيْكُمْ} مِنْ قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كتاب الله عليكم} غير تام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فصل متى يحسن الوقف الناقص يَحْسُنُ الْوَقْفُ النَّاقِصُ بِأُمُورٍ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِضَرْبٍ مِنَ الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمْ يَجْعَلْ له عوجا قيما} إِذْ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَيِّمًا مُنْفَصِلٌ عَنْ عِوَجًا وَإِنَّهُ حَالٌ فِي نِيَّةِ التَّقَدُّمِ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وبنات الأخت} لِيَفْصِلَ بِهِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ النَّسَبِيِّ وَالسَّبَبِيِّ قُلْتُ: ومنه قوله تعالى: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا} لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقُولِهِمْ وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الله ولدا} ونحوه: {لعلكم ترحمون أن تقولوا} وَكَانَ نَافِعٌ يَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ كَثِيرًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بل لا يشعرون} وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ صُورَتُهُ فِيَ اللَّفْظِ صُورَةَ الْوَصْلِ بِعَيْنِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى {كَلَّا إِنَّهَا لظى نزاعة للشوى: تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَبْنِيًّا عَلَى الْوَقْفِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْوَقْفُ صِيغَةً كَقَوْلِهِ: {ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} هَذَا فِي النَّاقِصِ وَمِثَالُهُ فِي التَّامِّ {وَمَا أدراك ما هيه نار حامية} فصل خواص الوقف التام مِنْ خَوَاصِّ التَّامِّ الْمُرَاقَبَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ لَهُ مَقْطَعَانِ عَلَى الْبَدَلِ كُلُّ وَاحِدٍ منهما إذا فرض فيه وَجَبَ الْوَصْلُ فِي الْآخَرِ وَإِذَا فُرِضَ فِيهِ الْوَصْلُ وَجَبَ الْوَقْفُ فِي الْآخَرِ كَالْحَالِ بَيْنَ حَيَاةٍ وَبَيْنَ أَشْرَكُوا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أحدهم لو يعمر} ، فَإِنَّكَ إِنْ جَعَلْتَ الْقَطْعَ عَلَى {حَيَاةٍ} وَجَبَ أَنْ تَبْتَدِئَ فَتَقُولَ: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ} عَلَى الْوَصْلِ لِأَنَّ {يَوَدُّ} صِفَةٌ لِلْفَاعِلِ فِي مَوْضِعِهِ فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ دُونَهُ وَكَذَلِكَ إِنْ جَعَلَ الْمَقْطَعَ {أَشْرَكُوا} وَجَبَ أَنْ يَصِلَ {عَلَى حَيَاةٍ} عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَمِنْهُ أَيْضًا ما تراه بين {لا ريب} وَبَيْنَ {فِيهِ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فيه} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فصل انقسام الناقص بانقسام خاص يَنْقَسِمُ النَّاقِصُ بِانْقِسَامِ مَا مَرَّ مِنَ التَّعَلُّقِ اللَّفْظِيِّ بَيْنَ طَرَفَيْهِ فَكُلَّمَا كَانَ التَّعَلُّقُ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ كَانَ الْوَقْفُ أَنْقَصَ وَكُلَّمَا كَانَ أَضْعَفَ وَأَوْهَى كَانَ الْوَقْفُ أَقْرَبَ إِلَى التَّمَامِ وَالتَّوَسُّطُ يُوجِبُ التَّوَسُّطَ فَمِنْ وَكِيدِ التَّعَلُّقِ مَا يَكُونُ بَيْنَ تَوَابِعِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَبَيْنَ مَتْبُوعَاتِهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُتَمَحَّلَ لَهَا فِي إِعْرَابِهَا وَجْهٌ غَيْرُ الْإِتْبَاعِ وَمِنْ ثَمَّ ضُعِّفَ الْوَقْفُ عَلَى {مُنْتَصِرِينَ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ وقوم نوح} فِيمَنْ جَرَّ غَايَةَ الضَّعْفِ وَضُعِّفَ عَلَى {أَثِيمٍ} من قَوْلُهُ:: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم} وَضُعِّفَ عَلَى {بِهِ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وليا ولا نصيرا} وَضُعِّفَ عَلَى {أَبَدًا} مِنْ قَوْلِهِ: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ مِنَ التَّعَلُّقِ قَدْ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ منه من التعلق بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَأَوْهَى مِنْ هَذَا التَّعَلُّقِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ مَا يَنْتَصِبُ عَنْهُ مِنَ الزَّوَائِدِ الَّتِي لَا يُخِلُّ حَذْفُهَا بِالْكَلَامِ كَبِيرَ إِخْلَالٍ كَالظَّرْفِ وَالتَّمْيِيزِ وَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى نَحْوِ {عَجَبًا} مِنْ قَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف} أوهى مِنَ الْوُقُوفِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ وَسَّطْتَ بَيْنَ التَّعَلُّقِ بِالْمَذْكُورِ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ الَّذِي لِلْمَفْعُولِ أَوِ الْحَالِ الْمُخَصِّصَةِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِسُقُوطِهِ الْمَعْنَى وَانْتَصَبَ كَانَ لَكَ فِي الْوَقْفِ عَلَى نَحْوِ {مَسْغَبَةٍ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة} وعلى نحو {قليلا} من قوله تعالى {يراؤون النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ} وعلى نحو {مصيرا} من قوله {جزاؤهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين} وَعَلَى نَحْوِ {وَاحِدَةٍ} وَ {زَوْجَهَا} مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كثيرا ونساء} وعلى نحو {نذيرا} من قوله تعالى: {يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى الله بإذنه وسراجا منيرا} مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ لِلْوَقْفِ النَّاقِصِ كَمَا تَرَى بِإِزَاءِ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ مِنَ التَّعَلُّقِ الْمَذْكُورِ فَإِنْ قَسَّمْتَ طَبَقَةً مِنَ الطَّبَقَاتِ انْقَسَمَتْ بِإِزَائِهَا مَرْتَبَةٌ مِنَ الْمَرَاتِبِ فَقَدْ خَرَجَ لَكَ بِحَسَبِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ وَهِيَ الْقِسْمَةُ الصِّنَاعِيَّةُ سِتَّةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْوَقْفِ فِي الْكَلَامِ خَمْسَةٌ مِنْهَا بِحَسَبِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ وَهِيَ الْأَتَمُّ وَالتَّامُّ وَالَّذِي يُشْبِهُ التَّامَّ وَالنَّاقِصُ الْمُطْلَقُ وَالْأَنْقَصُ وَوَاحِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ الْقَارِئِ وَهُوَ الَّذِي بِحَسَبِ انْقِطَاعِ النَّفَسِ كَمَا سَبَقَ عَنْ حمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ فِي الْكَلَامِ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعِ نَفَسٍ وَإِنْ كَانَ لَا شَيْءَ مِنِ انْقِطَاعِ النَّفَسِ إِلَّا وَمَعَهُ الْوَقْفُ وَالْوُقُوفُ أَمْرُهَا عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ إِلَّا الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَمَا سِوَاهُ فَعَلَيْكَ مِنْهُ أَنْ تَخْتَارَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ بِشَرْطِ أَنْ تُطَابِقَ بِهِ انْقِطَاعَ نَفَسِكَ لِيَنْجَذِبَ عِنْدَ السَّكْتِ إِلَى بَاطِنِكَ مِنَ الْهَوَاءِ مَا تَسْتَعِينُ بِهِ ثَانِيًا عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي تُنْشِئُهُ بِإِخْرَاجِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَمِمَّا يَدْعُو إِلَى الْوَقْفِ فِي مَوْضِعِ الْوَقْفِ التَّرْتِيلُ فَإِنَّهُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَرَتِّلِ القرآن ترتيلا} وَيَدْعُو إِلَيْهِ اجْتِنَابُ تَكْرِيرِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْقُرْآنِ تَكْرِيرًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ من ماء دافق} وَقَوْلِهِ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} فصل في الكلام على "كلا" في القرآن "كلا" في القرآن على ثلاثة أقسام: إحداها: مَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِهِ جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ وَالثَّانِي: مَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلَا يُبْتَدَأُ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَالثَّالِثُ: مَا يُبْتَدَأُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَجُمْلَتُهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا تَضَمَّنُهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً كُلُّهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ وَلِلشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّيرِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَا نَزَلَتْ كَلَّا بِيَثْرِبَ فَاعْلَمَنْ وَلَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي نِصْفِهِ الْأَعْلَى وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ النِّصْفَ الْآخِرَ نَزَلَ أَكْثَرُهُ بِمَكَّةَ وَأَكْثَرُهَا جَبَابِرَةٌ فَتَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالتَّعْنِيفِ لَهُمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَمَا نَزَلَ مِنْهُ فِي الْيَهُودِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِيرَادِهَا فِيهِ لِذُلِّهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَالْأَوَّلُ: اثْنَا عَشَرَ حَرْفًا مِنْهَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {أَمِ اتَّخَذَ عند الرحمن عهدا كلا} ومنه فيها: {ليكونوا لهم عزا كلا} وفي المؤمنين: {فيما تركت كلا} وفي المعارج: {ينجيه كلا وفيها: {جنة نعيم كلا} وفي المدثر: {أن أزيد كلا وفيها {صحفا منشرة كلا} وفي القيامة: {أين المفر كلا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وفي عبس: {تلهى كلا} وفي المتطفيفين: {قال أساطير الأولين كلا} وفي الفجر: {أهانن كلا} وفي الهمزة: {أخلده كلا} وَالثَّانِي ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ: فِي الشُّعَرَاءِ: {أَنْ يَقْتُلُونِ قال كلا} وفيها: {إنا لمدركون قال كلا} وفي سبأ: {ألحقتم به شركاء كلا} وَالثَّالِثُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا: فِي الْمُدَّثِّرِ: {كَلَّا والقمر} {كلا إنه تذكرة} وفي القيامة: {كلا بل تحبون العاجلة} {كلا إذا بلغت التراقي} وفي النبأ: {كلا سيعلمون} وفي عبس: {كلا لما يقض} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وفي الانفطار: {كلا بل تكذبون} وفي المتطفيفين: {كلا إن كتاب الفجار} {كلا إنهم} وفي الفجر: {كلا إذا} وفي العلق: {كلا إن} {كلا لئن لم ينته} {كلا لا تطعه} وفي التكاثر: {كلا سوف تعلمون} وَقَسَّمَهَا مَكِّيٌّ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ فِيهِ عَلَى كَلَّا عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ لِمَا قَبْلَهَا وَالْإِنْكَارِ لَهُ فَتَكُونُ بِمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هُوَ الِاخْتِيَارُ وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا عَلَى مَعْنَى حَقًّا أَوْ إِلَّا وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا: مِنْهَا الْمَوْضِعَانِ فِي مَرْيَمَ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ وَفِي سبأ {ألحقتم به شركاء كلا} وَمَوْضِعَانِ فِي الْمَعَارِجِ وَمَوْضِعَانِ فِي الْمُدَّثِّرِ وَمَوْضِعٌ فِي الْمُطَفِّفِينَ وَالْفَجْرِ وَالْحُطَمَةِ قَالَ فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ تَقِفَ عَلَيْهَا عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ لِمَا تَقَدَّمَهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَبْتَدِئَ بِهَا عَلَى مَعْنَى حَقًّا لِجَعْلِهَا تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ الَّذِي بعدها أو الاستفتاح الثاني: مالا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا يَكُونُ الِابْتِدَاءُ بِهَا عَلَى مَعْنَى حَقًّا أَوْ أَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أَوْ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا وَلَا يُبْتَدَأُ بِهَا وَالِابْتِدَاءُ بِهَا في هذه الْمَوَاضِعِ أَحْسَنُ وَذَلِكَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مَوْضِعَانِ فِي الْمُدَّثِّرِ: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى للبشر كلا والقمر} {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تذكرة} وثلاثة في القيامة: {أين المفر كلا} {ثم إن علينا بيانه كلا} {ن يفعل بها فاقرة كلا إذا} وموضع في عم: {كلا سيعلمون} وَمَوْضِعَانِ فِي عَبَسَ: {إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا} {تلهى كلا} وَمَوْضِعٌ فِي الِانْفِطَارِ: {مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَّا} وَثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْمُطَفِّفِينَ: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَّا إن كتاب الفجار} {ما كانوا يكسبون كلا إنهم} {الذي كنتم به تكذبون كلا} وموضع في الفجر: {حبا جما كلا} وَثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْعَلَقِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لم يعلم كلا} {ألم يعلم بأن الله يرى كلا} {سندع الزبانية كلا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وَمَوْضِعَانِ فِي التَّكَاثُرِ: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سوف تعلمون} وقوله: {كلا لو تعلمون} فَهَذِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْقُرَّاءِ وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يُبْتَدَأَ بِهَا وكلا عَلَى مَعْنَى حَقًّا أَوْ أَلَا وَأَلَّا يُوقَفَ عَلَيْهَا الثَّالِثُ: مَا لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ فِيهِ عَلَيْهَا وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَلَا تَكُونُ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ وَلَا بِمَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ مَوْضِعَانِ فِي {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {كَلَّا سيعلمون ثم كلا سيعلمون} وَكَذَا فِي التَّكَاثُرِ {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَلَا الِابْتِدَاءُ بِهَا الرَّابِعُ: مَا لَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَيَحْسُنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَهُوَ مَوْضِعَانِ فِي الشُّعَرَاءِ: {أَنْ يقتلون قال كلا} {إنا لمدركون قال كلا} قَالَ فَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِهَا أَنْ تَصِلَهَا بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا وَلَا تقف عليها ولا تبتدئ بها الكلام عَلَى بَلَى وَأَمَّا {بَلَى} فَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا فِي سِتَّ عَشْرَةَ سُورَةً وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أَحَدُهَا: مَا يَخْتَارُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ الْوَقْفَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِمَا قَبْلَهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ عَشَرَةُ مَوَاضِعَ مَوْضِعَانِ فِي الْبَقَرَةِ: {مَا لَا تَعْلَمُونَ بلى من كسب سيئة} {إن كنتم صادقين بلى} وَمَوْضِعَانِ فِي آلِ عِمْرَانَ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى من أوفى} {بلى إن تصبروا} وَمَوْضِعٌ فِي الْأَعْرَافِ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَفِي النَّحْلِ: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ من سوء بلى} وفي يس: {أن يخلق مثلهم بلى} وفي غافر: {رسلكم بالبينات قالوا بلى} وَفِي الْأَحْقَافِ: {عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} وفي الانشقاق: {أن لن يحور بلى} فَهَذِهِ عَشَرَةُ مَوَاضِعَ يُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِمَا قَبْلَهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا بَعْدَهَا وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الِابْتِدَاءَ بِهَا وَالثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا لِتَعَلُّقِ مَا بَعْدَهَا بِهَا وَبِمَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ فِي الأنعام: {بلى وربنا} وَفِي النَّحْلِ: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بلى} وفي سبأ: {قل بلى وربي} وَفِي الزُّمَرِ: {مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ} وفي الأحقاف: {بلى وربنا} وفي التغابن {قل بلى وربي لتبعثن} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وفي القيامة: {أن لن نجمع عظامه بلى} وَهَذِهِ لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا لِأَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا جَوَابٌ الثَّالِثُ مَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا وَالْأَحْسَنُ الْمَنْعُ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَّصِلٌ بِهَا وَبِمَا قَبْلَهَا وَهِيَ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ: فِي البقرة: {بلى ولكن ليطمئن قلبي} وفي الزمر: {قالوا بلى ولكن حقت} وفي الزخرف: {ونجواهم بلى ورسلنا} وفي الحديد: {قالوا بلى} وَفِي الْمُلْكِ: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} الكلام عَلَى نَعَمْ وَأَمَّا {نَعَمْ} فَفِي الْقُرْآنِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي الْأَعْرَافِ: {قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مؤذن} وَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَى نَعَمْ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِهَا وَلَا بِمَا قَبْلَهَا إِذْ لَيْسَ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ النَّارِ وَ {قَالُوا نَعَمْ} مِنْ قَوْلِهِمْ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي الْأَعْرَافِ والشعراء: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ} الرَّابِعُ فِي الصَّافَّاتِ: {قُلْ نعم وأنتم داخرون} وَالْمُخْتَارُ أَلَّا يُوقَفَ عَلَى نَعَمْ فِي هَذِهِ المواضع لتعلقها بما قَبْلَهَا لِاتِّصَالِهِ بِالْقَوْلِ وَضَابِطُ مَا يُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ إِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا مَا اخْتِيرَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا أَوْ يُقَالَ إن وقع بعدها واو لم يجز الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَإِلَّا اخْتِيرَ وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي أيهما شئت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ وَلَمَّا كَانَ خَطُّ الْمُصْحَفِ هُوَ الْإِمَامَ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الْقَارِئُ فِي الْوَقْفِ وَالتَّمَامِ وَلَا يَعْدُو رُسُومَهُ وَلَا يَتَجَاوَزُ مَرْسُومَهُ قَدْ خَالَفَ خَطَّ الْإِمَامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَعْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَيْفَ اتَّفَقَ بَلْ عَلَى أَمْرٍ عِنْدَهُمْ قَدْ تَحَقَّقَ وَجَبَ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالْوُقُوفُ عَلَى سَبَبِهِ وَلَمَّا كَتَبَ الصَّحَابَةُ الْمُصْحَفَ زَمَنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَلَفُوا فِي كِتَابَةِ التابوت فَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ وَقَالَ النَّفَرُ الْقُرَشِيُّونَ التَّابُوتُ وَتَرَافَعُوا إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ اكْتُبُوا التَّابُوتَ فَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ خَطَّانِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا خَطُّ الْمُصْحَفِ وَخَطُّ تَقْطِيعِ الْعَرُوضِ وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي كِتَابِ اللُّبَابِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى كِتَابَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى لَفْظِهَا إِلَّا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ مَا وَجَدُوهُ فِي الْإِمَامِ وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ فَحَصَلَ أَنَّ الْخَطَّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ خَطٌّ يُتَّبَعُ بِهِ الاقتداء السلفي وهو رسم الْمُصْحَفِ وَخَطٌّ جَرَى عَلَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّفْظُ وَإِسْقَاطِ مَا حَذَفَهُ وَهُوَ خَطُّ الْعَرُوضِ فَيَكْتُبُونَ التَّنْوِينَ وَيَحْذِفُونَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ وَخَطٌّ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ النَّحْوِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ: الْأُولَى حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِهِ وَالثَّانِيَةُ مِثَالُهُ فِي الذِّهْنِ وَهَذَانِ لَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالثَّالِثَةُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمِثَالِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَالرَّابِعَةُ الْكِتَابَةُ الدَّالَّةُ عَلَى اللَّفْظِ وَهَذَانِ قَدْ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ كَاخْتِلَافِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالْخَطِّ الْعَرَبِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَلِهَذَا صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ إِذْ لَا يَجْرِي عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: لَمَّا عَمِلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ كِتَابَ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ قَالَ لِي اكْتُبْ كِتَابَنَا هَذَا قُلْتُ لَهُ نَعَمْ إِلَّا أَنِّي آخُذُ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهُ قَالَ وَمَا هُوَ قُلْتُ قَوْلُهُ وَمَنْ عَرَفَ صَوَابَ اللَّفْظِ عَرَفَ صَوَابَ الْخَطِّ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ اللُّغَةِ يُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالْكُتُبَ كُلَّهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ كَتَبَهَا فِي طِينٍ وَطَبَخَهُ فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ وَجَدَ كُلُّ قَوْمٍ كِتَابًا فَكَتَبُوهُ فَأَصَابَ إِسْمَاعِيلُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الخط توقيفي لقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقال تعالى: {ن والقلم وما يسطرون} وإذا كان كذا فليس بِبَعِيدٍ أَنْ يُوقَفَ آدَمُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الْكِتَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ لَمْ تَعْرِفْ هذه الحروف بأسمائها وأنهم لم يعرفوا نَحْوًا وَلَا إِعْرَابًا وَلَا رَفْعًا وَلَا نَصْبًا ولا همزا ومذهبنا فيه التوقيف فنقول أَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْحُرُوفِ دَاخِلَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ وَمَا اشْتَهَرَ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعَرَبِيَّةَ وَأَنَّ الْخَلِيلَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعَرُوضَ فَلَا نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ هذين العلمين كانا قديما وَأَتَتْ عَلَيْهِمَا الْأَيَّامُ وَقَلَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ثُمَّ جَدَّدَهُمَا هَذَانِ الْإِمَامَانِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم ذَلِكَ كِتَابَتُهُمُ الْمُصْحَفَ عَلَى الَّذِي يُعَلِّلُهُ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ وَالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو وَلَمْ يُصَوِّرُوا الْهَمْزَةَ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا ساكنا نحو الخبء والدفء والملء فصار ذلك كله حُجَّةً وَحَتَّى كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَرْكَ اتِّبَاعِ المصحف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وَأُسْنِدَ إِلَى الْفَرَّاءِ قَالَ اتِّبَاعُ الْمُصْحَفِ إِذَا وَجَدْتُ لَهُ وَجْهًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَقِرَاءَةُ الفراء أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خِلَافِهِ وَقَالَ أَشْهَبُ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَلْ تَكْتُبُ الْمُصْحَفَ عَلَى مَا أَخَذَتْهُ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ فَقَالَ لَا إِلَّا عَلَى الْكِتْبَةِ الْأُولَى رَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي الْمُقْنِعِ ثُمَّ قَالَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلِ الْوَاوِ وَالْأَلِفِ أَتَرَى أَنْ تُغَيَّرَ مِنَ الْمُصْحَفِ إِذَا وُجِدَا فِيهِ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو يَعْنِي الْوَاوَ وَالْأَلِفَ الْمَزِيدَتَيْنِ فِي الرَّسْمِ لِمَعْنًى الْمَعْدُومَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ نَحْوُ الواو في {أولو الألباب} {وأولات} و {الربوا} وَنَحْوِهِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ خَطِّ مُصْحَفِ عُثْمَانَ فِي يَاءٍ أَوْ وَاوٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالْعِلْمُ حَيٌّ غَضٌّ وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ يُخْشَى الْإِلْبَاسُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لا تجوز كتابة المصحف الآن عَلَى الرُّسُومِ الْأَوْلَى بِاصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ لِئَلَّا يُوقِعَ فِي تَغْيِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي إِجْرَاءُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ وَشَيْءٌ أَحْكَمَتْهُ الْقُدَمَاءُ لَا يُتْرَكُ مُرَاعَاتُهُ لِجَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَلَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ الَّتِي كَتَبُوا بِهَا تِلْكَ الْمَصَاحِفَ وَلَا يُخَالِفَهُمْ فِيهَا وَلَا يُغَيِّرَ مِمَّا كَتَبُوهُ شَيْئًا فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَأَصْدَقُ قَلْبًا وَلِسَانًا وَأَعْظَمُ أَمَانَةً مِنَّا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ بِأَنْفُسِنَا اسْتِدْرَاكًا عَلَيْهِمْ وَرَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدٍ قَالَ الْقِرَاءَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 سُنَّةٌ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ يَعْنِي أَلَّا تُخَالِفَ النَّاسَ بِرَأْيِكِ فِي الِاتِّبَاعِ قَالَ وَبِمَعْنَاهُ بَلَغَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ وَتَرَى الْقُرَّاءَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقِرَاءَةِ إِذَا خَالَفَ ذَلِكَ خَطَّ المصحف واتباع حروف المصاحف عندنا كَالسُّنَنِ الْقَائِمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يتعداها مسألة: في كتابة القرآن بغير الخط العربي هَلْ يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِقَلَمٍ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ؟ هَذَا مِمَّا لَمْ أَرَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ كَلَامًا ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَقْرَبُ الْمَنْعُ كَمَا تَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ وَلِقَوْلِهِمُ الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ وَالْعَرَبُ لا تعرف قلما غير العربي قال تعالى: {بلسان عربي مبين} اختلاف رسم الكلمات في المصحف والحكمة فيه واعلم أن الخط جرى على وجوه فيها ما زيد عليه عَلَى اللَّفْظِ وَمِنْهَا مَا نَقَصَ وَمِنْهَا مَا كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِ وَذَلِكَ لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ وَأَسْرَارٍ بَهِيَّةٍ تَصَدَّى لَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرَّاكِشِيُّ الشَّهِيرُ بِابْنِ الْبَنَّاءِ فِي كِتَابِهِ عُنْوَانُ الدَّلِيلِ فِي مَرْسُومِ خَطِّ التَّنْزِيلِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا اخْتَلَفَ حَالُهَا فِي الْخَطِّ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَعَانِي كَلِمَاتِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وَمِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْعَوَالِمِ الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ وَمَرَاتِبِ الْوُجُودِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْخَطُّ إِنَّمَا يُرْتَسَمُ عَلَى الْأَمْرِ الحقيقي لا الوهمي الزائد وأقسامه الأول: ما زيد فيه والزائد أقسام القسم الأول زيادة الألف الْأَوَّلُ: الْأَلِفُ وَهَى إِمَّا أَنْ تُزَادَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلِمَةِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا أَوْ مِنْ وَسَطِهَا فَالْأَوَّلُ تَكُونُ بِمَعْنًى زَائِدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ما قبله في الوجود مثل {لأذبحنه} و {ولأ وضعوا خلالكم} زِيدَتِ الْأَلِفُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُؤَخَّرَ أَشَدُّ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ لَفْظًا فَالذَّبْحُ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ وَالْإِيضَاعُ أَشَدُّ إِفْسَادًا مِنْ زيادة الخبال واختلفت المصاحف في حرفين: {لا إلى الجحيم} و {لا إلى الله تحشرون} فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ الزَّقُّومِ وَشُرْبِ الْحَمِيمِ وَأَنَّ حَشْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَوْتِهِمْ أَوْ قَتْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَثْبَتَ الْأَلِفَ وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 لَمْ يَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْبٌ عَنَّا فَلَمْ يَسْتَوِ الْقِسْمَانِ فِي الْعِلْمِ بِهِمَا لَمْ يُثْبِتْهُ وهو أولى وكذلك: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس} {أفلم ييأس} لِأَنَّ الصَّبْرَ وَانْتِظَارَ الْفَرَجِ أَخَفُّ مِنَ الْإِيَاسِ وَالْإِيَاسُ لَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بَعْدَ الصَّبْرِ وَالِانْتِظَارِ وَالثَّانِي: يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى خَارِجٍ عَنِ الْكَلِمَةِ يَحْصُلُ فِي الْوُجُودِ لِزِيَادَتِهَا بَعْدَ الْوَاوِ فِي الْأَفْعَالِ نَحْوِ يَرْجُوا وَيَدْعُوا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ أَثْقَلُ مِنَ الِاسْمِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ فَاعِلًا فَهُوَ جُمْلَةٌ وَالِاسْمُ مُفْرَدٌ لَا يَسْتَلْزِمُ غَيْرَهُ فَالْفِعْلُ أَزْيَدُ مِنَ الِاسْمِ فِي الْوُجُودِ وَالْوَاوُ أَثْقَلُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ وَالضَّمَّةُ أَثْقَلُ الْحَرَكَاتِ وَالْمُتَحَرِّكُ أَثْقَلُ مِنَ السَّاكِنِ فَزِيدَتِ الْأَلِفُ تَنْبِيهًا عَلَى ثِقَلِ الْجُمْلَةِ وَإِذَا زِيدَتْ مَعَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ فَمَعَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِينَ أَوْلَى لِأَنَّ الْكَلِمَةَ جُمْلَةٌ مِثْلُ قَالُوا وَعَصَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُضَارِعًا وَفِيهِ النُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ فَتَخْتَصُّ الْوَاوُ بِالنُّونِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِهَةِ تَمَامِ الْفِعْلِ إِذْ هِيَ إِعْرَابُهُ فَيَصِيرُ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَطُهَا وَاوٌ كَالْعُيُونِ وَالسُّكُونِ فَإِنْ دَخَلَ نَاصِبٌ أَوْ جَازِمٌ مِثْلُ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تفعلوا} ثبتت الألف. وقد تسقط مواضع للتنبيه على اضمحلال الفعل نحو: {سعوا في آياتنا معاجزين} فَإِنَّهُ سَعْيٌ فِي الْبَاطِلِ لَا يَصِحُّ لَهُ ثبوت في الوجود وكذلك: {وجاءوا بسحر عظيم} و {جاءوا ظلما وزورا} {وجاءوا أباهم} {وجاءوا على قميصه} ، فَإِنَّ هَذَا الْمَجِيءَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ الصَّحِيحِ وكذلك: {فإن فاءوا} وهو فيء بالقلب والاعتقاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وكذا: {تبوأوا الدار والأيمان} اخْتَارُوهَا سَكَنًا لَكِنْ لَا عَلَى الْجِهَةِ الْمَحْسُوسَةِ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا اخْتَارُوهَا سَكَنًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بِالْإِيثَارِ مَعَ الْخَصَاصَةِ فَهَذَا دَلِيلُ زُهْدِهِمْ فِي مَحْسُوسَاتِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ: {فَاءُوا} لِأَنَّهُ رُجُوعٌ مَعْنَوِيٌّ وَكَذَلِكَ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يعفو عنهم} حُذِفَتْ أَلِفُهُ لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ هَذَا الْفِعْلِ لَا تُدْرَكُ إِذْ هُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ إِنَّمَا هُوَ أمر عقلي وكذلك: {وعتوا عتوا كبيرا} هَذَا عُتُوٌّ عَلَى اللَّهِ لِذَلِكَ وَصَفَهُ بِالْكِبَرِ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ سَقَطَتْ مِنْ: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} وَلَمْ تَسْقُطْ مِنْ {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يغفرون} لِأَنَّ غَضِبُوا جُمْلَةٌ بَعْدَهَا أُخْرَى وَالضَّمِيرُ مُؤَكِّدٌ للفاعل في الجملة الأولى وكالوهم جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ الضَّمِيرُ جُزْءٌ مِنْهَا وَكَذَلِكَ زِيدَتِ الْأَلِفُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي حَرْفَيْنِ: {إِنِّي أُرِيدُ أن تبوء} و: {ما إن مفاتحه لتنوء} تَنْبِيهًا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَبُوءُ بِإِثْمَيْنِ مِنْ فِعْلٍ وَاحِدٍ وَتَنُوءُ الْمَفَاتِحُ بِالْعُصْبَةِ فَهُوَ نَوْءَانُ لِلْمَفَاتِحِ لِأَنَّهَا بِثِقَلِهَا أَثْقَلَتْهُمْ فَمَالَتْ وَأَمَالَتْهُمْ وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِالْمُنَاسَبَةِ يُتَوَجَّهُ بِهِ مِنْ مَفَاتِحِ كُنُوزِ مَالِ الدُّنْيَا الْمَحْسُوسِ إِلَى مَفَاتِحِ كُنُوزِ الْعِلْمِ الَّذِي يَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ فِي يَقِينِهِمْ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ زِيدَتْ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {كأمثال اللؤلؤا} تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى الْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَكْنُونٍ وَعَلَى تَفْصِيلِ الْإِفْرَادِ يَدُلُّ عليه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 : {كَأَمْثَالِ} وَهُوَ عَلَى خِلَافِ حَالِ: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ} فلم تزد الْأَلِفُ لِلْإِجْمَالِ وَخَفَاءِ التَّفْصِيلِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو كتبوا اللؤلؤا في الحج والملائكة بِالْأَلِفِ وَاخْتُلِفَ فِي زِيَادَتِهَا فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو كَمَا زَادُوهَا فِي كَانُوا وَقَالَ الْكِسَائِيُّ لِمَكَانِ الْهَمْزَةِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيِّ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لُؤْلُؤٍ فَبِغَيْرِ الْأَلِفِ فِي مَصَاحِفِ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الحج والإنسان وَقَالَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ كُلُّهَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بِالْأَلِفِ إِلَّا الَّتِي فِي الْمَلَائِكَةِ وَالثَّالِثُ: تَكُونُ لمعنى في نفس الكلمة ظاهر مثل: {وجيء يومئذ بجهنم} زِيدَتِ الْأَلِفُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَجِيءَ هُوَ بِصِفَةٍ مِنَ الظُّهُورِ يَنْفَصِلُ بِهَا عَنْ مَعْهُودِ الْمَجِيءِ وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي وَلَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِعَلَامَةٍ مِنْ غَيْرِهِ لَيْسَ مِثْلَهُ فَيَسْتَوِي فِي عِلْمِنَا مُلْكُهَا وَمَلَكُوتُهَا فِي ذَلِكَ الْمَجِيءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخر: {وبرزت الجحيم} وَقَوْلُهُ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لها تغيظا وزفيرا} هذا بخلاف حال: {وجيء بالنبيين والشهداء} حَيْثُ لَمْ تُكْتَبِ الْأَلِفُ لِأَنَّهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ في الدنيا وفي تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى الْبُرُوزِ فِي الْمَحْشَرِ لِتَعْظِيمِ جَنَابِ الحق أثبتت الألف فيه أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وكذلك: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} ، الشَّيْءُ هُنَا مَعْدُومٌ وَإِنَّمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ تَصَوُّرِ مِثْلِهِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ فَنُقِلَ لَهُ الِاسْمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُقَدَّرُ أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُ فِي الْوُجُودِ فَزِيدَتِ الْأَلِفُ تَنْبِيهًا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْدُومِ مِنْ جِهَةِ تَقْدِيرِ الْوُجُودِ إِذْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ مَعْدُومٌ فِي الْأَعْيَانِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه} . فَإِنَّ الشَّيْءَ هُنَا مِنْ جِهَةِ قَوْلِ اللَّهِ لَا يُعْلَمُ كَيْفَ ذَلِكَ بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ تَسْلِيمًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ بِعِلْمِهِ لَا بِهَا وَنَحْنُ نَعْلَمُهَا بِوُجُودِهَا لَا بِعِلْمِنَا فَلَا تَشْبِيهَ وَلَا تَعْطِيلَ وَكَذَلِكَ: {إلى فرعون وملأه} زِيدَتِ الْأَلِفُ بَيْنِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ تَنْبِيهًا عَلَى تَفْصِيلٍ مُهِمٍّ ظَاهِرِ الْوُجُودِ وَمِثْلُهُ زِيَادَتُهَا فِي مائة لِأَنَّهُ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى كَثْرَةٍ مُفَصَّلَةٍ بِمَرْتَبَتَيْنِ آحَادٍ وَعَشَرَاتٍ قَالَ أَبُو عَمْرٍو فِي الْمُقْنِعِ لَا خِلَافَ فِي رَسْمِ أَلِفِ الْوَصْلِ النَّاقِصَةِ مِنَ اللَّفْظِ فِي الدَّرْجِ نَحْوِ: {عِيسَى ابْنَ مريم} {والمسيح ابن مريم} وَهُوَ نَعْتٌ كَمَا أَثْبَتُوهَا فِي الْخَبَرِ نَحْوِ: {عزير ابن الله} و {المسيح ابن الله} وَلَمْ تُحْذَفْ إِلَّا فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ قَالَ: وَلَا خِلَافَ فِي زِيَادَةِ الْأَلِفِ بَعْدِ الْمِيمِ في مائة ومائتين حيث وقعا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ولم تزد في فئة ولا فئتين وزيدت في نحو: {تبوء بإثمي} و {لتنوء بالعصبة} وَلَا أَعْلَمُ هَمْزَةً مُتَطَرِّفَةً قَبْلَهَا سَاكِنٌ رُسِمَتْ خطا فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَلَا أَعْلَمُ هَمْزَةً مُتَوَسِّطَةً قَبْلَهَا سَاكِنٌ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: {مَوْئِلًا} فِي الْكَهْفِ لا غير القسم الثاني زيادة الواو الزَّائِدُ الثَّانِي الْوَاوُ زِيدَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ظُهُورِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ فِي الْوُجُودِ فِي أَعْظَمِ رُتْبَةٍ في العيان مثل {سأوريكم دار الفاسقين} {سأوريكم آياتي} وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَاءَتَا لِلتَّهْدِيدِ والوعيد وكذلك أولي وأولوا وأولات زِيدَتِ الْوَاوُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ حَيْثُ وَقَعَتْ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى عَلَى أَصْحَابِ فَإِنَّ فِي أُولِي مَعْنَى الصُّحْبَةِ وَزِيَادَةَ التَّمْلِيكِ وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ زِيدَتْ في أولئك وأولائكم حَيْثُ وَقَعَا بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُبْهَمٌ يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْكَثْرَةِ الْحَاضِرَةِ فِي الْوُجُودِ وَلَيْسَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ كَمَا قَالَهُ قَوْمٌ لانتفاضة بأولا القسم الثالث زيادة الياء الزائد الثالث الياء زيدت لِاخْتِصَاصٍ مَلَكُوتِيٍّ بَاطِنٍ وَذَلِكَ فِي تِسْعَةِ مَوَاضِعَ كما قاله في المقنع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 {أفإن مات أو قتل} {من تلقاء نفسي} {وإيتاء ذي القربى} {ومن آناء الليل} {أفإن مت} {من وراء حجاب} {والسماء بنيناها بأيد} و: {بأيبكم المفتون} قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرَّاكِشِيُّ إِنَّمَا كُتِبَتْ {بِأَيْيدٍ} بياءين فرقا بين الأيد الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ وَبَيْنَ الْأَيْدِي جَمْعِ يَدٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي بَنَى اللَّهُ بِهَا السَّمَاءَ هِيَ أَحَقُّ بِالثُّبُوتِ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْأَيْدِي فَزِيدَتِ الْيَاءُ لِاخْتِصَاصِ اللَّفْظَةِ بِمَعْنًى أَظْهَرَ فِي إِدْرَاكِ الْمَلَكُوتِيِّ فِي الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ زيدت بعد الهمزة في حرفين: {أفإن مات أو قتل} {أفإن مت} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْتَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالشَّرْطُ لَا يَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا مَا رُتِّبَ عَلَى الشَّرْطِ هُوَ جَوَابٌ لَهُ لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُودُ غَيْرِهِ وَلَا رُجُوعُهُ عَنِ الْحَقِّ فَتَقْدِيرُهُ أَهُمُ الْخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ فَاللَّفْظُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالرَّبْطِ وَالْمَعْنَى لِلْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ فَزِيدَتِ الْيَاءُ لِخُصُوصِ هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرِ لِلْفَهْمِ الْبَاطِنِ فِي اللفظ وَكَذَلِكَ زِيدَتْ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ في حرف واحد في الأنعام: {من نبأ المرسلين} تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا أَنْبَاءٌ بِاعْتِبَارِ أَخْبَارٍ وَهَى ملكوتية ظاهرة وكذلك: {بأيكم المفتون} كُتِبَتْ بِيَاءَيْنِ تَخْصِيصًا لَهُمْ بِالصِّفَةِ لِحُصُولِ ذَلِكَ وَتَحَقُّقِهِ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمَفْتُونُونَ دُونَهُ فَانْفَصَلَ حَرْفُ أَيِّ بِيَاءَيْنِ لِصِحَّةِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَطْعًا لَكِنَّهُ بَاطِنٌ فَهُوَ مَلَكُوتِيٌّ وَإِنَّمَا جَاءَ اللَّفْظُ بِالْإِبْهَامِ عَلَى أُسْلُوبِ الْمُجَامَلَةِ في الكلام والإمهال لهم ليقع التدبر والتذكار كَمَا جَاءَ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} وَمَعْلُومٌ أَنَّا عَلَى هُدًى وَهُمْ عَلَى ضَلَالٍ الناقص وأقسامه الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا نَقَصَ عَنِ اللَّفْظِ وَيَأْتِي فيه أيضا الأقسام السابقة: القسم الأول حذف الألف الْأَوَّلُ الْأَلِفُ كُلُّ أَلِفٍ تَكُونُ فِي كَلِمَةٍ لِمَعْنًى لَهُ تَفْصِيلٌ فِي الْوُجُودِ لَهُ اعْتِبَارَانِ اعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ أَوْ صِفَاتٍ حَالِيَّةٍ أَوْ أُمُورٍ عُلْوِيَّةٍ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فَإِنَّ الْأَلِفَ تُحْذَفُ فِي الْخَطِّ عَلَامَةً لِذَلِكَ وَاعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةٍ مِلْكِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ فِي الْعِلْمِ أَوْ أُمُورٍ سُفْلِيَّةٍ فَإِنَّ الْأَلِفَ تُثْبَتُ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي لَفْظَتَيِ الْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ الَّتِي أُحْكِمَتْ فِي الْكِتَابِ فَالْقُرْآنُ أَدْنَى إِلَيْنَا فِي الْفَهْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَأَظْهَرُ فِي التَّنْزِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هُودٍ: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ من لدن حكيم خبير} وَقَالَ فِي فُصِّلَتْ: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عربيا لقوم يعلمون} وقال: {إن علينا جمعه وقرآنه} وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْخَطِّ أَلِفُ الْقُرْآنِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ الْكِتَابِ وَقَدْ حُذِفَتْ أَلِفُ الْقُرْآنِ فِي حَرْفَيْنِ هُوَ فِيهِمَا مُرَادِفٌ لِلْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} وفى الزخرف: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} وَالضَّمِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضَمِيرُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فَقَرِينَتُهُ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِيَّةِ وَقَالَ فِي الزُّخْرُفِ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لدينا لعلي حكيم} وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكِتَابِ وكتاب فبغير ألف إلا في أربعة مواضع هي الرعد بِأَوْصَافٍ خَصَّصْتُهُ مِنَ الْكِتَابِ الْكُلِّيِّ فِي الرَّعْدِ: {لكل أجل كتاب} فَإِنَّ هَذَا كِتَابُ الْآجَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْكِتَابِ الْمُطْلَقِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ وَفَى الْحِجْرِ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} فَإِنَّ هَذَا كِتَابُ إِهْلَاكِ الْقُرَى وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ كِتَابِ الْآجَالِ وَفَى الْكَهْفِ: {وَاتْلُ مَا أوحي إليك من كتاب} فَإِنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} لِأَنَّهُ أَطْلَقَ هَذَا وَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الِاسْمِ الْمُضَافِ إِلَى مَعْنًى فِي الْوُجُودِ وَالْأَخَصُّ أَظْهَرُ تَنْزِيلًا وَفَى النَّمْلِ: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وكتاب مبين} هَذَا الْكِتَابُ جَاءَ تَابِعًا لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ جَاءَ تَابِعًا لِلْكِتَابِ كَمَا جَاءَ فِي الْحِجْرِ: {تِلْكَ آيات الكتاب وقرآن مبين} فَمَا فِي النَّمْلِ لَهُ خُصُوصُ تَنْزِيلٍ مَعَ الْكِتَابِ الْكُلِّيِّ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِلْكِتَابِ الْكُلِّيِّ بِجَوَامِعِ كُلِّيَّتِهِ وَمِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْأَلِفِ فِي: {بِسْمِ اللَّهِ} تَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّهِ فِي أَوَّلِ رُتْبَةِ الْأَسْمَاءِ وَانْفِرَادِهِ وَأَنَّ عَنْهُ انْقَضَتِ الْأَسْمَاءُ فَهُوَ بِكُلِّيِّهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ جَامِعٌ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا أَوَّلَهَا وَلِهَذَا لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ فَلِهَذَا ظَهَرَتِ الْأَلِفُ مَعَهَا تَنْبِيهًا عَلَى ظُهُورِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُجُودِ وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ التي قبلها الْهَاءِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَأُظْهِرَتِ الَّتِي مَعَ اللَّامِ مِنْ أَوَّلِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيفِ وَالْبَيَانِ الْبَاطِنُ مِنْ جِهَةِ الْإِدْرَاكِ وَالْعَيَانِ وَكَذَلِكَ حُذِفَتِ الْأَلِفُ قَبْلَ النُّونِ مِنِ اسْمِهِ الرَّحْمَنُ حَيْثُ وَقَعَ بَيَانًا لِأَنَّا نَعْلَمُ حَقَائِقَ تَفْصِيلِ رَحْمَتِهِ فِي الْوُجُودِ فَلَا يُفْرَقُ فِي عِلْمِنَا بَيْنَ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ وَإِنَّمَا الفرقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فِي التَّسْمِيَةِ وَالِاسْمِ لَا فِي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالتَّسْمِيَةِ بَلْ نُؤْمِنُ بِهَا إِيمَانًا مُفَوَّضًا فِي عِلْمِ حَقِيقَتِهِ إِلَيْهِ قُلْتُ: وَعُلَمَاءُ الظَّاهِرِ يَقُولُونَ: لِلِاخْتِصَارِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْجَلَالَةِ الشَّرِيفَةِ فَإِنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ النَّاقِصَةَ مِنَ اللَّفْظِ فِي الدَّرْجِ تُثْبَتُ خَطًّا إِلَّا فِي الْبَسْمَلَةِ وَفِي قَوْلِهِ فِي هُودٍ: {بِسْمِ الله مجريها} وَلَا تُحْذَفُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَنْ تُضَافَ إِلَى اسْمِ اللَّهِ وَلِهَذَا أُثْبِتَتْ فِي: {بِاسْمِ رَبِّكَ} وَأَنْ تَكُونَ قَبْلَهُ الْبَاءُ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْكِسَائِيُّ الثَّانِيَ: فَجَوَّزَ حَذْفَهَا كَمَا تُحْذَفُ فِي بِسْمِ الْمَلِكِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ حَذْفُ الْأَلِفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ مِثْلُ قَدِرٌ وعلم وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلِفَ فِي وَسَطِ الْكَلِمَةِ وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ الزَّائِدَةُ فِي الْجُمُوعِ السَّالِمَةِ وَالْمُكَسَّرَةِ مثل القنتين والأبرار والجلل والإكرم واختلف واستكبر فَإِنَّهَا كُلَّهَا وَرَدَتْ لِمَعْنًى مُفَصَّلٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَعْنَى تِلْكَ اللَّفْظَةِ فَتُحْذَفُ حَيْثُ يُبْطَنُ التَّفْصِيلُ وَتُثْبَتُ حَيْثُ يُظْهَرُ وَكَذَلِكَ أَلِفُ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ كإبرهيم لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِمَعْنًى غَيْرِ ظَاهِرٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِيِّ لِأَنَّ الْعَجَمِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِيِّ بَاطِنٌ خَفِيٌّ لَا ظُهُورَ لَهُ فَحُذِفَتْ أَلِفُهُ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: اتَّفَقُوا عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ مِنَ الأعلام الأعجمية المستعملة كإبرهيم وإسمعيل وإسحق وهرون ولقمن وشبهها وأما حذفها من سليمن وصلح وملك وَلَيْسَتْ بِأَعْجَمِيَّةٍ فَلِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَأَمَّا مَا لَمْ يكثر استعماله من الأعجمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فبالألف كطالوت وجالوت ويأجوج ومأجوج وشبهها واختلفت المصاحف في أربعة هاروت وماروت وهامان وقارون فأما داود فَلَا خِلَافَ فِي رَسْمِهِ بِالْأَلِفِ لِأَنَّهُمْ قَدْ حَذَفُوا مِنْهُ وَاوًا فَلَمْ يُجْحِفُوا بِحَذْفِ أَلِفٍ أخرى ومثله إسرائيل ترسم بالألف في أكثر المصاحف لِأَنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ الْيَاءَ وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ فِي جَمْعِ السَّلَامَةِ مُذَكَّرًا كَانَ كالعلمين والصبرين والصدقين أو مؤنثا كالمسلمت والمؤمنت والطيبت والخبيثت فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةٌ أَوْ حَرْفٌ مضعف ثبتت الألف نحو السائلين والصائمين والظانين والضالين وحافين وَنَحْوُهُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَقَدْ تَكُونُ الصِّفَةُ مَلَكُوتِيَّةً رُوحَانِيَّةً وَتُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةٍ مَرْتَبَةً سُفْلَى مِلْكِيَّةً هِيَ أَظْهَرُ فِي الِاسْمِ فَتُثْبَتُ الْأَلِفُ كالأواب والخطاب والعذاب و {أم كنت من العالين} و {الوسواس الخناس} وقد تكون ملكية وتعتبر من جهة عُلْيَا مَلَكُوتِيَّةً هِيَ أَظْهَرُ فِي الِاسْمِ فَتُحْذَفُ الألف كالمحرب وَلِأَجْلِ هَذَا التَّدَاخُلِ يَغْمُضُ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ظَاهِرَ الْفُرْقَانِ كالأخير والأشرار تُحْذَفُ مِنَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ومنه ما يخفي كالفراش ويطعمون الطعام فَالْفَرَاشُ مَحْسُوسٌ وَالطَّعَامُ ثَابِتٌ وَوَزْنُهُمَا وَاحِدٌ وَهُمَا جِسْمَانِ لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي الْأَوَّلِ مَكَانُ التَّشْبِيهِ فَإِنَّ التَّشْبِيهَ مَحْسُوسٌ وَصِفَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَالْمُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فِي حَالَةِ الشَّبَهِ إِذْ جُعِلَ جُزْءًا مِنْ صِفَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُسْتَفْرَشٌ مَبْثُوثٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ جِسْمٌ وَأَمَّا الطَّعَامُ فَهُوَ الْمَحْسُوسُ الْمُعْطَى لِلْمُحْتَاجِينَ وَكَذَلِكَ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حل لهم} ثُبِتَتِ الْأَلِفُ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ سُفْلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَعَامِنَا لِمَكَانِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَحُذِفَتْ مِنَ الثَّانِي لِأَنَّهُ عُلْوِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَعَامِهِمْ لِعُلُوِّ مَلَّتِنَا عَلَى مِلَّتِهِمْ وَكَذَلِكَ: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطعم} فَحُذِفَتْ لِعُلُوِّ هَذَا الطَّعَامِ وَكَذَلِكَ: {غَلَّقَتِ الْأَبْوَبَ} غَلَّقَتْ فِيهِ التَّكْثِيرُ فِي الْعَمَلِ فَيَدْخُلُ بِهِ أَيْضًا مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ مِنْ أَبْوَابِ الِاعْتِصَامِ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} {وألفيا سيدها لدا الباب} فَأَفْرَدَ الْبَابَ الْمَحْسُوسَ مِنْ أَبْوَابِ الِاعْتِصَامِ وَكَذَلِكَ: {وفتحت أبوبها} مَحْذُوفٌ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ فُتِحَتْ مَلَكُوتِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ و: {مفتحة لهم الأبواب} مِلْكِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَهُمْ فَثَبَتَتِ الْأَلِفُ و: {قيل ادخلوا أبواب جهنم} ، ثَابِتَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ دُخُولِهِمْ مَحْسُوسَةٌ سُفْلِيَّةٌ وكذلك: {سبعة أبواب} مِنْ حَيْثُ حَصْرُهَا الْعَدَدَ فِي الْوُجُودِ مِلْكِيَّةٌ فثبتت الألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وكذلك الجراد والضفدع الْأَوَّلُ ثَابِتٌ فَهُوَ الَّذِي فِي الْوَاحِدَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَاحِدَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَالْجَمْعُ هُنَا مَلَكُوتِيٌّ مِنْ حَيْثُ هُوَ آيَةٌ وكذلك: {أن نبدل أمثالكم} حُذِفَتْ لِأَنَّهَا أَمْثَالٌ كُلِّيَّةٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا للفهم جهة التماثل و: {كأمثال اللؤلؤ} ثَابِتُ الْأَلِفِ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْفَهْمِ جِهَةُ التَّمَاثُلِ وَهُوَ الْبَيَاضُ وَالصَّفَاءُ. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أمثلهم} حُذِفَتْ لِلْعُمُومِ وَ: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمثال} ثابت في الفرقان لِأَنَّهَا الْمَذْكُورَةَ حِسِّيَّةٌ مُفَصَّلَةٌ وَمَحْذُوفَةٌ فِي الْإِسْرَاءِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُفَصَّلَةٍ بَاطِنَةٌ وَكَذَلِكَ: {فَإِذَا نُفِخَ في الصور نفخة وحدة} و: {دكتا دكة وحدة} الْأُولَى مَحْذُوفَةٌ لِأَنَّهَا رُوحَانِيَّةٌ لَا تُعْلَمُ إِلَّا إيمانا والثانية ثابتة جسمانية يتصور أمثالها من الهوي وكذلك ألف {كتبيه} محذوفة لأنه ملكوتي وألف: {حسابيه} ثَابِتَةٌ لِأَنَّهَا مِلْكِيَّةٌ وَهُمَا مَعًا فِي مَوْطِنِ الآخرة وكذلك: {القاضية} ملكوتية {ماليه} مُلْكِيٌّ مَحْسُوسٌ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ وَثَبَتَ الثَّانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وكذلك: {ولما برزوا لجلوت} حذف لأنه الاسم: {وقتل داود جالوت} ثَبَتَ لِأَنَّهُ مُجَسَّدٌ مَحْسُوسٌ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ وَثَبَتَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ: {سُبْحَنَ} حُذِفَتْ لِأَنَّهُ مَلَكُوتِيٌّ إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا وَاخْتُلِفَ فِيهِ: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} فَمَنْ أَثْبَتَ الْأَلِفَ قَالَ هَذَا تَبْرِئَةٌ مِنْ مَقَامِ الْإِسْلَامِ وَحَصْرِهِ الْأَجْسَامَ صُدِّرَ بِهِ مُجَاوَبَةً لِلْكُفَّارِ فِي مُوَاطِنِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ وَمَنْ أَسْقَطَ فَلِعُلُوِّ حَالِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْغَلُهُ عَنِ الْحُضُورِ تَقَلُّبُهُ فِي الْمَلَكُوتِ الْخِطَابِ فِي الْمُلْكِ وَهُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ وَكَذَلِكَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلثة} ثَبَتَتْ أَلِفُ {ثَالِثُ} لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ أَحَدَ ثَلَاثَةٍ مُفَصَّلَةٍ فَثَبَتَتِ الْأَلِفُ عَلَامَةً لِإِظْهَارِهِمُ التَّفْصِيلَ فِي الْإِلَهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَحُذِفَتْ أَلِفُ: {ثَلَثَةٍ} لِأَنَّهُ اسْمُ الْعَدَدِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إله واحد} حُذِفَتْ مِنْ {إِلَهٍ} وَثَبَتَتْ فِي {وَاحِدٌ} أَلِفُهُ لِأَنَّهُ إِلَهٌ فِي مَلَكُوتِهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ تُعْرَفَ صِفَتُهُ بِإِحَاطَةِ الْإِدْرَاكِ وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ تَنَزَّهَ بِوَحْدَةِ أَسْمَائِهِ عَنِ الِاعْتِضَادِ وَالِاشْتِرَاكِ هَذَا مِنْ جِهَةِ إِدْرَاكِنَا وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الصِّفَةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا يُدْرَكُ ذَلِكَ بَلْ يُسَلَّمُ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَتُحْذَفُ وَكَذَلِكَ سَقَطَتِ الْأَلِفُ الزَّائِدَةُ لِتَطْوِيلِ هَاءِ التَّنْبِيهِ فِي النِّدَاءِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 {أيه المؤمنون} و {أيه الساحر} و {أيه الثقلان} وَالْبَاقِي بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَالسِّرُّ فِي سُقُوطِهَا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْنَى الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا فِي الْفَهْمِ رُتْبَةٌ يَمْتَدُّ النِّدَاءُ إِلَيْهَا وَتَنْبِيهٌ عَلَى الِاقْتِصَارِ وَالِاقْتِصَادِ مِنْ حَالِهِمْ وَالرُّجُوعِ إِلَى مَا يَنْبَغِي وَقَوْلُهُ: {وَتُوبُوا إلى الله جميعا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ. {إن هذا لساحر عليم} وَقَوْلِ فِرْعَوْنَ. {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ عِلْمِهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فَوْقَهُ أحد وقوله: {سنفرغ لكم أيه الثقلان} فَإِقَامَةُ الْوَصْفِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الصِّفَةِ الْمِلْكِيَّةِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمَلَكُوتِيَّةِ وَالْجَبَرُوتِيَّةِ فَلَيْسَ بَعْدَهَا رُتْبَةٌ أَظْهَرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اعْتِبَارِ آلَاءِ اللَّهِ فِي بَيَانِ النِّعَمِ لِيَشْكُرُوا وَبَيَانِ النِّقَمِ لِيَحْذَرُوا وَكَذَلِكَ حُذِفَتِ الْأَلِفُ الْآتِيَةُ لمد الصوت بالنداء مثل. {يقوم} {يعباد} لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِلتَّوَصُّلِ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ وَذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَيْسَ بِصِفَةٍ مَحْسُوسَةٍ فِي الْوُجُودِ قَالَ أَبُو عَمْرٍو كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذكر آيتنا فبغير الألف إلا في موضعين في {بآياتنا} و {آياتنا بينات} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ أَيُّهَا فَبِالْأَلِفِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مَحْذُوفَةِ الْأَلِفِ فِي النور {أيه المؤمنون} وفي الزخرف {أيه الساحر} وفي الرحمن {أيه الثقلان} وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ سَاحِرٍ فَبِغَيْرِ الْأَلِفِ إِلَّا فِي وَاحِدٍ فِي الذَّارِيَاتِ {وَقَالَ سَاحِرٌ أو مجنون} القسم الثاني حذف الواو الثَّانِي حَذْفُ الْوَاوِ اكْتِفَاءً بِالضَّمَّةِ قَصْدًا لِلتَّخْفِيفِ فَإِذَا اجْتَمَعَ وَاوَانِ وَالضَّمُّ فَتُحْذَفُ الْوَاوُ الَّتِي لَيْسَتْ عُمْدَةً وَتَبْقَى الْعُمْدَةُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَلِمَةُ فعلا مثل {ليسوءوا وجوهكم} أو صفة مثل مثل الموءدة وليؤس والغاون أو اسما مثل داود إِلَّا أَنْ يُنْوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتُثْبَتَانِ جميعا مثل تبوءوا فَإِنَّ الْوَاوَ الْأُولَى تَنُوبُ عَنْ حَرْفَيْنِ لِأَجْلِ الإدغام فنوبت فِي الْكَلِمَةِ وَالْوَاوَ الثَّانِيَةَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فَثَبَتَا جَمِيعًا وَقَدْ سَقَطَتْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَفْعَالٍ تَنْبِيهًا عَلَى سُرْعَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ وَسُهُولَتِهِ عَلَى الْفَاعِلِ وَشِدَّةِ قَبُولِ الْمُنْفَعَلِ الْمُتَأَثَّرِ بِهِ فِي الْوُجُودِ أولها: {سندع الزبانية} فِيهِ سُرْعَةُ الْفِعْلِ وَإِجَابَةُ الزَّبَانِيَةِ وَقُوَّةُ الْبَطْشِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وَهُوَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ ذُكِرَ مَبْدَؤُهُ وَحُذِفَ آخِرُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا واحدة كلمح بالبصر} وثانيها: {ويمح الله الباطل} حُذِفَتْ مِنْهُ الْوَاوُ عَلَامَةً عَلَى سُرْعَةِ الْحَقِّ وَقَبُولِ الْبَاطِلِ لَهُ بِسُرْعَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الباطل كان زهوقا} وَلَيْسَ {يَمْحُ} مَعْطُوفًا عَلَى {يَخْتِمُ} الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مَعَ {يَمْحُ} الْفَاعِلُ وَعُطِفَ عَلَى الفعل ما بعده وهو {ويحق الحق} قُلْتُ: إِنْ قِيلَ: لِمَ رُسِمَ الْوَاوُ فِي {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} وحذفت في: {ويمح الله الباطل} ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ الْأَصْلُ وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّ قَبْلَهُ مَجْزُومٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ: {وَيُحِقُّ} وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ وَلَكِنْ قَدْ يَجِيءُ بِصُورَةِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَجْزُومِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ عَطْفِ الْجِوَارِ فِي النَّحْوِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَثَالِثُهَا: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر} حَذْفُ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ وَيُسَارِعُ فِيهِ كَمَا يَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَإِتْيَانُ الشَّرِّ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من الخير ورابعها: {يوم يدع الداع} حذف الواو لسرعة الدعاء وسرعة الإجابة القسم الثالث حذف الياء الثالث: حذف الياء اكتفاء بالكسرة نحو فارهبون فاعبدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْيَاءُ النَّاقِصَةُ فِي الْخَطِّ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ مَحْذُوفٌ فِي الْخَطِّ ثَابِتٌ فِي التِّلَاوَةِ وَضَرْبٌ مَحْذُوفٌ فِيهِمَا. فَالْأَوَّلُ: هُوَ بِاعْتِبَارٍ مَلَكُوتِيٍّ بَاطِنٍ وَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: مَا هُوَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا هُوَ لَامُ الْكَلِمَةِ. فَالْأَوَّلُ: إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ مِثْلَ: {فَكَيْفَ كَانَ عذابي ونذر} ثَبَتَتِ الْيَاءُ الْأُولَى لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَلَكُوتِيٌّ وَكَذَلِكَ: {فما آتاني الله خير مما آتاكم} حُذِفَتِ الْيَاءُ لِاعْتِبَارِ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَهُوَ الْمُؤْتَى الْمَلَكُوتِيُّ مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ وَفَى ضِمْنِهِ الْجُسْمَانِيِّ لِلدُّنْيَا لِأَنَّهُ فَانٍ وَالْأَوَّلُ ثَابِتٌ وَكَذَلِكَ: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لك به علم} وَعِلْمُ هَذَا الْمَسْئُولِ غَيْبٌ مَلَكُوتِيٌّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لك منه ذكرا} لِأَنَّ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ حَوَادِثِ الْمِلْكِ فِي مقام الشاهد كخرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار وكذلك: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} فَحَذْفُ الضَّمِيرِ فِي الْخَطِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 دَلَالَةٌ عَلَى الدُّعَاءِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَلَكُوتِ بِإِخْلَاصِ الْبَاطِنِ وَكَذَلِكَ: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتبعن} هو الاتباع العلمي في دين الله بِالْجَوَارِحِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَكَذَلِكَ: {لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ثَبَتَتِ الْيَاءُ فِي الْمَقَامِ لِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ وَحُذِفَتْ مِنَ الْوَعِيدِ لِاعْتِبَارِهِ مَلَكُوتِيًّا فَخَافَ الْمَقَامَ مِنْ جِهَةِ مَا ظَهَرَ لِلْأَبْصَارِ وَخَافَ الْوَعِيدَ مِنْ جِهَةِ إِيمَانِهِ بِالْأَخْبَارِ وَكَذَلِكَ: {لئن أخرتن إلى يوم القيامة} هُوَ التَّأْخِيرُ بِالْمُؤَاخَذَةِ لَا التَّأْخِيرُ الْجِسْمِيُّ فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} لِأَنَّ هَذَا تَأْخِيرٌ جِسْمِيٌّ فِي الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ وَكَذَلِكَ: {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رشدا} ، سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ وَالْهِدَايَةُ فِيهِ مَلَكُوتِيَّةٌ وَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ فِي قِصَّةِ الْغَارِ وهو في العدد: {ثاني اثنين} حَتَّى خَرَجَ بِدِينِهِ عَنْ قَوْمِهِ بِأَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْكَهْفِ حِينَ خَرَجُوا بِدِينِهِمْ عَنْ قومهم وعدوهم عَلَى مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِيهِ وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ بِخِلَافِ مَا قَالَ مُوسَى: {عَسَى رَبِّي أن يهديني سواء السبيل} فَإِنَّهَا هِدَايَةُ السَّبِيلِ الْمَحْسُوسَةِ إِلَى مَدْيَنَ فِي عَالَمِ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مدين} وَكَذَلِكَ: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} وكذلك: {ولا تتبعان} هُوَ فِي طَرِيقِ الْهِدَايَةِ لَا فِي مَسِيرِ موسى إلى ربه بدليل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 : {أفعصيت أمري} وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْمَسِيرِ الْحِسِّيِّ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَخْلُفَهُ فِي قَوْمِهِ وَيُصْلِحَ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ هارون: {فاتبعوني وأطيعوا أمري} فَإِنَّهُ اتِّبَاعٌ مَحْسُوسٌ فِي تَرْكِ مَا سِوَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَأَطِيعُوا أَمْرِي وَهُوَ لَا أَمْرَ لَهُ إِلَّا الْحِسِّيُّ. وَكَذَلِكَ: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} حَيْثُ وَقَعَ لِأَنَّ النَّكِيرَ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَلَكُوتِ لَا مِنْ جِهَةِ أَثَرِهِ الْمَحْسُوسِ فَإِنَّ أَثَرَهُ قَدِ انْقَضَى وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي وَالنَّكِيرُ اسْمٌ ثَابِتٌ فِي الْأَزْمَانِ كُلِّهَا فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ كَمَا أَخَذَ أُولَئِكَ يَأْخُذُ غيرهم وكذلك: {إني أخاف أن يكذبون} خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُكَذِّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَأَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ جِهَةِ إِفْهَامِهِ لَهُمْ بِالْوَحْيِ فَإِنَّهُ كَانَ عَالِيَ الْبَيَانِ لِأَنَّهُ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ فَبَلَاغَتُهُ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا أَفْهَامُهُمْ فَيَصِيرُ إِفْصَاحُهُ الْعَالِي عِنْدَ فَهْمِهِمُ النَّازِلِ عُقْدَةً عَلَيْهِمْ فِي اللِّسَانِ يَحْتَاجُ إِلَى تُرْجُمَانٍ فَإِنْ يَقَعْ بَعْدَهُ تَكْذِيبٌ فَيَكُونُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَبِهِ تَتِمُّ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وكذلك: {إن كدت لتردين} هو الإرادة الأخروي الملكوتي وكذلك: {أن ترجمون} لَيْسَ هُوَ الرَّجْمَ بِالْحِجَارَةِ إِنَّمَا هُوَ مَا يرمونه من بهتانهم وكذلك: {فحق وعيد} {لمن خاف مقامي وخاف وعيد} هُوَ الْأُخْرَوِيُّ الْمَلَكُوتِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وكذلك: {فيقول ربي أكرمن} ، {ربي أهانن} هَذَا الْإِنْسَانُ يَعْتَبِرُ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْمَلَكُوتِ بِمَا يَبْتَلِيهِ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا مِنَ الْإِنْسَانِ خَطَأٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ لِقِيَامِ حُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ لَامَ الْكَلِمَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الِاسْمِ أَوِ الْفِعْلِ نحو: {أجيب دعوة الداع} حُذِفَتْ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُخْلِصِ لِلَّهِ الَّذِي قَلْبُهُ وَنِهَايَتُهُ فِي دُعَائِهِ فِي الْمَلَكُوتِ وَالْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ: {الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} هُوَ دَاعٍ مَلَكُوتِيٌّ مِنْ عَالَمِ الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ: {يوم يأت} هُوَ إِتْيَانٌ مَلَكُوتِيٌّ أُخْرَوِيٌّ آخِرُهُ مُتَّصِلٌ بِمَا وراءه من الغيب وكذلك: {المهتد} وكذلك: {والباد} حُذِفَ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ حَالِ الْحَاضِرِ الشَّاهِدِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا سِرًّا وَكَذَلِكَ: {كَالْجَوَابِ} مِنْ حَيْثُ التَّشْبِيهُ فَإِنَّهُ مَلَكُوتِيٌّ إِذْ هُوَ صِفَةُ تَشْبِيهٍ لَا ظُهُورَ لَهَا فِي الْإِدْرَاكِ الملكي وكذلك: {يوم التلاق} و {التناد} كِلَاهُمَا مَلَكُوتِيٌّ أُخْرَوِيٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وكذلك: {والليل إذا يسر} وَهُوَ السُّرَى الْمَلَكُوتِيُّ الَّذِي يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِآخِرِهِ مِنْ جِهَةِ الِانْقِضَاءِ أَوْ بِمَسِيرِ النُّجُومِ وَكَذَلِكَ: {ومن آياته الجوار} تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ آيَةٌ يَدُلُّ مِلْكُهَا عَلَى مَلَكُوتِهَا فَآخِرُهَا بِالِاعْتِبَارِ يَتَّصِلُ بِالْمَلَكُوتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} وَكَذَلِكَ: حَذْفُ يَاءِ الْفِعْلِ مِنْ يُحْيِي إِذَا انفردت وثبتت مع الضمير مثل: {من يحيي العظام} ، {قل يحييها} لِأَنَّ حَيَاةَ الْبَاطِنِ أَظْهَرُ فِي الْعِلْمِ مِنْ حَيَاةِ الظَّاهِرِ وَأَقْوَى فِي الْإِدْرَاكِ الضَّرْبُ الثَّانِي: الَّذِي تَسْقُطُ فِيهِ الْيَاءُ فِي الْخَطِّ وَالتِّلَاوَةِ فَهُوَ اعْتِبَارُ غَيْبَةٍ عَنْ بَابِ الْإِدْرَاكِ جُمْلَةً وَاتِّصَالُهُ بِالْإِسْلَامِ لِلَّهِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ وَهُوَ قِسْمَانِ مِنْهُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمِنْهُ لَامُ الْفِعْلِ فَالْأَوَّلُ: إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لِلْعَبْدِ فَهُوَ الْغَائِبُ وَإِنْ كَانَتْ لِلرَّبِّ فَالْغَيْبَةُ لِلْمَذْكُورِ مَعَهَا فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْغَائِبُ عَنِ الْإِدْرَاكِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِالْغَيْبِ مُكْتَفٍ بِالْأَدِلَّةِ فَيُقْتَصَرُ فِي الْخَطِّ لِذَلِكَ عَلَى نُونِ الْوِقَايَةِ وَالْكَسْرَةِ وَمِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْخِطَابِ بِهِ الْحَوَالَةُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ دُونَ تَعَرُّضٍ لِصِفَةِ الذات ولما كان الغرض من القرآن جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَاعْتِبَارِ الْآيَاتِ وَضَرْبِ الْمِثَالِ دُونَ التعرض لصفة الذات كما قال: {ويحذركم الله نفسه} وقال: {فلا تضربوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 لله الأمثال} كَانَ الْحَذْفُ فِي خَوَاتِمِ الْآيِ كَثِيرًا مِثْلَ. {فاتقون} {فارهبون} {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} {وما أريد أن يطعمون} وهو كثيرا جِدًّا وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ الْعَبْدِ مِثْلُ: {إِنْ يُرِدْنِ الرحمن} غائب عن علم إرادته الرَّحْمَنَ إِنَّمَا عِلْمُهُ بِهَا تَسْلِيمًا وَإِيمَانًا بُرْهَانِيًّا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي الْعُقُودِ. {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ واخشون} النَّاسُ كُلِّيٌّ لَا يَدُلُّ عَلَى نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَلَا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةٍ فَهُمْ كُلِّيٌّ وَلَا يُعْلَمُ الْكُلِّيُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ بَلْ مِنْ حَيْثُ أَثَرُ الْبَعْضِ فِي الْإِدْرَاكِ وَلَا يُعْلَمُ الْكُلِّيُّ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَثَرُ الْجُزْئِيِّ فِي الْإِدْرَاكِ فَالْخَشْيَةُ هُنَا كُلِّيَّةٌ لِشَيْءٍ غَيْرِ مَعْلُومِ الْحَقِيقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَقَّ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ نُحِطْ بِهِ عِلْمًا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ وَلَا يُخْشَى غَيْرُهُ وَهَذَا الْحَذْفُ بِخِلَافِ مَا جَاءَ في البقرة: {فلا تخشوهم واخشوني} ضمير الجمع يعود على: {الذين ظلموا} مِنَ النَّاسِ فَهُمْ بَعْضٌ لَا كُلٌّ ظَهَرُوا فِي الْمِلْكِ بِالظُّلْمِ فَالْخَشْيَةُ هُنَا جُزْئِيَّةٌ فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْشَى مِنْ جِهَةِ مَا ظَهَرَ كما يجب ذلك من جهة ماستر وكذلك حذفت الياء من: {فبشر عباد} و: {قل يا عباد} فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخُصُوصِ فَقَدْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ فِي فَهْمِنَا وَغَابَ الْعِبَادُ كُلُّهُمْ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ فَهُمْ غَائِبُونَ عَنْ شُهُودِ هَذَا الْخِطَابِ لَا يَعْلَمُونَهُ إِلَّا بوساطة الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وهذا بخلاف قوله: {يا عباد لا خوف عليكم} فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ غَيْرَ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ إِنَّهُ مُنْعِمٌ كَرِيمٌ وَثَبَتَ حَرْفُ النِّدَاءِ فَإِنَّهُ أَفْهَمَهُمْ نِدَاءَهُ الْأُخْرَوِيَّ فِي مَوْطِنِ الدُّنْيَا فِي يَوْمِ ظُهُورِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَفِي مَحَلِّ أَعْمَالِهِمْ إِلَى حُضُورِهِمْ يَوْمَ ظُهُورِهِمُ الْأُخْرَوِيَّ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَفِي محل جزائهم وكذلك: {يا عبادي الذين أسرفوا على} ثَبَتَ الضَّمِيرُ وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي الْخَطِّ فَإِنَّهُ دَعَاهُمْ مِنْ مَقَامِ إِسْلَامِهِمْ وَحَضْرَةِ امْتِثَالِهِمْ إِلَى مَقَامِ إِحْسَانِهِمْ وَمِثْلُهُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} في العنكبوت فَإِنَّهُ دَعَاهُمْ مِنْ حَضَرَتِهِمْ فِي مَقَامِ إِيمَانِهِمْ إِلَى حَضْرَتِهِمْ وَمَقَامِ إِحْسَانِهِمْ إِلَى مَا لَا نَعْلَمُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ سَقَطَتَا فِي مَوْطِنِ الدُّعَاءِ مِثْلِ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} حُذِفَتِ الْيَاءُ لِعَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِهِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِغَيْبَتِنَا نَحْنُ عَنِ الْإِدْرَاكِ وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ أنفسنا وأما قوله: {وقيله يا رب} فَأُثْبِتَ حَرْفُ النِّدَاءِ لِأَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ مِنْ مَرْتَبَةِ حُضُورِهِ مَعَهُمْ فِي مَقَامِ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ: {إن هؤلاء} وَأُسْقِطَ حَرْفُ ضَمِيرِهِ لِمَغِيبِهِ عَنْ ذَاتِهِ فِي تَوَجُّهِهِ فِي مَقَامِ الْمَلَكُوتِ وَرُتْبَةِ إِحْسَانِهِ فِي إسلامه وكذلك في مثل: {يا قوم} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُمْ فِي خِطَابِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِدْرَاكِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِمْ فِي النِّسْبَةِ الرَّابِطَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُودِ الْعُلْوِيَّةِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ لَامَ الْكَلِمَةِ فِي الْفِعْلِ أَوِ الِاسْمِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 مِنْ حَيْثُ يَكُونُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ مَبْدَئِهِ الظَّاهِرِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى مَلَكُوتِيَّةِ الْبَاطِنِ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ مِنْهُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا فَيَكُونُ حَذْفُ الْيَاءِ مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكْمُلِ اعْتِبَارُهُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ بِحَسَبِ عَرْضِ الْخِطَابِ مِثْلَ: {وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} هو {ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} وَقَدِ ابْتَدَأَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُتَّصِلًا بِالْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} حُذِفَتْ لِأَنَّهُ يَهْدِيهِمْ بِمَا نَصَبَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ برفع دَرَجَاتِهِمْ فِي هِدَايَتِهِمْ إِلَى حَيْثُ لَا غَايَةَ قال الله تعالى: {ولدينا مزيد} وكذلك: {وما أنت بهاد العمي} فِي الرُّومِ هَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ الْكُلِّيَّةُ عَلَى التَّفْصِيلِ بِالتَّوَالِي الَّتِي تُرَقِّي الْعَبْدَ فِي هِدَايَتِهِ مِنَ الْأَرْبَابِ إِلَى مَا يُدْرِكُهُ الْعَيَانُ لَيْسَ ذَلِكَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَيَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَهَا: {فَانْظُرْ إِلَى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} الآية فَهَذَا النَّظَرُ مِنْ عَالَمِ الْمِلْكِ ذَاهِبًا فِي النَّظَرِ إِلَى عَالَمِ الْمَلَكُوتِ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَرْفِ الَّذِي فِي النَّمْلِ: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} فَثَبَتَتِ الْيَاءُ لِأَنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ كُلِّيَّةٌ كَامِلَةٌ بدليل قوله: {إنك على الحق المبين} وكذلك: {بالواد المقدس} و {الواد الأيمن} هما مبدأ التقديس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الَّذِي وُصِفَا بِهِ فَانْتَقَلَ التَّقْدِيسُ وَالْيُمْنُ مِنْهُمَا إِلَى الْجَمَالِ ذَاهِبًا بِهِمَا إِلَى مَا لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ إِلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ: {وَادِ النَّمْلِ} هُوَ مَوْضِعٌ لِابْتِدَاءِ سَمَاعِ الْخِطَابِ مِنْ أَخْفَضِ الْخَلْقِ وَهَى النَّمْلَةُ إِلَى أَعْلَاهُمْ وَهُوَ الْهُدْهُدُ والطير وَمِنْ ظَاهِرِ النَّاسِ وَبَاطِنِ الْجِنِّ إِلَى قَوْلِ الْعِفْرِيتِ إِلَى قَوْلِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ الْكِتَابِ إِلَى مَقَامِ الْإِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وكذلك: {وله الجوار المنشآت في البحر} سَقَطَتِ الْيَاءُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لِلَّهِ مِنْ حَقِّ إِنْشَائِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ من صفاتها وكذلك: {الجوار الكنس} حُذِفَتِ الْيَاءُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ مَحَلِّ اتِّصَافِهَا بِالْخِنَاسِ إِلَى مَحَلِّ اتِّصَافِهَا بِالْكِنَاسِ وذلك يفهم لأنه اتصف بالخناس عن حركة تقدمت بالوصف الظاهر ويفهم منه وصف بالجوار في الْبَاطِنِ وَهَذَا الظَّاهِرُ مَبْدَأٌ لِفَهْمِهِ كَالنُّجُومِ الْجَارِيَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ فَصْلٌ: فِي حَذْفِ النُّونِ وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْقِسْمِ حَذْفُ النُّونِ الَّذِي هُوَ لَامُ فِعْلٍ فَيُحْذَفُ تَنْبِيهًا عَلَى صِغَرِ مَبْدَأِ الشَّيْءِ وَحَقَارَتِهِ وَأَنَّ مِنْهُ يَنْشَأُ وَيَزِيدُ إِلَى مَا لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ غَيْرُ اللَّهِ مثل {ألم يك نطفة} حُذِفَتِ النُّونُ تَنْبِيهًا عَلَى مَهَانَةِ مُبْتَدَأِ الْإِنْسَانِ وَصِغَرِ قَدْرِهِ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَرَقَّى فِي أَطْوَارِ التَّكْوِينِ {فإذا هو خصيم مبين} ، فَهُوَ حِينَ كَانَ نُطْفَةً كَانَ نَاقِصَ الْكَوْنِ كذلك كل مرتبة ينتهي إليها كونه هي نَاقِصَةُ الْكَوْنِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَهَا فَالْوُجُودُ الدُّنْيَوِيُّ كُلُّهُ نَاقِصُ الْكَوْنِ عَنْ كَوْنِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الحيوان} كذلك: {وإن تك حسنة يضاعفها} حُذِفَتِ النُّونُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةَ الْمِقْدَارِ حَقِيرَةً فِي الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ إِلَيْهِ تَرْتِيبَهَا وَتَضَاعِيفَهَا وَمِثْلُهُ: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ من خردل} وكذلك: {أولم تك تأتيكم رسلكم} جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ أَقْرَبِ شَيْءٍ فِي الْبَيَانِ الَّذِي أَقَلُّ مِنْ مَبْدَأٍ فِيهِ وَهُوَ الْحِسُّ إِلَى الْعَقْلِ إِلَى الذِّكْرِ وَرَقَّوْهُمْ مِنْ أَخْفَضِ رُتْبَةٍ وَهَى الْجَهْلُ إِلَى أَرْفَعِ دَرَجَةٍ فِي الْعِلْمِ وَهِيَ الْيَقِينُ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} فَإِنَّ كَوْنَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ قَدْ أُكْمِلَ كَوْنُهُ وَتَمَّ وَكَذَلِكَ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} هَذَا قَدْ تَمَّ كَوْنُهُ وَكَذَلِكَ: {لَمْ يَكُنِ الذين كفروا من أهل الكتاب} هَذَا قَدْ تَمَّ كَوْنُهُمْ غَيْرَ مُنْفَكِّينَ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الْمَجْعُولَةِ لَهُمْ وَهَى مَجِيءُ الْبَيِّنَةِ وكذلك: {فلم يك ينفعهم إيمانهم} انْتَفَى عَنْ إِيمَانِهِمْ مَبْدَأُ الِانْتِفَاعِ وَأَقَلُّهُ فَانْتَفَى أصله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فَصْلٌ: فِيمَا كُتِبَتِ الْأَلِفُ فِيهِ وَاوًا عَلَى لَفْظِ التَّفْخِيمِ وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أُصُولٍ مُطَّرِدَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ مُتَفَرِّعَةٍ فَالْأَرْبَعَةُ الْأُصُولِ هِيَ {الصَّلَوةَ} و {الزكوة} و {الحيوة} و {الربوا} وَالْأَرْبَعَةُ الْأَحْرُفِ قَوْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ {بِالْغَدَوةِ} ، والنور {كمشكواة} وفي المؤمن {النجوة} وفي النجم {ومناة} فأما قوله: {وما كان صلاتهم} {إن صلاتي} {حياتنا الدنيا} {وما آتيتم من ربا} فَالرَّسْمُ بِالْأَلِفِ فِي الْكُلِّ وَالْقَصْدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ عَمُودَا الْإِسْلَامِ وَالْحَيَاةَ قَاعِدَةُ النَّفْسِ وَمِفْتَاحُ الْبَقَاءِ وَتَرْكَ الرِّبَا قَاعِدَةُ الْأَمَانِ وَمِفْتَاحُ التَّقْوَى وَلِهَذَا قَالَ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من الله} وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ الْحَرَامِ وَأَنْوَاعِ الْخَبَائِثِ وَضُرُوبِ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ نَقِيضُ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا قُوبِلَ بَيْنَهُمَا في قوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} وَاجْتِنَابُهُ أَصْلٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَإِنَّمَا كُتِبَتْ بالألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فِي سُورَةِ الرُّومِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعَامَّ الْكُلِّيَّ لِأَنَّ الْكُلِّيَّ مَنْفِيٌّ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ وَفِي نَفْيِ الْكُلِّيِّ نَفْيُ جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ فإن قلت: فلم كتب الزكاوة هُنَا بِالْوَاوِ وَهَلَّا جَرَتْ عَلَى نَظْمِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكُلِّيَّةُ فِي حُكْمِ الله ولذلك قال: {فأولئك هم المضعفون} وأما كتاب {النجوة} بِالْوَاوِ فَلِأَنَّهَا قَاعِدَةُ الطَّاعَاتِ وَمِفْتَاحُ السَّعَادَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} وَأَمَّا {الْغَدَوةُ} فَقَاعِدَةُ الْأَزْمَانِ وَمَبْدَأُ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْغُدُوِّ وَأَمَّا"الْمِشْكَوةُ" فَقَاعِدَةُ الْهِدَايَةِ وَمِفْتَاحُ الْوِلَايَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَهْدِي اللَّهُ لنوره من يشاء} وَأَمَّا {مَنَوةُ} فَقَاعِدَةُ الضَّلَالِ وَمِفْتَاحُ الشِّرْكِ وَالْإِضْلَالِ وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّهُ بِوَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَكْثِيرِهِمُ الْإِلَهَ مِنْ مُثَنًّى وَمُثَلَّثٍ وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّغَايُرِ فَمِنْ مُعَطَّلٍ وَمُشَبَّهٍ تَعَالَى الإله عما يقولون فصل: في مد الياء وَقَبْضِهَا وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمَّا لَازَمَتِ الْفِعْلَ صَارَ لَهَا اعْتِبَارَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ وَهَذَا تُقْبَضُ مِنْهُ التَّاءُ وَالثَّانِي مِنْ حَيْثُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَاهَا فِعْلًا وَأَثَرًا ظَاهِرًا فِي الْوُجُودِ فَهَذَا تُمَدُّ فِيهِ كَمَا تمد في قالت وحقت وَجِهَةُ الْفِعْلِ وَالْأَمْرِ مِلْكِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَجِهَةُ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ مَلَكُوتِيَّةٌ بَاطِنَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ الرَّحْمَةُ مُدَّتْ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي أَحَدِهَا: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المحسنين} فَوَضْعُهَا عَلَى التَّذْكِيرِ فَهُوَ الْفِعْلُ وَكَذَلِكَ: {فَانْظُرْ إلى آثار رحمت الله} وَالْأَثَرُ هُوَ الْفِعْلُ ضَرُورَةً وَالثَّالِثُ: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رحمت الله} والرابع في هود: {رحمت الله وبركاته} والخامس: {ذكر رحمت ربك} والسادس: {أهم يقسمون رحمت ربك} والسابع: {ورحمت ربك خير مما يجمعون} وَمِنْهُ النِّعْمَةُ بِالْهَاءِ إِلَّا فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا مُدَّتْ بِهَا فِي الْبَقَرَةِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عليكم} في آل عمران، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والمائدة وفي إبراهيم موضعان والنحل ثلاثة مواضع وفي لقمان وفاطر والطور وَالْحِكْمَةُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَاصِلَةَ بِالْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ تُمَدُّ نَحْوُ قَوْلِهِ فِي إِبْرَاهِيمَ: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} بدليل قوله: {إن الأنسان لظلوم كفار} فَهَذِهِ نِعْمَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالظَّلُومِ الْكَفَّارِ فِي تَنْزِيلِهِمَا وَهَذَا بِخِلَافِ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَإِنْ تعدوا نعمة الله لا تحصوها} كُتِبَتْ مَقْبُوضَةً لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إن الله لغفور رحيم} فَهَذِهِ نِعْمَةٌ وَصَلَتْ مِنَ الرَّبِّ فَهِيَ مَلَكُوتِيَّةٌ خَتَمَهَا بِاسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَتَمَ الْأُولَى بِاسْمِ الْإِنْسَانِ وَمِنْ ذَلِكَ الْكَلِمَةُ مَقْبُوضَةً إِلَّا فِي مَوْضِعٍ فِي الْأَعْرَافِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} هُوَ مَا تَمَّ لَهُمْ فِي الْوُجُودِ الْأُخْرَوِيِّ بِالْفِعْلِ الظَّاهِرِ دَلِيلُهُ فِي الْمِلْكِ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الِاخْتِلَافُ وَتَمَامُهَا أَنَّ لَهَا نِهَايَةً تَظْهَرُ فِي الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ فَمُدَّتِ التَّاءُ وَمِنْهَا السُّنَّةُ مَقْبُوضَةً إِلَّا فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ حَيْثُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَالِانْتِقَامِ الَّذِي فِي الْوُجُودِ أَحَدُهَا فِي الأنفال: {فقد مضت سنت الأولين} ويدل عليها أنها من الِانْتِقَامِ قَوْلُهُ قَبْلَهَا: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قد سلف} وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَفَى فَاطِرٍ: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فلن تجد لسنت الله تبديلا} وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الِانْتِقَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهَا: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وَسِيَاقُ مَا بَعْدَهَا وَفَى الْمُؤْمِنِ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ} أَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ بِمَعْنَى الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ فَهِيَ مَلَكُوتِيَّةٌ بِمَعْنَى الِاسْمِ تُقْبَضُ تَاؤُهَا كَمَا فِي الْأَحْزَابِ {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا من قبل} أي حكم الله وشرعه وفي الإسراء: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} ومنه: {بقيت الله} فَرْدٌ مُدَّتْ تَاؤُهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَا يَبْقَى فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الرِّبْحِ الْمَحْسُوسِ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا هُوَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ومنه {فطرت الله} فرد وصفها بِأَنَّهَا فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا فَهِيَ فَصْلُ خِطَابٍ فِي الْوُجُودِ كَمَا جَاءَ "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ" الْحَدِيثَ وَمِنْهُ: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي ولك} فَرْدٌ مُدَّتْ تَاؤُهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ إِذْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ مُوسَى وَهُوَ مَوْجُودٌ حَاضِرٌ في الملك وهذا بخلاف: {قرة أعين} فَإِنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى الِاسْمِ وَهُوَ مَلَكُوتِيٌّ إِذْ هو غير حاضر ومنه: {ومعصيت الرسول} مُدَّتْ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْفِعْلُ وَالتَّقْدِيرُ وَلَا تَتَنَاجَوْا بِأَنْ تَعْصُوا الرَّسُولَ وَنَفْسُ هَذَا النَّجْوِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ فِي الْوُجُودِ هُوَ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ لِوُقُوعِ النَّهْيِ عَنْهُ وَمِنْهُ اللَّعْنَةُ مُدَّتْ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ وَفَى آيَةِ اللِّعَانِ وَكَوْنُهُمَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ ظَاهِرٌ وَمِنْهُ الشَّجَرَةُ فِي مَوْضِعِ: {إِنَّ شَجَرَتَ الزقوم} لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ اللَّازِمِ وَهُوَ تَزَقُّمُهَا بِالْأَكْلِ بدليل قوله تعالى: {في البطون} فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ كَمَا فِي الْوَاقِعَةِ: {لَآكِلُونَ من شجر من زقوم} وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 أم شجرة الزقوم} فإن هذه وصفها بأنها: {فتنة للظالمين} وأنها {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} فَهُوَ حِلْيَةٌ لِلِاسْمِ فَلِذَلِكَ قُبِضَتْ تَاؤُهَا وَمِنْهُ الْجَنَّةُ مُدَّتْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي الْوَاقِعَةِ: {وجنت نعيم} لِكَوْنِهَا بِمَعْنَى فِعْلِ التَّنَعُّمِ بِالنَّعِيمِ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهَا بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْهُمَا وَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَهَذِهِ جَنَّةٌ خَاصَّةٌ بِالْمُنَعَّمِ بِهَا وَأَمَّا: {مِنْ ورثة جنة النعيم} و: {أن يدخل جنة نعيم} فَإِنَّ هَذَا بِمَعْنَى الِاسْمِ الْكُلِّيِّ وَلَمْ تُمَدَّ: {وتصلية جحيم} لِأَنَّهَا اسْمُ مَا يُفْعَلُ بِالْمُكَذِّبِ فِي الْآخِرَةِ أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ فَالْمُؤْمِنُ يَعْلَمُهُ تَصْدِيقًا وَلَا يُحْذَفُ لِفِعْلٍ أَبَدًا وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْمِ لَمْ تُمَدَّ تَاؤُهُ مِثْلِ: {زهرة الحياة الدنيا} و {صبغة الله} و {زلزلة الساعة} و {تحلة أيمانكم} و {رحلة الشتاء والصيف} و {حمالة الحطب} ومنه: {ومريم ابنت عمران} مُدَّتِ التَّاءُ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى الْوِلَادَةِ وَالْحُدُوثِ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَهِينَةِ وَلَمْ يُضَفْ فِي الْقُرْآنِ وَلَدٌ إِلَى وَالِدٍ وَوُصِفَ بِهِ اسْمُ الْوَلَدِ إِلَّا عِيسَى وَأُمَّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا اعْتَقَدَ النَّصَارَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا إِلَهَانِ فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِإِضَافَتِهِمَا الْوِلَادِيَّةَ عَلَى جِهَةِ حُدُوثِهِمَا بَعْدَ عَدَمِهِمَا حَتَّى أَخْبَرَ تَعَالَى فِي مَوْطِنٍ بِصِفَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الْإِضَافَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وأمه آية} لَمَّا غَلَوْا فِي إِلَاهِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أُمِّهِ كَمَا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى حَاجَتِهِمَا وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمَا في الوجود بلحقهما مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَانَا يأكلان الطعام} وَمِنْهُ امْرَأَةٌ هِيَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ وَهَى خمس من النساء امرأت عمران وامرأت فرعون وامرأت نوح وامرأت لوط وامرأت العزيز كُلُّهَا مَمْدُودَةٌ تَنْبِيهًا عَلَى فِعْلِ التَّبَعُّلِ وَالصُّحْبَةِ وَشِدَّةِ الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالِائْتِلَافِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَحْسُوسِ وَأَرْبَعٌ مِنْهُنَّ مُنْفَصِلَاتٌ فِي بَوَاطِنِ أَمْرِهِنَّ عَنْ بُعُولَتِهِنَّ بِأَعْمَالِهِنَّ وَوَاحِدَةٌ خَاصَّةٌ وَاصَلَتْ بَعْلَهَا بَاطِنًا وظاهرا وهي امرأت عِمْرَانَ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وَأَكْرَمَهَا بِذَلِكَ وَفَضَّلَهَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَوَاحِدَةٌ مِنَ الْأَرْبَعِ انْفَصَلَتْ بِبَاطِنِهَا عَنْ بَعْلِهَا طَاعَةً لِلَّهِ وَتَوَكُّلًا عليه وخوفا منه فنجاها وأكرمها وهي امرأت فِرْعَوْنَ وَاثْنَتَانِ مِنْهُنَّ انْفَصَلَتَا عَنْ أَزْوَاجِهِمَا كُفْرًا بِاللَّهِ فَأَهْلَكَهُمَا اللَّهُ وَدَمَّرَهُمَا وَلَمْ يَنْتَفِعَا بِالْوَصْلَةِ الظَّاهِرَةِ مَعَ أَنَّهَا أَقْرَبُ وَصْلَةٍ بِأَفْضَلِ أَحْبَابِ الله كما لم تضر امرأت فِرْعَوْنَ وَصْلَتُهَا الظَّاهِرَةُ بِأَخْبَثِ عَبِيدِ اللَّهِ وَوَاحِدَةٌ انْفَصَلَتْ عَنْ بَعْلِهَا بِالْبَاطِنِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَشَهْوَةِ نَفْسِهَا فَلَمْ تَبْلُغْ مِنْ ذَلِكَ مُرَادَهَا مَعَ تَمَكُّنِهَا مِنَ الدُّنْيَا وَاسْتِيلَائِهَا عَلَى مَا مَالَتْ إِلَيْهِ بِحُبِّهَا وَهُوَ فِي بَيْتِهَا وَقَبْضَتِهَا فَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهَا شَيْئًا وَقُوَّتُهَا وَعِزَّتُهَا إِنَّمَا كَانَا لَهَا مِنْ بَعْلِهَا الْعَزِيزِ وَلَمْ يَنْفَعْهَا ذَلِكَ فِي الْوُصُولِ إِلَى إِرَادَتِهَا مَعَ عَظِيمِ كَيْدِهَا كَمَا لَمْ يَضُرَّ يُوسُفَ مَا امْتُحِنَ بِهِ مِنْهَا وَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ السِّجْنِ وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَذَلِكَ بِطَاعَتِهِ لِرَبِّهِ وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَلَا شَقَاوَةَ إِلَّا بِمَعْصِيَتِهِ فَهَذِهِ كُلُّهَا عِبَرٌ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ فِي شَأْنِ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ فَلِذَلِكَ مدت تاءاتهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فَصْلٌ: فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ اعْلَمْ أَنَّ الْمَوْصُولَ فِي الْوُجُودِ تُوصَلُ كَلِمَاتُهُ فِي الْخَطِّ كَمَا تُوصَلُ حُرُوفُ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَفْصُولُ مَعْنًى فِي الْوُجُودِ يُفْصَلُ فِي الْخَطِّ كَمَا تُفْصَلُ كَلِمَةٌ عَنْ كَلِمَةٍ فَمِنْهُ إِنَّمَا بِالْكَسْرِ كُلُّهُ مَوْصُولٌ إلا واحدا: {إن ما توعدون لآت} لِأَنَّ حَرْفَ مَا هُنَا وَقَعَ عَلَى مُفَصَّلٍ فَمِنْهُ خَيْرٌ مَوْعُودٌ بِهِ لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَمِنْهُ شَرٌّ مَوْعُودٌ بِهِ لِأَهْلِ الشَّرِّ فَمَعْنَى مَا مَفْصُولٌ فِي الْوُجُودِ وَالْعِلْمِ وَمِنْهُ أَنَّمَا بِالْفَتْحِ كُلُّهُ مَوْصُولٌ إِلَّا حَرْفَانِ: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ من دونه هو الباطل} {وأن ما يدعون من دونه الباطل} وَقَعَ الْفَصْلُ عَنْ حَرْفِ التَّوْكِيدِ إِذْ لَيْسَ لِدَعْوَى غَيْرِ اللَّهِ وَصْلٌ فِي الْوُجُودِ إِنَّمَا وَصْلُهَا فِي الْعَدَمِ وَالنَّفْيِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِ: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دعوة في الدنيا ولا في الآخرة} فَوَصَلَ أَنَّمَا فِي النَّفْيِ وَفَصَلَ فِي الْإِثْبَاتِ لا لِانْفِصَالِهِ عَنْ دَعْوَةِ الْحَقِّ وَمِنْهُ كُلَّمَا مَوْصُولٌ كله إلا ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 في النساء: {كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها} فَمَا رُدُّوا إِلَيْهِ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْوُجُودِ بَلْ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْوُجُودِ وَصِفَةُ مَرَدِّهِمْ لَيْسَتْ وَاحِدَةً بَلْ مُتَنَوِّعَةً فَانْفَصَلَ مَا لِأَنَّهُ لِعُمُومِ شَيْءٍ مُفَصَّلٍ فِي الْوُجُودِ وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} فَحَرْفُ مَا وَاقِعٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مُفَصَّلَةٍ فِي الْوُجُودِ وَفَى قَدْ أَفْلَحَ: {كُلَّ مَا جَاءَ أمة رسولها كذبوه} وَالْأُمَمُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْوُجُودِ فَحَرْفُ مَا وَقَعَ عَلَى تَفَاصِيلَ مَوْجُودَةٍ لِتُفَصَّلَ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فريقا كذبوا وفريقا يقتلون} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ بدليل قوله: {فلم تقتلون أنبياء الله} وَالْمُخَاطَبُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا بَاشَرَهُ آبَاؤُهُمْ لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ فَحَرْفُ مَا إِنَّمَا يَشْمَلُ تَفَاصِيلَ الزَّمَانِ وَهُوَ تَفْصِيلٌ لَا مُفَصَّلَ لَهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِالْفَرْضِ وَالتَّوَهُّمِ لَا بِالْحِسِّ فَوُصِلَتْ كُلُّ لِاتِّصَالِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْوُجُودِ وَتَلَازُمِ أَفْرَادِهَا الْمُتَوَهَّمَةِ وَكَذَلِكَ: {كُلَّمَا رُزِقُوا منها من ثمرة رزقا} هَذَا مَوْصُولٌ لِأَنَّ حَرْفَ مَا جَاءَ لِتَعْمِيمِ الْأَزْمِنَةِ فَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا فِي الْوُجُودِ وَمَا رُزِقُوا هُوَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتُوا به متشابها} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وَمِنْهُ أَيْنَمَا مَوْصُولٌ إِذَا كَانَتْ مَا غَيْرَ مُخْتَلِفَةِ الْأَقْسَامِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا مِثْلُ: {أينما يوجهه} {فأينما تولوا} {أينما ثقفوا أخذوا} {أينما تكونوا يدرككم الموت} فَهَذِهِ كُلُّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْأَيْنِ الْمِلْكِيِّ وَهُوَ مُتَّصِلٌ حِسًّا وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي مَعَ مَا وَتُفْصَلُ أَيْنَ حَيْثُ تَكُونُ مَا مُخْتَلِفَةَ الْأَقْسَامِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي بَعْدَهَا مثل: {أين ما كنتم تعبدون} {وهو معكم أين ما كنتم} {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وحبل من الناس} ومنه بئسما موصول إلا ثلاثة أحرف اثنان في البقرة: {بئس ما اشتروا به أنفسهم} ، {بئس ما يأمركم به إيمانكم} وفي الأعراف: {بئس ما خلفتموني} فَحَرْفُ مَا لَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَاطِلًا مَذْمُومًا عَلَى خِلَافِ حَالِ مَا فِي الْمَائِدَةِ: {وترى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السحت لبئس ما كانوا يعملون} فَحَرْفُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلُ وَكَذَلِكَ: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أنفسهم} حرف ما مفصول لأنه يعمل مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ومنه: {يوم هم على النار يفتنون} {يوم هم بارزون} حَرْفَانِ فُصِلَ الضَّمِيرُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَأُضِيفَ الْيَوْمُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ وَ {يَوْمَهُمُ الذي فيه يصعقون} و {يومهم الذي يوعدون} وُصِلَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ فَهُوَ جُزْءُ الْكَلِمَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْيَوْمِ الْمُضَافِ وَالضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ فِي مَا مَفْصُولٌ أَحَدَ عَشَرَ حَرْفًا: فِي الْبَقَرَةِ: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من معروف} وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَى فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعٍ يَنْفَصِلُ بِهَا الْمَعْرُوفُ فِي الْوُجُودِ وعلى الْبَدَلِيَّةِ أَوِ الْجَمْعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَنْكِيرُهُ الْمَعْرُوفَ وَدُخُولُ حِرَفِ التَّبْعِيضِ عَلَيْهِ فَهُوَ حِسِّيٌّ يُقَسَّمُ وَحَرْفُ مَا وَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أَوِ الْجَمْعِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف، فَهَذَا مَوْصُولٌ لِأَنَّ مَا وَاقِعَةٌ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مُفَصَّلٍ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ وَصْفُهُ بِالْمَعْرُوفِ وكذلك {في ما اشتهت أنفسهم خالدون} وَهُوَ مَفْصُولٌ لِأَنَّ شَهَوَاتِ الْأَنْفُسِ مُخْتَلِفَةٌ أَوْ مُفَصَّلَةٌ فِي الْوُجُودِ كَذَلِكَ فَتَدَبَّرْهُ فِي سَائِرِهَا وَمِنْهُ: {لِكَيْلَا} مَوْصُولٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ وَبَاقِيهَا مُنْفَصِلٌ وَإِنَّمَا يُوصَلُ حَيْثُ يَكُونُ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ فَيُوصَلُ لِأَنَّ نَفْيَ الْكُلِّيِّ نَفْيٌ لِجَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ فَعِلَّةُ نَفْيِهِ هِيَ عِلَّةُ نَفْيِ أَجْزَائِهِ وَلَيْسَ لِلْكُلِّيِّ الْمَنْفِيِّ أَفْرَادٌ فِي الْوُجُودِ وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ذَلِكَ فِيهِ بِالتَّوَهُّمِ وَيُفْصَلُ حَيْثُ يَكُونُ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى جُزْئِيٍّ فَإِنَّ نَفْيَ الْجُزْئِيِّ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْكُلِّيِّ فَلَا تَكُونَ علته علة نفي الجمع: في الحج وفى الأحزاب: {لكيلا يكون عليك حرج} وَفَى الْحَدِيدِ: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} فَهَذِهِ هِيَ الْمَوْصُولَةُ وَهِيَ بِخِلَافِ: {لِكَيْ لَا يعلم بعد علم شيئا} فِي النَّحْلِ لِأَنَّ الظَّرْفَ فِي هَذَا خَاصُّ الِاعْتِبَارِ وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ عَامُّ الِاعْتِبَارِ لِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} اختص المظروف بقبل فِي الدُّنْيَا فَفِيهَا كَانُوا مُشْفِقِينَ خَاصَّةً وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هو البر الرحيم} فَهَذَا الظَّرْفُ عَامٌّ لِدُعَائِهِمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا والآخرة فلم يختص المظروف بقبل بِالدُّنْيَا وَكَذَلِكَ: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وطرا} فَهَذَا الْمَنْفِيُّ هُوَ حَرَجٌ مُقَيَّدٌ بِظَرْفَيْنِ وَكَذَلِكَ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فَهَذَا النَّفْيُ هُوَ كَوْنُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذِهِ قُيُودٌ كَثِيرَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ هُمْ وَنَحْوُهُ مِنَ الضَّمَائِرِ تَدُلُّ عَلَى جُمْلَةِ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَالْإِضْمَارُ حَالٌ لَا صِفَةُ وُجُودٍ فَلَا يَلْزَمُهَا التَّقْسِيمُ الْوُجُودِيُّ إِلَّا الْوَهْمِيَّ الشِّعْرِيَّ وَالْخَطَأَ بِمَا يُرْسَمُ عَلَى الْعِلْمِ الْحَقِّ وَمِنْ ذَلِكَ مَالِ أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ مَفْصُولَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ وَصْلَةٌ إِضَافِيَّةٌ فَقُطِعَتْ حَيْثُ تُقْطَعُ الْإِضَافَةُ فِي الْوُجُودِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فَأَوَّلُهَا: فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ} هَذِهِ الْإِشَارَةُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ نَافَقُوا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فَقَطَعُوا وَصْلَ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ فِي الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَاللَّهُ قَدْ وَصَلَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {قل كل من عند الله} فَقَطَعُوا فِي الْوُجُودِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَقَطْعُ لَامِ وَصْلِهِمْ فِي الْخَطِّ عَلَامَةٌ لِذَلِكَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَقْطَعُ وَصْلَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْفَصْلِ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نقتبس من نوركم} والثاني: في سورة الكهف: {ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة} وَهَؤُلَاءِ قَطَعُوا بِزَعْمِهِمْ وَصْلَ جَعْلِ الْمَوْعِدِ لَهُمْ بِوَصْلِ إِحْصَاءِ الْكِتَابِ وَعَدَمِ مُغَادَرَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فِي إِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ فَلِذَلِكَ يُنْكِرُونَ عَلَى الْكِتَابِ فِي الْآخِرَةِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ خَبَرِهِمْ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنَ الْكَهْفِ وَالثَّالِثُ: فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَقَالُوا مَالِ هذا الرسول يأكل الطعام} فَقَطَعُوا وَصْلَ الرِّسَالَةِ لِأَكْلِ الطَّعَامِ فَأَنْكَرُوا فَقَطَعُوا قَوْلَهُمْ هَذَا لِيَزُولَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ فَقَطْعُ اللَّامِ عَلَامَةٌ لِذَلِكَ وَالرَّابِعُ: فِي الْمَعَارِجِ: {فمال الذين كفروا قبلك مهطعين} هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ تَفَرَّقُوا جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ كَمَا يَدُلُّ عليه: {عن اليمين وعن الشمال عزين} قَطَعُوا وَصْلَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطَعَ اللَّهُ طَمَعَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلِذَلِكَ قُطِعَتِ اللَّامُ عَلَامَةً عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ومن ذلك: {ابن أم} فِي الْأَعْرَافِ مَفْصُولٌ عَلَى الْأَصْلِ وَفَى طه {ابنؤم} مَوْصُولٌ لِسِرٍّ لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ مُوسَى بِرَأْسِ أَخِيهِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَنَادَاهُ مِنْ قُرْبٍ عَلَى الْأَصْلِ الظَّاهِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَمَّا تَمَادَى نَادَاهُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ يُنَبِّهُهُ لِبُعْدِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ لَا فِي الْمَكَانِ مُؤَكِّدًا لِوَصْلَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا بِالرَّبْطِ فَلِذَلِكَ وُصِلَ فِي الْخَطِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَصْبُ الْمِيمِ لِيَجْمَعَهُمَا الِاسْمُ بِالتَّعْمِيمِ وَمِنْ ذَلِكَ سِتَّةُ أَحْرُفٍ لَا تُوصَلُ بِمَا بَعْدَهَا وَهَى الْأَلِفُ وَالْوَاوُ وَالدَّالُ وَالذَّالُ وَالرَّاءُ وَالزَّايُ لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ لِانْفِصَالَاتٍ وَنِهَايَاتٍ وَسَائِرُ الْحُرُوفِ تُوصَلُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَصْلٌ: فِي بَعْضِ حُرُوفِ الْإِدْغَامِ فَمِنْهُ: {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} ، فَرْدٌ ظَهَرَ فِيهِ النُّونُ وَقُطِعَ عَنِ الْوَصْلِ لِأَنَّ مَعْنَى مَا عُمُومٌ كُلِّيٌّ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُفَصَّلَةٌ فِي الْوُجُودِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ فِي حُكْمِ النهي عنها ومعنى عن المجاوزة لِلْكُلِّيِّ مُجَاوَزَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ فَفُصِلَ علامة لذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وَكَذَلِكَ: {مِنْ مَا} ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ مَفْصُولَةٍ لَا غَيْرُ: فِي النِّسَاءِ: {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وَفَى الرُّومِ: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} وفي المنافقين: {وأنفقوا من ما رزقناكم} وَحَرْفُ مَا فِي هَذِهِ كُلِّهَا مُقَسَّمٌ فِي الْوُجُودِ بِأَقْسَامٍ مُنْفَصِلَةٍ غَيْرِ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْأَحْكَامِ وهى بخلاف قوله: {مما كتبت أيديهم} فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ فَهِيَ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ فِي وَصْفِهَا بِكَتْبِ أَيْدِيهِمْ فَهُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ يُقَالُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ هُوَ فِي إِفْرَادِهِ بِالسَّوِيَّةِ وَكَذَلِكَ أَمْ مَنْ بِالْفَصْلِ أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ لَا غَيْرُ: فِي النِّسَاءِ: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} وفى التوبة: {أم من أسس بنيانه} وفي الصافات: {أم من خلقنا} وفى السجدة: {أم من يأتي} فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَحْرُفِ مَنْ فِيهَا تُقَسَّمُ فِي الْوُجُودِ بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِثْلِ: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يمشي} فَهَذَا مَوْصُولٌ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ حَيْثُ يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذَا: {أَمَّنْ جَعَلَ الأرض قرارا} لَا تَفَاصِيلَ تَحْتَهَا فِي الْوُجُودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وَكَذَلِكَ: {عَنْ مَنْ} مَفْصُولٌ: حَرْفَانِ فِي النُّورِ: {عن من يشاء} وفي النجم: {عن من تولى} حَرْفُ مَنْ فِيهِمَا كُلِّيٌّ وَحَرْفُ عَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ عَنِ الْكُلِّيِّ مُجَاوَزَةٌ لِجَمِيعِ0 جُزْئِيَّاتِهِ دُونَ الْعَكْسِ فَلَا وَصْلَةَ بَيْنَ الْجُزْأَيْنِ فِي الْوُجُودِ فَلَا يُوصَلَانِ فِي الْخَطِّ وَكَذَلِكَ مِمَّنْ مَوْصُولٌ كُلُّهُ لِأَنَّ مَنْ بِفَتْحِ الْمِيمِ جُزْئِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَمَعْنَاهُ أَزْيَدُ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ وَمَعْنَى مَا أَزْيَدُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ وَالزَّائِدُ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ مُنْفَصِلٌ وُجُودًا بِالْحِصَصِ وَالْحِصَّةُ مِنْهُ لَا تَنْفَصِلُ وَالزَّائِدُ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ لَا يَنْفَصِلُ وُجُودًا وَكَذَلِكَ: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نعدهم} في سورة الرعد فَرْدَةٌ مَفْصُولَةٌ ظَهَرَ فِيهَا حَرْفُ الشَّرْطِ فِي الْخَطِّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجَوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَوْطِنِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْبَلَاغُ بخلاف قوله: {فإما نرينك} إنه أَخْفَى فِيهِ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي الْخَطِّ لِأَنَّ الْجَوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ خَفِيٌّ عَنَّا وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ وَالثَّانِي أَنَّ الْقِصَّةَ الْأُولَى مُنْفَصِلَةٌ مِنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَانْقَسَمَ الْجَوَابُ إِلَى جُزْأَيْنِ: أَحَدُهُمَا:التَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ وَهُوَ الْبَلَاغُ وَالثَّانِي الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْحِسَابُ وَأَحَدُهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخَرُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ لَنَا وَالثَّانِي: خَفِيٌّ عَنَّا وَهَذَا الِانْقِسَامُ صَحِيحٌ فِي الْوُجُودِ فَقَدِ انْقَسَمَتْ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ إِلَى شَرْطَيْنِ لِانْفِصَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 جَوَابِهَا: إِلَى قِسْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ فَفُصِلَ حَرْفُ الشَّرْطِ عَلَامَةً لِذَلِكَ وَإِذَا انْفَصَلَتْ لَزِمَ كَتْبُهُ عَلَى الْوَقْفِ وَالشَّرْطِيَّةُ الْأُخْرَى لَا تَنْفَصِلُ بَلْ هِيَ واحدة لإيجاد جَوَابِهَا فَانْفِصَالُ حَرْفِ الشَّرْطِ عَلَامَةٌ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} فَرْدٌ فِي الْقَصَصِ ثَابِتُ النُّونِ وَفَى هُودٍ: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} فَرْدٌ بِغَيْرِ نُونٍ أُظْهِرَ حَرْفُ الشَّرْطِ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ جَوَابَهُ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ هُوَ: {فاعلم} مُتَعَلِّقٌ بِشَيْءٍ مَلَكُوتِيٍّ ظَاهِرٍ سُفْلِيٍّ وَهُوَ اتِّبَاعُهُمْ أَهْوَاءَهُمْ وَأُخْفِيَ فِي الثَّانِي لِأَنَّ جَوَابَهُ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ هُوَ عِلْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِشَيْءٍ مَلَكُوتِيٍّ خَفِيٍّ عُلْوِيٍّ وَهُوَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ بِالْعِلْمِ وَالتَّوْحِيدِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَنْ كُلُّهُ مَفْصُولٌ إِلَّا حَرْفَانِ {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} فِي الْكَهْفِ: {ألن نجمع عظامه} في القيامة سَقَطَتِ النُّونُ مِنْهُمَا فِي الْخَطِّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا زَعَمُوا وَحَسِبُوا هُوَ بَاطِلٌ فِي الْوُجُودِ وَحُكْمُ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ نَسَبُوهُ إِلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ فَأُدْغِمَ حَرْفُ تَوْكِيدِهِمُ الْكَاذِبِ فِي حَرْفِ النَّفْيِ السَّالِبِ هُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {زَعَمَ الذين كفروا أن لن يبعثوا} فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَنْسُبُوا ذَلِكَ لِفَاعِلٍ إِذْ رُكِّبَ الْفِعْلُ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَأُقِيمُوا فِيهِ مَقَامَ الْفَاعِلِ فَعَدَمُ بَعْثِهِمْ تَصَوَّرُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَحَكَمُوا بِهِ عَلَيْهَا تَوَهُّمًا فَهُوَ كَاذِبٌ مِنْ حَيْثُ حَكَمُوا بِهِ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْآخِرَةِ وَلِكَوْنِهِ حَقًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ ثَبَتَ التَّوْكِيدُ ظَاهِرًا وَأُدْغِمَ فِي حَرْفِ النَّفْيِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ الَّذِي هُوَ فِيهِ كَاذِبٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وَمِنْ ذَلِكَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ لَا فَهُوَ مَوْصُولٌ إِلَّا عَشَرَةَ مَوَاضِعَ فَهِيَ مَفْصُولَةٌ تُكْتَبُ النُّونُ فِيهَا بِاتِّفَاقٍ وَذَلِكَ حَيْثُ ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ صِحَّةُ تَوْكِيدِ الْقَضِيَّةِ وَلُزُومُهَا: أَوَّلُهَا فِي الْأَعْرَافِ: {أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وَ {أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وَ {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} فِي التوبة {أن لا إله إلا هو} وَ: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أخاف} فِي هُودٍ وَ {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شيئا} في الحج وَ {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} فِي يس وَ {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} فِي الدخان وَ {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} فِي الممتحنة و {أن لا يدخلنها} في القلم وَوَاحِدٌ فِيهِ خِلَافٌ: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أنت} في الأنبياء فَتَأَمَّلْ كَيْفَ صَحَّ فِي الْوُجُودِ هَذَا التَّوْكِيدُ الأخير فلم يدخلها عليهم مسكين عَلَى غَيْرِ مَا قَصَدُوا وَتَخَيَّلُوا فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وَكَذَلِكَ لَامُ التَّعْرِيفِ الْمُدْغَمَةُ فِي اللَّفْظِ فِي مِثْلِهَا أَوْ غَيْرِهَا لَمَّا كَانَتْ لِلتَّعْرِيفِ وَشَأْنُ الْمُعَرَّفِ أَنْ يَكُونَ أَبْيَنَ وَأَظْهَرَ لَا أَخْفَى وأستر ظهرت فِي الْخَطِّ وَوُصِلَتْ بِالْكَلِمَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ جُزْءًا مِنْهَا حَيْثُ هِيَ مُعَرَّفَةٌ بِهَا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَقَدْ حُذِفَ حَيْثُ يَخْفَى مَعْنَى الْكَلِمَةِ مِثْلُ الَّيْلِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى مُظْلِمٍ لَا يُوَضِّحُ الْأَشْيَاءَ بَلْ يَسْتُرُهَا وَيُخْفِيهَا وَكَوْنُهُ وَاحِدًا إِمَّا لِلْجُزْئِيِّ أَوْ لِلْجِنْسِ فَأُخْفِيَ حَرْفُ تَعْرِيفِهِ فِي مِثْلِهِ فَإِنْ تَعَيَّنَ لِلْجُزْئِيِّ بِالتَّأْنِيثِ رُجِعَ إِلَى الْأَصْلِ وَمِثْلُ الَّذِي وَالَّتِي وَتَثْنِيَتِهِمَا وَجَمْعِهِمَا فَإِنَّهُ مُبْهَمٌ فِي الْمَعْنَى وَالْكَمِّ لِأَنَّ أَوَّلَ حَدِّهِ لِلْجُزْئِيِّ وَلِلْجِنْسِ لِلثَّلَاثِ أَوْ غَيْرِهَا فَفِيهِ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ كَاللَّيْلِ وَمِثْلُ الَّئِي فِي الْإِيجَابِ فَإِنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ وَفِيهَا ظُلْمَةُ الْعَدَمِ كَاللَّيْلِ فَفِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ يُخْفَى حَرْفُ التَّعْرِيفِ وَكَذَلِكَ الْأَيْكَةُ نُقِلَتْ حَرَكَةُ هَمْزَتِهَا عَلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَسَقَطَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ عَضُدِ الْهَمْزَةِ وَوُصِلَ اللَّامُ فَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَتَانِ فَصَارَتْ لَيْكَةُ عَلَامَةً عَلَى اخْتِصَارٍ وَتَلْخِيصٍ وَجَمْعٍ فِي الْمَعْنَى وَذَلِكَ فِي حرفين أحدهما في الشعراء جَمَعَ فِيهِ قِصَّتَهُمْ مُخْتَصَرَةً وَمُوجَزَةً فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَجَعَلَهَا جُمْلَةً فَهِيَ آخِرُ قِصَّةٍ فِي السُّورَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} فأفردها والثاني في ص جَمَعَ الْأُمَمَ فِيهَا بِأَلْقَابِهِمْ وَجَعَلَهُمْ جِهَةً وَاحِدَةً هُمْ آخِرُ أُمَّةٍ فِيهَا وَوَصَفَ الْجُمْلَةَ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} وَلَيْسَ الْأَحْزَابُ وَصْفًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ بَلْ هُوَ وَصْفُ جَمِيعِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وَجَاءَ بِالِانْفِصَالِ عَلَى الْأَصْلِ حَرْفَانِ نَظِيرَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْحِجْرِ: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لظالمين} أَفْرَدَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالْوَصْفِ وَالثَّانِي فِي ق: {وَأَصْحَابُ الأيكة} جُمِعُوا فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمْ ثُمَّ حَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ لَا عَلَى الْجُمْلَةِ قَالَ تَعَالَى: {كل كذب الرسل} فَحَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ التَّفْضِيلُ فَصَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ وَحَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ التَّوْصِيلُ وَصَلَ لِلتَّخْفِيفِ وَكَذَلِكَ: {لتخذت عليه أجرا} حذفت الألف ووصلت لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْجِدَارِ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ فَلَزِمَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَاتَّصَلَ بِهِ حُكْمًا بخلاف: {لاتخذوك خليلا} لَيْسَ فِيهِ وَصْلَةُ اللُّزُومِ فَصْلٌ: فِي حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ تَخْتَلِفُ فِي اللَّفْظِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى مِثْلُ: {وزاده بسطة في العلم والجسم} : {وزادكم في الخلق بصطة} {يبسط الرزق لمن يشاء} {والله يقبض ويبصط} ، فَبِالسِّينِ السَّعَةُ الْجُزْئِيَّةُ كَذَلِكَ عِلَّةُ التَّقْيِيدِ وَبِالصَّادِ السَّعَةُ الْكُلِّيَّةُ بِدَلِيلِ عُلُوِّ مَعْنَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الْإِطْلَاقِ وَعُلُوِّ الصَّادِ مَعَ الْجَهَارَةِ وَالْإِطْبَاقِ وَكَذَلِكَ: {فأتوا بسورة} {في أي صورة} {فضرب بينهم بسور} {ونفخ في الصور} فَبِالسِّينِ مَا يَحْصُرُ الشَّيْءَ خَارِجًا عَنْهُ وَبِالصَّادِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} {وكانوا يصرون} فَبِالسِّينِ مِنَ السِّرِّ وَبِالصَّادِ مِنَ التَّمَادِي وَكَذَلِكَ: {يسحبون في النار} و {منا يصحبون} فَبِالسِّينِ مِنَ الْجَرِّ وَبِالصَّادِ مِنَ الصُّحْبَةِ وَكَذَلِكَ: {نحن قسمنا بينهم} {وكم قصمنا} بِالسِّينِ تَفْرِيقُ الْأَرْزَاقِ وَالْإِنْعَامِ وَبِالصَّادِ تَفْرِيقُ الْإِهْلَاكِ وَالْإِعْدَامِ وَكَذَلِكَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا ناظرة} بِالضَّادِ مُنَعَّمَةٌ بِمَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَبِالظَّاءِ مُنَعَّمَةٌ بِمَا تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَهَذَا الْبَابُ كَثِيرٌ يَكْفِي فيه اليسير فصل: في كتابة فواتح السور كتبوا الم والمر والر موصولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 إِنْ قِيلَ لِمَ وَصَلُوهُ وَالْهِجَاءُ مُقَطَّعٌ لَا يَنْبَغِي وَصْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَكَ مَا هِجَاءُ زَيْدٍ؟ قُلْتَ: زَايٌ يَاءٌ دَالٌ وَتَكْتُبُهُ مُقَطَّعًا لِتُفَرِّقَ بَيْنَ هِجَاءِ الْحُرُوفِ وَقِرَاءَتِهِ قِيلَ: إِنَّمَا وَصَلُوهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ هِجَاءً لِاسْمٍ مَعْرُوفٍ وَإِنَّمَا هِيَ حُرُوفٌ اجْتَمَعَتْ يُرَادُ بِكُلِّ حَرْفِ مَعْنًى فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَطَعُوا حم عسق ولم يقطعوا المص وكهيعص؟ قِيلَ: حم قَدْ جَرَتْ فِي أَوَائِلِ سَبْعِ سور فَصَارَتِ اسْمًا لِلسُّورِ فَقُطِعَتْ مِمَّا قَبْلَهَا وَجَوَّزُوا في: {ق والقرآن المجيد} و {ص والقرآن} وَجْهَيْنِ: مَنْ جَزَمَهُمَا فَهُمَا حَرْفَانِ وَمَنْ كَسَرَ آخِرَهُمَا فَعَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ فَضَائِلِهِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ صَحَّ فِيهِ أَحَادِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ وَفَى بَعْضِ السور بالتعيين وأما حديث أبي كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَضِيلَةِ سُوَرِهِ سُورَةٍ فَحَدِيثٌ مَوْضُوعٌ قَالَ: ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَقَدْ أَخْطَأَ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ وَمَنْ ذَكَرَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي إِيدَاعِهِ تَفَاسِيرَهُمْ قُلْتُ: وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبِيُّ لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوهُ بِإِسْنَادٍ فَاللَّوْمُ عَلَيْهِمْ يَقِلُّ بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرَهُ بِلَا إِسْنَادٍ وَجَزَمَ بِهِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّ خَطَأَهُ أَشَدُّ وَعَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ سُورَةٍ سُورَةٍ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَضَعْتُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حِسْبَةً ثُمَّ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ مِمَّنْ ذَكَرَ الْفَضَائِلَ أَنْ يَذْكُرَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّرْغِيبِ وَالْحَثِّ عَلَى حِفْظِهَا إِلَّا الزَّمَخْشَرِيَّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي أَوَاخِرِهَا قَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عُمَرَ الْكِرْمَانِيُّ سَأَلْتُ الزَّمَخْشَرِيَّ عَنِ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لَهَا وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ الْمَوْصُوفِ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ فِي حَدِيثٍ إِلَهِيٍّ: "مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ما أعطي السائلين" و"فضل كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ" وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ " قَالَ أَبُو النَّضْرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" وَقَدَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ فِي الْقَبْرِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 النوع السابع والعشرون: معرفة خواصيه ... النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ خَوَاصِّهِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ التَّمِيمِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى حِفْظًا لِلْقُرْآنِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وإنا له لحافظون} وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكْتُبُهَا عَلَى مَا يُرِيدُ حِفْظَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَتَاعِ فَيُحْفَظُ وَأَخْبَرَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ قَالَ كَانَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا رَكِبَ فِي رِحْلَةٍ يَقُولُ هَذِهِ الْحُرُوفَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ أَوْ كُتِبَ فِي شَيْءٍ إِلَّا حُفِظَ تَالِيهَا وَمَالُهُ وَأَمِنَ فِي نَفْسِهِ مِنَ التَّلَفِ وَالْغَرَقِ وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ شَكَا إِلَيْهِ رَجُلٌ رَمَدًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي رُقْعَةٍ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حديد} {للذين آمنوا هدى وشفاء} فَعَلَّقَ الرَّجُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَبَرَأَ وَكَانَ سُفْيَانُ الثوري يكتب للمطلقة رقعة تعلق على قلبها {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ} {فاخرج منها} {فخرج على قومه} وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ يُحِبُّ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ فَشَكَا ذَلِكَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} إلى قوله {مددا} ثُمَّ أَضْمِرْ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَضْمَرْتَ فَإِنَّكَ تَقُومُ فِيهِ قَالَ فَفَعَلْتُ فَقُمْتُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي أَصْبَهَانَ أَصَابَهُ عُسْرُ الْبَوْلِ فَكَتَبَ فِي صَحِيفَةٍ الْبَسْمَلَةَ: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} {دكا دكا} وَأَلْقَى عَلَيْهِ الْمَاءَ وَشَرِبَهُ فَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْبَوْلَ وَأَلْقَى الْحَصَى وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} يُكْتَبُ عَلَى كَاغِدٍ وَيُوضَعُ عَلَى شِقِّ الضِّرْسِ الْوَجِعِ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُحْكَى أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيَّ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِي أَرَاكَ مَحْزُونًا؟ فَقَالَ وَلَدِي قَدْ مَرِضَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ فَقَالَ لَهُ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ آيات الشفاء: {ويشف صدور قوم مؤمنين} {وشفاء لما في الصدور} {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 يتفكرون} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمؤمنين} {وإذا مرضت فهو يشفين} {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ عَنْ شُيُوخِهِ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ شَاقُولَةَ الْبَغْدَادِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ آذَانَا جَارٌ لَنَا فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأْتُ مِنْ فَاتِحَةِ كُلِّ سُورَةٍ آيَةً حَتَّى خَتَمْتُ الْقُرْآنَ وَقُلْتُ اللَّهُمَّ اكْفِنَا أَمْرَهُ ثُمَّ نِمْتُ وَفَتَحْتُ عَيْنِي وَإِذَا بِهِ قَدْ نَزَلَ وَقْتَ السَّحَرِ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ فَسَقَطَ وَمَاتَ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِهَا أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِهَا حائط له جوف فَقَالَتْ هَاتِ رُقْعَةً وَدَوَاةً فَنَاوَلْتُهَا فَكَتَبَتْ فِي الرُّقْعَةِ شَيْئًا وَقَالَتْ دَعْهُ فِي ثَقْبٍ مِنْهُ فَفَعَلْتُ فَبَقِيَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَمَّا ماتت ذكرت ذلك القرطاس فقمت فأخذته موقع الْحَائِطُ فَإِذَا فِي الرُّقْعَةِ {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} يا ممسك السموات وَالْأَرْضِ أَمْسِكْهُ تَنْبِيهٌ هَذَا النَّوْعُ وَالَّذِي قَبْلَهُ لَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ قَلْبَهُ وَنِيَّتَهُ وَتَدَبَّرَ الْكِتَابَ فِي عَقْلِهِ وَسَمْعِهِ وَعَمَّرَ بِهِ قَلْبَهُ وَأَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحَهُ وَجَعَلَهُ سَمِيرَهُ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ هُنَالِكَ تَأْتِيهِ الْحَقَائِقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ فِعْلُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 مُكَذِّبًا لِقَوْلِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَارِفًا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ فَقَالَ لَهُ صَدِيقٌ لَهُ نَسْتَعِينُ بِفُلَانٍ فَقَالَ أَخْشَى أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتِي الَّتِي تَقَدَّمَتْ هَذَا الْأَمْرَ وَقَدْ صَلَّيْتُهَا قَالَ صَدِيقُهُ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ قَالَ لِأَنِّي قُلْتُ في الصلاة {إياك نعبد وإياك نستعين} فَإِنِ اسْتَعَنْتُ بِغَيْرِهِ كَذَبْتُ وَالْكَذِبُ فِي الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا وَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ تَحَقُّقِ الْعَدَاوَةِ فَإِذَا قَبِلَ إِشَارَةَ الشَّيْطَانِ وَاسْتَنْصَحَهُ فَقَدْ كَذَّبَ قَوْلَهُ فَبَطُلَ ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَامُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى تَفْضِيلُ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ خَطَأٌ وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تُعَادَ سُورَةٌ أَوْ تُرَدَّدُ دُونَ غَيْرِهَا احْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَفْضَلَ يُشْعِرُ بِنَقْصِ الْمَفْضُولِ وَكَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا نَقْصَ فِيهِ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ الله عنه ما أنزل الله في التوارة وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي لِقَارِئِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الثَّوَابِ مِثْلَ مَا يُعْطِي لِقَارِئِ أُمِّ الْقُرْآنِ إِذِ اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ وَأَعْطَاهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ قَالَ وَقَوْلُهُ أَعْظَمُ سُورَةٍ أَرَادَ بِهِ فِي الْأَجْرِ لَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْضِيلِ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفَضْلُ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الْأَجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِحَسْبِ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعُلَا وَقِيلَ بَلْ يَرْجِعُ لِذَاتِ اللَّفْظِ وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرحيم} وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ مَوْجُودًا مثلا في {تبت يدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 أبي لهب وتب} وَمَا كَانَ مِثْلَهَا فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا لَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَمِمَّنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ: كَلَامُ اللَّهِ فِي اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِهِ، فَـ {قُلْ هو الله أحد} أفضل من {تبت يدا أبي لهب وتب} وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى الْغَزَالِيُّ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِجَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "إِنِّي لَأُعَلِّمُكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلِحَدِيثِ أُبَّيِ بْنِ كَعْبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ يَا أُبَيُّ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ قَالَ قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: "لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ" وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَفِي التِّرْمِذِيِّ غَرِيبًا عَنْهُ مَرْفُوعًا: "لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ" وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ "فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَهَى سَنَامُ آيِ الْقُرْآنِ وَلَا تُقْرَأُ فِي دَارٍ فِيهَا شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهَا" وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ بِأَفْضَلِيَّةِ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّ تِلْكَ بِاعْتِبَارِ السُّوَرِ وَهَذِهِ بِاعْتِبَارِ الْآيَاتِ وَقَالَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوَيِّيُّ كَلَامُ الله أَبْلَغُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَلْ يَجُوزُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 أَنْ يُقَالَ بَعْضُ كَلَامِهِ أَبْلَغُ مِنْ بَعْضٍ؟ جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا الْكَلَامُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ وَذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ وَهَذَا الْحَسَنُ فِي مَوْضِعِهِ أَكْمَلُ مِنْ ذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إن {قل هو الله أحد} أبلغ من {تبت يدا أبي لهب وتب} يَجْعَلُ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: {تَبَّتْ يدا أبي لهب وتب} دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْخُسْرَانِ فَهَلْ تُوجَدُ عِبَارَةٌ لِلدُّعَاءِ بِالْخُسْرَانِ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ وَكَذَلِكَ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَا تُوجَدُ عِبَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فَالْعَالِمُ إِذَا نَظَرَ إِلَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فِي بَابِ الدُّعَاءِ وَالْخُسْرَانِ وَنَظَرَ إِلَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي بَابِ التَّوْحِيدِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا أَبْلَغُ مِنَ الْآخَرِ وَهَذَا الْقَيْدُ يَغْفُلُ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمُ الْبَيَانِ قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْفِتُ عَنِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ إِنَّ كلام الله شيء واحد أولا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَنَوَّعُ فِي ذَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وأخر متشابهات} فَجَعَلَهُ شَيْئَيْنِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِعَدَمِهِ وَأَنَّهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ قُلْنَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ قَوْلُنَا: شَيْءٍ مِنْهُ يُوهِمُ التَّبْعِيضَ وَلَيْسَ لِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ بَعْضٌ وَلَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَفَهْمِ السَّامِعِينَ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُخَاطَبَاتِ وَلَوْلَا تَنَزُّلُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لَمَا وَصَلْنَا إِلَى فَهْمِ شَيْءٍ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وقال الحليمي قد ذكرنا أخبار تدل على جوار الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نأت بخير منها أو مثلها} وَمَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ آيَتَا عَمَلٍ ثَابِتَتَانِ فِي التِّلَاوَةِ إِلَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْسُوخَةٌ وَالْأُخْرَى نَاسِخَةٌ فَنَقُولُ إِنَّ النَّاسِخَ خَيْرٌ أَيْ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى بِالنَّاسِ وَأَعْوَدُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ آيَاتُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ آيَاتِ الْقَصَصِ لِأَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّبْشِيرِ وَلَا غِنَى بِالنَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَقَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْقَصَصِ فَكُلُّ مَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْهِمْ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَحْصُلُ تَبَعًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْدِيدِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانِ صِفَاتِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عَظْمَتِهِ وَقُدْسِيَّتِهِ أَفْضَلُ أَوْ خَيْرٌ بِمَعْنَى أَنَّ مُخْبَرَاتِهَا أَسْنَى وَأَجَلُّ قَدْرًا وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: سُورَةٌ خَيْرٌ مِنْ سُورَةٍ أَوْ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ آيَةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا فَائِدَةً سِوَى الثَّوَابِ الْآجِلِ وَيَتَأَدَّى مِنْهُ بِتِلَاوَتِهَا عِبَادَةٌ كَقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَإِنَّ قَارِئَهَا يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا الِاحْتِرَازَ مِمَّا يَخْشَى وَالِاعْتِصَامَ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَيَتَأَدَّى بِتِلَاوَتِهَا مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةً لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَدُّهُ بِالصِّفَاتِ الْعُلَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ لَهَا وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى فَضْلِ الذِّكْرِ وَبَرَكَتِهِ فَأَمَّا آيَاتُ الْحِكَمِ فَلَا يَقَعُ بِنَفْسِ تِلَاوَتِهَا إِقَامَةُ حُكْمٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا علم قَالَ: ثُمَّ لَوْ قِيلَ فِي الْجُمْلَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ خَيْرٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ بِمَعْنَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ وَاقِعٌ بِهِ دُونَهَا والثواب بحسب بِقِرَاءَتِهِ لَا بِقِرَاءَتِهَا أَوْ أَنَّهُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 حَيْثُ الْإِعْجَازُ حُجَّةُ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ وَتِلْكَ الْكُتُبُ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً وَلَا كَانَتْ حُجَجَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَالْحُجَجُ غَيْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَظِيرَ مَا مَضَى وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ سُورَةً أَفْضَلُ مِنْ سُورَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَدَّ قِرَاءَتَهَا كَقِرَاءَةِ أَضْعَافِهَا مِمَّا سِوَاهَا وَأَوْجَبَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَمْ يُوجِبْ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ بَلَغَ بِهَا هَذَا الْمِقْدَارَ لَا يَظْهَرُ لَنَا كَمَا يقال إن قوما أفضل من قوم وَشَهْرًا أَفْضَلُ مِنْ شَهْرٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ تَفْضُلُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِهِ وَالذَّنَبَ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الذَّنْبِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ وَكَمَا يُقَالُ إِنَّ الْحَرَمَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِلِّ لأنه يتأدى فيه من المناسك مالا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ تَكُونُ كَصَلَاةٍ مُضَاعَفَةٍ مِمَّا تُقَامُ فِي غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فصل: في أعظمية آية الكرسي قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا صَارَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ لِعِظَمِ مُقْتَضَاهَا فَإِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَشْرُفُ بِشَرَفِ ذَاتِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ وَهَى فِي آيِ الْقُرْآنِ كَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي سُوَرِهِ إِلَّا أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ تَفْضُلُهَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا سُورَةٌ وَهَذِهِ آيَةٌ فَالسُّورَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّحَدِّي بِهَا فَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُتَحَدَّ بِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسِينَ حَرْفًا فَظَهَرَتِ الْقُدْرَةُ فِي الْإِعْجَازِ بِوَضْعِ مَعْنًى مُعَبَّرٍ عَنْهُ مَكْتُوبٍ مَدَدُهُ السَّبْعَةُ الْأَبْحُرِ لَا يَنْفَدُ عَدَدُ حُرُوفِهِ خَمْسُونَ كَلِمَةً ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْ مَعْنَى الْخَمْسِينَ كَلِمَةً خَمْسَةَ عَشَرَ كَلِمَةً وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِعِظَمِ الْقُدْرَةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنَيِّرِ الْمَالِكِيُّ كَانَ جَدِّي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اشْتَمَلَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 موضعا فيها اسم الله ظَاهِرًا فِي بَعْضِهَا وَمُسْتَكِنًّا فِي بَعْضٍ وَيَظْهَرُ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْعَادِّينَ فِيهَا سِتَّةَ عَشَرَ إِلَّا على حَادِّ الْبَصِيرَةِ لِدِقَّةِ اسْتِخْرَاجِهِ 1 اللَّهُ 2 هُوَ 3 الْحَيُّ 4 الْقَيُّومُ 5 ضَمِيرُ لَا تَأْخُذُهُ 6 ضَمِيرُ لَهُ 7 ضَمِيرُ عِنْدَهُ 8 ضَمِيرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ 9 ضَمِيرُ يَعْلَمُ 10 ضَمِيرُ عِلْمِهِ 11 ضَمِيرُ شَاءَ 12 ضَمِيرُ كُرْسِيُّهُ 13 ضَمِيرُ يَؤُودُهُ 14 وَهُوَ 15 الْعَلِيُّ 16 الْعَظِيمُ فَهَذِهِ عِدَّةُ الْأَسْمَاءِ وَأَمَّا الْخَفِيُّ فِي الضَّمِيرِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ حِفْظُهُمَا فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ وَلَا بُدَّ لَهُ من فاعل وهو والله وَيَظْهَرُ عِنْدَ فَكِّ الْمَصْدَرِ فَتَقُولُ وَلَا يَؤُودُهُ أَنْ يَحْفَظَهُمَا هُوَ قَالَ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو عبد الله محمد بن الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ قَدْ رَامَ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لَمَّا أَخْبَرْتُهُ عَنِ الْجَدِّ فَقَالَ يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ المشتقة كل واحد مِنْهَا بِاثْنَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْمِلُ ضَمِيرًا ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا وَذَلِكَ الضَّمِيرُ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِهَا اسْمٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى آخَرَ مُضْمَرٍ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الْعَدَدِ عَلَى هَذَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ اسْمًا فَأَجْرَيْتُ مَعَهُ وَجْهًا لَطِيفًا وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ لَا يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَمًا عَلَى الْأَصَحِّ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ وَلَوْ فَرَضْنَاهَا مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَائِرِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ فَالْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَوْصُوفِهِ بِاعْتِبَارِ تَحَمُّلِهِ ضَمِيرَهُ أَلَا تَرَاكَ إذا قلت زيد كريم إذا وَجَدْتُ كَرِيمًا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى زَيْدٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَهُ حَتَّى لَوْ جَرَّدْتَ النَّظَرَ إِلَيْهِ لَمْ تَجِدْهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ بَلْ لَكَ أَنْ تُوقِعَهُ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكَرَمِ مِنَ النَّاسِ وَلَا تَجِدُهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ إِلَّا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى ضَمِيرِهِ فَلَيْسَ الْمُشْتَقُّ إِذًا مُسْتَقِلًّا بِوُقُوعِهِ عَلَى مَوْصُوفِهِ إِلَّا بِضَمِيمَةِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ فَلَا يمكن أن تجعله لَهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ عَنِ الضَّمِيرِ مَعَ الْحُكْمِ بِرُجُوعِهِ إِلَى مُعَيَّنٍ أَلْبَتَّةَ قَالَ فَرَضِيَ عَنْ هَذَا الْبَحْثِ وَصَوَّبَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس " إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَهُوَ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَجُعِلَتْ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: سَمِعْتُهُ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابٌ وَلُبَابُ الْقُرْآنِ آلُ حم أَوْ قَالَ الحواميم وقال مسعر بن كدام كان يقال لَهُنَّ الْعَرَائِسُ رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ لِأَهْلِهِ مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ فَقَالَ عَجِبْتُ مِنَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عُظْمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ مَثَلَ هَذِهِ الرَّوْضَاتِ الدَّمِثَاتِ مَثَلُ آلِ حم فِي الْقُرْآنِ أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يُقَالَ الْحَوَامِيمُ وَإِنَّمَا يُقَالُ آلُ حم وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ قَالَ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" خَصَّ هَذِهِ السُّوَرَ بِالشَّيْبِ لِأَنَّهُنَّ أَجْمَعُ لِكَيْفِيَّةِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 مِنْ غَيْرِهِنَّ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرَى الْقِيَامَةَ رَأَيَ الْعَيْنِ فليقرأ: {إذا الشمس كورت} وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: "إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ وقل يأيها الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَهُ " وَقَالَ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَرِيبٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى حديث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ" وَحَكَى خِلَافَ النَّاسِ فِيهِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ سَمِعَ شَخْصًا يُكَرِّرُهَا تَكْرَارَ مَنْ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا وَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ قِيلَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى قَصَصٍ وَشَرَائِعَ وَصِفَاتٍ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كُلُّهَا صِفَاتٌ فَكَانَتْ ثُلُثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ بِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآخِرِ الْحَشْرِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ وَقِيلَ تعدل في الثواب وهو الذي يشهد لظاهر الْحَدِيثِ قُلْتُ: ضَعَّفَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَلَهُ أَجْرُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ" ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى أَنِّي أَقُولُ السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا وَأَسْلَمُ ثُمَّ أَسْنَدَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ" مَا وَجْهُهُ فَلَمْ يَقُمْ لِي فِيهَا عَلَى أَمْرٍ وَقَالَ لِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا فَضَّلَ كَلَامَهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ جَعَلَ لِبَعْضِهِ أَيْضًا فَضْلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 فِي الثَّوَابِ لِمَنْ قَرَأَهُ تَحْرِيضًا عَلَى تَعَلُّمِهِ لَا أَنَّ مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مرة قال أبو عمرو وَهَذَانِ إِمَامَانِ بِالسُّنَّةِ مَا قَامَا وَلَا قَعَدَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّ الْقُرْآنَ قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْخَبَرُ قِسْمَانِ خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ وَخَبَرٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ أَخْلَصَتِ الْخَبَرَ عَنِ الْخَالِقِ فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُلُثُ الْقُرْآنِ فَائِدَةٌ: في أي آية في القرآن أرجى اخْتُلِفَ فِي أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: آيَةُ الدَّيْنِ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ حَتَّى انْتَهَتِ الْعِنَايَةُ بِمَصَالِحِهِمْ إِلَى أَنْ أَمَرَهُمْ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ الْكَبِيرِ وَالْحَقِيرِ فَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يُرْجَى عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ لِظُهُورِ أَمْرِ الْعِنَايَةِ الْعَظِيمَةِ بِهِمْ حَتَّى فِي مَصْلَحَتِهِمُ الْحَقِيرَةِ الثَّانِي: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكم} وَهَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ إِثْرَ حَدِيثِ الْإِفْكِ عَنِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الثَّالِثُ: قَالَ الشِّبْلِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 سلف} فالله تعالى لما أذن الكافرين بدخول الباكل إِذَا أَتَوْا بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّهَادَةِ أَتَرَاهُ يُخْرِجُ الدَّاخِلَ فِيهَا وَالْمُقِيمَ عَلَيْهَا الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ نجازي إلا الكفور} الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على من كذب وتولى} السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شاكلته} الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ الْأَخِيرَةَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ التَّاسِعُ: رَأَيْتُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ صَاحِبِ الْحَاكِمِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: سَأَلَتُ الشَّافِعِيَّ: أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى؟ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذا متربة} قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَرْجَى حَدِيثٍ لِلْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: حَدِيثُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْفَعُ إِلَى كُلٍّ مُسْلِمٍ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ" الْعَاشِرُ: وَالْحَادِي عَشَرَ: رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ الْتَقَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْجَى عِنْدَكَ فَقَالَ عَبْدُ الله بن عمرو: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 لَكِنْ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بلى ولكن ليطمئن قلبي} هَذَا لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فرضي الله تعالى من إبراهيم بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} وَأَمَّا أَخْوَفُ آيَةٍ فَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ التي أعدت للكافرين} ولو قيل إنها {سنفرغ لكم أيها الثقلان} لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ خَفِيرِ الْحَارَةِ لَمْ أنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوتها وكيفيتها ... النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوته وكيفيتها اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَمْحُ مَوْقِعِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَوْ بَعْضَهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ لِبَقَائِهِ بِبَقَاءِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَلِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَالْحُجَّةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْرَفُ كُتُبِهِ جَلَّ وَعَلَا فَلْيَرَ مَنْ عِنْدَهُ القرآن أن الله أَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعْمَةً عَظِيمَةً وَلْيَسْتَحْضِرْ مِنْ أَفْعَالِهِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حُجَّةً لَهُ لَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى طَلَبِ أُمُورٍ وَالْكَفِّ عَنْ أُمُورٍ وَذِكْرِ أَخْبَارِ قَوْمٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَصَارُوا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ حِينَ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأُهْلِكُوا لَمَّا عَصَوْا وَلْيَحْذَرْ مَنْ عَلِمَ حَالَهُمْ أَنْ يَعْصِيَ فَيَصِيرَ مَآلُهُ مَآلَهُمْ فَإِذَا اسْتَحْضَرَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ عُلُوَّ شَأْنِهِ بِكَوْنِهِ طريقا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَدْرِهِ مُصْحَفًا لَهُ انْكَفَتَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ التَّوْفِيقِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَأَقْبَلَتْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْهَائِلِ وَأَكْبَرُ مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ حُسْنُ تَرْتِيلِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ على مكث ونزلناه تنزيلا} فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يُرَتِّلَهُ وَكَمَالُ تَرْتِيلِهِ تَفْخِيمُ أَلْفَاظِهِ وَالْإِبَانَةُ عن حروفه والإفصاح لجميعه بالتدبر حَتَّى يَصِلَ بِكُلِّ مَا بَعْدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وَأَنْ يَسْكُتَ بَيْنَ النَّفَسِ وَالنَّفَسِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ نَفَسُهُ وَأَلَّا يُدْغِمَ حَرْفًا فِي حَرْفٍ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بَعْضُهَا وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَرْغَبُوا فِي تَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِمْ فَهَذَا الَّذِي وَصَفْتُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنَ التَّرْتِيلِ وَقِيلَ: أَقَلُّ التَّرْتِيلِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُبَيِّنُ مَا يَقْرَأُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي قِرَاءَتِهِ وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ إِلَى التَّمْدِيدِ وَالتَّمْطِيطِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِكَمَالِ التَّرْتِيلِ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى مَنَازِلِهِ فَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ تَهْدِيدًا لَفَظَ بِهِ لَفْظَ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ لَفْظَ تَعْظِيمٍ لَفَظَ بِهِ عَلَى التَّعْظِيمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ فِي التَّفَكُّرِ فِي مَعْنَى مَا يَلْفِظُ بِلِسَانِهِ فَيَعْرِفَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مَعْنَاهَا وَلَا يُجَاوِزَهَا إِلَى غَيْرِهَا حَتَّى يَعْرِفَ مَعْنَاهَا فَإِذَا مَرَّ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَفَرِحَ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا وَاسْتَبْشَرَ إِلَى ذَلِكَ وَسَأَلَ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ الْجَنَّةَ وَإِنْ قَرَأَ آيَةَ عَذَابٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَتَأَمَّلَ مَعْنَاهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكَافِرِينَ اعْتَرَفَ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَعَرَفَ مَوْضِعَ التَّخْوِيفِ ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيذَهُ مِنَ النَّارِ وَإِنْ هُوَ مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا نداء للذين آمنوا فقال يأيها الَّذِينَ آمَنُوا وَقَفَ عِنْدَهَا وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ وَيَتَأَمَّلُ مَا بَعْدَهَا مِمَّا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ فَيَعْتَقِدُ قَبُولَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ قَصَّرَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى اعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فِي تَقْصِيرِهِ وذلك مثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ أَهْلِهِ فِي صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَأَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُمْ في طهاراتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وجناياتهم وَحَيْضِ النِّسَاءِ وَنِفَاسِهِنَّ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَفَقَّدَ ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ وَيُرَاعِيَهُمْ بِمَسْأَلَتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُحْسِنُ ذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ تَذْكِيرًا لَهُ وَتَأْكِيدًا لِمَا فِي قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لَهُ ثُمَّ هَكَذَا يُرَاعِي صِغَارَ وَلَدِهِ وَيُعَلِّمُهُمْ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَيَضْرِبُهُمْ إِذَا بَلَغُوا الْعَشْرَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ قَدْ قَصَّرَ فِيمَا مَضَى اعْتَقَدَ قَبُولَهُ وَالْأَخْذَ بِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفَهُ فَإِنَّهُ إِذَا مَرَّ بِهِ تَأَمَّلَهُ وَتَفَهَّمَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} فَإِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ تَذَكَّرَ أَفْعَالَهُ فِي نَفْسِهِ وَذُنُوبَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الظُّلَامَاتِ وَالْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا وَرَدَّ ظُلَامَتَهُ وَاسْتَغْفَرَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ قَصَّرَ فِي عَمَلِهِ وَنَوَى أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِلَّ كُلَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شيء من هذه الظلامات مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَاضِرًا وَأَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَنْ كَانَ غَائِبًا وَأَنْ يَرُدَّ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَيَعْتَقِدُ هَذَا فِي وَقْتِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ وَأَطَاعَ فَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ هَذَا كَانَ قَدْ قَامَ بِكَمَالِ تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فَإِذَا وَقَفَ عَلَى آيَةٍ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا يَحْفَظُهَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لِيَكُونَ مُتَعَلِّمًا لِذَلِكَ طَالِبًا لِلْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا اعْتَقَدَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَقَلَّ مَا يَكُونُ وَإِنِ احْتَاطَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَوْكَدَ مَا فِي ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَأَحْوَطَ لِأَمْرِ دِينِهِ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ خَبَرِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ فَلْيَنْظُرْ فِي ذَلِكَ وَإِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ فَيُجَدِّدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ شُكْرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَضْمَرَ قَبُولَ الْأَمْرِ وَالِائْتِمَارِ وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَنْهِيِّ وَالِاجْتِنَابِ لَهُ فَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنْ ذَلِكَ وَعِيدًا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى قَلْبِهِ فَإِنْ جَنَحَ إِلَى الرَّجَاءِ فَزَّعَهُ بِالْخَوْفِ وَإِنْ جَنَحَ إِلَى الْخَوْفِ فَسَحَ لَهُ فِي الرَّجَاءِ حَتَّى يَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ مُعْتَدِلَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَالُ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَفَرَّدَ اللَّهُ بِتَأْوِيلِهِ فَلْيَعْتَقِدِ الْإِيمَانَ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأويله} يَعْنِي عَاقِبَةَ الْأَمْرِ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وَإِنْ كَانَ مَوْعِظَةً اتَّعَظَ بِهَا فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا فَقَدْ نَالَ كَمَالَ التَّرْتِيلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّاسُ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ مَقَامَاتٍ: الْأَوَّلُ: مَنْ يَشْهَدُ أَوْصَافَ الْمُتَكَلِّمِ فِي كَلَامِهِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي خِطَابِهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ وَتَكَلُّمِهِ بِخِطَابِهِ وَتَمَلِّيهِ بِمُنَاجَاتِهِ وَتَعَرُّفِهِ مِنْ صِفَاتِهِ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى اسْمٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ إِرَادَةٍ أَوْ فِعْلٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُنْبِئُ عَنْ مَعَانِي الْأَوْصَافِ وَيَدُلُّ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهَذَا مَقَامُ الْعَارِفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى قِرَاءَتِهِ وَلَا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِنْعَامِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مَقْصُورُ الْفَهْمِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ مَوْقُوفُ الْفِكْرِ عَلَيْهِ مُسْتَغْرِقٌ بِمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلِهَذَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لَقَدْ تَجَلَّى اللَّهُ لِخَلْقِهِ بِكَلَامِهِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ وَمِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ لَوْ طَهُرَتِ الْقُلُوبُ لَمْ تَشْبَعْ مِنَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ الثَّانِي: مَنْ يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ بِأَلْطَافِهِ وَيَتَمَلَّقُهُ بإنعامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وَإِحْسَانِهِ فَمَقَامُ هَذَا الْحَيَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَحَالُهُ الْإِصْغَاءُ وَالْفَهْمُ وَهَذَا لِعُمُومِ الْمُقَرَّبِينَ الثَّالِثُ: مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَمَقَامُ هَذَا السُّؤَالُ وَالتَّمَكُّنُ وَحَالُهُ الطَّلَبُ وَهَذَا الْمَقَامُ لِخُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَلْقَى السَّمْعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ سَمِيعِهِ مُصْغِيًا إِلَى سِرِّ كَلَامِهِ شَهِيدَ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِهِ نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ تَارِكًا لِمَعْقُولِهِ وَمَعْهُودِ عِلْمِهِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ مُتَفَرِّغًا إِلَى الْفَهْمِ بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ وَصَفَاءِ يَقِينٍ وَقُوَّةِ عِلْمٍ وَتَمْكِينٍ سَمِعَ فَصْلَ الْخِطَابِ وَشَهِدَ غَيْبَ الْجَوَابِ لِأَنَّ التَّرْتِيلَ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّدَبُّرَ لِمَعَانِي الْكَلَامِ وَحُسْنَ الِاقْتِصَادِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فِي الْإِفْهَامِ وَالْإِيقَافَ عَلَى الْمُرَادِ وَصِدْقَ الرَّغْبَةِ فِي الطَّلَبِ سَبَبٌ للاطلاع على المطلع من المسر الْمَكْنُونِ الْمُسْتَوْدَعِ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْخِطَابِ تَتَوَجَّهُ عَشْرَ جِهَاتٍ لِلْعَارِفِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مَقَامٌ وَمُشَاهَدَاتٌ أَوَّلُهَا الْإِيمَانُ بِهَا وَالتَّسْلِيمُ لَهَا وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهَا وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا وَالرِّضَا بِهَا وَالْخَوْفُ مِنْهَا وَالرَّجَاءُ إِلَيْهَا وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا وَالْمَحَبَّةُ لَهَا وَالتَّوَكُّلُ فِيهَا فَهَذِهِ الْمَقَامَاتُ الْعَشْرُ هِيَ مَقَامَاتُ الْمُتَّقِينَ وَهَى مُنْطَوِيَةٌ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ يَشْهَدُهَا أَهْلُ التَّمْكِينِ وَالْمُنَاجَاةِ وَيَعْرِفُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَحْبُوبِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ لَا يُنْذَرُ بِهِ إِلَّا حَيٌّ وَلَا يَحْيَا بِهِ إِلَّا مُسْتَجِيبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} وقال تعالى: {إذا دعاكم لما يحييكم} وَلَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْعَشْرَ مُشَاهَدَاتٍ إِلَّا مَنْ يَتَنَقَّلُ فِي الْعَشْرِ الْمَقَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الأحزاب أَوَّلُهَا مَقَامُ الْمُسْلِمِينَ وَآخِرُهَا مَقَامُ الذَّاكِرِينَ وَبَعْدَ مقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الذِّكْرِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتُ الْعَشْرِ فَعِنْدَهَا لَا تُمَلُّ الْمُنَاجَاةُ لِوُجُودِ الْمُصَافَاةِ وَعَلِمَ كَيْفَ تُجَلَّى لَهُ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْإِلَهِيَّةُ فِي طَيِّ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ وَلَوْلَا اسْتِتَارُ كُنْهِ جَمَالِ كَلَامِهِ بِكِسْوَةِ الْحُرُوفِ لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ترى وَلَا تَمَكَّنَ لِفَهْمِ عَظِيمِ الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى حَدِّ فَهْمِ الْخَلْقِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَفْهَمُ عَنْهُ بِفَهْمِهِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ حِكْمَةً مِنْهُ قَالَ بعض العلماء: في القرآن ميادين وبساتين وَعَرَائِسُ وَدَيَابِيجُ وَرِيَاضٌ فَالْمِيمَاتُ مَيَادِينُ الْقُرْآنِ وَالرَّاءَاتُ بَسَاتِينُ الْقُرْآنِ وَالْحَاءَاتُ مَقَاصِيرُ الْقُرْآنِ وَالْمُسَبِّحَاتُ عَرَائِسُ الْقُرْآنِ وَالْحَوَامِيمُ دَيَابِيجُ الْقُرْآنِ وَالْمُفَصَّلُ رِيَاضُهُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِذَا دَخَلَ الْمُرِيدُ فِي الْمَيَادِينِ وَقَطَفَ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَدَخَلَ الْمَقَاصِيرَ وَشَهِدَ الْعَرَائِسَ وَلَبِسَ الدَّيَابِيجَ وَتَنَزَّهَ فِي الرِّيَاضِ وَسَكَنَ غُرُفَاتِ الْمَقَامَاتِ اقْتَطَعَهُ عَمَّا سِوَاهُ وَأَوْقَفَهُ مَا يَرَاهُ وشغله المشاهد لَهُ عَمَّا عَدَاهُ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم اعرفوا الْقُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ وَغَرَائِبُهُ فُرُوضُهُ وَحُدُودُهُ فَإِنَّ القرآن عَلَى خَمْسَةٍ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَمُحْكَمٍ وَأَمْثَالٍ وَمُتَشَابِهٍ فَخُذُوا الْحَلَالَ وَدَعُوا الْحَرَامَ وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ وَآمِنُوا بالتمشابه وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن قَالَ ابْنُ سَبْعٍ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الصَّدْرِ: هَذَا الَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَفْسِيرِهِ الظَّاهِرِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ فَهْمِهِ أَكْثَرُ وَقَالَ آخَرُونَ الْقُرْآنُ يَحْتَوِي عَلَى سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ عِلْمٍ إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ عِلْمٌ ثُمَّ يَتَضَاعَفُ ذَلِكَ أَرْبَعًا إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعُلُومُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَفَى الْقُرْآنِ شَرْحُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وأفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فصل: في كراهة قراءة القرآن بلا تدبر تكره قراء الْقُرْآنِ بِلَا تَدَبُّرٍ وَعَلَيْهِ مَحَلُّ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ "أَهَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ" وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْخَوَارِجِ: "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَا حَنَاجِرَهُمْ" ذَمَّهُمْ بِإِحْكَامِ أَلْفَاظِهِ وَتَرْكِ التَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ فَصْلٌ: فِي تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ أَفْضَلُكُمْ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ: "إن القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته مَا اسْتَطَعْتُمْ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: "تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَمْسًا خَمْسًا" وَفِي رِوَايَةٍ "مَنْ تَعَلَّمَهُ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ" قَالَ أصحابنا: تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَكَذَلِكَ حِفْظُهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي وَالْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَالْمَعْنَى فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ أَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ وَلَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ قَوْمٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَالْكُلُّ آثِمٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرْيَةِ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ أَثِمُوا بِأَسْرِهِمْ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ لِلتَّعْلِيمِ وَطُلِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَامْتَنَعَ لَمْ يَأْثَمْ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا صَحَّحَهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ الْمُفْتِيَ وَالْمُدَرِّسَ لَا يَأْثَمَانِ بِالِامْتِنَاعِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ غَيْرُهُ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ فَإِنْ كَانَتْ تَفُوتُ لَمْ يَجُزِ الِامْتِنَاعُ كَالْمُصَلِّي يُرِيدُ تَعَلُّمَ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ رَدَّهُ لَخَرَجَ الْوَقْتُ بِسَبَبِ ذَهَابِهِ إِلَى الْآخَرِ وَلِضِيقِ الْوَقْتِ عَنِ التَّعْلِيمِ وَيَنْبَغِي تَعْلِيمُهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَعْهُودِ فَإِنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا قَالَ ذَاكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجْهُهُ عِنْدِي أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ مِنْ آخِرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ ثُمَّ يَرْتَفِعَ إِلَى الْبَقَرَةِ كَنَحْوِ مَا تَفْعَلُ الصِّبْيَانُ فِي الْكُتَّابِ لِأَنَّ السُّنَّةَ خِلَافُ هَذَا وَإِنَّمَا وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي تَعْلِيمِ الصَّبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ مِنَ الْمُفَصَّلِ لِصُعُوبَةِ السُّوَرِ الطوال عليهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 مسألة: في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن وَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ" وَقِيلَ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ وَقَالَ اسْتَنْصَرَ النَّاسُ الْمُعَلِّمِينَ لِقَصْرِهِمْ زَمَانَهُمْ عَلَى مُعَاشَرَةِ الصِّبْيَانِ ثُمَّ النِّسَاءِ حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكَ فِي عُقُولِهِمْ ثُمَّ لِابْتِغَائِهِمْ عَلَيْهِ الْأَجْعَالَ وَطَمَعِهِمْ فِي أَطْعِمَةِ الصِّبْيَانِ فَأَمَّا نفس التعليم فإنه يوجب التشريف والتفضيل وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ: التَّعْلِيمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِلْحِسْبَةِ وَلَا يَأْخُذْ بِهِ عِوَضًا وَالثَّانِي أَنْ يُعَلِّمَ بِالْأُجْرَةِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَلِّمَ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَإِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ قَبِلَ فَالْأَوَّلُ: مَأْجُورٌ عَلَيْهِ وَهُوَ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالثَّانِي: مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجُوزُ مِثْلُ عِصَامِ بْنِ يُوسُفَ وَنَصْرِ بْنِ يَحْيَى وَأَبِي نَصْرِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: وَالْأَفْضَلُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُشَارِطَ الأجرة للحفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وَتَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ شَارَطَ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَوَارَثُوا ذَلِكَ وَاحْتَاجُوا إِلَيْهِ وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْخَلْقِ وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلِحَدِيثِ اللَّدِيغِ لَمَّا رَقَوْهُ بِالْفَاتِحَةِ وَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "واضربوا لي معكم فيها بسهم" فصل: في دوام تلاوة القرآن بعد تعلمه وَلْيُدْمِنْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ دَأْبُهُ تِلَاوَةَ آيَاتِ اللَّهِ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} وَسَمَّاهُ ذِكْرًا وَتَوَعَّدَ الْمُعْرِضَ عَنْهُ وَمَنْ تَعَلَّمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عِقَالِهَا وَقَالَ بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نسي واستذكروا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ من النعم في عقالها" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 مسألة: في استحباب الاستياك والتطهر للقراءة يُسْتَحَبُّ الِاسْتِيَاكُ وَتَطْهِيرُ فَمِهِ وَالطِّهَارَةُ لِلْقِرَاءَةِ بِاسْتِيَاكِهِ وَتَطْهِيرِ بَدَنِهِ بِالطِّيبِ الْمُسْتَحَبِّ تَكْرِيمًا لِحَالِ التِّلَاوَةِ لَابِسًا مِنَ الثِّيَابِ مَا يَتَجَمَّلُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ لِكَوْنِهِ بِالتِّلَاوَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ بِهَذَا الْإِينَاسِ فَإِنَّ التَّالِيَ لِلْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَالِمِ لِذِي الْكَلَامِ وَهَذَا غَايَةُ التَّشْرِيفِ مِنْ فَضْلِ الْكَرِيمِ الْعَلَّامِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ أَكْرَهُ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَّكِئٌ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ لَا يُقَالُ إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَعَ الْحَدَثِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ سِوَى الْجَنَابَةِ وَفَى مَعْنَاهَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ فِي الْحَائِضِ تَقْرَأُ خَوْفَ النِّسْيَانِ وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ أَقَلَّ مِنْ آيَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ وَإِذَا أَرَادَتِ الْحَائِضُ التَّعَلُّمَ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُلَقَّنَ نِصْفَ آيَةٍ ثُمَّ تَسْكُتَ وَلَا تَقْرَأَ آيَةً وَاحِدَةً بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ حَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّوَاقِضِ كَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَنَحْوِهِ فَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْذَرٍ عَادَةً وَلِأَنَّهُ فِي حَالِ خُرُوجِ الرِّيحِ يبعد بخلاف هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 مسألة: في التعوذ وقراءة البسملة عند التلاوة يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ قَطْعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَأَرَادَ الْعَوْدَ جَدَّدَ وَإِنْ قَطَعَهَا لَعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ وَلَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ تَحَرُّزًا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَّا كَانَ قَارِئًا بَعْضَ السُّوَرِ لَا جَمِيعَهَا فَإِنْ قَرَأَ مِنْ أَثْنَائِهَا اسْتُحِبَّ لَهُ الْبَسْمَلَةُ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا نَقَلَهُ الْعَبَّادِيُّ وَقَالَ الْفَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْقَصِيدَةِ: كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَأْخُذُ عَلَيْنَا فِي الْأَجْزَاءِ الْقُرْآنِيَّةِ بِتَرْكِ الْبَسْمَلَةِ وَيَأْمُرُنَا بِهَا فِي حزب: {الله لا إله إلا هو} وفى حزب {إليه يرد علم الساعة} لِمَا فِيهِمَا بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ قُبْحِ اللَّفْظِ وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا ابْتَدَأَ مِثْلَ ذَلِكَ نَحْوَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} {وهو الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 أنشأ جنات} لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ كَانَ مَكِّيٌّ يَخْتَارُ إِعَادَةَ الْآيَةِ قَبْلَ كُلِّ حِزْبٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَسْأَلَةٌ وَلْتَكُنْ تِلَاوَتُهُ بَعْدَ أَخْذِهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ لِهَذَا الشَّأْنِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الدِّرَايَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ به جبريل في رمضان فيدراسه القرآن مسألة: في قراءة القرآن في المصحف أفضل أم على ظهر قلب وَهَلِ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ أَمْ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ أَمْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ عِبَادَةٌ فَتَجْتَمِعُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ وَهَذَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْغَزَالِيُّ قَالَ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى. . . . . . وَتَأَمُّلِ الْمُصْحَفِ وَجُمَلِهِ وَيَزِيدُ فِي الْأَجْرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ الْخَتْمَةُ فِي الْمُصْحَفِ بِسَبْعٍ وَذُكِرَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْرَءُونَ فِي الْمُصْحَفِ وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمٌ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْمُصْحَفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وَدَخَلَ بَعْضُ فُقَهَاءِ مِصْرَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْجِدَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفُ فَقَالَ شَغَلَكُمُ الْفِقْهُ عَنِ الْقُرْآنِ إِنِّي لَأُصَلِّي الْعَتَمَةَ وَأَضَعُ الْمُصْحَفَ فِي يَدِي فَمَا أُطْبِقُهُ حَتَّى الصُّبْحِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ كَانَ أَبِي يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبْعًا مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَتْرُكُهُ نَظَرًا وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حديث أبي سعيد بن عون المكي عن عثمان بن عبيد اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قِرَاءَةُ الرَّجُلِ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ" وَأَبُو سَعِيدٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ القرآن في المصحف كانت له ألفا حَسَنَةٍ وَمَنْ قَرَأَهُ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ فَأَظُنُّهُ قال كألف حَسَنَةٍ" وَفَى الطَّرِيقِ الْأُخْرَى قَالَ دَرَجَةٍ وَجَزَمَ بِأَلْفٍ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: "مَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نَظَرًا شُفِّعَ فِي سَبْعَةِ قُبُورٍ حَوْلَ قَبْرِهِ وَخُفِّفَ الْعَذَابُ عَنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ" وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِسَنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضْلُ الْقُرْآنِ نَظَرًا عَلَى مَنْ قَرَأَ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ" وَبِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ نشر المصحف يقرأ فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وروى أبو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: "النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرُ فِي وَجْهِ الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ" وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَانَ يُعْجِبُهُمُ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ هُنَيْهَةً قَالَ بَعْضُهُمْ وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ آيَاتٍ يَسِيرَةً وَلَا يَتْرُكَهُ مَهْجُورًا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ أَفْضَلُ وَاخْتَارَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ فِي أَمَالِيهِ قِيلَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ فِعْلَ الْجَارِحَتَيْنِ وَهُمَا اللِّسَانُ وَالْعَيْنُ وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ التدبر لقوله تعالى: {ليدبروا آياته} وَالْعَادَةُ تَشْهَدُ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ يُخِلُّ بِهَذَا الْمَقْصُودِ فَكَانَ مَرْجُوحًا وَالثَّالِثُ: وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ إِنْ كَانَ الْقَارِئُ مِنْ حِفْظِهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَجَمْعِ الْقَلْبِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ فَالْقِرَاءَةُ مِنَ الْحِفْظِ أَفْضَلُ وَإِنِ اسْتَوَيَا فَمِنَ الْمُصْحَفِ أفضل قال وهو مراد السلف مسألة في استحباب الجهر بالقراءة يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الْجَهْرَ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارَ بِبَعْضِهَا لِأَنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَلُّ فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ وَالْجَاهِرُ قَدْ يَكِلُّ فَيَسْتَرِيحُ بِالْإِسْرَارِ إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِاللَّيْلِ جَهَرَ بِالْأَكْثَرِ وَإِنْ قَرَأَ بِالنَّهَارِ أَسَرَّ بِالْأَكْثَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالنَّهَارِ فِي مَوْضِعٍ لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ وَلَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ فَيَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَرْفَعُهُ: "الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ" نَعَمْ مَنْ قَرَأَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يصلون في المسجد فقال: "يأيها النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ على بعض في القراءة" مسألة: في كراهة قطع القرآن لمكالمة الناس وَيُكْرَهُ قَطْعُ الْقُرْآنِ لِمُكَالَمَةِ النَّاسِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَى فِي الْقِرَاءَةِ إِلَى آيَةٍ وَحَضَرَهُ كَلَامٌ فَقَدِ اسْتَقْبَلَهُ الَّتِي بَلَغَهَا وَالْكَلَامُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثِرَ كَلَامَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ وَأَيَّدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يتكلم حتى يفرغ منه مسألة: في حكم قراءة القرآن بالعجمية لَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أم لا في الصلاة وخارجها لقوله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} وقوله: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وَقِيلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ مُطْلَقًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ لَكِنْ صَحَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ البزرودي وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ قِرَاءَتُهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِعْجَازُ لِنَقْصِ التَّرْجَمَةِ عَنْهُ وَلِنَقْصِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْسُنِ عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ لِمَكَانِ التَّحَدِّي بِنَظْمِهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجُوزَ التَّرْجَمَةُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ لَهُ فَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ قَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجِزَ عَنِ الْبَعْضِ أَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ أَيْ فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ إِبْدَالُ لَفْظَةٍ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِخِلَافِ التَّفْسِيرِ وَمَا أَحَالَهُ الْقَفَّالُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنُ بْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا فَقَالَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ التَّرَاجِمِ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ الْقُرْآنَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَلْسُنِ كَمَا نُقِلَ الْإِنْجِيلُ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ إِلَى الْحَبَشِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَتُرْجِمَتِ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْعَجَمَ لَمْ تَتَّسِعْ فِي الْكَلَامِ اتِّسَاعَ الْعَرَبِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْقُلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إليهم على سواء} لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 تَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُؤَدِّيَةً عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي أُودِعَتْهُ حَتَّى تَبْسُطَ مَجْمُوعَهَا وَتَصِلَ مَقْطُوعَهَا وَتُظْهِرَ مَسْتُورَهَا فَتَقُولَ إِنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ هُدْنَةٌ وَعَهْدٌ فَخِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَنَقْضًا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ قَدْ نَقَضْتَ مَا شَرَطْتَهُ لَهُمْ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ لِتَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ على سواء وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكهف سنين عددا} انْتَهَى فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَصَوُّرِهِ وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّرْجَمَةِ مَخْصُوصٌ بِالتِّلَاوَةِ فَأَمَّا تَرْجَمَتُهُ لِلْعَمَلِ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى بَيَانِ المحكم منه والغريب المعنى بمقدار الضرورة مِنَ التَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يُتَعَرَّضَ لِمَا سِوَى ذَلِكَ وَيُؤْمَرَ مَنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِتَعَلُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ إِلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مُحْكَمَةٍ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ النَّقْلَ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ قَدْ تَنْقُصُ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْمُتَرْجَمِ عِنْدَهُ وَاحِدًا قَلَّ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَعَانِي إِذَا كَثُرَتْ وَإِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَرُورَةِ التَّبْلِيغِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُقَرَّرًا فِي كُتُبِهِمْ وَإِنْ خَالَفُوهُ وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ: أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِشَرِيطَةٍ وَهَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْقَارِئُ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْئًا أَصْلًا قَالُوا وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ تَشْهَدُ أَنَّهَا إِجَازَةٌ كَلَا إِجَازَةٍ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ خُصُوصًا الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 مُعْجِزٌ فِيهِ مِنْ لَطَائِفِ الْمَعَانِي وَالْإِعْرَابِ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِسَانٌ مِنْ فَارِسِيَّةٍ وَغَيْرِهَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ تَحْقِيقٍ وَتَبَصُّرٍ وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ صَاحِبَيْهِ فِي القراءة بالفارسية مسألة: في عدم جواز القراءة بالشواذ وَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالشَّوَاذِّ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِهِ فَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ كَانَ يَمُدُّ مَدًّا يَعْنِي أَنَّهُ يُمَكِّنُ الْحُرُوفَ وَلَا يَحْذِفُهَا وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْقُرَّاءُ بِالتَّجْوِيدِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّرْتِيلُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِسْرَاعِ فَقِرَاءَةُ حِزْبٍ مُرَتَّلٍ مَثَلًا فِي مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ حِزْبَيْنِ فِي مثله بالإسراع مسألة: في استحباب قراءة القرآن بالتفخيم يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْخِيمِ وَالْإِعْرَابِ لِمَا يُرْوَى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ مَعْنَاهُ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ وَلَا يُخْضَعَ الصَّوْتُ فِيهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ قَالَ وَلَا يَدْخُلُ فِي كَرَاهَةِ الْإِمَالَةِ الَّتِي هِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ نَزَلَ بِالتَّفْخِيمِ فَرُخِّصَ مَعَ ذَلِكَ فِي إِمَالَةِ مَا يَحْسُنُ إِمَالَتُهُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَ فِي قِرَاءَتِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَمَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ إِعْرَابٍ كَانَ له بكل حرف عشر حسنات" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 مسألة: في فصل السور بعضها عن بعض وَأَنْ يَفْصِلَ كُلَّ سُورَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا إِمَّا بِالْوَقْفِ أَوِ التَّسْمِيَةِ وَلَا يَقْرَأَ مِنْ أُخْرَى قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأُولَى وَمِنْهُ الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْمَعْنَى قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ لِوَقْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ آيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ قَالَ أَبُو مُوسَى وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى آخِرِ السُّوَرِ لَا شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِهِ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا فِي سُورَةِ الْفِيلِ مَعَ قُرَيْشٍ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ أَوْلَى فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقِرَاءَاتِ مِنْ تَتَبُّعِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ جَزِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ أَهَّلَهُ لِحِفْظِ كِتَابِهِ وَيَسْتَصْغِرَ عَرَضَ الدُّنْيَا أَجْمَعَ فِي جَنْبِ ما مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْتَهِدَ فِي شُكْرِهِ وَمِنْهَا تَرْكُ الْمُبَاهَاةِ فَلَا يَطْلُبْ بِهِ الدُّنْيَا بَلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَأَلَّا يَقْرَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ وَأَنْ يَكُونَ ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مُجَانِبًا لِلذَّنْبِ مُحَاسِبًا نَفْسَهُ يُعْرَفُ الْقُرْآنُ فِي سَمْتِهِ وَخُلُقِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمَلِكِ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَلْيَتَجَنَّبِ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَسْوَاقِ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ وَأَلْحَقَ بِهِ الْحَمَّامَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الطَّرِيقِ سِرًّا حَيْثُ لا لغو فيها مسألة: في ترك خلط سورة بسورة عَدَّ الْحَلِيمِيُّ مِنَ الْآدَابِ تَرْكَ خَلْطِ سُورَةٍ بِسُورَةٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآتِيَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَحْسَنُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لِكِتَابِ اللَّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ فَالْأَوْلَى بِالْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَنْقُولِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ تَأْلِيفُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ تَأْلِيفِكُمْ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قِرَاءَةِ آيَةٍ آيَةٍ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقْرَأُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ وَبِعُمَرَ يَجْهَرُ بِصَوْتِهِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ "وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ قَالَ بِلَالٌ أَخْلِطُ الطَّيِّبَ بِالطَّيِّبِ فَقَالَ اقْرَأِ السُّورَةَ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ قَالَ عَلَى نَحْوِهَا وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَلِيحَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا قَرَأْتَ السُّورَةَ فَأَنْفِذْهَا وَرَوَى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ أَمَّ النَّاسَ فَقَرَأَ مِنْ سُوَرٍ شَتَّى ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ حِينَ انْصَرَفَ فَقَالَ شَغَلَنِي الْجِهَادُ عَنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَرَوَى الْمَنْعَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ كَمَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بِلَالٍ وَكَمَا اعْتَذَرَ خَالِدٌ عَنْ فِعْلِهِ وَلِكَرَاهَةِ ابْنِ سِيرِينَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَى حَدِيثَ بِلَالٍ وَفِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَهُوَ أَثْبَتُ وَأَشْبَهُ بِنَقْلِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَزَادَ مَثَلُ بِلَالٍ كَمَثَلِ نَحْلَةٍ غَدَتْ تَأْكُلُ مِنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ ثُمَّ يَصِيرُ حُلْوًا كُلُّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالنَّحْلَةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ من الثمرات حلوها وَحَامِضِهَا وَرَطْبِهَا وَيَابِسِهَا وَحَارِّهَا وَبَارِدِهَا فَتُخْرِجُ هَذَا الشِّفَاءَ وَلَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحُلْوِ فَقَطْ لِحَظِّ شَهْوَتِهِ فَلَا جَرَمَ أَعَاضَهَا اللَّهُ الشِّفَاءَ فِيمَا تُلْقِيهِ كَقَوْلِهِ: "عَلَيْكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 بِأَلْبَانِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ" فَتَأْكُلُ فَبِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْصِدُ آيَاتِ الرَّحْمَةِ وَصِفَاتِ الْجَنَّةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ عَلَى نَحْوِهَا كَمَا جَاءَتْ مُمْتَزِجَةً كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِدَوَاءِ الْعِبَادِ وَحَاجَتِهِمْ وَلَوْ شَاءَ لَصَنَّفَهَا أَصْنَافًا وَكُلُّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَكِنَّهُ مَزَجَهَا لِتَصِلَ الْقُلُوبَ بِنِظَامٍ لَا يُمَلُّ قَالَ: وَلَقَدْ أَذْهَلَنِي يَوْمًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن} فقلت: يا لطيف عملت أَنَّ قُلُوبَ أَوْلِيَائِكَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَنْكَ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ تِلْكَ الْأَهْوَالُ لَا تَتَمَالَكُ فَلَطَفْتَ بِهِمْ فَنَسَبْتَ {الْمُلْكَ} إِلَى أَعَمِّ اسْمٍ فِي الرَّحْمَةِ فَقُلْتَ {الرَّحْمَنَ} لِيُلَاقِيَ هَذَا الِاسْمُ تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَوْلُ فَيُمَازِجَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَلَوْ كَانَ بَدَلُهُ اسْمًا آخَرَ مِنْ عَزِيزٍ وَجَبَّارٍ لَتَفَطَّرَتِ الْقُلُوبُ فَكَانَ بِلَالٌ يَقْصِدُ لِمَا تَطِيبُ بِهِ النُّفُوسُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى نِظَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ أَعْلَمُ بالشفاء مسألة: في استحباب استيفاء الحروف عند القراءة يُسْتَحَبُّ اسْتِيفَاءُ كُلِّ حَرْفٍ أَثْبَتَهُ قَارِئٌ قَالَ الْحَلِيمِيُّ هَذَا لِيَكُونَ الْقَارِئُ قَدْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَا هُوَ قُرْآنٌ فَتَكُونَ خَتْمَةٌ أَصَحَّ مِنْ خَتْمَةٍ إِذَا تَرَخَّصَ بِحَذْفِ حَرْفٍ أَوْ كَلِمَةٍ قُرِئَ بِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ كُلِّ مَنِ اسْتَوْفَى كُلَّ فِعْلٍ امْتَنَعَ عَنْهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ أَجْمَعَ مِنْ صَلَاةِ مَنْ تَرَخَّصَ فحذف منها مالا يضر حذفه فصل: في ختم القرآن وَيُسْتَحَبُّ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأِ الْقُرْآنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ سُئِلَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَزِّئُ الْقُرْآنَ قَالَ كَانَ يُجَزِّئُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسًا وَكَرِهَ قَوْمٌ قِرَاءَتَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ "لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ" رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْمُخْتَارُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَالِ الشَّخْصِ فِي النَّشَاطِ وَالضَّعْفِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْغَفْلَةِ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ في كتاب البستان ينبغي أن الْقُرْآنَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الزِّيَادَةِ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ أَدَّى لِلْقُرْآنِ حَقَّهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَخْتِمَ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَلَاثٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ ابْنِ عَمْرٍو لِمَا عَلِمَ مِنْ تَرْتِيلِهِ فِي قِرَاءَتِهِ وَعَلِمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنِ اسْتَدَامَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا حَدَّ لَهُ وَأَمَّا مَنِ اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَقَالَ مَا أَحْسَنَ ذَلِكَ إِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُ كُلِّ خَيْرٍ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ إِنَّمَا الْآيَةُ مِثْلُ التَّمْرَةِ كُلَّمَا مَضَغْتَهَا اسْتَخْرَجْتَ حَلَاوَتَهَا فَحُدِّثَ بِهِ أَبُو سُلَيْمَانَ فَقَالَ صَدَقَ إِنَّمَا يُؤْتَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ السُّورَةَ أَرَادَ آخرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 مسألة: في ختم القرآن في الشتاء وفي الصيف يُسَنُّ خَتْمُهُ فِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَفَى الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ لِأَحْمَدَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِهِ وَيَدْعُو وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا خَتَمَ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ رَوَاهُ أَبُو داود مسألة: في التكبير بين السور ابتداء من سورة الضحى يسحب التَّكْبِيرُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى إِلَى أَنْ يَخْتِمَ وَهَى قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ أَخَذَهَا ابْنُ كثير عن مجاهد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيٍّ وأبي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَوَّاهُ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ مَوْقُوفًا عَلَى أُبَيٍّ بِسَنَدٍ مَعْرُوفٍ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّشْدِيدِ وَاسْتَأْنَسَ لَهُ الْحَلِيمِيُّ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى أَبْعَاضٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 مُتَفَرِّقَةٍ فَكَأَنَّهُ كَصِيَامِ الشَّهْرِ وَقَدْ أُمِرَ النَّاسُ أَنَّهُ إِذَا أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ أَنْ يُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاهُمْ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُكَبِّرَ الْقَارِئُ إِذَا أَكْمَلَ عِدَّةَ السُّوَرِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّكْبِيرَ كَانَ لِاسْتِشْعَارِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ قَالَ وَصِفَتُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّوَرِ أَنَّهُ كُلَّمَا خَتَمَ سُورَةً وَقَفَ وَقْفَةً ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ وَقَفَ وَقْفَةً ثُمَّ ابْتَدَأَ السُّورَةَ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ ثُمَّ كَبَّرَ كَمَا كَبَّرَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ أَتْبَعَ التَّكْبِيرَ الْحَمْدَ وَالتَّصْدِيقَ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءَ وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ يُكَبِّرُ الْقَارِئُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ إِذَا بَلَغَ وَالضُّحَى بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ تَكْبِيرَةٌ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ وَلَا يَصِلْ آخِرَ السُّورَةِ بِالتَّكْبِيرِ بَلْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ تَأَخَّرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا فَقَالَ نَاسٌ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَدَّعَهُ صَاحِبُهُ وَقَلَاهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ وَلَا يُكَبِّرْ فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ زِيدَ عَلَيْهِ فَيُتَوَهَّمُ أنه من القرآن فيثبتوه فيه مسألة: في تكرير الإخلاص مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَكْرِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ عِنْدَ الْخَتْمِ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الْمَنْعِ وَلَكِنَّ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ: بَعْضُهُمْ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّكْرِيرِ مَا وَرَدَ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ خَتْمَةٌ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثًا بَعْدَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْخَتْمَةُ فَيَحْصُلُ خَتْمَتَانِ قُلْنَا: مَقْصُودُ النَّاسِ خَتْمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ القارئ إذا قَرَأَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُصُولِ خَتْمَةٍ إِمَّا الَّتِي قَرَأَهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا الَّتِي حَصَلَ ثَوَابُهَا بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثًا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ختمة أخرى مسألة: فيما يفعله القارئ عند ختم القرآن ثُمَّ إِذَا خَتَمَ وَقَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَقَرَأَ خَمْسَ آيَاتٍ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {هم المفلحون} لأن آيَةٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ بَعْضُ آيَةٍ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الحث على تكرار الختم وختمة بَعْدَ خَتْمَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَتَعَقَّبُ الْخَتْمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 فَائِدَةٌ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي بِالْقُرْآنِ وَاجْعَلْهُ لِي أَمَانًا وَنُورًا وَهُدًى وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ ذَكِّرْنِي مِنْهُ مَا نُسِّيتُ وَعَلِّمْنِي مِنْهُ مَا جَهِلْتُ وَارْزُقْنِي تِلَاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَاجْعَلْهُ لِي حُجَّةً يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ رَوَاهُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ مَسْأَلَةٌ: في آداب الاستماع اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ وَالتَّفَهُّمُ لِمَعَانِيهِ مِنَ الْآدَابِ الْمَحْثُوثِ عَلَيْهَا وَيُكْرَهُ التَّحَدُّثُ بِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ قَالَ الشَّيْخُ أبو محمد بن محمد عَبْدِ السَّلَامِ وَالِاشْتِغَالُ عَنِ السَّمَاعِ بِالتَّحَدُّثِ بِمَا لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الشَّرْعِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بالتحدث للمصلحة مسألة: في حكم من يشرب شيئا كتب من القرآن وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَيْضًا بِالْمَنْعِ مِنْ أَنْ يَشْرَبَ شَيْئًا كُتِبَ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ الباطنة وفيما قاله لِأَنَّهَا فِي مَعْدِنِهَا لَا حُكْمَ لَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْجَوَازِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِمَادُ النِّيهِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيِّ فِيمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ قَالَ: لَا يَجُوزُ ابْتِلَاعُ رُقْعَةٍ فِيهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَوْ غَسَلَهَا وَشَرِبَ مَاءَهَا جَازَ وَجَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ أَكْلِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ: الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي ذِكْرِ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَقِيلَ إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ رُقْعَةً فِي الطَّرِيقِ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَأَخَذَهَا فَلَمْ يَجِدْ لَهَا مَوْضِعًا فَأَكَلَهَا فأري فيما يرى للنائم كَأَنَّ قَائِلًا قَدْ قَالَ لَهُ قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِاحْتِرَامِكَ لِتِلْكَ الرُّقْعَةِ فَكَانَ بَعْدَ ذلك يتكلم بالحكمة مسألة: القيام للمصاحف بدعة وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا فِي الْقَوَاعِدِ الْقِيَامُ لِلْمَصَاحِفِ بِدْعَةٌ لَمْ تُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ مِنِ اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَالْأَمْرِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ بِهِ وَسُئِلَ الْعِمَادُ بْنُ يُونُسَ الْمَوْصِلِيُّ عَنْ ذَلِكَ هَلْ يُسْتَحَبُّ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ يُكْرَهُ خَوْفَ الْفِتْنَةِ؟ فَأَجَابَ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ مَسْمُوعٌ وَالْكُلُّ جَائِزٌ وَلِكُلٍّ نيته وقصده مسألة: في حكم الأوراق البالية من المصحف وَإِذَا احْتِيجَ لِتَعْطِيلِ بَعْضِ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ لِبَلَاءٍ وَنَحْوِهِ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهُ فِي شِقٍّ أَوْ غَيْرِهِ لِيُحْفَظَ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ وَيُوطَأُ وَلَا يَجُوزُ تَمْزِيقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْطِيعِ الْحُرُوفِ وَتَفْرِقَةِ الْكَلِمِ وَفِي ذَلِكَ إِزْرَاءٌ بِالْمَكْتُوبِ كَذَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ قَالَ وَلَهُ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ وَإِنْ أَحْرَقَهَا بِالنَّارِ فَلَا بَأْسَ أَحْرَقَ عُثْمَانُ مَصَاحِفَ فِيهَا آيَاتٌ وَقِرَاءَاتٌ مَنْسُوخَةٌ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْإِحْرَاقَ أَوْلَى مِنَ الْغَسْلِ لِأَنَّ الْغُسَالَةَ قَدْ تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَجَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ بِامْتِنَاعِ الْإِحْرَاقِ وَأَنَّهُ خِلَافُ الِاحْتِرَامِ وَالنَّوَوِيُّ بِالْكَرَاهَةِ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ وَفَى الْوَاقِعَاتِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُصْحَفَ إذا بلي لا يحرق بل تحفر لَهُ فِي الْأَرْضِ وَيُدْفَنُ وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ لِتَعَرُّضِهِ لِلْوَطْءِ بالأقدام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 مسألة: في أحكام تتعلق باحترام المصحف وتبجيله وَيُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ الْمُصْحَفِ وَجَعْلُهُ عَلَى كُرْسِيٍّ وَيَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ بِالْفِضَّةِ إِكْرَامًا لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلَتُ مَالِكًا عَنْ تَفْضِيضِ الْمَصَاحِفِ فَأَخْرَجَ إِلَيْنَا مُصْحَفًا فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُمْ فَضَّضُوا الْمَصَاحِفَ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ وَأَمَّا بِالذَّهَبِ فَالْأَصَحُّ يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ بِنَفْسِ الْمُصْحَفِ دُونَ عَلَاقَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ وَالْأَظْهَرُ التَّسْوِيَةُ وَيُحْرَمُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ لِأَنَّ فِيهِ إِذْلَالًا وَامْتِهَانًا وَكَذَلِكَ مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَيُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْمُصْحَفِ لِأَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ كَانَ يُقَبِّلُهُ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَلِأَنَّهُ هَدِيَّةٌ لِعِبَادِهِ فَشُرِعَ تَقْبِيلُهُ كَمَا يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ الْجَوَازُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالتَّوَقُّفُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْعَةٌ وَإِكْرَامٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ قِيَاسٌ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ فِي الْحَجَرِ لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ وَيَحْرُمُ السَّفَرُ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِلْحَدِيثِ فِيهِ خوف أن تناله أيديهم وقيل كَثُرَ الْغُزَاةُ وَأُمِنَ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ لقوله "مخافة أن تناله أيديهم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجَسٍ وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَتُكْرَهُ كِتَابَتُهُ فِي الْقِطَعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَعَنْهُ تَنَوَّقَ رَجُلٌ فِي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَغُفِرَ لَهُ وَقَالَ: الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ لَيْتَنِي قَدْ رَأَيْتُ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِيمَنْ كَتَبَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَعْنِي لَا يَجْعَلُ لَهُ سِنَّاتٍ قَالَ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ ذَلِكَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَيُسْتَحَبُّ تَجْرِيدُ الْمُصْحَفِ عَمَّا سِوَاهُ وَكَرِهُوا الْأَعْشَارَ وَالْأَخْمَاسَ مَعَهُ وَأَسْمَاءَ السُّوَرِ وَعَدَدَ الْآيَاتِ وَكَانُوا يَقُولُونَ جَرِّدُوا الْمُصْحَفَ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ يَجُوزُ لأن النقط ليس له قرار فَيُتَوَهَّمَ لِأَجْلِهَا مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا وَإِنَّمَا هِيَ دَلَالَاتٌ عَلَى هَيْئَةِ الْمَقْرُوءِ فَلَا يَضُرُّ إِثْبَاتُهَا لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "جَرِّدُوا الْقُرْآنَ" وَفِي رِوَايَةٍ "لَا تُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ" وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَوَاخِرِ الصَّوْمِ وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَقَالَ قَوْلُهُ جَرِّدُوا يُحْتَمَلُ فِيهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَيْ جَرِّدُوهُ فِي التِّلَاوَةِ وَلَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ وَالثَّانِي: أَيْ جَرِّدُوهُ فِي الْخَطِّ مِنَ النَّقْطِ وَالتَّعْشِيرِ قُلْتُ: الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ وَقَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى نَقْطِ الْمَصَاحِفِ وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَبْيَنُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ لَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ لِأَنَّ مَا خَلَا الْقُرْآنَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وَلَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ عَلَيْهَا وَقَوِيَ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا أَخْرَجَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ لَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْعِرَاقِ خَرَجَ مَعَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَيِّعُنَا فَقَالَ إِنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَلَا تَشْغَلُوهُمْ بِالْأَحَادِيثِ فَتَصُدُّوهُمْ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ قَالَ فَهَذَا مَعْنَاهُ أَيْ لَا تَخْلِطُوا مَعَهُ غَيْرَهُ خَاتِمَةٌ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ صَالِحٍ حَدِيثَ "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ ظَالِمٍ لَيَرْفَعَ مِنْهُ لُعِنَ بِكُلِّ حِرَفٍ عَشْرَ لَعَنَاتٍ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 النَّوْعُ الثَّلَاثُونَ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يُقْتَبَسُ مِنْهُ فِي شِعْرٍ وَيُغَيَّرُ نَظْمُهُ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ وَحَرَكَةِ إِعْرَابٍ جَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَسُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وجهت وجهي" والتلاوة {إني وجهت وجهي} وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابٍ إِلَى هِرَقْلَ: "سلام على من اتبع الهدى: " {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء} " وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً" وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لِابْنِ عُمَرَ: " قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانَا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وفى سياق كلام لأبي بكر: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فَقَصَدَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي مُبَايِعٌ صَاحِبَكُمْ: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} وَقَوْلُ الْخَطِيبِ ابْنِ نُبَاتَةَ: هُنَاكَ يُرْفَعُ الْحِجَابُ وَيُوضَعُ الْكِتَابُ وَيُجْمَعُ مَنْ لَهُ الثَّوَابُ وَحُقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذا قال: {خذ الكتاب بقوة} وَهُوَ جُنُبٌ وَقَصَدَ غَيْرَ الْقُرْآنِ جَازَ لَهُ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذا وما كنا له مقرنين} قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِذَا قَصَدَ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَصَى وَإِنْ قَصَدَ الذِّكْرَ وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا لَمْ يَعْصِ وَلِلطُّرْطُوشِيِّ: رَحَلَ الظَّاعِنُونَ عَنْكَ وَأَبْقَوْا فِي حَوَاشِي الْأَحْشَاءِ وَجْدًا مُقِيمًا قَدْ وَجَدْنَا السَّلَامَ بَرْدًا سَلَامًا إِذْ وَجَدْنَا النَّوَى عَذَابًا أَلِيمًا وَثَبَتَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 أَنِلْنِي بِالَّذِي اسْتَقْرَضْتَ خَطًّا وَأَشْهِدْ مَعْشَرًا قَدْ شَاهَدُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَّاقُ الْبَرَايَا عَنَتْ لِجَلَالِ هَيْبَتِهِ الْوُجُوهُ يَقُولُ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ أَنَّ تَضْمِينَ الْقُرْآنِ فِي الشِّعْرِ مَكْرُوهٌ وَأَئِمَّةُ الْبَيَانِ جَوَّزُوهُ وَجَعَلُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ وَسَمَّاهُ الْقُدَمَاءُ تَضْمِينًا وَالْمُتَأَخِّرُونَ اقْتِبَاسًا وَسَمَّوْا مَا كَانَ مِنْ شِعْرٍ تَضْمِينًا مَسْأَلَةٌ: يُكْرَهُ ضَرْبُ الأمثال بالقرآن يُكْرَهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ بِالْقُرْآنِ نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِمَادُ النِّيهِيُّ صَاحِبُ الْبَغَوِيِّ كَمَا وَجَدْتُهُ فِي رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِخَطِّهِ. وَفَى كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِأَبِي عُبَيْدٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتْلُوَ الْآيَةَ عِنْدَ شَيْءٍ يَعْرِضُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. قَالَ: أَبُو عُبَيْدٍ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُرِيدُ لِقَاءَ صَاحِبِهِ أَوْ يَهُمُّ بِحَاجَتِهِ فَيَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَيَقُولُ كَالْمَازِحِ: {جئت على قدر يا موسى} فَهَذَا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ لَا تُنَاظِرْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا بِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ لَا تَجْعَلْ لَهُمَا نَظِيرًا مِنَ الْقَوْلِ وَلَا الْفِعْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 تنبيه لا يجوز تعدي أمثلة القرآن لَا يَجُوزُ تَعَدِّي أَمْثِلَةِ الْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ أُنْكِرَ عَلَى الْحَرِيرِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي مَقَامَتِهِ الْخَامِسَةَ عشرة فأدخلني بيتا أحرج من التابوت وأوهى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَأَيُّ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ مَعْنًى أَكَّدَهُ اللَّهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ حَيْثُ قال {وإن أوهن البيوت لبيت الْعَنْكَبُوتِ} فَأَدْخَلَ إِنَّ وَبَنَى أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَبَنَاهُ مِنَ الْوَهْنِ وَأَضَافَهُ إِلَى الْجَمْعِ وَعَرَّفَ الْجَمْعَ بِاللَّامِ وَأَتَى فِي خَبَرِ إِنَّ بِاللَّامِ وَقَدْ قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} وَكَانَ اللَّائِقُ بِالْحَرِيرِيِّ أَلَّا يَتَجَاوَزَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ وَمَا بَعْدَ تَمْثِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلٌ وَقَوْلُ اللَّهِ أَقْوَمُ قِيلٍ وَأَوْضَحُ سَبِيلٍ وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مثلا ما بعوضة} وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثَالًا لِمَا دُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوًى وَصَبَابَةٍ عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ خَالِدُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الخياط} فَقَدْ جَعَلَ وُلُوجَ الْجَمَلِ فِي السَّمِّ غَايَةً لِنَفْيِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَتِلْكَ غَايَةٌ لَا تُوجَدُ فَلَا يَزَالُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مَنْفِيًّا وَهَذَا الشَّاعِرُ وَصَفَ جِسْمَهُ بِالنُّحُولِ بِمَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ وَمِنْ هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 جَرَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ سُرَيْجٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لَهُ أَنْتَ تَقُولُ بِالظَّاهِرِ وَتُنْكِرُ الْقِيَاسَ فَمَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة شرا يره} من يَعْمَلْ مِثْقَالَ نِصْفِ ذَرَّةٍ مَا حُكْمُهُ؟ فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ طَوِيلًا وَقَالَ أَبْلِعْنِي رِيقِي قَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ أَبْلَعْتُكَ دِجْلَةَ قَالَ أَنْظِرْنِي سَاعَةً قَالَ أَنْظَرْتُكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَافْتَرَقَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ وَقَالَ: بَعْضُهُمْ وَهَذَا مِنْ مُغَالَطَاتِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَعَدَمِ تَصَوُّرِ ابْنِ دَاوُدَ لِأَنَّ الذَّرَّةَ لَيْسَ لَهَا أَبْعَاضٌ فَتُمَثَّلَ بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مثقال ذرة} فذكر سبحانه مالا يُتَخَيَّلُ فِي الْوَهْمِ أَجْزَاؤُهُ وَلَا يُدْرَكُ تَفَرُّقُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 النَّوْعُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ الْكَائِنَةِ فِيهِ وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَمُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ وَأَمْثَالٍ فَاعْمَلُوا بِالْحَلَالِ وَاجْتَنِبُوا الْحَرَامَ وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ". وَقَدْ عَدَّهُ الشَّافِعِيُّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ فَقَالَ ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَا ضَرَبَ فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ الدَّوَالِّ عَلَى طاعته المثبتة لاجتناب معصيته وترك الغفلة عن الحفظ والازدياد من نوافل الفضل وقد صنف فيه من المتقدمين الحسن بْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُ وَحَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْأَغْمَضِ إِلَى الْأَظْهَرِ وَهُوَ قِسْمَانِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ وَكَامِنٌ وَهُوَ الَّذِي لَا ذِكْرَ لِلْمَثَلِ فِيهِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَمْثَالِ وَقَسَّمَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرَابَاذِيُّ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا إِخْرَاجُ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْحِسُّ إِلَى مَا يَقَعُ عليه وثانيها إخراج ما لا يعلم بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ إِلَى مَا يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ وَثَالِثُهَا إِخْرَاجُ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ إِلَى ما جرت به العادة ورابعها إخراج مالا قُوَّةَ لَهُ مِنَ الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قوة وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ التَّذْكِيرُ وَالْوَعْظُ وَالْحَثُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وَالزَّجْرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالتَّقْرِيرُ وَتَرْتِيبُ الْمُرَادِ لِلْعَقْلِ وَتَصْوِيرُهُ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ بِحَيْثُ يَكُونُ نِسْبَتُهُ لِلْفِعْلِ كَنِسْبَةِ الْمَحْسُوسِ إِلَى الْحِسِّ وَتَأْتِي أَمْثَالُ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ تَفَاوُتِ الْأَجْرِ وَعَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَعَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَعَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ أو تحقيره وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر قال تعالى: {وضربنا لكم الأمثال} فَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ لَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ من كل مثل} وَقَالَ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلا العالمون} وَالْأَمْثَالُ مَقَادِيرُ الْأَفْعَالِ وَالْمُتَمَثِّلُ كَالصَّانِعِ الَّذِي يُقَدِّرُ صناعته كَالْخَيَّاطِ يُقَدِّرُ الثَّوْبَ عَلَى قَامَةِ الْمَخِيطِ ثُمَّ يفريه ثم يقطع وكل شيء به قَالَبٌ وَمِقْدَارٌ وَقَالَبُ الْكَلَامِ وَمِقْدَارُهُ الْأَمْثَالُ وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: سُمِّيَ مَثَلًا لِأَنَّهُ مَاثِلٌ بِخَاطِرِ الْإِنْسَانِ أَبَدًا أَيْ شَاخِصٌ فَيَتَأَسَّى بِهِ وَيَتَّعِظُ وَيَخْشَى وَيَرْجُو وَالشَّاخِصُ الْمُنْتَصِبُ وَقَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الصِّفَةِ كقوله تعالى: {ولله المثل الأعلى} أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَهُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المتقون} أَيْ صِفَتُهَا وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعْلِيمُ الْبَيَانِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَالْمَثَلُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنْ قُلْتَ: لِمَاذَا كَانَ الْمَثَلُ عَوْنًا عَلَى الْبَيَانِ وَحَاصِلُهُ قِيَاسُ مَعْنًى بِشَيْءٍ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ الْمَقِيسَ فَحَقُّهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ شَبِيهِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَمْ يُحْدِثِ التَّشْبِيهُ عنده معرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحِكَمَ وَالْأَمْثَالَ تُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ تَصَوُّرَ الْأَشْخَاصِ فَإِنَّ الْأَشْخَاصَ وَالْأَعْيَانَ أَثْبَتُ فِي الْأَذْهَانِ لِاسْتِعَانَةِ الذِّهْنِ فِيهَا بِالْحَوَاسِّ بِخِلَافِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فَإِنَّهَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْحِسِّ وَلِذَلِكَ دَقَّتْ وَلَا يَنْتَظِمُ مَقْصُودُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ مُجَرَّبًا مُسَلَّمًا عِنْدَ السَّامِعِ وَفِي ضرب الأمثال من تقرير المقصود مالا يَخْفَى إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ وَالشَّاهِدِ بِالْغَائِبِ فَالْمُرَغَّبُ فِي الْإِيمَانِ مَثَلًا إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالنُّورِ تَأَكَّدَ فِي قَلْبِهِ الْمَقْصُودُ وَالْمُزَهَّدُ فِي الْكُفْرِ إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ تَأَكَّدَ قُبْحُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِيهِ أَيْضًا تَبْكِيتُ الْخَصْمِ وَقَدْ أَكْثَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَفَى سَائِرِ كُتُبِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ وَفِي سُوَرِ الْإِنْجِيلِ سُورَةُ الْأَمْثَالِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّمْثِيلُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِكَشْفِ الْمَعَانِي وَإِدْنَاءِ الْمُتَوَهَّمِ مِنَ الْمُشَاهَدِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَمَثَّلُ لَهُ عَظِيمًا كَانَ الْمُتَمَثَّلُ بِهِ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا كَانَ الْمُتَمَثَّلُ بِهِ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْعِظَمُ وَالْحَقَارَةُ فِي الْمَضْرُوبِ بِهِ الْمَثَلُ إِلَّا بِأَمْرٍ اسْتَدْعَتْهُ حَالُ الْمُمَثَّلِ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ وَاضِحًا جَلِيًّا تُمُثِّلَ لَهُ بِالضِّيَاءِ وَالنُّورِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَمَّا كَانَ بِضِدِّهِ تُمُثِّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ وَكَذَلِكَ جُعِلَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ مَثَلًا فِي الوهن والضعف وَالْمَثَلُ هُوَ الْمُسْتَغْرَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وَلَمَّا كَانَ الْمَثَلُ السَّائِرُ فِيهِ غَرَابَةٌ اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْمَثَلِ لِلْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْقِصَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 أَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْحَالِ فَكَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي استوقد نارا} أَيْ حَالُهُمُ الْعَجِيبُ الشَّأْنِ كَحَالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْوَصْفِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ وَكَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ في التوراة ومثلهم في الأنجيل} وَكَقَوْلِهِ: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فتركه صلدا} وقوله: {كمثل العنكبوت اتخذت بيتا} وقوله سبحانه: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْقِصَّةِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ التي وعد المتقون} أَيْ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ قِصَّةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةُ ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ عَجَائِبِهَا لَا يُقَالُ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ تَدَاخُلًا فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ هِيَ وَصْفُهُ وَوَصْفُهُ هُوَ حَالُهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْوَصْفُ يُشْعِرُ ذِكْرُهُ بِالْأُمُورِ الثَّابِتَةِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ قَارَبَهَا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ لِلشَّيْءِ وَعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ وَأَمَّا الْحَالُ فَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الشَّخْصُ مِمَّا هُوَ غَيْرُ ذَاتِيٍّ لَهُ وَلَا لَازِمٍ فَتَغَايَرَا وَإِنْ أُطْلِقَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَثَلًا لَهُ فِي الْجِرْمِ وَقَدْ يَكُونُ مَا تَعَلَّقُهُ النَّفْسُ وَيُتَوَهَّمُ مِنَ الشَّيْءِ مَثَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} معناه أن الذي يتحصل في النفس النَّاظِرِ فِي أَمْرِهِمْ كَالَّذِي يَتَحَصَّلُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَوْقِدِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {مثل الجنة} وقوله: {ليس كمثله شيء} لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ وَنَفْيِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ لَيْسَ يُمَاثِلُهُ فيه شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وَذَلِكَ الْمُتَحَصَّلُ هُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ تعالى: {ولله المثل الأعلى} وَقَدْ جَاءَ: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فُفِسِّرَ بِجِهَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وقد خلت من قبلهم المثلات} هِيَ الْأَمْثَالُ وَقِيلَ الْعُقُوبَاتُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَثَلُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ أَيِ النَّظِيرِ يُقَالُ مَثَلٌ وَمِثْلٌ وَمَثِيلٌ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ ثُمَّ قَالَ وَيُسْتَعَارُ لِلْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْقِصَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَثَلَ بِفَتْحَتَيْنِ الصِّفَةُ كقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} وكذا: {مثل الجنة} وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْغَرَابَةِ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِكَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ بِمَعْنًى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ الشَّبَهُ وَإِلَّا فَالْمُحَقِّقُونَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَحْسُوسِ وَبِفَتْحِهَا عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فَالْإِنْسَانُ مُخَالِفٌ لِلْأَسَدِ فِي صُورَتِهِ مُشْبِهٌ لَهُ فِي جَرَاءَتِهِ وَحِدَّتِهِ فَيُقَالُ لِلشُّجَاعِ أَسَدٌ أَيْ يُشْبِهُ الْأَسَدَ فِي الْجُرْأَةِ وَلِذَلِكَ يُخَالِفُ الْإِنْسَانُ الْغَيْثَ فِي صُورَتِهِ وَالْكَرِيمُ مِنَ الْإِنْسَانِ يُشَابِهُهُ فِي عُمُومِ مَنْفَعَتِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ لَوْ كَانَ الْمَثَلُ وَالْمِثْلُ سِيَّانِ لَلَزِمَ التنافي بين قوله: {ليس كمثله شيء} وبين قوله: {ولله المثل الأعلى} فَإِنَّ الْأُولَى نَافِيَةٌ لَهُ وَالثَّانِيَةَ مُثْبِتَةٌ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وَفَرَّقَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمِثْلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلشَّيْءِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَثَلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَقَالَ حَازِمٌ فِي كِتَابِ مِنْهَاجُ الْبُلَغَاءِ وَأَمَّا الْحِكَمُ وَالْأَمْثَالُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِيَارُ فِيهَا بِجَرْيِ الْأُمُورِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِيهَا وَإِمَّا بِزَوَالِهَا فِي وَقْتٍ عَنِ الْمُعْتَادِ عَنْ جِهَةِ الْغَرَابَةِ أَوِ النُّدُورِ فَقَطْ لِتُوَطَّنَ النَّفْسُ بِذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ إِذْ لَا يَحْسُنُ مِنْهَا التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ وَلِتَحْذَرَ مَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَيَحْسُنُ بِهَا ذَلِكَ وَلِتَرْغَبَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُرْغَبَ فِيهِ وَتَرْهَبَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ تَرْهَبَهُ وَلِيَقْرُبَ عِنْدَهَا مَا تَسْتَبْعِدُهُ وَيَبْعُدَ لديها ما تستقر به وَلِيُبَيَّنَ لَهَا أَسْبَابُ الْأُمُورِ وَجِهَاتُ الِاتِّفَاقَاتِ الْبَعِيدَةِ الِاتِّفَاقِ بِهَا فَهَذِهِ قَوَانِينُ الْأَحْكَامِ وَالْأَمْثَالِ قَلَّمَا يَشِذُّ عَنْهَا مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا شَيْءٌ فَمِنْهُ قَوْلُهُ: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} وقوله: و {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وبرق} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بعوضة فما فوقها} وقوله مثل {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كمثل العنكبوت اتخذت بيتا} وقوله: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} وقوله: {ضرب الله مثلا للذين كفروا} إلى قوله: {ومريم ابنت عمران} الآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وقوله: {كمثل صفوان عليه تراب} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يجده شيئا} ثم قال: {أو كظلمات في بحر} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غزلها من بعد قوة أنكاثا} فهذه أمثال قصار وطوال مقتضية مِنْ كَلَامِ الْكَشَّافِ فَإِنْ قُلْتَ: فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ تَشْبِيهُ أَشْيَاءَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمُشَبَّهَاتِ وَهَلَّا صَرَّحَ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تتذكرون} قُلْتُ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا فَقَدْ جَاءَ مَطْوِيًّا ذَكَرَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شرابه وهذا ملح أجاج} وَكَقَوْلِهِ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورجلا سلما لرجل هل يستويان} وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُقَرِّبَةِ لَا يُتَكَلَّفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْءٌ بِقَدْرِ شَبَهِهِ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَأْخُذُ أَشْيَاءَ فُرَادَى مَعْزُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ تُشَبِّهُهَا بِنَظَائِرِهَا كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَدْ تُشَبِّهُ أَشْيَاءَ قَدْ تَضَامَّتْ وَتَلَاحَقَتْ حَتَّى عَادَتْ شَيْئًا وَاحِدًا بِأُخْرَى مِثْلِهَا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} فَإِنَّ الْغَرَضَ تَشْبِيهُ حَالِ الْيَهُودِ فِي جَهْلِهَا بِمَا مَعَهَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَآيَاتِهَا الْبَاهِرَةِ بِحَالِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ أَسْفَارَ الْحِكْمَةِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ حَمْلِهَا إِلَّا الثِّقَلُ وَالتَّعَبُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ من السماء} الْمُرَادُ قِلَّةُ ثَبَاتِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا كَقِلَّةِ بَقَاءِ الْخُضْرَةِ وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ مَثَلَيْنِ مَثَّلَهُ بِالْمَاءِ وَمَثَّلَهُ بِالنَّارِ فَمَثَّلَهُ بِالْمَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَبِالنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنَ النُّورِ وَالْبَيَانِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ رُوحًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَسَمَّاهُ نُورًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِنَارَةِ فَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ قَدْ مَثَّلَهُ بِالْمَاءِ فَقَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الْآيَةَ فَضَرَبَ اللَّهُ الْمَاءَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فَتَسِيلُ الْأَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا كَذَلِكَ مَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَتَأْخُذُهُ الْقُلُوبُ كُلُّ قَلْبٍ بِقَدْرِهِ وَالسَّيْلُ يَحْتَمِلُ زَبَدًا رَابِيًا كَذَلِكَ مَا فِي الْقُلُوبِ يَحْتَمِلُ شُبَهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ ثُمَّ قَالَ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ متاع زبد مثله} وَهَذَا الْمَثَلُ بِالنَّارِ الَّتِي تُوقَدُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ فَيَخْتَلِطُ بِذَلِكَ زَبَدٌ أَيْضًا كَالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو السَّيْلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الناس فيمكث في الأرض} كَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ يَمْكُثُ فِي الْقُلُوبِ بِالتَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالٍ ضَرَبَهَا اللَّهُ فِي مَثَلٍ وَاحِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 يَقُولُ كَمَا اضْمَحَلَّ هَذَا الزَّبَدُ فَصَارَ جُفَاءً لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا تُرْجَى بَرَكَتُهُ وَكَذَلِكَ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ عَنْ أَهْلِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً وَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ فَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلَيْنِ مَثَلًا بِالنَّارِ وَمَثَلًا بِالْمَطَرِ فَقَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي استوقد نارا} الْآيَةَ يُقَالُ أَضَاءَ الشَّيْءُ وَأَضَاءَهُ غَيْرُهُ فَيُسْتَعْمَلُ لازما متعديا فقوله: {أضاءت ما حوله} هُوَ مُتَعَدٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ تُضِيءَ النَّارُ مَا حَوْلَ مَنْ يُرِيدُهَا حَتَّى يَرَاهَا وَفِي قوله في البرق: {كلما أضاء لهم} ذِكْرُ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْبَرْقَ بِنَفْسِهِ يُضِيءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا أَضَاءَ الْبَرْقُ سَارَ وَقَدْ لَا يُضِيءُ مَا حَوْلَ الْإِنْسَانِ إِذْ يَكُونُ الْبَرْقُ وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْمُنَافِقِينَ كَالَّذِي أَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ ثُمَّ ذَهَبَ ضَوْءُهَا وَلَمْ يَقُلِ انْطَفَأَتْ بَلْ قَالَ ذهب الله بنورهم وَقَدْ يَبْقَى مَعَ ذَهَابِ النُّورِ حَرَارَتُهَا فَتَضُرُّ وَهَذَا الْمَثَلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُنَافِقَ حَصَلَ لَهُ نور ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 المجلد الثاني النوع الثاني والثلاثون: معرفة أحكامه ... بسم الله الرحمن الرحيم النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ وَقَدِ اعْتَنَى بذلك الأئمة وَأَفْرَدُوهُ، وَأَوَّلُهُمُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ تَلَاهُ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَبَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ وَابْنُ بُكَيْرٍ وَمَكِّيٌّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الفرس وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَتَبِعَهُمُ الرَّازِيُّ وَلَعَلَّ مُرَادَهُمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فَإِنَّ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ وَغَيْرِهَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا كَثِيرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فليطالع كتاب الإمام الشيخ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ؛ وَهُوَ كَثِيرٌ وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي: مَا يؤخذ بطريق الاستنباط. ثم هو على قسمين: أَحَدُهُمَا: مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ غَيْرِ ضَمِيمَةٍ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى كَاسْتِنْبَاطِ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ ما ملكت أيمانهم} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هم العادون} وَاسْتِنْبَاطِ صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {امرأت فرعون} {وامرأته حمالة الحطب} وَنَحْوِهِ. وَاسْتِنْبَاطِهِ عِتْقَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يتخذ ولدا إن إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتي الرحمن عبدا} فَجَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ مُنَافِيَةً لِلْوِلَادَةِ حَيْثُ ذُكِرَتْ فِي مُقَابِلَتِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ. وَاسْتِنْبَاطِهِ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} وَاسْتِنْبَاطِهِ صِحَّةَ صَوْمِ الْجُنُبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فالآن باشروهن} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود من الفجر} فدل على جواز الو قاع فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْغُسْلِ إِلَى النَّهَارِ؛ وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْوَطْءُ إلى آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ الغسل فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وَالثَّانِي: مَا يُسْتَنْبَطُ مَعَ ضَمِيمَةِ آيَةٍ أُخْرَى، كَاسْتِنْبَاطِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله: {وفصاله في عامين} ؛ وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الرِّضَاعَ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ ثَلَاثُونَ شَهْرًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِشَيْئَيْنِ مُدَّةً وَاحِدَةً فَانْصَرَفَتِ الْمُدَّةُ بِكَمَالِهَا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمَّا قَامَ النَّصُّ فِي أَحَدِهِمَا بقي الثاني على أصله، ومثل ذلك بالأجل الواحد للدينين، فَإِنَّهُ مَضْرُوبٌ بِكَمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا فإنه لابد مِنِ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْقَى فِيهَا الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يتغير الغذاء، فَاعْتُبِرَتْ مُدَّةً يَعْتَادُ الصَّبِيُّ فِيهَا غِذَاءً طَبِيعِيًّا غَيْرَ اللَّبَنِ، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ قَصِيرَةٌ، فَقُدِّمَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ فِي مقام الامتنان ذِكْرَ الْأَكْثَرِ الْمُعْتَادِ، لَا الْأَقَلِّ النَّادِرِ كَمَا فِي جَانِبِ الْفِصَالِ. قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَلَدُ لَا يَعِيشُ غَالِبًا إِذَا وُضِعَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَانَتْ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُخَاطَبٍ، فَكَانَ ذِكْرُهُ أَدْخَلَ فِي بَابِ الْمُنَاسَبَةِ، بِخِلَافِ الْفِصَالِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ فِيهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ الْوَلَدُ بِدُونِ ارْتِضَاعٍ مِنَ الْأُمِّ؛ وَلِهَذَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَمَلَتْهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا مَحَالَةَ إِنْ لَمْ تَحْمِلْهُ أَكْثَرَ. وَمِثْلُهُ اسْتِنْبَاطُ الأصوليين أن تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: {أفعصيت أمري} مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ له نار جهنم} ، وكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 اسْتِنْبَاطُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يشاء الله} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار} فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْتَجَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ. فائدة: في ضرورة معرفة المفسر قواعد أصول الفقه ولا بد مِنْ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْآيَاتِ. فَيُسْتَفَادُ عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ من قرة أعين} . وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا} . وَفِي الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أحدا} ، {وإن أحد من المشركين استجارك} . وَفِي النَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحد} . وفي سياق الإثبات بعموم القلة المقتضى من قوله: {علمت نفس ما أحضرت} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وقوله: {ونفس وما سواها} . وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهَا "كُلٌّ" نَحْوُ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نفس} وَيُسْتَفَادُ عُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: {إن الإنسان لفي خسر} {وسيعلم الكفار} {ويقول الكافر} . وَعُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ ربها وكتبه} وقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} ؛والمراد جميع الكتب التي اقتضت فِيهَا أَعْمَالُهُمْ. وَعُمُومُ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ فِي قوله: {وإذا الرسل أقتت} وقوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} ، وقوله: {إن المسلمين والمسلمات} إِلَى آخِرِهَا. وَالشَّرْطُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا ولا هضما} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {أينما تكونوا يدرككم الموت} وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} وقوله: {وإذا وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عليكم} . هَذَا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ طَلَبًا مِثْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَمْ يَلْزِمِ الْعُمُومُ. وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَأَكْثَرُ مَوَارِدِهِ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} وقوله: {وإذا مروا بهم يتغامزون} وقوله: {نهم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله يستكبرون} . وَقَدْ لَا يَعُمُّ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم} . وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ لِلْوُجُوبِ مِنْ ذَمِّهِ لِمَنْ خَالَفَهُ وَتَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ الْعِقَابَ الْعَاجِلَ أَوِ الْآجِلَ عَلَى فِعْلِهِ. وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ النهي مِنْ ذَمِّهِ لِمَنِ ارْتَكَبَهُ وَتَسْمِيَتِهِ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ العقاب على فعله. ويستفاد الوجوب بالأمر بالتصريح بِالْإِيجَابِ، وَالْفَرْضِ، وَالْكَتْبِ، وَلَفْظَةِ "عَلَى"وَلَفْظَةِ "حَقٌّ عَلَى الْعِبَادِ" وَ"عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" وَتَرْتِيبِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالتَّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُسْتَفَادُ التَّحْرِيمُ مِنَ النَّهْيِ وَالتَّصْرِيحِ بِالتَّحْرِيمِ، وَالْحَظْرِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَذَمِّ الْفَاعِلِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَقَوْلِهِ "لَا يَنْبَغِي" فَإِنَّهَا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ لِلْمَنْعِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَلَفْظَةِ "مَا كَانَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا" وَ"لَمْ يَكُنْ لَهُمْ" وَتَرْتِيبِ الْحَدِّ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الْفِعْلِ، وَلَفْظَةِ "لَا يَحِلُّ" وَ"لَا يَصْلُحُ" ووصف الفعل بأنه فساد، أو من تزيين الشيطان وعمله، وأن الله لَا يُحِبُّهُ، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَلَا يُزَكِّي فَاعِلَهُ، وَلَا يُكَلِّمُهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنَ الْإِذْنِ وَالتَّخْيِيرِ، وَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَنَفْيِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ وَالْإِثْمِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ، وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حرم الشيء، والإخبار بأنه خلق لَنَا وَجَعَلَهُ لَنَا وَامْتِنَانِهِ عَلَيْنَا بِهِ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِ مَنْ قَبْلَنَا لَهُ غَيْرَ ذَامٍّ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِإِخْبَارِهِ مَدْحٌ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِهِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا. فَصْلٌ وَيُسْتَفَادُ التَّعْلِيلُ مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ، {الزانية والزاني فاجلدوا} ، فَكَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْجَلْدِ وَالْقَطْعِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا عِلَّةً، وَأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ لِأَجْلِهِمَا مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ النطق لم يتعرض لذلك؛ بل يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} أي: لبرهم، {وإن الفجار لفي جحيم} أَيْ: لِفُجُورِهِمْ وَكَذَا كُلُّ كَلَامٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ فِي حَقِّ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَحْنَ الْخِطَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 فَصْلٌ وَكُلُّ فِعْلٍ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ مَدَحَهُ أَوْ مَدَحَ فَاعِلَهُ لِأَجْلِهِ، أَوْ أَحَبَّهُ، أَوْ أَحَبَّ فَاعِلَهُ، أَوْ رَضِيَ بِهِ أَوْ رَضِيَ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِالطَّيِّبِ أَوِ الْبَرَكَةِ أَوِ الْحَسَنِ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّتِهِ، أَوْ لِثَوَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِذِكْرِهِ لِعَبْدِهِ، أَوْ لِشُكْرِهِ لَهُ، أَوْ لهدايته إياه، أو لإرضاء فَاعِلَهُ، أَوْ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، أَوْ لِقَبُولِهِ، أَوْ لِنُصْرَةِ فَاعِلِهِ، أَوْ بِشَارَةِ فَاعِلِهِ أَوْ وَصْفِ فَاعِلِهِ بِالطَّيِّبِ، أَوْ وَصْفِ الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا، أَوْ نَفْيِ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَعْدِهِ بِالْأَمْنِ، أَوْ نَصْبِهِ سَبَبًا لِوِلَايَتِهِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ بِحُصُولِهِ، أَوْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً، أَوْ أَقْسَمَ بِهِ وَبِفَاعِلِهِ؛ كَالْقَسَمِ بِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَإِغَارَتِهَا، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ. فَصْلٌ وَكُلُّ فِعْلٍ طَلَبَ الشَّرْعُ تَرْكَهُ، أَوْ ذَمَّ فاعله، عَتَبَ عَلَيْهِ أَوْ لَعَنَهُ، أَوْ مَقَتَ فَاعِلَهُ، أَوْ نَفَى مَحَبَّتَهُ إِيَّاهُ أَوْ مَحَبَّةَ فَاعِلِهِ، أَوْ نَفَى الرِّضَا بِهِ أَوِ الرِّضَا عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَبَّهَ فَاعِلَهُ بِالْبَهَائِمِ أَوْ بِالشَّيَاطِينِ، أَوْ جَعَلَهُ مَانِعًا مِنَ الْهُدَى أَوْ مِنَ الْقَبُولِ، أَوْ وَصَفَهُ بِسُوءٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوِ اسْتَعَاذَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ، أَوْ أَبْغَضُوهُ، أَوْ جُعِلَ سَبَبًا لِنَفْيِ الْفَلَاحِ، أَوْ لِعَذَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ لِذَمٍّ أَوْ لَوْمٍ، أَوْ ضَلَالَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، أَوْ وَصْفٍ بِخُبْثٍ أَوْ رِجْسٍ أَوْ نَجِسٍ، أَوْ بِكَوْنِهِ فِسْقًا أَوْ إِثْمًا، أو سببا لإثم أو رجس أَوْ غَضَبٍ، أَوْ زَوَالِ نِعْمَةٍ، أَوْ حُلُولِ نِقْمَةٍ، أَوْ حَدٍّ مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الْحُدُودِ أَوْ قَسْوَةٍ أَوْ خِزْيٍ أَوِ امْتِهَانِ نَفْسٍ، أَوْ لِعَدَاوَةِ اللَّهِ وَمُحَارَبَتِهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، أَوْ سُخْرِيَّتِهِ، أَوْ جَعَلَهُ الرَّبُّ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْحِلْمِ أَوْ بِالصَّفْحِ عَنْهُ، أَوْ دَعَا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، أَوْ وَصَفَ فَاعِلَهُ بِخُبْثٍ أَوِ احْتِقَارٍ، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ، أَوْ تَوَلِّي الشَّيْطَانِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصْفٍ بِصِفَةِ ذَمٍّ؛ مِثْلِ كَوْنِهِ ظُلْمًا أَوْ بَغْيًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ إِثْمًا، أَوْ تَبَرَّأَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ أَوْ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَكَوْا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ جَاهَرُوا فَاعِلَهُ بِالْعَدَاوَةِ، أَوْ نُصِبَ سَبَبًا لِخَيْبَةِ فَاعِلِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حِرْمَانٌ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ وُصِفَ فَاعِلُهُ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، أَوْ أَعْلَمَ فَاعِلَهُ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ حَمَّلَ فَاعِلَهُ إِثْمَ غَيْرِهِ، أَوْ قِيلَ فِيهِ "لَا ينبغي هذا" و"لَا يَصْلُحُ" أَوْ أُمِرَ بِالتَّقْوَى عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ، أَوْ أُمِرَ بِفِعْلٍ يُضَادُّهُ، أَوْ هُجِرَ فاعله، أو يلاعن فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ وُصِفَ صَاحِبُهُ بِالضَّلَالَةِ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، أَوْ قُرِنَ بِمُحَرَّمٍ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، أَوْ جَعَلَ اجْتِنَابَهُ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، أَوْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ قِيلَ لِفَاعِلِهِ: "هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ" أَوْ نَهَى الْأَنْبِيَاءُ عَنِ الدُّعَاءِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْعَادًا وَطَرْدًا، أَوْ لَفْظَةِ "قُتِلَ مَنْ فَعَلَهُ" أَوْ "قَاتَلَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَهُ" أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يُزَكِّيهِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَهُ، أَوْ لَا يَهْدِي كَيْدَهُ، أَوْ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُفْلِحُ، أو لا يكون في الْقِيَامَةِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَا مِنَ الشُّفَعَاءِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ نَبَّهَ عَلَى وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ فَاعِلِهِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ قُيِّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، أَوْ جَعَلَ الْفِعْلَ سَبَبًا لِإِزَاغَةِ اللَّهِ قَلْبَ فَاعِلِهِ، أَوْ صَرْفِهِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَفَهْمِ الْآيَةِ، وَسُؤَالُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 سبحانه عن علة الفعل نَحْوُ: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمن} ، {لم تلبسون الحق بالباطل} ، {ما منعك أن تسجد} ، {لم تقولون ما لا تفعلون} ، مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ؛ فإذا قرن بِهِ جَوَابٌ كَانَ بِحَسْبِ جَوَابِهِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَطْرَدُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَرَاهَةِ. وأما لفظ "يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"، وَقَوْلُهُ: {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَرَّمِ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ. وَأَمَّا لَفْظُ "أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُ" فَالْمُحَقَّقُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ كَقَوْلِهِ: "أَمَّا أنا فلا آكل متكئا"، وأما لفظ "مَا يَكُونُ لَكَ" وَ"مَا يَكُونُ لَنَا" فَاطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمُحَرَّمِ، نَحْوُ: {فَمَا يَكُونُ لك أن تتكبر فيها} ، {وما يكون لنا أن نعود فيها} ، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحق} . فَصْلٌ وَتُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ الْإِحْلَالِ، وَرَفْعِ الْجُنَاحِ، وَالْإِذْنِ وَالْعَفْوِ وَ، "إِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ" وَ"إِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ" وَمِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الْأَفْعَالِ؛ نَحْوُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} ، {وبالنجم هم يهتدون} وَمِنَ السُّكُوتِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَمِنَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ وَهُوَ نَوْعَانِ: إِقْرَارُ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِقْرَارُ رَسُولِهِ إِذَا عُلِمَ الْفِعْلُ، فَمِنْ إِقْرَارِ الرَّبِّ قَوْلُ جَابِرٍ: "كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ" وَمِنْ إِقْرَارِ رَسُولِهِ قَوْلُ حَسَّانَ: "كُنْتُ أَنْشُدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ". فَائِدَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} جَمَعَتْ أُصُولَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا، فَجَمَعَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ. فَائِدَةٌ تَقْدِيمُ الْعِتَابِ عَلَى الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فقد عاتب الله سبحانه فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ: فِي الْأَنْفَالِ، وَبَرَاءَةَ، وَالْأَحْزَابِ، وَالتَّحْرِيمِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وَعَبَسَ خِلَافًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ جَعَلَ الْعَتْبَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ. فَائِدَةٌ لَا يَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِمَمْنُوعٍ عَنْهُ؛ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ الِامْتِنَانُ إِلَى خَلْقِهِ لِلصَّبْرِ عَلَيْهِمْ فَائِدَةٌ التَّعَجُّبُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْفِعْلِ نَحْوِ: "عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ" وَ"تَعَجَّبَ رَبُّكَ مِنْ رَجُلٍ ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ إِلَى الصَّلَاةِ" وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ، وقوله: {بل عجبت ويسخرون} ، وقوله: {كيف تكفرون بالله} {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وفيكم رسوله} . وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ حُسْنِهِ، كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعند رسوله} . وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْمَنْعِ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ فِعْلُهُ كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 قَاعِدَةٌ: فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ إِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ صُيِّرَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَالضَّابِطُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ ثُمَّ وَرَدَ حُكْمٌ آخَرُ مُطْلَقًا نُظِرَ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ اشْتِرَاطِ اللَّهِ الْعَدَالَةَ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقِهِ الشَّهَادَةَ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ. وَمِنْهُ تَقْيِيدُ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصين بها أو دين} وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَانَ مَا أَطْلَقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ. وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَأَطْلَقَهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ، وَالْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ فِي وَصْفِ الرَّقَبَةِ. وَكَذَلِكَ تَقْيِيدُ الْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّيَمُّمِ. وَكَذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمله} فَأَطْلَقَ الْإِحْبَاطَ عَلَيْهِ وَعَلَّقَهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمُوَافَاةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {ومن يرتدد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حبطت أعمالهم} وقيد الرِّدَّةَ بِالْمَوْتِ عَلَيْهَا وَالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، فَوَجَبَ رَدُّ الْآيَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَيْهَا وَأَلَّا يُقْضَى بِإِحْبَاطِ الْأَعْمَالِ إِلَّا بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَرَّعَ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ. وَمِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْرِيمُ الدَّمِ وَتَقْيِيدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ. وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} وقال في موضع آخر: {منه} . وَقَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نؤته منها} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: نَحْنُ نَرَى مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ! قُلْنَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فَعَلَّقَ مَا يُرِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقوله: {ادعوني أستجب لكم} ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ. تَنْبِيهٌ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ: هَلْ هُوَ مَنْ وضع اللغة أو بالقياس على مذهبين، والأولون يقولون: الْعَرَبَ مِنْ مَذْهَبِهَا اسْتِحْبَابُ الْإِطْلَاقِ اكْتِفَاءً بِالْمُقَيَّدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَطَلَبًا لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَنِ اليمين وعن الشمال قعيد} . وَالْمُرَادُ "عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ" وَلَكِنْ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالِاتِّحَادِ الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالذَّاتِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ فَمَحْسُوسٌ تَعَدُّدُهَا، وَفِيهَا الشَّيْءُ وَنَقِيضُهُ، كَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّقَائِضِ الَّتِي لَا يُوصَفُ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ بِأَنَّهُ اشتمل عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: كَإِطْلَاقِ صَوْمِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقُيِّدَتْ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وبالتفريق في صوم التمتع، فلما تجاذب الْأَصْلَ تَرَكْنَاهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَأَمَّا إِذَا حُكِمَ فِي شَيْءٍ بِأُمُورٍ لَمْ يُحْكَمْ فِي شَيْءٍ آخَرَ يَنْقُضُ تِلْكَ الْأُمُورَ وَسُكِتَ فِيهِ عَنْ بَعْضِهَا فَلَا يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ، كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَذَكَرَ فِي التَّيَمُّمِ عُضْوَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ. وَمِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي إِبْدَالِ الطَّعَامِ عَنِ الصِّيَامِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ في قوله تعالى: {وأمهات نسائكم وربائبكم} أَنَّ اللَّامَ مُبْهَمَةٌ، وَعَنَوْا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّبَائِبِ خَاصَّةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 قَاعِدَةٌ: فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لَا يُسْتَدَلُّ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ تَقْيِيدُ عَدَمِ التَّعْمِيمِ؛ وَيُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّفْظُ بَيِّنٌ فِي مَقْصُودِهِ وَيُحْتَمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفضة} لَا يَصْلُحُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ في قليل الذهب والفضة وكثيره، وفي المتنوع مِنْهُمَا مِنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ مِنْهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي جُمْلَةِ الْمُتَوَعَّدِينَ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا! وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي تَرْكِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنَ الزَّكَاةِ مِنْهُمَا، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَجِبُ مِنَ الْحَقِّ فِيهِمَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} الْآيَةَ، الْقَصْدُ مِنْهَا مَدْحُ قَوْمٍ صَانُوا فُرُوجَهُمْ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَلَمْ يُوَاقِعُوا بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ الْيَمِينِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ. ثُمَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ إِلَى ما قصد وتفصيله بقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 كَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} إلى قوله: {من الخيط الأسود} ، فلو تعلق متعلق بقوله: {وكلوا واشربوا} فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ أَوْ شُرْبِ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ لَكَانَ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَدْ غَفَلَ عَنْ أَنَّهَا لَمْ تَرِدْ مُبَيِّنَةً لِذَلِكَ، بَلْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ إِلَى الْفَجْرِ دَفْعًا لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَامَ، فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ إِبَاحَةَ مَا كَانَ مَحْظُورًا ثُمَّ أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ذوالمباشرة لا مَعْنَى إِبَانَةِ الْحُكْمِ فِيمَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالدَّمِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا لَا يُبْتَغَى مِنْهُ الْوَلَدُ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي الْعُمُومِ إِلَى الْمَعَانِي لَا لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ قَالَ الْقَفَّالُ وَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ أفاد علما كثيرا فصل الأحكام المستنبطة من تنبيه الخطاب ومما تستثمر مِنْهُ الْأَحْكَامُ تَنْبِيهُ الْخِطَابِ وَهُوَ إِمَّا فِي الطَّلَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَنَهْيُهُ عَنِ الْقَلِيلِ مُنَبِّهٌ عَلَى الْكَثِيرِ، وَقَوْلُهُ: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْرَاقِ وَالْإِتْلَافِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وإما في الخبر فإما أَنْ يَكُونَ بِالتَّنْبِيهِ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الرِّطْلَ وَالْقِنْطَارَ لَا يَضِيعُ لَكَ عِنْدَهُ. وَكَقَوْلِهِ: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} {ولا يظلمون نقيرا} {ولا يظلمون فتيلا} {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَقِيرًا أَوْ قِطْمِيرًا مَعَ قِلَّتِهِمَا فَهُوَ عَنْ مِلْكِ مَا فَوْقَهُمَا أَوْلَى وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْزُبْ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ فَهُوَ بِأَلَّا يَذْهَبَ عَنْهُ الشَّيْءُ الْجَلِيلُ الظَّاهِرُ أَوْلَى. وَإِمَّا بِالْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يؤده إليك} فَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَيْكَ الدِّينَارَ وَمَا تَحْتَهُ ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} فَهَذَا مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ فَدَلَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّكَ لَا تَأْمَنُهُ بِقِنْطَارٍ بِعَكْسِ الْأَوَّلِ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي فُرُشِ أهل الجنة: {بطائنها من إستبرق} وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْلَى مَا عِنْدَنَا هُوَ الْإِسْتَبْرَقُ الَّذِي هُوَ الْخَشِنُ مِنَ الدِّيبَاجِ فَإِذَا كَانَ بَطَائِنُ فُرُشِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوهَهَا فِي الْعُلُوِّ إِلَى غَايَةٍ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي شَرَابِ أَهْلِ الجنة: {ختامه مسك} وَإِنَّمَا يُرَى مِنَ الْكَأْسِ الْخِتَامُ وَأَعْلَى مَا عِنْدَنَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَهُوَ أَدْنَى شَرَابُ أَهْلِ الجنة فليتبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 اللبيب إذا كان الثفل الذي فيك الْمِسْكُ أَيْشِ يَكُونُ حَشْوُ الْكَأْسِ فَيَظْهَرُ فَضْلُ حَشْوِ الْكَأْسِ بِفَضْلِ الْخِتَامِ وَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ الخفي وقوله: {الذي باركنا حوله} فَنَبَّهَ عَلَى حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْبَدِيعَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ فَهْمُ الْمَعْنَى وَتَقْيِيدُهُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَمَا فِي آيَةِ التَّأْفِيفِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ لِاحْتِرَامِ الْوَالِدَيْنِ وَتَوْقِيرِهِمَا فَفَهِمْنَا مِنْهُ تَحْرِيمَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَلَوْ لَمْ يُفْهَمِ الْمَعْنَى لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ الْكَبِيرَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ اقْتُلْ قِرْنِي وَلَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَيَكُونُ قَصْدُهُ الْأَمْنَ عَنْ مُزَاحَمَتِهِ فِي الْمُلْكِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا ابْتَنَى الْفَهْمَ عَلَى تَخَيُّلِ الْمَعْنَى كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. قِيلَ مَا يَتَأَخَّرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمَا يَتَقَدَّمُ فَهْمُهُ عَلَى اللَّفْظِ وَيَقْتَرِنُ بِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ وَتَأَمُّلٍ فَإِنْ أَطْلَقَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ اسْمَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مُضَايَقَةَ فِي التسمية. فصل: في الحكم على الشيء مقيدا بصفة وَقَدْ يُحْكَمُ عَلَى الشَّيْءِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَا سُكِتَ عَنْهُ بِخِلَافِهِ وَقَدْ يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 مِثْلَهُ فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عدل منكم} وقوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وقوله: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ؛ فَاشْتَرَطَ أَوْلَادَ الصُّلْبِ تَنْبِيهًا عَلَى إِبَاحَةِ حَلَائِلِ أبناء الرَّضَاعِ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْحَلَائِلِ إِبَاحَةُ مَنْ وَطِئَهُ الْأَبْنَاءُ مِنَ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّوْعَانِ أَعَنِي الْمُخَالَفَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائهن ولا أبنائهن} الْآيَةَ، فِيهِ وُقُوعُ الْجُنَاحِ فِي إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِمَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْأَجَانِبِ وَلَمْ يَكُنْ فيه إبداؤها لِقَرَابَةِ الرَّضَاعِ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الصَّيْدِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قتل من النعم} فإن القتل إتلاف والإتلاف عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّعَمُّدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِذَا كَانَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مِثْلَهُ وَهَلَّا حُذِفَتِ الصِّفَةُ وَاقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: {ومن قتله منكم} ؟ قُلْنَا: لِتَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فَوَائِدُ: مِنْهَا اخْتِصَاصُهُ فِي جِنْسِهِ بِشَيْءٍ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ؛ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ-أَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 إلى قوله: {فينتقم الله منه} إِنَّ الْمُتَعَمِّدَ إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِقَامِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ. وَمِنْهَا مَا يُخَصُّ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ عَلَى سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تظلموا فيهن أنفسكم} فَخَصَّ النَّهْيَ عَنِ الظُّلْمِ فِيهِنَّ وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ تَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْأَشْهُرِ وَتَعْظِيمًا لِلْوِزْرِ فِيهَا. وَقَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الْآيَةَ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الرَّبِيبَةِ أَنَّهَا تكون في حجر أمها. ونحو: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الْآيَةَ خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالِاسْتِئْذَانِ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَبَذُّلُ الْبَدَنِ فِيهِنَّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِئْذَانَ فَيَجِبُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله} فالافتداء يجوز مع الأمر. وَقَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إن خفتم} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهان مقبوضة} فَجَرَى التَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ إِنَّمَا يُعْدَمُ غَالِبًا فِيهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الرَّهْنِ إِلَّا فِي السَّفَرِ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ جَدَلِهِ وَقَدْ أَفْرَدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّصْنِيفِ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ وَمَا مِنْ بُرْهَانٍ وَدَلَالَةٍ وَتَقْسِيمٍ وَتَحْدِيدِ شَيْءٍ مِنْ كُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ إِلَّا وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ نَطَقَ بِهِ لَكِنْ أَوْرَدَهُ تَعَالَى عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ دُونَ دَقَائِقِ طُرُقِ أَحْكَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِسَبَبِ مَا قاله: {وما وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ليبين لهم} . الْآيَةَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَائِلَ إِلَى دَقِيقِ الْمُحَاجَّةِ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِالْجَلِيلِ مِنَ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْهِمَ بِالْأَوْضَحِ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَتَخَطَّ إِلَى الْأَغْمَضِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْأَقَلُّونَ وَلَمْ يَكُنْ مُلْغِزًا فَأَخْرَجَ تَعَالَى مُخَاطَبَاتِهِ فِي مُحَاجَّةِ خَلْقِهِ فِي أَجَلِّ صُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَدَقِّ دَقِيقٍ لِتَفْهَمَ الْعَامَّةُ مِنْ جَلِيلِهَا مَا يُقْنِعُهُمْ وَيُلْزِمِهُمُ الْحُجَّةَ وَتَفْهَمُ الْخَوَاصُّ مِنْ أَثْنَائِهَا مَا يُوفَّى على ما أدركه فهم الخطباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وَعَلَى هَذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: "إِنَّ لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدًّا وَمَطْلَعًا" لَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَنْ كَانَ حَظُّهُ فِي الْعُلُومِ أَوْفَرَ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ وَلِذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ تَعَالَى حُجَّةً عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ أَتْبَعَهَا مَرَّةً بِإِضَافَتِهِ إِلَى أُولِي الْعَقْلِ وَمَرَّةً إِلَى السَّامِعِينَ وَمَرَّةً إِلَى الْمُفَكِّرِينَ وَمَرَّةً إِلَى الْمُتَذَكِّرِينَ تَنْبِيهًا أَنَّ بِكُلِّ قُوَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى يُمْكِنُ إِدْرَاكُ حَقِيقَتِهِ مِنْهَا وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لقوم يعقلون} وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ اسْتِنْبَاطُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ عَلَيْهِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهُوَ آيَةُ الْحُدُوثِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي احْتِجَاجِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السلام استدلاله بحدوث الأقل عَلَى وُجُودِ الْمُحْدِثِ وَالْحُكْمِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحُكْمِ النَّيِّرَاتِ الثَّلَاثِ وَهُوَ الْحُدُوثُ طَرْدًا لِلدَّلِيلِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مَدْلُولُهُ لِتَسَاوِيهَا فِي عِلَّةِ الْحُدُوثِ وَهِيَ الْجُسْمَانِيَّةُ وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ بِدَلَالَةِ التَّمَانُعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ لَكَانَ لَا يَجْرِي تَدْبِيرُهُمَا عَلَى نِظَامٍ وَلَا يَتَّسِقُ عَلَى إِحْكَامٍ وَلَكَانَ الْعَجْزُ يَلْحَقُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَ جِسْمٍ وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمَاتَتَهُ فَإِمَّا أَنْ تُنَفَّذَ إِرَادَتُهُمَا فَتَتَنَاقَضَ لِاسْتِحَالَةِ تجزؤ الْفِعْلُ إِنْ فُرِضَ الِاتِّفَاقُ أَوْ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ إِنْ فُرِضَ الِاخْتِلَافُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَإِمَّا لَا تُنَفَّذُ إِرَادَتُهُمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِمَا أَوْ لَا تُنَفَّذُ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِ وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ بِضُرُوبٍ أَحَدُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودون} {كما بدأنا أول خلق نعيده} {أفعيينا بالخلق الأول} . ثَانِيهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى نَحْوُ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يخلق مثلهم} {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} . ثَالِثُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ إِنْزَالُ الْمَطَرِ غَالِبًا نَحْوُ: {وَيُحْيِي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} . رَابِعُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِخْرَاجِ النَّارِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ لَمَّا جَاءَ بِعِظَامٍ بَالِيَةٍ فَفَتَّهَا وَذَرَّهَا في الهواء وقال: يا محمد من يحي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خلق عليم} . فَعَلَّمَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِرَدِّ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى إِلَى الْأَوْلَى وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ الْحُدُوثِ ثُمَّ زَادَ فِي الْحِجَاجِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ من الشجر الأخضر نارا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي رَدِّ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ الْأَعْرَاضِ عَلَيْهِمَا خَامِسُهَا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} . وَتَقْرِيرُهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّيِّدِ: إِنَّ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ لَا يُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهِ وَالْحَقُّ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَاهُنَا حَقِيقَةً مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ وَكَانَ لَا سَبِيلَ لَنَا فِي حَيَاتِنَا هَذِهِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وُقُوفًا يُوجِبُ الِائْتِلَافَ وَيَرْفَعُ عَنَّا الِاخْتِلَافَ إِذْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَرْكُوزًا فِي فِطَرِنَا وَكَانَ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُ وَزَوَالُهُ إِلَّا بِارْتِفَاعِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ وَنَقْلِهَا إِلَى جِبِلَّةٍ غَيْرِهَا صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ لَنَا حَيَاةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْحَيَاةِ فِيهَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَالْعِنَادُ وَهَذِهِ هِيَ الْحَالُ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا فَقَالَ: {وَنَزَعْنَا ما في صدورهم من غل} ، ولابد مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ بِاضْطِرَارٍ إِذْ كَانَ جَوَازُ الْخِلَافِ يَقْتَضِي الِائْتِلَافَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُضَافِ وكان لابد مِنْ حَقِيقَتِهِ فَقَدْ صَارَ الْخِلَافُ الْمَوْجُودُ كَمَا تَرَى أَوْضَحَ دَلِيلٍ عَلَى كَوْنِ الْبَعْثِ الَّذِي ينكره المنكرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِهِ مِنْ مَنْسُوخِهِ وَالْعِلْمُ بِهِ عَظِيمُ الشَّأْنِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السُّدُوسِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَهِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ الضَّرِيرُ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمَكِّيٌّ وَغَيْرُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَمِنْ ظَرِيفِ مَا حُكِيَ فِي كِتَابِ هِبَةِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيرا} مَنْسُوخٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ {وَأَسِيرًا} وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَسِيرُ الْمُشْرِكِينَ فَقُرِئَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ وَابْنَتُهُ تَسْمَعُ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَتْ: أَخْطَأْتَ يَا أَبَتِ فِي هَذَا الْكِتَابِ! فَقَالَ لَهَا: وَكَيْفَ يَا بُنَيَّةُ! قَالَتْ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُطْعَمُ وَلَا يُقْتَلُ جُوعًا. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِقَاصٍّ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ وَالنَّسْخُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشيطان ثم يحكم الله} . وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مكان آية} وَبِمَعْنَى التَّحْوِيلِ كَتَنَاسُخِ الْمَوَارِيثِ- يَعْنِي تَحْوِيلَ الْمِيرَاثِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَمِنْهُ: "نَسَخْتُ الْكِتَابَ" إِذَا نَقَلْتَ مَا فِيهِ حَاكِيًا لِلَفْظِهِ وَخَطِّهِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ وَأُنْكِرُ عَلَى النَّحَّاسِ إِجَازَتُهُ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ النَّاسِخَ فِيهِ لَا يَأْتِي بِلَفْظِ الْمَنْسُوخِ وَإِنَّمَا يَأْتِي بِلَفْظٍ آخَرَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَرَكَاتٍ السعدي يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} وَقَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حكيم} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ نُجُومًا جَمِيعُهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا قَالَ: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لَا يَمَسُّهُ إلا المطهرون} . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقِيلَ الْمَنْسُوخُ مَا رُفِعَ تِلَاوَةُ تَنْزِيلِهِ كَمَا رُفِعَ الْعَمَلُ بِهِ وَرُدَّ بِمَا نَسَخَ اللَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمَا مَتْلُوَّانِ وَقِيلَ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ فِي قُرْآنٍ يُتْلَى وَيُنَزَّلُ وَالنَّسْخُ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي حُكْمٍ مِنَ التَّيْسِيرِ وَيَفِرُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا بَعْدَ نُزُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْيَهُودِ فِي الْأَصْلِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ بَدَاءٌ كَالَّذِي يَرَى الرَّأْيَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَعَكْسَهُ وَالْمَرَضَ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَعَكْسَهُ وَالْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى وَعَكْسَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَدَاءً فَكَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ فَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ النَّسْخِ وَوُقُوعُهُ سَمْعًا وَعَقْلًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: لَا يُنْسَخُ قُرْآنٌ إِلَّا بِقُرْآنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قَالُوا: وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَخَيْرًا مِنْهُ إِلَّا قُرْآنٌ وَقِيلَ: بَلِ السُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ السُّنَّةَ وَقِيلَ: السُّنَّةُ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ نَسَخَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِاجْتِهَادٍ فَلَا تَنْسَخُهُ حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَقِيلَ: بَلْ إِحْدَاهُمَا تَنْسَخُ الْأُخْرَى ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْآيَتَانِ إِذَا أَوْجَبَتَا حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُتَقَدِّمَةً الْأُخْرَى فَالْمُتَأَخِّرَةُ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما السدس} وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أبواه فلأمه الثلث} قَالُوا: فَهَذِهِ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَيْسَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ وَإِنَّمَا نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وَقِيلَ: مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ نَاسِخٌ لِمَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَيَجُوزُ نَسْخُ النَّاسِخِ فَيَصِيرُ النَّاسِخُ مَنْسُوخًا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دين} نسخها بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ثُمَّ نَسَخَ هَذِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الجزية عن يد} وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وناسخه قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ثم نسخها: {حتى يعطوا الجزية} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 مسألة: في جواز النسخ بالكتاب لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَقَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما ينزل} ، وَلِذَلِكَ نَسَخَ السُّنَّةَ بِالْكِتَابِ كَالْقِصَّةِ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حُذَّاقُ الْأُمَّةِ عَلَى الْجَوَازِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ". وَأَبَى الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي إِسْقَاطِ الْجَلْدِ فِي حَدِّ الزِّنَا عَنِ الثَّيِّبِ الَّذِي رجم فَإِنَّهُ لَا مُسْقِطَ لِذَلِكَ إِلَّا السُّنَّةُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْنَا: أَمَّا آيَةُ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَاسِخَهَا الْقُرْآنُ وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَقَدِ اشْتُهِرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ لَفْظٍ ذَكَرَهُ فِي الرِّسَالَةِ وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ وَهَذَا تَعْظِيمٌ لِقَدْرِ الْوَجْهَيْنِ وَإِبَانَةُ تَعَاضُدِهِمَا وَتَوَافُقِهِمَا وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ وَأَمَّا النَّسْخُ بِالْآيَةِ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ بَلْ تَخْصِيصٍ ثُمَّ إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَهُوَ "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فارجموهما" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 فصل: فيما يقع فيه النسخ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْأَخْبَارَ وَأَطْلَقَ وَقَيَّدَهَا آخَرُونَ بِالَّتِي يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ تنبيهات التنبيه الأول: في تقسيم سور القرآن بحسب ما دخله من النسخ وما لم يدخله اعْلَمْ أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَنْقَسِمُ بِحَسْبِ مَا دَخَلَهُ النَّسْخُ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سُورَةً وَهِيَ: الْفَاتِحَةُ ثُمَّ يُوسُفُ ثُمَّ يس ثُمَّ الْحُجُرَاتُ ثُمَّ الرَّحْمَنُ ثُمَّ الْحَدِيدُ ثُمَّ الصَّفُّ ثُمَّ الْجُمُعَةُ ثُمَّ التَّحْرِيمُ ثُمَّ الْمُلْكُ ثُمَّ الْحَاقَّةُ ثُمَّ نُوحٌ ثُمَّ الْجِنُّ ثُمَّ الْمُرْسَلَاتُ ثُمَّ النَّبَأُ ثُمَّ النَّازِعَاتُ ثُمَّ الِانْفِطَارُ ثُمَّ الْمُطَفِّفِينَ ثُمَّ الِانْشِقَاقُ ثُمَّ الْبُرُوجُ ثُمَّ الْفَجْرُ ثُمَّ الْبَلَدُ ثُمَّ الشَّمْسُ ثُمَّ اللَّيْلُ ثُمَّ الضُّحَى ثُمَّ الانشراح ثُمَّ الْقَلَمُ ثُمَّ الْقَدْرُ ثُمَّ الِانْفِكَاكُ ثُمَّ الزَّلْزَلَةُ ثُمَّ الْعَادِيَّاتُ ثُمَّ الْقَارِعَةُ ثُمَّ أَلْهَاكُمْ ثُمَّ الْهُمَزَةُ ثُمَّ الْفِيلُ ثُمَّ قُرَيْشٌ ثُمَّ الدِّينُ ثُمَّ الْكَوْثَرُ ثُمَّ النَّصْرُ ثُمَّ تَبَّتْ ثُمَّ الْإِخْلَاصُ ثُمَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وَهَذِهِ السُّوَرُ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَإِلَى مَا فِيهِ نَهْيٌ لَا أَمْرٌ وَالثَّانِي: مَا فِيهِ نَاسِخٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْسُوخٌ وَهِيَ سِتُّ سُوَرٍ: الْفَتْحُ وَالْحَشْرُ وَالْمُنَافِقُونَ وَالتَّغَابُنُ وَالطَّلَاقُ وَالْأَعْلَى الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَهُوَ أَرْبَعُونَ: الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ وَهُودٌ وَالرَّعْدُ وَالْحِجْرُ وَالنَّحْلُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَطه وَالْمُؤْمِنُونَ وَالنَّمْلُ وَالْقَصَصُ وَالْعَنْكَبُوتُ وَالرُّومُ وَلُقْمَانُ وَالْمَضَاجِعُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالصَّافَّاتُ وَص وَالزُّمَرُ وَالْمَصَابِيحُ وَالزُّخْرُفُ وَالدُّخَانُ وَالْجَاثِيَةُ وَالْأَحْقَافُ وَسُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَاسِقَاتُ وَالنَّجْمُ وَالْقَمَرُ وَالرَّحْمَنُ وَالْمَعَارِجُ وَالْمُدَّثِّرُ وَالْقِيَامَةُ وَالْإِنْسَانُ وَعَبَسَ وَالطَّارِقُ وَالْغَاشِيَةُ وَالتِّينُ وَالْكَافِرُونَ الرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَهِيَ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سُورَةً: الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَالْأَعْرَافُ وَالْأَنْفَالُ وَالتَّوْبَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالنَّحْلُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَرْيَمُ وَطه وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالنُّورُ وَالْفُرْقَانُ وَالشُّعَرَاءُ وَالْأَحْزَابُ وَسَبَأٌ وَالْمُؤْمِنُ وَالشُّورَى وَالْقِتَالُ وَالذَّارِيَاتُ وَالطُّورُ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُجَادَلَةُ وَالْمُمْتَحَنَةُ وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ وَالتَّكْوِيرُ وَالْعَصْرُ وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا النَّوْعِ آيَةٌ أَوَّلُهَا مَنْسُوخٌ وَآخِرُهَا نَاسِخٌ قيل ولانظير لها في القرآن وهي قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضل إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 اهتديتم} يَعْنِي الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ في أحكامه التنبيه الثاني: في ضروب النسخ في القرآن النَّسْخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: ما نسخ في تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ فَيُعْمَلُ بِهِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ فِي سُورَةِ النُّورِ "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ" وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِكَتَبْتُهَا بِيَدِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُعَلَّقًا وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَتْ سورة الأحزاب توازي سورة النور فَكَانَ فِيهَا "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا" وَفِي هَذَا سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ؟ وَهَلَّا قَالَ الْمُحْصَنُ وَالْمُحْصَنَةُ؟ وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْبَدِيعِ فِي الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجِنْسِ فِي بَابِ الذَّمِّ بِالْأَنْقَصِ فَالْأَنْقَصِ وَفِي بَابِ الْمَدْحِ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَعْلَى فَيُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمُرَادُ: يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا إِلَى أعلى ما يسرق وقد يبالغ فيذكر مالا تُقْطَعُ بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ "لَعَنَ الله السارق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ" وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ فِي الْبَيْضَةِ وَتَأْوِيلُ مَنْ أَوَّلَهُ بِبَيْضَةِ الْحَرْبِ تَأْبَاهُ الْفَصَاحَةُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ إِلَخْ" أَنَّ كِتَابَتَهَا جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ قَوْلُ النَّاسِ وَالْجَائِزُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَقُومُ مِنْ خَارِجِ مَا يَمْنَعُهُ وَإِذَا كَانَتْ جَائِزَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمَكْتُوبِ وَقَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بَاقِيَةً لَبَادَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَقَالِ النَّاسِ لِأَنَّ مَقَالَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ مُشْكَلَةٌ وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِهِ وَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ وَمِنْ هُنَا أَنْكَرَ ابْنُ ظَفَرَ فِي "الْيَنْبُوعِ" عَدَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ قَالَ: لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُثْبِتُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْمُنْسَأِ لَا النَّسْخِ، وهما مما يَلْتَبِسَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُنْسَأَ لَفْظُهُ قَدْ يعلم حكمه ويثبت أيضا وكذا قاله في غيره الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ كَإِيجَابِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهِ أَنَّهَا كَانَتْ قُرْآنًا فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا لَكِنْ فِي الْعَمَلِ بِهَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ كَانَ مَتْلُوًّا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَتِلَاوَتُهُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي أَحْفَظُ مِنْهَا "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ" وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فأنسيتها غير أني حفظت منها "يأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُنَادِي فِي كِتَابِهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِمَّا رُفِعَ رَسْمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُرْفَعْ مِنَ الْقُلُوبِ حِفْظُهُ سُورَتَا الْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمَاضِينَ وَالْغَابِرِينَ أَنَّهُمَا مَكْتُوبَتَانِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَّهُ ذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَقْرَأَهُ إِيَّاهُمَا وَتُسَمَّى سُورَتَيِ الْخَلْعِ وَالْحَفْدِ هُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ التِّلَاوَةِ مَعَ بقاء الحكم؟ وهلا أبقيت التِّلَاوَةُ لِيَجْتَمِعَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا وَثَوَابُ تِلَاوَتِهَا؟ وَأَجَابَ صَاحِبُ الْفُنُونِ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيَظْهَرَ بِهِ مِقْدَارُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لِطَلَبِ طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَيُسْرِعُونَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ كَمَا سَارَعَ الْخَلِيلُ إِلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمَنَامٍ وَالْمَنَامُ أَدْنَى طُرُقِ الْوَحْيِ الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ تِلَاوَتُهُ وَهُوَ فِي ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذرون أزواجا} الْآيَةَ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا لَزِمَتِ التَّرَبُّصَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَوْلًا كَامِلًا وَنَفَقَتُهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الْآيَةَ فَنَسَخَ اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَهَذَا النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ فِي النَّظْمِ عَلَى الْمَنْسُوخِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ تَقَدَّمَ عَلَى الْمَنْسُوخِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: هذا أحدهما والثاني قوله: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أزواج} . قُلْتُ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَوْضِعًا آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها} هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ وَلَكِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} . وَقِيلَ: فِي تَقْدِيمِ النَّاسِخَةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنْ تَعْتَقِدَ حُكْمَ الْمَنْسُوخَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِهَا وَيَجِيءُ مَوْضِعٌ رَابِعٌ وَهُوَ آيَةُ الْحَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ لِلْغَانِمِينَ وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غنمتم من شيء فأن لله خمسه} . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَحْرُمُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ كَقَوْلِهِ: {إِنْ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} ثُمَّ نَسْخِ الْوُجُوبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْتَدُوا إن الله لا يحب المعتدين} قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عليه} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} نَسَخَتْهَا آيَاتُ الْقِيَامَةِ وَالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ. وَهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُسْأَلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَبَقَاءِ التِّلَاوَةِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُتْلَى لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فَيُتْلَى لِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُثَابُ عَلَيْهِ فَتُرِكَتِ التِّلَاوَةُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَثَانِيهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ غَالِبًا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ فَأُبْقِيَتِ التِّلَاوَةُ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَأَمَّا حِكْمَةُ النَّسْخِ قَبْلَ الْعَمَلِ كَالصَّدَقَةِ عِنْدَ النَّجْوَى فَيُثَابُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعَلَى نِيَّةِ طَاعَةِ الْأَمْرِ الثَّالِثُ: نَسْخُهُمَا جَمِيعًا فَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ كَآيَةِ التَّحْرِيمِ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: " كَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهَا وَهِيَ "مِمَّا يُقْرَأُ" فَإِنَّ ظَاهِرَهُ بَقَاءُ التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَارَبَ الْوَفَاةَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التِّلَاوَةَ نُسِخَتْ أَيْضًا وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ كُلَّ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَؤُهَا وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: نَزَلَتْ ثُمَّ رُفِعَتْ. وَجَعَلَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَقْرَأُ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ وَفِيهِ نَظَرٌ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ عَنْ قَوْمٍ إِنْكَارَ هَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الْأَخْبَارَ فِيهِ أَخْبَارُ آحَادٍ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى إِنْزَالِ قُرْآنٍ وَنَسْخِهِ بِأَخْبَارِ آحَادٍ لَا حُجَّةَ فِيهَا وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَرِسَ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولى. صحف إبراهيم وموسى} وَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْءٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ فِي الرَّسْمِ ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَذْهَانِهِمْ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَائِدَةٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} نَاسِخَةٌ لِمِائَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةٍ ثُمَّ صَارَ آخِرُهَا نَاسِخًا لِأَوَّلِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} . قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مِنَ الْمَنْسُوخِ ثَبَتَ حُكْمُهَا سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا قَوْلَهُ فِي الْأَحْقَافِ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} وَنَاسِخُهَا أَوَّلُ سُورَةِ الْفَتْحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ أَغْرَبِ آيَةٍ فِي النَّسْخِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا مَنْسُوخَانِ وَوَسَطُهَا مُحْكَمٌ وَقَسَّمَهُ الْوَاحِدِيُّ أَيْضًا إِلَى نَسْخِ مَا لَيْسَ بِثَابِتِ التِّلَاوَةِ كَعَشْرِ رَضَعَاتٍ وَإِلَى نَسْخِ مَا هُوَ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ بِمَا لَيْسَ بِثَابِتِ التِّلَاوَةِ كَنَسْخِ الْجَلْدِ فِي حَقِّ الْمُحْصِنِينَ بِالرَّجْمِ وَالرَّجْمُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ الآن وإنه كَانَ يُتْلَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحُكْمُ ثَبَتَ وَالْقِرَاءَةُ لَا تَثْبُتُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ التِّلَاوَةُ فِي بَعْضٍ وَلَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ قُرْآنٌ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قُرْآنٌ يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُتْلَى وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِنَا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ مَصْلَحَتِنَا تَعَلُّقَ الْعَمَلِ بهذا الوجه التنبيه الثالث في تقسيم القرآن على ضروب من وجه آخر قَسَّمَ بَعْضُهُمُ النَّسْخَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: نَسْخُ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ النَّسْخُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَأَمْرِ الْخَلِيلِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ثم نسخه سبحانه بقوله: {أأشفقتم} الْآيَةَ الثَّانِي: وَيُسَمَّى نَسْخًا تَجَوُّزًا وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا كَحَتْمِ الْقِصَاصِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَ تَشْرِيعِ الدِّيَةِ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ من ربكم ورحمة} وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا ثم نسخ كنسخه التوجه إلى بيت الْمُقَدَّسِ بِالْكَعْبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْنَا مِنْ قَضِيَّةِ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَكَنَسْخِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ الثَّالِثُ: مَا أَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَبِالْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ نَسَخَهُ إيجاب لذلك وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نسء كما قال تعالى: {أو ننسئها} فَالْمُنْسَأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالتَّخْفِيفِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ أَبَدًا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأضاحي من أجل الرأفة ثُمَّ وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مَنْسُوخًا بَلْ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْحُكْمِ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ حتى لو فاجأ أَهْلَ نَاحِيَةٍ جَمَاعَةٌ مَضْرُورُونَ تَعَلَّقَ بِأَهْلِهَا النَّهْيُ ومن هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الْآيَةَ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَلَمَّا قَوِيَ الْحَالُ وَجَبَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وَالْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُ الضَّعْفِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ" عَادَ الْحُكْمُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا رَأَيْتَ هَوًى مُتَّبَعًا وَشُحًّا مُطَاعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ" وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى حَكِيمٌ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ضَعْفِهِ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَالِ رَأْفَةً بِمَنْ تَبِعَهُ وَرَحْمَةً إِذْ لَوْ وَجَبَ لَأَوْرَثَ حَرَجًا وَمَشَقَّةً فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَظْهَرَهُ وَنَصَرَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخِطَابِ مَا يُكَافِئُ تِلْكَ الْحَالَةَ مِنْ مُطَالَبَةِ الْكُفَّارِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ إِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَيَعُودُ هَذَانِ الْحُكْمَانِ أَعْنِي الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ الضَّعْفِ وَالْمُسَايَفَةَ عِنْدَ الْقُوَّةِ بِعَوْدِ سَبَبِهِمَا وَلَيْسَ حُكْمُ الْمُسَايَفَةِ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْمُسَالَمَةِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتِهِ فَائِدَةٌ قِيلَ فِي قوله تعالى: {ما ننسخ من آية} وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ مُهَيْمِنٌ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ وَلَيْسَ يَأْتِي بَعْدَهُ نَاسِخٌ لَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ فَمَعْلُومٌ وَهُوَ قَلِيلٌ بَيَّنَ اللَّهُ نَاسِخَهُ عِنْدَ مَنْسُوخِهِ كَنَسْخِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ وَالْعُدَّةِ وَالْفِرَارِ فِي الْجِهَادِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَمَنْ تَحَقَّقَ عِلْمًا بِالنَّسْخِ عُلِمَ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْسَأِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ الْمُجْمَلِ كَالسَّبِيلِ فِي حَقِّ الْآتِيَةِ بِالْفَاحِشَةِ فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُدْعَى نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ فَهُوَ بيان لحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 الْقُرْآنِ وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للناس} وَأَمَّا بِالْقُرْآنِ عَلَى مَا ظَنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هُوَ نَسَأٌ وَتَأْخِيرٌ أَوْ مُجْمَلٌ أُخِّرَ بَيَانُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ خِطَابٌ قَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوَّلِهِ خِطَابُ غَيْرِهِ أَوْ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومٍ أَوْ حُكْمٌ عَامٌّ لِخَاصٍّ أَوْ لِمُدَاخَلَةِ مَعْنًى فِي مَعْنًى وَأَنْوَاعُ الْخِطَابِ كَثِيرَةٌ فَظَنُّوا ذَلِكَ نَسْخًا وَلَيْسَ بِهِ وَأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَعَاضِدٌ وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ حِفْظَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لحافظون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ مُوهِمِ الْمُخْتَلِفِ وَهُوَ مَا يُوهِمُ التَّعَارُضَ بَيْنَ آيَاتِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ لِلْمُبْتَدِئِ مَا يُوهِمُ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ بِهِ فَاحْتِيجَ لِإِزَالَتِهِ كَمَا صُنِّفَ فِي مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ وَبَيَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ رَأَيْتُ لِقُطْرُبٍ فِيهِ تَصْنِيفًا حَسَنًا جَمَعَهُ عَلَى السُّوَرِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ وَفَّقَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وَقَوْلِهِ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَدَهُ بِعَشْرٍ لَكِنَّهُ وَعَدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَمِيعًا انْتَهَى وَقِيلَ تَجْرِي آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كَانَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَتَمَّ بِالْعَشْرِ فَاسْتَقَرَّتِ الْأَرْبَعُونَ ثُمَّ أَخْبَرَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا اسْتَقَرَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا أقسم بهذا الْبَلَدِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِهَذَا ثُمَّ أقسم به في قوله: {وهذا البلد الأمين} فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أُجِيبُكَ ثُمَّ أَقْطَعُكَ أَوْ أَقْطَعُكَ ثُمَّ أُجِيبُكَ فقال بل اقطعني ثم أجبني فقال اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ رِجَالٍ وَبَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ وَكَانُوا أَحْرَصَ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَجِدُوا فِيهِ مَغْمَزًا وَعَلَيْهِ مَطْعَنًا فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مُنَاقَضَةً لَتَعَلَّقُوا بِهِ وَأَسْرَعُوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا وَجَهِلْتَ فَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْهُ مَا أَنْكَرْتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُدْخِلُ "لَا" فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهَا وَتُلْغِي مَعْنَاهَا وَأَنْشَدَ فِيهِ أَبْيَاتًا وَالْقَاعِدَةُ في هذا أشباهه أَنَّ الْأَلْفَاظَ إِذَا اخْتَلَفَتْ وَكَانَ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فَائِدَةٌ عن الغزالي في معنى الإختلاف سُئِلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختلافا كثيرا} فأجاب بِمَا صُورَتُهُ: الِاخْتِلَافُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ بَلْ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ عَنْ ذَاتِ الْقُرْآنِ يُقَالُ هَذَا كَلَامٌ مُخْتَلِفٌ أَيْ لَا يُشْبِهُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ فِي الْفَصَاحَةِ إِذْ هُوَ مُخْتَلِفٌ أَيْ بَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ وَبَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدُّنْيَا أَوْ هُوَ مُخْتَلِفُ النَّظْمِ فَبَعْضُهُ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَبَعْضُهُ مُنْزَحِفٌ وَبَعْضُهُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 أُسْلُوبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجَزَالَةِ وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ يُخَالِفُهُ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ فَإِنَّهُ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي النَّظْمِ مُنَاسِبٍ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَعَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ فَلَيْسَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَمَسُوقٌ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفُهُمْ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الدِّينِ وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ إِذْ كَلَامُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ إِذَا قِيسَ عَلَيْهِ وُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي مِنْهَاجِ النَّظْمِ ثُمَّ اخْتِلَافٌ فِي دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ بَلْ فِي أَصْلِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى يَشْتَمِلَ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ فَلَا تَتَسَاوَى رِسَالَتَانِ وَلَا قَصِيدَتَانِ بَلْ تَشْتَمِلُ قَصِيدَةٌ عَلَى أَبْيَاتٍ فَصَيْحَةٍ وَأَبْيَاتٍ سَخِيفَةٍ وَكَذَلِكَ تَشْتَمِلُ الْقَصَائِدُ وَالْأَشْعَارُ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ وَالْفُصَحَاءَ {كل واد يهيمون} فَتَارَةً يَمْدَحُونَ الدُّنْيَا وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الْجُبْنَ فَيُسَمُّونَهُ حَزْمًا وَتَارَةً يَذُمُّونَهُ وَيُسَمُّونَهُ ضَعْفًا وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا تَهَوُّرًا وَلَا يَنْفَكُّ كَلَامُ آدَمِيٍّ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ لِأَنَّ مَنْشَأَ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ اخْتِلَافُ الْأَغْرَاضِ وَاخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ وَالْإِنْسَانُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَتُسَاعِدُهُ الْفَصَاحَةُ عِنْدَ انْبِسَاطِ الطَّبْعِ وَفَرَحِهِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِانْقِبَاضِ وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَغْرَاضُهُ فَيَمِيلُ إِلَى الشَّيْءِ مَرَّةً وَيَمِيلُ عَنْهُ أُخْرَى فَيُوجِبُ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ وَالْأَغْرَاضِ اخْتِلَافًا فِي كَلَامِهِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا تُصَادِفُ اللِّسَانَ يَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهِيَ مُدَّةُ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَيَتَكَلَّمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ وَعَلَى مَنْهَجٍ وَاحِدٍ وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرًا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَلَوْ كَانَ هَذَا كَلَامَهُ أَوْ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ لَوُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّاسِ فَهُوَ تَبَايُنٌ فِي آرَاءِ النَّاسِ لَا فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمُرَادَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْخَلْقِ فِي الضَّلَالِ وَالْهُدَى فَلَوْ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ لَكَانَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ خُلْفًا وَهِيَ أشد أنواع الاختلاف والله أعلم فصل: في القول عند تعارض الآي قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرابيني: إِذَا تَعَارَضَتِ الْآيُ وَتَعَذَّرَ فِيهَا التَّرْتِيبُ وَالْجَمْعُ طُلِبَ التَّارِيخُ وَتُرِكَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا بِالْمُتَأَخِّرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ التَّارِيخُ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِعْمَالِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ عُلِمَ بِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ النَّاسِخَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَا قَالَ: وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ تَعْرَيَانِ عَنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَذَكَرُوا عِنْدَ التَّعَارُضِ مُرَجِّحَاتٍ: الْأَوَّلُ: تَقْدِيمُ الْمَكِّيِّ عَلَى الْمَدَنِيِّ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَكِّيَّةُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدَنِيَّةُ قَبْلَهَا فَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ بِالْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ عَلَى الْمَكِّيَّةِ فِي التَّخْصِيصِ وَالتَّقْدِيمِ إِذْ كَانَ غَالِبُ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ نُزُولُهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْآخَرُ عَلَى غَالِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 أَحْوَالِ أَهِلِ الْمَدِينَةِ فَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ أَحْوَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دخله كان آمنا} مَعَ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فَإِذَا أَمْكَنَ بِنَاءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ جُعِلَ التَّخْصِيصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ومن دخله كان آمنا} كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَمِثْلِ قَوْلِهِ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ صَيْدِ مَكَّةَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا علمتم من الجوارح مكلبين} فَجَعَلَ النَّهْيَ فِيمَنِ اصْطَادَهُ فِي الْحَرَمِ وَخَصَّ مَنِ اصْطَادَهُ فِي الْحِلِّ وَأَدْخَلَهُ حَيًّا فِيهِ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الظَّاهِرَيْنِ مُسْتَقِلًّا بِحُكْمِهِ وَالْآخَرُ مُقْتَضِيًا لَفْظًا يُزَادُ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الحج والعمرة} مَعَ قَوْلِهِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهدي} وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْحَصْرِ وَلَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ الْإِحْلَالِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ فَيُقَدَّمُ الْمَنْعُ مِنَ الْإِحْلَالِ عِنْدَ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} عَلَى مَا عَارَضَهُ مِنَ الْآيَةِ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُمُومَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى مَا قُصِدَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ فَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأختين} بقوله: {وما ملكت أيمانكم} فَيُخَصُّ الْجَمْعُ بِمِلْكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلا ما قد سلف} فَتُحْمَلُ آيَةُ الْجَمْعِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْقَصْدُ فِيهَا بَيَانُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ وَتُحْمَلُ آيَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى زَوَالِ اللَّوْمِ فِيمَنْ أَتَى بِحَالٍ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَلَى لَفْظٍ تَعَلَّقَ بِمَعْنَاهُ وَالْآخَرِ بِاسْمِهِ كَقَوْلِهِ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غيركم} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} الْآيَةَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْآيَةِ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمٍ فَاسِقٍ عَلَى كَافِرٍ وَأَنْ يُقْبَلَ الْكَافِرُ عَلَى الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ يُحْمَلَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {أَوْ آخران من غيركم} عَلَى الْقَبِيلَةِ دُونَ الْمِلَّةِ وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ عَلَى عُمُومِ النِّسْيَانِ فِي الْمِلَّةِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى تَعْيِينِ اللَّفْظِ وَتَخْصِيصِ الْغَيْرِ بِالْقَبِيلَةِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الِاسْمِ عَلَى عُمُومِ الْغَيْرِ السَّادِسُ: تَرْجِيحُ مَا يُعْلَمُ بِالْخِطَابِ ضَرُورَةً عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُ ظَاهِرًا كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ الله البيع} على قوله: {وذروا البيع} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَأَحَلَّ} يَدُلُّ عَلَى حِلِّ الْبَيْعِ ضَرُورَةً وَدَلَالَةُ النَّهْيِ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ إِمَّا أَلَّا تَكُونَ ظَاهِرَةً أَصْلًا أَوْ تَكُونَ ظَاهِرَةً منحطة عن النص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فصل في القول عند تعارض آي القرآن والآثار قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ: لَا يَجُوزُ تَعَارُضُ آيِ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ وَمَا تُوجِبُهُ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الله خالق كل شيء} معارضا لقوله: {وتخلقون إفكا} وقوله: {وإذ تخلق من الطين} وقوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ مَا عَارَضَهُ فَيُؤَوَّلُ قوله: {وتخلقون} بِمَعْنَى تَكْذِبُونَ لِأَنَّ الْإِفْكَ نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ وقوله: {وإذ تخلق من الطين} أَيْ تُصَوِّرُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَنَّ اللَّهَ بكل شيء عليم} لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يعلم} فإن المراد بهذا مالا يَعْلَمُهُ أَنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ وَيُعْلِمُونَهُ وُقُوعَ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ لَا عَلَى أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ وَإِنْ عَلِمْتُمُوهُ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَعْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الله لا يخفى عليه شيء} مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وقوله: {إلى ربها ناظرة} معارضا لقوله: {لا تدركه الأبصار} فِي تَجْوِيزِ الرُّؤْيَةِ وَإِحَالَتِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 لأن دليل العقل يقضي بالجواز ويجوز تخليص النَّفْيِ بِالدُّنْيَا وَالْإِثْبَاتِ بِالْقِيَامَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ جعل قوله: {وما مسنا من لغوب} معارضا لقوله: {وهو أهون عليه} بَلْ يَجِبُ تَأْوِيلُ أَهْوَنُ عَلَى هَيِّنٌ وَلَا جَعْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ الله إلا الذين كفروا} مُعَارِضًا لِأَمْرِهِ نَبِيَّهُ وَأُمَّتَهُ بِالْجِدَالِ فِي قَوْلِهِ: {وجادلهم بالتي هي أحسن} فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى ذَمِّ الْجِدَالِ الْبَاطِلِ وَلَا يَجُوزُ جَعْلُ قَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} معارضا لقوله: {كل من عليها فان} فصل في تعارض القراءتين في آية واحدة وَقَدْ جَعَلُوا تَعَارُضَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ كتعارض الآيتين كقوله: {وأرجلكم} بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَقَالُوا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ وَالثَّانِيَةِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وكذلك قراءة: {يطهرن} و {يطهرن} حَمَلَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَا دُونَ الْعِشْرَةِ وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْعِشْرَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُتَعَلِّقٌ سِوَاهُمَا تَصَدَّى لَنَا الْإِلْغَاءُ أَوِ الْجَمْعُ فَأَمَّا إِذَا وَجَدْنَا مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا فالمتعلق هو المتبع فائدة في القول في الاختلاف والتناقض قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ رِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ: جِمَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ صَحَّ أَنْ يُضَافَ بَعْضُ مَا وَقَعَ الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَإِنَّمَا التَّنَاقُضُ فِي اللَّفْظِ مَا ضَادَّهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَسْمَاءُ وَلَنْ يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِيهِ النَّسْخُ فِي وَقْتَيْنِ بِأَنْ يُوجِبَ حُكْمًا ثم يحله وَهَذَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ وَتَنَاقُضُ الْكَلَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي إِثْبَاتِ مَا نُفِيَ أَوْ نَفْيِ مَا أُثْبِتَ بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ الْمُثْبَتُ وَالْمَنْفِيُّ فِي الِاسْمِ وَالْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحَقِيقَةِ فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا وَفِي الْآخَرِ مُسْتَعَارًا وَنُفِيَ أَحَدُهُمَا وَأُثْبِتَ الْآخَرُ لَمْ يُعَدَّ تَنَاقُضًا هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَأَمَّا الْمَعَانِي وَهُوَ بَابُ الْقِيَاسِ فَكُلُّ مَنْ أَوْجَدَ عِلَّةً وحررها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وَأَوْجَبَ بِهَا حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ ثُمَّ ادَّعَى تِلْكَ الْعِلَّةَ بِعَيْنِهَا فِيمَا يَأْبَاهُ الْحُكْمُ فَقَدْ تَنَاقَضَ فَإِنْ رَامَ الْفَرْقَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي فَرْقِهِ تَنَاقُضٌ وَالزِّيَادَةُ فِي الْعِلَّةِ نَقْصٌ أَوْ تَقْصِيرٌ عَنْ تَحْرِيرِهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى السَّائِلِ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ يُسْأَلُ عَنْهَا فَلَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ يُسْأَلَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَوْ لَا فَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَوَابِ فَهُوَ مَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ وَيَجُوزُ وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ فَسَأَلَ هَلْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ قَائِمًا مُنْتَصِبًا جَالِسًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ أَحَالَ وَسَأَلَ عَنْ مُحَالٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ عُرِّفَ فَإِذَا عَرَفَهُ فَقَدِ اسْتَحَالَ عِنْدَهُ مَا سَأَلَهُ قَالَ وَقَدْ رَأَيْتُ كَثِيرًا مِمَّا يَتَعَاطَى الْعِلْمَ يَسْأَلُ عَنِ الْمُحَالِ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُحَالٌ وَيُجَابُ عَنْهُ وَالْآفَاتُ تَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ لِقِلَّةِ علمهم بحق الكلام فصل في الأسباب الموهمة الاختلاف وَلِلِاخْتِلَافِ أَسْبَابٌ الْأَوَّلُ: وُقُوعُ الْمُخْبَرِ بِهِ عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَتَطْوِيرَاتٍ شَتَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي خلق آدم إنه: {من تراب} ومرة {من حمأ مسنون} ومرة {من طين لازب} ومرة {من صلصال كالفخار} وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةٌ وَمَعَانِيهَا فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 لِأَنَّ الصَّلْصَالَ غَيْرُ الْحَمَأِ وَالْحَمَأَ غَيْرُ التُّرَابِ إِلَّا أَنَّ مَرْجِعَهَا كُلِّهَا إِلَى جَوْهَرٍ وَهُوَ التُّرَابُ وَمِنَ التُّرَابِ تَدَرَّجَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ وَمِنْهُ قوله تعالى: {فإذا هي ثعبان مبين} وفي موضع {تهتز كأنها جان} وَالْجَانُّ: الصَّغِيرُ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالثُّعْبَانُ الْكَبِيرُ مِنْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهَا خَلْقُ الثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ وَاهْتِزَازَهَا وَحَرَكَاتِهَا وَخِفَّتَهَا كَاهْتِزَازِ الْجَانِّ وَخِفَّتِهِ السَّبَبُ الثَّانِي: لاختلاف الموضوع كقوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسؤولون} وَقَوْلِهِ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} مَعَ قَوْلِهِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جان} قَالَ الْحَلِيمِيُّ: فَتُحْمَلُ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى السُّؤَالِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِالنُّبُوَّاتِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ حمله غَيْرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ لِأَنَّ فِي الْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ كَثِيرَةً فَمَوْضِعٌ يُسْأَلُ وَيُنَاقَشُ وَمَوْضِعٌ آخَرُ يُرْحَمُ وَيُلْطَفُ بِهِ وَمَوْضِعٌ آخَرُ يُعَنَّفُ وَيُوَبَّخُ وَهُمُ الْكُفَّارُ وَمَوْضِعٌ آخَرُ لَا يُعَنَّفُ وَهُمُ المؤمنون وقوله: {ولا يكلمهم الله} مَعَ قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعملون} وَقِيلَ: الْمَنْفِيُّ كَلَامُ التَّلَطُّفِ وَالْإِكْرَامِ وَالْمُثْبَتُ سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالْإِهَانَةِ فَلَا تَنَافِيَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سيئة سيئة مثلها} مع قوله: {يضاعف لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 العذاب} وَالْجَوَابُ إِنَّ التَّضْعِيفَ هُنَا لَيْسَ عَلَى حَدِّ التَّضْعِيفِ فِي الْحَسَنَاتِ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ لِتَضَاعِيفِ مُرْتَكَبَاتِهِمْ فَكَانَ لِكُلِّ مُرْتَكِبٍ مِنْهَا عَذَابٌ يَخُصُّهُ فَلَيْسَ التَّضْعِيفُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى مَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا تَكْثِيرُهُ بِحَسْبِ كَثْرَةِ الْمُجْتَرَحَاتِ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ الْوَاحِدَةَ يُضَاعَفُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافرون} فَهَؤُلَاءِ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وَبَغَوْهَا عِوَجًا وَكَفَرُوا فَهَذِهِ مُرْتَكَبَاتٌ عُذِّبُوا بِكُلِّ مُرْتَكَبٍ مِنْهَا وَكَقَوْلِهِ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مشركين} مع قوله: {ولا يكتمون الله حديثا} فَإِنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَتَمُوا كُفْرَهُمُ السَّابِقَ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلْقِيَامَةِ مُوَاطِنَ فَفِي بَعْضِهَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْكَذِبُ وَفِي بَعْضِهَا لَا يَقَعُ كَمَا سَبَقَ وَالثَّانِي أَنَّ الْكَذِبَ يَكُونُ بِأَقْوَالِهِمْ وَالصِّدْقَ يَكُونُ مِنْ جَوَارِحِهِمْ فَيَأْمُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالنُّطْقِ فَتَنْطِقُ بِالصِّدْقِ وَكَقَوْلِهِ: {وَلَا تكسب كل نفس إلا عليها} مَعَ قَوْلِهِ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ: لَا تَكْسِبُ شَرًّا وَلَا إِثْمًا بِدَلِيلِ سَبَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 النُّزُولِ أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى تَجْنِي وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى الشَّرِّ وَالْأُخْرَى ذُكِرَ فِيهَا الْأَمْرَانِ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ ذَكَرَ مَا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ بِـ فَعَلَ وَلَمْ يَأْتِ بِـ افْتَعَلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تقوا الله حق تقاته} مع قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} يُحْكَى عَنِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلَ الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى التَّوْحِيدِ وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْأُولَى: {وَلَا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وَقِيلَ: بَلِ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةٌ قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ الظاهر أن قوله: {اتقوا الله حق تقاته} إِنَّمَا نُسِخَ حُكْمُهُ لَا فَضْلُهُ وَأَجْرُهُ وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حَقَّ تُقَاتِهِ} بِأَنْ قَالَ: "هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ" فَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ؟ فَنَزَلَتْ {فَاتَّقُوا اللَّهَ ما استطعتم} وَكَانَ التَّكْلِيفُ أَوَّلًا بِاسْتِيعَابِ الْعُمُرِ بِالْعِبَادَةِ بِلَا فَتْرَةٍ وَلَا نُعَاسٍ كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ ثُمَّ صَارَتْ بِحَسْبِ الِاسْتِطَاعَةِ خَمْسًا وَالِاقْتِدَارُ مُنَزَّلٌ على هذا الاعتبار ولم ينحط من درجاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وَقَالَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيُّ: وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مَنْسُوخًا نَظَرٌ وَقَوْلُهُ: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} هُوَ {حَقَّ تُقَاتِهِ} إِذْ بِهِ أَمَرَ فَإِنَّ {حَقَّ تُقَاتِهِ} الْوُقُوفُ عَلَى أَمْرِهِ وَدِينِهِ وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي تَفْسِيرِهِ {حَقَّ تُقَاتِهِ} لَمْ يَثْبُتْ مَرْفُوعًا بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابن مسعود رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُ الصَّحَابَةِ: "أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ" وَنُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ ألا تعدلوا فواحدة} مَعَ قَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} فَالْأُولَى تُفْهِمُ إِمْكَانَ الْعَدْلِ وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ فِي الْأُولَى الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِنَّ وَهَذَا مُمْكِنُ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ الْمَيْلُ الْقَلْبِيُّ فَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ مَيْلَ قَلْبِهِ إِلَى بَعْضِ زَوْجَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِي مَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا لَا أَمْلِكُ" يَعْنِي مَيْلَ الْقَلْبِ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: "اللَّهُ قَلْبِي فَلَا أَمْلِكُهُ وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَأَرْجُو أَنْ أَعْدِلَ" وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ فِي الثَّانِيَةِ الْعَدْلَ التَّامَّ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَدْ يَحْتَاجُ الِاخْتِلَافُ إِلَى تَقْدِيرٍ فَيَرْتَفِعُ بِهِ الْإِشْكَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وعد الله الحسنى} ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى القاعدين أجرا عظيما} وَالْأَصْلُ فِي الْأُولَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ دَرَجَةً وَالْأَصْلُ فِي الثَّانِيَةِ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنَ الْأَصِحَّاءِ دَرَجَاتٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ كَذَلِكَ الْإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْخُلَاصَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَذْفِ النَّعْتِ وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يأمر بالفحشاء} مع قوله: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} وَالْمَعْنَى: أَمَّرْنَاهُمْ وَمَلَّكْنَاهُمْ وَأَرَدْنَا مِنْهُمُ الصَّلَاحَ فَأَفْسَدُوا وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ شَرْعًا وَلَكِنْ قَضَاءً لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَجْرِيَ في ملكه مالا يُرِيدُ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ الثَّالِثُ: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي جِهَتَيِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم} أُضِيفَ الْقَتْلُ إِلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الْكَسْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ التَّأْثِيرِ وَلِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ إِنَّ الْأَفْعَالَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُكْتَسَبَةٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَنَفِيُ الْفِعْلِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا يُعَارِضُهُ إِثْبَاتُهُ بالجهة الأخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى} رمى أي ما رميت خلقا إذ رَمَيْتَ كَسْبًا وَقِيلَ إِنَّ الرَّمْيَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقَبْضِ وَالْإِرْسَالِ وَهُمَا بِكَسْبِ الرَّامِي وَعَلَى التَّبْلِيغِ وَالْإِصَابَةِ وَهُمَا بِفِعْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهِيَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ نَفَاهُ عَنْهُ وَذَلِكَ فِعْلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْصِيلُ إِلَيْهِمْ وَمِنْ نَبِيِّهِ بِالْحَذْفِ وَالْإِرْسَالِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمُكْتَسَبَةِ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ وَمِنَ الْخَلْقِ الِاكْتِسَابُ بِالْقُوَى وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قوامون على النساء} وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} فَقِيَامُ الِانْتِصَابِ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَمْرِ لِاخْتِلَافِ جِهَتَيِ الْفِعْلِ الرَّابِعُ: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كقوله: {وترى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بميت} وَهُوَ يَرْجِعُ لِقَوْلِ الْمَنَاطِقَةِ الِاخْتِلَافُ بِالْإِضَافَةِ أَيْ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ مَجَازًا وَمَا هُمْ بِسُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَمِثْلُهُ فِي الِاعْتِبَارَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يسمعون} وقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ النَّظَرِ نَفْيُ الْإِبْصَارِ لِجَوَازِ قَوْلِهِمْ نَظَرْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ أُبْصِرْهُ الْخَامِسُ: بِوَجْهَيْنِ وَاعْتِبَارَيْنِ وَهُوَ الْجَامِعُ لِلْمُفْتَرَقَاتِ كَقَوْلِهِ: {فبصرك اليوم حديد} وَقَالَ: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خفي} قَالَ قُطْرُبٌ: {فَبَصَرُكَ} أَيْ: عِلْمُكَ وَمَعْرِفَتُكَ بِهَا قَوِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ بَصُرَ بِكَذَا وَكَذَا أَيْ عَلِمَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} وَصَفَ الْبَصَرَ بِالْحِدَّةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا في الأرض ويذرك وآلهتك} مع قوله: {أنا ربكم الأعلى} فَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ إن ساغ لهم ويكون إِضَافَةُ الْآلِهَةِ إِلَيْهِ مِلْكًا كَانَ يُعْبَدُ فِي دِينِ قَوْمِهِ ثُمَّ يَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ مَوَالِي مِنْ فَوْقَ وَمَوَالِي مِنْ أَسْفَلَ فَيَكُونُ اعْتِقَادُهُمْ فِي الْآلِهَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَحْسُنُ قَوْلُهُمْ وَآلِهَتَكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قلوبهم بذكر الله} مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وجلت قلوبهم} فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الطُّمَأْنِينَةِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْوَجَلُ يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى فَتَوْجَلُ الْقُلُوبُ لِذَلِكَ وقد جمع بينهما في قوله: {قشعر مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَوَثِقُوا بِهِ فَانْتَفَى عَنْهُمُ الشَّكُّ وَكَقَوْلِهِ: {خَمْسِينَ ألف سنة} وفي موضع {ألف سنة} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بِدَلِيلِ: {وكان يوما على الكافرين عسيرا} وكقوله: {بألف من الملائكة مردفين} وفي آية أخرى: {ثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} قِيلَ: إِنَّ الْأَلْفَ أَرْدَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَكَانَ الْأَكْثَرُ مَدَدًا لِلْأَقَلِّ وَكَانَ الْأَلْفُ مُرْدَفِينَ بِفَتْحِهَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جميعا ثم استوى إلى السماء} وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَالْأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَبِذَلِكَ تَتَّفِقُ مَعَانِي الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ والمؤمن والنازعات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقوله: {قل أإنكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} إِلَى قَوْلِهِ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وَذَلِكَ يَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بقوله: {قل أإنكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} مَعَ الْيَوْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَلَمْ يُرِدْ بِذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْفَصِيحُ سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَسِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا يُرِيدُ سِوَى الْعَشَرَةِ بَلْ يُرِيدُ مَعَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةً ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قضاهن سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وَأَرَادَ سِوَى الْأَرْبَعَةِ وَذَلِكَ لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ يَكُونُ سِتَّةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي السَّجْدَةِ: {عَذَابَ النار الذي كنتم به تكذبون} بِلَفْظِ الَّذِي عَلَى وَصْفِ الْعَذَابِ وَفِي سَبَأٍ {عذاب النار التي} بِلَفْظِ الَّتِي عَلَى وَصْفِ النَّارِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ فِي السَّجْدَةِ لِوُقُوعِ النَّارِ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ الَّذِي لَا يُوصَفُ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِتَقَدُّمِ إِضْمَارِهَا مَعَ قَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} فَحَقُّ الْكَلَامِ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَهَا فَلَمَّا وَضَعَهَا مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 عدل إلى وصف العذاب وأما فِي سَبَأٍ فَوَصَفَهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ وَصْفِهَا وَالثَّانِي أَنَّ الَّذِي فِي السَّجْدَةِ وَصْفُ النَّارِ أَيْضًا وَذُكِرَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَحِيمِ وَالْحَرِيقِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الَّذِي فِي السَّجْدَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُقِرُّ بِالنَّارِ وَيَجْحَدُ الْعَذَابَ وَفِي سَبَأٍ فِي حَقِّ مَنْ يَجْحَدُ أَصْلَ النَّارِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَ الْعَذَابَ فِي السَّجْدَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّارِ مُضْمَرًا وَمُظْهَرًا عَدَلَ إِلَى وَصْفِ الْعَذَابِ لِيَكُونَ تَلْوِينًا لِلْخِطَابِ فَيَكُونَ أَنْشَطَ لِلسَّامِعِ بِمَنْزِلَةِ الْعُدُولِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الخطاب ومنه قوله تعالى: {توفته رسلنا} وقوله: {تتوفاهم الملائكة} وبين قوله: {قل قل يتوفاكم ملك الموت} وبين قوله: {الله يتوفى الأنفس} {وهو الذي يتوفاكم بالليل} وَجَمَعَ الْبَغَوِيُّ بَيْنَهَا لِأَنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ بِالْقَبْضِ وَالنَّزْعِ وَتَوَفِّيَ مَلَكِ الْمَوْتِ بِالدُّعَاءِ وَالْأَمْرِ يَدْعُو الْأَرْوَاحَ فَتُجِيبُهُ ثُمَّ يَأْمُرُ أَعْوَانَهُ بِقَبْضِهَا وَتَوَفِّيَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَلْقُ الْمَوْتِ فِيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى في البقرة: {فاتقوا النار} وفي سورة التحريم: {نارا} بِالتَّنْكِيرِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَلَمْ تَكُنِ النَّارُ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ مَعْرُوفَةً فَنَكَّرَهَا ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ مُشَارًا بِهَا إِلَى مَا عَرَفُوهُ أَوَّلًا وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمنا} وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمنا} لِأَنَّهُ فِي الدَّعْوَةِ الْأَوْلَى كَانَ مَكَانًا فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ بَلَدًا آمِنًا وَفِي الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ بَلَدًا غَيْرَ آمِنٍ فَعَرَّفَهُ وَطَلَبَ لَهُ الْأَمْنَ أَوْ كَانَ بَلَدًا آمِنًا وَطَلَبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ثَبَاتَ الْأَمْنِ وَدَوَامَهُ وَكَوْنُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةً وَسُورَةِ إِبْرَاهِيمَ مَكِّيَّةً لَا يُنَافِي هَذَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ كَوْنُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ أَوْ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ مِنْهُ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَيَكُونُ الْمَدَنِيُّ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا وَمِنْهُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَدَنِيِّ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْمَكِّيِّ الَّذِي نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَصْلٌ في الإجابة عن بعض الاستشكالات وَمِمَّا اسْتَشْكَلُوهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قبلا} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِيمَانِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أبعث الله بشرا رسولا} فَهَذَا حَصْرٌ فِي ثَالِثٍ غَيْرِهِمَا وَأَجَابَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} إِلَّا إِرَادَةُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةٌ مِنَ الْخَسْفِ وَغَيْرِهِ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} فِي الْآخِرَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَهُمْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ الله مَانِعَةٌ مِنْ وُقُوعِ مَا يُنَافِي الْمُرَادَ فَهَذَا حَصْرٌ فِي السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانِعُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {وَمَا منع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} إِلَّا اسْتِغْرَابُ بَعْثِهِ بَشَرًا رَسُولًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ مانعا من الإيمان لأنه لا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَابِ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَانِعِيَّةِ وَاسْتِغْرَابُهُمْ لَيْسَ مَانِعًا حَقِيقِيًّا بَلْ عَادِيًّا لِجَوَازِ خُلُوِّ الْإِيمَانِ مَعَهُ بِخِلَافِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْعَادِيِّ وَالْأُولَى حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ فَلَا تَنَافِيَ انْتَهَى وَقَوْلُهُ" لَيْسَ مَانِعًا مِنَ الْإِيمَانِ" فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إِنْكَارَهُمْ بَعْثَهُ بَشَرًا رَسُولًا كُفْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ إِنْكَارَهُمْ بعثته مانع من الإيمان فصل في وقوع التعارض بين الآية والحديث وَقَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ لِلتَّنْبِيهِ لِأَمْثَالِهِ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى والله يعصمك من الناس وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ شُجَّ يَوْمَ أُحُدٍ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَالثَّانِي: بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْأَخِيرِ فَالْمُرَادُ الْعِصْمَةُ مِنَ الْقَتْلِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِلَ كُلَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ فَمَا أَشَدَّ تكليف الأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تعملون} مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ" وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ- كَانُوا يَقُولُونَ: النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بِعَفْوِ اللَّهِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ وَانْقِسَامُ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَدْلُولُهَا مُخْتَلِفٌ فَفِي الآية باء المقابلة وهي الداخلة على الأعراض وَفِي الْحَدِيثِ لِلسَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا وَأَمَّا الْمُسَبَّبُ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ هَذَا الْجَوَابَ وَقَالَ الْبَاءُ فِي الْآيَةِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ لِلْعِوَضِ وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَنْجُوَ بِعَمَلِهِ" قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ" وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا: {فِي سِتَّةِ أيام} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ بَقِيَ لَمْ يُخْلَقْ فِيهِ شَيْءٌ وَالظَّاهِرُ من الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدأ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخُلِقَ آدَمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا يَسْتَقِيمُ مَعَ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَوَقَعَ في صحيح مسلم أن الخلق ابتدأ يَوْمَ السَّبْتِ فَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ آدَمَ ثُمَّ يَكُونُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ آدَمَ حِينَئِذٍ لَمْ يكن فيما بينهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 النوع السادس والثلاثون: مَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ متشابهات} قِيلَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزل إليهم وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ وَالْمُحْكَمُ لَا تُوقَفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ وَقَدْ حَكَى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ لقوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته} وَالثَّانِي: كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أحسن الحديث كتابا متشابها} وَالثَّالِثُ: -وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الكتاب} فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَأَصْلُهُ لُغَةً الْمَنْعُ تَقُولُ أَحْكَمْتُ بِمَعْنَى رَدَدْتُ وَمَنَعْتُ وَالْحَاكِمُ لِمَنْعِهِ الظَّالِمُ مِنَ الظُّلْمِ وَحَكَمَةُ اللِّجَامِ هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ الْفَرَسَ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ مَا أحكمته بالأمر وَالنَّهْيِ وَبَيَانِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتوا الزكاة} وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ حُكْمًا مَذْكُورَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: هُوَ النَّاسِخُ وَقِيلَ: الْفَرَائِضُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَقِيلَ: الَّذِي وَعَدَ عَلَيْهِ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا وَقِيلَ: الَّذِي تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ بِجَعْلِ الْقُلُوبِ تَعْرِفُهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} و {ليس كمثله شيء} وقيل: مالا يَحْتَمِلُ فِي التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَقِيلَ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُهُ وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَأَصْلُهُ أَنْ يَشْتَبِهَ اللَّفْظُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ ثَمَرِ الْجَنَّةِ {وأتوا به متشابها} أَيْ مُتَّفِقَ الْمَنَاظِرِ مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ وَيُقَالُ لِلْغَامِضِ: مُتَشَابِهٌ لِأَنَّ جِهَةَ الشَّبَهِ فِيهِ كَمَا تَقُولُ لِحُرُوفِ التَّهَجِّي وَالْمُتَشَابِهُ مِثْلُ الْمُشْكِلِ لِأَنَّهُ أَشْكَلَ أَيْ دَخَلَ فِي شَكْلِ غَيْرِهِ وَشَاكَلَهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: هُوَ الْمُشْتَبَهُ الَّذِي يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَقِيلَ: هُوَ الْمَنْسُوخُ الْغَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ وَقِيلَ: الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ وَقِيلَ: مَا أُمِرْتَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ وَتَكِلَ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ وَقِيلَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَقِيلَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 مَا لَا يُدْرَى إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ وَلَا بُدَّ من صرفه إليه كقوله: {تجري بأعيننا} وَ {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} وَقِيلَ: الْآيَاتُ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا وَقْتَ السَّاعَةِ وَمَجِيءَ الْغَيْثِ وَانْقِطَاعَ الْآجَالِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عنده علم الساعة} وَقِيلَ: مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَالْمُحْكَمُ مَا يَحْتَمِلُ وجها واحدا وقيل: مالا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَكُلُّهَا مُتَقَارِبٌ وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي ذلك أن الله سبحانه قَسَمَ الْحَقَّ بَيْنَ عِبَادِهِ فَأَوْلَاهُمْ بِالصَّوَابِ مَنْ عَبَّرَ بِخِطَابِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم ولعلهم يتفكرون} ثم قال: {ثم إن علينا بيانه} أَيْ عَلَى لِسَانِكَ وَأَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أُمَّتِكَ وَكَلَامُ السَّلَفِ رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْتَبَهِ بِوَجْهٍ لَا إِلَى الْمَقْصُودِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي خِطَابِهِ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ إِذَا دَقَّتْ تَدَاخَلَتْ وَتَشَابَهَتْ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا كَالْأَشْجَارِ إِذَا تَقَارَبَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ تَدَاخَلَتْ أَمْثَالُهَا وَاشْتَبَهَتْ أي عَلَى مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مُنْبَعَثِ كُلِّ فَنٍّ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} إِلَى قَوْلِهِ: {مُتَشَابِهًا} وَهُوَ عَلَى اشْتِبَاكِهِ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ وَكَذَلِكَ سِيَاقُ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ قَدْ تَتَقَارَبُ الْمَعَانِي وَيَتَقَدَّمُ الْخِطَابُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ويتأخر بعضه عن بعض لحكمة الله فِي تَرْتِيبِ الْخِطَابِ وَالْوُجُودِ فَتَشْتَبِكُ الْمَعَانِي وَتُشْكِلُ إِلَّا عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ فَيُقَالُ فِي هَذَا الْفَنِّ مُتَشَابِهٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَهُوَ يُشَابِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِعْجَازِ وَالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّهُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 عِنْدِ اللَّهِ فَذَمَّ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ عَلَيْهِمُ افْتِتَانًا وَتَضْلِيلًا فَهُمْ بِذَلِكَ يتبعون ما تشابه عَلَيْهِمْ تَنَاصُرًا وَتَعَاضُدًا لِلْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ تَفْرِيعَاتٌ الْأَوَّلُ: الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ إِلَى أُصُولِهَا فَيَجِبُ رَدُّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ إلى محكم ليس كمثله شيء وَرَدُّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ فلله الحجة البالغة} وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْمُوهِمَةُ نِسْبَةَ الْأَفْعَالِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ تُرَدُّ إِلَى مُحْكَمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حرجا} وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ تَنَزُّلِ الْخِطَابِ أَوْ ضَرْبِ مِثَالٍ أَوْ عِبَارَةٍ عَنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَعِيَّةٍ أَوْ مَا يُوهِمُ التَّشْبِيهَ فَمُحْكَمُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله: {ولله المثل الأعلى} وقوله: {قل هو الله أحد} وَمِنْهُ ضَرْبٌ فِي تَفْصِيلِ ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَوَصْفِ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ وَمُحْكَمُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله: {وما ينطق عن الهوى} وَمِنْهُ ضَرْبٌ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِحَسْبِ فَهْمِهِمْ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وَمِنْهُ شَيْءٌ يَتَقَارَبُ فِيهِ بَيْنَ اللَّمَّتَيْنِ لَمَّةُ الْمَلَكِ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَمُحْكَمُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الْآيَةَ وَلِهَذَا قَالَ عَقِبَهُ: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ عِنْدَمَا يَلْقَى الْعَدُوَّ الَّذِي لَا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ بَلْ بِالشَّرِّ وَالْإِلْبَاسِ وَمِنْهُ الْآيَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ وَلَا يُقْطَعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا مُفَصَّلًا بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِهِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ أَعْنِي قَوْلَهُ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ الآية مِنْ حَيْثُ تَرَدُّدُ الْوَقْفِ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى {إِلَّا اللَّهُ} وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَتَرَدُّدُ الْوَاوِ فِي {وَالرَّاسِخُونَ} بَيْنَ الِاسْتِئْنَافِ وَالْعَطْفِ وَمِنْ ثَمَّ ثَارَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ وَأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى والراسخون {إِلَّا اللَّهُ} وَأَنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَ مِنْ كِتَابِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ كَمَا تَعَبَّدَهُمْ مِنْ دِينِهِ بِمَا لَا يَعْقِلُونَ وَهُوَ التَّعَبُّدَاتُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ حَالًا فَضْلَةً وَخَبَرًا عُمْدَةً وَالثَّانِي أَوْلَى. وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا لِلْعَطْفِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا لِيَنْتَفِعَ بِهِ عِبَادُهُ وَيَدُلَّ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَرَادَهُ فَلَوْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ اللَّهِ لَلَزِمَنَا وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمِ الْمُتَشَابِهَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْرِفَهُ الرَّسُولُ مَعَ قَوْلِهِ: {وما يعلم تأويله إلا الله} جَازَ أَنْ يَعْرِفَهُ الرَّبَّانِيُّونَ مِنْ صَحَابَتِهِ وَالْمُفَسِّرُونَ مَنْ أُمَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَيَقُولُ عِنْدَ قِرَاءَةِ قَوْلِهِ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {ما يعلمهم إلا قليل} أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قوله تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في العلم} يعلمونه ويقولون آمنا به وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَظٌّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَى الْجَاهِلِ لِأَنَّ الْكُلَّ قَائِلُونَ ذَلِكَ وَنَحْنُ لَمْ نَرَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ تَوَقَّفُوا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: هُوَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ بَلْ أَمَرُّوهُ عَلَى التَّفْسِيرِ حَتَّى فَسَّرُوا الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَعْلَمَ الرَّاسِخُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العلم يقولون آمنا به} وَإِذَا أَشْرَكَهُمْ فِي الْعِلْمِ انْقَطَعُوا عَنْ قَوْلِهِ: {يَقُولُونَ} لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا عَطْفٌ حَتَّى يُوجِبَ لِلرَّاسِخِينَ فِعْلَيْنِ! قُلْنَا: إِنَّ {يَقُولُونَ} هُنَا فِي مَعْنَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قَائِلِينَ آمَنَّا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامَهْ أَيْ لَامِعًا وَقِيلَ الْمَعْنَى: يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ فَحَذَفَ وَاوَ الْعَطْفِ كقوله {وجوه يومئذ ناضرة} وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ: عَلِمْنَا وَآمَنَّا لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ العلم محال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيمَانُ مَعَ الْجَهْلِ وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا لَمْ يَكُونُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجُهَّالِ الثَّالِثُ: وَمِنْ هَذَا الْخِلَافِ نَشَأَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا تَعْلَمُ الْأُمَّةُ تَأْوِيلَهُ قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ وَذَهَبَ عَامَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ كُلَّ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى إِبْطَالِ فَائِدَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: {وَالرَّاسِخُونَ} بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّهُ} وَقَوْلُهُ: {يَقُولُونَ} جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ قَالَ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ بَعْضُ مالا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ حَلَالٍ وحرام ووجه لا يسع أحد جَهَالَتُهُ وَوَجْهٍ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَوَجْهٌ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُتَشَابِهُ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا الْتَبَسَ مِنَ الْمَعْنَى لِدُخُولِ شَبَهِهِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ نَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنَّ البقر تشابه علينا} الْآيَةَ وَالثَّانِي: اسْمٌ لِمَا يُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ويصدقه قوله تعالى: {كتابا متشابها مثاني} الْآيَةَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ الْأَوَّلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إِلَى مُرَادِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُطْلِعَهُمْ عَلَيْهِ بِنَوْعٍ مِنْ لُطْفِهِ لِأَنَّهُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الثَّانِيَ جَازَ أَنْ يَعْلَمُوا مُرَادَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 الرَّابِعُ: قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ مِمَّنْ أَرَادَ لِعِبَادِهِ الْبَيَانَ وَالْهُدَى؟ قُلْنَا: إِنْ كان مما يُمْكِنُ عِلْمُهُ فَلَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: لِيَحُثَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِغَوَامِضِهِ وَالْبَحْثِ عَنْ دَقَائِقِ مَعَانِيهِ فَإِنَّ اسْتِدْعَاءَ الْهِمَمِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ وَحَذَرًا مِمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} وَلِيَمْتَحِنَهُمْ وَيُثِيبَهُمْ كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخلق ثم يعيده} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْمَنَازِلِ هُوَ الثَّوَابُ فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ لَسَقَطَتِ الْمِحْنَةُ وَبَطَلَ التَّفَاضُلُ وَاسْتَوَتْ مَنَازِلُ الْخَلْقِ وَلَمْ يَفْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ بَلْ جَعَلَ بَعْضَهُ مُحْكَمًا لِيَكُونَ أَصْلًا لِلرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهًا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِخْرَاجِ وَرَدِّهِ إِلَى الْمُحْكَمِ لِيُسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الثَّوَابُ الَّذِي هُوَ الْغَرَضُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} وَمِنْهَا: إِظْهَارُ فَضْلِ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ وَيَسْتَدْعِيهِ عِلْمُهُ إِلَى الْمَزِيدِ فِي الطَّلَبِ فِي تَحْصِيلِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ دَرَجَةُ الْفَضْلِ وَالْأَنْفُسُ الشَّرِيفَةُ تَتَشَوَّفُ لطلب العلم وتحصيله وأما إن كان مما لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ فَلَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: إِنْزَالُهُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا بِالْوَقْفِ فِيهِ وَالتَّعَبُّدِ بِالِاشْتِغَالِ مِنْ جِهَةِ التِّلَاوَةِ وَقَضَاءِ فَرْضِهَا وَإِنْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمُرَادِ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ اعْتِبَارًا بِتِلَاوَةِ الْمَنْسُوخِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 من القرآن وإن لم يعجز الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمُحْكَمِ وَيَجُوزُ أَنْ يمتحنهم بالإيمان بها حَيْثُ ادَّعَوْا وُجُوبَ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ وَمِنْهَا: إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهَا عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَلُغَتِهِمْ ثُمَّ عَجَزُوا عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا فِيهَا مَعَ بَلَاغَتِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْوُقُوفِ هُوَ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ عَنْ تَكَرُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْخَامِسُ: أَثَارَ بَعْضُهُمْ سُؤَالًا وَهُوَ هَلْ لِلْمُحْكَمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَشَابِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ وَالثَّانِي خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَالْأَوَّلُ يَنْقُضُ أَصْلَكُمْ أَنَّ جَمِيعَ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ سَوَاءٌ وَأَنَّهُ نُزِّلَ بِالْحِكْمَةِ وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَكْرَابَاذِيُّ بِأَنَّ الْمُحْكَمَ كَالْمُتَشَابِهِ مِنْ وَجْهٍ وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ فَيَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ الْوَاضِعِ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ الْقَبِيحَ وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْمُحْكَمَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ فَمَنْ سَمِعَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ فِي الْحَالِ وَالْمُتَشَابِهَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ مُبْتَدَأٍ وَنَظَرٍ مُجَدِّدٍ عِنْدَ سَمَاعِهِ لِيَحْمِلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ آصَلُ وَالْعِلْمُ بِالْأَصْلِ أَسْبَقُ وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ يُعْلَمُ مُفَصَّلًا وَالْمُتَشَابِهَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مُجْمَلًا فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْمُحْكَمُ بِالْوَضْعِ كَالْمُتَشَابِهِ وَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّ مِنْ حَقِّ هَذِهِ اللُّغَةِ أَنْ يَصِحَّ فِيهَا الِاحْتِمَالُ وَيَسُوغَ التَّأْوِيلُ فَبِمَا يُمَيَّزُ الْمُحْكَمُ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَزِيَّةٍ سِيَّمَا وَالنَّاسُ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَذَاهِبِ فَالْمُحْكَمُ عِنْدَ السُّنِّيِّ مُتَشَابِهٌ عِنْدَ الْقَدَرِيِّ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي أَوْرَدْتَهُ يُلْجِئُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْعُقُولِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 بِالتَّفْرِيدِ وَالتَّنْزِيهِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خِطَابِهِ يَفْتَقِرُ إِلَى الْعِلْمِ بِحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ لِيَصِحَّ لَهُ مَخْرَجُ كَلَامِهِ فَأَمَّا فِي الْكَلَامِ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَزِيَّةٍ لِلْمُحْكَمِ وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى الْمُرَادِ أَوْ يقتضي بانضمامه أَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَ الْوَاحِدَ وَلِلْمُحْكَمِ فِي بَابِ الْحِجَاجِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُخَالِفِ مَزِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَأَنَّ ظَاهِرَ الْمُحْكَمِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَإِنْ تَمَسَّكَ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَعَدَلَ عَنْ مُحْكَمِهِ لَمَّا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالشُّبَهِ الْعَقْلِيَّةِ وَعَدَلَ عَنِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَذَلِكَ لُطْفٌ وَبَعْثٌ عَلَى النَّظَرِ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْمُتَدَيِّنَ يُؤْثِرُ ذَلِكَ لِيَتَفَكَّرَ فِيهِ وَيَعْمَلَ فَإِنَّ اللُّغَةَ وَإِنْ تَوَقَّفَتْ مُحْتَمِلَةٌ فَفِيهَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وَإِنْ جَازَ صَرْفُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالدَّلِيلِ ثُمَّ يَخْتَلِفُ فَفِيهِ مَا يُكْرَهُ صَرْفُهُ لِاسْتِبْعَادِهِ فِي اللُّغَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 النَّوْعُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي حُكْمِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَارِدِ مِنْهَا فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا وَلَا تُؤَوِّلُ شَيْئًا مِنْهَا وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ الشَّبَهِ وَالتَّعْطِيلِ وَنَقُولُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ وَأَوَّلُوهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَالْأَخِيرَانِ مَنْقُولَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَنُقِلَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الِاسْتِوَاءِ فَقَالَتْ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ سُئِلَ عَنْهُ مَالِكٌ فَأَجَابَ بِمَا قَالَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهَا أَنَّ مَنْ عَادَ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ عَنْهُ أَضْرِبُ عُنُقَهُ وَكَذَلِكَ سُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَقَالَ: أَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ استوى} مَا أَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السماء} وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَمَا قَالَ: وَإِنِّي لَأَرَاكَ ضَالًّا وَسُئِلَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ أَقَائِمٌ هُوَ أَمْ قَاعِدٌ فَقَالَ لَا يَمَلُّ القيام حتى يقعد ولا يمل القعود حتى يقوم وأنت إلى هَذَا السُّؤَالِ أَحْوَجُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الأمة وسادتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وَإِيَّاهَا اخْتَارَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ عنهم في غير موضع بتهجين مَا سِوَاهَا حَتَّى أَلْجَمَ آخِرًا فِي إِلْجَامِهِ كُلَّ عَالِمٍ أَوْ عَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا قَالَ وَهُوَ كِتَابُ إِلْجَامُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ آخر تصانيف الغزالي مطلقا آخِرُ تَصَانِيفِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ حَثَّ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ التَّأْوِيلُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَوَّلَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قُلْتُ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى تَأْوِيلَ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أو يأتي ربك} قَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلَّا أَمْرُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} ! وَاخْتَارَ ابْنُ بَرْهَانَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ التَّأْوِيلَ قَالَ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الْفَرِيقَيْنِ: أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ فَلِهَذَا مَنَعُوا التَّأْوِيلَ وَاعْتَقَدُوا التَّنْزِيهَ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلِ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ قُلْتُ: وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى التَّأْوِيلِ وُجُوبُ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ الْمَفْهُومِ مِنْ حَقِيقَتِهِ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْمُتَشَابِهِ وَالْجِسْمِيَّةِ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى وَالْخَوْضُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ خَطَرُهُ عَظِيمٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ تَغَايُرٌ فِي الْأُصُولِ بَلِ التَّغَايُرُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ وَاسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا تَغَايُرَ بَيْنِهِمَا فِي الْأُصُولِ لِمَا عُلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُكَذِّبُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ إِذْ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ الْعَقْلُ إِذْ هُوَ دَلِيلُ الشَّرْعِ وَكَوْنُهُ حَقًّا وَلَوْ تُصُوِّرَ كَذِبُ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ لَتُصُوِّرَ كَذِبُهُ فِي صِدْقِ الشَّرْعِ فَمَنْ طَالَتْ مُمَارَسَتُهُ الْعُلُومَ وَكَثُرَ خَوْضُهُ فِي بُحُورِهَا أَمْكَنَهُ التَّلْفِيقُ بَيْنَهُمَا لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا تَأْوِيلٌ يَبْعُدُ عَنِ الْأَفْهَامِ أَوْ مَوْضِعٌ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ وَجْهُ التَّأْوِيلِ لِقُصُورِ الْأَفْهَامِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَالطَّمَعُ فِي تَلْفِيقِ كُلِّ مَا يَرِدُ مُسْتَحِيلُ الْمَرَامِ وَالْمَرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البصير} وَنَحْنُ نَجْرِي فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى طَرِيقِ الْمُؤَوِّلِينَ حَاكِينَ كَلَامَهُمْ فَمِنْ ذَلِكَ صِفَةُ الِاسْتِوَاءِ فَحَكَى مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ استوى بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ فَإِنَّ الِاسْتِقْرَارَ يُشْعِرُ بِالتَّجْسِيمِ وَعَنِ الْمُعْتَزِلَةِ بمعنى استولى وقهر ورد بوجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 أَحَدُهُمَا: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَوْلٍ عَلَى الْكَوْنَيْنِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهْلِهِمَا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَخْصِيصِ الْعَرْشِ! الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: بِمَعْنَى صَعِدَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُوجِبُ هُبُوطًا مِنْهُ تَعَالَى حَتَّى يَصْعَدَ وَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ وَقِيلَ: {الرحمن على العرش اسْتَوَى} فَجَعَلَ عَلَا فِعْلًا لَا حَرْفًا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه جعل الصفة فعلا وَمَصَاحِفُ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ قَاطِعَةٌ بِأَنَّ عَلَى هُنَا حَرْفٌ وَلَوْ كَانَ فِعْلًا لَكَتَبُوهَا بِاللَّامِ أَلِفٍ كَقَوْلِهِ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَفَعَ الْعَرْشَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: {اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَهَذَا رَكِيكٌ يُزِيلُ الْآيَةَ عَنْ نَظْمِهَا وَمُرَادِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 قَالَ الْأُسْتَاذُ وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اسْتَوَى} أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهِ فَسَمَّاهُ اسْتِوَاءً كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السماء وهي دخان} أَيْ قَصَدَ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ فَكَذَا هَاهُنَا قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَرَضِيٌّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ فِيهِ تَعْطِيلٌ وَلَا تَشْبِيهٌ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: عَلَى هُنَا بِمَعْنَى فِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {على ملك سليمان} وَمَعْنَاهُ أَحْدَثَ اللَّهُ فِي الْعَرْشِ فِعْلًا سَمَّاهُ اسْتِوَاءً كَمَا فَعَلَ فِعْلًا سَمَّاهُ فَضْلًا وَنِعْمَةً قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ونعمة} فَسَمَّى التَّحْبِيبَ وَالتَّكْرِيهَ فَضْلًا وَنِعْمَةً وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أَيْ فَخَرَّبَ اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ وَقَالَ: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ من حيث لم يحتسبوا} أي قصدهم وكما أن التخريب والتعذيب سماهما إِتْيَانًا فَكَذَلِكَ أَحْدَثَ فِعْلًا بِالْعَرْشِ سَمَّاهُ اسْتِوَاءً قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ وَلِلْعَرْشِ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْظَمُ وَالْمَلَائِكَةُ حَافُّونَ بِهِ وَدَرَجَةُ الْوَسِيلَةِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ وَأَنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أعلم ما في نفسك} قِيلَ: النَّفْسُ هَاهُنَا الْغَيْثُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ كَالنَّفْسِ قَوْلُهُ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أَيْ عُقُوبَتَهُ وَقِيلَ: يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} اخْتَارَ الْبَيْهَقِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرض} وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمُوجَزِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ} أَيْ عَالِمٌ بِمَا فِيهِمَا وَقِيلَ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} جُمْلَةٌ تَامَّةٌ {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ} كَلَامٌ آخَرُ وَهَذَا قَوْلُ الْمُجَسِّمَةِ وَاسْتَدَلَّتِ الْجَهْمِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ وَظَاهِرُ مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْآيَةِ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} قِيلَ: اسْتِعَارَةُ الْوَاوِ مَوْضِعَ الْبَاءِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ إِذِ الْبَاءُ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِلْصَاقِ وَهُوَ جَمْعٌ وَالْوَاوُ مَوْضُوعَةٌ لِلْجَمْعِ وَالْحُرُوفُ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَقُولُ عُرْفًا: جَاءَ الْأَمِيرُ بِالْجَيْشِ إِذَا كَانَ مَجِيئُهُمْ مُضَافًا إِلَيْهِ بِتَسْلِيطِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَكَ إِنَّمَا يَجِيءُ بِأَمْرِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ بأمره يعملون} فَصَارَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَقَالَ: جَاءَ الملك بأمر ربك وهو كقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 {اذهب أنت وربك} أَيِ اذْهَبْ أَنْتَ بِرَبِّكَ أَيْ بِتَوْفِيقِ رَبِّكَ وَقُوَّتِهِ إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَاتِلُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ صَرْفُ الْكَلَامِ إِلَى الْمَفْهُومِ فِي الْعُرْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ شِدَّةٍ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَيْ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ قَالَ الشَّاعِرُ: *وَقَامَتِ الحرب عن سَاقْ* وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَانَاةٍ وَجِدٍّ فِيهِ شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ فَاسْتُعِيرَتِ السَّاقُ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْتُ فِي جنب الله} قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: مَعْنَاهُ مَا فَرَّطْتُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي ذَلِكَ وَالْجَنْبُ الْمَعْهُودُ مِنْ ذَوِي الْجَوَارِحِ لَا يَقَعُ فِيهِ تَفْرِيطٌ أَلْبَتَّةَ فَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ! قَوْلُهُ تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} فَرَغَ يَأْتِي بِمَعْنَى قَطَعَ شُغْلًا أَتَفَرَّغُ لَكَ أَيْ أَقْصِدُ قَصْدَكَ وَالْآيَةُ مِنْهُ أَيْ سَنَقْصِدُ لِعُقُوبَتِكُمْ وَنُحْكِمُ جَزَاءَكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذبا} إِنْ قِيلَ: لِأَيِّ عِلَّةٍ نُسِبَ الظَّنُّ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ شَكٌّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 قِيلَ: فِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ لِفِرْعَوْنَ وَهُوَ شَكٌّ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ: {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} وَإِنِّي لَأَظُنُّ مُوسَى كَاذِبًا فَالظَّنُّ عَلَى هَذَا لِفِرْعَوْنَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} عَلَى مَعْنَى وَإِنِّي لَأَعْلَمُهُ كَاذِبًا فَإِذَا كَانَ الظَّنُّ لِلَّهِ كَانَ عِلْمًا وَيَقِينًا وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا كَقَوْلِهِ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} لَمْ يُرِدْ سُبْحَانَهُ بِنَفْيِ النَّوْمِ وَالسِّنَةِ عَنْ نَفْسِهِ إِثْبَاتَ الْيَقَظَةِ وَالْحَرَكَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلَّهِ تَعَالَى يَقْظَانُ وَلَا نَائِمٌ لِأَنَّ الْيَقْظَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ نَوْمٍ وَلَا يَجُوزُ وَصْفُ الْقَدِيمِ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا عَنْكَ بِغَافِلٍ قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} قَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْيَدُ فِي الْأَصْلِ كَالْمَصْدَرِ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ وَلِذَلِكَ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَيْدِي مَقْرُونَةً مَعَ الْأَبْصَارِ فِي قَوْلِهِ: {أُولِي الأيدي والأبصار} وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِالْجَوَارِحِ لِأَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ لَا بِالْجَوَاهِرِ قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصَحَّ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّ الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {ما خلقت بيدي} صِفَةٌ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا فِي مَعْنَى الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَلَا قَطَعَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ تَحَرُّزًا مِنْهُ عَنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَقَطَعَ بِأَنَّهَا صِفَةٌ تَحَرُّزًا عَنْ مَذَاهِبِ الْمُشَبِّهَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ خُوطِبُوا بِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِذِ الْيَدُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مَعْنَاهَا وَلَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ تَوَهُّمَ التَّشْبِيهِ وَلَا احْتَاجَ إِلَى شَرْحٍ وَتَنْبِيهٍ وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ لَوْ كَانَ لَا يُعْقَلُ عِنْدَهُمْ إِلَّا فِي الْجَارِحَةِ لَتَعَلَّقُوا بِهَا فِي دَعْوَى التَّنَاقُضِ وَاحْتَجُّوا بِهَا عَلَى الرَّسُولِ وَلَقَالُوا: زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ثُمَّ تُخْبِرُ أَنَّ لَهُ يَدًا وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ جَلِيًّا لَا خَفَاءَ بِهِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ سُمِّيَتِ الْجَارِحَةُ بِهَا مَجَازًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْمَجَازُ فِيهَا حَتَّى نُسِيَتِ الْحَقِيقَةُ وَرُبَّ مُجَازٍ كَثِيرٍ اسْتُعْمِلَ حَتَّى نُسِيَ أَصْلُهُ وَتُرِكَتْ صِفَتُهُ وَالَّذِي يَلُوحُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْقُدْرَةِ إِلَّا أَنَّهَا أَخَصُّ وَالْقُدْرَةُ أَعَمُّ كَالْمَحَبَّةِ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ فَالْيَدُ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَلِذَا كَانَ فِيهَا تَشْرِيفٌ لَازِمٌ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ في تفسير قوله تعالى: {ما خلقت بيدي} فِي تَحْقِيقِ اللَّهِ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ قَالَ مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد والصلة مجازه لما خلقت كقوله: {ويبقى وجه ربك} قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَيْرُ قَوِيٍّ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صِلَةً لَكَانَ لِإِبْلِيسَ أَنْ يَقُولَ إِنْ كُنْتَ خَلَقْتَهُ فَقَدْ خَلَقْتَنِي وَكَذَلِكَ فِي الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ لَا يَكُونُ لِآدَمَ فِي الْخَلْقِ مَزِيَّةٌ عَلَى إِبْلِيسَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِمَّا عملت أيدينا} فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الِاثْنَيْنِ جَمْعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هذان خصمان اختصموا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وَأَمَّا الْعَيْنُ فِي الْأَصْلِ فَهِيَ صِفَةٌ وَمَصْدَرٌ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ ثُمَّ عُبِّرَ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ قَالَ: وَحِينَئِذٍ فَإِضَافَتُهَا لِلْبَارِئِ فِي قوله: {ولتصنع على عيني} حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ كَمَا تَوَهَّمَ أَكْثَرُ النَّاسِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ فِي مَعْنَى الرُّؤْيَةِ وَالْإِدْرَاكِ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي تَسْمِيَةِ الْعُضْوِ بِهَا وَكُلُّ شَيْءٍ يُوهِمُ الْكُفْرَ وَالتَّجْسِيمَ فَلَا يُضَافُ إِلَى الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسْأَلَ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ قَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بحرف على وقال: {تجري بأعيننا} {واصنع الفلك بأعيننا} وَمَا الْفَرْقُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَرَدَتْ فِي إِظْهَارِ أَمْرٍ كَانَ خَفِيًّا وَإِبْدَاءِ مَا كَانَ مَكْنُونًا فَإِنَّ الْأَطْفَالَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا يغذون ويصنعون شرا فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصْنَعَ مُوسَى وَيُغَذَّى وَيُرَبَّى عَلَى جَلِيِّ أَمْنٍ وَظُهُورِ أَمْرٍ لَا تَحْتَ خَوْفٍ وَاسْتِسْرَارٍ دَخَلَتْ عَلَى فِي اللَّفْظِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّهَا تُعْطِي مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالِاسْتِعْلَاءُ ظُهُورٌ وَإِبْدَاءٌ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى أَمْنٍ لَا تَحْتَ خَوْفٍ وَذَكَرَ الْعَيْنَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْكَلَأِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} {واصنع الفلك بأعيننا} فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ فِي رِعَايَةٍ مِنَّا وَحِفْظٍ وَلَا يُرِيدُ إِبْدَاءَ شَيْءٍ وَلَا إِظْهَارَهُ بَعْدَ كَتْمٍ فَلَمْ يَحْتَجِ الْكَلَامُ إِلَّا مَعْنَى عَلَى وَلَمْ يَتَكَلَّمِ السُّهَيْلِيُّ عَلَى حِكْمَةِ الْإِفْرَادِ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْجَمْعِ فِي الْبَاقِي وَهُوَ سِرٌّ لَطِيفٌ وَهُوَ إِظْهَارُ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي خُصَّ بِهِ موسى في قوله: {واصطنعتك لنفسي} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 فَاقْتَضَى الِاخْتِصَاصُ الِاخْتِصَاصَ الْآخَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} بخلاف قوله: {تجري بأعيننا} واصنع الفلك بأعيننا فَلَيْسَ فِيهِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ مَا فِي صُنْعِ مُوسَى عَلَى عَيْنِهِ سُبْحَانَهُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا النَّفْسُ فَعِبَارَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ دُونَ مَعْنًى زَائِدٍ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ مِنْ لَفْظِهَا النَّفَاسَةُ وَالشَّيْءُ النَّفِيسُ فَصَلُحَتْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ وَأَمَّا الذَّاتُ فَقَدِ اسْتَوَى أَكْثَرُ النَّاسِ بِأَنَّهَا مَعْنَى النَّفْسِ وَالْحَقِيقَةِ وَيَقُولُونَ ذَاتُ الْبَارِئِ هِيَ نَفْسُهُ وَيُعَبِّرُونَ بِهَا عَنْ وُجُودِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ ثَلَاثُ كِذْبَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَالَ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ إِذَا اسْتَقْرَيْتَهَا فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ كَمَا زَعَمُوا وَإِلَّا لَقِيلَ عَبَدْتُ ذَاتَ اللَّهِ وَاحْذَرْ ذَاتَ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ وَلَا يُقَالُ إِلَّا بِحَرْفٍ فِي الْمُسْتَحِلِّ مَعْنَاهُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى لَكِنْ حَيْثُ وَقَعَ فَالْمُرَادُ بِهِ الدِّيَانَةُ وَالشَّرِيعَةُ الَّتِي هِيَ ذَاتُ اللَّهِ فَذَاتٌ وَصْفٌ لِلدِّيَانَةِ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَقَدْ بَانَ غَلَطُ مَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْعَجَبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قوله: {بل عجبت} عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ حَلُّوا مَحَلَّ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْكَارُ الشَّيْءِ وَتَعْظِيمُهُ وَهُوَ لُغَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 العرب وفي الحديث: "عجب ربكم من زللكم وَقُنُوطِكُمْ" وَقَوْلُهُ: "إِنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْوَةٌ" قَالَ الْبَغَوِيُّ وَسَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ النَّيْسَابُورِيَّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيَّ يَقُولُ سُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ من شيء ولكن الله وافق رسوله فقال وإن تعجب فعجب قولهم أَيْ هُوَ كَمَا يَقُولُهُ فَائِدَةٌ كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَوْ {تَتَّقُونَ} أَوْ {تَشْكُرُونَ} فَالْمُعْتَزِلَةُ يُفَسِّرُونَهُ بِالْإِرَادَةِ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ وَوُقُوعُ الشَّرِّ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُفَسِّرُونَهُ بِالطَّلَبِ لِمَا فِي التَّرَجِّي مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالطَّلَبُ غَيْرُ الْإِرَادَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُونُوا مُتَّقِينَ أَوْ مُفْلِحِينَ إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى بَلْ كُلُّ الْكَائِنَاتِ مَخْلُوقَةٌ لَهُ تَعَالَى وَوُقُوعُهَا بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كبيرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ إِعْجَازِهِ وَقَدِ اعْتَنَى بِذَلِكَ الْأَئِمَّةُ وَأَفْرَدُوهُ بِالتَّصْنِيفِ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ وَكِتَابُ الْخَطَّابِيِّ وَالرُّمَّانِيِّ وَالْبُرْهَانُ لِعَزِيزِيِّ وغيرهم وهو علم جليل عَظِيمُ الْقَدْرِ لِأَنَّ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَتُهَا الْبَاقِيَةُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يُوجِبُ الِاهْتِمَامَ بِمَعْرِفَةِ الْإِعْجَازِ قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فأجره حتى يسمع كلام الله} فَلَوْلَا أَنَّ سَمَاعَهُ إِيَّاهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَمْ يَقِفْ أَمْرُهُ عَلَى سَمَاعِهِ وَلَا تَكُونُ حُجَّةً إِلَّا وَهِيَ مُعْجِزَةٌ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عليهم} فأخبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الْكِتَابَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ وَأَنَّهُ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ قَائِمٌ مَقَامَ مُعْجِزَاتِ غَيْرِهِ وَآيَاتِ سِوَاهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمَّا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عيه وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ وَكَانُوا أَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ وَمَصَاقِعَ الْخُطَبَاءِ تَحَدَّاهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَأَمْهَلَهُمْ طُولَ السِّنِينَ فَلَمْ يَقْدِرُوا يُقَالُ تَحَدَّى فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا دَعَاهُ إِلَى أَمْرٍ لِيُظْهِرَ عَجْزَهُ فِيهِ وَنَازَعَهُ الْغَلَبَةَ فِي قِتَالٍ أَوْ كَلَامِ غَيْرِهِ ومنه أنا حدياك أي ابرزلي وَحْدَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّى الْعَرَبَ قَاطِبَةً بِالْقُرْآنِ حِينَ قَالُوا افْتَرَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} فَلَمَّا عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ تُشَاكِلُ القرآن قال تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} ثُمَّ كَرَّرَ هَذَا فَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ من مثله} أَيْ مِنْ كَلَامٍ مِثْلِهِ وَقِيلَ مِنْ بِشَرٍ مِثْلِهِ وَيُحَقِّقُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ تُشْبِهُ الْقُرْآنَ عَلَى كَثْرَةِ الْخُطَبَاءِ فِيهِمْ وَالْبُلَغَاءِ قَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كان بعضهم لبعض ظهيرا} فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِهِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لِعَجْزِهِمْ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَفَعَلُوا وَلَمَا عَدَلُوا إِلَى الْعِنَادِ تَارَةً وَالِاسْتِهْزَاءِ أُخْرَى فَتَارَةً قَالُوا: سِحْرٌ وَتَارَةً قَالُوا: شِعْرٌ وَتَارَةً قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّحَيُّرِ وَالِانْقِطَاعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 قَالَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ مَكِّيٌّ فِي اخْتِصَارِهِ نَظْمَ الْقُرْآنِ لِلْجُرْجَانِيِّ قَالَ الْمُؤَلِّفَ: أَنْزَلَهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ بِضُرُوبٍ مِنَ النَّظْمِ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ وَلَكِنِ الْأَعْصَارُ تَتَغَيَّرُ وَتَطُولُ فَيَتَغَيَّرُ النَّظْمُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ وَالنَّظَرُ كُلُّهُ جَارٍ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْزِلَهُ عَلَى نَظْمٍ لَيْسَ مِنْ لِسَانِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} وَفِي قَوْلِهِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهُ لِجَهْلِهِمْ بِهِ وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَهْلُهُمْ إِلَّا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِنَظْمٍ لَمْ يَعْرِفُوهُ إِذْ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ حَجَّةً وَجَهْلُنَا بِالنَّظْمِ لِتَأَخُّرِنَا عَنْ رُتَبِ الْقَوْمِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَائِزٌ وَلَا يُمْنَعُ فَمَنْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ كَانَ يَفْهَمُهُ إِذَا تَدَبَّرَهُ لِأَنَّهُ بِلُغَتِهِ وَنَحْنُ إِنَّمَا نَفْهَمُ بِالتَّعْلِيمِ انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُشْكِلٌ فَإِنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَفِظُوا الْبَقَرَةَ فِي مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْفَظُونَ مَعَ التَّفَهُّمِ وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ ذُكِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِعْجَازٌ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي: بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْجَازِهِ فَقِيلَ إِنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الذَّاتِ وإن العرب كلفت في ذلك مالا تُطِيقُ وَفِيهِ وَقَعَ عَجْزُهَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ بِالدَّالِّ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحَدِّي بِشَيْءٍ مَعَ جَهْلِ الْمُخَاطَبِ بِالْجِهَةِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا التَّحَدِّي وَلَا يَتَّجِهُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمِثْلِهِ إِنْ صَنَعْتَ خَاتَمًا كُنْتَ قَادِرًا عَلَى أَنْ تَصْنَعَ مِثْلَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَدَّعِي عَجْزَ الْمُخَاطَبِ عَنْهَا فَنَقُولُ الْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِمَّا أَنْ يَعْنِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِهِ أَوْ إِلَى عَوَارِضِهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالتَّأْلِيفِ أَوْ إِلَى مَدْلُولِهِ أَوْ إِلَى الْمَجْمُوعِ أَوْ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِ الْكَلِمِ الْمُفْرَدَةِ فَقَطْ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَاطِبَةً كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَوَارِضِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالتَّأَلُّفِ فَقَطْ لِأَنَّهُ يُحْوِجُ إِلَى مَا تَعَاطَاهُ مُسَيْلِمَةُ مِنَ الْحَمَاقَةِ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَوَاهِرْ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَهَاجِرْ إِنَّ شَانِئَكَ هو الكافر ولو كان الإعجاز راجعا في الْإِعْرَابِ وَالتَّأْلِيفِ الْمُجَرَّدِ لَمْ يَعْجِزْ صَغِيرُهُمْ عَنْ تَأْلِيفِ أَلْفَاظٍ مُعْرَبَةٍ فَضْلًا عَنْ كَبِيرِهِمْ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعَانِي فَقَطْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صَنِيعِ الْبَشَرِ وَلَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى إِظْهَارِهَا مِنْ غَيْرِ مَا يَدُلُّ عليها وَلَا جَائِزَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمَجْمُوعِ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ ذلك بيان الأقوال المختلفة في وجوه الإعجاز وقد اختلف فيه على أقوال أحدهما- وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ-: إِنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْعَرَبَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 مَقْدُورًا لَهُمْ لَكِنْ عَاقَهُمْ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِهِمْ مَعَ بَقَاءِ قُدْرَتِهِمْ وَلَوْ سُلِبُوا الْقُدْرَةَ لَمْ يَبْقَ فَائِدَةٌ لِاجْتِمَاعِهِمْ لِمَنْزِلَتِهِ مَنْزِلَةَ اجْتِمَاعِ الْمَوْتَى وَلَيْسَ عَجْزُ الْمَوْتَى بِكَبِيرٍ يُحْتَفَلُ بِذِكْرِهِ هَذَا مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِضَافَةِ الْإِعْجَازِ إِلَى الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا غَيْرُهُ وَلَيْسَ فِيهِ صِفَةُ إِعْجَازٍ بَلِ الْمُعْجِزُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ سَلَبَهُمْ قُدْرَتَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالصَّرْفَةِ فَسَادٌ آخَرُ وَهُوَ زَوَالُ الْإِعْجَازِ بِزَوَالِ زَمَانِ التَّحَدِّي وَخُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْجَازِ وَفِي ذَلِكَ خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى بَقَاءِ مُعْجِزَةِ الرَّسُولِ الْعُظْمَى وَلَا مُعْجِزَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ سِوَى الْقُرْآنِ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْإِعْجَازِ يُبْطِلُ كَوْنَهُ مُعْجِزَةً قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَمِمَّا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالصَّرْفَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ مُمْكِنَةً وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهَا الصَّرْفَةُ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُعْجِزًا وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَنْعُ مُعْجِزًا فَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامَ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَبَ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْكُلَّ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِوَجْهِ تَرْتِيبٍ لَوْ تَعَلَّمُوهُ لَوَصَلُوا إِلَيْهِ وَلَا بِأَعْجَبَ من قول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 فَرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ البشر وكلام الله في هذا الباب وإنما يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ عَارَضَ الْقُرْآنَ وَإِنَّمَا وَضَعَ حِكَمًا الثَّانِي: أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ رَاجِعٌ إِلَى التَّأْلِيفِ الْخَاصِّ بِهِ لَا مُطْلَقَ التَّأْلِيفِ وَهُوَ بِأَنِ اعْتَدَلَتْ مُفْرَدَاتُهُ تَرْكِيبًا وَزِنَةً وَعَلَتْ مُرَكَّبَاتُهُ مَعْنًى بِأَنْ يُوقِعَ كُلَّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ الْعُلْيَا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَاخْتَارَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ للمخلفين من الأعراب} وقوله في أهل بدر: {سيهزم الجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 ويولون الدبر} وقوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا} وَكَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنهم في الأرض} وقوله: {الم غلبت الروم} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ فَوَقَعَ وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي لَا خَبَرَ فِيهَا بِذَلِكَ لَا إِعْجَازَ فِيهَا وَهُوَ بَاطِلٌ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ سُورَةٍ مُعْجِزَةً بِنَفْسِهَا الرَّابِعُ: مَا تَضَمَّنَ مِنْ إِخْبَارِهِ عَنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ حِكَايَةَ مَنْ شَاهَدَهَا وَحَضَرَهَا وَقَالَ: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أنت ولا قومك من قبل} الآية وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ نَعَمْ هَذَا وَالَّذِي قبله من أنواع الإعجاز إلا أنه غير مُنْحَصِرٌ فِيهِ الْخَامِسُ: إِخْبَارُهُ عَنِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تفشلا} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا الله} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وتودون} الآية وَكَإِخْبَارِهِ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أبدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 السَّادِسُ: -وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ-: إِنَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْحُذَّاقُ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا وَقَعَ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ أَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحَاطَ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ عِلْمًا فَإِذَا تَرَتَّبَتِ اللَّفْظَةُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيَّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الْأُولَى وَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ وَالْبَشَرُ مَعَهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ البشر لا يحيط بذلك وبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النطق يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ في قدرتها الإتيان بمثله فَلَمَّا جَاءَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُرِفُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَجَزُوا عَنْهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَلِهَذَا تَرَى الْبَلِيغَ يُنَقِّحُ الْخُطْبَةَ أَوِ الْقَصِيدَةَ حَوْلًا ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهَا فَيُغَيِّرُ فِيهَا وَهَلُمَّ جَرًّا وَكِتَابُ اللَّهِ سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدبر لِسَانُ الْعَرَبِ عَلَى لَفْظَةِ أَحْسَنَ مِنْهَا لَمْ تُوجَدْ وَنَحْنُ تَتَبَيَّنُ لَنَا الْبَرَاعَةُ فِي أَكْثَرِهِ ويخفي وَجْهُهَا فِي مَوَاضِعَ لِقُصُورِنَا عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَرَبِ يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَالَمِ بِالْعَرَبِ إِذْ كَانُوا أَرْبَابَ الْفَصَاحَةِ وَمَظِنَّةَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا قَامَتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الحجة في معجزة عيسى بالأطباء وفي مُوسَى بِالسَّحَرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَجْهِ الشَّهِيرِ أَبْرَعَ مَا تَكُونُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ الَّذِي أَرَادَ إِظْهَارَهُ فَكَانَ السحر في مدة موسى قَدِ انْتَهَى إِلَى غَايَتِهِ وَكَذَا الطِّبُّ فِي زَمَانِ عِيسَى وَالْفَصَاحَةُ فِي مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّابِعُ: أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ الْفَصَاحَةُ وَغَرَابَةُ الْأُسْلُوبِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُقْتَرِنًا بِالتَّحَدِّي وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وَالْمُرَادُ: بِمِثْلِ نَظْمِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بسورة من مثله} وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي {مِنْ مثله} عائد على الله ضعيف بقوله: {بعشر سور مثله} وَالسِّيَاقُ وَاحِدٌ الثَّامِنُ: مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمُبَايِنٌ لِأَسَالِيبِ خِطَابَاتِهِمْ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مُعَارَضَتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 قَالَ: وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ الَّتِي ادَّعَوْهَا فِي الشِّعْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْرُقُ الْعَادَةَ بَلْ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّدْرِيبِ وَالتَّصَنُّعِ لَهُ كَقَوْلِ الشِّعْرِ وَرَصْفِ الْخُطَبِ وَصِنَاعَةِ الرِّسَالَةِ وَالْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ وَلَهُ طَرِيقٌ يُسْلَكُ فَأَمَّا شَأْوُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَهُ مِثَالٌ يُحْتَذَى عَلَيْهِ وَلَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ مِثْلِهِ اتِّفَاقًا قَالَ: وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ أَظْهَرُ وَفِي بَعْضٍ أَدَقُّ وَأَغْمَضُ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ مَا الَّذِي وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ؟ أَهُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ؟ أَوِ الْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ؟ أَوْ غَيْرُهُ؟ قُلْنَا: الَّذِي تَحَدَّاهُمْ بِهِ أَنْ يَأْتُوا عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ نَظْمُ الْقُرْآنِ مَنْظُومَةً حِكَمُهَا مُتَتَابِعُهَا كَتَتَابُعِهَا مُطَّرِدَةٌ كَاطِّرَادِهَا وَلَمْ يَتَحَدَّهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَيْسَ الْإِعْجَازُ الْمُتَحَدَّى بِهِ إِلَّا فِي النَّظْمِ لَا فِي الْمَفْهُومِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 لَمْ يُمْكِنِ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَا الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُتَحَدَّى بِمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إِذْ هُوَ يَسَعُ كُلَّ شَيْءٍ فَأَيُّ شَيْءٍ قُوبِلَ بِهِ ادَّعَى أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ وَيَتَسَلْسَلُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْمِفْتَاحِ وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ الْإِعْجَازِ عَجِيبٌ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا وَكَالْمَلَاحَةِ وَكَمَا يُدْرَكُ طِيبُ النَّغَمِ الْعَارِضِ لِهَذَا الصَّوْتِ وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِهِ لِغَيْرِ ذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إِلَّا بِإِتْقَانِ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالتَّمَرُّنِ فِيهِمَا وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي الْبَصَائِرِ: لَمْ أَسْمَعْ كَلَامًا أَلْصَقَ بِالْقَلْبِ وَأَعْلَقَ بِالنَّفْسِ مِنْ فَصْلٍ تَكَلَّمَ بِهِ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ وَكَانَ بَحْرًا فِي الْعِلْمِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِعْجَازِ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَيْفٌ عَلَى الْمُفْتَى وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِكَ مَا مَوْضِعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِنْسَانِ بَلْ مَتَى أَشَرْتَ إِلَى جُمْلَتِهِ فَقَدْ حَقَّقْتَهُ وَدَلَّلْتَ عَلَى ذَاتِهِ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى آيَةً فِي نَفْسِهِ وَمَعْجَزَةً لِمُحَاوِلِهِ وَهُدًى لِقَائِلِهِ وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِأَغْرَاضِ اللَّهِ فِي كَلَامِهِ وَأَسْرَارِهِ فِي كِتَابِهِ فَلِذَلِكَ حَارَتِ الْعُقُولُ وَتَاهَتِ الْبَصَائِرُ عِنْدَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الْعَاشِرُ: وَهُوَ قَوْلُ حَازِمٍ فِي مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ: إِنَّ الْإِعْجَازَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي جَمِيعِهِ اسْتِمْرَارًا لَا تُوجَدُ لَهُ فَتْرَةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ لَا تَسْتَمِرُّ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِي جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي الْعَالِي مِنْهُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْمَعْدُودِ ثُمَّ تَعْرِضُ الْفَتَرَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ فَتَقْطَعُ طَيِّبَ الْكَلَامِ وَرَوْنَقَهُ فَلَا تَسْتَمِرُّ لِذَلِكَ الْفَصَاحَةُ فِي جَمِيعِهِ بَلْ تُوجَدُ فِي تَفَارِيقَ وَأَجْزَاءٍ مِنْهُ وَالْفَتَرَاتُ فِي الْفَصَاحَةِ تَقَعُ لِلْفَصِيحِ إِمَّا بِسَهْوٍ يَعْرِضُ لَهُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ أَوْ مِنْ جَهْلٍ بِهِ أَوْ مِنْ سَآمَةٍ تَعْتَرِي فِكْرَهُ أَوْ مِنْ هَوًى لِلنَّفْسِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا فِيمَا يَحُوشُ عَلَيْهَا خَاطِرُهُ مِنِ اقْتِنَاصِ الْمَعَانِي سَمِينًا كَانَ أَوْ غَثًّا فَهَذِهِ آفَاتٌ لَا يَخْلُو مِنْهَا الْإِنْسَانُ الْفَاضِلُ وَالطَّبْعُ الْكَامِلُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ وَابْنُ عَطِيَّةَ الْحَادِي عَشَرَ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ- وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّظَرِ -: إِنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ لَكِنْ لَمَّا صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا صَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ النَّفْسِ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَةِ الْبَيَانِ مُتَفَاوِتَةٌ ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية فَمِنْهَا الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ وَمِنْهَا الْفَصِيحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الْقَرِيبُ السَّهْلُ وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ وَهَذِهِ أقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَعْلَاهُ وَالثَّانِي أَوْسَطُهُ وَالثَّالِثُ أَدْنَاهُ وَأَقْرَبُهُ فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً وَأَخَذَتْ مَنْ كُلِّ نَوْعِ شُعْبَةً فَانْتَظَمَ لَهَا بِامْتِزَاجِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لِأَنَّ العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة في الكلام يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الْوُعُورَةِ فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الآخر فضيلة خص بها القرآن يسرها الله بلطيف قدرته ليكون آية بينة لنبيه ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَوْضَاعِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي والحوامل وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَيَتَوَصَّلُوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ عَنِ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا إِلَّا أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لَفْظٌ حَامِلٌ وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ حَتَّى لَا ترى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مَنْ نَظْمِهِ وَأَمَّا مَعَانِيهِ فَكُلُّ ذِي لُبٍّ يَشْهَدُ لَهُ بِالتَّقْدِيمِ فِي أَبْوَابِهِ وَالرُّقِيِّ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِهِ وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ وَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ فِي صِفَاتِهِ وَدُعَاءٍ إِلَى طَاعَتِهِ وَبَيَانٍ لِطَرِيقِ عِبَادَتِهِ فِي تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَمِنْ وَعْظٍ وَتَقْوِيمٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَإِرْشَادٍ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَزَجْرٍ عَنْ مَسَاوِيهَا وَاضِعًا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ الَّذِي لَا يُرَى شَيْءٌ أَوْلَى مِنْهُ وَلَا يُتَوَهَّمُ فِي صُورَةِ الْعَقْلِ أَمْرٌ أَلْيَقُ بِهِ مِنْهُ مُودِعًا أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا نَزَلَ مِنْ مَثُلَاتِ اللَّهِ بِمَنْ عَصَى وَعَانَدَ مِنْهُمْ مُنْبِئًا عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي الْأَعْصَارِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الزَّمَانِ جَامِعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْمُحْتَجِّ لَهُ وَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْكَدَ لِلُزُومِ مَا دَعَا إِلَيْهِ وَإِنْبَاءً عَنْ وُجُوبِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ أَشْتَاتِهَا حَتَّى تَنْتَظِمَ وَتَتَّسِقَ أَمْرٌ تَعْجِزُ عَنْهُ قُوَى الْبَشَرِ وَلَا تَبْلُغُهُ قُدْرَتُهُمْ فَانْقَطَعَ الْخَلْقُ دُونَهُ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ وَمُنَاقَضَتِهِ في شكله ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يَقُولُونَ مَرَّةً إِنَّهُ شِعْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَنْظُومًا وَمَرَّةً إِنَّهُ سِحْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَعْجُوزًا عَنْهُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ لَهُ وَقْعًا فِي الْقَلْبِ وَقَرْعًا فِي النَّفْسِ يُرِيبُهُمْ وَيُحَيِّرُهُمْ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ نَوْعًا مِنَ الِاعْتِرَافِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَكَانُوا مَرَّةً لِجَهْلِهِمْ وَحَيْرَتِهِمْ يقولون: {وقالوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصيلا} مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أُمِّيٌّ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُمْلِي أَوْ يَكْتُبُ شَيْئًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الْعِنَادُ وَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ وقد حكى الله عَنْ بَعْضِ مَرَدَتِهِمْ -وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ- أَنَّهُ لَمَّا طَالَ فِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَثُرَ ضَجَرُهُ مِنْهُ وَضَرَبَ لَهُ الْأَخْمَاسَ مِنْ رَأْيِهِ فِي الْأَسْدَاسِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرِ من قوله: {ن هذا إلا قول البشر} عِنَادًا وَجَهْلًا بِهِ وَذَهَابًا عَنِ الْحُجَّةِ وَانْقِطَاعًا دُونَهَا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَمُودَ الْبَلَاغَةِ الَّتِي تجتمعا لَهَا هَذِهِ الصِّفَاتُ هُوَ وَضْعُ كُلِّ نَوْعٍ من الألفاظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا فُصُولُ الْكَلَامِ مَوْضِعَهُ الْأَخَصَّ الْأَشْكَلَ بِهِ الَّذِي إِذَا أُبْدِلَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ جَاءَ مِنْهُ إِمَّا تَبَدُّلُ الْمَعْنَى الَّذِي يَفْسُدُ بِهِ الْكَلَامُ أَوْ إِذْهَابُ الرَّوْنَقِ الَّذِي تَسْقُطُ بِهِ الْبَلَاغَةُ وَذَلِكَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً مُتَقَارِبَةَ الْمَعَانِي فِي زَعْمِ أَكْثَرِ النَّاسِ كَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ وَالنَّعْتِ وَالصِّفَةِ وَكَذَا بَلَى وَنَعَمْ وَمَنْ وَعَنْ وَنَحْوُهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ وَالْأَمْرُ فِيهَا عِنْدَ الْحُذَّاقِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظَةٍ مِنْهَا خَاصَّةً تَتَمَيَّزُ بها عن صاحبتها في بقض مَعَانِيهَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي بَعْضِهَا وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عن صلاتهم ساهون} إِنَّهُ الَّذِي يَنْصَرِفُ وَلَا يَدْرِي عَنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ فلم يفرق أبو العالية بين في وعن حَتَّى تَنَبَّهَ لَهُ الْحَسَنُ وَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ إِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلَ فِي كُلِّ سُورَةٍ نَوْعًا مِنَ الْأَنْوَاعِ؟ قِيلَ: إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ جَمَعَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ وَفِي الْآيِ الْمَجْمُوعَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ لِيَكُونَ أَكْثَرَ لِفَائِدَتِهِ وَأَعَمَّ لِمَنْفَعَتِهِ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُ قَبِيلٌ وَلِكُلِّ مَعْنًى سُورَةٌ مُفْرَدَةٌ لَمْ تَكْثُرْ عَائِدَتُهُ وَلَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ وَالْمُعَانِدِينَ إِذَا سَمِعَ السُّورَةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِهِ إِلَّا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ فَقَطْ وَكَانَ فِي اجْتِمَاعِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْفَرَ حَظًّا وَأَجْدَى نَفْعًا مِنَ التَّخْيِيرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقُلْتُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم وَهُوَ صَنِيعُهُ بِالْقُلُوبِ وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالٍ وَمِنَ الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ أُخْرَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا من خشية} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ربهم} الآية قُلْتُ: وَلِهَذَا أَسْلَمَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلطُّورِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ عَذَابَ ربك لواقع} قَالَ: خَشِيتُ أَنْ يُدْرِكَنِي الْعَذَابُ وَفِي لَفْظٍ كَادَ قَلْبِي يَطِيرُ فَأَسْلَمَ وَفَى أَثَرٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ سُورَةَ طه أَسْلَمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِيمَنْ مَاتَ بِسَمَاعِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الثَّانِي عَشَرَ: - وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ-: إِنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِجَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَقْوَالِ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَنِ انْفِرَادِهِ فَإِنَّهُ جَمَعَ كُلَّهُ فَلَا مَعْنًى لِنِسْبَتِهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْجَمِيعِ بَلْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَسْبِقْ فَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي لَهُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وَأَسْمَاعِهِمْ سَوَاءٌ الْمُقِرِّينَ وَالْجَاحِدِينَ ثُمَّ إن سامعه إن كان مؤمنا به بداخله رَوْعَةٌ فِي أَوَّلِ سَمَاعِهِ وَخَشْيَةٌ ثُمَّ لَا يزال بجد في قلبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 هَشَاشَةً إِلَيْهِ وَمَحَبَّةً لَهُ وَإِنْ كَانَ جَاحِدًا وجد فيه مع تلك الرَّوْعَةِ نُفُورًا وَعِيًّا لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهِ بِحُسْنِ سَمْعِهِ وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا فِي أَسْمَاعِ السَّامِعِينَ وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْقَارِئِينَ وَمِنْهَا: مَا يَنْتَشِرُ فِيهِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ مِنْ إِنْزَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي صُورَةِ كَلَامٍ هُوَ مُخَاطَبَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ تَارَةً وَمُخَاطَبَةٌ أُخْرَى لِخَلْقِهِ لَا فِي صُورَةِ كَلَامٍ يَسْتَمْلِيهِ مِنْ نفسه من قد قذف فِي قَلْبِهِ وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا شَاءَ أَنْ يُلْقِيَهُ إِلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ فَهُوَ يَأْتِي بِالْمَعَانِي الَّتِي أُلْهِمَهَا بِأَلْفَاظِهِ الَّتِي يَكْسُوهَا إِيَّاهُ كَمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمِنْهَا جَمْعُهُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَزَالَةِ وَالْعُذُوبَةِ وَهُمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ غَالِبًا فِي كَلَامِ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْجَزَالَةَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا بِمَا يَشُوبُهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَبَعْضِ الْوُعُورَةِ وَالْعُذُوبَةَ مِنْهَا مَا يُضَادُّهَا مِنَ السَّلَاسَةِ وَالسُّهُولَةِ فَمَنْ نَحَا نَحْوَ الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْفَخَامَةَ وَالرَّوْعَةَ فِي الْأَسْمَاعِ مِثْلُ الْفُصَحَاءِ مِنَ الْأَعْرَابِ وَفُحُولِ الشُّعَرَاءِ مِنْهُمْ وَمَنْ نَحَا نَحْوَ الثَّانِيَةِ قَصَدَ كَوْنَ الْكَلَامِ فِي السَّمَاعِ أَعْذَبَ وَأَشْهَى وَأَلَذَّ مِثْلُ أَشْعَارِ الْمُخَضْرَمِينَ وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنَ الْمُوَلِدِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَتَرَى أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ قَدْ جَمَعَتْ فِي نَظْمِهِ كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ وَمِنْهَا جَعْلُهُ آخِرَ الْكُتُبِ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ وَجَعْلُ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يختلفون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 فَصْلٌ فِي قَدْرِ الْمُعْجِزِ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كُتُبِهِ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يُعْجَزُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ السُّورَةُ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً أَوْ مَا كَانَ بِقَدْرِهَا قَالَ: فَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ فَذَلِكَ مُعْجِزٌ قَالَ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقَلِّ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ بِرَأْسِهَا فَهِيَ مُعْجِزَةٌ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ نَحْوُ قَوْلِنَا إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ الْآيَةِ بِقَدْرِ السُّورَةِ بَلْ شَرَطَ الْآيَاتِ الْكَبِيرَةَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ تَحَدِّيًا إِلَى السُّوَرِ كُلِّهَا وَلَمْ يَخُصَّ وَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا فعلم أن جميع ذلك معجزوأما قوله تعالى: {فليأتوا بحديث مثله} فَلَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ التَّامَّ لَا تَتَحَصَّلُ حِكَايَتُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ كَلِمَاتِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَهُوَ يُؤَكِّدُ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَإِنْ كَانَ قد يتأول قوله: {فليأتوا بحديث مثله} مثله على القبيل دون التفصيل وكذلك يحمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} على القبيل لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره فإن قيل: هل يعرف إعجاز السور القصار بما يعرف به إعجاز الطِّوَالِ وَهَلْ يُعْرَفُ إِعْجَازُ كُلِّ قَدْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ عَلَى مَا تَعْرِفُونَ بِهِ إِعْجَازَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا؟ قُلْنَا: إِنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ قَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهَا مُعْجِزَةً بِعَجْزِ الْعَرَبِ عَنْهَا وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ يَقُولُ إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ ذَلِكَ تَوْقِيفًا وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَسَدُّ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِي أَنَّ الْأُولَى تُبَيِّنُ أَنَّ مَا عُلِمَ بِهِ كَوْنُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ قَصُرَتْ أَوْ طَالَتْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْكُلِّ وَاحِدًا وَالْأُخْرَى تَتَضَمَّنُ تَقْدِيرَ مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْنَاهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فَصْلٌ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَقَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيرا} ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} وَإِنَّمَا قَالَ: {مُفْتَرَيَاتٍ} مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْخَالِيَةِ وَالْقَصَصِ الْبَالِغَةِ فَقِيلَ لَهُمْ: مُفْتَرَيَاتٍ إِزَاحَةً لِعِلَلِهِمْ وَقَطْعًا لِأَعْذَارِهِمْ فَعَجَزُوا فَرَدَّهُمْ مِنَ الْعَشْرِ إِلَى سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مُبَالَغَةً فِي التَّعْجِيزِ لَهُمْ فَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادقين} أَيْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّهَا فِي نَظْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَجَزَالَتِهِ فَعَجَزُوا فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولن تفعلوا} مبالغة في التعجيز وإفحاما لهم {اتقوا النار} وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعِيدِ مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ لُغَتُهُمْ وَالْكَلَامَ كَلَامُهُمْ وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ- لَعَنَهُ اللَّهُ- كَانَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ وَأَحَدَ فُصَحَائِهِمْ لَمَّا سَمِعَهُ أُخْرِسَ لِسَانُهُ وَبَلُدَ جَنَانُهُ وَأُطْفِئَ بَيَانُهُ وَقُطِعَتْ حُجَّتُهُ وَقُصِمَ ظَهْرُهُ وظهر عجزه وذهل عقله حتى قال: فد عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ هَزَجَهُ وَرَجَزَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ! قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: فَسَاحِرٌ قَالَ: وَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عُقَدِهِ وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلَاوَةً وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى سَمِعْتُ قَوْلًا يَأْخُذُ الْقُلُوبَ قَالُوا: مَجْنُونٌ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَا بِخَنْقِهِ وَلَا بِوَسْوَسَتِهِ وَلَا رِعْشَتِهِ قَالُوا: كَاهِنٌ قَالَ: قَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ وَلَا بِسَجْعِهِمْ ثُمَّ حَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَكَابَرَ حِسَّهُ فَقَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إلا قول البشر} مسألة في أن التحدي إنما وقع للإنس دون الجن التَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ لِلْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ لِأَنَّ الْجِنَّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ لِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ أَعْجَزَ وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِ تَقَدُّمُ الْأَخِ الشَّقِيقِ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ الْأُمُومَةَ لَيْسَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي النِّكَاحِ فَصْلٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْلَمُ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ ضَرُورَةً قَالَ الْقَاضِي: ذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وَسَلَّمَ يُعْلَمُ ضَرُورَةً وَكَوْنُهُ مُعْجِزًا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُحْكَى عَنِ الْمُخَالِفِينَ وَالَّذِي نَقُولُهُ إِنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ إِعْجَازَهُ إلا استدلالا وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِبَلِيغٍ فَأَمَّا الْبَلِيغُ الَّذِي أَحَاطَ بِمَذَاهِبِ الْعَرَبِ وَغَرَائِبِ الصَّنْعَةِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ عَجْزِهِ وَعَجْزِ غَيْرِهِ عَنِ الإتيان بمثله مسألة في الحكمة في تنزيه النبي عليه السلام عن الشعر قيل: للحكمة تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّعْرِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنِ الشُّعَرَاءِ بِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون وَأَنَّ لِلشِّعْرِ شَرَائِطَ لَا يُسَمَّى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهَا شَاعِرًا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الشَّاعِرِ فَقَالَ إِنْ هَزَلَ أَضْحَكَ وَإِنْ جَدَّ كَذَبَ فَالشَّاعِرُ بَيْنَ كَذِبٍ وَإِضْحَاكٍ فَنَزَّهَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ وَعَنْ كُلِّ أَمْرٍ دَنِيءٍ وَإِنَّا لَا نَكَادُ نَجِدُ شَاعِرًا إِلَّا مَادِحًا ضَارِعًا أَوْ هَاجِيًا ذَا قَذْعٍ وَهَذِهِ أَوْصَافٌ لَا تَصْلُحُ لِلنَّبِيِّ وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْعَرُوضِ مُجْمِعُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِنَاعَةِ الْعَرُوضِ وَصِنَاعَةِ الْإِيقَاعِ إِلَّا أَنَّ صِنَاعَةَ الْإِيقَاعِ تُقَسِّمُ الزَّمَانَ بِالنَّغَمِ وَصِنَاعَةَ الْعَرُوضِ تُقَسِّمُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 بِالْحُرُوفِ الْمُتَنَوِّعَةِ فَلَمَّا كَانَ الشِّعْرُ ذَا مِيزَانٍ يُنَاسِبُ الْإِيقَاعَ وَالْإِيقَاعُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَاهِي لَمْ يَصْلُحْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ: "لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي" وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَزْنِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الشِّعْرَ وَمِنْ حَقِيقَةِ الشِّعْرِ قَصْدُهُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشِّعْرُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى دَالٌّ عَلَى مَعْنًى وَيَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ بَيْتٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ اتِّفَاقُ شَطْرٍ وَاحِدٍ بِوَزْنٍ يُشْبِهُ وَزْنَ الشِّعْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ كَانَ إِذَا أَنْشَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ غَيَّرَهُ فَصْلٌ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ الْقُرْآنَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا مَعَ أَنَّ الْمَوْزُونَ فِي الْكَلَامِ رُتْبَتُهُ فَوْقَ رُتْبَةِ الْمَنْظُومِ غَيْرِ الْمَوْزُونِ فَإِنَّ كُلَّ مَوْزُونٍ مَنْظُومٌ وَلَا عَكْسَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مبين} فأعلم سبحانه أَنَّهُ نَزَّهَ الْقُرْآنَ عَنْ نَظْمِ الشِّعْرِ وَالْوَزْنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَجْمَعُ الْحَقِّ وَمَنْبَعُ الصِّدْقِ وَقُصَارَى أمر الشاعر التحصل بِتَصْوِيرِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْإِطْرَاءِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ وَالْإِيذَاءِ دُونَ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِثْبَاتُ الصِّدْقِ مِنْهُ كَانَ بِالْعَرْضِ وَلِهَذَا قال تعالى: {وما هو بقول شاعر} أَيْ كَاذِبٍ وَلَمْ يَعْنِ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 لَيْسَ بِشِعْرٍ فَإِنَّ وَزْنَ الشِّعْرِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُنْفَى عَنْهُ وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ الشِّعْرِ بِالْكَذِبِ سَمَّى الْمَنْطِقِيُّونَ الْقِيَاسَاتِ الْمُؤَدِّيَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِلَى الْبُطْلَانِ وَالْكَذِبِ شِعْرِيَّةً فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مَا وَافَقَ شِعْرًا مَوْزُونًا إِمَّا بَيْتٌ تَامٌّ أَوْ أَبِيَّاتٌ أَوْ مِصْرَاعٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَقُلْتُ لَمَّا حَاوَلُوا سَلْوَتِي {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لما توعدون} وقوله: {وجفون كالجواب وقدور راسيات} قَالُوا هَذَا مِنَ الرَّمَلِ وَكَقَوْلِهِ: {وَمَنْ تَزَكَّى فإنما يتزكى لنفسه} قالوا هو مجزوء مِنَ الْخَفِيفِ وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} قَالُوا هُوَ مِنَ الْمُتَقَارِبِ أَيْ بِإِسْقَاطِ "مَخْرَجًا" وَقَوْلِهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} وَيُشْبِعُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ فَيَبْقَى مِنَ الرَّجَزِ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ ضَمَّنَهُ فَقَالَ: وَفِتْيَةٍ فِي مَجْلِسٍ وُجُوهُهُمْ رَيْحَانُهُمْ قَدْ عَدِمُوا التَّثْقِيلَا دَانِيَةً عَلَيْهِمُو ظِلَالُهَا {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} قَالُوا: هُوَ مِنَ الْوَافِرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قَالُوا: هُوَ مِنَ الْخَفِيفِ وَقَوْلِهِ تعالى: {والعاديات ضبحا. فالموريات قدحا} ونحوه قَوْلِهِ: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا. فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا. فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} وَهُوَ عِنْدَهُمْ شِعْرٌ مِنْ بَحْرِ الْبَسِيطِ وَقَوْلِهِ تعالى: {ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مما تحبون} وقوله تعالى:} {فلا فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلا من رحم} وقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد سلف} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ موسى} ويحكى أنه سمع أعرابي قارئا يقرأ {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عظيم} قال: كسرت إنما قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ .... إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} فَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْقُرْآنُ وَلَيْسَ بِشِعْرٍ فَالْجَوَابُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ الْفُصَحَاءَ مِنْهُمْ لَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَوِ اعتقدوه شعرا ولم يروه خارجا عن أساليبهم لَبَادَرُوا إِلَى مُعَارَضَتِهِ لِأَنَّ الشِّعْرَ مُنْقَادٌ إِلَيْهِمْ فلما لم يعمدا إِلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ ذَلِكَ فَمَنِ اسْتَدْرَكَ فِيهِ شِعْرًا زَعَمَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ وَهُمْ مُلُوكُ الْكَلَامِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَالْغَضِّ مِنْهُ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى تَكْذِيبِهِ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ فَلَنْ يَجُوزَ أَنْ يَخْفَى عَلَى أُولَئِكَ وَأَنْ يَجْهَلُوهُ وَيَعْرِفَهُ مَنْ جَاءَ الْآنَ فَهُوَ بِالْجَهْلِ حَقِيقٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وَحِينَئِذٍ فَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا بأن الْبَيْتَ الْوَاحِدَ وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِهِ لَا يَكُونُ شِعْرًا وَأَقَلُّ الشِّعْرِ بَيْتَانِ فَصَاعِدًا وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقَالُوا: أَيْضًا إِنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ بَيْتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ وَزْنُهُمَا وَقَافِيَتُهُمَا فَلَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَشْطُورًا أَوْ مَنْهُوكًا وَكَذَا مَا يُقَارِبُهُ فِي قِلَّةِ الْأَجْزَاءِ وَعَلَى هَذَا يسقط السؤال ثم يقول: إِنَّ الشِّعْرَ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ مَتَى قُصِدَ إِلَيْهِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي تُعْمَدُ وَتُسْلَكُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ مِثْلُهُ إِلَّا مِنَ الشُّعَرَاءِ دُونَ ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وَمَا يَتَّفِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِشِعْرٍ فَلَا يُسَمَّى صَاحِبُهُ شَاعِرًا وَإِلَّا لَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ شُعَرَاءَ لِأَنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ لَا يَنْفَكُّ أَنْ يَعْرِضَ فِي جُمْلَةِ كَلَامِهِ مَا يَتَّزِنُ بِوَزْنِ الشِّعْرِ وَيَنْتَظِمُ بِانْتِظَامِهِ وَقِيلَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجَزِ شِعْرًا أَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِحَالٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي الْجَوَابِ مُعْتَمَدَةٌ أَوْ أَكْثَرُهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شِعْرًا لَكَانَتِ النُّفُوسُ تَتَشَوَّقُ إِلَى مُعَارَضَتِهِ لِأَنَّ طَرِيقَ الشِّعْرِ غَيْرُ مستصعب على أهل الزمان الواحد وأهله يتقاربون فيه أو يضربون فيه بسهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 فصل في اختلاف المقامات ووضع كل شيء في موضع بلائمه مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِعْجَازِ اخْتِلَافَاتُ الْمَقَامَاتِ وذكر في كل موضع ما بلائمه وَوَضْعُ الْأَلْفَاظِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَادِفَةً حَتَّى لَوْ أُبْدِلَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِالْآخَرِ ذَهَبَتْ تِلْكَ الطُّلَاوَةُ وَفَاتَتْ تِلْكَ الْحَلَاوَةُ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْأَرْضِ لَمْ تَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا مُفْرَدَةً وَإِذَا ذُكِرَتْ وَالسَّمَاءُ مَجْمُوعَةٌ لَمْ يُؤْتَ بِهَا مَعَهَا إِلَّا مُفْرَدَةً وَلَمَّا أُرِيدَ الْإِتْيَانُ بِهَا مَجْمُوعَةً قال: {ومن الأرض مثلهن} تَفَادِيًا مِنْ جَمْعِهَا وَلَفْظَ الْبُقْعَةِ لَمْ تُسْتَعْمَلْ فِيهِ إِلَّا مُفْرَدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي الْبُقْعَةِ المباركة} فَإِنْ جُمِعَتْ حَسَّنَ ذَلِكَ وُرُودُهَا مُضَافَةً كَقَوْلِهِمْ بِقَاعُ الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ اللُّبِّ مُرَادًا بِهِ العقل كقوله تعالى: {وذكرى لأولي الألباب} {لذكرى لأولي الألباب} فَإِنَّهُ يَعْذُبُ دُونَ الْإِفْرَادِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وفي موضع آخر: {في بطني محررا} اسْتُعْمِلَ الْجَوْفُ فِي الْأَوَّلِ وَالْبَطْنُ فِي الثَّانِي مع اتفاقهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 في المعنى ولو استعمل في أَحَدُهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحُسْنِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ الذَّوْقِ مَا لِاسْتِعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِهِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقَامَاتِ فَانْظُرْ إِلَى مَقَامِ التَّرْغِيبِ وَإِلَى مقام الترهيب فمقام الترغيب كقوله تعالى: {يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} نَجِدُهُ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ الْعِبَادِ وَتَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ قِيلَ: وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَنَفَرٌ مَعَهُمَا ثُمَّ فُتِنُوا وَعُذِّبُوا فَافْتَتَنُوا قَالَ: وَكُنَّا نَقُولُ: قَوْمٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صرفا ولا عدلا أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به فنزلت وكان عمر كاتبا فَكَتَبَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَهِمَ قَصْدَ التَّرْغِيبِ فَآمَنُوا وَأَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا وَلَا يَلْزَمُ دَلَالَتُهَا عَلَى مَغْفِرَةِ الْكُفْرِ لِكَوْنِهِ مِنَ الذُّنُوبِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى فَضْلِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ لَهُ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يغفر أن يشرك به} فَيَبْقَى مُعْتَبَرًا فِيمَا عَدَاهُ وَمِنْهَا أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ مُضَافًا إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فَإِنْ قُلْتَ: فَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ حَالَ التَّرْغِيبِ! قُلْتُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ بِدَلِيلِ سَبَبِ نُزُولِهَا وَعُومِلُوا هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مِنَ الْإِضَافَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّرْغِيبِ وَأَمَّا مَقَامُ التَّرْهِيبِ فَهُوَ مُضَادٌّ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها} وَيَدُلُّ عَلَى قَصْدِ مُجَرَّدِ التَّرْهِيبِ بُطْلَانُ النُّصُوصِيَّةِ مِنْ ظَاهِرِهَا عَلَى عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ مَنْ لِلْعُمُومِ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَيَعُمُّ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي فَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ وَهُوَ يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَقَامٍ يُضَادُّ الْآخَرَ وَيُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمَعَانِي الْإِفْرَادِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى دَلَالَةً وَأَفْخَمَ مُسَمًّى وَأَسْلَسَ لَفْظًا وَنَحْوَهُ الثَّانِي: الْمَعَانِي الْإِعْرَابِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ مُسَمَّاهَا أَبْلَغَ مَعْنًى كَالتَّمْيِيزِ مَعَ الْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {واشتعل الرأس شيبا} مَعَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبَةً وَهَذَا أَبْلَغُ مِنِ اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ الثَّالِثُ: مَوَاقِعُ التَّرْكِيبِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين} فإن الأولى جعل اثنين مفعول يتخذوا وإلهين صِفَةً لَهُ تَقَدَّمَتْ فَانْتَصَبَتْ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ اتَّخَذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ لِأَنَّ اثْنَيْنِ أَعَمُّ مِنْ إلهين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 فصل في اشتمال القرآن على أعلى أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ التَّرْكِيبُ بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجَدَ مَا هُوَ أَشَدُّ تناسا وَلَا اعْتِدَالًا فِي إِفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ: هَلْ تَتَفَاوَتُ فِيهِ مَرَاتِبُ الفصاحة واختار القاضي أبو بكر ابن الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ الْمَنْعَ وَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مَوْصُوفَةٌ بِالذِّرْوَةِ الْعُلْيَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ أَحْسَنَ إِحْسَاسًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَهَذَا كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْطِنُ لِلْوَزْنِ بِخِلَافِ بَعْضٍ وَاخْتَارَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ التَّفَاوُتَ فَقَالَ وَقَدْ رُدَّ عَلَى الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ تضعيفهم قراءة {والأرحام} بالجر ومثل هَذَا مِنَ الْكَلَامِ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم وإذا ثبت شيء عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ رَدَّ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا رَدَّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مَقَامٌ مَحْذُورٌ لَا يُقَلَّدُ فِيهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ والنحو فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد في فصاحته وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ صَحِيحٌ فَصِيحٌ وَإِنْ كَانَ غيره أفصح منه فَإِنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْفَصَاحَةِ وَإِلَى هَذَا نَحَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ وَأَوْرَدَ سُؤَالًا فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ لَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ جَمِيعُهُ بِالْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ؟ وَقَالَ: فِيهِ إِشْكَالٌ يَسَّرَ اللَّهُ حَلَّهُ قَالَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ مَوْهُوبٌ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ وَقَعَ لِي حَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَقُولُ الْبَارِئُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ لَهُ أَسَالِيبُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَجَارِي تَصْرِيفِ أَقْدَارِهِ فَإِنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِلْجَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فظلت أعناقهم لها خاضعين} وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ عَلَى أَسَالِيبِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَجَارِي الْعَوَائِدِ الْوَاقِعَةِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ وَلِذَلِكَ تَكُونُ حُرُوبُ الْأَنْبِيَاءِ سِجَالًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَيَبْتَدِئُ أَمْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْبَابٍ خَفِيفَةٍ وَلَا تَزَالُ تُنَمَّى وَتَشْتَدُّ كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَسَالِيبَهُمْ فِي الْإِرْسَالِ عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ وَالْمُعْتَادُ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِمْ إِذَا عُرِفَ ذلك كان مجيء القرآن بِغَيْرِ الْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِمُعَارَضَتِهِ عَلَى الْمُعْتَادِ فَلَوْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ لَكَانَ ذَلِكَ نَمَطًا غَيْرَ النَّمَطِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْإِعْجَازِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى نهج إنشاءهم الْخُطَبَ وَالْأَشْعَارَ وَغَيْرَهَا لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَكُّنُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ يَعْجِزُوا عَنْهَا فَيَظْهَرَ الْفَلْجُ بِالْحُجَّةِ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا قَدْ أَتَيْتَ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْهِ فَكَمَا لَا يَصِحُّ مِنْ أَعْمًى مُعَارَضَةُ المبصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 فِي النَّظَرِ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْبَصِيرِ أَنْ يَقُولَ غَلَبْتُكَ أَيُّهَا الْأَعْمَى بِنَظَرِي فَإِنَّ لِلْأَعْمَى أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا تَتِمُّ لَكَ الْغَلَبَةُ لَوْ كنت قادرا وَكَانَ نَظَرُكَ أَقْوَى مِنْ نَظَرِي فَأَمَّا إِذَا فقد أصل النظر فكيف تصح الْمُعَارَضَةِ! فَإِنْ قُلْتَ: فَلَوْ كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ شَيْئًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَأَمْثَالِهِ فَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الِانْقِيَادِ؟ قُلْتُ هَذَا السُّؤَالُ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّ أَسَالِيبَ الْأَنْبِيَاءِ تَقَعُ عَلَى نَهْجِ أَسَالِيبِ غَيْرِهِمْ فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا ذَكَرْتَهُ يَدُلُّ عَلَى أن عجز العرب عن معارضته وإنما كَانَتْ لِصَرْفِ دَعَاوِيهِمْ مَعَ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ مَقْدُورَةً لَهُمْ قُلْتُ: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا أَرَاهُ حَقًّا وَيَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ الْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ الْخَاصِّ بِهِ إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْمُعْجِزَ فِيهِ هُوَ الصَّرْفَةُ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ جَمِيعَ أَسَالِيبِهِ جَمِيعًا لَيْسَ عَلَى نَهْجِ أَسَالِيبِهِمْ وَلَكِنْ شَارَكَتْ أَسَالِيبَهُمْ فِي أَشْيَاءَ: مِنْهَا: أَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ وَمِنْهَا: أَنَّ آحَادَ الْكَلِمَاتِ قَدْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي خَطِّهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَلَكِنْ تَمْتَازُ بِأُمُورٍ أُخَرَ مِنْهَا غَرَابَةُ نَظْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَيْسَ مُشَابِهًا لِأَجْزَاءِ الشِّعْرِ وَأَوْزَانِهِ وَهَزَجِهِ وَرَجَزِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِهِ فَأَمَّا تَوَالِي نَظْمِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ فَهَذَا مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ لِكَلَامِهِمْ فَبِذَلِكَ امْتَازَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ جَمِيعُهُ مَقْدُورًا لَهُمْ وَإِنَّمَا صُرِفَتْ دَوَاعِيهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ انْتَهَى وَقَدْ سَبَقَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَسَالِيبِهِمْ أَلْبَتَّةَ فَيَبْقَى السؤال بحاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 تنبيه في أن معرفة مقامات الكلام لا تدرك إلا بالذوق ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ: اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ الفصيح والأفصح والرشيق والرشق وَالْجَلِيِّ وَالْأَجْلَى وَالْعَلِيِّ وَالْأَعْلَى مِنَ الْكَلَامِ أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالذَّوْقِ وَلَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ عَلَيْهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ جَارِيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بيضاء مشربة حمرة ودقيقة الشَّفَتَيْنِ نَقِيَّةُ الشَّعْرِ كَحْلَاءُ الْعَيْنِ أَسِيلَةُ الْخَدِّ دَقِيقَةُ الْأَنْفِ مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ وَالْأُخْرَى دُونَهَا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْمَحَاسِنِ لَكِنَّهَا أَحْلَى فِي الْعُيُونِ وَالْقُلُوبِ مِنْهَا وَأَلْيَقُ وَأَمْلَحُ وَلَا يُدْرَى لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ بِالذَّوْقِ وَالْمُشَاهَدَةِ يُعْرَفُ وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَهَكَذَا الْكَلَامُ نَعَمْ يَبْقَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ أَنَّ حُسْنَ الْوُجُوهِ وَمَلَاحَتَهَا وتفضيل بعضها يُدْرِكُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بِالذَّوْقِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ اشْتَغَلَ بِالنَّحْوِ أَوْ بِاللُّغَةِ أَوْ بِالْفِقْهِ كَانَ مَنْ أَهْلِ الذَّوْقِ وَمِمَّنْ يَصْلُحُ لِانْتِقَادِ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا أَهْلُ الذَّوْقِ هُمُ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِعِلْمِ الْبَيَانِ وَرَاضُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ وَالْكِتَابَةِ وَالشِّعْرِ وَصَارَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ دُرْبَةٌ وَمَلَكَةٌ تَامَّةٌ فَإِلَى أُولَئِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِي مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ وَفَضْلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ وُجُوبِ تَوَاتُرِهِ لَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ وَأَمَّا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فَإِنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ حَاصِلٌ أَنَّ الْعَادَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وَأَنَّهُ الْهَادِي لِلْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ الْمُعْجِزُ الْبَاقِي عَلَى صَفَحَاتِ الدَّهْرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمِ فَمُسْتَحِيلٌ أَلَّا يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِذِ الدَّوَاعِي تَتَوَافَرُ عَلَى نَقْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّوَاتُرِ وَكَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} والحفظ إنما يتحقق بالتواتر وقال تعالى: {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} وَالْبَلَاغُ الْعَامُّ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّوَاتُرِ فَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ مِمَّا نُقِلَ آحَادًا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ بِحَسْبِ أَصْلِهِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ بَلْ يَكْثُرُ فِيهَا نَقْلُ الْآحَادِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ صُنْعُ الشَّافِعِيِّ فِي إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَرَدَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّابِقَ يَقْتَضِي التَّوَاتُرَ فِي الْجَمِيعِ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَجَازَ سُقُوطُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُكَرَّرِ وَثُبُوتُ كَثِيرٍ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَشْتَرِطِ التَّوَاتُرَ فِي الْمَحَلِّ جَازَ أَلَّا يَتَوَاتَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَرِّرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} و {ويل يومئذ للمكذبين} وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ بَعْضُ الْقُرْآنِ بِحَسْبِ الْمَحَلِّ جَازَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فِي الْمَوْضِعِ بِنَقْلِ الْآحَادِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى إِثْبَاتِ قُرْآنٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ وَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ وَامْتَنَعُوا مِنْهُ وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهُ يَسُوغُ إِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي إِثْبَاتِ قِرَاءَةٍ وَأَوْجُهٍ وَأَحْرُفٍ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْجَهُ صَوَابًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أن النبي صلى الله عليه وملم قَرَأَهَا بِخِلَافِ مُوجَبِ رَأْيِ الْقِيَاسِيِّينَ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه وخطأوا مَنْ قَالَ بِذَلِكَ وَصَارَ إِلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ طَعْنَ الطَّاعِنِينَ وَاخْتِلَافَ الضَّالِّينَ وَلَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعِلْمِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ وَالْقَطْعِ عَلَى فُنُونِهِ بِأَلَّا يُخَالِفَ فِيهِ مُخَالِفٌ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَجِيئُهُ عَنْ قَوْمٍ بِهِمْ ثَبَتَ التَّوَاتُرُ وَتَقُومُ الْحُجَّةُ سَوَاءٌ اتُّفِقَ عَلَى نَقْلِهِمْ أَوِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ النَّقْلُ إِذَا ظَهَرَ وَاسْتَفَاضَ وَاتُّفِقَ عَلَيْهِ إِذَا حَدَثَ خِلَافٌ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ وَبِذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِرَاضُ الْمُلْحِدِينَ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِ الْقُرْآنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وَحِفْظِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَنَقْضِ مَطَاعِنِ الرَّافِضَةِ فِيهِ مِنْ دَعْوَى الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لحافظون} وقوله: {إن علينا جمعه وقرآنه} وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ حِفْظُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لِلْعَمَلِ بِهِ وَحِرَاسَتُهُ مِنْ وُجُوهِ الْغَلَطِ وَالتَّخْلِيطِ وَذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِ مُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ وَسَلَامَتِهِ فَصْلٌ وَالْمُعَوِّذَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ وَاسْتِفَاضَتُهُمَا كَاسْتِفَاضَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِقُرْآنٍ وَلَا حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَّهُمَا وَأَسْقَطَهُمَا مِنْ مُصْحَفِهِ لِعِلَلٍ وَتَأْوِيلَاتٍ قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ أَوْ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَوْ زَيْدٍ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ عِتْرَتِهِ جَحْدُ آيَةٍ أَوْ حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَغْيِيرُهُ أَوْ قِرَاءَتُهُ عَلَى خِلَافِ الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ فِي مُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ وَلَا يُسْمَعُ بَلْ لَا تَصْلُحُ إِضَافَتُهُ إِلَى أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِنَا فَضْلًا عَنْ إِضَافَتِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِنَّ كَلَامَ الْقُنُوتِ الْمَرْوِيَّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَثْبَتَهُ فِي مُصْحَفِهِ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ بِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ بَلْ هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَنُقِلَ نَقْلَ الْقُرْآنِ وَحَصُلَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَلَامٌ كَانَ قُرْآنًا مُنَزَّلًا ثُمَّ نُسِخَ وَأُبِيحَ الدُّعَاءُ بِهِ وَخُلِطَ بِكَلَامٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي مُصْحَفِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي مُصْحَفِهِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ مِنْ دُعَاءٍ وَتَأْوِيلٍ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهَا شَيْئًا كَفَرَ وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاطِلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُحَلَّى: هَذَا كذب على ابن مسعود وموضوع وَإِنَّمَا صَحَّ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْهُ وَفِيهَا الْمُعَوِّذَتَانِ وَالْفَاتِحَةُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ: لَمْ يُنْكِرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ كَوْنَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِثْبَاتَهُمَا فِي الْمُصْحَفِ وَإِثْبَاتَ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ كَانَتِ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَلَّا يُثْبِتَ إِلَّا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِهِ وَكَتْبِهِ وَلَمْ نَجِدْهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَلَا سُمِعَ أَمْرُهُ بِهِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْهُ وَلَيْسَ جَحْدًا لِكَوْنِهِمَا قُرْآنًا وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ زِرٍّ قُلْنَا لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لي جبريل: {قل أعوذ برب الْفَلَقِ} فَقُلْتُهَا وَقَالَ لِي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَقُلْتُهَا فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 النَّوْعُ الْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ مُعَاضَدَةِ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ أَبَدًا مُتَعَاضِدَانِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ مَدَارِجِ الْحِكْمَةِ حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْآخَرِ وَيُبَيِّنُ إِجْمَالَهُ ثُمَّ مِنْهُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ وَمَعَهُ مَا يَغْمُضُ وَقَدِ اعْتَنَى بِإِفْرَادِ ذَلِكَ بالتصنيف الإمام أبو الحكم ابن برجان في كتابه المسمى بالإرشاد وَقَالَ: مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من شيء فهو في القرآن وفيه أَصْلُهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ الله" وَلَيْسَ فِي نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ الرَّجْمُ وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَكِنَّ الرَّجْمَ فِيهِ تَعْرِيضٌ مُجْمَلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا العذاب} وَأَمَّا تَعْيِينُ الرَّجْمِ مِنْ عُمُومِ ذِكْرِ الْعَذَابِ وَتَفْسِيرِ هَذَا الْمُجْمَلِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ وبأمره بِهِ وَمَوْجُودٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فخذوه وما نهاكم عنه} وَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وَهَكَذَا حُكْمُ جَمِيعِ قَضَائِهِ وَحُكْمُهُ عَلَى طُرُقِهِ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ وَيَبْلُغُ مِنْهُ الرَّاغِبُ فِيهِ حَيْثُ بَلَّغَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ وَاهِبُ النِّعَمِ وَمُقَدِّرُ الْقِسَمِ وَهَذَا الْبَيَانُ مِنَ الْعِلْمِ جَلِيلٌ وَحَظُّهُ مِنَ الْيَقِينِ جَزِيلٌ وَقَدْ نَبَّهَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْمَطْلَبِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِطَابِهِ مِنْهَا حِينَ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ: "فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ" ثُمَّ قَالَ: "اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وَمِنْهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا نَتَّكِلُ وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى} وَوَصَفَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: "فِيهَا شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ وَلَا يَقْطَعُهَا" ثُمَّ قال: "اقرءوا إن شئتم: {وظل ممدود} فَأَعْلَمَهُمْ مَوَاضِعَ حَدِيثِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مِصْدَاقِ خِطَابِهِ مِنَ الْكِتَابِ لِيَسْتَخْرِجَ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ مَعَانِيَ حَدِيثِهِ طَلَبًا لِلْيَقِينِ وَلِتَسْتَبِينَ لَهُمُ السَّبِيلُ حِرْصًا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمُ الِارْتِيَابَ وَأَنْ يَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ثُمَّ بَدَأَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَدِيثِ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" وَقَالَ: مَوْضِعُهُ نَصًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ما نشاء لمن نريد} إلى قوله: {فأولئك كان سعيهم مشكورا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ونظيرها في هود والشورى وَمَوْضِعُ التَّصْرِيحِ بِهِ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كسبت قلوبكم} و {ما عقدتم الأيمان} وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَكَثِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} {من مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الِاعْتِزَازَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ فَمُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ فَمَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بَلِّغْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّخِذِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنِ ابْتِغَاءِ الْعِزَّةِ بِهِمْ أَنَّهُمْ قد أخطأوا مَوَاضِعَهَا وَطَلَبُوهَا فِي غَيْرِ مَطْلَبِهَا فَإِنْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي طَلَبِهَا فَلْيُوَالُوا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ وَلْيُوَالُوا مَنْ وَالَاهُ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وللمؤمنين} فَكَانَ ظَاهِرُ آيَةِ النِّسَاءِ تَعْرِيضًا لِظَاهِرِ آيَةِ المنافقين وظاهر أية الْمُنَافِقِينَ تَعْرِيضًا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ وَالْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ هِيَ الْإِسْلَامُ وَأَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ هُوَ الإيمان وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 نَصُّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مَسْنَدِهِ: الْإِسْلَامُ ظَاهِرٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ مَوْضِعُهُ مِنَ الْقُرْآنِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السماوات والأرض طوعا وكرها} وقوله: {أولئك كتب في قلوبهم الأيمان} ونظائرها {وأيدهم بروح منه} قال: بنيت هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ عَلَى الصِّفَاتِ الْعُلْيَا صِفَاتِ اللَّهِ- تَعَالَى ظُهُورُهَا- مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى: اسْمِ السَّلَامِ وَاسْمِ الْمُؤْمِنِ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" فِي قَوْلِهِ: {مَا على المحسنين من سبيل} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا النَّارَ مِنْ أَجْلِ اسْتِكْبَارِهِمْ وَإِبَائِهِمْ مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوهَا مُخْلِصِينَ بِهَا حُرِّمُوا عَلَى النَّارِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم المكرمين} وقوله: {والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل} وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ كَلِمَاتٍ جَمَعْنَ حُسْنَ الصُّحْبَةِ لِلْخَلْقِ لأن من كف سره وَأَذَاهُ وَقَالَ خَيْرًا أَوْ صَمَتَ عَنِ الشَّرِّ وَأَفْضَلَ عَلَى جَارِهِ وَأَكْرَمَ ضَيْفَهُ فَقَدْ نَجَا مِنَ النَّارِ وَدَخَلَ الْجَنَّةَ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَسَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى فَإِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ وَالْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا وَلِهَذَا قِيلَ لَا يُغْرَنَّكُمْ صَفَاءُ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ وَقَوْلُهُ: "رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رأى} الآية فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضُرُوبِ الِامْتِحَانِ وَأَنَّ الْهِدَايَةَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ لِلنَّاظِرِ بَعْدَ التَّبَرِّي مِنْهَا وَالْمَعْصُومُ من عصمه الله قال تعالى: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} وَقَالَ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وهبنا له إسحاق ويعقوب} وَطُلُوعُ الْكَوَاكِبِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَمِنْ هُنَاكَ إِقْبَالُهَا وَذَلِكَ أَشْرَفُ لَهَا وَأَكْبَرُ لِشَأْنِهَا عِنْدَ الْمَفْتُونِينَ وَغُرُوبُهَا إِدْبَارُهَا وَطُلُوعُهَا بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لِيُزَيِّنَهَا لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم} وَلِمَا كَانَ فِي مَطْلَعِ النَّيِّرَاتِ مِنَ الْعِبَرِ بِطُلُوعِهَا مِنْ هُنَاكَ وَظُهُورِهَا عَظُمَتِ الْمِحْنَةُ بِهِنَّ وَلِمَا فِي الْغُرُوبِ مِنْ عَدَمِ تِلْكَ الْعِلَّةِ التي تتبين هناك قرن بِتَزْيِينِ الْعَدُوِّ لَهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ" وَلِأَجْلِ مَا بَيْنَ مَعْنَى الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ كَانَ بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحًا مِنْ جِهَتِهِ إِلَى يَوْمِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْهُ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لهم من دونها سترا} أَيْ وَقَعَتْ عُقُولُهُمْ عَلَيْهَا وَحُجِبَتْ بِهَا عَنْ حَالَتِهَا مَعَ قَوْلِهِ: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا للقمر} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وفي قوله عند طلوعها: {هذا ربي} وعند غروبها: {لا أحب الآفلين} {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضالين} مَا يُبَيِّنُ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "رَأْسُ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ" وَمِنْ ذَلِكَ بَدْءُ الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ سبحانه: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} إِلَى قَوْلِهِ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ على من يشاء من عباده} وَقَوْلِ خَدِيجَةَ: "وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ" وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ لَنَا ربك بما عهد عندك} وقوله: {فلولا أنه كان من المسبحين} وَفِي هَذَا بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ الْغَارِ الثَّلَاثَةَ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِيَدْعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِهِ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُفَرِّجَ عَنَّا وَقَوْلِ وَرَقَةَ: " يَا لَيْتَنِي حَيٌّ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ" إِلَخْ وقوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب} وقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ" مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بل هم قوم طاغون} وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْمِعْرَاجِ مِصْدَاقُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَفِي صَدْرِ سُورَةِ النَّجْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ" مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حنيفا} وَبِتَصْدِيقِ كَلِمَةِ اللَّهِ اتَّبَعَهُ كَوْنًا وَمِلَّةً وَهَكَذَا حَالُهُ حَيْثُ جَاءَتْ صِدْقًا وَعَدْلًا فَتَطَلَّبْ صِدْقَ كَلِمَاتِهِ بِتَرْدَادِ تِلَاوَتِكَ لِكِتَابِهِ وَنَظَرِكَ فِي مَصْنُوعَاتِهِ فَهَذَا هُوَ قَصْدُ سَبِيلِ الْمُتَّقِينَ وَأَرْفَعُ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يؤمن بالله وكلماته} وَقَالَ لِزَكَرِيَّا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بكلمة من الله وسيدا} ولما كان عيسى عليه السلام من أسماء كَلِمَاتِهِ لَمْ يَأْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَنَبٍ لِطَهَارَتِهِ وَزَكَاتِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا ينام" في قوله: {سنة ولا نوم} وَقَوْلُهُ: "وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ" مِنْ قوله: {القيوم} وَفَسَّرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ" وَمِصْدَاقُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ ممن تشاء وتعز من تشاء} وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ" وَقَالَ: "الْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أيام" و"رمضان إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فَهَذَا رَمَضَانُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرِ الْعَامِ وَيَبْقَى شَهْرَانِ دَاخِلَانِ فِي كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قُلْتُ: قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ" مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} انْتَهَى وَقَالَ فِي الْجُمُعَةِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إن كنتم تعلمون} وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الصَّوْمِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لكم إن كنتم تعلمون} أَشَارَ إِلَى سِرٍّ فِي الْجُمُعَةِ وَفَضْلٍ عَظِيمٍ أَرَاهُمَا الزِّيَارَةَ وَالرُّؤْيَةَ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ أَشَارَ فِي الصِّيَامِ بقوله: {إن كنتم تعلمون} إِلَى سِرٍّ فِي الصِّيَامِ وَهُوَ حُسْنُ عَاقِبَتِهِ وَجَزِيلُ عَائِدَتِهِ فَنَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ" وَقَوْلُهُ وَقَدْ رَأَى أَعْقَابَهُمْ تَلُوحُ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ: "وَيْلٌ للأعقاب من النار" في مفهوم {فاغسلوا} فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم} وَغَسَلَ هُوَ قَدَمَيْهِ وَعَمَّهُمَا غُسْلًا وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يصيبهم عذاب أليم} مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مهين} وَقَوْلُهُ: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وخرج مِنْ كُلِّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ" الْحَدِيثَ من قوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} أَيْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تشكرون} أَيْ تَرْقَوْنَ فِي دَرَجَةِ الشُّكْرِ فَيَتَقَبَّلُ أَعْمَالَكُمُ القبول الأعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَكَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهُ نَافِلَةً فَلَهُ الشُّكْرُ وَالشُّكْرُ دَرَجَاتٌ" وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْكَفَّارَةِ فَضْلٌ وَهُوَ النَّافِلَةُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ لِمَنْ قَلَّتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ صَالِحَاتُهُ فَذَلِكَ الشُّكْرُ وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَقَلَّتْ صَالِحَاتِهِ فَأَكَلَتْهَا الْكَفَّارَاتُ فَذَلِكَ الْمَرْجُوُّ لَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَمَنْ زَادَتْ ذُنُوبُهُ فَلَمْ تَقُمْ صَالِحَاتُهُ بِكَفَّارَةِ ذُنُوبِهِ فَذَلِكَ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ {إِلَّا أَنْ يشاء ربي شيئا} قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ" وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكم لعلكم تشكرون} وجاءت لام كي ها هنا إِشْعَارًا وَوَعْدًا وَبِشَارَةً لَهُمْ بِنِعَمٍ أُخْرَى وَارِدَةٍ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ لَمْ تَأْتِ بَعْدُ وَلِذَلِكَ قَالَ يَوْمَ الْإِكْمَالِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْأَذَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" مِنْ قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وأولو العلم} وَتَكْرَارُهَا فِي قَوْلِهِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وَقَوْلُهُ: "أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" فِي قوله تعالى: {محمد رسول الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 {وما محمد إلا رسول} مَعَ قَوْلِهِ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شهيدا} وَتَكْرَارُ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَكَفَى بالله شهيدا} مع قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} وَالتَّنْبِيهُ أَوَّلُ الْكَثْرَةِ وَلِأَنَّهَا عِبَارَةٌ شُرِعَتْ لِلْإِعْلَامِ فَتَكْرَارُهَا آكُدُ فِيمَا شُرِعَتْ لَهُ وَأَمَّا إِسْرَارُهُ بِهِمَا يَعْنِي بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ من القول} وأما إجهاره بهما ففي قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَالنِّدَاءُ الْإِعْلَامُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِنِهَايَةِ الْجَهْرِ وَقَوْلُهُ: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ" فِي قَوْلِهِ: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} {إذا نودي للصلاة} وَقَوْلُهُ: "حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ" فِي قَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَقَوْلُهُ: "الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ" فِي قَوْلِهِ: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقوله: {ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون} وَقَوْلُهُ: "اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ" مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وقوله: {لا إله إلا الله} كررها وختم بها في قوله: {اذكروه كما هداكم} "وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَخَتَمَ بِمَا بَدَأَ بِهِ لِقَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" فِي قَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بالحسنة فله عشر أمثالها} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ" فِي قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يبعثك ربك مقاما محمودا} {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وَقَوْلُهُ: "حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نصيب منها} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ وكل بِهِ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِشَيْءٍ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ " "وَلَكَ بِمِثْلِهِ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصراط المستقيم} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ هَذَا دُعَاءٌ مَنْ يَأْتِي بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: "وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنَا حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ" وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بهذا الْبَلَدِ} يُرِيدُ مَكَّةَ ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الْبَلَدِ} يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَدِينَةَ وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِحُرْمَةِ الْبَلَدَيْنِ حَيْثُ أَقْسَمَ بِهِمَا وَتَكْرَارُهُ الْبَلَدَ مَرَّتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ وَجَعْلُ الِاسْمَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخِطَابُ فِي الْبَلَدَيْنِ أَوْلَى مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي أَحَدِهِمَا بِدَلِيلِ وُجُودِ الْحُرْمَةِ فِيهِمَا وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الدَّجَّالِ قُلْتُ: وقع سؤال بين جماعة مت الفضلاء في أنه: ما الحكمة أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرِ الدَّجَّالُ فِي الْقُرْآنِ وَتَلَمَّحُوا فِي ذَلِكَ حُكْمًا ثُمَّ رَأَيْتُ هَذَا الْإِمَامَ قَالَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ تَعْرِيضًا بِقِصَّتِهِ فِي قِصَّةِ السَّامِرِيَّ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لن تخلفه} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وعد أولاهما} فَذَكَرَ الْوَعْدَ الْأَوَّلَ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرَّةَ الَّتِي لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْآخِرَةَ فَقَالَ: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} الآية ثم قال: {وإن عدتم عدنا} وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خُرُوجِ عِيسَى وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} وَالدَّجَّالُ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ" يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 قَرَأَهَا بِعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَهُوَ أَيْضًا فِي الْمَفْهُومِ من قوله: {محمد رسول الله} {وخاتم النبيين} وَمِنَ الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُخْرِجُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا وَيَحْسِرُ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ" فِي قوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} فَإِنَّ الْأَرْضَ تُلْقِي مَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَكُونَ آخَرَ مَا تُلْقِي الْأَمْوَاتُ أَحْيَاءً وَمِصْدَاقُهُ أَيْضًا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {يُخْرِجُ الخبء في السماوات والأرض} فَتَوَجَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِخْرَاجِهَا الْأَمْوَاتَ أَحْيَاءً وَتَوَجَّهَ الْحَدِيثُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِخْرَاجِهَا كُنُوزَهَا وَمَعَادِنَهَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تغن بالأمس} الْآيَةَ وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ إِتْمَامِ كَلِمَةِ الْحَقِّ: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} وَقَدْ تَوَلَّوْا وَقَوْلُهُ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم} يومئذ تظهر العقبة ويلقي الأمر بجرانه وتضع الحرب أوزارها ويكن ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى السَّاعَةِ وَآيَةً عَلَى قُرْبِ الِانْقِرَاضِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَثَلِ الدُّنْيَا: "إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} وقوله: {إنما الحياة الدنيا لعب} وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ من قبلكم} إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي نَفْعُهُ إِلَى اكْتِسَابِ التَّقْوَى وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ" وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِضَعْفِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ فَتُغْلَقُ عَنْهُ أَبْوَابُ الْمَعَاصِي وَهَى أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَتُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الطَّاعَةِ وَالْقُرُبَاتِ وَهِيَ أَبْوَابُ الْجَنَّاتِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً" مِنْ آثَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لكم الخيط الأبيض} ومن بركته حضوره الذي هو وصف نُزُولِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَغِي الْبَرَكَةَ فِي مَوْضِعِ خِطَابِ رَبِّهِ وَفِي مَوْضِعِ حُضُورِهِ أَوْ ذِكْرِهِ أَوِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَمِنْ هُنَا وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِاسْمِ الْمُبَارَكِ وَاسْمِ الْقُدُّوسِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل} وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الخيط الأسود من الفجر} وَالْبَرَكَةُ فِي اتِّبَاعِ مَجَارِي خِطَابِهِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ حُكْمُهُ حُكْمُ إِبَاحَةٍ كَمَا أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ لَا يُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ إِلَّا عَلَى فِطْرٍ وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ السَّحُورَ إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 بُزُوغِ الْفَجْرِ ابْتِغَاءَ الْبَرَكَةِ فِي ذَلِكَ وَالْخَيْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ" فِي مَعْنَى قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ: {وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين} وَالْمَعْنَى بِمَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ الَّذِينَ لَا يَطْعَمُونَ إِنَّمَا غِذَاؤُهُمُ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ" فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وَالْآكِلُ رَاضٍ وَالرَّاضِي شَرِيكٌ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ حَنْظَلَةَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَدُومُونَ عَلَى مَا كُنْتُمْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً" فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لم يدعنا إلى ضر مسه} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ منكم بربهم يشركون} فَذَكَرَ تَعَالَى اللَّجَأَ إِلَيْهِ عِنْدَمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ وَهُوَ ذِكْرٌ صُورِيٌّ فَلَوْ كَانَ الذِّكْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ لَمْ تُفَارِقْهُمُ الْمَلَائِكَةُ السَّيَّاحُونَ الْمُلَازِمُونَ حَلَقَ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وَلَوْ قَرَبُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا الْقُرْبَ لَبَدَتْ لَهُمْ عِيَانًا وَلَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَجَمِيلِ الْأُلْفَةِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ" في قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 {سواء محياهم ومماتهم} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَبْعَثُونَ عَلَى أَعْمَالِهُمْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصة} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شفاعة سيئة يكن له كفل منها} وَمَعَ قَوْلِهِ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} وقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} مَعَ مَا جَاءَ مِنْ نَبَأِ ابْنَيْ آدَمَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ" وَالْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مما رزقناهم سرا وعلانية} وَقَوْلُهُ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الْيَدَ السُّفْلَى الْآخِذَةُ وَالْعُلْيَا هو الْمُعْطِيَةُ وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: "مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ظَلُومٍ" وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَطِيَّةَ مِنْ أَيْدِينَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مَنْ يَضَعُ فِيهَا حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهَا وَيُطَهِّرُهَا بِذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِهَا وَأَنْجَاسِهَا وَلَوْلَا الْيَدُ الْآخِذَةُ مَا قَدَرَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى صَدَقَةٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ" فِي قَوْلِهِ تعالى: {وإلهكم إله واحد} إلى قوله: {لآيات لقوم يعقلون} وَقَوْلُهُ: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} وَقَوْلِهِ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قوم لا يعقلون} وَوَصَفَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ: {لا تفقهون تسبيحهم} ثُمَّ أَعْلَمَ سُبْحَانَهُ سِعَةَ مَغْفِرَتِهِ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ الَّذِينَ لَا يُسَبِّحُونَهُ وَلَا يَفْقَهُونَ تَسْبِيحَ الْمُسَبِّحِينَ مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ أَعْلَمَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا حُرِمُوا الْفِقْهَ عَنْ رَبِّهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ خَتْمُ عُقُوبَةِ الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أن يفقهوه} الْآيَةَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ لَمْ يُنْزِلْهُ تَعَالَى إِلَّا لِيُفَهِّمَهُ وَيُعْلَمَ وَيُفَهَّمَ وَلِذَلِكَ خَاطَبَ بِهِ أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ يفقهون والذين يتفكرون لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ وَكَذَلِكَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الدُّنْيَا إِلَّا مِثَالًا لِلْآخِرَةِ فَمَنْ فَقِهَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُرَادَهُ مِنْهَا فَقَدْ أَرَاحَ نَفْسَهُ وَأَجَمَّ فِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِقْهِ أَفْنَى أُولُو الْأَلْبَابِ أَعْمَارَهُمْ وَفِي تَعْرِيفِهِ أَتْعَبُوا قُلُوبَهُمْ وَوَاصَلُوا أَفْكَارَهُمْ رَزَقَنَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ نُورًا نَمْشِي بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ وَفُرْقَانًا نُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 النوع الحادي والأربعون: معرفة تفسيره وتأويله مَعَانِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْأَشْيَاءِ وهو يتوقف على معرفة تفسيره وتأويله ومعناه قال ابن فارس معاني العبارات التي يعتبر بِهَا عَنِ الْأَشْيَاءِ تَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ الْمَعْنَى وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَهِيَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَالْمَقَاصِدُ بِهَا مُتَقَارِبَةٌ فَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ الْقَصْدُ وَالْمُرَادُ يُقَالُ: عَنَيْتُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَذَا أَيْ قَصَدْتُ وَعَمَدْتُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِظْهَارِ يُقَالُ عَنَتِ الْقِرْبَةُ إِذَا لَمْ تَحْفَظِ الْمَاءَ بَلْ أَظْهَرَتْهُ وَمِنْهُ عُنْوَانُ الْكِتَابِ وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَنَتِ الْأَرْضُ بِنَبَاتٍ حَسَنٍ إِذَا أَنْبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا قُلْتُ: وَحَيْثُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فَمُرَادُهُمْ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 مَعَانِي الْقُرْآنِ كَالزَّجَّاجِ وَمَنْ قَبْلَهُ وَغَيْرِهِمْ وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ أَكْبَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي الْفَرَّاءُ والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا كذا ومعاني الْقُرْآنِ لِلزَّجَّاجِ لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَهْلَ الْمَعَانِي فَمُرَادُهُمْ بِهِمْ مُصَنِّفُو الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالْكَشْفِ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ التَّفْسِرَةِ وَهِيَ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَنْظُرُ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ فَكَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ بِالنَّظَرِ فِيهِ يَكْشِفُ عَنْ عِلَّةِ الْمَرِيضِ فَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ يَكْشِفُ عَنْ شَأْنِ الْآيَةِ وَقَصَصِهَا وَمَعْنَاهَا وَالسَّبَبِ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ وَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَصْدَرَ فَعَّلَ جَاءَ أَيْضًا عَلَى تَفْعِلَةٍ نَحْوُ جَرَّبَ تَجْرِبَةً وَكَرَّمَ تَكْرِمَةً وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: قَوْلُ الْعَرَبِ فَسَرْتُ الدَّابَّةَ وَفَسَّرْتُهَا إِذَا رَكَضْتَهَا مَحْصُورَةً لِيَنْطَلِقَ حَصَرُهَا وَهُوَ يُؤَوَّلُ إِلَى الْكَشْفِ أَيْضًا فَالتَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ وَإِطْلَاقٌ لِلْمُحْتَبِسِ عَنِ الْفَهْمِ بِهِ وَيُقَالُ: فَسَّرْتُ الشَّيْءَ أُفَسِّرُهُ تَفْسِيرًا وَفَسَرْتُهُ أَفْسِرُهُ فَسْرًا وَالْمَزِيدُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَبِمَصْدَرِ الثَّانِي منها سمى أبو الفتح ابن جِنِّي كُتُبَهُ الشَّارِحَةَ الْفَسْرَ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ سَفَرَ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا الْكَشْفُ يُقَالُ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ سُفُورًا إِذَا أَلْقَتْ خِمَارَهَا عَنْ وَجْهِهَا وَهِيَ سَافِرَةٌ وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ أَضَاءَ وَسَافَرَ فُلَانٌ وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِأَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ كقوله تعالى: {يذبحون أبناءكم} {وغلقت الأبواب} فَكَأَنَّهُ يُتْبِعُ سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ وَآيَةً بَعْدَ أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحْسَنَ تفسيرا} أَيْ تَفْصِيلًا وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَسْرُ وَالسَّفَرُ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا كَتَقَارُبِ لَفْظَيْهِمَا لَكِنْ جُعِلَ الْفَسْرُ لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَمِنْهُ قِيلَ لِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْبَوْلُ: تَفْسِرَةٌ وَسُمِّيَ بِهَا قَارُورَةُ الْمَاءِ وَجُعِلَ السَّفَرُ لِإِبْرَازِ الْأَعْيَانِ لِلْأَبْصَارِ فَقِيلَ سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عِلْمُ نُزُولِ الْآيَةِ وَسُورَتِهَا وَأَقَاصِيصِهَا وَالْإِشَارَاتِ النَّازِلَةِ فِيهَا ثُمَّ تَرْتِيبِ مَكِّيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا وَمُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامتها وَمُطْلَقِهَا وَمُقَيَّدِهَا وَمُجْمَلِهَا وَمُفَسَّرِهَا وَزَادَ فِيهَا قَوْمٌ فَقَالُوا: عِلْمُ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَوَعْدِهَا وَوَعِيدِهَا وَأَمْرِهَا وَنَهْيِهَا وَعِبَرِهَا وَأَمْثَالِهَا وَهَذَا الَّذِي مُنِعَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْأَوْلِ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَا تَأْوِيلُ هَذَا الكلام؟ أي إلام تَؤُولُ الْعَاقِبَةُ فِي الْمُرَادِ بِهِ كَمَا قَالَ تعالى: {يوم يأتي تأويله} أَيْ تُكْشَفُ عَاقِبَتُهُ وَيُقَالُ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ إِلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَآلِ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ وَقَدْ أَوَّلْتُهُ فَآلَ أَيْ صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ فَكَأَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَا تَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في التفسير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْإِيَالَةِ وَهَى السِّيَاسَةُ فَكَأَنَّ الْمُؤَوِّلَ لِلْكَلَامِ يُسَوِّي الْكَلَامَ وَيَضَعُ الْمَعْنَى فِيهِ موضعه الفرق بين التفسير والتأويل ثُمَّ قِيلَ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ وَاحِدٌ بِحَسَبِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَالصَّحِيحُ تَغَايُرُهُمَا وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: التَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُرَادِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَرَدُّ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ قَالَ الرَّاغِبُ: التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأَوُّلِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَلْفَاظِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعَانِي كَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَأَكْثَرُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّفْسِيرُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ كَشْفُ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَغَيْرِهِ وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِ وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُهُ فِي الْجُمَلِ وَالتَّفْسِيرُ إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي غَرِيبِ الْأَلْفَاظِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ أَوْ فِي وَجِيزٍ مُبَيَّنٍ بِشَرْحٍ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزكاة} وَإِمَّا فِي كَلَامٍ مُضَمَّنٍ لِقِصَّةٍ لَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الكفر} وَقَوْلِهِ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظهورها} وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً عَامًّا وَمَرَّةً خَاصًّا نَحْوُ الْكُفْرِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي الْجُحُودِ الْمُطْلَقِ وَتَارَةً فِي جُحُودِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الْبَارِئِ خَاصَّةً وَالْإِيمَانُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُطْلَقِ تَارَةً وَفِي تَصْدِيقِ الْحَقِّ تَارَةً وَإِمَّا فِي لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ كَشْفُ مَا انْغَلَقَ مِنَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالَ الْبَجَلِيُّ: التَّفْسِيرُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَةِ وَالتَّأْوِيلُ يَتَعَلَّقُ بِالدِّرَايَةِ وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي التَّفْسِيرِ الِاتِّبَاعُ وَالسَّمَاعُ وَإِنَّمَا الِاسْتِنْبَاطُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّأْوِيلِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ وَمَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ وُضِعَ لِأَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَفِي الْآخَرِ مُجَازٌ كَلَفْظَةِ الْمَسِّ فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ فَمُجْمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ تَنَافَيَا فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا التَّوَقُّفُ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَعْنًى مُوَافِقٍ لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ قَالُوا: وَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالتَّفْسِيرِ وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ فِي الْحَرْبِ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الَّذِي يُمْسِكُ عَنِ النَّفَقَةِ وقيل: الَّذِي يُنْفِقُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ وَقِيلَ: الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَلِكُلٍّ مِنْهُ مَخْرَجٌ وَمَعْنًى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَنْدُوبِينَ إِلَى الْغَزْوِ عِنْدَ قيام النفير: {انفروا خفافا وثقالا} قِيلَ: شُيُوخًا وَشَبَابًا وَقِيلَ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَقِيلَ: عُزَّابًا وَمُتَأَهِّلِينَ وَقِيلَ: نُشَّاطًا وَغَيْرَ نُشَّاطٍ وَقِيلَ: مَرْضَى وَأَصِحَّاءَ وَكُلُّهَا سَائِغٌ جَائِزٌ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّ الشَّبَابَ وَالْعُزَّابَ وَالنُّشَّاطَ وَالْأَصِحَّاءَ خِفَافٌ وَضِدَّهُمْ ثِقَالٌ وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَقِيلَ: الْعَارِيَّةُ أَوِ الْمَاءُ أَوِ النَّارُ أَوِ الْكَلَأُ أَوِ الرَّفْدُ أَوِ الْمَغْرَفَةُ وَكُلُّهَا صَحِيحٌ لِأَنَّ مَانِعَ الْكُلِّ آثِمٌ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ على حرف} فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْ لَا يَدُومُ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَيْ عَلَى شَكٍّ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى دِينَهِ وَلَا تَسْتَقِيمُ الْبَصِيرَةُ فِيهِ وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُ آيَاتٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِائَةُ قَوْلٍ قَوْلُهُ: {فاذكروني أذكركم} {وإن عدتم عدنا} {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ مَحْظُورًا عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِخْرَاجُهُ بل معرفة واجبة ولهذا قال تعالى: {وابتغاء تأويله} وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا سَائِغًا فِي اللُّغَةِ لم يبينه سبحانه والوقف على قوله: {والراسخون} قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا نَقَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَغَلَطٌ فَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمُخَالِفُ لِلْآيَةِ وَالشَّرْعِ فَمَحْظُورٌ لِأَنَّهُ تَأْوِيلُ الْجَاهِلِينَ مِثْلُ تَأْوِيلِ الرَّوَافِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَرَجَ البحرين يلتقيان} أنهما علي وفاطمة {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما وكذلك قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} إِنَّهُ مُعَاوِيَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو القاسم محمد بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ نَبَغَ فِي زَمَانِنَا مُفَسِّرُونَ لَوْ سُئِلُوا عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ لَا يُحْسِنُونَ الْقُرْآنَ تِلَاوَةً وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى السُّورَةِ أَوِ الْآيَةِ مَا عِنْدَهُمْ إِلَّا التَّشْنِيعُ عِنْدَ العوام والتكثر عند الطغام لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُطَامِ أَعْفَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْكَدِّ وَالطَّلَبِ وَقُلُوبَهُمْ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّعَبِ لِاجْتِمَاعِ الْجُهَّالِ عَلَيْهِمْ وَازْدِحَامِ ذَوِي الْأَغْفَالِ لَدَيْهِمْ لَا يَكْفُونَ النَّاسَ مِنَ السُّؤَالِ وَلَا يَأْنَفُونَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْجُهَّالِ مُفْتَضِحُونَ عِنْدَ السَّبْرِ وَالذَّوَاقِ زَائِغُونَ عَنِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ التَّلَاقِ يُصَادِرُونَ النَّاسَ مُصَادَرَةَ السُّلْطَانِ وَيَخْتَطِفُونَ مَا عِنْدَهُمُ اخْتِطَافَ السِّرْحَانِ يَدْرُسُونَ بِاللَّيْلِ صَفْحًا وَيَحْكُونَهُ بِالنَّهَارِ شَرْحًا إِذَا سُئِلُوا غَضِبُوا وَإِذَا نُفِّرُوا هَرَبُوا الْقِحَةُ رَأْسُ مَالِهِمْ وَالْخَرَقُ وَالطَّيْشُ خَيْرُ خِصَالِهِمْ يَتَحَلَّوْنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَيَتَنَافَسُونَ فِيمَا يُرْذِلُهُمْ الصِّيَانَةُ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ وَهُمْ مِنَ الْخَنَى وَالْجَهْلِ فِي جَوْفِ مَنْزِلٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" وقد قيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 مَنْ تَحَلَّى بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ وَجَرَى فِي السِّبَاقِ جَرْيَةَ سُكَّيْتٍ نَفَتْهُ الْجِيَادُ عِنْدَ الرِّهَانِ قَالَ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحَاقَّةِ فَقَالَ: الْحَاقَّةُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا صَارُوا فِي الْمَجْلِسِ قَالُوا: كُنَّا فِي الْحَاقَّةِ وَقَالَ آخَرُ فِي قوله تعالى: {يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} قَالَ: أَمَرَ الْأَرْضَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالسَّمَاءَ بِصَبِّ الْمَاءِ وَكَأَنَّهُ عَلَى الْقَلْبِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِي قوله تعالى: {وإذا الموؤودة سئلت} قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَسْأَلُكُمْ عَنِ الْمَوْءُودَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَقَالَ آخَرُ فِي قوله: {فليتنافس المتنافسون} قَالَ: إِنَّهُمْ تَعِبُوا فِي الدُّنْيَا فَإِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ تَنَعَّمُوا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقَ يَقُولُ: سمعت يحيى ابن مُعَاذٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: أَفْوَاهُ الرِّجَالِ حَوَانِيتُهَا وَأَسْنَانُهَا صَنَائِعُهَا فَإِذَا فَتَحَ الرَّجُلُ بَابَ حَانُوتِهِ تَبَيَّنَ الْعَطَّارُ مِنَ الْبِيطَارِ وَالتَّمَّارُ مِنَ الزَّمَّارِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى سُوءِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْوَانِ فَصْلٌ في حاجة المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم كتاب الله بحره عَمِيقٌ وَفَهْمُهُ دَقِيقٌ لَا يَصِلُ إِلَى فَهْمِهِ إِلَّا مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْعُلُومِ وَعَامَلَ اللَّهَ بِتَقْوَاهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَجَلُّهُ عِنْدَ مَوَاقِفَ الشُّبُهَاتِ وَاللَّطَائِفُ وَالْحَقَائِقُ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فَالْعِبَارَاتُ لِلْعُمُومِ وَهِيَ للسمع والإشارات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 للخصوص وهي للعقل وللطائف للأولياء وهي المشاهد والحقائق للأنبياء وهي الاستسلام وللكل وَصْفٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ فَالظَّاهِرُ التِّلَاوَةُ وَالْبَاطِنُ الْفَهْمُ وَالْحَدُّ إِحْكَامُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمَطْلَعُ أَيِ الْإِشْرَاقِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ بِانَ لَهُ بَسْطُ الْمُوَازَنَةِ وَظَهَرَ له حال المعاينة وفي صحيح ابن حيان عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ" ثُمَّ فَوَائِدُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يُؤَهِّلُ لَهُ سَمْعُهُ فَمَنْ سَمِعَهُ مِنَ التَّالِي فَفَائِدَتُهُ فِيهِ عِلْمُ إِحْكَامِهِ وَمِنْ سَمِعَهُ كَأَنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَوْعِظَتِهِ وَتِبْيَانِ مُعْجِزَتِهِ وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِلَطَائِفِ خِطَابِهِ وَمَنْ سَمِعَهُ كَأَنَّمَا سَمْعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاهِدُ فِي ذَلِكَ مُطَالَعَاتِ الْغُيُوبِ وَالنُّطْقِ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْوُعُودِ وَمَنْ سَمِعَ الْخِطَابَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَنِيَ عِنْدَهُ وَامَّحَتْ صِفَاتُهُ وَصَارَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ التَّحْقِيقِ عَنْ مُشَاهَدَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَحَقِّ الْيَقِينِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين فليثور القرآن قال ابن سبع في شِفَاءِ الصُّدُورِ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَفْسِيرِ الظَّاهِرِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ فَهْمِهَا أَكْثَرُ وَقَالَ آخَرُ: الْقُرْآنُ يَحْوِي سَبْعَةً وَسَبْعِينَ أَلْفَ عِلْمٍ وَمِائَتَيْ عِلْمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ عِلْمٌ ثُمَّ يَتَضَاعَفُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعُلُومُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَفِي الْقُرْآنِ شَرْحُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ فِهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ مَجَالًا رَحْبًا وَمُتَّسَعًا بَالِغًا وَأَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ لَيْسَ يَنْتَهِي الْإِدْرَاكُ فِيهِ بِالنَّقْلِ وَالسَّمَاعُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ لِيَتَّقِيَ بِهِ مَوَاضِعَ الْغَلَطِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّسِعُ الْفَهْمُ وَالِاسْتِنْبَاطُ وَالْغَرَائِبُ الَّتِي لَا تُفْهَمُ إِلَّا بِاسْتِمَاعِ فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى جُمَلٍ مِنْهَا لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَمْثَالِهَا وَيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّهَاوُنُ بِحِفْظِ التَّفْسِيرِ الظَّاهِرِ أَوَّلًا وَلَا مَطْمَعَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْبَاطِنِ قَبْلَ إِحْكَامِ الظَّاهِرِ وَمَنِ ادَّعَى فَهْمَ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُحْكِمِ التَّفْسِيرَ الظَّاهِرَ فَهُوَ كَمَنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ إِلَى صَدْرِ الْبَيْتِ قَبْلَ تَجَاوُزِ الْبَابِ فَظَاهِرُ التَّفْسِيرِ يَجْرِي مَجْرَى تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْفَهْمِ وَمَا لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ اسْتِمَاعِ كَثِيرٍ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَمَا كَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى لُغَتِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا أَوْ مَعْرِفَةِ أَكْثَرِهَا إذ الغرض مما ذَكَرْنَاهُ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَهْمِ لِيُفْتَحَ بَابُهُ وَيَسْتَدِلُّ الْمُرِيدُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ فهم باطن علم القرآن ظاهره عَلَى أَنَّ فَهْمَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا غاية له كما لانهاية لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ فَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ لِلْبَشَرِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ وَفَهْمٌ وَتَقْوَى وَتَدَبُّرٌ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ لَذَّةِ الْقُرْآنِ شَيْئًا وَمَنْ أَحَاطَ بِظَاهِرِ التَّفْسِيرِ -وَهُوَ مَعْنَى الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ- لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فِي فَهْمِ حَقَائِقِ الْمَعَانِي وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رمى} فَظَاهِرُ تَفْسِيرِهِ وَاضِحٌ وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ غَامِضَةٌ فَإِنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلرَّمْيِ وَنَفْيٌ لَهُ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يُفْهَمْ أَنَّهُ رَمَى من وجه ولم يرم من جهة وَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي لَمْ يَرْمِ مَا رَمَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَلِكَ قَالَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بأيديكم} فَإِذَا كَانُوا هُمُ الْقَاتِلِينَ كَيْفَ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعَذِّبُ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُعَذِّبَ بِتَحْرِيكِ أَيْدِيهِمْ فَمَا مَعْنَى أَمَرِهِمْ بِالْقِتَالِ! فَحَقِيقَةُ هَذَا تُسْتَمَدُّ مِنْ بَحْرٍ عَظِيمٍ مِنْ عُلُومِ الْمُكَاشَفَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ وَجْهُ ارتباط الأفعال بالقدرة وتفهم وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْقُدْرَةِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَتَكَشَّفَ وَتَتَّضِحَ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَفَاوُتُ الْخَلْقِ فِي الْفَهْمِ بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعْرِفَةِ ظَاهِرِ التفسير فصل في أمهات مآخذ التفسير للناظر في القرآن لطالب التَّفْسِيرِ مَآخِذُ كَثِيرَةٌ أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: النَّقْلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الطِّرَازُ الْأَوَّلُ لَكِنْ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الضَّعِيفِ فِيهِ وَالْمَوْضُوعِ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ وَإِنَّ سَوَادَ الْأَوْرَاقِ سَوَادٌ فِي الْقَلْبِ قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كُتُبٍ لَيْسَ لَهَا أُصُولٌ الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمُ وَالتَّفْسِيرُ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: وَمُرَادُهُ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ صِحَاحٌ مُتَّصِلَةٌ وَإِلَّا فَقَدَ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ فَمِنْ ذَلِكَ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وَتَفْسِيرُ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ بِالْعَرْضِ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَتَفْسِيرُ القوة في {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} بِالرَّمْيِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَبِذَلِكَ يُرَدُّ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ بِالْخَيْلِ وَكَتَفْسِيرِ الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الذين يستكبرون عن عبادتي} الثَّانِي: الْأَخْذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ الْحَاكِمُ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُحْتَمَلُ أَلَّا يُرْجَعَ إِلَيْهِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ لَا الرَّأْيِ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا لَأَتَيْتُهُ وَقَالَ أَيْضًا: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ مَعَانِيهِنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ وَصُدُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ -وَهُوَ تَجَرَّدَ لِهَذَا الشَّأْنِ وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَحْفُوظِ عَنْ عَلِيٍّ إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ أَخَذَ عَنْ عَلِيٍّ- وَيَتْلُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ فَحَسَنٌ مقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 مسألة في الرجوع إلى أقوال التابعين ثم ذكر طبقات المفسرين وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ الْمَنْعَ وَحَكَوْهُ عَنْ شُعْبَةَ لَكِنَّ عَمَلَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِهِ وَقَدْ حكوا في كتبهم أقوالهم كالضحاك ابن مُزَاحِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحَيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ومقاتل بن سليمان وعطاء بن أبي سلمة الْخُرَاسَانِيِّ وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعَبْدِ الله بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَهَذِهِ تَفَاسِيرُ الْقُدَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَالِبُ أَقْوَالِهِمْ تَلَقَّوْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَمِنَ الْمُبَرَّزِينَ فِي التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ثُمَّ يَتْلُوهُمْ عِكْرِمَةُ وَالضِّحَاكُ وَإِنْ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَأَمَّا عامر السُّدِّيِّ فَكَانَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ يَطْعَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي صَالِحٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَاهُمَا مُقَصِّرَيْنِ فِي النَّظَرِ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ: لِلْكَلْبِيِّ أَحَادِيثٌ صَالِحَةٌ وَخَاصَّةً عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالتَّفْسِيرِ وَلَيْسَ لأحد تفسير أطول منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ولا أشيع فيه وَبَعْدَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ إِلَّا أَنَّ الْكَلْبِيَّ يُفَضَّلُ عَلَى مُقَاتِلٍ لِمَا فِي مُقَاتِلٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الرَّدِيئَةِ ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الطَّبَقَةِ أُلِّفَتْ تَفَاسِيرُ تَجْمَعُ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَتَفْسِيرِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْمُفَضَّلِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَرَوْحِ بن عبادة ويحيى ابن قُرَيْشٍ وَمَالِكِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيِّ وَعَبْدِ بْنِ حميد الكشي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ وَصَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرِ بن إياس السعدي ويحيى ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ أبي طلحة وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَسُنَيْدٍ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ جَمَعَ عَلَى النَّاسِ أَشْتَاتَ التَّفَاسِيرِ وَقَرَّبَ الْبَعِيدَ وَكَذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فَكَثِيرًا مَا اسْتَدْرَكَ النَّاسُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى سَنَنِهِمَا مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ حَسَنُ التَّأْلِيفِ وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَهُمْ كَابْنِ عَطِيَّةَ وَكُلُّهُمْ مُتْقِنٌ مَأْجُورٌ فَجَزَاهُمُ الله خيرا تنبيه فيما يجب أن يلاحظ عند نقل أقوال المفسرين يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم ويحيكه الْمُصَنِّفُونَ لِلتَّفْسِيرِ بِعِبَارَاتٍ مُتَبَايِنَةِ الْأَلْفَاظِ وَيَظُنُّ مَنْ لَا فَهْمَ عِنْدِهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهِ أَقْوَالًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَكَرَ مَعْنًى ظَهَرَ مِنَ الْآيَةِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَلْيَقَ بِحَالِ السَّائِلِ وَقَدْ يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 بَعْضُهُمْ يُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ وَنَظِيرِهِ وَالْآخَرُ بِمَقْصُودِهِ وَثَمَرَتِهِ وَالْكُلُّ يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ غَالِبًا وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ وَلَا يُفْهَمْ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ اخْتِلَافُ الْمُرَادَاتِ كَمَا قِيلَ عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ إِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشِيرُ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ فَالْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَنْهُ إِنِ اسْتَوَيَا فِي الصِّحَّةِ وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ الْمُقَدَّمُ وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ شَيْئًا فِي الْآيَةِ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لِمَا دَخَلَ فِي الْآيَةِ فَيَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَصَرَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ شَخْصٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ قَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {نأت بخير منها أو مثلها} مَا ذَهَبَ اللَّهُ بِوَلِيٍّ إِلَّا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ الثَّالِثُ: الْأَخْذُ بِمُطْلَقِ اللُّغَةِ فإن القرآن نزل {بلسان عربي مبين} وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مَوَاضِعَ لَكِنْ نَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلٌ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ فَقَالَ: مَا يُعْجِبُنِي فَقِيلَ: ظَاهِرُهُ الْمَنْعُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَقِيلَ: الْكَرَاهَةُ تُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَصْرِفُ الْآيَةَ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى مَعَانٍ خَارِجَةٍ مُحْتَمَلَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقَلِيلُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا يُوجَدُ غَالِبًا إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَنَحْوِهِ وَيَكُونُ الْمُتَبَادِرُ خِلَافَهَا وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ لَا أُوتَى بِرَجُلٍ غَيْرِ عَالِمٍ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ يُفَسِّرُ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا جَعَلْتُهُ نِكَالًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الرَّابِعُ: التَّفْسِيرُ بِالْمُقْتَضَى مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ وَالْمُقْتَضَبِ مِنْ قُوَّةِ الشَّرْعِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلِ" وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيٍّ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ مَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ أَوْ فَهْمٌ يُؤْتَاهُ الرَّجُلُ وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الذَّوْقِ: لِلْقُرْآنِ نُزُولٌ وَتَنَزُّلٌ فَالنُّزُولُ قَدْ مَضَى وَالتَّنَزُّلُ بَاقٍ إِلَى قيام الساعة ومن ها هنا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَأَخَذَ كُلُّ واجد برأيه على مقتضى نَظَرِهِ فِي الْمُقْتَضَى وَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وقوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فَأَضَافَ الْبَيَانَ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُنْدُبٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: هَذَا إِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَرَادَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الرَّأْيَ الَّذِي يَغْلِبُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ فَمِثْلُ هَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ فِي النَّوَازِلِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِهِ وَأَمَّا الرَّأْيُ الَّذِي يُسْنِدُهُ بُرْهَانٌ فَالْحُكْمُ بِهِ فِي النَّوَازِلِ جَائِزٌ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الصِّدِّيقِ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ وَإِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَرَادَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُرْجَعَ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِهِ إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَسَبَبِ نُزُولِهِ وَمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِهِ إِلَى أَخْبَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَاهَدُوا تَنْزِيلَهُ وَأَدَّوْا إِلَيْنَا مَنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكُونُ تِبْيَانًا لِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فَمَا وَرَدَ بَيَانُهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَفِيهِ كِفَايَةٌ عَنْ ذِكْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَمَا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ بَيَانٌ فَفِيهِ حِينَئِذٍ فِكْرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَهُ لِيَسْتَدِلُّوا بِمَا وَرَدَ بَيَانُهُ عَلَى مَا لَمْ يَرِدْ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ قَالَ فِيهِ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ وَفُرُوعِهِ فَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِلصَّوَابِ وَإِنْ وَافَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي نُكَتِهِ: قَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُتَوَرِّعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ بِاجْتِهَادِهِ وَلَوْ صَحِبَتْهَا الشَّوَاهِدُ وَلَمْ يُعَارِضْ شَوَاهِدَهَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَهَذَا عُدُولٌ عَمَّا تعبدنا من معرفته مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وَلَوْ صَحَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَمْ يُعْلَمْ شيء بِالِاسْتِنْبَاطِ وَلَمَا فَهِمَ الْأَكْثَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى سِوَى لَفْظِهِ وَأَصَابَ الْحَقَّ فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ وَإِصَابَتُهُ اتِّفَاقٌ إِذِ الْغَرَضُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ لَا شَاهِدَ لَهُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْقُرْآنُ ذَلُولٌ ذُو وُجُوهٍ مُحْتَمَلَةٍ فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ" وَقَوْلُهُ: ذَلُولٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُطِيعٌ لِحَامِلِيهِ يُنْطَقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ الثَّانِي: أَنَّهُ مُوَضِّحٌ لِمَعَانِيهِ حَتَّى لَا تَقْصُرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُجْتَهِدِينَ وَقَوْلُهُ: " ذُو وُجُوهٍ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ أَلْفَاظِهِ مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ جَمَعَ وُجُوهًا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَقَوْلُهُ: " فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ" يَحْتَمِلُ أَيْضًا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحَمْلُ عَلَى أَحْسَنِ مَعَانِيهِ وَالثَّانِي: أَحْسَنِ مَا فِيهِ مِنَ الْعَزَائِمِ دُونَ الرُّخَصِ وَالْعَفْوِ دُونَ الِانْتِقَامِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: النَّهْيُ إِنَّمَا انْصَرَفَ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ لَا إِلَى جَمِيعِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه} لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّفْسِيرُ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ بَالِغَةً فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لِمَنْ عَرَفَ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَشَأْنَ النُّزُولِ أَنْ يُفَسِّرَهُ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ وُجُوهَ اللُّغَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَهُ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا سَمِعَ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ أَنَّهُ يَعْلَمُ التَّفْسِيرَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنَ الْآيَةِ حِكْمَةً أَوْ دَلِيلًا لِحُكْمٍ فَلَا بأس به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وَلَوْ قَالَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ كَذَا مِنْ غير أن سمع مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَحُلُّ وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ انْتَهَى وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ: اختلف الناس في تفسيرالقرآن هَلْ يَجُوزُ لِكُلِّ ذِي عِلْمٍ الْخَوْضُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ وَمَنَعَ الْكَلَامَ وَلَوْ تَفَنَّنَ النَّاظِرُ فِي الْعُلُومِ وَاتَّسَعَ بَاعُهُ فِي الْمَعَارِفِ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَمَّنْ شَاهَدَ التَّنْزِيلَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مَنِ التَّابِعِينَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ" وَفِي رِوَايَةِ: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ كَفَرَ" وَقِيلَ: إِنْ كَانَ ذَا مَعْرِفَةٍ وَأَدَبٍ فَوَاسِعٌ لَهُ تَفْسِيرُهُ وَالْعُقَلَاءُ وَالْأُدَبَاءُ فَوْضَى فِي مَعْرِفَةِ الْأَغْرَاضِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألباب} أقسام التفسير وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَسَّمَ التَّفْسِيرَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا وَقِسْمٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ يَقُولُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَقِسْمٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً وَقِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ وَهَذَا تَقْسِيمٌ صَحِيحٌ فَأَمَّا الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فَهُوَ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى لِسَانِهِمْ وَذَلِكَ شَأْنُ اللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فَأَمَّا اللُّغَةُ فَعَلَى الْمُفَسِّرِ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهَا وَمُسَمَّيَاتِ أَسْمَائِهَا وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْقَارِئَ ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا تَتَضَمَّنُهُ أَلْفَاظُهَا يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ كَفَى فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالِاسْتِشْهَادُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر وَأَمَّا الْإِعْرَابُ فَمَا كَانَ اخْتِلَافُهُ مُحِيلًا لِلْمَعْنَى وَجَبَ عَلَى الْمُفَسِّرِ وَالْقَارِئِ تَعَلُّمُهُ لِيَتَوَصَّلَ الْمُفَسِّرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ وَلِيَسْلَمَ الْقَارِئُ مِنَ اللَّحْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيلًا لِلْمَعْنَى وَجَبَ تَعَلُّمُهُ عَلَى الْقَارِئِ لِيَسْلَمَ مِنَ اللَّحْنِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى الْمَقْصُودِ دُونَهُ عَلَى أَنَّ جَهْلَهُ نَقْصٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَا كَانَ مِنَ التَّفْسِيرِ رَاجِعًا إِلَى هَذَا الْقِسْمِ فَسَبِيلُ الْمُفَسِّرِ التَّوَقُّفُ فِيهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْعَالَمِ بِحَقَائِقِ اللُّغَةِ وَمَفْهُومَاتِهَا تَفْسِيرُ شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا يَكْفِي فِي حَقِّهِ تَعَلُّمُ الْيَسِيرِ مِنْهَا فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ الثَّانِي: مَا لَا يُعْذَرُ وَاحِدٌ بِجَهْلِهِ وَهُوَ مَا تَتَبَادَرُ الْأَفْهَامُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ مِنَ النُّصُوصِ الْمُتَضَمِّنَةِ شَرَائِعَ الْأَحْكَامِ وَدَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَكُلَّ لَفْظٍ أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا جَلِيًّا لَا سِوَاهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وَلَا يَلْتَبِسُ تَأْوِيلُهُ إِذْ كَلُّ أَحَدٍ يُدْرِكُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إله إلا الله} وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَا مَوْضُوعَةٌ فِي اللغة للنفي وإلا لِلْإِثْبَاتِ وَأَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْحَصْرُ وَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وَنَحْوَهَا مِنَ الْأَوَامِرِ طَلَبُ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ مُقْتَضَاهَا التَّرْجِيحُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَدَّعِي الْجَهْلَ بِمَعَانِي أَلْفَاظِهِ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ الثَّالِثُ: مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْغُيُوبِ نَحْوُ الْآيِ الْمُتَضَمِّنَةِ قِيَامَ السَّاعَةِ وَنُزُولَ الْغَيْثِ وَمَا فِي الْأَرْحَامِ وَتَفْسِيرَ الرُّوحِ وَالْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةِ وَكُلُّ مُتَشَابِهٍ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ فَلَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي تَفْسِيرِهِ وَلَا طَرِيقَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إِمَّا نَصٌّ مِنَ التَّنْزِيلِ أَوْ بَيَانٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَأْوِيلِهِ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَالرَّابِعُ: مَا يَرْجِعُ إِلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ التَّأْوِيلِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلى ما يئول إِلَيْهِ فَالْمُفَسِّرُ نَاقِلٌ وَالْمُؤَوِّلُ مُسْتَنْبِطٌ وَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ وَكُلُّ لَفْظٍ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا فَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ وَعَلَى الْعُلَمَاءِ اعْتِمَادُ الشَّوَاهِدِ وَالدَّلَائِلِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْتَمِدُوا مُجَرَّدَ رَأْيِهِمْ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَكُلُّ لَفْظٍ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ قِسْمَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَظْهَرَ مِنَ الْآخَرِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَفِيُّ دُونَ الْجَلِيِّ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جَلِيَّيْنِ وَالِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَخْتَلِفَ أَصْلُ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا فَيَدُورُ اللَّفْظُ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَالشَّرْعِيَّةُ أَوْلَى إِلَّا أَنْ تَدُلَّ قَرِينَتُهُ عَلَى إِرَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ نَحْوُ قوله تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} وَكَذَلِكَ إِذَا دَارَ بَيْنَ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ فَالْعُرْفِيَّةُ أولى لطريانها عَلَى اللُّغَةِ وَلَوْ دَارَ بَيْنَ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ فَالشَّرْعِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمُ الضَّرْبُ الثَّانِي: لَا تَخْتَلِفُ أَصْلُ الْحَقِيقَةِ بَلْ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ اسْتُعْمِلَ فِيهِمَا فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الشَّرْعِ أَوِ الْعُرْفِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَنَافَيَا اجْتِمَاعًا وَلَا يُمْكِنَ إِرَادَتُهُمَا بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَالْقُرْءِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَعَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُمَا بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ كَانَ هُوَ مُرَادَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ وَإِنِ اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ آخَرُ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ كَانَ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ اجْتِهَادِهِ وَمَا كُلِّفَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لِتَكَافُؤِ الْأَمَارَاتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُخَيَّرُ فِي الْحَمْلِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَأْخُذُ بِأَعْظَمِهِمَا حُكْمًا وَلَا يَبْعُدُ اطِّرَادُ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَخَفِّ كَاخْتِلَافِ جَوَابِ الْمُفْتِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 الضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَتَنَافَيَا اجْتِمَاعًا فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ وَالْفَصَاحَةِ وَأَحْفَظُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ أَحَدِهِمَا وَهَذَا أَيْضًا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ مُقْتَضِيَةً لِبُطْلَانِ الْمَعْنَى الْآخَرِ فَيَتَعَيَّنُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ لِلْإِرَادَةِ الثَّانِي: أَلَّا يَقْتَضِيَ بُطْلَانَهُ وَهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مُرَادًا وَلَا يُحْكَمُ بِسُقُوطِ الْمَعْنَى الْآخَرِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ لِأَنَّ مُوجِبَ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا فَاسْتَوَيَا فِي حُكْمِهِ وَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا تَرَجَّحَ بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ أَثْبَتُ حُكْمًا مِنَ الْآخَرِ لِقُوَّتِهِ بِمُظَاهَرَةِ الدَّلِيلِ الْآخَرِ فَهَذَا أَصْلٌ نَافِعٌ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوهِ التَّفْسِيرِ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَنْزِلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: أَحَدُهُمَا: تَفْسِيرُ اللَّفْظِ لِاحْتِيَاجِ الْمُفَسِّرِ لَهُ إِلَى التَّبَحُّرِ فِي مَعْرِفَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ الثَّانِي: حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ لِاحْتِيَاجِ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ: عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ وَالتَّبَحُّرِ فِيهِمَا وَمِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ مَا يُدْرَكُ بِهِ حُدُودُ الْأَشْيَاءِ وَصِيَغُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ وَالظَّاهِرُ وَالْمُضْمَرُ وَالْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ وَالْمُؤَوَّلُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ وَمِنْ عُلُومِ الْفُرُوعِ مَا يُدْرَكُ بِهِ اسْتِنْبَاطًا وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى هَذَا أَقَلُّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ يَحْتَمِلُ كَذَا وَلَا يَجْزِمُ إِلَّا فِي حُكْمٍ اضْطُرَّ إِلَى الْفَتْوَى بِهِ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ فَيَحْرُمُ خِلَافُهُ مَعَ تَجْوِيزِ خِلَافِهِ عِنْدَ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وبطن ولكن حَرْفٍ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ" فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ: "ظَهْرٌ وَبَطْنٌ" فَفِي تَأْوِيلِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ-: إِنَّكَ إِذَا بَحَثْتَ عَنْ بَاطِنِهَا وَقِسْتَهُ عَلَى ظاهرها وقفت على معناها الثاني- قول أبي عبيدة-: إِنَّ الْقَصَصَ ظَاهِرَهَا الْإِخْبَارُ بِهَلَاكِ الْأَوَّلِينَ وَبَاطِنُهَا عِظَةٌ لِلْآخَرِينَ الثَّالِثُ - قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّهُ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا عَمِلَ بِهَا قَوْمٌ وَلَهَا قَوْمٌ سَيَعْمَلُونَ بِهَا الرَّابِعُ - قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ-: إِنَّ ظَاهِرَهَا لَفْظُهَا وباطنها تأويلها وقول أبي عبيدة أَقْرَبُهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ" فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِكُلِّ حَرْفٍ مُنْتَهًى فِيمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَعْنَاهُ الثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّ لِكُلِّ حُكْمٍ مِقْدَارًا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ" فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِكُلِّ غَامِضٍ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ مَطْلَعٌ يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَيُوقَفُ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ وَالثَّانِي: لِكُلِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مُطْلَعٌ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَيَرَاهُ عِنْدَ الْمُجَازَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وَذَلِكَ آجَالٌ حَادِثَةٌ فِي أَوْقَاتٍ آتِيَةٍ كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَالنَّفْخِ فِي الصور ونزول عيسى بن مَرْيَمَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 لِقَوْلِهِ: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ في السماوات والأرض} وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كُلُّ ذِي عِلْمٍ بِاللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ وَذَلِكَ إِبَانَةُ غَرَائِبِهِ وَمَعْرِفَةُ الْمُسَمَّيَاتِ بِأَسْمَائِهَا اللَّازِمَةِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكَةِ منها والموصوفات بِصِفَاتِهَا الْخَاصَّةِ دُونَ مَا سِوَاهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَذَلِكَ كَسَامِعٍ مِنْهُمْ لَوْ سَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يشعرون} لَمْ يَجْهَلْ أَنَّ مَعْنَى الْفَسَادِ هُوَ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ مِمَّا هُوَ مَضَرَّةٌ وَأَنَّ الصَّلَاحَ مِمَّا يَنْبَغِي فِعْلُهُ مِمَّا هُوَ مَنْفَعَةٌ وَإِنْ جَهِلَ الْمَعَانِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ إِفْسَادًا وَالْمَعَانِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ إِصْلَاحًا فَأَمَّا تَعْلِيمُ التَّفْسِيرِ وَنَقْلُهُ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ فَفِيهِ ثَوَابٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ كَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَنْبِيهٌ في كلام الصوفية في تفسير القرآن فَأَمَّا كَلَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَقِيلَ: لَيْسَ تَفْسِيرًا وَإِنَّمَا هِيَ مَعَانٍ وَمَوَاجِيدُ يَجِدُونَهَا عند التلاوة كقول بعضهم في: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} إِنَّ الْمُرَادَ: النَّفْسُ فَأَمَرَنَا بِقِتَالِ مَنْ يَلِينَا لِأَنَّهَا أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَيْنَا وَأَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ نَفْسُهُ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ: وَقَدْ وَجَدْتُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْوَاحِدِيِّ أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ فَإِنْ كَانَ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ فَقَدْ كَفَرَ قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ: الظَّنُّ بِمَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْهُمْ إِذَا قَالَ شَيْئًا مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ تَفْسِيرًا وَلَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الشَّرْحِ لِلْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا قَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمْ ذِكْرٌ لِنَظِيرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَإِنَّ النَّظِيرَ يُذْكَرُ بِالنَّظِيرِ فَمِنْ ذَلِكَ مِثَالُ النَّفْسِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَمَرَنَا بِقِتَالِ النَّفْسِ ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لَمْ يَتَسَاهَلُوا فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ وَالِالْتِبَاسِ انْتَهَى فَصْلٌ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ أَنَّ طَالِبَ عِلْمِ التَّفْسِيرِ مُضْطَرٌّ إِلَى النَّقْلِ فِي فَهْمِ مَعَانِي تَرْكِيبِهِ بِالْإِسْنَادِ إِلَى مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَضْرَابِهِمْ وَأَنَّ فَهْمَ الْآيَاتِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ بَالَغَ الشَّيْخُ فِي رَدِّهِ لِأَثَرِ عَلِيٍّ السَّابِقِ وَالْحَقُّ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مِنْهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ كَسَبَبِ النُّزُولِ وَالنَّسْخِ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه مالا يَتَوَقَّفُ وَيَكْفِي فِي تَحْصِيلِهِ التَّفَقُّهُ عَلَى الْوَجْهِ المعتبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِي اصْطِلَاحِ بَعْضِهِمْ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُسْتَنْبَطِ لِيُحْمَلَ عَلَى الِاعْتِمَادِ فِي الْمَنْقُولِ وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْمُسْتَنْبَطِ تَجْوِيزًا لَهُ وَازْدِيَادًا وَهَذَا مِنَ الْفُرُوعِ فِي الدِّينِ تَنْخِيلٌ لِمَا سَبَقَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِالنَّقْلِ عَمَّنْ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهُ وَقِسْمٌ لَمْ يَرِدْ وَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إِمَّا أَنْ يَرِدَ التَّفْسِيرُ عَنِ النبي صلى الله عيه وَسَلَّمَ أَوْ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ عَنْ رُؤُوسِ التابعين فالأول يبحث في عَنْ صِحَّةِ السَّنَدِ وَالثَّانِي يَنْظُرُ فِي تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ فَإِنْ فَسَّرَهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ فَلَا شَكَّ فِي اعْتِمَادِهِمْ وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا شَاهَدَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْقَرَائِنِ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَحِينَئِذٍ إِنْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَذَاكَ وَإِنْ تَعَذَّرَ قُدِّمَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ" وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ" فَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ جَازَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهَا شَاءَ وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُمْ رُؤُوسُ التَّابِعِينَ إِذَا لَمْ يَرْفَعُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَحَيْثُ جَازَ التَّقْلِيدُ فِيمَا سَبَقَ فَكَذَا هُنَا وَإِلَّا وَجَبَ الِاجْتِهَادُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ قَلِيلٌ وَطَرِيقُ التَّوَصُّلِ إِلَى فَهْمِهِ النَّظَرُ إِلَى مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَمَدْلُولَاتِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا بِحَسَبِ السِّيَاقِ وَهَذَا يَعْتَنِي بِهِ الرَّاغِبُ كَثِيرًا فِي كِتَابِ الْمُفْرَدَاتِ فَيَذْكُرُ قَيْدًا زَائِدًا عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ اقْتَنَصَهُ مِنَ السِّيَاقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 فصل فيما يجب على المفسر البداءة به الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ الْبَدَاءَةُ بِهِ الْعُلُومُ اللَّفْظِيَّةُ وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ الْبَدَاءَةُ بِهِ مِنْهَا تَحْقِيقُ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ فَتَحْصِيلُ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مَنْ أَوَائِلِ الْمَعَادِنِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُدْرِكَ مَعَانِيَهُ وَهُوَ كَتَحْصِيلِ اللَّبِنِ مِنْ أَوَائِلِ الْمَعَادِنِ فِي بِنَاءِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَهُ قَالُوا: وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ فَقَطْ بَلْ هُوَ نَافِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْمُرَكَّبَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُفْرَدَاتِهِ لِأَنَّ الْجُزْءَ سَابِقٌ عَلَى الْكُلِّ فِي الْوُجُودِ مِنَ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ فَنَقُولُ النَّظَرُ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ بِحَسَبِ أَفْرَادِ الْأَلْفَاظِ وَتَرَاكِيبِهَا وَأَمَّا بِحَسَبِ الْأَفْرَادِ فَمِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَتِ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ بِإِزَائِهَا وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ اللُّغَةِ وَمِنْ جِهَةِ الْهَيْئَاتِ وَالصِّيَغِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ وَهُوَ مِنْ عِلْمِ التَّصْرِيفِ وَمِنْ جِهَةِ رَدِّ الْفُرُوعِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْأُصُولِ إِلَيْهَا وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ وَأَمَّا بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ فَمِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ التَّرَاكِيبِ بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ وَمُقَابِلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُؤَدِّيَةٌ أَصْلَ الْمَعْنَى وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرَكَّبُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِعِلْمِ النَّحْوِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 الثَّانِي: بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهِ مَعْنَى الْمَعْنَى أَعْنِي لَازِمُ أَصْلِ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي تَرَاكِيبَ الْبُلَغَاءِ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ بِإِبْرَازِ مَحَاسِنِهِ عِلْمُ الْمَعَانِي الثَّالِثُ: بِاعْتِبَارِ طُرُقِ تَأْدِيَةِ الْمَقْصُودِ بِحَسَبِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَحَقَائِقِهَا وَمَرَاتِبِهَا وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّشْبِيهِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَيَانِ وَالرَّابِعُ: بِاعْتِبَارِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَمُقَابِلِهِ وهو يتعلق بعلم البديع مسألة في أن الإعجاز يكون في اللفظ والمعنى والملاءمة وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَابِ الْإِعْجَازِ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَفَرُّدِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ مَعَ مَا تَضْمَنُهُ مِنَ الْمَعَانِي مَعَ مُلَاءَمَتِهِ الَّتِي هِيَ نُظُومُ تَأْلِيفِهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ أَمْرٌ نَقْلِيٌّ يُؤْخَذُ عَنْ أَرْبَابِ التَّفْسِيرِ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ قوله تعالى: {فاكهة وأبا} فَلَا يَعْرِفُهُ فَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: مَا الْأَبُّ وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْكَ تَكَلُّفٌ وَكَانَ ابْنُ عباس- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وهو ترجمان القرآن- يقول: لا أعرف {حنانا} ولا {غسلين} ولا {الرقيم} وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَمِلُهَا الْأَلْفَاظُ فَالْأَمْرُ فِي مُعَانَاتِهَا أَشَدُّ لِأَنَّهَا نَتَائِجُ الْعُقُولِ وَأَمَّا رُسُومُ النَّظْمِ فَالْحَاجَةُ إِلَى الثَّقَافَةِ وَالْحِذْقِ فِيهَا أَكْثَرُ لِأَنَّهَا لِجَامُ الْأَلْفَاظِ وَزِمَامُ الْمَعَانِي وَبِهِ يَتَّصِلُ أَجْزَاءُ الْكَلَامِ وَيَتَّسِمُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَتَقُومُ لَهُ صُورَةٌ فِي النَّفْسِ يَتَشَكَّلُ بِهَا الْبَيَانُ فَلَيْسَ الْمُفْرِدُ بِذَرَبِ اللِّسَانِ وَطَلَاقَتِهِ كَافِيًا لِهَذَا الشَّأْنِ ولا كل من أوتي خطاب بديهة ناهضة بِحَمْلِهِ مَا لَمْ يَجْمَعْ إِلَيْهَا سَائِرَ الشُّرُوطِ مسألة في أن أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن قِيلَ: أَحْسَنُ طَرِيقِ التَّفْسِيرِ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَقَدْ فُصِّلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ بُسِطَ فِي آخَرَ فَإِنْ أَعْيَاكَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ له قال تعالى: {وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" يَعْنِي السُّنَّةَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي السُّنَّةِ يُرْجَعْ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَلِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْفَهْمِ الْعَجِيبِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ يُرْجَعْ إِلَى النظر والاستنباط بالشرط السابق مسألة فيما يجب على المفسر من التحوط في التفسير وَيَجِبُ أَنْ يُتَحَرَّى فِي التَّفْسِيرِ مُطَابَقَةُ الْمُفَسَّرِ وَأَنْ يُتَحَرَّزَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْصِ الْمُفَسِّرِ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ إِيضَاحِ الْمَعْنَى الْمُفَسَّرِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى زِيَادَةٌ لَا تَلِيقُ بِالْغَرَضِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُفَسِّرِ زَيْغٌ عَنِ الْمَعْنَى الْمُفَسَّرِ وَعُدُولٌ عَنْ طَرِيقِهِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لَهُ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ أَنْحَائِهِ بَلْ يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَكُونَ وَفْقَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْحَاءِ وَعَلَيْهِ بِمُرَاعَاةِ الْوَضْعِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَمُرَاعَاةِ التَّأْلِيفِ وَأَنْ يُوَافِيَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ وَتَلْمِيحِ الْوَقَائِعِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَفَجَّرُ لَهُ يَنَابِيعُ الْفَوَائِدِ وَمِنْ شَوَاهِدِ الْإِعْرَابِ قَوْلُهُ تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات} وَلَوْلَا الْإِعْرَابُ لَمَا عُرِفَ الْفَاعِلُ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ وَمِنْ شَوَاهِدِ النَّظْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي لم يحضن} فَإِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وَقَدْ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ وَقَدْ يُشْكَلُ أَمْرُهُ فَمِنَ الظاهر قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثم يعيده} وَوَجْهُ ظُهُورِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ} جَوَابَ سُؤَالٍ كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا سَمِعُوا مَا قَبْلَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ: {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فَتَرَكَ ذِكْرَ السُّؤَالِ وَنَظِيرُهُ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحق قل الله يهدي للحق} مَسْأَلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ تَجَنُّبِ إِطْلَاقِ الزَّائِدِ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ حَكَى اللَّهُ تعالى وينبغي تَجَنُّبُهُ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُرْشِدِ: قَالَ مُعْظَمُ أَئِمَّتِنَا: لَا يُقَالُ كَلَامُ اللَّهِ يُحْكَى وَلَا يُقَالُ حَكَى اللَّهُ لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مِثْلٌ وَتَسَاهَلَ قَوْمٌ فَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْحِكَايَةِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ إِطْلَاقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 الزائد على بعض الحروف كما في نحو: {فبما رحمة من الله} والكاف في نحو: {ليس كمثله شيء} وَنَحْوِهِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ تَجَنُّبُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ إِذِ الزَّائِدُ مَا لَا مَعْنَى لَهُ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَمِمَّنْ نص على منع ذلك في الْمُتَقَدِّمِينَ الْإِمَامُ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّاوُدِيُّ فِي الْكِتَابِ الْمُرْشِدِ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ في القرآن صلة بوجه وذكر أبو مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلَ ذَلِكَ وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ خِلَافُ هَذَا ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِثْلَهُ يَزْعُمُ الصِّلَةَ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} وقال: إن ما ها هنا لِلتَّعْلِيلِ مِثْلُ: أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا فَصْلٌ في تقسم التأويل إلى منقاد ومستكره التَّأْوِيلُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُنْقَادٍ وَمُسْتَكْرَهٍ: فَالْأَوَّلُ: مَا لَا تَعْرِضُ فِيهِ بَشَاعَةٌ أَوِ اسْتِقْبَاحٌ وَقَدْ يقع فيه الخلاف بين الأئمة: إما الاشتراك في اللفظ نحو: {لا تدركه الأبصار} هَلْ هُوَ مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ أَوِ الْقَلْبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وَإِمَّا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى النَّظْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلا الذين تابوا} هَلْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَحْدَهُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْجَمِيعِ؟ وَإِمَّا لِغُمُوضِ الْمَعْنَى وَوَجَازَةِ النَّظْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن الله سميع عليم} وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْمُسْتَكْرَهُ فَمَا يُسْتَبْشَعُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْحُجَّةِ وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لَفْظًا عَامًّا فَيَخْتَصُّ ببعض ما يدخل تحته كقوله: {وصالح المؤمنين} فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطْ وَالثَّانِي: أَنْ يُلَفَّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ تَكْلِيفَ الْحَيَوَانَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ من أمة إلا خلا فيها نذير} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أمثالكم} إنهم مكلفون كما نحن الثالث: مَا اسْتُعِيرَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عن ساق} فِي حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ الرَّابِعُ: مَا أُشْعِرَ بِاشْتِقَاقٍ بَعِيدٍ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ يَبْقُرُ عَنْ أَسْرَارِ الْعُلُومِ وَفِي الْهُدْهُدِ إِنَّهُ إِنْسَانٌ مَوْصُوفٌ بِجَوْدَةِ الْبَحْثِ والتنقيب والأول أكثر ما يروج على المتفقه الذي لَمْ يَتَبَحَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ وَالثَّانِي عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِرِ فِي مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ النَّظْمِ وَالثَّالِثُ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَتَهَذَّبْ فِي شَرَائِطِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَالرَّابِعُ عَلَى الْأَدِيبِ الَّذِي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 فائدة فيما نقل عن ابن عباس في تفسير بعض الآيات رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صدوركم} فَقَالَ: الْمَوْتُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ تَفْسِيرٌ يَحْتَاجُ لِتَفْسِيرٍ وَرَأَيْتُ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَوْتَ سَيَفْنَى كَمَا يَفْنَى كُلُّ شَيْءٍ كَمَا جَاءَ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَبَادَرَ إِلَيْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ الَّذِي يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ: وَبَقِيَ فِي نَفْسِي مِنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ حَتَّى يُكْمِلَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي فَهْمِهَا فَصْلٌ أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر أَصِلُ الْوُقُوفَ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلنَّاظِرِ فَهْمُ مَعَانِي الْوَحْيِ حَقِيقَةً وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَسْرَارُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْبِ الْمَعْرِفَةِ وَفِي قَلْبِهِ بِدْعَةٌ أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ أَوْ هَوًى أَوْ حُبُّ الدُّنْيَا أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَحَقِّقِ الْإِيمَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أَوْ ضَعِيفَ التَّحْقِيقِ أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِ مُفَسِّرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا عِلْمٌ بِظَاهِرٍ أَوْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَعْقُولِهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا حُجُبٌ وموانع وبعضها آكد من بعض إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُصْغِيًا إِلَى كَلَامِ رَبِّهِ مُلْقِيَ السَّمْعِ وَهُوَ شَهِيدُ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِ مُخَاطِبِهِ نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ تَارِكًا لِلْمَعْهُودِ مِنْ عِلْمِهِ وَمَعْقُولِهِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ مُفْتَقِرًا إِلَى التَّفَهُّمِ بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ وَقُوَّةِ عِلْمٍ وَتَمَكُّنِ سَمْعٍ لِفَهْمِ الْخِطَابِ وَشَهَادَةِ غَيْبِ الْجَوَابِ بِدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَابْتِئَاسٍ وَتَمَسْكُنٍ وَانْتِظَارٍ لِلْفَتْحِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ وَلْيَسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ وَشَهَادَةِ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْوَعْدِ بِالتَّشْوِيقِ وَالْوَعِيدِ بِالتَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّشْدِيدِ فَهَذَا الْقَارِئُ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تلاوته أولئك يؤمنون به} وَهَذَا هُوَ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يهدي السبيل فصل في القرآن علم الأولين والآخرين وَفِي الْقُرْآنِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمُرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وَسِتِّينَ سُورَةً وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيُظْهِرَ التَّغَابُنَ فِي فَقْدِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى: {قَالَ إني عبد الله آتاني الكتاب} إلى قوله: {أبعث حيا} ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّاسُ زَلْزَلَةَ عَامِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ من قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض} فَإِنَّ الْأَلْفَ بِاثْنَيْنِ وَالذَّالَ بِسَبْعِمِائَةٍ وَكَذَلِكَ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَخْلِيصَهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ بحساب الجمل وغير ذلك فصل قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ الْحُكْمُ مِنَ السُّكُوتِ عَنِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ وَهُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 مَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ وَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عن ذلك فقال: لئلا يضعه الْعَمُّ عِنْدَ ابْنِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا وَكَذَا الْخَالُ فَيُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُثْنِيَ مُشْتَرِكٌ بِابْنِهِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ إِلَّا الْعَمَّ وَالْخَالَ وَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَلِيغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي سَتْرِهِنَّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مُحْتَمَلَةٌ فِي أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَذْرَهَا أَبُو الْبَعْلِ عِنْدَ ابْنِهِ الْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا وَأَبُو البعل ينقض قولهم إن مَنِ اسْتُثْنَى اشْتَرَكَ هُوَ وَابْنُهُ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بيوتكم} الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ فَقِيلَ لِدُخُولِهِمْ فِي قوله: {بيوتكم} فصل في تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس ببين في نفسه فيحتاج إلى بيان يَنْقَسِمُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى: مَا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ بِلَفْظٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {التائبون العابدون} الآية وقوله: {إن المسلمين والمسلمات} الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وقوله: {قد أفلح الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وقوله: {يا أيها الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا} وَإِلَى مَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَبَيَانُهُ إِمَّا فِيهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي السُّنَّةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ قَالَ تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} وَالثَّانِي: كَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْجِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الزَّكَاةِ وَلَا نِصَابَهَا وَلَا أَوْقَاصَهَا وَلَا شُرُوطَهَا وَلَا أَحْوَالَهَا وَلَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الصَّلَاةِ وَلَا أَوْقَاتَهَا وَكَقَوْلِهِ: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} {ولله على الناس حج البيت} وَلَمْ يُبَيِّنِ أَرْكَانَهُ وَلَا شُرُوطَهُ وَلَا مَا يَحِلُّ فِي الْإِحْرَامِ وَمَا لَا يَحِلُّ وَلَا مَا يُوجِبُ الدَّمَ وَلَا مَا لَا يُوجِبُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ قَدْ أَرْشَدَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمَّا نَزَلَ: {الَّذِينَ آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تسمعوا ما قال لقمان لابنه" {يا بني لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمَ ها هنا عَلَى الشِّرْكِ لِمُقَابَلَتِهِ بِالْإِيمَانِ وَاسْتَأْنَسَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ لُقْمَانَ وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ مُضْمَرًا فِيهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فهذا يحتاج إلى بيان لأن {حتى} لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَمَامٍ وَتَأْوِيلُهُ حَتَّى إذا جاؤوها جاؤوها وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَمِثْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ به الجبال} أَيْ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَأْيِ النَّحْوِيِّينَ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْكَفَّ وَقَدْ يُومِئُ إِلَى الْمَحْذُوفِ إِمَّا مُتَأَخِّرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فإنه لم يجئ لَهُ جَوَابٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وَتَقْدِيرُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} كَمَنْ قسا قلبه وإما متقدم كقوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل} فَإِنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى مَا قَبْلَهُ: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضر دعا ربه منيبا} كَأَنَّهُ قَالَ: أَهَذَا الَّذِي هُوَ هَكَذَا خَيْرٌ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ؟ فَأَضْمَرَ الْمُبْتَدَأَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ونظيره: {مثل الجنة التي وعد المتقون} وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار} ! وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ وَاضِحًا وَهُوَ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَقِبَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: تَفْسِيرُهُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد} وكقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: تَفْسِيرُهُ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} وَقَالَ ثَعْلَبٌ: سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَقَوْلِهِ: {فيه آيات بينات} فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمنا} وَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حصب جهنم} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُطْلَقَةً اكْتِفَاءً بِالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أنه لا يعذبهما اللَّهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِاللَّفْظِ فَلَمَّا قال المشركون هذا الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وقوله: {يريكم البرق خوفا وطمعا} فَفَسَّرَ رُؤْيَةَ الْبَرْقِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رُؤْيَتِهِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ وَفِيهَا لَطِيفَةٌ وَهَى تَقْدِيمُ الْخَوْفِ عَلَى الطَّمَعِ إِذْ كَانَتِ الصَّوَاعِقُ تَقَعُ مِنْ أَوَّلِ بَرْقَةٍ وَلَا يَحْصُلُ الْمَطَرُ إِلَّا بَعْدَ تَوَاتُرِ الْبَرَقَاتِ فَإِنَّ تَوَاتُرَهَا لَا يَكَادُ يَكْذِبُ فَقَدَّمَ الْخَوْفَ عَلَى الطَّمَعِ نَاسِخًا لِلْخَوْفِ كَمَجِيءِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ وَكَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الْآيَةَ وفيها لطيفة حيث بدأ بالماشي عَلَى بَطْنِهِ فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ أَعْجَبُ مِنَ الَّذِي بَعْدَهُ وَكَذَا مَا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وكقوله تعالى: {فمن ما ملكت أيمانكم} فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنَاتُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فَخَرَجَ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أعمى} فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ مِنْهُ وَالثَّانِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بدليل قوله بعده {وأضل سبيلا} وَلِهَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوَّلَ بِالْإِمَالَةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ وَالثَّانِي بِالتَّصْحِيحِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ مَا هُوَ اسْمٌ وَمَا هُوَ أَفْعَلُ مِنْهُ بِالْإِمَالَةِ وَتَرْكِهَا فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِي مِنَ الْخَلْقِ فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَعْمَى مِنْ عَمْرٍو لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ! قُلْتُ: إِنَّمَا جَازَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ أَيْ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 أَعْمَى الْقَلْبِ عَمَّا يَرَى مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يُؤْمِنُ بِهِ فَهُوَ عَمَّا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ أَيْ أَشَدُّ عَمًى وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَى البصيرة متفاوت ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ المراد بالصبر ها هنا الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ مَدْحَ الصَّابِرِينَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مصيبة} الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فِي السُّورَةِ مَعَهُ أَوْ فِي غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مالك يوم الدين} وَبَيَانُهُ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئا والأمر يومئذ لله} وقوله في سورتي النمل والقصص: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَبَيَّنَهُ فِي سورة الدخان بقوله: {في ليلة مباركة} ثُمَّ بَيَّنَهَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} فَالْمُبَارَكَةُ فِي الزَّمَانِ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ وَاحِدٌ وَبِذَلِكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُبَارَكَةَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَعَجَبٌ كَيْفَ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ هُنَا بَيَانًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجمعان} وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} فَسَّرَهُ فِي آيَةِ الْفَتْحِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رحماء بينهم} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطيب من القول} وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لغفور شكور} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مثلا} بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى} وَذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ مُجْمَلًا وَفَسَّرَهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ ما ملكت أيمانهم} فَاسْتَثْنَى الْأَزْوَاجَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ ثُمَّ حَظَرَ تَعَالَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ وَالرَّابَّةِ بالآية الأخرى ومنه قوله تعالى: {ن اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ مُشْكِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ هَدَى كُفَّارًا كَثِيرًا وَمَاتُوا مُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَا يَهْدِي مَنْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي السُّورَةِ: {أَفَمَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ في النار} وَقَوْلِهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عليهم كلمت رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يروا العذاب الأليم} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعان} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تدعون إليه إن شاء فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِجَابَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَسَّرَ الْإِجَابَةَ بِقَوْلِهِ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَعَا اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ وَلَا إِثْمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا" وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ يريد حرث الدنيا نؤته منها} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء} فَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَشْكَلُ اجْتِمَاعُهُمَا لِأَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ وَهَذَا غَفْلَةٌ عَنِ الْمُرَادِ لِأَنَّ الِاطْمِئْنَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ثَلَجِ الْقَلْبِ وَشَرْحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْوَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ بِتَوْجِيلِ الْقُلُوبِ كَذَلِكَ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقلوبهم إلى ذكر الله} لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَوَثِقُوا بِهِ فَانْتَفَى عَنْهُمُ الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ الَّذِي يَعْرِضُ إِنْ كَانَ كَلَامُهُمْ فِيمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ تَعَوُّذًا فَجُعِلَ لَهُمْ حِكْمَةٌ دُونَ الْعِلْمِ الْمُوجِبِ لِثَلَجِ الصُّدُورِ وَانْتِفَاءِ الشَّكِّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون} فَلَمْ يَسْتَثْنِ امْرَأَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ منكم أحد إلا امرأتك} فأظهر الاستثناء في هذه الآية وكقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد} الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} لِأَنَّ هَذِهِ لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يُفْهَمْ مُرَادُهَا وقوله: {حرمت عليكم} هِيَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وَقَوْلِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وللنساء نصيب} الْآيَةَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا مَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ وَمَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ ثُمَّ بَيِّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أولادكم} الْآيَاتِ وَكَقَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا ما يتلى عليكم} فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وكقوله: {ليبلونكم الله بشيء من الصيد} الْآيَةَ فَهَذَا الِابْتِلَاءُ مُجْمَلٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي الْحِلِّ أَمْ فِي الْحَرَمِ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الْآيَةَ وَكَقَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وَهَذَا الْمُجْمَلُ بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الْآيَةَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: بَيَانُ هَذَا الْعَهْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وعزرتموهم} الْآيَةَ فَهَذَا عَهْدُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَهُدُهُمْ تَمَامُ الآية في قوله: {لأكفرن عنكم سيئاتكم} فَإِذَا وَفُّوا الْعَهْدَ الْأَوَّلَ أُعْطُوا مَا وُعِدُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لمن المرسلين} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مؤمنون} فَقِيلَ لَهُمْ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} وقيل: بل نزل بعده: {إنا كاشفو العذاب} وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَشَفْنَا الْعَذَابَ تَعُودُوا وَقَوْلِهِ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عظيم} فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار ما كان لهم الخيرة} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وما الرحمن} بيانه: {الرحمن. علم القرآن} وقوله: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} فَقِيلَ لَهُمْ: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بمثله} وَقَوْلِهِ: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلهتكم} فَقِيلَ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مثوى لهم} الْآيَةَ وَمِنْهُ: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فقيل لهم: {ما لكم لا تناصرون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 ومنه: {لو أطاعونا ما قتلوا} فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وقوله: {أم يقولون تقوله} رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل. لأخذنا منه باليمين} وقوله: {مال هذا الرسول يأكل الطعام} فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جملة واحدة} فَقِيلَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على الناس على مكث} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} تَفْسِيرُ هَذَا الِاخْتِصَامِ مَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مرسل من ربه} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدنيا وفي الآخرة} وَفَسَّرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ التي كنتم توعدون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وَمِنْهُ حِكَايَةٌ عَنْ فِرْعَوْنَ -لَعَنَهُ اللَّهُ-: {وَمَا أهديكم إلا سبيل الرشاد} فَرَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ برشيد} وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} وذكر هذا الحلف في قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَنِّي مغلوب فانتصر} بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الذين كذبوا بآياتنا} وقوله: {وقالوا قلوبنا غلف} أَيْ: أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أُوتِيتُمْ من العلم إلا قليلا} وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رب أرني أنظر إليك} قَالَ: فَإِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ وَهَى قَوْلُهُ: {حَتَّى نرى الله جهرة} تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {رَبِّ أَرِنِي} لَمْ يَكُنْ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُطَالَبَةَ قَوْمِهِ وَلَمْ يُثْبِتْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ إِلَّا وَقْتَ حُضُورِ قَوْمِهِ مَعَهُ وَسُؤَالِهِمْ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمت عليهم} بَيَّنَةُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّبِيِّينَ والصديقين والشهداء والصالحين} فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَسَّرَهَا آيَةُ مَرْيَمَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ؟ الْآيَةَ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّبِيِّينَ فَقَطْ لِقَوْلِهِ: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مع نوح} وقوله: {وممن هدينا واجتبينا} وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَيْفَ وَقَدْ ذُكِرَتْ مَرْيَمُ وَهِيَ صِدِّيقَةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا فِي الْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً فَهُمْ بَعْضُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ فِي آيَةِ النِّسَاءِ صِنْفًا مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ آيَةُ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَامَّةٌ أَوْلَى بِتَفْسِيرِ قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} وَلِأَنَّ آيَةَ مَرْيَمَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهَا هِيَ نَفْسُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا هُدِيَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى الطَّاعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ أَمَسُّ بِتَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَمْدِ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سورة مريم فصل قد يَكُونُ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِأَمْرٍ وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِأَمْرٍ وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الِاسْمِ مِنْهُ وَلَهُ أمثلة: منها تفسيرهم السبع المثاني بِالْفَاتِحَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ القرآن كله مثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ الْكِسَاءِ: "هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرَهُمْ تَطْهِيرًا" وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْأَزْوَاجِ وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ وَلَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُنَّ عَنِ الْآيَةِ لَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ دُخُولُ غَيْرِهِنَّ قِيلَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ البيت الذكور والإناث بخلاف قوله: {يا نساء النبي} ودل أَنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ أَحَقُّ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْحَصْرُ الْمَذْكُورُ حَصْرُ الْكَمَالِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا هُوَ الْعَالِمُ الْعَدْلُ وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءَ هو مؤسس عَلَى التَّقْوَى وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مراد بالآية فصل قد يكون اللفظ محتملا لمعنيين في موضع ويعين في موضع آخر وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يُعَيِّنُهُ لِأَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم غشاوة} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى خَتَمَ ويحتمل الوقف على قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْخَتْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي الْجَاثِيَةِ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ من الغاوين} فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِقَوْلِهِ فِي الْإِسْرَاءِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَاسْتَثْنَاهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَيَاةَ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَاءِ قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ: وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ {حَيٍّ} مَجْرُورًا وَلَكَانَ مَنْصُوبًا وَإِنَّمَا {حَيٍّ} صِفَةٌ لِشَيْءٍ وَمَعْنَى الْآيَةِ: خَلَقَ الْخَلْقِ مِنَ الْمَاءِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماء} وَمِمَّا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فليلقه اليم بالساحل} فَإِنَّ فَلْيُلْقِهِ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ كَأَنَّهُ قَالَ فاقذفيه في اليم يلقيه اليم ونحتمل أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِإِلْقَائِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا فَرِيدًا مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْبَقَاءِ أَجَازَ فِيهَا وَفِي قوله: {وذرني والمكذبين} أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكْنِي وَاتْرُكْ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَكَذَلِكَ اتْرُكْنِي وَاتْرُكِ الْمُكَذِّبِينَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 الْمُرَادُ: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَهِيَ وَاوُ مَعَ كَقَوْلِهِ: "لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلَهَا لَرَضَعَهَا" وَقَدْ يَكُونُ لِلَّفْظِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ طهرا بيتي للطائفين} ظَاهِرُهُ الْكَعْبَةُ وَبَاطِنُهُ الْقَلْبُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِخِطَابِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةُ لَكِنَّ الْعَالِمَ يَتَجَاوَزُ إِلَى الْقَلْبِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ قَوْمٍ وَالْأَوْلَى عِنْدَ آخَرِينَ وَمِنْ بَاطِنِهِ إِلْحَاقُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِهِ وَمِنْ ظَاهِرِهِ عِنْدَ قَوْمٍ العبور فيه فصل في ذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: رَدُّ الْكَلِمَةِ لِضِدِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كفورا} أَيْ: وَلَا كَفُورًا وَالطَّرِيقَةُ أَنْ يُرَدَّ النَّهْيُ مِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ فَنَقُولُ مَعْنَى: أَطِعْ هَذَا أَوْ هَذَا أَطِعْ أَحَدَهُمَا وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ فِي النَّهْيِ وَلَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا الثَّانِي: رَدُّهَا إِلَى نَظِيرِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} فهذا عام وقوله: {فوق اثنتين} قَوْلٌ حُدَّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ وَأُرْخِيَ الطَّرَفُ الْآخَرُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لِأَنَّ أَوَّلُ مَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ الثَّلَاثَ وَآخِرَهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَقَوْلِهِ: {وإن كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 واحدة} مَحْدُودَةُ الطَّرَفَيْنِ فَالثِّنْتَانِ خَارِجَتَانِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ وأمسك الله عَنْ ذِكْرِ الثِّنْتَيْنِ وَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثَ وَمَا فَوْقَهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْأَخَوَاتِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نصف ما ترك} الْآيَةَ فَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالِاثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلَاثِ وَمَا فَوْقَهُنَّ فَضَمَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَصْلَيْنِ مَا كَفَّ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْآخَرِ فَوَجَبَ حَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَمْسَكَ عَنْهُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهِ الثَّالِثُ: مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ خَبَرٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ إِيضَاحٍ فِي مَعْنًى آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أَنْ يَعِزَّ أَوْ تَكُونُ الْعِزَّةُ لَهُ لَكِنَّ قوله تعالى: {فلله العزة جميعا} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ فَإِنَّهَا لِلَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي عُقُوبَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ وَأَنْوَاعُ الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَتِ الْحَالُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَالصَّلْبَ عَلَى مَنْ جَمَعَهُمَا وَالْقِطَعَ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَالنَّفْيَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ الرَّابِعُ: دَلَالَةُ السِّيَاقِ فَإِنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى تَبْيِينِ الْمُجْمَلِ وَالْقَطْعِ بِعَدَمِ احْتِمَالِ غَيْرِ الْمُرَادِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَتَنَوُّعِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَمَنْ أَهْمَلَهُ غَلِطَ فِي نَظِيرِهِ وَغَالَطَ فِي مُنَاظَرَاتِهِ وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 العزيز الكريم} كَيْفَ تَجِدُ سِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الذَّلِيلُ الْحَقِيرُ الْخَامِسُ: مُلَاحَظَةُ النَّقْلِ عَنِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعَارُ الشَّيْءُ لِمُشَابِهِهِ ثُمَّ يُسْتَعَارُ مِنَ الْمُشَابِهِ لِمُشَابِهِ الْمُشَابِهِ وَيَتَبَاعَدُ عَنِ الْمُسَمَّى الْحَقِيقِيِّ بِدَرَجَاتٍ فَيَذْهَبُ عَنِ الذِّهْنِ الْجِهَةُ الْمُسَوِّغَةُ لِنَقْلِهِ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخِرِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المؤمنين} وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ دُونَ لِلْمَكَانِ الَّذِي هُوَ أَنْزِلُ مِنْ مَكَانٍ غَيْرِهِ وَمِنْهُ الشَّيْءُ الدُّونُ لِلْحَقِيرِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ وَالرُّتَبِ فَقِيلَ زِيدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَاسْتُعِيرَ فِي كُلِّ مَا يَتَجَاوَزُ حَدًّا إِلَى حَدٍّ وَتَخَطَّى حُكْمًا إِلَى حُكْمٍ آخَرَ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالتَّقْدِيرُ لَا تَتَجَاوَزُوا وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ وكذلك قوله تعالى: {ادعوا شهداءكم من دون الله} أَيْ تَجَاوَزُوا اللَّهَ فِي دُعَائِكُمْ إِلَى دُعَاءِ آلِهَتِكُمْ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ يَرْكَنُ إِلَيْهَا الْعَاجِزُ عَنِ الْبَيِّنَاتِ مِنَ النَّاسِ بَلِ ائْتُوا بِبَيِّنَةٍ تَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الْحُكَّامِ وهذا يؤذن بأنه لم يبق تَشَبُّثٌ سِوَى قَوْلِهِمْ: "اللَّهُ يَشْهَدُ لَنَا عَلَيْكُمْ" هَذَا إِذَا جَعَلْتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بادعوا فَإِنْ جَعَلْتَهُ مُتَعَلِّقًا بِـ {شُهَدَاءَكُمْ} احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي زَعْمِكُمْ شَهَادَةَ اللَّهِ أَيْ شَهَادَتَهُمْ لَكُمْ يوم القيامة والثاني: على أن يراد بشهدائكم آلِهَتُكُمْ أَيِ ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي اتِّخَاذِكُمْ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ إِلَى أُلُوهِيَّتِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِمِثْلِهِ وَفِي هَذَا إِرْخَاءُ عِنَانِ الِاعْتِمَادِ عَلَى أَنَّ فُصَحَاءَهُمْ تَأْنَفُ نُفُوسُهُمْ مِنْ مُسَاجَلَةِ الحق الجلي بالباطل اللجلجي وتعليقه بادعوا عَلَى هَذَا جَائِزٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كالذي مر على قرية} فَإِنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ} لِأَنَّهَا بِمَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ السَّادِسُ: مَعْرِفَةُ النُّزُولِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعِينِ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى وَسَبَقَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ جُمْلَةٌ وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يطوف بهما} أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ ذَلِكَ وَقَالَتْ: "لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتَ لَقَالَ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا" وَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقَعَ فَزَعٌ فِي قُلُوبِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَطُوفُونَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلْأَصْنَامِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا الْفِعْلَ الَّذِي كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْجُنَاحَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالطَّوَافِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ السَّعْيِ وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ مروان بن الحكم سُؤَالِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ: "لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون" فقال ابن عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ تَلَا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} وَتَلَا: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ كَلَامٌ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي مَعْرِفَةِ سَبَبِ النُّزُولِ فَاسْتَحْضِرْهُ وَمِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أجد في ما أوحي إلي محرما} أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ فِيهَا لِمَالِكٍ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ فَأَجَابَهُمْ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَحَكَاهُ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ السَّابِعُ: السَّلَامَةُ مِنَ التَّدَافُعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الطَّوَائِفَ لَا تَنْفِرُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَبَوَادِيهَا جُمْلَةً بَلْ بَعْضُهُمْ لِتَحْصِيلِ التَّفَقُّهِ بِوُفُودِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ وَالْفَائِدَةُ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَنْفِرُونَ جَمِيعًا عَنْ بِلَادِهِمْ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ فِي حِفْظِ مَنْ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ نفيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِئَةِ النَّافِرَةِ هِيَ مَنْ تَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ وَسَرَايَاهُ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا أَجْمَعِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ وَالْفِئَةُ النَّافِرَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ بِسَبَبِ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ فِي صُحْبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعِلْمِ وَالِاحْتِمَالَانِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَخَالَفَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا طَلَبَ الْجَمِيعِ بِالنَّفِيرِ أَوْ إِبَاحَتَهُ وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِهِ يُخَالِفُ النَّهْيَ عَنْ نَفْرِ الْجَمِيعِ وَإِذَا تَعَارَضَ مَحْمَلَانِ يَلْزَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا مُعَارَضَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآخَرِ فَالثَّانِي أَوْلَى وَلَا نَعْنِي بِلُزُومِ التَّعَارُضِ لُزُومًا لَا يُجَابُ عَنْهُ وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ بَلْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْآيَتَيْنِ يُجَابُ عَنْهُ بِحَمْلِ "أَوْ" فِي قَوْلِهِ: {أَوِ انْفِرُوا جميعا} عَلَى التَّفْصِيلِ دُونَ التَّخْيِيرِ كَمَا رَضِيَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النُّحَاةِ فَيَكُونُ نَفِيرُهُمْ ثُبَاتٍ مِمَّا لا يدعون الْحَاجَةُ إِلَى نَفِيرِهِمْ فِيهِ جَمِيعًا وَنَفِيرُهُمْ جَمِيعًا فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أن يتخلفوا عن رسول الله} عَلَى مَا إِذَا كَانَ الرَّسُولُ هُوَ النَّافِرُ لِلْجِهَادِ وَلَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ إِلَّا بِنَفِيرِ الْجَمِيعِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ فَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالنَّسْخِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 أَوْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا اقْتَضَى النَّفِيرَ جَمِيعًا وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَنْعَ النَّفِيرِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوهُ وَحْدَهُ وَالْحَمْلُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ هَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي أَنَّ نَفِيرَهُمْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْإِنْذَارِ وَنَفِيرُهُمْ مَعَ بَقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُمْ لَا يُنَاسِبُهُ التَّعْلِيلُ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ إِذِ التَّفَقُّهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلُّمُ الشَّرَائِعَ مِنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فاتقوا الله ما استطعتم} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ فَاتَّقُوا أَيْ لا تبقى مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ شَيْءٌ وَبِمَعْنَى التَّخْفِيفِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ أَوْ مَا أَمْكَنَكُمْ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ قَالَ الشيخ تقي الدين الفشيري: وَيُصْلِحُ مَعْنَى التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" فَصْلٌ في الظاهر والمؤول وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ فَيُسَمَّى الرَّاجِحَ ظَاهِرًا وَالْمَرْجُوحَ مُؤَوَّلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 مِثَالُ الْمُؤَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كنتم} فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُ الْمَعِيَّةِ عَلَى الْقُرْبِ بِالذَّاتِ فَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَمْلُهُ إِمَّا عَلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ أَوْ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حبل الوريد} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ آدَمِيٌّ لَهُ أَجْنِحَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُضُوعِ وحسن الخلق وكقوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَدَّ فِي الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِ كُلِّ طَائِعٍ وَعَاصٍ وَغَيْرِهِمَا طَيْرٌ مِنَ الطُّيُورِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْتِزَامِ الْكِتَابِ فِي الْحِسَابِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ وَمِثَالُ الظَّاهِرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فَإِنَّ الْبَاغِيَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَاهِلِ وَعَلَى الظَّالِمِ وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَغْلَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بغي عليه لينصرنه الله} وقوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} فَيُقَالُ: لِلِانْقِطَاعِ طُهْرٌ وَلِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرَ أَنَّ الثَّانِيَ أَظْهَرُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فيقال: للابتداء التمام والفراغ غَيْرَ أَنَّ الْفَرَاغَ أَظْهَرُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 الْخِيَارُ فِي الْأَجَلِ أَوْ بَعْدَهُ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لَكِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مُفَارَقَةُ الْأَجَلِ وَقَوْلِهِ: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا جُنَاحَ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "لَا بَأْسَ" وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ مَتْرُوكٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِأَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَاجِبٌ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ التَّطَوُّعِ فَقَالَ: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خيرا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ السَّابِقَ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ وَاجِبٍ لَا نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَقَدْ يَكُونُ الْكَلَامُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ فَيُعْدَلُ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ بِدَلِيلٍ آخَرَ كقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} والشهر اسْمٌ لِثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} فَالظَّاهِرُ اشْتِرَاطُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْإِخْوَةِ لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اثْنَانِ لِأَنَّهُمَا يَحْجُبَانِهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ فَصْلٌ في اشتراك اللفظ بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ أَوْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تعالى: {لا يضار كاتب ولا شهيد} قِيلَ: الْمُرَادُ يُضَارِرْ وَقِيلَ: يُضَارَرْ أَيِ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ لَا يُضَارَرْ فَيَكْتُمُ الشَّهَادَةَ وَالْخَطَّ وَهَذَا أظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ دَعَا الْكَاتِبَ وَالشَّهِيدَ لَا يُضَارِرْهُ فَيَطْلُبُهُ فِي وَقْتٍ فِيهِ ضَرَرٌ وَكَذَلِكَ قوله: {لا تضار والدة بولدها} فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَبِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ خُوطِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أُرِيدَ هَذَا وَمَرَّةً هَذَا وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً" رواه أحمد أي اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً وَلَا يَقْتَصِرُ به على ذلك المعنى بل يعلم أنه يصلح لهذا ولهذا وقال ابن القشيري في مقدمة تفسيره: مالا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ وَمَا احتمل معنيين فصاعدا بأن وضع الأشياء مُتَمَاثِلَةٍ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَاللَّمْسِ فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُجْمَلٌ فَيُطْلَبُ الْبَيَانُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَ فَقَدْ مَالَ قَوْمٌ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَالْوَجْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ لِأَنَّهُ مَا وُضِعَ لِلْجَمِيعِ بَلْ وُضِعَ لِآحَادِ مُسَمَّيَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ وَادِّعَاءُ إِشْعَارِهِ بِالْجَمِيعِ بِعِيدٌ نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَحَامِلِ وَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَقْلًا وَفِي مِثْلِ هَذَا يُقَالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَا فَصْلٌ قد ينفى الشيء ويثبت باعتبارين وَقَدْ يُنْفَى الشَّيْءُ وَيُثْبَتُ بِاعْتَبَارَيْنِ كَمَا سَبَقَ في قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 رمى} ثُمَّ أَثْبَتُهُ لِسِرٍّ غَامِضٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّمْيَ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ عَنَى بِهِ الرَّمْيَ بِالرُّعْبِ وَالثَّانِيَ عَنَى بِهِ بِالتُّرَابَ حِينَ رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُجُوهِ أَعْدَائِهِ بِالتُّرَابِ وَالْحَصَى وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ" فَانْهَزَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُهُ أَنَّ انْهِزَامَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ التُّرَابِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَا أَوْقَعَ في قلوبهم من الرعب فصل في الإجمال ظاهرا وأسبابه وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي الظَّاهِرِ فَكَثِيرٌ وَلَهُ أَسْبَابٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِضُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَرِكَةٍ وَقَعَتْ فِي التَّرْكِيبِ كَقَوْلِهِ تعالى: {فأصبحت كالصريم} قِيلَ: مَعْنَاهُ كَالنَّهَارِ مُبْيَضَّةً لَا شَيْءَ فِيهَا وقيل: كالليل مظلمة لاشيء فيها وكقوله: {والليل إذا عسعس} قِيلَ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَكَالْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وجد عليه أمة} بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمة} بِمَعْنَى الرَّجُلِ الْجَامِعِ لِلْخَيْرِ الْمُقْتَدَى بِهِ وَبِمَعْنَى الدِّينِ فِي قَوْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} وَبِمَعْنَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أمة} وَكَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ الْأَدْنَى وَمِنْهُ: {ومن ذريته داود وسليمان} وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إن الله اصطفى آدم} الآية ثم قال: {ذرية} وَبِهَا يُجَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} عَلَى بَحْثٍ فِيهِ وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فأنا أول العابدين} أَيْ: أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَمَنْ قَالَ: "الْآنِفِينِ" فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبِدِينِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: عَبِدَ مِنْ كَذَا أَيْ أَنِفَ الثَّانِي: مِنْ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ كقوله: {وترغبون أن تنكحوهن} قيل معناه ترغبون في نكاحهن لما لهن وَقِيلَ مَعْنَاهُ: عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِزَمَانَتِهِنَّ وَقِلَّةِ مَالِهِنَّ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ رَغِبْتُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا زَهِدْتَ فِيهِ وَرَغِبْتُ فِي الشَّيْءِ إِذَا حَرِصْتَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رُكِّبَ الْكَلَامُ تَرْكِيبًا حُذِفَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرِّ احْتَمَلَ التَّأْوِيلَيْنِ جَمِيعًا وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. مَا أَصَابَكَ مِنْ حسنة فمن الله} أَيْ يَقُولُونَ: {مَا أَصَابَكَ} قَالَ: وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عند الله} وقوله: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} أَيْ: آيَةً مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ مُبْصِرَةً لَا عَمْيَاءَ الثَّالِثُ: مِنْ تَعْيِينِ الضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يعفو الذي بيده عقدة النكاح} فَالضَّمِيرُ فِي {يَدِهِ} يَحْتَمِلُ عَوْدَهُ عَلَى الْوَلِيِّ وَعَلَى الزَّوْجِ وَرُجِّحَ الثَّانِي لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقَوَاعِدِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ مَالِ يَتِيمِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمُحْتَمِلِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ لَقَالَ: "إِلَّا أَنْ تَعْفُوَ" بِالْخِطَابِ لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ خِطَابٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وإن طلقتموهن} إلى قوله: {نصف ما فرضتم} قُلْنَا: هُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْفَاعِلِيُّ الَّذِي فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدًا عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ -وَهُوَ التَّوْحِيدُ- يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْأَعْمَالُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْكَلِمِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يَصِحُّ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا. فَوَسَطْنَ بِهِ جمعا} فَالْهَاءُ الْأَوْلَى كِنَايَةٌ عَنِ الْحَوَافِرِ وَهِيَ مَوْرِيَاتٍ أَيْ أَثَرْنَ بِالْحَوَافِرِ نَقْعًا وَالثَّانِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِغَارَةِ أَيِ الْمُغِيرَاتِ صُبْحًا {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} جَمْعَ الْمُشْرِكِينَ فَأَغَارُوا بِجَمْعِهِمْ وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ كِتَابًا فِي تَعْيِينِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مُجَلَّدَيْنِ الرَّابِعُ: مِنْ مَوَاقِعِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في العلم} فَقَوْلُهُ: {الرَّاسِخُونَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ وَيَكُونُ حَذَفَ "أما" المقابلة كقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} وَيُؤَيِّدُهُ آيَةُ الْبَقَرَةِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا} الْخَامِسُ: مِنْ جِهَةِ غَرَابَةِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فلا تعضلوهن} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} {وسيدا وحصورا} وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ كُتُبِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ السَّادِسُ: مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ الْآنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهو شهيد} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 و {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} بِمَعْنَى: يَسْمَعُونَ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ الْآنَ: أَلْقَيْتُ سمعي وكذا قوله: {ثاني عطفه} أَيْ: مُتَكَبِّرًا وَقَوْلُهُ: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أَيْ: يُسِرُّونَ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ وَكَذَا: {فَأَصْبَحَ يقلب كفيه} أي: نادما وكذا: {فردوا أيديهم في أفواههم} أَيْ: لَمْ يَتَلَقَّوُا النِّعَمَ بِشُكْرٍ السَّابِعُ: مِنْ جِهَةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ منصوبا كالإلزام وقوله تعالى: {يسألونك كأنك حفي عنها} أي: يسألونك عنها كأنك وَقَوْلِهِ: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كريم. كما أخرجك ربك} فَهَذَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى قوله: {قل الأنفال لله والرسول} {كما أخرجك ربك من بيتك} فصارت أنفال الغنائم لك إذا أَنْتَ رَاضٍ بِخُرُوجِكَ وَهُمْ كَارِهُونَ فَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَغَيْرُهُ وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه} مَعْنَاهُ: {قَدْ كَانَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذ قالوا لقومهم} الثَّامِنُ: مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ الْمُنْقَلِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وطور سينين} أي طورسينا وقوله: {سلام على إل ياسين} أي: الناس وقيل: إدريس وفي حرف ابن مسعود: إدراس التَّاسِعُ: الْمُكَرَّرُ الْقَاطِعُ لِوَصْلِ الْكَلَامِ فِي الظَّاهِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} مَعْنَاهُ: يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِلَّا الظَّنَّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} مَعْنَاهُ: الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِمَنْ آمَنَ مِنَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِلْإِجْمَالِ اعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ وَهُوَ إِمَّا نَصٌّ وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وَإِمَّا ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَعَ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وَالرَّافِعُ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ وَاللَّفْظِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلَةٍ وَمُنْفَصِلَةٍ أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَصْرِفُ اللَّفْظَ إِلَى غَيْرِ الِاحْتِمَالِ الَّذِي لَوْلَا الْقَرِينَةُ لِحُمِلَ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى تَخْصِيصًا وَتَأْوِيلًا وَنَوْعٌ يَظْهَرُ بِهِ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ وَيُسَمَّى بيانا فالأول: كقوله تعالى: {وحرم الربا} فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ سبحانه: {وأحل الله البيع} الْبَعْضُ دُونَ الْكُلِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الِاحْتِمَالِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ بِإِجْمَالِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الرِّبَا مُجْمَلٌ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْبَيْعِ وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ يَعُودُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ الرِّبَا عَامٌّ فِي الزِّيَادَاتِ كُلِّهَا وَكَوْنُ الْبَعْضِ غَيْرَ مُرَادٍ نَوْعُ تَخْصِيصٍ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَةُ الْأَوْضَاعِ وَمِثَالُ النَّوْعِ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} فَإِنَّهُ فَسَّرَ مُجْمَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ من الخيط الأسود} إِذْ لَوْلَا {مِنَ الْفَجْرِ} لَبَقِيَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ عَلَى تَرَدُّدِهِ وَإِجْمَالِهِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ لَوْنُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ أَرَادَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: تَأْوِيلٌ وَبَيَانٌ فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيره} فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطلاق مرتان} الطلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الرجعي إذا لولا هذا الْقَرِينَةُ لَكَانَ الْكُلُّ مُنْحَصِرًا فِي الطَّلْقَتَيْنِ وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الطَّلْقَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا جَاءَتْ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَلِهَذَا جُعِلَتْ مِنْ قِسْمِ الْمُنْفَصِلَةِ وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَيُفَسَّرُ بِهِ قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} حَيْثُ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ أَصْلًا وَبَيْنَ نَفْيِ الْإِحَاطَةِ وَالْحَصْرِ دُونَ أَصْلِ الرُّؤْيَةِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون} فَإِنَّهُ لَمَّا حَجَبَ الْفُجَّارَ عَنْ رُؤْيَتِهِ خِزْيًا لَهُمْ دَلَّ عَلَى إِثْبَاتِهَا لِلْأَبْرَارِ وَارْتَفَعَ بِهِ الإجمال في قوله: {لا تدركه الأبصار} وَأَمَّا الْقَرَائِنُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَلَا تَنْحَصِرُ وَمِنْ مِثْلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَإِنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُنَّ قَدْ لَا يَتَرَبَّصْنَ فَيَقَعُ خَبَرُ اللَّهِ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ وَهُوَ مُحَالٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْقَرِينَةِ حَمْلَ الصِّيغَةِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ صِيَانَةً لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ احْتِمَالِ الْمُحَالِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِيمَا وَرَدَ مِنْ صِيغَةِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 النوع الثاني والأربعون في وُجُوهِ الْمُخَاطَبَاتِ وَالْخِطَابُ فِي الْقُرْآنِ يَأْتِي عَلَى نَحْوٍ مَنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا: الْأَوَّلُ: خِطَابُ الْعَامِّ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بكل شيء عليم} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} وقوله: {ولا يظلم ربك أحدا} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يميتكم ثم يحييكم} {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نطفة} {الله الذي جعل لكم الأرض قرارا} وهو كثير في القرآن {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} الثَّانِي: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ مِنْ ذلك قوله تعالى: {أكفرتم بعد إيمانكم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 {هذا ما كنزتم لانفسكم} {ذق إنك أنت العزيز الكريم} {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لكي لا} وَغَيْرُ ذَلِكَ الثَّالِثُ: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِهِ العموم كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} فَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {يأيها يا أيها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لَهُ فَلَمَّا قَالَ فِي الْمَوْهُوبَةِ: {خَالِصَةً لَكَ} عُلِمَ أَنَّ مَا قَبْلَهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} وَجَرَى أَبُو يُوسُفَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ {فِيهِمْ} عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ بَلْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ حَالٍ وَالْأَصْلُ فِي الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ لِمُعَيَّنٍ وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لهم جنات} وَفَائِدَتُهُ الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ خَلِيقٌ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ الْجَمِيلُ وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ ترى إذ فزعوا فلا فوت} أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخِطَابِ لَمَّا أُرِيدَ الْعُمُومُ للقصد إلى تقطيع حَالِهِمْ وَأَنَّهَا تَنَاهَتْ فِي الظُّهُورِ حَتَّى امْتَنَعَ خفاؤها فلا تخص بِهَا رُؤْيَةَ رَاءٍ بَلْ كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كبيرا} لَمْ يُرَدْ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ بَلْ عُبِّرَ بِالْخِطَابِ لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ مَدْخَلٌ مُبَالَغَةً فِيمَا قَصَدَ اللَّهُ مِنْ وَصْفِ مَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْمُلْكِ وَلِبِنَاءِ الْكَلَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ لَمْ يَجْعَلْ لِـ: "تَرَى" وَلَا لِـ: "رَأَيْتَ" مَفْعُولًا ظَاهِرًا وَلَا مُقَدَّرًا لِيَشِيعَ وَيَعُمَّ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم} فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَنَعَهُ قَوْمٌ وَقَالَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لِلتَّمَنِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كالترجي في {لعلهم يهتدون} لِأَنَّهُ تَجَرَّعَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 عَدَاوَتِهِمُ الْغُصَصَ فَجَعَلَهُ اللَّهُ كَأَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَرَاهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ مَنْ نَكْسِ الرؤوس صُمًّا عُمْيًا لِيَشْمَتَ بِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: "لَوْ" امْتِنَاعِيَّةً وَجَوَابَهَا مَحْذُوفٌ أَيْ لَرَأَيْتَ أَسْوَأَ حَالٍ يُرَى الرَّابِعُ: خِطَابُ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما} وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاقِعٌ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جمعوا لكم} وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ نُعَيْمُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ وَالثَّانِي أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمِمَّا يقوي أن المراد بالناس في قوله: {ن النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وَاحِدٌ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ} إِلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِ جَمْعًا لَكَانَ "إِنَّمَا الشَّيَاطِينُ الشَّيَاطِينُ" فَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي اللَّفْظِ وَقِيلَ بَلْ وُضِعَ فِيهِ "الَّذِينَ" مَوْضِعَ "الَّذِي" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ الناس} يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الذين ينادونك من وراء الْحُجُرَاتِ} قَالَ الضَّحَّاكُ: وَهُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم} لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَجِيءُ تَارَةً فِي آخِرِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} فَهَذَا عَامٌّ فِي الْبَالِغَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً ثُمَّ خُصَّ فِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} الْآيَةَ فَخَصَّهَا بِالْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهَا عِبَارَتُهَا مُلْغَاةٌ فِي الْعَفْوِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفسهن} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْبَائِنَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ ثُمَّ خَصَّهَا بِالرَّجْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} لِأَنَّ الْبَائِنَةَ لَا تُرَاجَعُ وَتَارَةً فِي أَوَّلِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مما آتيتموهن شيئا} فَإِنَّ هَذَا خَاصٌّ فِي الَّذِي أَعْطَاهَا الزَّوْجُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} فَهَذَا عَامٌّ فِيمَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ أَوْ غَيْرُهُ إِذَا كَانَ مِلْكًا لَهَا وَقَدْ يُأْخَذُ التَّخْصِيصُ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يومئذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 دبره} الآية فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُقَاتِلِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآية ونظيره قوله: {حرمت عليكم الميتة} وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَيْتَاتِ ثُمَّ خَصَّهُ بقوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} فَأَبَاحَ الصَّيْدَ الَّذِي يَمُوتُ فِي فَمِ الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ وَخُصِّصَ أَيْضًا عُمُومُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لكم} تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَخُصَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عموم تلك ومثله قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ} ونظيره قوله: {والدم} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ ميتة أو دما مسفوحا} يَعْنِي إِلَّا الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ فَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مكية والآية العامة في سورة المائدة وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النُّزُولِ آيَةَ الْوُضُوءِ عَلَى أَنَّهُ التَّيَمُّمُ وَهَذَا مَاشٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاصِّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَمْ تَأَخَّرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ومثله قوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا} والآية وَهَذَا عَامٌّ سَوَاءٌ رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا ثُمَّ خَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شيء منه نفسا فكلوه} وَخَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الْآيَةَ فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ثُمَّ خصها فقال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية فَخَصَّ الْآيِسَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْحَامِلَ فَالْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ بِالْأَشْهُرِ وَالْحَامِلُ بِالْوَضْعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ ثُمَّ خُصَّ بِقَوْلِهِ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية وَهَذَا عَامٌّ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ ثُمَّ خص بقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية وقوله: {الزانية والزاني} عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ثُمَّ خَصَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وَقَوْلُهُ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} فَإِنَّ الْخُلَّةَ عَامَّةٌ ثُمَّ خَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وكذلك قوله: {ولا شفاعة} بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 فائدة في العموم والخصوص قَدْ يَكُونُ الْكَلَامَانِ مُتَّصِلَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا خَاصًّا وَالْآخَرُ عَامًّا وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ لِمَنْ أَعْطَى زَيْدًا دِرْهَمًا: أَعْطِ عَمْرًا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا أَعْطَيْتَ يُرِيدُ إِنْ لَمْ تُعْطِ عَمْرًا فَأَنْتَ لَمْ تُعْطِ زَيْدًا أَيْضًا وَذَاكَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَكَ ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك} قَالَ: فَهَذَا خَاصٌّ بِهِ يُرِيدُ هَذَا الْأَمْرَ المحدد بلغه {وإن لم تفعل} ولم تبلغ هذا {فما بلغت رسالته} يُرِيدُ جَمِيعَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ قُلْتُ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَفِي الْآيَةِ وُجُوهٌ أُخَرُ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِنْ تَرَكَتْ مِنْهَا شَيْئًا كُنْتَ كَمَنْ لَا يُبَلِّغُ شَيْئًا مِنْهَا فَيَكُونُ تَرْكُ الْبَعْضِ مُحْبِطًا لِلْبَاقِي قَالَ الرَّاغِبُ: وَكَذَلِكَ أن حكم الأنبياء عليهم السلام فِي تَكْلِيفَاتِهِمْ أَشَدُّ وَلَيْسَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ يُتَجَاوَزُ عَنْهُمْ إِذَا خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: *أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي* مَعْنَاهُ: أَنَّ شِعْرِي قَدْ بَلَغَ فِي الْمَتَانَةِ وَالْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ شَيْءٍ قِيلَ فِي نَظْمٍ إِنَّهُ شِعْرِي فقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ فَيُفِيدُ تَكْرِيرَ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي الْمَدْحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَا جواب الشرط ها هنا يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ تَرْكُ بَعْضِ الْمُبَلَّغَ تَهْدِيدًا أَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّبْلِيغَ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَضُعِّفَ الْوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ كَذِبًا وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْخَلَلَ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ كَالْخَلَلِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ فَإِنَّهُ أَيْضًا مُحَالٌ وَفِي هَذَا التَّضْعِيفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَتَى أُتِيَ بِهِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ فوجده كَالْعَدَمِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: سُئِلْتَ فَلَمْ تَمْنَعْ وَلَمْ تُعْطِ نَائِلًا فَسِيَّانِ لَا ذَمٌّ عَلَيْكَ وَلَا حَمْدُ أَيْ: وَلَمْ تُعْطِ مَا يُعَدُّ نَائِلًا وَإِلَّا يَتَكَاذَبُ الْبَيْتُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ كِتْمَانِ الْبَعْضِ جَعَلَهُ كَكِتْمَانِ الْكُلِّ كَمَا فِي قوله تعالى: {فكأنما قتل الناس جميعا} الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَضَعَ السَّبَبَ مَوْضِعَ الْمُسَبِّبِ وَمَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَكَ مَا يُوجِبُهُ كِتْمَانُ الْوَحْيِ كُلِّهِ مِنَ الْعَذَابِ ذَكَرَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 تَنْبِيهٌ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَهُ الْكَافَّةَ وَإِنَّمَا وُرُودُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ نَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ وَمِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ وَمِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَنَحْوِهَا لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا فَإِذَا لَمْ نَجِدْ مَا كَانَ فِيهَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ انْتَهَى وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ مَمْنُوعَةٌ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِصُورَةِ التَّوَاتُرِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا تَثْبُتُ زِيَادَةُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَاعَةَ شَيْءٍ إِلَى جَمْعٍ يَتَحَصَّلُ بِهِمُ الْقَطْعُ غَيْرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ الْمُعْجِزُ الْأَكْبَرُ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْقَطْعُ فَأَمَّا بَاقِي الْأَحْكَامِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى الْآحَادِ وَالْقَبَائِلِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى قَطْعًا الْخَامِسُ: خِطَابُ الْجِنْسِ نَحْوُ: {يا أيها الناس} فَإِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النَّاسِ لَا كُلَّ فَرْدٍ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ وَهَذَا يَغْلِبُ فِي خِطَابِ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا سَبَقَ وَرَجَّحَ الْأُصُولِيُّونَ دُخُولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِطَابِ بـ يأيها الناس وفي القرآن سورتان أولهما {يا أيها النَّاسُ} إِحْدَاهُمَا: فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَهِيَ السُّورَةُ الرابعة منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وَهِيَ سُورَةُ النِّسَاءِ وَالثَّانِيَةُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي: مِنْهُ وَهِيَ سُورَةُ الْحَجِّ وَالْأُولَى تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ وَالثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّرْتِيبَ مَا أَوْقَعَهُ فِي الْبَلَاغَةِ قال الراغب: والناس قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْفُضَلَاءُ دُونَ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّاسِ تَجَوُّزًا وَذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَ معنى الإنسانية وهو وجود العقل وَالذِّكْرِ وَسَائِرِ الْقُوَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ عُدِمَ فِعْلُهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ لَا يَكَادُ يَسْتَحِقُّ اسْمَهُ كَالْيَدِ فَإِنَّهَا إِذَا عَدِمَتْ فِعْلَهَا الْخَاصَّ بِهَا فَإِطْلَاقُ الْيَدِ عَلَيْهَا كَإِطْلَاقِهِ عَلَى يَدِ السَّرِيرِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمِنُوا كَمَا آمن الناس} أَيْ: كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالْإِنْسَانِ عَيْنًا وَاحِدًا بَلْ قَصَدَ الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} أَيْ: مَنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ أَيَّ إِنْسَانٍ كَانَ قَالَ: وَرُبَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّوْعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} السادس: خطاب النوع نحو: {يا بني إسرائيل} والمراد: بنو يعقوب وإنما صرح بِهِ لِلَطِيفَةٍ سَبَقَتْ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ وَهُوَ علم المبهمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 السابع: خطاب العين نحو: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} {يا نوح اهبط بسلام} {يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا} {يا موسى} {يا عيسى} وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ النِّدَاءُ بِـ "يَا محمد" بل بـ {يا أيها النبي} و {يا أيها الرسول} تَعْظِيمًا لَهُ وَتَبْجِيلًا وَتَخْصِيصًا بِذَلِكَ عَنْ سِوَاهُ الثامن: خطاب المدح نحو: {يا أيها الذين آمنوا} وَهَذَا وَقَعَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَدْ سبق أن كل آية فيها: {يا أيها الناس} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 لِأَهْلِ مَكَّةَ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ {يا أيها الناس} الأمر بأصل الإيمان ويأتي بعد {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا} الْأَمْرُ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِصْحَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أيها المؤمنون} قِيلَ: يَرِدُ الْخِطَابُ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تؤمن قلوبهم} وَقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْخِطَابُ بـ {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول} وَلِهَذَا تَجِدُ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ فِي مَحَلٍّ لَا يَلِيقُ بِهِ الرَّسُولُ وَكَذَا عَكْسَهُ كَقَوْلِهِ فِي مقام الأمر بالتشريع العام: {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وفي مقام الخاص: {يا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ومثله: {إن إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ من دون المؤمنين} وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله} فِي مَقَامِ الْإِقْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} فَكَأَنَّهُ جَمَعَ لَهُ الْمَقَامَيْنِ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ فِي الْحَالَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وقريب منه في المضاف إلى الخاص: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} وَلَمْ يَقُلْ: "يَا نِسَاءَ الرَّسُولِ" لَمَّا قَصَدَ اخْتِصَاصَهُنَّ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّبِيِّ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ لَكِنَّ مَعَ قَرِينَةِ إرادة التعميم كقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} وَلَمْ يَقِلْ طَلَّقْتَ التَّاسِعُ: خِطَابُ الذَّمِّ نَحْوُ: {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم} {قل يا أيها الْكَافِرُونَ} وَلِتَضَمُّنِهِ الْإِهَانَةَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَكَثُرَ الْخِطَابُ بِـ {يا أيها الذين آمنوا} عَلَى الْمُوَاجَهَةِ وَفِي جَانِبِ الْكُفَّارِ عَلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين} ثُمَّ قَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَوَاجَهَ بِالْخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْرَضَ بِالْخِطَابِ عَنِ الْكَافِرِينَ وَلِهَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَتَبَ عَلَى قَوْمٍ قَالَ: "مَا بَالُ رِجَالٍ يَفْعَلُونَ كَذَا" فَكَنَّى عَنْهُ تَكَرُّمًا وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الْعَاشِرُ: خِطَابُ الْكَرَامَةِ نَحْوُ: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أنت وزوجك الجنة} وقوله: {ادخلوها بسلام آمنين} الْحَادِي عَشَرَ: خِطَابُ الْإِهَانَةِ نَحْوُ قَوْلِهِ لِإِبْلِيسَ: {فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة} وقوله: {قال اخسأوا فيها ولا تكلمون} وقوله: {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} قَالُوا: لَيْسَ هَذَا إِبَاحَةً لِإِبْلِيسَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْكَ لَا يَضُرُّ عِبَادَهُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الثَّانِي عَشَرَ: خِطَابُ التَّهَكُّمِ وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُخَاطَبِ مَأْخُوذٌ مِنْ تَهَكَّمَ الْبِئْرُ إِذَا تَهَدَّمَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وَهُوَ خِطَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ لِأَنَّهُ قَالَ: "مَا بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 جَبَلَيْهَا -يَعْنِي مَكَّةَ- أَعَزُّ وَلَا أَكْرَمُ مِنِّي" وقال: {فبشرهم بعذاب أليم} جَعَلَ الْعَذَابَ مُبَشَّرًا بِهِ وَقَوْلُهُ: {هَذَا نُزُلُهُمْ يوم الدين} وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فنزل من حميم. وتصلية جحيم} وَالنُّزُلُ لُغَةً: هُوَ الَّذِي يُقَدَّمُ لِلنَّازِلِ تَكْرِمَةً لَهُ قَبْلَ حُضُورِ الضِّيَافَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ من أمر الله} عَلَى تَفْسِيرِ الْمُعَقِّبَاتِ بِالْحَرَسِ حَوْلَ السُّلْطَانِ يَحْفَظُونَهُ -عَلَى زَعْمِهِ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ تَهَكُّمٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِذَا جَاءَهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} وهو تعالى يعلم حقيقتهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّلَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 مِنْ شَأْنِهِ الِاسْتِرْوَاحُ وَاللَّطَافَةُ فَنُفِيَ هُنَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْهِلُونَ الظِّلَّ الْكَرِيمَ الثَّالِثَ عَشَرَ: خطاب الجمع بلفظ الواحد كقوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح} {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} وَالْمُرَادُ: الْجَمِيعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ" وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى" {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضيفي} وَلَمْ يَقُلْ ضُيُوفِي لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَقَوْلِهِ: {هُمُ العدو فاحذرهم} وَلَمْ يَقِلِ الْأَعْدَاءُ وَقَوْلِهِ: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} أَيْ: رُفَقَاءَ وَقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} {فما منكم من أحد عنه حاجزين} وَفِي الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطهروا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وقوله: {الملائكة بعد ذلك ظهير} وقوله: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} وَجَمْعُهُ أَنْجِيَةٌ مِنَ الْمُنَاجَاةِ وَقَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء} فَأَوْقَعَ الطِّفْلَ جِنْسًا قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهَذَا بَابٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَا الصِّفَةُ نَحْوُ الشَّاةُ وَالْبَعِيرُ وَالْإِنْسَانُ وَالْمَلَكُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلَكُ على أرجائها} {وجاء ربك والملك صفا صفا} {إن الأنسان لفي خسر} وَمِنْ مَجِيئِهِ فِي الصِّفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يعض الظالم على يديه} وقوله: {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} وقال: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقَعُ هَذَا الْمَوْقِعَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الِاسْمِ الصَّرِيحِ الرَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الجمع كقوله تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} فَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ قَبْلَهُ وَلَا بعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} خَاطَبَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ والسعة أن يؤتوا أولي القربى} الْآيَةَ خَاطَبَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَمَّا حَرَمَ مِسْطَحًا رِفْدَهُ حِينَ تَكَلَّمَ فِي حَدِيثِ الإفك وقوله: {فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا} وَالْمُخَاطَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا لقوله: {قل فأتوا} وقوله تعالى: {ففررت منكم لما خفتكم} وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ ارجعون} أَيِ: ارْجِعْنِي وَإِنَّمَا خَاطَبَ الْوَاحِدَ الْمُعَظَّمَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقُولُ نَحْنُ فَعَلْنَا فَعَلَى هَذَا الِابْتِدَاءِ خُوطِبُوا بِمَا فِي الْجَوَابِ وَقِيلَ {رَبِّ} اسْتِغَاثَةٌ وَ {ارْجِعُونَ} خِطَابُ الْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ الْتِفَاتًا أَوْ جَمْعًا لِتَكْرَارِ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ: "قِفَا نَبْكِ" وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ قَوْلُ مَنْ حَضَرْتُهُ الشَّيَاطِينُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ فَاخْتَلَطَ وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنَ الشَّطَطِ وَقَدِ اعْتَادَ أَمْرًا يَقُولُهُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ وَهَذَا مِمَّا لَا تَشْرِيكَ فِيهِ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ: "لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِلْزَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ كِبْرٌ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَمِنْ هَذَا مَا حَكَاهُ الْحَرِيرِيُّ فِي شَرْحِ الْمِلْحَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظَةِ نَحْنُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْظِيمِ وَهُوَ غَرِيبٌ وَحَكَى بَعْضُهُمْ خِلَافًا فِي نُونِ الْجَمْعِ الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقِيلَ: جَاءَتْ لِلْعَظَمَةِ يُوصَفُ بِهَا سُبْحَانَهُ وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يُنَازِعَهُ فِيهَا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُكْرَهُ لِلْمُلُوكِ اسْتِعْمَالُهَا فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ نَفْعَلُ كَذَا وَقِيلَ فِي عِلَّتِهَا: إِنَّهَا كَانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِهِ تجري على أيدي خلقه تنزلت أَفْعَالُهُمْ مَنْزِلَةَ فِعْلِهِ فَلِذَلِكَ وَرَدَ الْكَلَامُ مَوْرِدَ الجمع فعلى هذا القول يجوز مباشرة النون لكل من لايباشر بِنَفْسِهِ فَأَمَّا قَوْلُ الْعَالِمِ: "نَحْنُ نُبَيِّنُ" "وَنَحْنُ نشرح" فمفسوح لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِنُونِ الْجَمْعِ عَنْ نفسه وأهل مقالته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} وَالْمُرَادُ: الْإِنْسُ لِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بَنِي آدَمَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ لَكِنْ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ رَسُولًا اسْمُهُ يُوسُفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذير} وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رجلا} لِيَحْصُلَ الِاسْتِئْنَاسُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْجِنِّ وَبِقَوْلِهِ تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا} الْآيَةَ وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاصْطِفَاءِ النُّبُوَّةُ وَأُجِيبَ عَنْ تَمَسُّكِ الضَّحَّاكِ بِالْآيَةِ بِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ صَادِقَةٌ بِكَوْنِ الرُّسُلِ مَنْ بَنِي آدَمَ وَلَا يَلْزَمُ إِثْبَاتُ رُسُلٍ مِنَ الْجِنِّ بِطَرِيقِ إِثْبَاتِ نَفَرٍ مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ وَيُبَلِّغُونَهُ إِلَى قَوْمِهِمْ وَيُنْذِرُونَهُمْ وَيَصْدُقُ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ رُسُلَ عِيسَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: {إذ أرسلنا إليهم اثنين} وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِقَوَّامِ السُّنَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ محمد بن الفضل الحوري قَالَ: قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ لِلْآيَةِ وَقَالَ الأكثرون: الرسل من الإنس ويجيء مِنَ الْجِنِّ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ بِلْقِيسَ: {فَنَاظِرَةٌ بم يرجع المرسلون} وَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يكون الخطاب لرئيسهم فإن العادة جارية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 لاسيما مِنَ الْمُلُوكِ أَلَّا يُرْسِلُوا وَاحِدًا وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ارْجِعُوا إِلَيْهِمْ أَرَادَ الرَّسُولَ وَمَنْ مَعَهُ وقوله: {أولئك مبرأون مما يقولون} يَعْنِي: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نوح المرسلين} وَالْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ نُوحٌ كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الدَّوَابَّ ويلبس البرود وماله إِلَّا دَابَّةٌ وَبُرْدٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا رَجُلٌ كَانَ لَا يُمَالِئُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم فسماه الله سبحانه طَائِفَةً وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً وَقَوْلِهِ: {لا بيع فيه ولا خلال} والمراد خلة بدليل الآية الأخرى والموجب للجمع مناسبة رؤوس الْآيِ فَائِدَةٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إماما} فجوز الفارسي فيه تقديرين: أحدهما: أن إمام هُنَا جَمْعٌ لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلَ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ جَمْعٌ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَوَاحِدَهُ آمٌّ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ هَذَا فِي وَاحِدِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 قال تعالى: {ولا آمين البيت الحرام} فَهَذَا جَمْعُ "آمٍّ" مُسَلَّمًا وَقِيَاسُهُ عَلَى حَدِّ قِيَامٍ وَقَائِمٍ فَأَمَّا أَئِمَّةٌ فَجَمْعُ إِمَامٍ الَّذِي هُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى حَدِّ عِنَانٍ وَأَعَنَّةٍ وَسِنَانٍ وأسنة والأصل أيمة فقلبت الفاء والثاني: أنه جمع الإمام لِأَنَّ الْمَعْنَى: "أَئِمَّةٌ" فَيَكُونُ إِمَامٌ عَلَى هَذَا واحدا وجمعه أئمة وإمام وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: قَيَّدَتْ عَنْ شَيْخِنَا الشَّلَوْبِينِ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ غَيْرَ هَذَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْإِمَامِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُجْرَاةِ مَجْرَى الْمَصَادِرِ فِي تَرْكِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ كَحَسِبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ دَخَلْنَا عَلَى الْأَمِيرِ وَكَسَانَا حُلَّةً وَالْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ منا حلة وكذلك هو واجعل كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إِمَامًا الْخَامِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقِيَا في جهنم} وَالْمُرَادُ: مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطَابُ لِخَزَنَةِ النَّارِ وَالزَّبَانِيَةِ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّفْقَةَ أَدْنَى مَا تَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَجَرَى كَلَامُ الْوَاحِدِ عَلَى صَاحِبَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نفس معها سائق وشهيد} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: لَمَّا ثَنَّى الضَّمِيرَ اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَقُولَ أَلْقِ أَلْقِ يُشِيرُ إِلَى إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَجَعَلَ الْمَهْدَوِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تعالى: {قال قد أجيبت دعوتكما} قَالَ: الْخِطَابُ لِمُوسَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ الدَّاعِي وَقِيلَ: لَهُمَا وَكَانَ هَارُونُ قَدْ أَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ وَالْمُؤَمِّنُ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بلفظ الواحد كقوله تعالى: {فمن ربكما يا موسى} أَيْ: وَيَا هَارُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْرَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّدَاءِ بِمَعْنَى التَّخْصِيصِ والتوقف إذا كَانَ هُوَ صَاحِبَ عَظِيمِ الرِّسَالَةِ وَكَرِيمِ الْآيَاتِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالثَّانِي: لَمَّا كَانَ هَارُونُ أَفْصَحَ لِسَانًا مِنْهُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ثَبَتَ عَنْ جَوَابِ الْخَصْمِ الْأَلَدِّ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَانْظُرْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَوَابِينَ ومثله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالشَّقَاءِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَالْمَقْصُودُ فِي الْكَلَامِ وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 الشَّقَاءَ فِي مَعِيشَةِ الدُّنْيَا فِي حَيِّزِ الرِّجَالِ وَيُحْتَمَلُ الْإِغْضَاءُ عَنْ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ وَلِهَذَا قِيلَ مِنَ الْكَرَمِ سَتْرُ الْحُرَمِ وَقَوْلِهِ: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إنا رسول رب العالمين} وَنَحْوُهُ فِي وَصْفِ الِاثْنَيْنِ بِالْجَمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقال: {هذان خصمان اختصموا} ولم يقل: اختصما وقال: {فتاب عليه} وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيْهِمَا اكْتِفَاءً بِالْخَبَرِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ السَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بَعْدَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ} الآية فَجُمِعَ ثَالِثُهَا وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا جُمِعَ فِي الْفِعْلِ الثَّالِثِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ دَاخِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا جُمِعَ تَفْخِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا كَمَا فِي قوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تبوءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصلاة وبشر المؤمنين} فَثَنَّى فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ جَمَعَ ثُمَّ أَفْرَدَ لِأَنَّهُ خُوطِبَ أَوَّلًا مُوسَى وَهَارُونُ لِأَنَّهُمَا الْمَتْبُوعَانِ ثُمَّ سِيقَ الْخِطَابُ عَامًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ ثُمَّ خُصَّ مُوسَى بِالْبِشَارَةِ تَعْظِيمًا لَهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: خِطَابُ عَيْنٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ كقوله: {يا أيها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَقِيًّا وَحَاشَاهُ مِنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} بدليل قوله في صدر الآية بعدها: {قل يا أيها النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَوَّلَهُ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي الْيَاقُوتَةِ: سَمِعْتُ الْإِمَامَيْنِ ثَعْلَبَ وَالْمُبَرِّدَ يَقُولَانِ: مَعْنَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شك} أي قل يا محمد: إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْأَلْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ كِتَابٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَقَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قَالَ ابْنُ فَوْرِكٍ: مَعْنَاهُ وَسَّعَ اللَّهُ عَنْكَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَ {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} تَغْلِيظٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِتَابٌ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ في شك مما أنزلنا إليك} وقوله: {عبس وتولى} قِيلَ: إِنَّهُ أُمَيَّةُ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقِلْ: "عَبَسْتَ" وَقَوْلِهِ: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولتكونن من الخاسرين} وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ خِطَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ثُبُوتِ عِصْمَتِهِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ وَيُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالْمُحَالُ يَصِحُّ فَرْضُهُ لِغَرَضٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْعَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ شَخْصٍ معين والمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 اتِّفَاقُ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ وَيُسْتَرَاحُ حِينَئِذٍ مِنْ إِيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ وَعَكْسُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَامًّا وَالْمُرَادُ الرَّسُولُ قَوْلُهُ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سِيَاقِهَا: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنين} وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فِي أَلَا تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لِجَمْعَهَمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ ثُمَّ قَالَ: وَيَظْهَرُ تَبَايُنُ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {ني أعظك أن تكون من الجاهلين} وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ: الْخِطَابُ بقوله: {فلا تكونن من الجاهلين} لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَقَالَ قَوْمٌ: وُقِّرَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسِنِّهِ وَشَيْبِهِ وَقَالَ قَوْمٌ: جَاءَ الْحَمْلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَكَانَتِهِ كَمَا يَحْمِلُ الْعَاتِبُ عَلَى قَرِيبِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَجَانِبِ قَالَ: وَالْوَجْهُ الْقَوِيُّ عِنْدِي فِي الآية هو أن ذلك لم يجيء بِحَسَبِ النَّبِيِّينَ وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَسَبِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ وَوَقْعِ النَّبِيِّ عَنْهُمَا وَالْعِقَابِ فِيهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 التَّاسِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ صَالِحٍ لَمَّا هَلَكَ قَوْمُهُ: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وقال يا قوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تحبون الناصحين} خَاطَبَهُمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ إِمَّا لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ بَدْرٍ وَقَالَ: "وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ" وَإِمَّا لِلِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرض فانظروا} وقوله: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} الْعِشْرُونَ: خِطَابُ الشَّخْصِ ثُمَّ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ كقوله: {فإلم يستجيبوا لكم} الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلْكُفَّارِ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} بدليل قوله: {فهل أنتم مسلمون} وقوله: {ذلك أدنى ألا تعولوا} قال ابن خالويه: في كتاب المبتدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّلْوِينِ وَسَمَّاهُ الثَّعْلَبِيُّ الْمُتَلَوِّنُ كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} {فمن ربكما يا موسى} وَتُسَمِّيهِ أَهِلُ الْمَعَانِي الِالْتِفَاتَ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَقْسَامِهِ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْجَمَادَاتِ خِطَابُ مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أتينا طائعين} تَقْدِيرُهُ: طَائِعَةٌ وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ مِمَّنْ يَقُولُ وَهِيَ حَالَةُ عَقْلٍ جَرَى الضَّمِيرُ فِي {طَائِعِينَ} عليه كقوله: {رأيتهم لي ساجدين} وَقَدِ اخْتُلِفَ -أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ جَعَلَ لَهَا حَيَاةً وَإِدْرَاكًا يَقْتَضِي نُطْقَهَا أَوْ مجازا بمعنى ظَهَرَ فِيهَا مِنَ اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْقَوْلِ- عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأول أحسن لأنه لاشيء يَدْفَعُهُ وَالْعِبْرَةُ فِيهِ أَتَمُّ وَالْقُدْرَةُ فِيهِ أَظْهَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ومنه قوله تعالى: {ياجبال أوبي معه} فَأَمَرَهَا كَمَا تُؤْمَرُ الْوَاحِدَةُ الْمُخَاطَبَةُ الْمُؤَنَّثَةُ لِأَنَّ جميع مالا يَعْقِلُ كَذَلِكَ يُؤْمَرُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّهْيِيجِ كَقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَوَكَّلْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْإِيمَانُ بَلْ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى التَّوَكُّلِ وَقَوْلِهِ: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كنتم مؤمنين} وقوله: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كنتم مؤمنين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْخِطَابِ ثُمَّ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَقَصَدَ حَثَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مؤمنين} وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كنتم مسلمين} وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: "إِنْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى: "إِذْ" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْإِغْضَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} وقوله: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يهاجروا في سبيل الله} الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّشْجِيعِ وَالتَّحْرِيضِ وَهُوَ الْحَثُّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كأنهم بنيان مرصوص} وَكَفَى بِحَثِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَشْجِيعًا عَلَى مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُبَاشَرَةِ الطِّعَانِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} وقوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} وَكَيْفَ لَا يَكُونُ لِلْقَوْمِ صَبْرٌ وَالْمَلِكُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 الْحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ وَعَدَهُمْ بِالْمَدَدِ الْكَرِيمِ فَقَالَ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العزيز الحكيم} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ من الله ما لا يرجون} وَقَدْ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْقَسْمِ مَا يُرَادُ مِنْهُ الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالتَّأَنِّي بِالْحَرْبِ وَالِاسْتِظْهَارُ عَلَيْهَا بِالْعُدَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوة} وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا جَاءَ فِي قَصَصِ الْأَشْقِيَاءِ تَحْذِيرًا لِمَا نَزَلَ مِنَ الْعَذَابِ وَإِخْبَارًا لِلسُّعَدَاءِ فِيمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ السَّادِسَ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّنْفِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن الله تواب رحيم} فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْصَافًا وَتَصْوِيرًا لِمَا يَنَالُهُ الْمُغْتَابُ مِنْ عِرْضِ مَنْ يَغْتَابُهُ عَلَى أَفْظَعِ وَجْهٍ وَفِي ذَلِكَ مَحَاسِنُ كَالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ وَجَعْلِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَرَاهَةِ مَوْصُولًا بِالْمَحَبَّةِ وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى {أَحَدِكُمْ} وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَمْثِيلِ الِاعْتِبَارِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ حَتَّى جَعَلَهُ أَخًا وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لَحْمِ الْأَخِ حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 جَعَلَهُ مَيْتًا وَهَذِهِ مُبَالَغَاتٌ عَظِيمَةٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُغْتَابَ غَائِبٌ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ لِمَا قِيلَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ السَّابِعَ وَالْعِشْرُونَ: خطاب التحنن والاستعطاف كقوله تعالى: {قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رحمة الله} الثامن والعشرون: خطاب التحبيب نحو: {يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} {يا بني إنها إن تك مثقال حبة} {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ" التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّعْجِيزِ نَحْوُ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} {فليأتوا بحديث مثله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 {قل فأتوا بعشر سور مثله} {فادرأوا عن أنفسكم الموت} وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حديدا} وَرَدَّ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ التَّعْجِيزَ يَكُونُ حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمْرِ فِعْلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ: كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّقْدِيرِ كَذَا الثَّلَاثُونَ: التَّحْسِيرُ وَالتَّلَهُّفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ موتوا بغيظكم} الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: التَّكْذِيبُ نَحْوُ قَوْلِهِ: {قُلْ فَأْتُوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون} الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّشْرِيفِ وَهُوَ كُلُّ مَا في القرآن العزيز مخاطبة بـ"قل" كالقلاقل وكقوله: {قل آمنا} وَهُوَ تَشْرِيفٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يخاطبها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لِتَفُوزَ بِشَرَفِ الْمُخَاطَبَةِ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْفَصِيحِ أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ قَالَ لِي الْمُرْسِلُ قُلْ كَذَا وَكَذَا وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بقاؤها ولا بدلها مِنْ فَائِدَةٍ فَتَكُونُ أَمْرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ لِلْمُتَكَلَّمِ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَمْرَهُ شِفَاهًا بِلَا وَاسِطَةٍ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُخَاطِبُهُ افْعَلْ كَذَا الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ الْمَعْدُومِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {يا بني آدم} فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلِكُلِّ مَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْرِي مِنَ الْوَصَايَا فِي خِطَابِ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ مَا تَنَاسَلُوا بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِتْيَانِ طَاعَتِهِ قَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَإِنَّمَا جَازَ خِطَابُ الْمَعْدُومِ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَكُونُ بِالْإِرَادَةِ لِلْمُخَاطِبِ دُونَ غَيْرِهِ وأما قوله تعالى: {كن فيكون} فَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ حَصَلَ بِخِطَابِ "كُنْ" وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: التَّكْوِينُ أَزَلِيٌّ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ تَكْوِينٌ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا أَنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ كَافٍ وَنُونٍ وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ خِطَابَ كُنْ مَوْجُودٌ عِنْدَ إِيجَادِ كُلِّ شَيْءٍ فَالْحَاصِلُ عِنْدَهُمْ فِي إِيجَادِ الشَّيْءِ شَيْئَانِ: الْإِيجَادُ وَخِطَابُ كُنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَاحْتَجَّ الْأَشَاعِرَةُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فيكون} وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يقول له كن فيكون} وَقَوْلِهِ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَلَوْ حَصَلَ وُجُودُ الْعِلْمِ بِالتَّكْوِينِ لَمْ يَكُنْ فِي خِطَابِ كُنْ فَائِدَةٌ عِنْدَ الْإِيجَادِ وَأَجَابَ الحنفية بأنا نقول لموجها وَلَا تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَةِ كَالْمُتَشَابِهِ فَيَقُولُ بِوُجُودِ خِطَابِ كُنْ عِنْدَ الْإِيجَادِ فِي غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تعطيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لَا خِلَافَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَائِقِ وَهِيَ كُلُّ كَلَامٍ بَقِيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ كالآيات التي لم يتجوز فهيا والآيات النَّاطِقَةُ ظَوَاهِرُهَا بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَالدَّاعِيَةُ إِلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة} الآية وقوله: {أمن خلق السماوات والأرض} {أمن جعل الأرض قرارا} {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} {أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر} {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وقوله تعالى: {أفرأيتم ما تمنون} {أفرأيتم ما تحرثون} {أفرأيتم الماء الذي تشربون} {أفرأيتم النار التي تورون} قِيلَ: وَمِنْهُ الْآيَاتُ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ وَهِيَ كَالْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْآيَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وَلَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نَعْمَائِهِ وَإِحْسَانِهِ وَهَذَا أَكْثَرُ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هم يوقنون} وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي مِنَ الْآيِ عَلَى هَذَا وَأَمَّا الْمَجَازُ فَاخْتُلِفَ فِي وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْوُقُوعِ وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْقَاصِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَاذَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَابْنِهِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا إِذَا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَيَسْتَعِيرُ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهَذَا بَاطِلٌ وَلَوْ وَجَبَ خُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَجَازِ لَوَجَبَ خُلُوُّهُ مِنَ التَّوْكِيدِ وَالْحَذْفِ وَتَثْنِيَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ سَقَطَ الْمَجَازُ مِنَ الْقُرْآنِ سَقَطَ شَطْرُ الْحُسْنِ وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَجَمَعَ فأوعى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَقَالَ الْحَاتِمِيُّ: مَعْنَاهُ طَرِيقُ الْقَوْلِ وَمَأْخَذُهُ مَصْدَرُ جُزْتُ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: "قُمْتُ مَقَامًا" قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَلَامُ الْعَرَبِ إِنَّمَا هُوَ مثال شبه الوحي نوعا المجاز وَلَهُ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: الشَّبَهُ وَيُسَمَّى الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْأُصُولِيُّ وَالثَّانِي: الْمُلَابَسَةُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَهْلُ اللِّسَانِ وَيُسَمَّى الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ وَهُوَ أَنْ تُسْنَدَ الْكَلِمَةُ إِلَى غَيْرِ مَا هِيَ لَهُ أَصَالَةً بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ كَسَبَّ زَيْدٌ أَبَاهُ إِذَا كَانَ سببا فيه المجاز في المركب وأقسامه وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْمُرَكَّبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زادتهم إيمانا} وَنُسِبَتِ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى الْآيَاتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا فِيهَا وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} وقوله: {يذبح أبناءهم} وَالْفَاعِلُ غَيْرُهُ وَنُسِبَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ به وكقوله: {ينزع عنهما لباسهما} نَسَبَ النَّزْعَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى إبليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 -لَعَنَهُ اللَّهُ- لِأَنَّ سَبَبَهُ أَكْلُ الشَّجَرَةَ وَسَبَبَ أَكْلِهَا وَسْوَسَتُهُ وَمُقَاسَمَتُهُ إِيَّاهُمَا إِنَّهُ لَهُمَا لِمَنِ الناصحين وقوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} جَعَلَ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَعْزُومُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ: {فَإِذَا عزمت فتوكل على الله} وقوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار} فَنَسَبَ الْإِحْلَالِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى أَكَابِرِهِمْ لِأَنَّ سَبَبَهُ كُفْرُهُمْ وَسَبَبُ كُفْرِهِمْ أَمْرُ أَكَابِرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الولدان شيبا} نَسَبَ الْفِعْلِ إِلَى الظَّرْفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ وَقَوْلِهِ تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} وقوله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ النَّزْعَ وَالْإِحْلَالَ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَهُمَا فَالْمَجَازُ إِفْرَادِيٌّ لَا إسنادي وقوله: {يوما يجعل الولدان شيبا} يِحْتَمِلُ مَعْنَاهُ: يَجْعَلُ هَوْلُهُ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الحذف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وأما قوله تعالى: {في عيشة راضية} فَقِيلَ: عَلَى النَّسَبِ أَيْ: ذَاتِ رِضًا وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَرْضِيَّةٍ وَكِلَاهُمَا مَجَازُ إِفْرَادٍ لَا مَجَازَ إِسْنَادٍ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي لَفْظِ رَاضِيَةٍ لَا فِي إِسْنَادِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَأَنَّهُمْ قَدَّرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَضِيَتْ عِيشَتُهُ فَقَالُوا: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا طَرَفَاهُ حَقِيقَتَانِ نَحْوُ: أَنْبَتَ الْمَطَرُ الْبَقْلَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عليهم آياته زادتهم إيمانا} وقوله: {وأخرجت الأرض أثقالها} والثاني: مجازيان نحو: {فما ربحت تجارتهم} وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ مَجَازًا دُونَ الآخر كقوله: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} وقوله: {حتى تضع الحرب} قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ شَبَهٌ بِالْمَتْرُوكِ فِي تَعَلُّقِهِ بالعامل المجاز الإفرادي وأقسامه وَأَنْوَاعُ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَعْجِزُ الْعَدُّ عن إحصائها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 كقوله: {كلا إنها لظى. نزاعة للشوى. تدعو} قَالَ: الدُّعَاءُ مِنَ النَّارِ مَجَازٌ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أم أنزلنا عليهم سلطانا} الآية وَالسُّلْطَانُ هُنَا هُوَ الْبُرْهَانُ أَيْ بُرْهَانٌ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ فَيَكُونُ صَامِتًا نَاطِقًا كَالدَّلَائِلِ الْمُخْبِرَةِ وَالْعِبْرَةِ والموعظة وقوله: {فأمه هاوية} فَاسْمُ الْأُمِّ الْهَاوِيَةِ مَجَازٌ أَيْ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ كَافِلَةٌ لِوَلَدِهَا وَمَلْجَأٌ لَهُ كَذَلِكَ أَيْضًا النَّارُ لِلْكَافِرِينَ كَافِلَةٌ وَمَأْوًى وَمَرْجِعٌ وَقَوْلِهِ: {قُتِلَ الخراصون} {قتل الإنسان ما أكفره} {قاتلهم الله أنى يؤفكون} وَالْفِعْلُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَذَلَّهُ وَقِيلَ قَهَرَهُ وَغَلَبَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فَلْنَذْكُرْ أَنْوَاعَهُ لِتَكُونَ ضَوَابِطَ لِبَقِيَّةِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ الْأَوَّلُ: إِيقَاعُ الْمُسَبَّبِ مُوقِعَ السَّبَبِ كقوله تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباسا} وإنما نزل سببه وهو الماء وكقوله: {يا بني آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ من الجنة} وَلَمْ يَقُلْ: "كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ" لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْجَنَّةِ هُوَ الْمُسَبَّبُ النَّاشِئُ عَنِ الْفِتْنَةِ فَأَوْقَعَ الْمُسَبَّبَ مَوْقِعَ السَّبَبِ أَيْ لَا تَفْتَتِنُوا بِفِتْنَةِ الشَّيْطَانِ فَأُقِيمُ فِيهِ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ سَبَبٌ خَاصٌّ فَإِذَا عُدِمَ فَيُعْدَمُ الْمُسَبَّبُ فَالنَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ لِبَنِي آدَمَ وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمْ فَلَمَّا أُخْرِجَ السَّبَبُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِإِيرَادِ النَّهْيِ عَلَيْهِ كَانَ أَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّهْيِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النار} وَهُمْ لَمْ يَدْعُوهُ إِلَى النَّارِ إِنَّمَا دَعَوْهُ إِلَى الْكُفْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ} لَكِنَّ لَمَّا كَانَتِ النَّارُ مُسَبَّبَةً عَنْهُ أَطْلَقَهَا عليه وقوله تعالى: {فاتقوا النار} أَيِ: الْعِنَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلنَّارِ وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بطونهم نارا} لِاسْتِلْزَامِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِيَّاهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لا يجدون نكاحا} إِنَّمَا أَرَادَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الشَّيْءَ الَّذِي يُنْكَحُ بِهِ مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ وَمَا لَا بُدَّ لِلْمُتَزَوِّجِ مِنْهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بينكم بالباطل} أَيْ: لَا تَأْكُلُوهَا بِالسَّبَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ القمار وقوله: {والرجز فاهجر} أَيْ: عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُسَبَّبٌ عَنْهَا وقوله: {وليجدوا فيكم غلظة} أَيْ: وَأَغْلِظُوا عَلَيْهِمْ لِيَجِدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى الْأَمْرِ بِالْوِجْدَانِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ وَأَمَّا الْإِغْلَاظُ فَلَمْ يُقْصَدْ لِذَاتِهِ بَلْ لِتَجِدُوهُ الثَّانِي: عَكْسُهُ وَهُوَ إِيقَاعُ السَّبَبِ مُوقِعَ الْمُسَبَّبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمثل ما اعتدى عليكم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 سُمِّيَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ سَيِّئَةً وَاعْتِدَاءً فَسُمِّيَ الشَّيْءُ بِاسْمِ سَبَبِهِ وَإِنْ عَبَّرَتِ السَّيِّئَةُ عَمَّا سَاءَ أَيْ أَحْزَنَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْإِسَاءَةَ تُحْزِنُ فِي الْحَقِيقَةِ كالجناية ومنه: {ومكروا ومكر الله} تَجُوزُ بِلَفْظِ الْمَكْرِ عَنْ عُقُوبَتِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إِنَّمَا جُعِلَتِ الْمَرْأَتَانِ لِلتَّذْكِيرِ إِذَا وَقَعَ الضَّلَالُ لَا لِيَقَعَ الضَّلَالُ فَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ سَبَبًا لِلتَّذْكِيرِ أُقِيمَ مَقَامَهُ وَمِنْهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْكِتَابِ عَلَى الْحِفْظِ أَيِ الْمَكْتُوبِ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ سَبَبٌ له كقوله تعالى: {سنكتب ما قالوا} أي: سنحفظه حتى نجازيهم عَلَيْهِ وَمِنْهُ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّمْعِ عَلَى الْقَبُولِ كقوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع} أَيْ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ قَبُولَ ذَلِكَ وَالْعَمَلَ بِهِ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّيْءِ مُرَتَّبٌ عَلَى سَمَاعِهِ ومسبب عنه ويجوز أن يكون نَفْيِ السَّمْعِ لِابْتِغَاءِ فَائِدَتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنْ حَلِفَتْ لَا يَنْقُضُ النَّأْيُ عَهْدَهَا فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَانِ يَمِينُ أَيْ: وَفَاءُ يَمِينٍ وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْإِيمَانِ عَلَى مَا نَشَأَ عَنْهُ مِنَ الطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانكم} {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} أَيْ: أَفَتَعْلَمُونَ بِبَعْضِ التَّوْرَاةِ وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسَارَى وَتَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِبَعْضٍ وَهُوَ قَتْلُ إِخْوَانِهِمْ وَإِخْرَاجُهُمْ من ديارهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وَجَعَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مِنَ الْأَنْوَاعِ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِ سَبَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجَهُمَا مما كانا فيه} أَيْ: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ فَلَا يُخْرِجْنَكُمَا مِنَ الجنة: {ينزع عنهما لباسهما} الْمُخْرِجُ وَالنَّازِعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَكْلُ الشَّجَرَةِ وَسَبَبُ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ وَمُقَاسَمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ النَّاصِحِينَ وَقَدْ مَثَّلَ الْبَيَانِّيُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلسَّبَبِ وَإِنَّمَا هِيَ لِسَبَبِ السَّبَبِ وَقَوْلِهِ: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دار البوار} لما أمروهم بالكفر الموجب لحلول النار نسب ذلك إليهم لأنهم أمروهم به فالله هو المحل لدار البوار وسبب إحلالها كُفْرُهُمْ وَسَبَبُ كُفْرِهِمْ أَمْرُ أَكَابِرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِحُلُولِ النَّارِ الثَّالِثُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ قَالَ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} أَيْ: أَنَامِلَهُمْ وَحِكْمَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْأَصَابِعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ أَنَامِلَهُمْ فِي آذَانِهِمْ بِغَيْرِ الْمُعْتَادِ فِرَارًا مِنَ الشِّدَّةِ فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَصَابِعَ وقال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} وَالْيَدُ حَقِيقَةً إِلَى الْمَنْكِبِ هَذَا إِنَّ جَعْلَنَا "إِلَى" بِمَعْنَى "مَعَ" وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِ الْوَجْهِ إِذَا سَتَرَهُ بَعْضُ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وَالْمُرَادُ هُوَ الْبَعْضُ الَّذِي هُوَ الرُّسْغُ وَقَالَ تعالى: {ومن لم يطعمه} أَيْ: مِنْ لَمْ يَذُقْ وَقَوْلُهُ: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} وَالْمُرَادُ: وُجُوهُهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ جُمْلَتَهُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} اسْتَشْكَلَهُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّهْرُ وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثِينَ يَوْمًا وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الشَّهْرَ وَأَرَادَ جُزْءًا مِنْهُ وَإِرَادَةُ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ مَجَازٌ شَهِيرٌ وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ وَأَنَّ الشَّخْصَ مَتَى كَانَ مُقِيمًا أَوْ فِي الْبَرِّ ثُمَّ سَافَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْجَمِيعِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا عَامٌّ مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ: {فمن كان منكم مريضا} الآية وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ مَا سَبَقَ إِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَوَّلِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ الرَّابِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ له} أي: ذاته ويبقى وجه ربك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وقوله: {وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة} يُرِيدُ الْأَجْسَادَ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالنَّصْبَ مِنْ صِفَاتِهَا وأما قوله: {وجوه يومئذ ناعمة} فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنِ الرِّجَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَصْفِ الْبَعْضِ بِصِفَةِ الْكُلِّ لِأَنَّ التَّنَعُّمَ مَنْسُوبٌ إِلَى جميع الجسد ومنه: {وجوه يومئذ ناضرة} فَالْوَجْهُ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ لَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ "الْوَجْهِ" الَّذِي جَاءَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْحُذَّاقِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْوُجُودِ وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالْوَجْهِ مَجَازٌ إِذْ هُوَ أَظْهَرُ الْأَعْضَاءِ في الْمُشَاهَدَةِ وَأَجَلُّهَا قَدْرًا وَقِيلَ -وَهُوَ الصَّوَابُ-: هِيَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ بِالسَّمْعِ زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَعَّفَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فَالْمُرَادُ الْجِهَةُ الَّتِي وُجِّهْنَا إِلَيْهَا فِي الْقِبْلَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْجَاهُ أَيْ فَثَمَّ جَلَالُ الله وعظمته وقوله: {فبما كسبت أيديكم} {ولا تلقوا بأيديكم} تَجَوَّزَ بِذَلِكَ عَنِ الْجُمْلَةِ وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كل بنان} الْبَنَانُ الْإِصْبَعُ تَجَوَّزَ بِهَا عَنِ الْأَيْدِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 والأرجل عكس قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم} وقوله: {فتحرير رقبة} وقوله: {سنسمه على الخرطوم} عَبَّرَ بِالْأَنْفِ عَنِ الْوَجْهِ {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} وكقوله تعالى: {فإنه آثم قلبه} أَضَافَ الْإِثْمَ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا آثِمَةً مِنْ حَيْثُ كَانَ مَحَلًّا لِاعْتِقَادِ الْإِثْمِ وَالْبِرِّ كَمَا نُسِبَتِ الْكِتَابَةُ إِلَى الْيَدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُفْعَلُ بِهَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {مما كتبت أيديهم} وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا كَاتِبَةً وَلِهَذَا قَالَ: {وويل لهم مما يكسبون} وكذا قوله: {لا تدركه الأبصار} وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ هُوَ الْجُمْلَةُ دُونَ الْحَاسَّةِ فَأَسْنَدَ الْإِدْرَاكَ إِلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّهُ بِهَا يَكُونُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نفسه} أي: إياه {تعلم ما في نفسي} وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يغضوا من أبصارهم} وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ "مِنْ" هُنَا لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْغَضِّ عَمَّا يَحْرُمُ النظر إليه وقوله: {قم الليل} أَيْ: صَلِّ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وكقوله: {وقرآن الفجر} أي: صلاة الفجر ومنه: "المسجد الحرام" وَالْمُرَادُ: جَمِيعُ الْحَرَمِ وَقَوْلِهِ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: المصلين {يخرون للأذقان سجدا} {ويخرون للأذقان يبكون} أَيِ: الْوُجُوهِ وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} فَعَبَّرَ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَنِ الْعَالَمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مقام الوعيد والوعيد إنما لَوْ بُيِّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَالْعِبَادُ وَأَحْوَالُهُمْ لَيْسَتِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْعَالَمُ إِطْلَاقًا لِلْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَقَوْلِهِ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لكم} قال الفارسي: جعله على المجاز أذنا لأجل إصغائه قال: ولو صغرت أذنا في هذه الآية كان في لحاق تاء فِيهَا وَتَرْكِهَا نَظَرٌ وَجَعَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأمنا} الْمُرَادُ بِهِ: جَمِيعُ الْحَرَمِ لَا صِفَةُ الْكَعْبَةِ فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} وقوله: {هديا بالغ الكعبة} وَالْمُرَادُ: الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 هذا} وَالْمُرَادُ: مَنْعُهُمْ مِنَ الْحَجِّ وَحُضُورِ مَوَاضِعِ النُّسُكِ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أن نسوي بنانه} أَيْ: نَجْعَلُهَا صَفْحَةً مُسْتَوِيَةً لَا شُقُوقَ فِيهَا كَخُفِّ الْبَعِيرِ فَيَعْدَمُ الِارْتِفَاقَ بِالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسْتَعَانُ فِيهَا بِالْأَصَابِعِ قَالُوا وَذُكِرَتِ الْبَنَانُ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتِ الْيَدَانِ فَاخْتَصَّ مِنْهَا أَلْطَفَهَا وَجَوَّزَ أَبُو عُبَيْدَةَ وُرُودَ الْبَعْضِ وَإِرَادَةَ الْكُلِّ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فيه} أَيْ: كُلِّهِ وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وَأَنْشَدَ بَيْتَ لَبِيَدٍ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا قَالَ: والموت لا يعتلق بعض النفوس دون البعض وَيُقَالُ لِلْمَنِيَّةِ: عَلُوقٌ وَعُلَاقَةٌ انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي قال فيه أمران: أحدها: أنه ظن أن النبي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي شَرِيعَتِهِ جَمِيعَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ وَعَنِ الرُّوحِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَأَمَّا الْآيَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 الْأُخْرَى فَقَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّهُ كَانَ وَعَدَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: يُصِبْكُمْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا -وَهُوَ بَعْضُ الْوَعِيدِ- مِنْ غَيْرِ نَفْيِ عَذَابِ الْآخِرَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي فَهْمِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّاعِرِ بِبَعْضِ النُّفُوسِ نَفْسُهُ هُوَ لِأَنَّهَا بَعْضُ النُّفُوسِ حَقِيقَةً وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَا إِذَا لَمْ أَرْضَ الْأَمْكِنَةَ اتْرُكْهَا إِلَى أَنْ أَمُوتَ أَيْ إِذَا تَرَكَتْ شَيْئًا لَا أَعُودُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ أَمُوتَ كَقَوْلِ الْآخَرِ: إِذَا انْصَرَفَتْ نَفْسِي عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَكَدْ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ آخِرَ الدَّهْرِ تَرْجِعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَلْقَى: كَانَ أَجْفَى مِنْ أَنْ يَفْقَهَ مَا أَقُولُ لَهُ وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَالَ لِلْمَازِنِيِّ: مَا أكذب النحويين! فقلت له: لم قلت ذلك؟ قال: يقولون: هاء التأنيث تدخل على ألف التأنيث وإن الألف التي في علقى ملحقة ليست للتأنيث قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رُؤْبَةَ يَنْشِدُ: فَحَطَّ فِي عَلْقَى وَفِي مُكُورٍ فَلَمْ يُنَوِّنْهَا فَقُلْتُ: مَا وَاحِدُ الْعَلْقَى فَقَالَ: عَلْقَاةٌ قَالَ الْمَازِنِيُّ: فَأَسِفْتُ وَلَمْ أُفَسِّرْ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَغْلَظُ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ مِثْلَ هَذَا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَنَّ الْوَعِيدَ مِمَّا لَا يُسْتَنْكَرُ تَرْكُ جَمِيعِهِ فَكَيْفَ بَعْضُهُ! وَيَدُلُّ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يرجعون} وَفِيهَا تَأْيِيدٌ لِكَلَامِ ثَعْلَبٍ أَيْضًا وَقَدْ يُوصَفُ البعض كقوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين} وقوله: {ناصية كاذبة خاطئة} الْخَطَأُ صِفَةُ الْكُلِّ فَوَصَفَ بِهِ النَّاصِيَةَ وَأَمَّا الْكَاذِبَةُ فَصِفَةُ اللِّسَانِ وَقَدْ يُوصَفُ الْكُلُّ بِصِفَةِ البعض كقوله: {إنا منكم وجلون} وَالْوَجَلُ صِفَةُ الْقَلْبِ وَقَوْلِهِ: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} وَالرُّعْبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ الْخَامِسُ: إِطْلَاقُ اسم الملزوم على اللازم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يتكلم بما كانوا به يشركون} أَيْ: أَنْزَلْنَا بُرْهَانًا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ وَهُوَ يَدُلُّهُمْ سَمَّى الدَّلَالَةَ كَلَامًا لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْكَلَامِ وقوله: {صم وبكم في الظلمات} فَإِنَّ الْأَصْلَ "عُمْيٌ" لِقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {صم بكم عمي} لَكِنْ أَتَى بِالظُّلُمَاتِ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمَ الْعُمْيِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي دُخُولِ الْوَاوِ هُنَا وَفِي التَّعْبِيرِ بِالظُّلُمَاتِ عَنِ الْعَمَى بِخِلَافِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى السَّادِسُ: إِطْلَاقُ اسْمِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ من المسبحين} أَيِ: الْمُصَلِّينَ السَّابِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى المقيد كقوله: {فعقروا الناقة} والعاقر لها من قوم صالح قدار لكنه لما رضوا بالفعل نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ الثَّامِنُ: عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} وَالْمُرَادُ: كَلِمَةُ الشِّهَادَةِ وَهِيَ عِدَّةُ كَلِمَاتٍ التَّاسِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إني رسول رب العالمين} أي: رسله وقال: {هم العدو فاحذرهم} أي: الأعداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 {وخضتم كالذي خاضوا} أي: الذين وقوله: {علمت نفس} أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ وَقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثلها} أي: كل سيئة وقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الْعَاشِرُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ كَقَوْلِهِ تعالى: {ويستغفرون لمن في الأرض} أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ويستغفرون للذين آمنوا} وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ زَعَمَ أَنَّ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلٌّ لَهُ قانتون} أَيْ: أَهْلُ طَاعَتِهِ لَا النَّاسُ أَجْمَعُونَ حَكَاهُ الْوَاحِدَيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وقوله: {كان الناس أمة واحدة} قِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ في السفينة وقيل: آدم وحواء وقوله: {وآل عمران على العالمين} أَيْ: عَالَمِي زَمَانِهِ وَلَا يَصِحُّ الْعُمُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 لِأَنَّهُ إِذَا فُضِّلَ أَحَدُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَدْ فُضِّلَ عَلَى سَائِرِهِمْ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِينَ فَإِذَا فَضَّلَ الْآخَرِينَ عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَدْ فَضَّلَهُمْ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِينَ فَيَصِيرُ الْفَاضِلُ مَفْضُولًا وَلَا يَصِحُّ وَقَوْلِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلا جعلته كالرميم} أَيْ: شَيْءٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالذَّهَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} وقوله: {تدمر كل شيء بأمر ربها} وقوله: {وأوتيت من كل شيء} مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُؤْتَ لِحْيَةً وَلَا ذَكَرًا وقوله: {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي: كل شيء أَحَبُّوهُ وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئا} أي: مِمَّا ظَنَّهُ وَقَدَّرَهُ وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} وعن موسى {وأنا أول المؤمنين} ولم يرد الكل لأن الأنبياء قبله ما كانوا مسلمين ولا مؤمنين وقال: {والشعراء يتبعهم الغاوون} وَلَمْ يَعْنِ كُلَّ الشُّعَرَاءِ وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَ له إخوة} أَيْ: أَخَوَانِ فَصَاعِدًا وَقَوْلِهِ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي: بابا من أبوابها قاله المفسرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وقوله: {قالت الأعراب آمنا} وَإِنَّمَا قَالَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} وَأَرَادَ الْآيَاتِ الَّتِي إِذَا كُذِّبَ بِهَا نَزَلَ الْعَذَابُ عَلَى الْمُكَذِّبِ وَقَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرض} أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {وكذب به قومك وهو الحق} وَالْمُرَادُ: بَعْضُهُمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ أَفَاضِلَ الْمُسْلِمِينَ وَالصِّدِّيقَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} فَإِنَّ {النَّاسَ} الْأَوْلَى لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ النَّاسَ} وَلِأَنَّ {الَّذِينَ} مِنَ {النَّاسِ} فَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُسْتَغْرِقًا ضَرُورَةَ خُرُوجِ {الَّذِينَ} مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَقَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ معلومات} وَالْمُرَادُ: شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ الْحَادِي عَشَرَ: إِطْلَاقُ الْجَمْعِ وَإِرَادَةُ الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قلوبكما} أَطْلَقَ اسْمَ الْقُلُوبِ عَلَى الْقَلْبَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الثَّانِي عَشَرَ: النُّقْصَانُ وَمِنْهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ المضاف إليه مقامه كقوله: {واسأل القرية} أَيْ: أَهْلَهَا وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا على رسلك} أي: على لسان رسلك وقال: {نحن أنصار الله} أَيْ: أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ وَقَالَ: {وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل} أي: حبه {واختار موسى قومه} أَيْ: مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ إِذَا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَالْمَحْذُوفَاتُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ وَسَيَأْتِي الْإِشْبَاعُ فِيهِ وَفِي شُرُوطِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ لَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَلِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْمَحْذُوفَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا التَّجَوُّزُ فِي أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَا كان منسوبا إلى المضاف كالأمثلة السابقة الثاني عَشَرَ: الزِّيَادَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ذكره الأصوليون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِثْلِ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ وَالثَّانِي -وَهُوَ الْمَشْهُورُ-: أَنَّ الْكَافَ هِيَ الزَّائِدَةُ وَأَنَّ مِثْلِ خَبَرُ لَيْسَ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْقَوْلَ بِزِيَادَةِ الْحَرْفِ أَسْهَلُ مِنَ الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الِاسْمِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ جِنِّي وَالسِّيرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَقَالُوا: الْمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ وَالْكَافُ زَائِدَةٌ وَإِلَّا لَاسْتَحَالَ الْكَلَامُ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً كَانَتْ بِمَعْنَى مِثْلَ وَإِنْ كَانَتْ حَرْفًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَإِذَا قُدِّرَ هَذَا التَّقْدِيرُ ثَبَتَ لَهُ مِثْلٌ وَنُفِيَ الشَّبَهُ عَنْ مِثْلِهِ وَهَذَا مُحَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا مِثْلَ لَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ بِهِ مُحَالٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ وَذَلِكَ أَنَا لَوْ قُلْنَا: لَيْسَ مِثْلٌ مِثْلَ زَيْدٍ لَاسْتَحَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّ لِزَيْدٍ مِثْلًا وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ زَيْدٍ مِثْلًا لَهُ لِأَنَّ مَا مَاثَلَ الشَّيْءَ فَقَدْ مَاثَلَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ مِثْلًا لِعَمْرٍو وَعَمْرٌو لَيْسَ مِثْلًا لِزَيْدٍ فَإِذَا نَفَيْنَا الْمِثْلَ عَنْ مِثْلِ زَيْدٍ وَزَيْدٌ هُوَ مِثْلُ مِثْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفْنَا وَلِأَنَّهُ يلزم منه التناقص عَلَى تَقْدِيرِ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ لِأَنَّ مِثْلَ الْمِثْلِ لا يَصِحُّ نَفْيُهُ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مِثْلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ مِثْلٌ لَهُ وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ غَايَةُ مَا فِيهِ نَفْيُ مِثْلِ مِثْلِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَصْلًا ضَرُورَةَ أَنَّ مِثْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَذَلِكَ الشَّيْءُ مِثْلُهُ فَإِذَا انْتَفَى عَنْ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ عَمْرٍو انْتَفَى عَنْ عَمْرٍو أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَلْزَمُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْمِثْلِ وَنَحْنُ قَدْ مَنَعْنَاهُ بَلْ أَحَلْنَاهُ مِنَ الْعِبَارَةِ وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةٌ إِمَّا لِاعْتِبَارِ جَوَازِ سَلْبِ الشَّيْءِ عَنِ الْمَعْدُومِ كَمَا تُسْلَبُ الْكِتَابَةُ عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ معدوم أو يحمل المثل على المثل أي الصفة كقوله تعال: ى {مثل الجنة} أَيْ: صِفَتُهَا فَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَتْ كَصِفَتِهِ شَيْءٌ وَبِهَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُلُ التَّخَلُّصُ عَنْ لُزُومِ إِثْبَاتِ مِثْلٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الزَّائِدَ مِثْلٌ وَإِلَّا لَزِمَ إِثْبَاتُ الْمِثْلِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِاسْتِلْزَامِ تَقْدِيرِ دُخُولِ الْكَافِ عَلَى الضَّمِيرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَجِيءُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَخْلُصُ مِنْ لُزُومِ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الذَّاتُ وَالْعَيْنُ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمنوا بمثل ما آمنتم به} وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: *عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ* فَالْكَافُ عَلَى بَابِهَا وَلَيْسَ كَذَاكَ بَلِ الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْمِثْلِ لِيَكُونَ نَفْيًا عَنِ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْمَمْدُوحَةِ مِثْلٌ فِي الْخَارِجِ حَصَلَ النَّفْيُ عَنْهُ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلُ فِي الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْبَيَانِيُّ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَكُونُ هَذَا نَفْيًا عَنِ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ تَسْتَدْعِي الْمُسَاوَاةَ فِي الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ اتِّفَاقَ الشَّخْصِيَّتَيْنِ بِالذَّاتِيَّاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ اتِّحَادَ أَفْعَالِهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ هُنَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ بَلِ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مِثْلُ حَالِهِ فِي الصِّفَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مِثْلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ لَفْظَةَ مِثْلُ لَا تَسْتَدْعِي الْمُشَابَهَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْكَافَ وَمِثْلُ لَيْسَا زَائِدَتَيْنِ بَلْ يَكُونُ التَّمْثِيلُ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا} وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْ فَرَضْنَا لَهُ مِثْلًا لَامْتَنَعَ أَنْ يُشْبِهَ ذَلِكَ الْمِثْلَ الْمَفْرُوضَ شَيْءٌ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا} فَقِيلَ: إِنَّ مَا فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَا لَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا مِنَ الصِّلَةِ ضَمِيرٌ وَهُوَ الْهَاءُ فِي بِهِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعُودُ عَلَى الْحُرُوفِ وَلَا يُعْتَبَرُ اسْمًا إِلَّا بِالصِّلَةِ وَالِاسْمُ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مَا هُوَ صِفَتُهُ إِذْ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى رَبْطٍ وَجَوَابُهُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً صِلَتُهَا {آمَنْتُمْ بِهِ} وَقِيلَ: مَزِيدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ أَيْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ: إِنَّ مِثْلًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ آمَنُوا بِشَيْءٍ مِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَا آمَنُوا بِهِ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ حَتَّى يُؤْمِنُوا بذلك المثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَنَّ الْوَجْهَ صِلَةٌ وَالْمَعْنَى: فَثَمَّ اللَّهُ يَعْلَمُ وَيَرَى قَالَ: وَالْوَجْهُ قَدْ وَرَدَ صِلَةً مَعَ اسْمِ اللَّهِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {إنما نطعمكم لوجه الله} {كل شيء هالك إلا وجهه} قُلْتُ: وَالْأَشْبَهُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّاتُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الزِّيَادَةِ وَمِنَ الزِّيَادَةِ دعوى أبي عبيدة {يسمعونكم إذ تدعون} أَنَّ "إِذْ" زَائِدَةٌ وَقَوْلِهِ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الذي حرم عليكم} وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وَقَدْ سَبَقَ الرَّابِعَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فاجرا كفارا} أَيْ صَائِرًا إِلَى الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ وَقَوْلِهِ: {إِنِّي أراني أحمل فوق رأسي خبزا} أَيْ: لِأَنَّ الَّذِي تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْبُرُّ لَا الْخَبْزُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ إِنَّمَا اقْتَصَرُوا فِي التمثيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 على قوله: {أعصر خمرا} أَيْ: عِنَبًا فَعَبَّرَ عَنْهُ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى الْخَمْرِيَّةِ وَقِيلَ: لَا مَجَازَ فِيهِ فَإِنَّ الْخَمْرَ الْعِنَبُ بِعَيْنِهِ لُغَةٌ لِأَزْدِ عُمَانَ نَقْلَهُ الْفَارِسِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ عَنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ لِابْنُ دُرَيْدٍ وَقِيلَ: اكْتَفَى بِالْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْعِنَبُ قَالَهُ ابْنُ جِنِّي في الخصائص وقيل: ولا مَجَازَ فِي الِاسْمِ بَلْ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ {أَعْصِرُ} فَإِنَّهُ أُطْلِقُ وَأُرِيدُ بِهِ اسْتَخْرِجُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَزِيزٍ فِي غَرِيبِهِ وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تنكح زوجا غيره} سَمَّاهُ زَوْجًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَؤُولُ إِلَى زَوْجِيَّةٍ لِأَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي حَالِ كَوْنِهِ زَوْجًا وقوله: {فبشرناه بغلام حليم} {وبشروه بغلام عليم} وَصَفَهُ فِي حَالِ الْبِشَارَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ تَنْبِيهٌ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ ذَلِكَ وَإِرَادَتُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {فتبسم ضاحكا} مقدار ضحكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وكذا قوله: {وخروا له سجدا} على قول أبي علي وهذا حَمْلٌ مِنْهُ لِلْخُرُورِ عَلَى ابْتِدَائِهِ وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى انْتِهَائِهِ كَانَتِ الْحَالُ الْمَلْفُوظُ بِهَا نَاجِزَةً غير مقدرة وكذلك قوله: {فادخلوها خالدين} أَيِ: ادْخُلُوهَا مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ مُدْخَلًا كَرِيمًا مُقَدِّرًا أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا كَانَ ذَلِكَ أَتَمَّ لِسُرُورِهِ وَنَعِيمِهِ وَلَوْ تَوَهَّمَ انْقِطَاعَهُ لِتَنَغَّصَ عَلَيْهِ النَّعِيمُ النَّاجِزُ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الِانْقِطَاعِ اللَّاحِقِ الْخَامِسَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا اليتامى أموالهم} أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقِيلَ: بَلْ هُمْ يَتَامَى حَقِيقَةً وَأَمَّا حَدِيثُ: "لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ" فَهُوَ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّرْعِ لَا اللُّغَةُ وَهُوَ غَرِيبٌ وقوله: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وَإِذَا مِتْنَ لَمْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا فَسَمَّاهُنَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ أَزْوَاجًا وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ ينكحن أزواجهن} أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجَهُنَّ وَكَذَلِكَ: {وَيَذْرُوَنَ أَزْوَاجًا} لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ وَقَوْلِهِ: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مجرما} سَمَّاهُ مُجْرِمًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْإِجْرَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وقوله: {هذه بضاعتنا ردت إلينا} وَلَكِنْ مَا رُدَّ عَلَيْهِمْ مَالُهُمْ وَإِنَّمَا كَانُوا قد اشتروا بها الميرة فجعلها يوسف فِي مَتَاعِهِمْ وَهِيَ لَهُ دُونَهُمْ فَنَسَبَهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ السَّادِسَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَقَوْلِهِ: {فَلْيَدْعُ ناديه} وقوله تعالى: {وفرش مرفوعة} أَيْ: نِسَاؤُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} وَكَالتَّعْبِيرِ بِالْيَدِ عَنِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَنَحْوُهُ وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {لَهُمْ قلوب لا يفقهون بها} أَيْ: عُقُولٌ وَبِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَلْسُنِ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قالوا آمنا بأفواههم} {يقولون بأفواههم} وَإِطْلَاقُ الْأَلْسُنِ عَلَى اللُّغَاتِ كَقَوْلِهِ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مبين} وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَرْيَةِ عَنْ سَاكِنِهَا نَحْوُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 السَّابِعَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فيها خالدون} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الرَّحْمَةِ وَقَوْلِهِ: {بل مكر الليل والنهار} أَيْ: فِي اللَّيْلِ وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: {إذ يريكهم الله في منامك} أَيْ: فِي عَيْنِكِ وَاسْتَبْعَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدَّرَ: يَعْنِي فِي رُؤْيَاكَ وَقَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمنا} وَصَفَ الْبَلَدَ بِالْأَمْنِ وَهُوَ صِفَةٌ لِأَهْلِهِ وَمِثْلُهُ: {وهذا البلد الأمين} {إن المتقين في مقام أمين} وقوله: {بلدة طيبة} وَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ وَهُوَ صِفَةٌ لِهَوَائِهَا وَقَدِ اجْتَمَعَ هذا والذي قبله في قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عند كل مسجد} وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَحَلَّ الزِّينَةِ وَلَا يَجِبُ أَخْذُ الزِّينَةِ لِلْمَسْجِدِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الصَّلَاةَ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ وَفِي الزِّينَةِ بِالْعَكْسِ الثَّامِنَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ آلَةِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صدق في الآخرين} أَيْ: ذِكْرًا حَسَنًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 أَطْلَقَ اللِّسَانَ وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ لِأَنَّ اللسان آية للذكر وقال تعالى: {تجري بأعيننا} أَيْ: بِمَرْأًى مِنَّا لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ آلَةَ الرُّؤْيَةِ وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بلسان قومه} أَيْ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ التَّاسِعَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيئة مثلها} وَهِيَ مِنَ الْمُبْتَدِئِ سَيِّئَةٌ وَمِنَ اللَّهِ حَسَنَةٌ فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ وَعَكْسُهُ: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إلا الإحسان} سُمِّيَ الْأَوَّلُ إِحْسَانًا لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِجَزَائِهِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالْأَوَّلُ طَاعَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ جَزَاءُ الطَّاعَةِ إِلَّا الثَّوَابُ! وَكَذَلِكَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ فَخَرَجَ الِانْتِقَامُ بِلَفْظِ الذَّنْبِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَمْكُرُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلا القوم الخاسرون} فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ مَكْرِهِمْ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ قَبْلَهُ مَا يَصِيرُ إِلَى مَكْرٍ وَالْمُقَابَلَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذِكْرُ الْمُقَابِلِ لَفْظًا بَلْ هُوَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم} لَمَّا قَالَ: بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْجَنَّةِ قَالَ: بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْعَذَابِ وَالْبِشَارَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْخَيْرِ لَا فِي الشَّرِّ وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فإنا نسخر منكم} وَالْفِعْلُ الثَّانِي لَيْسَ بِسُخْرِيَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 الْعِشْرُونَ: تَسْمِيَةُ الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ بِاسْمِ الصَّارِفِ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعَلُّقِ ذَكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تسجد} يَعْنِي: مَا دَعَاكَ أَلَّا تَسْجُدَ؟ وَاعْتَصَمَ بِذَلِكَ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ "لَا" وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا حماك فِي أَلَّا تَسْجُدَ أَيْ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَيْ مَا جَعَلَكَ فِي مِنْعَةٍ مِنْ عُقُوبَةِ تَرْكِ السُّجُودِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَأَنَّ تَرْكِيبَهُ ما يمنعك سؤالا عَمَّا يَمْنَعُهُ لَا بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ لَا تَخْوِيفَ بِمَاضٍ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَقْتَضِي الْأَمَنَةَ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَمْنُكَ حَتَّى خَالَفَتْ! بَيَانًا لِاغْتِرَارِهِ وَعَدَمِ رُشْدِهِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا خَالَفَ وَحَالُهُ حَالُ مَنِ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ فكنى عنه بما مَنَعَكَ تَهَكُّمًا لَا أَنَّهُ امْتَنَعَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جَسَرَ جَسَارَةَ مَنْ هُوَ فِي مِنْعَةٍ وَرُدَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ أَجَابَ {أَنَا خَيْرٌ} وَهُوَ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا إِلَّا لِتَرْكِ السُّجُودِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لم يجب ولكن عدل بذلك جواب مالا يمكن جوابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إِقَامَةُ صِيغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى وَلَهُ صور: فمنه: فاعل بمعنى مفعول كقوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله} أَيْ: لَا مَعْصُومَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ مَاءٍ دافق} أي: مدفوق و {في عيشة} أَيْ: مَرَضِيَّةٍ بِهَا وَقِيلَ عَلَى النَّسَبِ أَيْ: ذَاتِ رِضًا وَهُوَ مَجَازُ إِفْرَادٍ لَا تَرْكِيبٍ وقوله: {أنا جعلنا حرما آمنا} أي: مأمونا وعكسه: {إنه كان وعده مأتيا} أَيْ: آتِيًا وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حجابا مستورا} أَيْ: سَاتِرًا وَحَكَى الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبِ عَنْ أصل اللُّغَةِ وَتَأْوِيلُ الْحِجَابِ الطَّبْعُ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ أَيْ مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ وَلَا يُحِسُّ بِهِ أَحَدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وَالْمَعْنَى: مَسْتُورٌ عَنْكَ وَعَنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَيْ حِجَابًا عَلَى حِجَابٍ وَالْأَوَّلُ مَسْتُورٌ بِالثَّانِي يُرَادُ بِذَلِكَ كَثَافَةُ الْحِجَابِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا قال أبو الفتح في كتابه هذا الفد: وَسَأَلْتُهُ -يَعْنِي الْفَارِسِيَّ- إِذَا جَعَلْتَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَعَلَامَ تَرْفَعُ الضَّمِيرَ الَّذِي فِيهِ؟ أَعْلَى حَدِّ ارْتِفَاعِ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ أَمِ اسْمِ الْمَفْعُولِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ارْتَفَعَ الضَّمِيرُ فِيهِ ارْتِفَاعَ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَإِنْ جَاءَ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَمِنْهُ "فَعِيلٌ" بِمَعْنَى "مَفْعُولٍ" كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ الْكَافِرُ على ربه ظهيرا} أَيْ: مَظْهُورًا فِيهِ وَمِنْهُ ظَهَرْتُ بِهِ فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَمَّا نَحْوُ: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ مُؤْلِمًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ آلَمَ ثُمَّ زَالَ وَأَلِيمٌ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ قَالَ: وَلِهَذَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ إِلَّا سِيبَوَيْهِ أَنْ يُعَدَّى فَعِيلٌ وَمِنْهُ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ عَلَى فُعُولٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يذكر أو أراد شكورا} وَقَوْلِهِ: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 الْجَمْعَ هُنَا بَلِ الْمُرَادُ: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ شكرا أَصْلًا وَهَذَا أَبْلَغُ فِي قَصْدِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفْيِ الْأَنْوَاعِ وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ جَمْعُ شُكْرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى وَمِنْهَا: إِقَامَةُ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أَيْ: تَكْذِيبٌ وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ: {بأيكم المفتون} أَيِ: الْفِتْنَةُ وَمِنْهُ وَصْفُ الشَّيْءِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تعالى: {فإنهم عدو لي} قَالُوا: إِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدَاوَةٌ وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ علمه} أَيْ: مِنْ مَعْلُومِهِ وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ العلم} أي: من العلوم وقوله: {صنع الله} أَيْ: مَصْنُوعَهُ وَقَوْلِهِ: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أَيْ: مُتَرَحَّمٌ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَأَعِينُونِي بقوة} أَيْ: مُقَوًّى بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمْ زُبَرَ الْحَدِيدِ وَالنَّفْخَ عَلَيْهَا وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ خاب من حمل ظلما} أَيْ: مَظْلُومًا فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أَيْ: مَكْذُوبٍ فِيهِ وَإِلَّا لَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَأَشْكَلَ لَأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَجْسَامِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ فِي النَّحْوِ بِدَمٍ كَذِبًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ {جَاءُوا} فِيهِ مَعْنَى: "كَذَبُوا كَذِبًا" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {والعاديات ضبحا} لِأَنَّ الْعَادِيَاتِ بِمَعْنَى الضَّابِحَاتِ وَعَكْسُهُ: {وَإِنَّهُ لَذُو علم لما علمناه} وَمِنْهُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ بعد ذلك ظهير} وقوله: {خلصوا نجيا} وقوله: {وحسن أولئك رفيقا} وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ جَمْعًا وَأَنَّهُ لَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فَإِنَّهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ {قَعِيدٌ} أُسْنِدَ لَهُمَا وَقَدْ يَقَعُ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ عَنْ لَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ أُرِيدَ مَعْنَاهُ لِنُكْتَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يقولون نحن جميع منتصر} فَإِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ يَقْضِي بِإِعْرَابِ مُنْتَصِرٌ خَبَرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وَمِنْهُ: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أولادهن} أَيْ: لَيُرْضِعِ الْوَالِدَاتُ أَوْلَادَهُنَّ وَقَوْلِهِ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أَيْ: تَتَرَبَّصُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَقَوْلِهِ: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سنين دأبا} وَالْمَعْنَى: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَذَرُوهُ في سنبله} وقوله: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون} مَعْنَاهُ: آمِنُوا وَجَاهِدُوا وَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِالْجَزْمِ فِي قوله: {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات} وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ فِي قوله: {هل أدلكم} لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَإِدْخَالَ الْجِنَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدين والتحقيق ما قاله النبلي: أَنَّهُ جَعَلَ الدَّلَالَةَ عَلَى التِّجَارَةِ سَبَبًا لِوُجُودِهَا وَالتِّجَارَةُ هِيَ الْإِيمَانُ وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: {تُؤْمِنُونَ} فَعُلِمَ أَنَّ التِّجَارَةَ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ هِيَ الْإِيمَانُ فَالدَّلَالَةُ سَبَبُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ سَبَبُ الْغُفْرَانِ وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ تَأْكِيدٌ وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ شَبَّهَ الطَّلَبَ فِي تأكده بخبر الصادق الذي لابد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 مِنْ وُقُوعِهِ وَإِذَا شَبَّهَهُ بِالْخَبَرِ الْمَاضِي كَانَ آكَدَ وَمِنْهُ: عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مدا} وَالتَّقْدِيرُ: مَدَّهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا وَقَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ولنحمل خطاياكم} أَيْ: نَحْمِلُ قَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَبْلُغُ مِنَ الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ نَحْوُ إِنْ زُرْتِنَا فَلْنُكْرِمْكَ يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ كَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مَقْصُودُهُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ يُشْبِهُ الْخَبَرَ فِي إِيجَابِهِ وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كن فيكون} قَالَ: {كُنْ} لَفْظُهُ أَمْرٌ وَالْمُرَادُ الْخَبَرُ وَالتَّقْدِيرُ: يَكُونُ فَيَكُونُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُوَ يَكُونُ قَالَ: وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى رَفْعِ {فَيَكُونُ} وَرَفَضُوا فِيهِ النَّصْبَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَسَوَّغَ النَّصْبُ لِكَوْنِهِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى {نَقُولَ} فَيَجِيءُ النَّصْبِ على الفعل المنصوب لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا الْعَطْفُ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ {قال} ماض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 و {يكون} مُضَارِعًا فَلَا يُحْسِنُ عَطْفُهُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِهِمَا قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَارِسِيُّ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْهُ: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ النَّهْيِ كقوله: {لا تعبدون إلا الله} وَمَعْنَاهُ: لَا تَعْبُدُوا وَقَوْلِهِ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ولا تخرجون أنفسكم} أَيْ: لَا تَسْفِكُوا وَلَا تَخْرِجُوا وَقَوْلِهِ: {وَمَا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} أَيْ: وَلَا تُنْفِقُوا الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: إِطْلَاقُ الْأَمْرِ وَإِرَادَةُ التَّهْدِيدِ وَالتَّلْوِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي السِّتَّةَ عَشَرَ وَمَا زِيدَ عَلَيْهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ وَلَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا فِي أَقْسَامِهِ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَيْسَ بِفَاعِلٍ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {جدارا يريد أن ينقض} فَإِنَّهُ شَبَّهَ مَيْلَهُ لِلْوُقُوعِ بِشَبَهِ الْمُرِيدِ لَهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ تعالى: {الم. غلبت الروم} فَالْغَلَبَةُ وَاقِعَةٌ بِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ثُمَّ قَالَ: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} فَأَضَافَ الْغَلَبَ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَلَبَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمْ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِمْ لوقوعه بهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ومثله: {وآتى المال على حبه} {ويطعمون الطعام على حبه} فَالْحُبُّ فِي الظَّاهِرِ مُضَافٌ إِلَى الطَّعَامِ وَالْمَالِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِهِمَا وَمِثْلُهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مقام ربه جنتان} {ذلك لمن خاف مقامي} أَيْ: مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ وَإِمَّا لِوُقُوعِهِ فِيهِ كقوله تعالى: {يوما يجعل الولدان شيبا} وَإِمَّا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} {ينزع عنهما لباسهما} {وأحلوا قومهم دار البوار} كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ النَّزْعَ وَالْإِحْلَالَ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَهُمَا فَالْمَجَازُ إِفْرَادِيٌّ لَا إِسْنَادِيٌّ وقوله تعالى: {وما يجعل الولدان شيبا} أي: يجعل هو له فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ مُقَارَبَتُهُ وَمُشَارَفَتُهُ لَا حَقِيقَتُهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن} أَيْ: قَارَبْنَ بُلُوغَ الْأَجَلِ أَيِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَا يَكُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ بُلُوغُ الْأَجَلِ تَمَامُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 كقوله تعالى: {فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} أي: أتمن الْعِدَّةَ وَأَرَدْنَ مُرَاجَعَةَ الْأَزْوَاجِ وَلَوْ كَانَتْ مُقَارَبَتُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ حُكْمٌ فِي إِزَالَةِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّهَا بِيَدِ الزَّوْجِ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرُ رَجْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَيْضًا عَلَيْهَا حُكْمٌ قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ وَلَا تُسَمَّى عَاضِلًا حَتَّى يَمْنَعَهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} الْمَعْنَى: قَارَبَ وَبِهِ يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِيهَا إِنَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْأَجَلِ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حضر أحدكم الموت} أَيْ: قَارَبَ حُضُورُ الْمَوْتِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يروا العذاب الأليم. فيأتيهم بغتة} أَيْ: حَتَّى يُشَارِفُوا الرُّؤْيَةَ وَيُقَارِبُوهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّؤْيَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ: يَرَوْنَهُ فَلَا يَظُنُّونَهُ عَذَابًا {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} وَلَا يَظُنُّونَهُ وَاقِعًا بِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لَهُمْ بَغْتَةً بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَمِنْ دَقِيقِ هَذَا النوع قوله تعالى: {ونادى نوح ربه} الْمُرَادُ: قَارَبَ النِّدَاءَ لَا أَوْقَعَ النِّدَاءِ لِدُخُولِ الْفَاءِ فِي فَقَالَ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ النِّدَاءُ لَسَقَطَتْ وَكَانَ مَا ذُكِرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 تَفْسِيرًا لِلنِّدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا ربه قال} وَقَوْلِهِ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رب} لما فسر النداء سقطت الفاء وذكر النجاة أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ مُفَسَّرًا على مجمل كقوله: توضأ فغسل وجهه وفائدته ذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ ذَلِكَ فَرُدَّ الْقَصْدُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقَعْ لَا عَنْ قَصْدٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} أَيْ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ إِنْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا وَإِنَّمَا أُوِّلَ التَّرْكُ بِمُشَارَفَةِ التَّرْكِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْكِ لِأَنَّهُمْ بعد أَمْوَاتٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَإِرَادَةُ إِرَادَتِهِ كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ وَقَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا} أَيْ: إِذَا أَرَدْتُمْ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ سَبَبُ الْقِيَامِ {إذا قضى أمرا} أي: أراد {وإن حكمت فاحكم بينهم} أَيْ: أَرَدْتَ الْحُكْمَ وَمِثْلُهُ: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس} {إذا ناجيتم الرسول} أي أردتم مناجاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 {إذا طلقتم النساء} وقوله: {من يهد الله فهو المهتدي} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَلَقَدْ أَحْسَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشرط والجزاء وقوله: {وإذا قلتم فاعدلوا} أي: أردتم القول {والذين إذا أنفقوا} أي: أَرَادُوا الْإِنْفَاقَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَأْسِ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ -أَعْنِي الْبَيَاتَ وَالْقَيْلُولَةَ- لِأَنَّهَا وَقْتُ الْغَفْلَةِ وَالدَّعَةِ فَيَكُونُ نُزُولُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَشَدُّ وَأَفْظَعُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا آمَنَتْ قبلهم من قرية أهلكناها} أي: أردنا إهلاكها {فانتقمنا منهم فأغرقناهم} أَيْ: فَأَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَحِكْمَتُهُ أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا أَمْرًا نُقَدِّرُ فِيهِ إِرَادَتَنَا وَإِنْ كَانَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قالوا يا نوح قد جادلتنا} أَيْ: أَرَدْتَ جِدَالَنَا وَشَرَعْتَ فِيهِ وَكَانَ الْمُوجِبُ لِهَذَا التَّقْدِيرِ خَوْفَ التَّكْرَارِ لِأَنَّ جَادَلْتَ فَاعَلْتَ وَهُوَ يُعْطِي التَّكْرَارَ أَوْ أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ تُرِدِ مِنَّا غَيْرَ الْجِدَالِ لَهُ لَا النَّصِيحَةَ قُلْتُ: وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُوجَدُ بِقُدْرَةِ الْفَاعِلِ وَإِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ إِلَيْهِ كَمَا عُبِّرَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِمْ الْإِنْسَانُ لَا يَطِيرُ وَالْأَعْمَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 لا يبصر أي لا يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ وَالْإِبْصَارِ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَالْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ جَلَسَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ آخَرَ فَلَا يَزَالُ مَشْغُولًا بِالْوُضُوءِ وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلصَّلَاةِ وَفَسَادُهُ بَيِّنٌ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لِلتَّلَبُّسِ بِهِ والمراد دوامه كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا} هَكَذَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَصْلُ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَلَا بِالْحَالِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ الْمَعْدُومِ حَالَةَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ بَلْ تَحْصِيلًا لِلْمَعْدُومِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ حَالَةَ الْخِطَابِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَمْ لَا لِأَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخِطَابِ مِثْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا نَفْسُ الْمَأْمُورِ بِهِ والحاصل أن الكل مأمور بالإنشاء فالمؤمن ينشئ مَا سَبَقَ لَهُ أَمْثَالُهُ وَالْكَافِرُ يُنْشِئُ مَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ أَمْثَالُهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِطْلَاقُ اسْمُ الْبُشْرَى عَلَى الْمُبَشَّرِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بشراكم اليوم جنات} قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّقْدِيرُ: بُشْرَاكُمْ دُخُولُ جَنَّاتٍ أَوْ خُلُودُ جَنَّاتٍ لِأَنَّ الْبُشْرَى مَصْدَرٌ وَالْجَنَّاتُ ذَاتٌ فَلَا يُخْبَرُ بِالذَّاتِ عَنِ الْمَعْنَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وَنَحْوُهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَقُولِ عَلَى الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يقولون} وَمِنْهُ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} أَيْ: عَنْ مَدْلُولِ قَوْلِهِمْ وَمِنْهُ: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مما قالوا} أَيْ: مِنْ مَقُولِهِمْ وَهُوَ الْأُدْرَةُ وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} أي: مسميات {سبح اسم ربك الْأَعْلَى} أَيْ رَبَّكَ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أَيْ: لِمُقْتَضَى عَذَابِ اللَّهِ وَ {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مريم} تَجَوَّزَ بِالْكَلِمَةِ عَنِ الْمَسِيحِ لِكَوْنِهِ تَكَوَّنَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَجِيهًا فِي الدنيا والآخرة ومن المقربين} وَلَا تَتَّصِفُ الْكَلِمَةُ بِذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اسمه المسيح عيسى} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ وَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى فَالْمَعْنَى الْمُسَمَّى الْمُبَشَّرُ بِهِ المسيح بن مريم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَحْلُوفِ بِهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} أَيْ: لَا تَجْعَلُوا يَمِينَ اللَّهِ أَوْ قَسَمُ اللَّهِ مَانِعًا لِمَا تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بَيْنَ النَّاسِ إِطْلَاقُ الْهَوَى عَنِ الْمَهْوِيِّ ومنه: {ونهى النفس عن الهوى} أَيْ: عَمَّا تَهْوَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَلَا يَصِحُّ نَهْيُهَا عَنْ هَوَاهَا وَهُوَ مَيْلُهَا لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يُطَاقُ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ نَهْيِ النَّفْسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى التَّجَوُّزُ عَنِ الْمَجَازِ بِالْمَجَازِ وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَجَازَ الْمَأْخُوذَ عَنِ الْحَقِيقَةِ بِمَثَابَةِ الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجَازٍ آخَرَ فَتَتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ الْأَوَّلِ عَنِ الثَّانِي لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تواعدوهن سرا} فَإِنَّهُ مَجَازٌ عَنْ مَجَازٍ فَإِنَّ الْوَطْءَ تُجُوِّزَ عَنْهُ بِالسِّرِّ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ غَالِبًا إِلَّا فِي السِّرِّ وَتُجُوِّزَ بِالسِّرِّ عَنِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ فَالصَّحِيحُ لِلْمَجَازِ الْأَوَّلِ الْمُلَازَمَةُ وَالثَّانِي السَّبَبِيَّةُ وَالْمَعْنَى: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ عَقْدَ نِكَاحٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمله} إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ كَانَ مِنْ مَجَازِ الْمَجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَجَازٌ عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِمَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ وَالتَّعْبِيرُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَنِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْمَقُولِ عَنِ الْمَقُولِ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وَالْأَوَّلُ مِنْ مَجَازِ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللِّسَانِ مُسَبَّبٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْجَنَانِ قُلْتُ: وَهَذَا يُسَمِّيهِ ابْنُ السَّيِّدِ مَجَازَ الْمَرَاتِبِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا} فَإِنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ اللِّبَاسِ بَلِ الْمَاءُ الْمُنْبِتُ لِلزَّرْعِ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ الْغَزَلُ الْمَنْسُوجُ مِنْهُ اللِّبَاسُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْكِنَايَاتِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْقُرْآنِ اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الْكِنَايَةَ مِنَ الْبَرَاعَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهِيَ عِنْدُهُمْ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ قَالَ الطَّرْطُوسِيُّ: وَأَكْثَرُ أَمْثَالِهِمُ الْفَصِيحَةِ عَلَى مَجَارِي الْكِنَايَاتِ وَقَدْ أَلَّفَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُتُبًا فِي الْأَمْثَالِ وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ عَفِيفُ الْإِزَارِ طاهر الذيل ولم يُحْصِنْ فَرْجَهُ وَفِي الْحَدِيثِ: "كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ" فَكَنَّوْا عَنْ تَرْكِ الْوَطْءِ بِشَدِّ الْمِئْزَرِ وَكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالْعُسَيْلَةِ وَعَنِ النِّسَاءِ بِالْقَوَارِيرِ لِضَعْفِ قُلُوبِ النِّسَاءِ وَيُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِرَبَّةِ الْبَيْتِ وَعَنِ الْأَعْمَى بالمحجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وَالْمَكْفُوفِ وَعَنِ الْأَبْرَصِ بِالْوَضَّاحِ وَبِالْأَبْرَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خطبة النساء أو أكننتم} وَالْكِنَايَةُ عَنِ الشَّيْءِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِاسْمِهِ وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ: أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ إِثْبَاتَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَلَا بذكره بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مِنَ اللُّغَةِ وَلَكِنْ يَجِيءُ إلى المعنى هو تاليه ورديفه في الوجود فيومئ بِهِ إِلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَيَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ: "طَوِيلُ النجاد" و"كثير الرَّمَادِ" يَعْنُونَ طَوِيلَ الْقَامَةِ وَكَثِيرَ الضِّيَافَةِ فَلَمْ يذكروا المراد بلفظ الْخَاصِّ بِهِ وَلَكِنْ تَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِذِكْرِ مَعْنًى آخَرَ هُوَ رَدِيفُهُ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الْقَامَةَ إِذَا طَالَتْ طَالَ النِّجَادُ وَإِذَا كَثُرَ الْقِرَى كَثُرَ الرَّمَادُ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ أو مجاز فقال الطرطوسي في العمدة: قَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُودِ الْكِنَايَةِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي الْمَجَازِ فَمَنْ أَجَازَ وُجُودَ الْمَجَازِ فِيهِ أَجَازَ الْكِنَايَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَنْكَرَ هَذَا وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَجَازٍ لِأَنَّكَ اسْتَعْمَلْتَ اللَّفْظَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَأَرَدْتَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَهَذَا شَبِيهٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تقل لهما أف} أسباب الكناية وَلَهَا أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحدة} كِنَايَةً عَنْ آدَمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 ثَانِيهَا: فِطْنَةُ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ داود: {خصمان بغى بعضنا على بعض} فكنى داود يخصم عَلَى لِسَانِ مَلَكَيْنِ تَعْرِيضًا وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدٍ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي: زيد {ولكن رسول الله} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والحجارة} فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَلَّا تُعَانِدُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ فَتَمَسَّكُمْ هَذِهِ النَّارُ الْعَظِيمَةُ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} الْآيَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى: لَا تَظُنُّ أَنَّكَ مُقَصِّرٌ فِي إِنْذَارِهِمْ فَإِنَّا نَحْنُ الْمَانِعُونَ لَهُمْ مِنَ الإيمان فقد جعلناهم حطبا للنار ليقوى الْتِذَاذَ الْمُؤْمِنِ بِالنَّعِيمِ كَمَا لَا تَتَبَيَّنُ لَذَّةُ الصَّحِيحِ إِلَّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَرِيضِ ثَالِثُهَا: تَرْكُ اللَّفْظِ إِلَى مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نعجة ولي نعجة واحدة} فكنى بالمرأة عن النعجة كَعَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُكَنِّي بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فئة} كَنَّى بِالتَّحَيُّزِ عَنِ الْهَزِيمَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كفرا لن تقبل توبتهم} كَنَّى بِنَفْيِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُ يُرَادِفُهُ رَابِعُهَا: أَنْ يَفْحُشَ ذِكْرُهُ فِي السَّمْعِ فَيُكَنَّى عَنْهُ بِمَا لَا يَنْبُو عنه الطَّبْعِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كراما} أَيْ: كَنَّوْا عَنْ لَفْظِهِ وَلَمْ يُورِدُوهُ عَلَى صِيغَتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ قَوْمِ هود: {إنا لنراك في سفاهة} {قال يا قوم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العالمين} فَكَنَّى عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَحْسَنَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ لا تواعدوهن سرا} فَكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالسِّرِّ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فِي السِّرِّ غَالِبًا وَلَا يُسِرَّهُ -مَا عَدَا الْآدَمِيِّينَ- إِلَّا الْغُرَابُ فَإِنَّهُ يُسِرُّهُ وَيُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ أَسَرَّ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْحَاتِمِيِّ كَلَامًا فَقَالَ: لِيَكُنْ عِنْدَكَ أَخْفَى مِنْ سِفَادِ الْغُرَابِ وَمِنَ الرَّاءِ فِي كَلَامِ الْأَلْثَغِ فَقَالَ: نَعَمْ يَا سَيِّدَنَا وَمِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْجِمَاعِ بِاللَّمْسِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالرَّفَثِ وَالدُّخُولِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِنَّ قَالَ تَعَالَى: {فَالْآنَ باشروهن} فَكَنَّى بِالْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْجِمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إِذْ لَا يَخْلُوا الْجِمَاعُ عَنِ الْمُلَامَسَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 وَقَوْلُهُ فِي الْكِنَايَةِ عَنْهُنَّ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وأنتم لباس لهن} وَاللِّبَاسُ مِنَ الْمُلَابَسَةِ وَهِيَ الِاخْتِلَاطُ وَالْجِمَاعُ وَكَنَّى عَنْهُنَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} كِنَايَةٌ عَمَّا تَطْلُبُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ وَقَوْلُهُ تعالى: {فلما تغشاها حملت حملا خفيفا} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ وَابْنِهَا: {كَانَا يأكلان الطعام} فَكَنَّى بِأَكْلِ الطَّعَامِ عَنِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ لِأَنَّهُمَا منه مسببان إذ لابد لِلْآكْلِ مِنْهُمَا لَكِنِ اسْتُقْبِحَ فِي الْمُخَاطَبِ ذِكْرُ الْغَائِطِ فَكَنَّى بِهِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أحد منكم من الغائط} قُلْنَا: لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى خِطَابِ الْعَرَبِ وَمَا يَأْلَفُونَ وَالْمُرَادُ تَعْرِيفُهُمُ الْأَحْكَامَ فَكَانِ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ عَلَى أَنَّ الْغَائِطَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ النَّجْوِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ مِنَ الْأَرْضِ وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا قَضَاءَ حَاجَتِهِمْ أَبْعَدُوا عَنِ الْعُيُونِ إِلَى مُنْخَفَضٍ مِنَ الْأَرْضِ فَسُمِّيَ مِنْهُ لِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطعام} هُوَ الْمَشْهُورُ وَأَنْكَرَهُ الْجَاحِظُ وَقَالَ: بَلِ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ نَفْسُ أَكْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 الطَّعَامِ لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يَأْكُلُهُ وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ مُحْدِثًا كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَاعِمًا قَالَ الْخَفَاجِيُّ وَهَذَا صَحِيحٌ ويقال لهما: الكناية عن الغائط في تشنيع وبشاعة على من اتخذهما آلِهَةً فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسواق} فَهُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ قَالَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فُضِّلَ الْعَالِمُ الْمُتَصَدِّي لِلْخَلْقِ عَلَى الزَّاهِدِ الْمُنْقَطِعِ فَإِنَّ النَّبِيَّ كَالطَّبِيبِ وَالطَّبِيبُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَرْضَى فَلَوِ انْقَطَعَ عَنْهُمْ هَلَكُوا ومنه قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} كَنَّى بِهِ عَنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْعَذِرَةِ فَإِنَّ الْوَرَقَ إِذَا أُكِلَ انْتَهَى حَالُهُ إِلَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أَيْ: لِفُرُوجِهِمْ فَكَنَّى عَنْهَا بِالْجُلُودِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {والتي أحصنت فرجها} فَصَرَّحَ بِالْفَرْجِ؟ قُلْنَا: أَخْطَأَ مَنْ تَوَهَّمَ هُنَا الْفَرْجَ الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَاتِ وَأَحْسَنِهَا وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجِ الْقَمِيصِ أَيْ لَمْ يَعْلَقْ ثَوْبَهَا رِيبَةٌ فَهِيَ طَاهِرَةُ الْأَثْوَابِ وَفُرُوجُ الْقَمِيصِ أَرْبَعَةٌ: الْكُمَّانُ وَالْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَهُ مَعْنًى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وَأَلْطَفُ إِشَارَةً وَأَمْلَحُ عِبَارَةً مِنْ أَنْ يُرِيدَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهْمُ الْجَاهِلِ لَاسِيَّمَا وَالنَّفْخُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ بِأَمْرِ الْقُدُّوسِ فَأُضِيفَ الْقُدْسُ إِلَى الْقُدُّوسِ وَنُزِّهَتِ الْقَانِتَةُ الْمُطَهَّرَةُ عَنِ الظَّنِّ الْكَاذِبِ وَالْحَدْسِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ وَمِنْهُ وقوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين} يُرِيدُ الزُّنَاةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الزِّنَا وَقِيلَ: أَرَادَ طَرْحَ الْوَلَدِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ بَطْنَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَقْتَ الْحَمْلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وَإِنَّمَا يُوضَعُ فِي الْأُذُنِ السَّبَّابَةُ فَذَكَرَ الْإِصْبَعَ وَهُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ أَدَبًا لِاشْتِقَاقِهَا مِنَ السَّبِّ أَلَا تَرَاهُمْ كَنَّوْا عَنْهَا بِالْمُسَبِّحَةِ وَالدَّعَّاءَةِ وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ ذِكْرَ الْإِصْبَعِ هَنَا جَامِعٌ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا التَّنَزُّهُ عَنِ اللَّفْظِ الْمَكْرُوهِ وَالثَّانِي حَطُّ مَنْزِلَةُ الْكُفَّارِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِاللَّفْظِ الْمَحْمُودِ وَالْأَعَمُّ يُفِيدُ الْمَقْصُودَيْنِ مَعًا فَأَتَى بِهِ وَهُوَ لَفْظُ الْإِصْبَعِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِالتَّعْبِيرِ بِالْأَحْسَنِ مكان القبيح كما فِي حَدِيثِ: "مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ وَيَخْرُجْ" أَمَرَ بِذَلِكَ إِرْشَادًا إِلَى إِيهَامِ سَبَبٍ أَحْسَنَ مِنَ الْحَدَثِ وَهُوَ الرُّعَافُ وهو أدب حسن من شرع فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِخْفَاءِ الْقَبِيحِ وَقَدْ صَحَّ نهيه عليه السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 أن يقال لشجر العنب: الْكَرْمُ وَقَالَ: "إِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ" كَرِهَ الشَّارِعُ تَسْمِيَتَهَا بِالْكَرْمِ لِأَنَّهَا تُعْتَصَرُ مِنْهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ وَحَدِيثِ: "كَانَ يُصِيبُ مِنَ الرَّأْسِ وَهُوَ صَائِمٌ" قِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْلَةِ وَلَيْسَ لَفْظُ الْقُبْلَةِ مُسْتَهْجَنًا وَقَوْلِهِ: "إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءُ الدِّمْنِ" خَامِسُهَا: تَحْسِينُ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} فإن العرب كانت عَادَتِهِمُ الْكِنَايَةُ عَنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ بِالْبَيْضِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَبَيْضَةُ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ وَقَوْلُهُ تعالى: {وثيابك فطهر} وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ سَادِسُهَا: قَصْدُ الْبَلَاغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وهو في الخصام غير مبين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُنَّ يُنَشَّأْنَ فِي التَّرَفُّهِ وَالتَّزَيُّنِ وَالتَّشَاغُلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 عَنِ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقِيقِ الْمَعَانِي وَلَوْ أَتَى بِلَفْظِ النِّسَاءِ لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ وَالْمُرَادُ نفي ذَلِكَ -أَعْنِي الْأُنُوثَةَ- عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَكَوْنِهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: {فَمَا أصبرهم على النار} أَيْ: هُمْ فِي التَّمْثِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ بِهَذَا التَّعَجُّبِ سَابِعُهَا: قَصْدُ الْمُبَالِغَةِ فِي التَّشْنِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} فَإِنَّ الْغُلَّ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُخْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} لِأَنَّ جَمَاعَةً كَانُوا مُتَمَوِّلِينَ فَكَذَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ وَهُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {غلت أيديهم} فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَالْمُطَابَقَةِ لِلَّفْظِ وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ أَبْخَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُمْ تُغَلُّ أَيْدِيهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْإِسَارِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ وَأَغْلَالِ النَّارِ وَقَوْلُهُ: {بَلْ يداه مبسوطتان} كِنَايَةٌ عَنْ كَرَمِهِ وَثَنَّى الْيَدَ وَإِنْ أُفْرِدَتْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي السَّخَاءِ وَالْجُودِ ثَامِنُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَصِيرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تبت يدا أبي لهب وتب} أَيْ: جُهَنَّمِيٌّ مَصِيرُهُ إِلَى اللَّهَبِ وَكَقَوْلِهِ: {حَمَّالَةَ الحطب} أَيْ: نَمَّامَةً وَمَصِيرُهَا إِلَى أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لجهنم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 تَاسِعُهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ وَمِنْهُ الْكِنَايَةُ عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِلَفْظِ فَعَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا كانوا يفعلون} {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا عَاشِرُهَا: أَنْ يَعْمِدَ إِلَى جُمْلَةٍ وَرَدَ مَعْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فَيَأْخُذَ الْخُلَاصَةَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُفْرَدَاتِهَا بِالْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ فَتُعَبِّرَ بِهَا عَنْ مَقْصُودِكَ وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ اسْتَنْبَطَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَخَرَّجَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ على العرش استوى} فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى السَّرِيرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُلْكِ فَجَعَلُوهُ كِنَايَةً عَنْهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يوم القيامة} الْآيَةَ إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضِ وَالْيَمِينِ إِلَى جِهَتَيْنِ: حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا تَفْتَحُ بَابَ تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْخِدْمَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَابِ إِلَى نَعْلٍ وَخَلْعِهِ وَكَذَا نَظَائِرُهُ انْتَهَى وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ إِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ بِخِلَافِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ وَنَحْوِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْكِنَايَةِ قَرِينَةٌ كَالْمَجَازِ؟ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّهَا مَجَازٌ أَمْ لَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في قوله تعالى: {ولا ينظر إليهم} فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِنَّهُ مَجَازٌ عَنِ الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول: فلان لاينظر إِلَى فُلَانٍ تُرِيدُ نَفْيَ اعْتِدَادِهِ بِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ قَالَ: وَأَصْلُهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ الْكِنَايَةُ لِأَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالْإِنْسَانِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَأَعَارَهُ نَظَرَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ عبارة عن الاعتداء وَالْإِحْسَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَظَرٌ ثُمَّ جَاءَ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مُجَرَّدًا لِمَعْنَى الْإِحْسَانِ مَجَازًا عَمَّا وَقَعَ كِنَايَةً عَنْهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ انْتَهَى وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَجَازٌ وَبِهِ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عرضتم به من خطبة النساء} وَصَرَّحَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَرِينَةٍ الثَّانِي: قِيلَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تُكَنِّي عَنِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ يقبح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ذِكْرُهُ وَذَكَرُوا احْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقد أفضى بعضكم إلى بعض} أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَنَّى بِالْإِفْضَاءِ عَنِ الْإِصَابَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَنَّى عَنِ الْخُلْوَةِ وَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا تُكَنِّي عَمَّا يَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي اللَّفْظِ وَلَا يُقْبُحُ ذِكْرُ الْخُلْوَةِ وَهَذَا حَسَنٌ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِ الْعَرَبِ لَا تُكَنِّي إِلَّا عَمَّا يَقْبُحُ ذِكْرُهُ فَغَلَطٌ فَكَنَّوْا عَنِ الْقَلْبِ بِالثَّوْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {وثيابك فطهر} وغير ذلك مما سبق التعريض والتلويح وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَقِيلَ: إِنَّهُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى من طريق المفهوم وسمي تعويضا لِأَنَّ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِهِ يُفْهَمُ مِنْ عُرْضِ اللَّفْظُ أَيْ مِنْ جَانِبِهِ وَيُسَمَّى التَّلْوِيحَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُلَوِّحُ مِنْهُ لِلسَّامِعِ مَا يُرِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا ينطقون} لِأَنَّ غَرَضَهُ بِقَوْلِهِ: {فَاسْأَلُوهُمْ} عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَّضَ لَهُمْ بِهِ مِنْ عَجْزِ كَبِيرِ الْأَصْنَامِ عَنِ الْفِعْلِ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ إِجَابَتِهِمْ إِذَا سُئِلُوا وَلَمْ يرد بقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} نِسْبَةَ الْفِعْلِ الصَّادِرِ عَنْهُ إِلَى الصَّنَمِ فَدَلَالَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَجْزُ كَبِيرِ الْأَصْنَامِ عَنِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَمِنْ أَقْسَامِهِ أَنْ يُخَاطَبَ الشَّخْصُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ نَفْسِهِ أو مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 غيره كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} {ولئن اتبعت أهواءهم} {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} تَعْرِيضًا بِأَنَّ قَوْمَهُ أَشْرَكُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَزَلُّوا فيما مضى من الزمان لأن الرسول لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ فَأَبْرَزَ غَيْرَ الْحَاصِلِ فِي مَعْرِضِ الْحَاصِلِ ادِّعَاءً وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ من بعد ما جاءتكم البينات} فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالتَّعْرِيضَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الزَّلَلَ لَهُمْ لَا لِلْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَفِيهَا ثَلَاثَةُ: أُمُورٍ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ وَإِخْرَاجُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ وَاسْتِعْمَالُ الْمُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَأَمْرٌ رَابِعٌ وَهُوَ "إِنِ" الشَّرْطِيَّةَ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْمُلَازَمَةِ الَّتِي هِيَ لَازِمَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ الشَّرْطِ أَوْ وُجُوبِهِ أَوْ وُقُوعِهِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَرَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلَ الْخِطَابِ عَلَى غَيْرِهِ إِذْ لَا يلزم من فرض أمر لابد مِنْهُ صِحَّةُ وُقُوعِهِ بَلْ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُحَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولد فأنا أول العابدين} إِذَا جُعِلَتْ شَرْطِيَّةً لَا نَافِيَةً وَمِنْهُ: {إِنْ كنا فاعلين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} المراد: مالكم لا تعبدون بدليل قوله: {وإليه ترجعون} وَلَوْلَا التَّعْرِيضُ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ وَإِلَيْهِ أُرْجَعُ وَكَذَا قوله: {أأتخذ من دونه آلهة} وَالْمُرَادُ: أَتَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ولذلك قيل: {آمنت بربكم فاسمعون} دون ربي واتبعه فَاسْمَعُوهُ وَوَجْهُ حُسْنِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِعْلَامُ السَّامِعِ عَلَى صُورَةٍ لَا تَقْتَضِي مُوَاجَهَتَهُ بِالْخِطَابِ الْمُنْكَرِ كَأَنَّكَ لَمْ تَعْنِهِ وَهُوَ أَعْلَى فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَأَقْرَبُ لِلْقَبُولِ وَأَدْعَى لِلتَّوَاضُعِ وَالْكَلَامُ مِمَّنْ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَزَّلَهُ بِلُغَتِهِمْ وَتَعْلِيمًا لِلَّذِينِ يَعْقِلُونَ قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تعملون} فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ فِي قَالَبِ التَّلَطُّفِ وَكَانَ حَقُّ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَوْلَاهُ أَنْ يُقَالَ: لَا تَسْأَلُونَ عَمَّا عَمِلْنَا وَلَا نَسْأَلُ عَمَّا تُجْرِمُونَ وَكَذَا مِثْلُهُ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} حيث ردد الضلال بينهم وبين أنفسهم وَالْمُرَادُ: إِنَّا عَلَى هُدًى وَأَنْتُمْ فِي ضَلَالٍ وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِئَلَّا تَصِيرَ هُنَا نُكْتَةٌ هُوَ أَنَّهُ خُولِفَ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ "عَلَى" وَ"فِي" بِدُخُولِ "عَلَى" عَلَى الحق و"في" عَلَى الْبَاطِلِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ كَأَنَّهُ عَلَى فَرَسٍ جَوَادٌ يَرْكُضُ بِهِ حَيْثُ أَرَادَ وَصَاحِبُ الْبَاطِلِ كَأَنَّهُ مُنْغَمِسٌ فِي ظَلَامٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الْخِطَابَ الْمُنْصِفَ أَيْ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 يُنْصِفَ الْمُخَاطَبَ إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ اسْتِدْرَاجًا استدراجه الْخَصْمِ إِلَى الْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْجَدَلِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمُغَالَطَاتِ الْخِطَابِيَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم} الْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِذَمِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَشْيَةُ وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ لِفَرْطِ عِنَادِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أُذُنٌ تَسْمَعُ وَلَا قَلْبٌ يَعْقِلُ وَأَنَّ الْإِنْذَارَ لَهُ كَلَا إِنْذَارٍ وَأَنَّهُ قَدْ أُنْذِرَ مَنْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَتْ لَهُ وقوله: {إنما يتذكر أولو الألباب} الْقَصْدُ التَّعْرِيضُ وَأَنَّهُمْ لِغَلَبَةِ هَوَاهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم} نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّهُ قَالَ: "مَا بَيْنَ أَخْشَبَيْهَا -أَيْ جَبَلَيْهَا يَعْنِي مَكَّةَ- أَعَزُّ مِنِّي وَلَا أَكْرَمُ" وَقِيلَ: بَلْ خُوطِبَ بِذَلِكَ استهزاء التوجيه وَأَمَّا التَّوْجِيهُ وَهُوَ مَا احْتَمَلَ مَعْنِيِّينَ وَيُؤْتَى بِهِ عِنْدَ فِطْنَةِ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُخْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمُوسَى وَأَنْ يَكُونَ لِفِرْعَوْنَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَبِهَذَا تَخَلَّصَتْ أُخْتُ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّكِ عَرَفْتِهِ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ نَاصِحُونَ لِلْمَلِكِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا فِي كلامها المحكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وَهَذَا مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْحِكَايَةَ مُطَابَقَةٌ لِمَا قَالَتْهُ وَإِنْ كَانَتْ بِلُغَةٍ أُخْرَى وَنَظِيرُهُ جَوَابُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِمَنْ قَالَ لَهُ: مَنْ كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ أَمْ عَلِيٌّ؟ فَقَالَ: مَنْ كَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَهُ وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مُشْكِلَاتُ القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي أَقْسَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لَا تَنْحَصِرُ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِحَصْرِهَا وَحِكَايَةُ ابْنِ السَّيِّدِ عَنْ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ فِي زَمَانِهِ وَقِيلَ: قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَغَيْرُ خَبَرٍ وَقِيلَ: عَشَرَةٌ: نِدَاءٌ وَمَسْأَلَةٌ وَأَمْرٌ وَتَشَفُّعٌ وَتَعَجُّبٌ وَقَسَمٌ وَشَرْطٌ وَوَضْعٌ وَشَكٌّ وَاسْتِفْهَامٌ وَقِيلَ: تِسْعَةٌ وَأَسْقَطُوا الِاسْتِفْهَامَ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ وَأَسْقَطُوا التَّشَفُّعَ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَقِيلَ: سَبْعَةٌ وَأَسْقَطُوا الشَّكَّ لِأَنَّهُ فِي قِسْمِ الْخَبَرِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ يَرَى أَنَّهَا سِتَّةٌ أَيْضًا وَهِيَ عِنْدُهُ الْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالنِّدَاءُ وَالتَّمَنِّي وَقِيلَ: خَمْسَةٌ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ وَالتَّصْرِيحُ وَالطَّلَبُ وَالنِّدَاءُ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ وَالْقَصْدُ بِهِ إِفَادَةُ الْمُخَاطَبِ وَقَدْ يُشْرَبُ مَعَ ذَلِكَ مَعَانِي أُخَرُ مِنْهَا: التَّعَجُّبُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَهُوَ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى أضرابه بوصف وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: اسْتِعْظَامُ صِفَةٍ خَرَجَ بِهَا الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ عَنْ نَظَائِرِهِ نَحْوُ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا! وَأَحْسِنْ بِهِ! اسْتَعْظَمْتُ حُسْنَهُ عَلَى حُسْنِ غَيْرِهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الصَّفِّ: مَعْنَى التَّعَجُّبِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ نَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْمَطْلُوبُ فِي التَّعَجُّبِ الْإِبْهَامُ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِمَّا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَكُلَّمَا اسْتُبْهِمَ السَّبَبُ كَانَ التَّعَجُّبُ أَحْسَنَ قَالَ وَأَصْلُ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الْخَفِيِّ سَبَبُهُ وَالصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تُسَمَّى تَعَجُّبًا يَعْنِي مَجَازًا قَالَ: وَمِنْ أَجْلِ الْإِبْهَامِ لَمْ تَعْمَلْ نِعْمَ إِلَّا فِي الْجِنْسِ مِنْ أَجْلِ التَّفْخِيمِ لِيَقَعَ التَّفْسِيرُ عَلَى نَحْوِ التَّفْخِيمِ بِالْإِضْمَارِ قَبْلَ الذَّكْرِ ثُمَّ قَدْ وَضَعُوا لِلتَّعَجُّبِ صِيَغًا مِنْ لَفْظِهِ وَهِيَ: "ما أفعله" و"أفعل به وصيغا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ نَحْوُ: "كَبُرَ" فِي نَحْوِ: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} {كبر مقتا عند الله} {كيف تكفرون} وَاحْتَجَّ الثَّمَانِينِيُّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أسمع بهم وأبصر} تَقْدِيرُهُ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ! وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَتَعَجَّبْ بِهِمْ وَلَكِنْ دَلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قِيلَ: لَا يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَلَا يُقَالُ: مَا أَعْظَمَ اللَّهَ! لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى: شَيْءٌ عَظَّمَ اللَّهَ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ صِيَغِ التَّعَجُّبِ وَصِفَاتُ اللَّهِ تعالى قديمة وقيل: بجوازه باعتبار أنه يجب تَعْظِيمُ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَهُوَ يَرْجِعُ لِاعْتِقَادِ الْعِبَادِ عَظَمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: مَا أَقْدَرَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِي عَلَى شَحَطٍ مَنْ دَارُهُ الْحُزْنُ مِمَّنْ دَارُهُ صُولُ وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: هَذَا أَعْرَابِيٌّ جَاهِلٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَقَالَ بعض المحققين: التعجب إِنَّمَا يُقَالُ لِتَعْظِيمِ الْأَمْرِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ وَلَا يُخْطَرُ بِالْبَالِ أَنَّ شَيْئًا صَيَّرَهُ كَذَلِكَ وَخَفِيَ عَلَيْنَا فَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ التَّعَجُّبُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ: هَلْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ التَّعَجُّبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ: بِالْمَنْعِ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ اسْتِعْظَامٌ وَيَصْحَبُهُ الْجَهْلُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي الْمُقَرِّبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 قَالَ: فَإِنْ وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ صُرِفَ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أَيْ: هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: بالجواز لقوله: {فما أصبرهم على النار} إِنْ قُلْنَا: "مَا" تَعَجُّبِيَّةٌ لَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: {بل عجبت} فِي قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ بِالضَّمِّ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ وَمَا وَقَعَ مِنْهُ أُوِّلَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُخَاطَبِ أَيْ: عَلِمْتُ أَسْبَابَ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ الْعِبَادَ فَسَمَّى الْعِلْمَ بِالْعَجَبِ عَجَبًا وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفُّ عَلَى خِلَافٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّعَجُّبِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ خَفَاءُ سَبَبِهِ فيتحيز فيه المتعجب منه أولا؟ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ صِيغَةُ التَّعَجُّبِ إِلَّا قوله: {فما أصبرهم على النار} وقوله: {قتل الإنسان ما أكفره} و {يا أيها الإنسان ما أغرك} فِي قِرَاءَةِ مَنْ زَادَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: التَّعَجُّبُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَلِهَذَا تَلَطَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّعَجُّبِ وَمَجِيءُ التَّعَجُّبِ مِنَ اللَّهِ كَمَجِيءِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَالتَّرَجِّي وَإِنَّمَا هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ أَيْ هَؤُلَاءِ عِنْدَكُمْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تَقُولُوا لَهُمْ هَذِهِ وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ سِيبَوَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى} قَالَ: الْمَعْنَى: اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا قُلْتُ: وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَيْضًا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} {ويل للمطففين} فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ إِنَّهُ دُعَاءٌ ها هنا لأن الكلام بذلك واللفظ به قَبِيحٌ وَلَكِنَّ الْعِبَادَ إِنَّمَا كُلِّمُوا بِكَلَامِهِمْ وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَعَلَى مَا يَعْنُونَ فَكَأَنَّهُ -والله أعلم- قيل لهم: {ويل للمطففين} و {ويل يومئذ للمكذبين} أَيْ: هَؤُلَاءِ مِمَّنْ وَجَبَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يُقَالُ لِصَاحِبِ الشَّرِّ وَالْهَلَكَةِ فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْهَلَكَةِ وَوَجَبَ لَهُمْ هَذَا انْتَهَى وَمِنْهَا: الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تعالى: {والمطلقات يتربصن} {الوالدات يرضعن} فَإِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُ خَبَرٌ وَإِلَّا لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ وَسَبَقَ فِي الْمَجَازِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وَمِنْهَا: النَّهْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المطهرون} وَمِنْهَا: الْوَعْدُ كَقَوْلِهِ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} وَمِنْهَا: الْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي منقلب ينقلبون} وَمِنْهَا: الْإِنْكَارُ وَالتَّبْكِيتُ نَحْوُ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العزيز الكريم} وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين} أَيْ: أَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ وَرُبَّمَا كَانَ اللَّفْظُ خبرا والمعنى شرطا وجزاء كقوله: {إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون} فَظَاهِرُهُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى: إِنَّا إِنْ نَكْشِفْ عَنْكُمُ العذاب تعودوا ومنه قوله: {الطلاق مرتان} مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مَرَّتَيْنِ فَلْيُمْسِكْهَا بَعْدَهُمَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحْهَا بِإِحْسَانٍ وَمِنْهَا: التَّمَنِّي وَكَلِمَتُهُ الْمَوْضُوعَةُ له "ليت" وقد تستعمل ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ أَحَدُهَا: "هَلْ" كَقَوْلِهِ: {فَهَلْ لَنَا من شفعاء فيشفعوا لنا} حُمِلَتْ هَلْ عَلَى إِفَادَةِ التَّمَنِّي لِعَدَمِ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِ شَفِيعٍ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ فَيَتَوَلَّدُ التَّمَنِّي بِمَعُونَةِ قَرِينَةِ الْحَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وَالثَّانِي: "لَوْ" سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ "وَدَّ " كَقَوْلِهِ تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنوا} بِالنَّصْبِ أَوْ لَمْ تَكُنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} وَقَوْلِهِ: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} {وأن لي كرة فأكون} وَالثَّالِثُ: "لَعَلَّ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَاخْتُلِفَ: هَلِ التَّمَنِّي خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ أَوْ لَيْسَ بِخَبَرٍ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ؟ قَوْلَانِ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ حَكَاهُمَا ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ وَاسْتَشْكَلَ دُخُولَ التَّكْذِيبِ فِي جَوَابِهِ وَفِي قَوْلِهِ تعالى: {ليتنا نرد ولا نكذب} إلى قوله: {وإنهم لكاذبون} وَأَجَابَ بِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِدَةِ فَدَخَلَهُ التَّكْذِيبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: التَّمَنِّي حَقِيقَةً لَا يَصِحُّ فِيهِ الْكَذِبُ وَإِنَّمَا يَرِدُ الْكَذِبُ فِي التَّمَنِّي الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدَ صَاحِبِهِ وُقُوعُهُ فَهُوَ إِذَنْ وَارِدٌ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ ظَنٌّ وَهُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ قَالَ: وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي قوله: {وإنهم لكاذبون} أَنَّ مَا تَمَنَّوْا لَيْسَ بِوَاقِعٍ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى ذَمٌّ بَلِ التَّكْذِيبُ وَرَدَ عَلَى إِخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ وَمِنْهَا: التَّرَجِّي وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي أَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمُمَكِنَاتِ وَالتَّمَنِّيَ يَدْخُلُ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَمِنْهَا: النِّدَاءُ وَهُوَ طَلَبُ إِقْبَالِ الْمَدْعُوِّ عَلَى الدَّاعِي بِحَرْفٍ مَخْصُوصٍ وَإِنَّمَا يَصْحَبُ في الأكثر الأمر والنهي كقوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} {يا أيها النبي اتق الله} {يا عباد فاتقون} {ويا قوم استغفروا ربكم} {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله} {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم} وَرُبَّمَا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ جُمْلَةَ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وَإِذَا جَاءَتْ جُمْلَةُ الْخَبَرِ بَعْدَ النِّدَاءِ تَتْبَعُهَا جملة الأمر كما في قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} وَقَدْ تَجِيءُ مَعَهُ الْجُمَلُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالْخَبَرِيَّةُ كَقَوْلِهِ تعالى في الخبر: {يا عباد لا خوف عليكم} وفي الاستفهام: {يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تفعلون} {يا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَهُنَا فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ نِدَاءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعْقُبُهُ فَهْمٌ فِي الدِّينِ إِمَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي عُقِدَتْ بِهَا سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ وَإِمَّا مَوَاعِظُ وَزَوَاجِرُ وَقَصَصٌ لِهَذَا الْمَعْنَى كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ وَقَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ بِهِ فَكَانَ حَقُّ هَذِهِ أَنْ تُدْرَكَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ الْبَلِيغَةِ الثَّانِيَةُ: النِّدَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْبَعِيدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} لَطِيفَةٌ: فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا نَادَاهُ نَاجَاهُ أَيْضًا وَالنِّدَاءُ مُخَاطَبَةُ الْأَبْعَدِ وَالْمُنَاجَاةُ مُخَاطَبَةُ الْأَقْرَبِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ اللَّطِيفَةِ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مخاطبته لآدم وحواء بقوله: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وفي موضع: {ويا آدم اسكن} ثُمَّ لَمَّا حَكَى عَنْهُمَا مُلَابَسَةَ الْمُخَالَفَةِ قَالَ في وصف خطابه لهما: {وناداهما ربهما} فَأَشْعَرَ هَذَا اللَّفْظُ بِالْبُعْدِ لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ كَمَا أَشْعَرَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ بِالْقُرْبِ عِنْدَ السَّلَامَةِ مِنْهَا وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ النِّدَاءُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ مَجَازًا فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: الْإِغْرَاءُ وَالتَّحْذِيرُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} وَالْإِغْرَاءُ أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْرِيضُ وَلِهَذَا خَصُّوا به المخاطب الثاني: الاختصاص وهوكالنداء إِلَّا أَنَّهُ لَا حَرْفَ فِيهِ الثَّالِثُ: التَّنْبِيهُ نحو: {يا ليتني مت قبل هذا} لِأَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ يَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ وَقَالَ النَّحَّاسُ في قوله تعالى: {يا ويلتى} نِدَاءٌ مُضَافٌ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: هَذَا وَقْتُ حُضُورِ الْوَيْلِ وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {يا حسرة على العباد} مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَسْرَةُ مِمَّا يَصِحُّ نَدَاهُ لَكَانَ هَذَا وَقْتُهَا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ النِّدَاءَ خَبَرٌ أَمْ لَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ: ذَهَبَ الْجَمِيعُ إِلَى أَنَّ قَوْلَكَ: يَا زَيْدُ لَيْسَ بِخَبَرٍ مُحْتَمِلٍ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِشَارَةِ وَالتَّصْوِيتِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِكَ: يَا فَاسِقُ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ أَيْضًا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 الْفَارِسِيُّ: خَبَرٌ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ نِسْبَتَهُ لِلْفِسْقِ وَمِنْهَا: الدعاء نحو: {تبت يدا أبي لهب وتب} وقوله: {قاتلهم الله} {حصرت صدورهم} {ويل للمطففين} قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا دُعَاءٌ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الطَّرَاوَةِ لِاسْتِحَالَتِهِ هُنَا وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ لِلْخَلْقِ وَإِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ كَمَا فِي الرَّجَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ فَائِدَةٌ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاسْتِعْطَافَ نَحْوُ تَاللَّهَ هَلْ قَامَ زَيْدٌ قَسَمٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ لِكَوْنِهِ خَبَرًا الاستخبار وهو الاستفهام الثَّانِي: الِاسْتِخْبَارُ وَهُوَ طَلَبُ خَبَرِ مَا لَيْسَ عندك وهو بمعنى الاستفهام أَيْ: طَلَبُ الْفَهْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاسْتِخْبَارَ مَا سُبِقَ أَوَّلًا وَلَمْ يُفْهَمْ حَقَّ الْفَهْمِ فَإِذَا سَأَلَتْ عَنْهُ ثَانِيًا كَانَ اسْتِفْهَامًا حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ طَلَبَ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ تَحْصِيلَهُ فِي الذِّهْنِ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ حَقِيقَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 إِلَّا إِذَا صَدَرَ مِنْ شَاكٍّ مُصَدِّقٍ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ غَيْرَ الشَّاكِّ إِذَا اسْتَفْهَمَ يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِذَا لَمْ يُصَدِّقْ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ انْتَفَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَفِي الِاسْتِفْهَامِ فَوَائِدُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: مَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ حَاصِلٌ فَيَسْتَفْهِمُ عَنْهُ نَفْسَهُ تُخْبِرُهُ بِهِ إِذْ قَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ عِنْدَهَا فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ من الله حديثا} وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} {فهل أنتم مسلمون} وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ إِذَا اسْتَفْهَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَنْهُ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يَسْتَفْهِمُ خَلْقَهُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنَّمَا يَسْتَفْهِمُهُمْ لِيُقَرِّرَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَقَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَهَذَا أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ انْفَرَدَ بِهِ خِطَابُ الْقُرْآنِ وَهُوَ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مُخْتَلِفٌ الثَّانِيَةُ: الِاسْتِفْهَامُ إِذَا بُنِيَ عَلَيْهِ أَمْرٌ قَبْلَ ذِكْرِ الْجَوَابِ فُهِمَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى جَوَابِهِ أَيَّ جَوَابٍ كَانَ لِأَنَّ سَبْقَهُ عَلَى الْجَوَابِ يَشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ مَنْ يُذْكَرُ فِي الْجَوَابِ لِئَلَّا يَكُونَ إِيرَادُهُ قَبْلَهُ عَبَثًا فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ تَعْمِيمًا نَحْوُ: "مَنْ جَاءَكَ فَأُكْرِمَهُ" بِالنَّصْبِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ قَبْلَ ذِكْرِ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ "أُكْرِمَهُ" عُلِمَ أَنَّهُ يُكْرِمُ مَنْ يَقُولُ الْمُجِيبُ: إِنَّهُ جَاءَ أَيْ جَاءَ كَانَ وَكَذَا حُكْمُ "مَنْ ذَا جَاءَكَ أَكْرِمْهُ" بالجزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 الثَّالِثَةُ: قَدْ يَخْرُجُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِأَنْ يَقَعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَيَسْتَغْنِي عَنْ طَلَبِ الْإِفْهَامِ أقسام الاستفهام وهو قسمان: بمعنى الخبر وبمعنى الإنشاء الاستفهام بمعنى الخبر الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى الْخَبَرِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيٌ وَالثَّانِي: إِثْبَاتٌ فَالْوَارِدُ لِلنَّفْيِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالْوَارِدُ لِلْإِثْبَاتِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بالأول إنكار المخاطب وبالثاني إقراره به استفهام الإنكار فَالْأَوَّلُ: الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْأَدَاةِ مَنْفِيٌّ وَلِذَلِكَ تَصْحَبُهُ "إِلَّا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} وقوله تعالى: {وهل نجازي إلا الكفور} وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ الْمَنْفِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أَيْ: لَا يَهْدِي وَهُوَ كَثِيرٌ وَمِنْهُ: {أَفَأَنْتَ تنقذ من في النار} أَيْ: لَسْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ {أَفَأَنْتَ تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 {أفغير الله أبتغي حكما} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أَيْ: لَا نُؤْمِنُ وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ ولكم البنون} أي: لا يكون هذا وقوله تعالى: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} أَيْ: مَا أُنْزِلَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أَيْ: مَا شَهِدُوا ذَلِكَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تسمع الصم أو تهدي العمي} أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعاء} وقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} أَيْ: لَمْ نَعْيَ بِهِ وَهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْكَارَ قَدْ يَجِيءُ لِتَعْرِيفِ الْمُخَاطَبِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُدَّعَى مُمْتَنَعٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قُدْرَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العمي} لِأَنَّ إِسْمَاعَ الصُّمِّ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِسْمَاعَهُمْ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ وَإِنَّمَا قُدِّمَ الِاسْمُ فِي الْآيَةِ وَلَمْ يَقُلْ: "أَتُسْمِعُ الصُّمَّ" إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارٍ مُوَجَّهٍ عَنْ تَقْدِيرِ ظَنٍّ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِإِسْمَاعِ مَنْ بِهِ صَمَّمٌ وَأَنَّهُ ادَّعَى الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ إنكار الفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وَفِيهِ دُخُولُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْمُضَارِعِ فَإِذَا قُلْتَ أَتَفْعَلُ أَوْ أَأَنْتَ تَفْعَلُ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْكَارُ وُجُودِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لها كارهون} وَالْمَعْنَى: لَسْنَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ هَذَا الْإِلْزَامُ وَإِنْ عَبَّرْنَا بِفِعْلِ ذَلِكَ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بَلِ الْمَعْنَى إِنْكَارُ أَصْلِ الْإِلْزَامِ وَالثَّانِي: قَوْلُكُ لِمَنْ يَرْكَبُ الْخَطَرَ: أَتَذْهَبُ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ؟ انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَاسْتَبْصِرْ فَإِذَا قَدَّمَتَ الْمَفْعُولَ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى كَوْنِهِ بِمَثَابَةِ أَنْ يُوقَعَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {قل أغير الله أتخذ وليا} وقوله: {أغير الله تدعون} الْمَعْنَى: أَغَيْرَ اللَّهِ بِمَثَابَةِ مَنْ يُتَّخَذُ وَلَّيًا ومنه: {أبشرا منا واحدا نتبعه} لِأَنَّهُمْ بَنَوْا كَفْرَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَتَّبِعُ صِيغَةَ الْمُسْتَقْبَلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ نَحْوُ: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا} أو للاستقبال نحو: {أهم يقسمون رحمت ربك} الثَّانِي: قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْكَارَ التَّكْذِيبُ لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّ المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه كقوله تعالى: {أصطفى البنات على البنين} {ألكم الذكر وله الأنثى} {أإله مع الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وَسَوَاءٌ كَانَ زَعْمُهُمْ لَهُ صَرِيحًا مِثْلُ: {أَفَسِحْرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون} أو التزاما مثل: {أشهدوا خلقهم} فَإِنَّهُمْ لَمَّا جَزَمُوا بِذَلِكَ جَزْمَ مَنْ يُشَاهِدُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ شَهِدَ خَلْقَهُمْ وَتَسْمِيَةُ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مِنْ أَنْكَرَ إِذَا جَحَدَ وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى: "لَمْ يَكُنْ" كقوله تعالى: {أفأصفاكم} أو بمعنى: "لا يكون" نحو: {أنلزمكموها} وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْكَارَ قِسْمَانِ إِبْطَالِيٌّ وَحَقِيقِيٌّ: فَالْإِبْطَالِيُّ: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا غَيْرَ وَاقِعٍ وَمُدَّعِيهِ كَاذِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَالْحَقِيقِيُّ: يَكُونُ مَا بَعْدَهَا واقع وأن فاعله ملوم نحو: {أتعبدون ما تنحتون} {غير الله تدعون} {أإفكا آلهة} {أتأتون الذكران} {أتأخذونه بهتانا} استفهام التقرير وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيرُ: حَمْلُكَ الْمُخَاطَبَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَمْرٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي الْخَاطِرِيَّاتِ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ بِـ "هَلْ" وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 *جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط* و"هل" لَا تَقَعُ تَقْرِيرًا كَمَا يَقَعُ غَيْرُهَا مِمَّا هو للاستفهام وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي قوله تعالى: {هل يسمعونكم} إِلَى أَنَّ "هَلْ" تُشَارِكُ الْهَمْزَةَ فِي مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَبَا عَلِيٍّ أَبَى ذَلِكَ وَهُوَ مَعْذُورٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ قبيل الإنكار وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ اسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِ لَا يَكُونُ بِـ "هَلْ" إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْهَمْزَةُ ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أن "هل" تأتي تقريرا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} وَالْكَلَامُ مَعَ التَّقْرِيرِ مُوجَبٌ وَلِذَلِكَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْمُوجَبِ وَيُعْطَفُ عَلَى صَرِيحِ الْمُوجَبِ فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فهدى} وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وزرك} {ألم يجعل كيدهم في تضليل} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا علما} عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي النَّظْمِ حَيْثُ جَعَلَهَا مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} وَيَجِبُ أَنْ يَلِيَ الْأَدَاةَ الشَّيْءُ الَّذِي تَقَرَّرَ بِهَا فَتَقُولُ فِي تَقْرِيرِ الْفِعْلِ: "أَضَرَبْتَ زَيْدًا" وَالْفَاعِلُ نَحْوُ: "أَأَنْتَ ضَرَبْتَ" أَوِ الْمَفْعُولُ "أَزَيْدًا ضَرَبْتَ" كَمَا يَجِبُ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ وَقَوْلِهِ تعالى: {أأنت فعلت} يَحْتَمِلُ الِاسْتِفْهَامَ الْحَقِيقِيَّ بِأَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوا أنه الفاعل والتقرير بِأَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا وَلَا يَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَنِ الْفِعْلِ وَلَا تَقْرِيرًا لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلِهِ وَلِأَنَّهُ أَجَابَ بِالْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} وَقِيلَ: أَرَادَ التَّقْرِيرَ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ لَا التَّقْرِيرَ بِالنَّفْيِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَيُّهَا الْمُنْكِرُ لِلنَّسْخِ! وَحَقِيقَةُ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالْإِنْكَارُ نَفْيٌ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الْمَنْفِيِّ وَنَفْيُ الْمَنْفِيِّ إِثْبَاتٌ وَالَّذِي يُقَرَّرُ عِنْدَكَ أَنَّ مَعْنَى التَّقْرِيرِ الْإِثْبَاتُ قَوْلُ ابْنُ السَّرَّاجِ: فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَى "لَيْسَ" أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ كَانَتْ تَقْرِيرًا وَدَخَلَهَا مَعْنَى الْإِيجَابُ فَلَمْ يَحْسُنْ مَعَهَا "أَحَدٌ" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 لِأَنَّ أَحَدًا إِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ حَقِيقَةِ النَّفْيِ لَا تَقُولُ: أَلَيْسَ أَحَدٌ فِي الدَّارِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى قَوْلِكَ: أَحَدٌ فِي الدَّارِ وأحد لا تستعمل في الواجب وأمثلته كثيرة كقوله تعالى: {ألست بربكم} أَيْ: أَنَا رَبُّكُمْ وَقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} {أوليس الذي خلق السماوات والأرض} {أليس الله بكاف عبده} {أليس الله بعزيز ذي انتقام} {أليس في جهنم مثوى للكافرين} {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب} وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَنْقُصُ الرطب إذا جف" وقوله جَرِيرٍ: *أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا* وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَعْلِهِمُ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِشْكَالًا لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ النَّفْيِ لَجَازَ أَنْ يُجَابَ بِنَعَمْ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: "نَعَمْ" كَفَرُوا وَلَمَا حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ وَلَوْ لَمْ تُفِدْ لَفْظَةُ الْهَمْزَةِ اسْتِفْهَامًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْجَوَابُ إِذْ لَا سُؤَالَ حِينَئِذٍ وَالْجَوَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ يَدْخُلُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 إِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ النَّفْيِ هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا؟ فَيَبْقَى النَّفْيُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ لِلتَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {ألم يجدك يتيما} فَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ نَعَمْ فِي جَوَابِهِ إِذَا أَرَدْتَ إِيجَابَهُ بَلْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ بَلَى وَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ التَّقْرِيرُ فَلِلْكَلَامِ حِينَئِذٍ لَفْظٌ وَمَعْنًى فَلَفْظُهُ نَفْيٌ دَاخِلٌ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ وَمَعْنَاهُ الْإِثْبَاتُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى لَفْظِهِ تُجِيبُهُ بِبَلَى وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ إِثْبَاتًا تُجِيبُهُ بِنَعَمْ وَقَدْ أَنْكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ كَوْنَ الْهَمْزَةِ لِلْإِيجَابِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُخَالِفُ الْوَاجِبَ وَقَالَ: إِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى "مَا" أَوْ "لَيْسَ" يَكُونُ تَقْرِيرًا وَتَحْقِيقًا فَالتَّقْرِيرُ: كقوله تعالى: {أنت قلت للناس} {أأنت فعلت} وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا الثَّانِي: الْإِثْبَاتُ مَعَ الِافْتِخَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {أَلَيْسَ لي ملك مصر} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 الثَّالِثُ: الْإِثْبَاتُ مَعَ التَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تكن أرض الله واسعة} أَيْ: هِيَ وَاسِعَةٌ فَهَلَّا هَاجَرْتُمْ فِيهَا الرَّابِعُ: مَعَ الْعِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعَ سِنِينَ وَمَا أَلْطَفَ مَا عَاتَبَ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عنك لم أذنت لهم} وَلَمْ يَتَأَدَّبَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْخَامِسُ: التَّبْكِيتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين} هُوَ تَبْكِيتٌ لِلنَّصَارَى فِيمَا ادَّعُوهُ كَذَا جَعَلَ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ نَوْعِ التَّقْرِيرِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ السَّادِسُ: التَّسْوِيَةُ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةٍ يَصِحُّ حُلُولُ الْمَصْدَرِ مَحَلَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أم لم تنذرهم} أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ مُجَرَّدَةً لِلتَّسْوِيَةِ مُضْمَحِلًّا عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِيهِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي عِلْمِ الْمُسْتَفْهَمِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 إِمَّا الْإِنْذَارُ وَإِمَّا عَدَمُهُ وَلَكِنْ لَا يُعَيِّنُهُ وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ بِعِلْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يُعْلَمُ مِنْ لَفْظَةِ سَوَاءٌ لَا مِنَ الْهَمْزَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ مِنْهُ لَزِمَ التَّكْرَارُ قِيلَ: هَذَا الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظَةِ سَوَاءٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ مُسْتَوَيَيْنِ فَجُرِّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَنِ الْمُسْتَوَيَيْنِ وَلَا يَكُونُ ضَرَرٌ فِي إِدْخَالِ سَوَاءٌ عَلَيْهِ لِتَغَايُرِهِمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ يَسْتَوِيَانِ فِي عَدَمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا -أَعْنِي حَذْفَ مُقَدَّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَقِيَ -كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا فِي النِّدَاءِ فَإِنَّهُ لِتَخْصِيصِ الْمُنَادَى وَطَلَبِ إِقْبَالِهِ فَيُحْذَفُ قَيْدُ الطَّلَبِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ نَحْوُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ" فَإِنَّهُ يَنْسَلِخُ عَنْ مَعْنَى الْكَلِمَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعَصَائِبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أجزعنا أم صبرنا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تستغفر لهم} {أوعظت أم لم تكن من الواعظين} وَتَارَةً تَكُونُ التَّسْوِيَةُ مُصَرَّحًا بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَتَارَةً لَا تَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَدْرِي أقريب أم بعيد} السَّابِعُ: التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 الثامن: التهويل نحو: {الحاقة. ما الْحَاقَّةِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} وقوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} تَفْخِيمٌ لِلْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ التَّاسِعُ: التَّسْهِيلُ وَالتَّخْفِيفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} الْعَاشِرُ: التَّفَجُّعُ نَحْوُ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة إلا أحصاها} الْحَادِي عَشَرَ: التَّكْثِيرُ نَحْوُ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلكناها} الثَّانِي عَشَرَ: الِاسْتِرْشَادُ نَحْوُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفسد فيها} وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا مُسْتَرْشِدِينَ وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ العبارتين أدبا وقيلك هي هنا للتعجب الاستفهام بمعنى الإنشاء الْقِسْمُ الثَّانِي: الِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ وَهُوَ على ضروب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الْأَوَّلُ: مُجَرَّدُ الطَّلَبِ وَهُوَ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أفلا تذكرون} أَيِ: اذْكُرُوا وَقَوْلِهِ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والأميين أأسلمتم} أَيْ: أَسْلِمُوا وَقَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لكم} أَيْ: أَحِبُّوا وَقَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ في سبيل الله} أَيْ: قَاتِلُوا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وقوله: {فهل أنتم منتهون} انْتَهُوا وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "انْتَهَيْنَا" وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {أتصبرون} وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَتَصْبِرُونَ أَمْ لَا تَصْبِرُونَ؟ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي النَّظْمِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لِنَعْلَمَ أَتَصْبِرُونَ الثَّانِي: النَّهْيُ كَقَوْلِهِ تعالى: {ما غرك بربك الكريم} أَيْ: لَا يَغُرُّكَ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه} بدليل قوله: {فلا تخشوا الناس} الثالث: التحذير كقوله: {ألم نهلك الأولين} أَيْ: قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ فَنَقْدِرُ عَلَيْكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الرَّابِعُ: التَّذْكِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فعلتم بيوسف وأخيه} وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} {ألم نشرح لك صدرك} الْخَامِسُ: التَّنْبِيهُ وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في ربه} {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ ذَلِكَ: انْظُرْ بِفِكْرِكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَتَنَبَّهْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مخضرة} حَكَاهُ صَاحِبُ "الْكَافِي" عَنِ الْخَلِيلِ وَلِذَلِكَ رَفَعَ الْفِعْلَ وَلَمْ يَنْصِبْهُ وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {فَأَيْنَ تذهبون} لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الضَّلَالِ وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عن ملة إبراهيم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 السَّادِسُ: التَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} {هل أدلكم على تجارة تنجيكم} السَّابِعُ: التَّمَنِّي كَقَوْلِهِ: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} قَالَ الْعَزِيزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَيْ كَيْفَ وَمَا أَعْجَبَ مُعَايِنَةَ الْإِحْيَاءِ! الثَّامِنُ: الدُّعَاءُ وَهُوَ كَالنَّهْيِ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ تعالى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء} وقوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها} وَهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوا لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنِّي جاعل في الأرض خليفة} وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّكَ سَتَجْعَلُ وَشَبَّهَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ الرَّجُلِ لِغُلَامِهِ وَهُوَ يَضْرِبُهُ: أَلَسْتَ الْفَاعِلَ كَذَا وَقِيلَ: بَلْ هُوَ تَعَجُّبٌ وَضَعْفٌ وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْأَوْلَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أن الله تعالى لما قال: {ني جاعل في الأرض خليفة} قَالُوا: وَمَا ذَاكَ الْخَلِيفَةُ! يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا! وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَتَجْعَلُهُمْ فِيهَا أَمْ تَجْعَلُنَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَجْعَلُهُمْ وَحَالُنَا هَذِهِ أَمْ يَتَغَيَّرُ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ: الْعَرْضُ وَالتَّحْضِيضُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: الْأَوَّلُ طَلَبٌ بِرِفْقٍ وَالثَّانِي بِشِقٍّ فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لكم والله} والثاني: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} وَمِنَ الثَّانِي: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فرعون ألا يتقون} الْمَعْنَى: ائْتِهِمْ وَأْمُرْهُمْ بِالِاتِّقَاءِ الْحَادِي عَشَرَ: الِاسْتِبْطَاءُ كَقَوْلِهِ: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بدليل: {ويستعجلونك بالعذاب} وَمِنْهُ مَا قَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ الْبَيَانِيِّ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله} وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: "حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا: مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ" وَهُوَ حَسَنٌ الثَّانِي عَشَرَ: الْإِيَاسُ {فَأَيْنَ تذهبون} الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِينَاسُ نَحْوُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى} وقال ابن فارس: المراد به الْإِفْهَامُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا أَمْرًا قَدْ خَفِيَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَعْلَمَ مِنْ حَالِهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ وَقِيلَ: هُوَ لِلتَّقْرِيرِ فَيَعْرِفُ مَا فِي يَدِهِ حَتَّى لَا يَنْفِرَ إِذَا انْقَلَبَتْ حَيَّةً الرَّابِعَ عشر: التهكم والاستهزاء {أصلاتك تأمرك} {ألا تأكلون. ما لكم لا تنطقون} الْخَامِسَ عَشَرَ: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رسولا} وَمِنْهُ مَا حَكَى صَاحِبُ الْكِتَابِ: مَنْ أَنْتَ زَيْدًا؟ عَلَى مَعْنَى مَنْ أَنْتَ تَذْكُرُ زَيْدًا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 السَّادِسَ عَشَرَ: التَّعَجُّبُ نَحْوُ: {مَا لِيَ لَا أرى الهدهد} {كيف تكفرون بالله} وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِلتَّنْبِيهِ السَّابِعَ عَشَرَ: الِاسْتِبْعَادُ كَقَوْلِهِ: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مبين} أَيْ: يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمُ الرسول ثم تولوا الثَّامِنَ عَشَرَ: التَّوْبِيخُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون} {لم تقولون ما لا تفعلون} {أفتتخذونه وذريته أولياء} وَلَا تَدْخُلُ هَمْزَةُ التَّوْبِيخِ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِعْلٌ قَبِيحٌ الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ يَجْتَمِعُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَاحِدُ لِلْإِنْكَارِ والتقرير كقوله: {فأي الفريقين أحق بالأمن} أَيْ: لَيْسَ الْكُفَّارُ آمِنِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ مَوَاقِعِ التَّقْرِيرِ دُونَ الْإِنْكَارِ قَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بظلم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وَقَدْ يَحْتَمِلُهُمَا كَقَوْلِهِ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُقِرُّوا بِمَا عِنْدَهُمْ تَقْرِيرَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: التَّقْدِيرُ "لَا" فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَفْهَمُوا اسْتِفْهَامَ تَقْرِيرٍ بِمَا لَا جَوَابَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا "لَا" جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ قَالُوا وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لِأَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِمْ فَيَكُونُ مَيْتَةً وَالْمُرَادُ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ غَيْبَتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَ {فَكَرِهْتُمُوهُ} بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ اكْرَهُوهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانَتْ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ أَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِ نُسِبَ ذلك إليهم وكذبوا فيه فيكون فكرهتموه الْخَامِسَةُ: إِذَا خَرَجَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَإِنْ أُرِيدَ التَّقْرِيرُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى مُعَادِلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِفْهَامُ الْمَحْضُ وَالْمُعَادِلُ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ أَمْ يريدون وَقِيلَ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ فَالْمُعَادِلُ عِنْدَهُمْ مَحْذُوفٌ أَيْ أَمْ عَلِمْتُمْ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مخاطبة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبَةَ أَمَتَّهِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ وَحْدَهُ فَالْمُعَادِلُ مَحْذُوفٌ لَا غَيْرُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ انْتَهَى وَمَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ فَيُسْتَغْنَى عَنِ الْمُعَادِلِ أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمُعَادِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ القيامة} أَيْ: كَمَنْ يَنْعَمُ فِي الْجَنَّةِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حسنا} أَيْ: كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يشاء} التَّقْدِيرُ: ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ بِدَلِيلِ: {فَلَا تذهب نفسك عليهم حسرات} وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مَوْضِعٌ صَرَّحَ فِيهِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا نحن فيه وهو قوله تعالى: {أمن هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فقطع أمعاءهم} أَيْ: أَكْمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي الْجَنَّةِ يُسْقَى مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِمَا عَلَى الْأَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس كمن مثله في الظلمات} {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زين له سوء عمله} السَّادِسَةُ: اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَاضٍ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الْأَقْصَى الْقَرِيبِ وَقَالَ: قَدْ يَكُونُ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أفحكم الجاهلية يبغون} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} قَالَ: أَنْكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا يُبْغَى لِحَقَارَتِهِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ سَلْبَ الْعِزَّةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُنْكَرٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْبَيَانِيِّينِ وَلَا دَلِيلَ فِيمَا ذَكَرَهُ بَلِ الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَتَيْنِ عَنْ مَاضٍ وَدَخَلَهُ الِاسْتِقْبَالُ تَغْلِيبًا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الْمُنْكَرِ بِزَمَانٍ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 تَعَالَى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خير} لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ وَهُوَ طَلَبُ الْبَدَلِ وَقَعَ مَاضِيًا وَلَا: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} وَإِنْ كَانَتْ أَنْ تُخَلِّصَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَلْمُوحٌ بِهِ جَانِبُ الْمَعْنَى وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جِنِّي فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْإِعْرَابَ قَدْ يرد على خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الْمَعْنَى السَّابِعَةُ: هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ خُرُوجِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي النَّفْيِ هَلْ تَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ أَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْكُلِّيَّةِ؟ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بَلْ مِنْهُ مَا تَجَرَّدَ كَمَا فِي التَّسْوِيَةِ وَمِنْهُ مَا يَبْقَى وَمِنْهُ مَا يَحْتَمِلُ وَيُحْتَمَلُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَكَذَلِكَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْإِثْبَاتِ وَهَلِ الْمُرَادُ بِالتَّقْرِيرِ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ فَيَكُونُ خَبَرًا مَحْضًا أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ طَلَبُ إِقْرَارِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مَعَ كَوْنِ السَّائِلِ يَعْلَمُ فَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِ الْمُخَاطَبِ أَيْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ مُقَرِّرًا بِهِ وَفِي كَلَامِ النُّحَاةِ وَالْبَيَانِيِّينِ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَقَدْ سَبَقَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ الثَّامِنَةُ: الْحُرُوفُ الْمَوْضُوعَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ ثَلَاثَةٌ: الْهَمْزَةُ وَهَلْ وَأَمْ وَأَمَّا غَيْرُهَا مِمَّا يُسْتَفْهَمُ بِهِ كَمَنْ وَمَا وَمَتَى وَأَيْنَ وَأَنَّى وَكَيْفَ وَكَمْ وَأَيَّانَ فَأَسْمَاءُ اسْتِفْهَامٍ اسْتُفْهِمَ بِهَا نِيَابَةً عَنِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَخْتَصُّ بِطَلَبِ التَّصْدِيقِ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ كَهَلْ وَأَمِ الْمُنْقَطِعَةِ وَمَا يَخْتَصُّ بِطَلَبِ التَّصَوُّرِ كَأَمِ الْمُتَّصِلَةِ وَمَا لَا يَخْتَصُّ كالهمزة أحكام اختصت بها همزة الاستفهام وَلِكَوْنِ الْهَمْزَةِ أُمَّ الْبَابِ اخْتَصَّتْ بِأَحْكَامٍ لَفْظِيَّةٍ ومعنوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فَمِنْهَا: كَوْنُ الْهَمْزَةِ لَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا حَتَّى يَهْجِسَ فِي النَّفْسِ إِثْبَاتُ مَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِخِلَافِ "هَلْ" فَإِنَّهُ لَا تُرَجُّحَ عِنْدَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَمِنْهَا: اخْتِصَاصُهَا بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّقْرِيرَ لَا يَكُونُ بـ "هل" وَالْخِلَافُ فِيهِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: إِنْ طُلِبَ بِالِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٌ أَوْ تَوْبِيخٌ أَوْ إِنْكَارٌ أَوْ تَعَجُّبٌ كَانَ بِالْهَمْزَةِ دُونَ "هَلْ" وَإِنْ أُرِيدَ الْجَحْدُ كَانَ بِهَلْ وَلَا يَكُونُ بِالْهَمْزَةِ وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِإِنْكَارِ إِثْبَاتِ مَا يَقَعُ بَعْدَهَا كَقَوْلِكَ: أَتُضْرِبُ زَيْدًا وَهُوَ أَخُوكَ قَالَ تَعَالَى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَلَا تَقَعُ "هَلْ" هَذَا الْمَوْقِعَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فَلَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ هَذَا نَفْيٌ لَهُ مَنْ أَصْلِهِ وَالْمَمْنُوعُ مِنْ إِنْكَارِ إِثْبَاتِ مَا وَقَعَ بَعْدَهَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمِنْهَا: أَنَّهَا يَقَعُ الِاسْمُ مَنْصُوبًا بَعْدَهَا بِتَقْدِيرِ نَاصِبٍ أَوْ مَرْفُوعًا بِتَقْدِيرِ رَافِعٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِكَ: أَزَيْدًا ضرب وَأَزَيْدٌ قَامَ وَلَا تَقُولُ: هَلْ زَيْدًا ضَرَبْتَ وَلَا هَلْ زَيْدٌ قَامَ إِلَّا عَلَى ضَعْفٍ وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: لَيْسَ فِي أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ ما إذا اجتمع بعده الاسم والفعل بليه الِاسْمُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ إِلَّا الْهَمْزَةُ فَتَقُولُ: أَزَيْدٌ قَامَ وَلَا تَقُولُ: هَلْ زَيْدٌ قَامَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ بَلِ الْفَصِيحُ هَلْ قَامَ زَيْدٌ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَقَعُ مَعَ أَمِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَا تَقَعُ مَعَ هَلْ وَأَمَّا الْمُنْقَطِعَةُ فَتَقَعُ فيهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 جَمِيعًا فَإِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدِكَ أَمْ عَمْرٌو فَهَذَا الْمَوْضِعُ لَا تَقَعُ فِيهِ هَلْ مَا لَمْ تَقْصِدْ إِلَى الْمُنْقَطِعَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الشَّرْطِ تَقُولُ: أَإِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَأَإِنْ تَخْرُجْ أَخْرُجْ مَعَكَ أَإِنْ تَضْرِبْ أَضْرِبْ؟ وَلَا تَقُولُ: هَلْ إِنْ تَخْرُجْ أَخْرُجْ مَعَكَ؟ وَمِنْهَا: جَوَازُ حَذْفِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وتلك نعمة تمنها} وقوله تعالى: {هذا ربي} فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: {سَوَاءٌ عليهم أأنذرتهم} وَمِنْهَا: زَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا إِلَّا مُعَادَلَةً أَوْ فِي حُكْمِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَتَقُولُ: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ؟ وَيَجُوزُ أَلَّا يُذْكَرَ الْمُعَادِلُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ ذِكْرِ الضِّدِّ وَرَدَّ عَلَيْهِ الصَّفَّارُ وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: هَلْ قَامَ زَيْدٌ؟ فَالْمَعْنَى هَلْ قَامَ أَمْ لَمْ يَقُمْ؟ لِأَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْيَقِينَ وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ عَزِيزٌ فِي كَلَامِهِمْ لَا يَأْتُونَ لَهَا بِمُعَادِلٍ فَخَطَأٌ بَلْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عبثا} {أفرأيت الذي تولى} {أفرأيتم اللات والعزى} {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وَمِنْهَا: تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَاوِ وَغَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ فَتَقُولُ: أَفَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَوَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} وقال تعالى: {أوكلما عاهدوا عهدا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ به} فَتُقَدَّمُ الْهَمْزَةُ عَلَى حُرُوفِ الْعَطْفِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ وَكَانَ الْقِيَاسُ تَأْخِيرَهَا عَنِ الْعَاطِفِ فَيُقَالُ: فَأَلَمْ أَكْرِمْكَ؟ وَأَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى سَائِرِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وفيكم رسوله} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} وقوله تعالى: {فأين تذهبون} فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخَّرَ الْعَاطِفُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ لِأَنَّ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ جُزْءٌ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْعَاطِفُ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِي الْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ فَأَرَادُوا تَقْدِيمَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا الْأَصْلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ اضْطَرَبَ كَلَامُهُ فَتَارَةً يَجْعَلُ الْهَمْزَةَ فِي مِثْلِ هَذَا دَاخِلَةً عَلَى مَحْذُوفٍ عُطِفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَيُقَدِّرُ بَيْنَهُمَا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَعْطِفُ الْفَاءُ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهَا وَتَارَةً يَجْعَلُهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْعَاطِفِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الْأَوْلَى وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّ ثَمَّ مَوَاضِعَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا تَقْدِيرُ فِعْلٍ قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ ينشأ في الحلية} {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق} {أفمن هو قائم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وَقَالَ ابْنُ خَطِيبٍ زَمَلْكَا: الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ بَعْدَ الْهَمْزَةِ قَبْلَ الْفَاءِ تَكُونُ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَيْهِ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مات} لَوْ صُرِّحَ بِهِ لَقِيلَ: "أَتُؤْمِنُونَ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ فَإِنْ مَاتَ ارْتَدَدْتُمْ فَتُخَالِفُوا سُنَنَ اتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ فِي ثَبَاتِهِمْ عَلَى مُلْكِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ"؟ وَهَذَا مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ فَائِدَةٌ زَعَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي كَلَامِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْجُمَلِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا وَرَدَّ عَلَيْهِ الْأَعْلَمُ وَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ: هَلْ قَامَ زَيْدٌ أَمْسُ؟ وَهَلْ أَنْتَ قَائِمٌ أَمْسُ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} فهذا كله ماض غير آت الشرط الثَّالِثُ: الشَّرْطُ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ قَوَاعِدُ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: الْمُجَازَاةُ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 أُولَاهُمَا: فِعْلِيَّةٌ لِتُلَائِمَ الشَّرْطَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يرد الله أن يهديه} {إن كنت جئت} {استقر استقر مكانه} {رينك بعض الذي نعدهم} {يأتينكم مني هدى} وَثَانِيهُمَا: قَدْ تَكُونُ اسْمِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ فِعْلِيَّةً جَازِمَةً وَغَيْرَ جَازِمَةٍ أَوْ ظَرْفِيَّةً أَوْ شَرْطِيَّةً كما يقال: {فأولئك يدخلون الجنة} {شرح الله صدره للإسلام} {فأت بآية} {فسوف تراني} {إلينا مرجعهم} {فمن تبع هداي} فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الشَّرْطِ اتَّحَدَتَا جُمْلَةً وَاحِدَةً نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يدخلون الجنة} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} وقوله: {فإن استقر مكانه فسوف تراني} وَقَوْلِهِ: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نتوفينك فإلينا مرجعهم} وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هداي فلا يضل ولا يشقى} فَالْأُولَى مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَازَاةِ تُسَمَّى شَرْطًا وَالثَّانِيَةُ تُسَمَّى جَزَاءً وَيُسَمِّي الْمَنَاطِقَةُ الْأَوَّلَ مُقَدَّمًا وَالثَّانِيَ تَالِيًا فَإِذَا انْحَلَّ الرِّبَاطُ الْوَاصِلُ بَيْنَ طَرَفَيِ المجازاة عادة الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ كَمَا كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُنْتَظِمَةُ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: الْعِبْرَةُ فِي هَذَا بِالتَّالِي إِنَّ كان التالي قبل الانتظام جازما كان هَذِهِ الشُّرْطِيَّةُ جَازِمَةً -أَعْنِي خَبَرًا مَحْضًا- وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُوصَلَ بِهَا الْمَوْصُولَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازِمًا لَمْ تَكُنْ جَازِمَةً بَلْ إِنْ كَانَ التَّالِي أَمْرًا فَهِيَ فِي عِدَادِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وَإِنْ كَانَتْ رَجَاءً فَهِيَ فِي عِدَادِ الرَّجَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أَيْ: فَهَذَا التَّسْوِيفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ فَإِنْ جَعَلْتَ سَوْفَ بِمَعْنًى أَمْكَنَ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا صِرْفًا فَأَمَّا الْفَاءُ الَّتِي تَلْحَقُ التَّالِي مُعَقِّبَةً فَلِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْتَبِطَ التَّالِي بِذَاتِهِ ارْتِبَاطًا وَذَلِكَ إِنْ كَانَ افْتُتِحَ بِغَيْرِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالها} لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ فَيُجَازَى بِهِ وَكَذَلِكَ الْحَرْفُ إِنْ كَانَ مُفْتَتَحًا بِالْأَمْرِ كقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يُنَاسِبُ مَعْنَاهُ الشَّرْطَ فَإِنْ كَانَ مُفْتَتَحًا بِفِعْلٍ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ ارْتَبَطَ بِذَاتِهِ نَحْوُ قَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَنَحْوُ قوله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يؤخذ منها} لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 هَذِهِ كَالْجُزْءِ مِنَ الْفِعْلِ وَتَخَطَّاهَا الْعَامِلُ وَلَيْسَتْ كَـ "إِنْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا} فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} قُلْنَا الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْمُولًا عَلَى الِاسْمِ كَمَا أَنَّ التَّقْدِيرَ "فَأَنْتُمَا قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا" وَ"فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ" يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّ صَغَتْ لَوْ جُعِلَ نَفْسُهُ الْجَزَاءَ لَلَزِمَ أَنْ يَكْتَسِبَ مِنَ الشَّرْطِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَهَذَا غَيْرُ مُسَوَّغٍ هُنَا وَلَوْ جَازَ لَجَازَ أَنْ تَقُولَ: أَنْتُمَا إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ صَغَتْ أَوْ فَصَغَتْ قُلُوبُكُمَا لَكِنِ الْمَعْنَى: إِنْ تَتُوبَا فَبَعْدَ صَغْوٍ مِنْ قُلُوبِكُمَا لِيُتَصَوَّرَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالُ مَعَ بَقَاءِ دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُمْكِنِ وَأَنَّ يَنْتَقِمُ لَوْ جُعِلَ وَحْدَهُ جَزَاءً لَمْ يَدُلْ عَلَى تَكْرَارِ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الْآنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَنْ يَتَوَقَّفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ جَوَابُهُ بِوُقُوعِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَقَوْلِكَ: إِنْ زُرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَالْإِحْسَانُ إِنَّمَا اسْتُحِقَّ بِالزِّيَارَةِ وَقَوْلِكَ: إِنْ شَكَرْتَنِي زُرْتُكَ فَالزِّيَارَةُ إِنَّمَا اسْتُحِقَّتْ بِالشُّكْرِ هَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ وَقَدْ أَوْرَدَ على هذا آيات كريمات مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَهُمْ عِبَادُهُ عَذَّبَهُمْ أَوْ رَحِمَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحكيم} وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ غَفَرَ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فقد صغت قلوبكما} وَصَغْوُ الْقُلُوبِ هُنَا لِأَمْرٍ قَدْ وَقَعَ فَلَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ أَجْوِبَةً وَإِنَّمَا جَاءَتْ عَنِ الْأَجْوِبَةِ الْمَحْذُوفَةِ لِكَوْنِهَا أَسْبَابًا لَهَا فَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ: فَتَحَكَّمْ فِيمَنْ يَحِقُّ لَكَ التَّحَكُّمُ فِيهِ وَذَكَرَ الْعُبُودِيَّةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ القدرة وقوله: {وإن تغفر} فَالْجَوَابُ: فَأَنْتَ مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِأَلَّا تُجَازِيَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فكمالك غي مُفْتَقِرٍ إِلَى شَيْءٍ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَازَاةَ لَا يَجِبُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مَوْقُوفًا عَلَى الشَّرْطِ أَبَدًا وَلَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَوْقُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ أَبَدًا بِحَيْثُ يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَلَا أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الشَّرْطِ دَائِمًا إِلَى الْجَزَاءِ نِسْبَةَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ بَلِ الْوَاجِبُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ بِحَيْثُ إِذَا فُرِضَ حَاصِلًا لَزِمَ مَعَ حُصُولِهِ حُصُولُ الْجَزَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَزَاءُ قَدْ يَقَعُ لَا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الشَّرْطِ كَقَوْلِ الطَّبِيبِ مَنِ اسْتَحَمَّ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ احتقنت الحرارة باطن حسده لِأَنَّ احْتِقَانَ الْحَرَارَةِ قَدْ يَكُونُ لَا عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ كَالْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ أَوْ مُسْتَحِيلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العابدين} وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ سَبَبًا فِي الْجَزَاءِ وَوَصْلَةً إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أجوركم} أَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ من حسنة فمن الله} أَوْ كَانَ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ فَلَا يَقَعُ إِلَّا مُجَرَّدَ الدَّلَالَةِ عَلَى اقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فلن يهتدوا إذا أبدا} إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ سَبَبًا لِلضَّلَالِ وَمُفْضِيَةً إِلَيْهِ وَلَا أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ مُفْضِيًا إِلَى الدَّعْوَةِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لكم أعداء} وَعَلَى هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قرح مثله} فَإِنَّ التَّأْوِيلَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَمَعَ اعْتِبَارِ قَرْحٍ قَدْ مَسَّهُمْ قَبْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ كَانَ مَاضِيَ اللَّفْظِ كَانَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى كَقَوْلِكَ إن مت على اإسلام دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لِلنُّحَاةِ فِيهِ تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِعْلَ يُغَيَّرُ لَفْظًا لَا مَعْنًى فَكَانَ الْأَصْلُ إِنْ تَمُتْ مُسْلِمًا تَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَغَيَّرَ لَفْظَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَغَيُّرُ مَعْنًى وَإِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَلَبَ مَعْنَاهُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَبَقِيَ لَفْظُهُ عَلَى حَالِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وَالْأَوَّلُ أَسْهَلُ لِأَنَّ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ أَسْهَلُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَعْنَى وَذَهَبَ الْمِبْرَدُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ لَفْظُ كَانَ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْمُضِيِّ لِأَنَّ كَانَ جُرِّدَتْ عِنْدَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي فَلَمْ تُغَيِّرْهَا أَدَوَاتُ الشَّرْطِ وَقَالَ إِنَّ كَانَ مُخَالِفَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِسَائِرِ الْأَفْعَالِ وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إن كنت قلته} {وإن كان قميصه} وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقال ابن عصفور والشلوبين وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِنْ أَكُنْ كُنْتُ قُلْتُهُ أَيْ إِنْ أَكُنْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَوْصُوفًا بِأَنِّي كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فَفِعْلُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ مَعَ هَذَا وَلَيْسَتْ "كَانَ" الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا هِيَ فِعْلُ الشَّرْطِ قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَلْ {كُنْتُ} بَعْدَ {إِنْ} مَقْلُوبَةُ الْمَعْنَى إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَمَعْنَى: {إِنْ كُنْتُ} إِنْ أَكُنْ فَهَذِهِ الَّتِي بَعْدَهَا هِيَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الِاسْتِقْبَالُ لَا أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ وَأَبْطَلُوا مَذْهَبَ الْمُبَرِّدِ بِأَنْ كَانَ بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ جَاءَتْ مُرَادًا بها الاستقبال كقوله تعالى: {وإن وإن كنتم جنبا فاطهروا} وَقَدْ نُبِّهَ فِي "التَّسْهِيلِ" فِي بَابِ الْجَوَازِمِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى وَاخْتَارَ فِي كَانَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِذْ قَالَ وَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ غَيْرُ مُسْتَقْبَلِ الْمَعْنَى بِلَفْظِ كَانَ أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا مُؤَوَّلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وَاسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ "لَوْ" وَ"لَمَّا" الشَّرْطِيَّتَيْنِ فَإِنَّ الْفِعْلَ بَعْدَهُمَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَاضِيًا فَتَعَيَّنَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إِلَى {إِنْ وَهَبَتْ} فَوَقَعَ فِيهَا "أَحْلَلْنَا" الْمَنْطُوقُ بِهِ أَوِ الْمُقَدَّرُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَوَابُ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِ الْإِحْلَالِ قَدِيمًا فَهُوَ مَاضٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ: "إِنْ وَهَبَتْ فَقَدْ حَلَّتْ" فَجَوَابُ الشَّرْطِ حَقِيقَةُ الْحِلِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْإِحْلَالِ لَا الْإِحْلَالُ نَفْسِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الظَّرْفَ مِنْ قَوْلِكَ: "قُمْ غَدًا" لَيْسَ هُوَ لِفِعْلِ الْأَمْرِ بَلْ لِلْقِيَامِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ وَقَالَ الْبَيَانِّيُونَ: يَجِيءُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ اللَّفْظِ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا: إِيهَامُ جَعْلِ غَيْرِ الْحَاصِلِ كَالْحَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رأيت ثم رأيت نعيما} وَمِنْهَا: إِظْهَارُ الرَّغْبَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ فِي وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ ظَفِرْتَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فَذَاكَ وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {إن أردن تحصنا} أَيِ: امْتِنَاعًا مِنَ الزِّنَا جِيءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَلَمْ يَقُلْ يُرِدْنَ إِظْهَارًا لِتَوْفِيرِ رِضَا اللَّهِ وَرَغْبَةً فِي إِرَادَتِهِنَّ التَّحْصِينَ وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ بِأَنْ يُخَاطِبَ وَاحِدًا وَمُرَادُهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أشركت ليحبطن عملك} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 الرَّابِعَةُ: جَوَابُ الشَّرْطِ أَصْلُهُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ وَقَدْ يَقَعُ مَاضِيًا لَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ فِي الْحَقِيقَةِ نَحْوُ: إِنْ أَكْرَمْتُكَ فَقَدْ أَكْرَمْتَنِي اكْتِفَاءً بِالْمَوْجُودِ عَنِ الْمَعْدُومِ وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وَمَسُّ الْقَرْحِ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ وَالْمَعْنَى: إِنْ يُؤْلِمْكُمْ مَا نَزَلْ بِكُمْ فَيُؤْلِمُهُمْ مَا وَقَعَ فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْأَلَمِ الْوَاقِعِ لِجَمِيعِهِمْ فَوَقَعَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَلَمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كنت قلته فقد علمته} فَعَلَى وُقُوعِ الْمَاضِي مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِيهِمَا دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أَيْ: {إِنْ كُنْتُ قلته} تَكُنْ قَدْ عَلِمْتَهُ وَهُوَ عُدُولٌ إِلَى الْجَوَابِ إِلَى مَا هُوَ أَبْدَعُ مِنْهُ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كنا صادقين} فَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا وَلَوْ ظَهَرَتْ لَكَ بَرَاءَتُنَا بِتَفْضِيلِكَ إِيَّاهُ عَلَيْنَا وَقَدْ أَتَوْهُ بِدَلَائِلَ كَاذِبَةٍ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ وَقَرَّعُوهُ بقولهم: {إنك لفي ضلالك القديم} وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ قَتْلِهِ ثُمَّ رَمْيُهُمْ لَهُ فِي الْجُبِّ أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَلَوْ كُنَّا صادقين} عِنْدَكَ الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُ الشَّرْطِ: حُرُوفٌ وَهِيَ إِنْ وَأَسْمَاءٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَاهَا ثُمَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ بظرف كمن وَمَا وَأَيُّ وَمَهْمَا وَأَسْمَاءٌ هِيَ ظُرُوفٌ أَيْنَ وأينما ومتى وحيثما وإذ ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وَأَقْوَاهَا دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ دَلَالَةُ "إِنْ" لِبَسَاطَتِهَا وَلِهَذَا كَانَتْ أُمَّ الْبَابِ وَمَا سِوَاهَا فَمُرَكَّبٌ مِنْ مَعْنَى "إِنْ" وَزِيَادَةٍ مَعَهُ فَمَنْ مَعْنَاهُ كُلٌّ فِي حُكْمِ إِنْ وَمَا مَعْنَاهُ كُلُّ شيء إن وأينما وحيثما يدلان على المكان وعلى إن وإذ ما ومتى يَدُلَّانِ عَلَى الشَّرْطِ وَالزَّمَانِ وَقَدْ تَدْخُلُ "مَا" عَلَى "إِنْ" وَهِيَ أَبْلَغُ فِي الشَّرْطِ مِنْ "إن" ولذلك تتلقى بِالنُّونِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْمُضَارِعُ نَحْوُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قوم خيانة فانبذ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كلاهما} وَمِمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ "إِذَا" وَهِيَ كَـ "إِنْ" وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ "إِنْ" تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَلِهَذَا يَقْبُحُ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ كَانَ كَذَا وَإِنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ آتِكَ وَتَكُونُ "إِذَا" لِلْجَزْمِ فَوُقُوعُهُ إِمَّا تَحْقِيقًا نَحْوُ: إذا أطلعت الشمس كان كذا أو اعتبارا كنا سَنَذْكُرُهُ قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَلِذَلِكَ إِذَا قِيلَ: "إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأَنْتِ طَالِقٍ" وَقَعَ الطَّلَاقُ في الحال عند مالك لأنه شيء لابد مِنْهُ وَإِنَّمَا يُتَوَقَّفُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِمَا وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ "إِنْ" فِي مَقَامِ الْجَزْمِ لِأَسْبَابٍ: مِنْهَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقَةِ وَضْعِ الشُّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ الَّذِي يُوضَعُ شَرْطُهُ تَقْدِيرًا لِتَبْيِينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 مَشْرُوطِهِ تَحْقِيقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ للرحمن ولد} وقوله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة} وَمِنْهَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقِ تَبْيِينِ الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَأْنَسُ بِهِ الْمُخَاطِبُ وَإِظْهَارًا لِلتَّنَاصُفِ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ ربي} وَمِنْهَا: تَصْوِيرُ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمُجَرَّدِ فَرْضِ الشَّرْطِ كَفَرْضِ الشَّيْءِ الْمُسْتَحِيلِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} والضمير للأصنام ويحتمل منه ما سبق فيه قوله تعالى: {إن كان للرحمن ولد} وَمِنْهَا: لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ فِي ارْتِكَابِ مَدْلُولِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ وَاجِبُ الِانْتِفَاءِ حَقِيقٌ أَلَّا يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كنتم قوما مسرفين} فيمن يكسر "إِنْ" فَاسْتُعْمِلَتْ "إِنْ" فِي مَقَامَ الْجَزْمِ بِكَوْنِهِمْ "مُسْرِفِينَ" لِتَصَوُّرِ أَنَّ الْإِسْرَافَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا فَأَجْرَاهُ لِذَلِكَ مَجْرَى الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ وَمِنْهَا: تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَهْيِيجُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إياه تعبدون} وَالْمَعْنَى: عِبَادَتُكُمْ لِلَّهِ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَكُمْ لَهُ فَإِنْ كُنْتُمْ مُلْتَزِمِينَ عِبَادَتَهُ فَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَاشْكُرُوهُ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُورَدُ فِي الْحِجَاجِ وَالْإِلْزَامِ تَقُولُ: "إِنْ كَانَ لِقَاءُ اللَّهِ حَقًّا فَاسْتَعَدَّ لَهُ" وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مؤمنين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وَمِنْهَا: التَّغْلِيبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي ريب من البعث} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا} فَاسْتَعْمَلَ "إِنْ" مَعَ تَحَقُّقِ الِارْتِيَابِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْكُلَّ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَابِينَ فَغَلَّبَ غَيْرَ الْمُرْتَابِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُرْتَابِينَ لِأَنَّ صُدُورَ الِارْتِيَابِ مِنْ غَيْرِ الِارْتِيَابِ مَشْكُوكٌ فِي كَوْنِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلَ "إِنْ" عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {إِنْ عُدْنَا فِي ملتكم} وَاعْلَمْ أَنَّ "إِنْ" لِأَجْلِ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ كَانَ جَوَابُهَا مُعَلَّقًا عَلَى مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ فَيُخْتَارُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ الْمُحْتَمِلِ لِلْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ لِيُطَابِقَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى فَإِنْ عُدِلَ عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي لَمْ يُعْدَلْ إِلَّا لِنُكْتَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لو تكفرون} فَأَتَى الْجَوَابُ مُضَارِعًا وَهُوَ "يَكُونُوا" وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ "يَبْسُطُوا" مُضَارِعًا أَيْضًا وَأَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ "وَدُّوا" بِلَفْظِ الْمَاضِي وَكَانَ قِيَاسَهُ الْمُضَارِعُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ وِدَادَتَهُمْ لِكُفْرِهِمْ مِنَ الشَّكِّ فِيهَا مَا يَحْتَمِلُهُ أَنَّهُمْ إِذَا ثَقِفُوهُمْ صَارُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ أَتَى فِيهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ وِدَادَتَهُمْ فِي ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهَا وَكَوْنَهُمْ أَعْدَاءً وَبَاسِطِي الْأَيْدِي وَالْأَلْسُنِ بِالسُّوءِ مَشْكُوكٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْرِضَ مَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ فَلَمْ يُتَحَقَّقْ وُقُوعُهُ وَأَمَّا "إِذَا" فَلَمَّا كَانَتْ فِي الْمَعَانِي الْمُحَقَّقَةِ غُلِّبَ لَفْظُ الْمَاضِي مَعَهَا لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْوُقُوعِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فِي الْمُضَارِعِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} بِلَفْظِ الْمَاضِي مَعَ "إِذَا" فِي جَوَابِ الْحَسَنَةِ حَيْثُ أُرِيدَ مُطْلَقُ الْحَسَنَةِ لَا نَوْعٌ مِنْهَا وَلِهَذَا عُرِّفَتْ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ وَلَمْ تُنَكَّرْ كَمَا نُكِّرَ الْمُرَادُ بِهِ نَوْعٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عند الله} وَكَمَا نُكِّرَ الْفِعْلُ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله} وَبِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مَعَ إِنْ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ وَتَنْكِيرُهَا بِقَصْدِ النَّوْعِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يقنطون} لَفْظُ الْمَاضِي مَعَ "إِذَا" وَالْمُضَارِعُ مَعَ "أَنْ" إِلَّا أَنَّهُ نُكِّرَتِ الرَّحْمَةُ لِيُطَابِقَ مَعْنَى الْإِذَاقَةِ بِقَصْدِ نَوْعٍ مِنْهَا وَالسَّيِّئَةُ بِقَصْدِ النَّوْعِ أَيْضًا وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} أتى بـ "إذا" لَمَّا كَانَ مَسُّ الضُّرِّ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مُحَقَّقًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط} فإنه لم يقيد مس الشر ها هنا بَلْ أَطْلَقَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كان يؤوسا} فَإِنَّ الْيَأْسَ إِنَّمَا حَصَلَ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَسِّ الضُّرِّ لَهُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِإِذَا أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَنْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عريض} فَإِنَّهُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِ وَضَعْفِ احْتِمَالِهِ فِي مَوْقِعِ الشَّرِّ أَعْرَضَ وَالْحَالُ فِي الدُّعَاءِ فَإِذَا تَحَقَّقَ وقوعه كان يئوسا وأما قوله: {إن امرؤ هلك} مَعَ أَنَّ الْهَلَاكَ مُحَقَّقٌ لَكِنْ جُهِلَ وَقْتُهُ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} فَأَتَى بِإِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلشَّكِّ وَالْمَوْتُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ ولكن وقته مَعْلُومٍ فَأُورِدَ مَوْرِدَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين} مَعَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ مُحَقَّقَةٌ فَجَاءَ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ كَيْفَ يَقُولُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى جِهَةِ الِاتِّبَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إلا أن يشاء الله} فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مُخْبَرٍ بِهِ مَقْطُوعًا أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ" وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْإِبْهَامِ فِي وَقْتِ اللُّحُوقِ مَتَى يَكُونُ تَنْبِيهٌ: سَكَتَ الْبَيَانِّيُونَ عَمَّا عَدَا "إِذَا" وَ"إِنْ" وَأَلْحَقَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ وَابْنُ الْحَاجِبِ "مَتَى" بِإِنْ قَالَ: لَا تَقُولُ: مَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ؟ مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ بَلْ تَقُولُ: مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ "مَتَى" وَ"إِذْ": إن متى للوقت المبهم وَإِذَا لِلْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ وَلِإِبْهَامِ مَتَى جُزِمَ بِهَا دُونَ إِذَا السَّادِسَةُ: قَدْ يُعَلَّقُ الشَّرْطُ بِفِعْلٍ مُحَالٍ يَسْتَلْزِمُهُ مُحَالٌ آخَرُ وَتَصْدُقُ الشرطية دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 مُفْرَدَيْهَا أَمَّا صِدْقُهَا فَلِاسْتِلْزَامُ الْمُحَالِ وَأَمَّا كَذِبُ مُفْرَدَيْهَا فَلِاسْتِحَالَتِهِمَا وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فأنا أول العابدين} وقوله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا} وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون} الْآيَةَ وَفَائِدَةُ الرَّبْطِ بِالشَّرْطِ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ اسْتِلْزَامِ إِحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ لِلْأُخْرَى وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ فَالْمَلْزُومُ كَذَلِكَ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الشَّرْطَ يُعَلَّقُ بِهِ الْمُحَقِّقُ الثُّبُوتِ وَالْمُمْتَنِعُ الثُّبُوتِ وَالْمُمْكِنُ الثُّبُوتِ السَّابِعَةُ: الِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مات أو قتل انقلبتم} وقوله تعالى: {أفإن مت فهم الخالدون} وَنَظَائِرُهُ فَالْهَمْزَةُ فِي مَوْضِعِهَا وَدُخُولُهَا عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ وَالْفِعْلُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ لَيْسَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ وَإِنَّمَا هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَالْهَمْزَةُ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ تَقْدِيرًا فَيُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا بَلِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: "أَأَنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أَنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ"؟ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنْكَارُ انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَقُولُ يُونُسَ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنَّمَا هُوَ: "أَتَنْقَلِبُونَ إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ" وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: قَالَ يونس: الهمزة في مثل هذا أحقها أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جَوَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 الشرط تقديره: "أتنقلبون عَلَى أَعْقَابِكُمْ أَنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ" لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْبِيهُ أَوِ التَّوْبِيخُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْحَقُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّكَ لَوْ قَدَّمْتَ الْجَوَابَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ وَجْهٌ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: أَتَزُورُنِي فَإِنْ زُرْتُكَ ومنه قوله: {أفإن مت فهم الخالدون} وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَمْزَةَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ وَإِنَّ لها صدر الكلام فقد وَقَعَا فِي مَوْضِعِهِمَا وَالْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ انْتَهَى وَقَدْ رَدَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى يُونُسَ بِقَوْلِهِ: {أفإن مت فهم الخالدون} لا يجوز في {فهم} أن يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ فَإِنْ مِتَّ؟ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِئَلَّا يَبْقَى الشَّرْطُ بِلَا جَوَابٍ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ لِأَنَّ الْفَاءَ الْمُتَّصِلَةَ بِإِنْ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ وَلَا يَقُولُونَ: أَنْتَ ظَالِمٌ فَإِنْ فَعَلْتَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا دَخَلَتْ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ الثَّامِنَةُ: إِذَا تَقَدَّمَ أَدَاةَ الشَّرْطِ جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَزَاءً ثُمَّ ذُكِرَ فِعْلُ الشَّرْطِ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ جَوَابٌ نَحْوُ: أَقُومُ إِنْ قُمْتَ وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَلَا تَقْدِيرَ عند الكوفيين بل المقدم هو جواب وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ دَلِيلُ الْجَوَابِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لَدَخَلَتْ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ لَمَا افْتَرَقَ الْمَعْنِيَّانِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فَفِي التَّقَدُّمِ بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْخَبَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 ثُمَّ طَرَأَ التَّوَقُّفُ وَفِي التَّأْخِيرِ بُنِيَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى الشَّرْطِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ وَتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ وَنُوزِعَا فِي ذَلِكَ بَلْ مَعَ التَّقْدِيمِ الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَمْ يُقِرْ بِالْعَشَرَةِ ثُمَّ أَنْكَرَ مِنْهَا دِرْهَمًا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِثْنَاءُ ثُمَّ زَعَمَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِوُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كنتم إياه تعبدون} التَّاسِعَةُ: إِذَا دَخَلَ عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ وَاوُ الْحَالِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى جَوَابٍ نَحْوُ: أَحْسِنْ إِلَى زَيْدٍ وَإِنْ كَفَرَكَ وَاشْكُرْهُ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ أَيْ أَحْسِنْ إِلَيْهِ كَافِرًا لَكَ وَاشْكُرْهُ مُسِيئًا إِلَيْكَ فَإِنْ أُجِيبَ الشَّرْطُ كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً لَا لِلْحَالِ نَحْوُ: أَحْسِنْ إِلَيْهِ وَإِنْ كَفَرَكَ فَلَا تَدَعُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ وَاشْكُرْهُ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَأَقِمْ عَلَى شُكْرِهِ وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ هُنَا لِلْحَالِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جَوَابٌ قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَ فَضْلَةٌ وَأَصْلُ وَضْعِ الْفَضْلَةِ أَنْ تَكُونَ مُفْرَدًا كَالظَّرْفِ وَالْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ كذلك لم يجب الشرط إذا وقع مَوْقِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ لَوْ أُجِيبَ لَصَارَ جُمْلَةً وَالْحَالُ إِنَّمَا هِيَ فَضْلَةٌ فَالْمُفْرِدُ أَوْلَى بِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ وَالشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً فَإِنَّهُ يَجْرِي عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْآحَادِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى جَوَابِهِ احْتِيَاجَ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 العاشرة: الشرط والجزاء لابد أن يتغاير لَفْظًا وَقَدْ يَتَّحِدَانِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ كَقَوْلِهِ: {إلا من تاب وآمن} والآية التي تليها: {من تاب وعمل صالحا} ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} فَقِيلَ عَلَى حَذْفِ الْفِعْلِ أَيْ مَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مُعْرِضَةٌ لَهُ لَا يَحُولُ بينه بينها حائل ومثله: {فإذا قرأت القرآن} أَيْ: أَرَدْتَ وَيَدُلُّ لِهَذَا تَأْكِيدُ التَّوْبَةِ بِالْمَصْدَرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رحله فهو جزاؤه} فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كَمَا هِيَ خَبَرُهُ عَلَى إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَالْأَصْلُ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رِحْلِهِ فَهُوَ هُوَ فَوُضِعَ الْجَزَاءُ مَوْضِعَ هُوَ وَقَوْلُهُ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ" فَلَا يَتَّحِدُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تدخل النار فقد أخزيته} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فقد فاز} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ تَفْخِيمُ الْجَزَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْكَامِلُ الْبَالِغُ النِّهَايَةِ يَعْنِي مَنْ يَبْخَلُ فِي أَدَاءِ رُبُعِ الْعُشْرِ فَقَدْ بَالَغَ فِي الْبُخْلِ وَكَانَ هُوَ الْبَخِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: فِي اعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ وَقَدْ عَدُّوا مِنْ ذَلِكَ آيَاتٍ شَرِيفَةً بَعْضُهَا مُسْتَقِيمٌ وَبَعْضُهَا بِخِلَافِهِ الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وريحان} الْآيَةَ قَالَ الْفَارِسِيُّ: قَدِ اجْتَمَعَ هُنَا شَرْطَانِ وَجَوَابٌ وَاحِدٌ فَلَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ جوابا لأما أو لإن ولا يجوز أن يكون جواب لَهُمَا لِأَنَّا لَمْ نَرَ شَرْطَيْنِ لَهُمَا جَوَابٌ وَاحِدٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَجَازَ شَرْطٌ وَاحِدٌ لَهُ جَوَابَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لـ "إن" دُونَ "أَمَّا" لِأَنَّ "أَمَّا" لَمْ تُسْتَعْمَلْ بِغَيْرِ جَوَابٍ فَجُعِلَ جَوَابًا لِأَمَّا فَتُجْعَلُ أَمَّا وَمَا بَعْدَهَا جَوَابًا لِإِنْ وَتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي كَوْنِ الْجَوَابِ لِأَمَّا وَقَدْ سَبَقَهُمَا إِلَيْهِ إِمَامُ الصِّنَاعَةِ سِيبَوَيْهِ وَنَازَعَ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي عَدِّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا قَالَ: وَلَيْسَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُقْرَنَ الثَّانِي بِفَاءِ الْجَوَابِ لَفْظًا نَحْوُ إِنْ تَكَلَّمَ زَيْدٌ فَإِنْ أَجَادَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِي وَجَوَابَهُ جَوَابُ الْأَوَّلِ أَوْ يُقْرَنَ بِفَاءِ الْجَوَابِ تَقْدِيرًا كَهَذِهِ الْآيَةِ الشريفة لأن الأصل عند النجاة مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَفَّى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَجَزَاؤُهُ رَوْحٌ فَحُذِفَ مَهْمَا وَجُمْلَةُ شَرْطِهَا وَأُنِيبَ عَنْهَا "أَمَّا" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 فَصَارَ "أَمَّا فَإِنْ كَانَ" مُفْرِدًا مِنْ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَلِي أَدَاةَ الشَّرْطِ بِغَيْرِ فَاصِلٍ وَثَانِيهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْعَطْفِ فَحَقُّهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ سَبَبَيْنِ وَهُمَا الْمُتَعَاطِفَانِ فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا مِنْ بَابِ الْعَطْفِ حَفَظُوا عَلَيْهَا الْمَعْنَى الْآخَرَ وَهُوَ التَّوَسُّطُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا فِي حَيِّزِهَا عَلَيْهَا إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ فَقُدِّمَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّهَا كَالْجَزَاءِ الْوَاحِدِ كَمَا قُدِّمَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} فَصَارَ {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ} فَحُذِفَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي جَوَابِ إِنْ لِئَلَّا يلتقي فاءان فتخلص أَنَّ جَوَابَ أَمَّا لَيْسَ مَحْذُوفًا بَلْ مُقَدَّمًا بَعْضُهُ عَلَى الْفَاءِ فَلَا اعْتِرَاضَ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يريد أن يغويكم} وإنما يكون من هذا لو كان {لا ينفعكم نصحي} مُؤَخَّرًا بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ أَوْ لَازِمًا أَنْ يُقَدَّرَ كَذَلِكَ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ وأما الثاني فلأن {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} جُمْلَةٌ تَامَّةٌ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَمَنْ شَرْطٌ مُؤَخَّرٌ وَجَزَاءٌ مُقَدَّمٌ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فَالْمُقَدَّمُ دَلِيلُ الْجَزَاءِ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ فَيُقَدَّرُ بَعْدَ شَرْطِهِ فَلَمْ يَقَعِ الشَّرْطُ الثَّانِي مُعْتَرِضًا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْتَرِضِ مَا اعْتَرَضَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ لَا حَذْفَ وَالْجَوَابُ مُقَدَّمٌ وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ الْحَذْفُ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وهنا فائدة وهي أنه لم عَدَلَ عَنْ "إِنْ نَصَحْتُ" إِلَى {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ} ؟ وَكَأَنَّهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ أَرَادَ الْإِغْوَاءَ وَقَدْ أَحْسَنَ الزمخشري فَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الِاعْتِرَاضِ فِي الْآيَةِ بَلْ سَمَّاهُ مُرَادِفًا هُوَ صَحِيحٌ وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} جَزَاؤُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْصَحَ لَكُمْ مُرَادًا ذَلِكَ مِنْكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وَهُوَ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِرَاضِ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الْآيَةَ وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا لِتَقَدُّمِ الْجَزَاءِ أَوْ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّرْطَيْنِ فَالِاحْتِمَالُ فِيهَا كَمَا قَدَّمْنَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَرْطٌ فِي الْإِحْلَالِ هِبْتُهَا نَفْسَهَا وَفِي الْهِبَةِ إِرَادَةُ الِاسْتِنْكَاحِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْلَلْنَاهَا لَكَ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا لِأَنَّ إِرَادَتَهُ هِيَ قَبُولُ الْهِبَةِ وما به تتم وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ مُقَيِّدٌ لِلْأَوَّلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَحْلَلْنَاهَا فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْأَوَّلِ وَيُقَدَّرُ جَوَابُ الثَّانِي مَحْذُوفًا الْآيَةُ الرابعة: قوله تعالى: {وقال موسى يا قوم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كنتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 مسلمين} وَغَلِطَ مَنْ جَعَلَهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ اقْتَرَنَ بِجَوَابِهِ ثُمَّ أَتَى بِالثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا ذُكِرَ جَوَابُ الثَّانِي تَالِيًا لَهُ فَأَيُّ اعْتِرَاضٍ هُنَا لِهَذَا قَالَ الْمُجَوِّزُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لِلْأَوَّلِ وَجَوَابَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ وَجَوَابِهِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ: "إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَإِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا" فَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ السَّابِقِ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ. إِنْ يسألكموها فيحفكم تبخلوا} وَكَلَامُ ابْنِ مَالِكٍ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ وليس كذلك بل عطف هل الشَّرْطِ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَعَذَّبْنَا} وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَالشَّرْطَانِ وَهُمَا "لَوْلَا" وَ"لَوْ" قَدِ اعْتَرَضَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا إِلَّا جَوَابٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُمَا وَهُوَ {لَعَذَّبْنَا} الْآيَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إن ترك خيرا الوصية} وَهَذِهِ تَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ} عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ أَيْ: فَالْوَصِيَّةُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَأَمَّا إِذَا رُفِعَتِ {الْوَصِيَّةُ} بِـ {كُتِبَ} فَهِيَ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي حَذْفِ الْجَوَابَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 تنبيه في ضابط اعتراض الشرط على الشرط ذَكَرَ بَعْضُهُمْ ضَابِطًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِذَا دَخَلَ الشَّرْطُ عَلَى الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي بِالْفَاءِ فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ جَوَابُهُ وَهُوَ وَجَوَابُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عليهم} وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْفَاءِ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي متأخرا في الوجود عن الأول كان مقدر بِالْفَاءِ وَتَكُونُ الْفَاءُ جَوَابَ الْأَوَّلِ وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ جَوَابَ الثَّانِي نَحْوُ: إِنْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ إِنْ صَلَّيْتَ فِيهِ فَلَكَ أَجْرٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ صَلَّيْتَ فِيهِ فَحُذِفَتِ الْفَاءُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي نِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَمَا قَبْلَهُ جَوَابُهُ وَالْفَاءُ مُقَدَّرَةٌ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نصحي} تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَإِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت} كَانَ الْحُكْمُ رَاجِعًا إِلَى التَّقْدِيرِ وَالنِّيَّةِ فَأَيُّهُمَا قَدَّرْتَهُ الشَّرْطَ كَانَ الْآخَرُ جَوَابًا لَهُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْفَاءِ كَانَ الْمُتَقَدِّمَ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمُتَأَخِّرَ فَإِنْ قَدَّرْنَا الْهِبَةَ شَرْطًا كَانَتِ الإرادة جوابا له وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا وَإِنْ قَدَّرْنَا الْإِرَادَةَ شَرْطًا كَانَتِ الْهِبَةُ جَزَاءً وَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا فَإِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَهِيَ حَلَالٌ لَكَ وَقِسْ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فائدة قد يسمى الشرط يمينا قال ابن حني فِي كِتَابِ "الْقَدِّ": يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ جُمْلَةٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى أُخْرَى وَقَدْ جَرَتِ الْجُمْلَتَانِ مَجْرَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَمِنْ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ! الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ وَهُمَا جُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْأَسَالِيبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ التَّأْكِيدِ وَالْقَسَمُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ وَالِالْتِزَامُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ وَقَعَ أَوْ لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ الْمُضِيَّ أَوِ الِاسْتِقْبَالَ وَفَائِدَتُهُ تَحَقُّقُ الْجَوَابِ عِنْدَ السَّامِعِ وتأكده ليزول عنه التردد فيه الأمر الْأَمْرُ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ بِغَيْرِ الْحَرْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {ادخلوا مساكنكم} {اخرجوا من دياركم} {كلوا من ثمره} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وَجَاءَ بِالْحَرْفِ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ بعضهم: {فبذلك فلتفرحوا} وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ إِلَى الْخِطَابِ فَكَأَنَّهُ لَا غَائِبٌ وَلَا حَاضِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا} فِيهِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ النَّبِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ كَخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فَكَأَنَّهُمَا اتَّحَدَا فِي الْحُكْمِ وَوُجُودِ الِاسْتِمَاعِ وَالِاتِّبَاعِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ كَأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فِي الْمَعْنَى فَأَتَى بِاللَّامِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ قَوْمًا غُيَّبًا وَبِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ حُضُورًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الآية: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} الْآيَةَ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ مُخَاطَبِينَ ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبرحمته} فبذلك يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُمْ فَصَارُوا مُخَاطَبِينَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَنَظِيرُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ فِي كَلِمَتَيْنِ وَحَالَتَيْنِ وهذا في كلمة وَاحِدَةٍ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ومنها قوله تعالى: {ليقض علينا ربك} النَّفْيُ هُوَ شَطْرُ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا إِثْبَاتٌ أَوْ نَفْيٌ وَفِيهِ قَوَاعِدُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَحْدِ قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنْ كَانَ النَّافِي صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ سُمِّيَ كَلَامُهُ نَفْيًا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ مَا نَفَاهُ كَانَ جَحْدًا فَالنَّفْيُ أَعَمُّ لِأَنَّ كُلَّ جَحْدٍ نَفْيٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْجَحْدُ نَفْيًا لِأَنَّ النَّفْيَ أَعَمُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّفْيُ جَحْدًا فَمِنَ النَّفْيِ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ومن الجحد نفي فرعون وقومه آيات مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} أَيْ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ إِخْبَارُ اللَّهِ عَمَّنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} فأكذبهم اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وقوله: {يحلفون بالله ما قالوا} فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} قَالَ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْتُهُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّفْيِ عَنِ الشَّيْءِ صِحَّةَ اتِّصَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ بِذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 الشَّيْءِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} {وما كان ربك نسيا} {لا تأخذه سنة ولا نوم} {وهو يطعم ولا يطعم} وَنَظَائِرُهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَنَفْيُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ الثَّالِثَةُ: الْمَنْفِيُّ مَا وَلِيَ حَرْفَ النَّفْيِ فَإِذَا قُلْتَ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا كُنْتَ نَافِيًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ وَإِذَا قُلْتَ: مَا أَنَا ضَرْبَتُهُ كُنْتَ نَافِيًا لِفَاعِلِيَّتِكَ لِلضَّرْبِ فَإِنْ قُلْتَ: الصُّورَتَانِ دَلَّتَا عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن الأولى نفت ضربا خاص وَهُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ ضرب غيرك ولا عدمه إذا نَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ وَلَا ثُبُوتَهُ وَالثَّانِيَةُ نَفَتْ كَوْنَكَ ضَرَبْتَهُ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ غَيْرَكَ ضَرَبَهُ بِالْمَفْهُومِ الثَّانِي: أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ ضَرْبِكِ لَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالثَّانِيَةَ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِهِ بِوَاسِطَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ عَامًّا وَنَفَيْتَهُ فَإِنْ تَقَدَّمَ حَرْفُ النَّفْيِ أَدَاةَ الْعُمُومِ كَانَ نَفْيًا لِلْعُمُومِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْإِثْبَاتَ الْخَاصَّ فَإِذَا قُلْتَ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّ ذَا بَلْ بَعْضَهُ اسْتَقَامَ وَإِنْ تَقَدَّمَ صِيغَةُ الْعُمُومِ عَلَى النَّفْيِ فَقُلْتَ: كُلُّ ذَا لَمْ أَفْعَلْهُ كَانَ النَّفْيُ عَامًّا وَيُنَاقِضُهُ الْإِثْبَاتُ الْخَاصُّ وَحَكَى الْإِمَامُ فِي "نِهَايَةِ الْإِيجَازِ" عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ فَقَوْلُهُ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَهُ قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ كَمَا لَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّفْيِ لَا يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُهُ كَثِيرَةٌ قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَأَصْلُهَا "لا" و"ما" لِأَنَّ النَّفْيَ إِمَّا فِي الْمَاضِي وَإِمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاسْتِقْبَالُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي أَبَدًا وَ"لَا" أَخَفُّ مِنْ "مَا" فَوَضَعُوا الْأَخَفَّ لِلْأَكْثَرِ ثُمَّ إِنَّ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا وَاحِدًا مُسْتَمِرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا فِيهِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ النَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ النَّفْيُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ وَاخْتَارُوا لَهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: مَا، لَمْ، لَنْ، لَا وأما "إن" و"لما" فليسا بأصليين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 فـ "ما" و"لا" في الماضي والمستقبل متقابلان و"لم "و "لن" فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُتَقَابِلَانِ وَ"لَمْ" كَأَنَّهُ مأخوذ من "لا" و"ما" لِأَنَّ "لَمْ" نَفْيٌ لِلِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا فَأَخَذَ اللَّامَ مِنْ "لَا" الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمِيمَ مِنْ "مَا" الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمَاضِي وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِي "لَمِ" الْمُسْتَقْبَلَ وَالْمَاضِيَ وَقَدَّمَ اللَّامَ عَلَى الْمِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَا هُوَ أَصْلُ النَّفْيِ وَلِهَذَا يُنْفَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فَيُقَالُ: لَمْ يَفْعَلْ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو وَلَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا أَمَّا "لَمَّا" فتركيب بعد تركيب كأنه قال: "لم" و"ما" لِتَوْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ فِي الْمَاضِي وَتُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا وَلِهَذَا تُفِيدُ لَمَّا الِاسْتِمْرَارَ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا قُلْتَ نَدِمَ زِيدٌ وَلَمْ يَنْفَعْهُ النَّدَمُ أَيْ حَالَ النَّدَمِ لَمْ يَنْفَعْهُ وَإِذَا قُلْتَ: نَدِمَ زَيْدٌ وَلَمَّا يَنْفَعْهُ النَّدَمُ أَيْ حَالَ النَّدَمِ وَاسْتَمَرَّ عَدَمُ نَفْعِهِ قُلْتُ: وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا نُفِيَ بِهَا الْفِعْلُ اخْتَصَّتْ بِنَفْيِ الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُتَّسَعَ فِيهَا فَيُنْفَى بِهَا الْحَاضِرُ نَحْوُ: مَا قَامَ وَمَا قَعَدَ قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْيِ بِلَمْ وَمَا أَنَّ النَّفْيَ بِمَا كَقَوْلِكَ: مَا قَامَ زَيْدٌ مَعْنَاهُ أَنَّ وَقْتَ الْإِخْبَارِ هَذَا الْوَقْتُ وَهُوَ إِلَى الْآنِ مَا فَعَلَ فَيَكُونُ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي وأن النفي بلم كَقَوْلِكَ: لَمْ يَقُمْ تَجْعَلُ الْمُخْبِرَ نَفْسَهُ بِالْعَرْضِ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَلِأَنَّهُ يَقُولُ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ أَنَا أُخْبِرُكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَعَلَى هَذَا فَتَأَمَّلِ السِّرَّ في قوله تعالى: {لم يتخذ ولدا} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ ولد} لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَقَامِ طَلَبِ الذِّكْرِ وَالتَّشْرِيفِ بِهِ لِلثَّوَابِ وَالثَّانِيَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ إِلَّا بِالنَّفْيِ عَنْ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيا} وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فَإِنَّ مَرْيَمَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي تَفَكَّرْتُ فِي أَزْمِنَةِ وُجُودِي وَمَثَّلْتُهَا فِي عَيْنِي: "لَمْ أَكُ بَغِيًّا" فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهَا تَنْفِي نَفْيًا كُلِّيًّا مَعَ أَنَّهَا نَسِيَتْ بَعْضَ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا وَأَمَّا هُمْ لَمَّا قَالُوا: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} مَا كَانَ يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ تَصَوَّرْنَا كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِ أُمِّكِ وَنَنْفِي عَنْ كُلِّ واحد منها كونها بغيا لأن أحد لَا يُلَازِمُ غَيْرَهُ فَيَعْلَمَ كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا لَهَا إِنَّ أُمَّكِ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ الْكُلِّ حَتَّى حَكَمُوا عَلَيْهَا حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا أَنَّهَا مَا بَغَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وأهلها غافلون} وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يبعث في أمها رسولا} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {بِظُلْمٍ} كَانَ سَبَبُ حُسْنِ الْهَلَاكِ قَائِمًا وَأَمَّا الظُّلْمُ فَكَانَ يُتَوَقَّعُ فِي كُلِّ زَمَنِ الْهَلَاكِ سَوَاءٌ كَانُوا غَافِلِينَ أَمْ لَا لَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ يُمْسِكُ عَنْهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَافَقَتْهُ غَفْلَتُهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وَإِنْ جَدَّ الظُّلْمُ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ سَبَبًا مَعَ الْإِصْلَاحِ فَبَقِيَ النَّفْيُ الْعَامُّ بِعَدَمِ تَحْقِيقِ الْمُقْتَضَى فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُذْكَرِ الظُّلْمُ لَمْ يُتَوَقَّعِ الْهَلَاكُ فَلَمْ يَبْقَ مُتَكَرِّرًا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بأنفسهم} وقوله: {وما كان الله معذبهم} ذُكِرَ عِنْدَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 إِلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ قال تعالى: {وما كان الله معذبهم} نَفْيًا وَاحِدًا عَامًّا عِنْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعَذَابِ وَيَتَكَرَّرَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لَا لِلْمِنَّةِ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قلبين في جوفه} وَقَالَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج} {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سميا} وقال تعالى: {ولم يجعلني جبارا شقيا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سترا} فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِ مَا حَصَّلَ الْمَذْكُورُ أُمُورًا لَا يُتَوَقَّعُ تَجَدُّدُهَا وَفِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَحْصُلْ تَوَقُّعُ تَجَدُّدِ الْمَذْكُورِ فَاسْتَمْسِكْ بِمَا ذَكَرْنَا وَاجْعَلْهُ أَصْلًا فَإِنَّهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 النوع السادس والأربعون: في أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ وَفُنُونِهِ الْبَلِيغَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ بَيْتُ الْقَصِيدَةِ وَأَوَّلُ الْجَرِيدَةِ وَغُرَّةُ الْكَتِيبَةِ وَوَاسِطَةُ الْقِلَادَةِ وَدُرَّةُ التَّاجِ وَإِنْسَانُ الْحَدَقَةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ لِلْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ شَرِيفُ الْمَحَلِّ عَظِيمُ الْمَكَانِ قَلِيلُ الطُّلَّابِ ضَعِيفُ الْأَصْحَابِ لَيْسَتْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ وَلَا ذَوُو بَصِيرَةٍ تَسْتَقْصِيهِ وَهُوَ أَرَقُّ مِنَ الشِّعْرِ وَأَهْوَلُ مِنَ الْبَحْرِ وَأَعْجَبُ مِنَ السِّحْرِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْكَافِلُ بِإِبْرَازِ إِعْجَازِ النَّظْمِ الْمُبِينِ مَا أُودِعَ مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ وَبَرَاعَةِ التَّرْكِيبِ وَمَا تَضَمَّنَهُ فِي الْحَلَاوَةِ وَجَلَّلَهُ فِي رَوْنَقِ الطَّلَاوَةِ مَعَ سُهُولَةِ كَلِمِهِ وَجَزَالَتِهَا وَعُذُوبَتِهَا وَسَلَاسَتِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَرْجِعُ الْحُسْنُ إِلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ صِنَاعَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْمَعَانِي فَلَمْ يَعُدَّ الْأَسَالِيبَ الْبَلِيغَةَ وَالْمَحَاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ مَجْمُوعُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ إِذِ اللَّفْظُ مَادَّةُ الْكَلَامِ الَّذِي مِنْهُ يَتَأَلَّفُ وَمَتَى أُخْرِجَتِ الْأَلْفَاظُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعًا خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْمُعْتَبَرَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ إِلَّا بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وَهَا أَنَا أُلْقِي إِلَيْكَ مِنْهُ مَا يَقْضِي لَهُ الْبَلِيغُ عَجَبًا وَيَهْتَزُّ بِهِ الْكَاتِبُ طَرَبًا فَمِنْهُ التَّوْكِيدُ بِأَقْسَامِهِ وَالْحَذْفُ بِأَقْسَامِهِ الْإِيجَازُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ الْقَلْبُ الْمُدْرَجُ الِاقْتِصَاصُ التَّرَقِّي التَّغْلِيبُ الِالْتِفَاتُ التَّضْمِينُ وَضْعُ الْخَبَرِ مَوْضِعَ الطَّلَبِ وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ وَضْعُ النِّدَاءِ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ وَضْعُ جُمْلَةِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ تَأْنِيثُ الْمُذَكِّرِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي عَكْسُهُ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى النَّحْتُ الْإِبْدَالُ الْمُحَاذَاةُ قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ وَالصِّفَاتِ إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مُخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْإِعْرَاضُ عَنْ صَرِيحِ الْحُكْمِ الْهَدْمُ التَّوَسُّعُ الِاسْتِدْرَاجُ التَّشْبِيهُ الِاسْتِعَارَةُ التَّوْرِيَةُ التَّجْرِيدُ التَّجْنِيسُ الطِّبَاقُ الْمُقَابَلَةُ إِلْجَامُ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ التَّقْسِيمُ التَّعْدِيدُ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ قَاعِدَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا تَارَةً وَمُفْرَدًا أُخْرَى وَحِكْمَةُ ذَلِكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى فِي الضَّمَائِرِ قَاعِدَةٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ الْخِطَابُ بِالِاسْمِ الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ قَاعِدَةٌ فِي ذِكْرِ الْمَوْصُولَاتِ وَالظَّرْفِ تَارَةً وَحَذْفِهَا أُخْرَى قَاعِدَةٌ فِي النَّهْيِ وَدَفْعِ التَّنَاقُضِ عَمَّا يُوهِمُ ذَلِكَ وَمِلَاكُ ذَلِكَ الْإِيجَازُ وَالْإِطْنَابُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الْأُسْلُوبُ الْأَوَّلُ: التَّأْكِيدُ وَالْقَصْدُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ لِيَصِيرَ وَاقِعًا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَأْكِيدُ الْمَاضِي وَلَا الْحَاضِرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ الْمُسْتَقْبَلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِيهِمَا تَأْكِيدٌ وَلَا في اللغة بل لابد أَنْ يُفِيدَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْأَوَّلِ وَاعْتَرَضَ الْمُلْحِدُونَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّأْكِيدَاتِ وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْبَلَاغَةِ فِي النَّظْمِ إِيجَازُ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْنَى وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَا يُمَلُّ وَالْإِفَادَةُ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ لِقُصُورِ النَّفَسِ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمُرَادِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى لِسَانِ الْقَوْمِ وَفِي لِسَانِهِمُ التَّأْكِيدُ وَالتَّكْرَارُ وَخِطَابُهُ أَكْثَرُ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَرَاعَةِ وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُكَابِرٌ إِذْ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ تَأْكِيدًا فَائِدَةٌ فَإِنَّ الِاسْمَ لَا يُوضَعُ إِلَّا لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ الثَّانِيَةُ: حَيْثُ وَقَعَ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ حَكَاهُ الطرطوسي في العمدة ثُمَّ قَالَ وَمَنْ سَمَّى التَّأْكِيدَ مَجَازًا فَيُقَالُ لَهُ إِذَا كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ نَحْوُ عَجِّلْ عَجِّلْ وَنَحْوُهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا جَازَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ بَطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَوَّلِ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ الرَّابِعَةُ: يَكْتَفِي فِي تِلْكَ بِأَيْ مَعْنًى كَانَ وَشَرْطٍ وَمَا قَالَهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ حَتَّى يَحْذُوَ بِهِ حَذْوَ الْأَلْفَاظِ الْخَامِسَةُ: فِي تَقْسِيمِهِ وَهُوَ صِنَاعِيٌّ -يَتَعَلَّقُ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ- وَمَعْنَوِيٌّ وَأَقْسَامُهُ كَثِيرَةٌ فَلْنَذْكُرْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ: التَّوْكِيدُ الصِّنَاعِيُّ وَهُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فَاللَّفْظِيِّ: تقرير معنى الأول بلفظ أو مرادفه فمن المرادف: {فجاجا سبلا} {ضيقا حرجا} في قراءة كسر الراء {وغرابيب سود} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وَجَعَلَ الصَّفَّارُ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فِيمَا إِنْ مكناكم فيه} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كِلَاهُمَا لِلنَّفْيِ وَاللَّفْظِيُّ يَكُونُ في الاسم النكرة بالإجماع نحو: {قواريرا. قوارير} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُصْفُورٍ مِنْهُ: {دَكًّا دكا} و {صفا صفا} وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ معنى دكا دكا دكا بَعْدَ دَكٍّ وَأَنَّ الدَّكَّ كُرِّرَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَ هَبَاءً مَنْثُورًا وَأَنَّ مَعْنَى: {صَفًّا صَفًّا} أَنَّهُ تَنَزَّلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ يَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحَدِّقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الثَّانِي مِنْهُمَا تَكْرَارًا لِلْأَوَّلِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ رَجُلًا رَجُلًا وَعَلَّمْتُهُ الْحِسَابَ بَابًا بَابًا وَقَدْ ذِكْرَ ابْنُ جِنِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إذا رجت} أَنْ {رُجَّتِ} بَدَلٌ مِنْ {وَقَعَتْ} وَكُرِّرَتْ "إِذَا" تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ امْتِزَاجِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَيَكُونُ فِي اسْمِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لما توعدون} وَفِي الْجُمْلَةِ نَحْوُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} ولكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّوْكِيدِ سَقَطَتْ مِنْ مُصْحَفِ ابْنِ مسعود ومن قراءته والأكثر فصل الجملتين بثم كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أدراك} {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ويكون فِي الْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجنة خالدين فيها} وَالْأَكْثَرُ فِيهِ اتِّصَالُهُ بِالْمَذْكُورِ وَزَعَمَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّهُ لا يجوز الفصل بين التوكيد والمؤكد قَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: وَالسَّمَاعُ يَرُدُّهُ قال تعالى: {وهم بالآخرة هم كافرون} فَإِنَّ "هُمُ" الثَّانِيَةَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} أَلَّا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} فَأَكَّدَ "لَمَّا" وَبَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَأَصْلُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كفروا} فَكُرِّرَ لِلطُّولِ الَّذِي بَيْنَ "لَمَّا" وَجَوَابِهَا وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أنكم مخرجون} فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ "أَنَّ" بَعْدَ مَا فَصَلَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآيات للمؤمنين} . رَيْبَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْهَلَاكِ وَإِنَّ قَوْمَ مُوسَى اجْتَمَعُوا فِي النَّجَاةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن يوسف: {وأتوني بأهلكم أجمعين} فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ وَإِنْ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ اجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَعْنَى إِلَيْهِ وَأَلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: {كلهم} يُفِيدُ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ: {أَجْمَعُونَ} قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ في السجود هذا في اللفظ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكُنْ لِيَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عنده ولاسيما وَقَدْ وُقَّتَ لَهُمْ بِوَقْتٍ وَحُدَّ لَهُمْ بِحَدٍّ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ وَنَفْخِ الرُّوحِ فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ سَجَدُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعَلَى هَذَا يُخَرِّجُ كَلَامَ الْمُبَرِّدِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ عَلَى الْكُلِّ بدليل قوله: {أستكبرت أم كنت من العالين} مَرْدُودٌ بَلْ الْعَالُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ وَفِي رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ أَنَّ الْعَالِينَ هُمُ الْعُقُولُ الْعَاقَّةُ الَّتِي لَمْ تَسْجُدُ وَهَذَا تَحْرِيفٌ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ الَّتِي تَدَّعِيهَا الْفَلَاسِفَةُ وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنْهُ لَيْسَ مِنْهُمْ عُنْصُرًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَتِ الْجَانُّ مِنَ النَّارِ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" وَهُوَ مِنْهُمْ حُكْمًا لِدُخُولِهِ فِي الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مَعَهُمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا آلَ لوط إنا لمنجوهم أجمعين} فَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهُ "كُلُّهُمْ" لَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْآيَةِ لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ فِي التَّأْكِيدِ بِدَلِيلِ الاستثناء بعده من قوله: {إلا امرأته} وَمِنْهَا: قَصْدُ تَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إني جاعل} فَأُكِّدَ بِإِنَّ وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَاكِّينَ فِي الْخَبَرِ وَمِثْلُهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ ميتون} وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ نُوحٍ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يضلوا عبادك} وَمِنْهَا: قَصْدُ إِغَاظَةِ السَّامِعِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {إنك لمن المرسلين} وَمِنْهَا: التَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} أَكَّدَهُ بِأَرْبَعِ تَأْكِيدَاتٍ وَهِيَ إِنَّ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ وَالْمُبَالَغَتَانِ مَعَ الصِّفَتَيْنِ لَهُ لِيَدُلَّ عَلَى تَرْغِيبِ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ طَمِعَ فِي عَفْوِهِ وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إن الله معنا} وَمِنْهَا: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} دون الاقتصار على "يأتينكم هدى" قال المفسرونك فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشفاء لما في الصدور} {قد جاءكم برهان من ربكم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ بِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ إني ظلمت نفسي} وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} تعريضا سؤال قَبُولِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ تَطْلُبُ لِلنَّذْرِ ذَكَرًا تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ لِلْحَاجَةِ لِلتَّحَرُّزِ عن ذكر مالا فَائِدَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ سَاذَجًا أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ خَالِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِيهِ حَسُنَ تَقْوِيَتُهُ بِمُؤَكَّدٍ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ تَأْكِيدُهُ وَيُرَاعَى فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُنْكِرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عن رسل عيسى: {ربنا يعلم} الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مثلنا} والثاني قولهم: {ما أنزل الرحمن من شيء} والثالث قولهم: {إن أنتم إلا تكذبون} فَقُوبِلُوا عَلَى نَظِيرِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {ربنا يعلم} وُوجِهَ التَّأْكِيدُ فِيهِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى قَسَمٍ والثاني قوله: {إنا إليكم لمرسلون} وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ المبين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وَقَدْ يَنْزِلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكَرِ وَعَكْسُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أكدت الإماتة تَأْكِيدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطِبِينَ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَوْتَ وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَدِلَّتُهُ ظَاهِرَةً كَانَ جَدِيرًا بِأَلَّا يَتَكَرَّرَ وَيَتَرَدَّدَ فِيهِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهِ الْوَاضِحَةِ الثَّانِي: قَالَ التَّنُوخِيُّ في "أقصى القرب": إِذَا قَصَدُوا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ أَتَوْا بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَإِنْ أَكَّدُوا فَبِالِاسْمِيَّةِ ثُمَّ بِإِنَّ ثُمَّ بِهَا وَبِاللَّامِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الْفِعْلِيَّةُ بِقَدْ وَإِنِ احْتِيجَ بِأَكْثَرَ جِيءَ بِالْقَسَمِ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الِاسْمِيَّةُ بِاللَّامِ فَقَطْ نَحْوُ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ وَقَدْ تَجِيءُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ مُضْمَرَةً بَعْدَ اللَّامِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَلَى دَرَجَاتٍ قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ لَقَدْ قَامَ -فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلِيَّةَ كَأَنَّهَا دُونَ الِاسْمِيَّةِ- ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ولزيد قائم ما يلتحق بالتأكيد الصناعي وَيَلْتَحِقُ بِالتَّأْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: تَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} وقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} {وسلموا تسليما} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا. وَتَسِيرُ الجبال سيرا} {وهي تمر مر السحاب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 {فدكتا دكة واحدة} {إذا زلزلت الأرض زلزالها} {فيكيدوا لك كيدا} وَهُوَ كَثِيرٌ قَالُوا: وَهُوَ عِوَضٌ عَنْ تَكْرَارِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ فَقَوْلُكَ ضَرَبْتُ ضَرْبًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْمُفْرَدِ وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وتظنون بالله الظنونا} بل هو جمع الظن وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ قَالَهُ ابْنُ الدَّهَّانِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَائِدَتِهِ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَرْفَعُ الْمَجَازَ عَنِ الْفَاعِلِ فَإِنَّكَ تَقُولُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ اللِّصَّ ولا يكون باشر بل أمر به ضَرَبًا عُلِمَ أَنَّهُ بَاشَرَ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذلك ثعلب في أماليه وابن العصفور فِي شَرْحِ الْجَمَلِ الصَّغِيرِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْوَهْمَ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ احْتُمِلَ مَجَازَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ الضَّرْبِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ الْأَمِيرِ عَلَى أَمْرِهِ فَإِذَا أَرَدْتَ رَفْعَ الْأَوَّلِ أَتَيْتَ بِالْمَصْدَرِ فَقُلْتَ: ضَرْبًا وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ قُلْتَ: نَفْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ ضَعْفَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} فَإِنَّهُ لِمَا أُرِيدَ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ قَالَ: {تَكْلِيمًا} وَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ حَقِيقَةً أَمَّا تَأْكِيدُ فَاعِلِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَلَقَدْ سَخُفَ عَقْلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي بَيَانِ الْوَحْيِ وَيُحْكَى أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ التَّكْلِيمِ حَقِيقَةً بِالْآيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُؤَكِّدُ فَسَلَّمَ الْمُعْتَزِلِيُّ لَهُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَأَرَادَ دَفْعَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا هُوَ {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى} بِنَصْبِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَجَعَلَ مُوسَى فَاعِلًا بِـ كَلَّمَ وَأَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ وَكَابَرَ فَقَالَ السُّنِّيُّ: فَمَاذَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ موسى لميقاتنا وكلمه ربه} فَانْقَطَعَ الْمُعْتَزِلِيُّ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَرَعْتُ ظَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْتُ الْهَوَى قَسْرًا قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وأسررت لهم إسرارا} فَمَفْعُولُ {أَسْرَرْتُ} مَحْذُوفٌ أَيِ: الدُّعَاءَ وَالْإِنْذَارَ وَنَحْوَهُ فَإِنْ قُلْتَ: التَّأْكِيدُ يُنَافِي الْحَذْفَ فَالْجَوَابُ مِنْ وجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُصَدِّرَ لَمْ يُؤْتَ بِهِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ بِصُورَتِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ وَلِهَذَا لَمْ يُؤْتَ بِمَصْدَرٍ {أَعْلَنْتُ} وَهُوَ مِثْلُهُ وَالثَّانِي: أَنَّ "أَسْرَّ" وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ مَفْعُولِهِ وَجُعِلَ نَسْيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ فُلَانٌ يُعْطَى وَيُمْنَعُ فَصَارَ لِذَلِكَ كَاللَّازِمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَجِيءِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ لَوْ كَانَ ثُمَّ التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ تَارَةً يَجِيءُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ وَتَارَةً يَجِيءُ مِنْ مُرَادِفِهِ كقوله تعالى: {ثم إني دعوتهم جهارا} فَإِنَّ الْجِهَارَ أَحَدُ نَوْعَيِ الدُّعَاءِ وَقَوْلُهُ: {لَيًّا بألسنتهم} فإنه منصوب بقوله: {يحرفون الكلم} لِأَنَّ {لَيًّا} نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون منه: {أتأخذونه بهتانا} لِأَنَّ الْبُهْتَانَ ظُلْمٌ وَالْأَخْذُ عَلَى نَوْعَيْنِ: ظَلَمٌ وغيره وزعم الزمخشري قوله: {نافلة لك} وضع {نافلة} مَوْضِعَ تَهَجُّدًا لِأَنَّ التَّهَجُّدَ عِبَادَةٌ زَائِدَةٌ فَكَانَ التَّهَجُّدُ وَالنَّافِلَةُ يَجْمَعُهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلا} قِيلَ: كَانَ الْأَصْلُ تَكْرَارَ الصِّدْقِ بِلَفْظِهِ فَاسْتُثْقِلَ التَّكْرَارُ لِلتَّقَارُبِ فَعُدِلَ إِلَى مَا يُجَارِيهِ خِفَّةً ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خِفَّةً وَوَزْنًا إِحْرَازًا لِلتَّنَاسُبِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويخرجكم إخراجا} فَفَائِدَةُ {إِخْرَاجًا} أَنَّ الْمَعَادَ فِي الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْهَا أَمْثَالُهُمْ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَةُ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَبْطُلُ بِقَوْلِهِ تعالى: {نبتكم من الأرض نباتا} فَإِنَّهُ أَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ النَّبَاتِ قُلْتُ: لَا جَرَمَ حَيْثُ لَمْ يَرُدَّ الْحَقِيقَةَ هُنَا لَمْ يُؤَكِّدْهُ بِالْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ الْقِيَاسِيِّ بَلْ عُدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَرَ أَنْبَتَ الْإِنْبَاتُ وَالنَّبَاتُ اسْمُهُ لَا هُوَ كَمَا قيل في "الكلام" و"السلام": اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّسْلِيمُ وأما قوله: {وتبتل إليه تبتيلا} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى تَبَتُّلٍ لَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى: بِتَّلْ نَفْسَكَ تَبَتُّلًا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَوْضِعُ تَعَالِيًا لِأَنَّهُ مَصْدَرُ قَوْلِهِ: {وَتَعَالَى} وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مَعْنَاهُ وَكَذَا قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ: وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّ لَفْظَ التَّفَاعُلِ مِنَ التَّكَلُّفِ كَمَا يَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا. وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجُمْلَةُ الْفَاعِلِيَّةُ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فِي مفرديها جميعا وفي كل منهما مثاله ها هنا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِنَّ الْمَجَازَ فِي: {تَمُورُ} وَأَنَّهَا مَا تَمُورُ بَلْ تَكَادُ أَوْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا تَمُورُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَجَازَ فِي السماء وأن المور الحقيقي لكنها وَأَهْلِهَا لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي {وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَإِذَا رُفِعَ الْمَجَازُ عَنْ أَحَدِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ نُفِيَ احْتِمَالُهُ فِي الْآخَرِ فَلَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ وَأُجِيبَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ {مَوْرًا} فِي تَقْدِيرِ "تَمُورُ" فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمُورُ السَّمَاءُ تَمُورُ السَّمَاءُ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ تَسِيرُ الْجِبَالُ فَأَكَّدَ كُلًّا مِنَ الْجُزْأَيْنِ بِنَظِيرِهِ وَزَالَ الْإِشْكَالُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {شَيْئًا} مِنْ تَأْكِيدِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ بَيْعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالتِّبْيَانِ وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي أَمْرًا أَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ وَانْظُرْ كَيْفَ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ وَقَوْلُ الْبَيَانِيَّيْنِ: إِنَّهُ يَجِبُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ عَامًّا وَأَمَّا قوله تعالى: {دكا دكا} فَالْمُرَادُ بِهِ: التَّتَابُعَ أَيْ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ وكذا قوله: {صفا صفا} أَيْ: صَفًّا يَتْلُوهُ صَفٌّ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاحِدِ لَا يَحْتَمِلُ صَفًّا وَاحِدًا وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} فَإِنَّ إِضَافَةَ الزِّلْزَالِ إِلَيْهَا يُفِيدُ مَعْنَى ذَاتِهَا وَهُوَ: زِلْزَالُهَا الْمُخْتَصُّ بِهَا الْمَعْرُوفُ مِنْهَا الْمُتَوَقَّعُ كَمَا تَقُولُ غَضِبَ زَيْدٌ غَضَبَهُ وَقَاتَلَ زَيْدٌ قِتَالَهُ أَيْ غَضَبَهُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ وَقِتَالَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ كَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 *أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي* وَاعْلَمْ أَنَّ القاعدة في المصدر والمؤكدأن يَجِيءَ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ نَحْوُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليما} وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إليه تبتيلا} وقوله تعالى: {فإني أعذبه عذابا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقوله تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتا} ولم يقل: "تبتلا" و"تعذيبا" و"إقراضا" و"إنباتا" واختلف في ذلك على أقوال: أ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَضَعَ الِاسْمَ مِنْهَا مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُجْرَى عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ دَلِيلًا عَلَى الْمُضْمَرِ فَالْمَعْنَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ خَرُوفٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ يَعِيشَ وَنَازِعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَارِيَةً عَلَيْهَا وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلِ غَيْرُ مُعَبِّرٍ بِمَعْنَى مَصْدَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} أَيْ: وَنَبَتُّمْ أَيْ وَسَاغَ إِضْمَارُهُ لِأَنَّهُمْ إِذَا أُنْبِتُوا فَقَدْ نَبَتُوا وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُنْصَبَ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْمَصْدَرِ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الَّذِي نَصَبَهُ أَوْ تَبْيِينُ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِنْبَاتِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَاهُ فَكَيْفَ يُؤَكِّدُهُ أَوْ يُبَيِّنُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} فَإِنَّمَا ذِكْرُ قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} مَعَ {تَدَايَنْتُمْ} يَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي {فَاكْتُبُوهُ} عليه إذ لولم يَذْكُرْهُ لَقَالَ: "فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ" ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ {تَدَايَنْتُمْ} لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ الثَّانِي: أَنْ {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الدِّينِ فَاحْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لَا مِنَ الدِّينِ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى إِرَادَةِ الدَّيْنِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {بِدَيْنٍ} إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيْعٌ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الدَّيْنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَلَمَّا قَالَ: {بَدَيْنٍ} عُلِمَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَاحِدٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْإِشْهَادَ مَطْلُوبٌ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أجله} الْخَامِسُ: أَنَّ {تَدَايَنْتُمْ} مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاقْتِرَاضِ وَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَذُكِرَ الدَّيْنُ لِتَمْيِيزِ الْمُرَادِ قَالَ الْحَمَاسِيُّ: وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا نِ دَنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ ظُهُورِهِ فِيمَا قَبْلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَقَبَّلَهَا ربها بقبول حسن} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} وقوله: {سأل سائل} فَيُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ فِيهِمَا أَوْ بِضَمِيرِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِمَّا قَبِلَهُ وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 كل شيء} فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تمر مر السحاب} لِأَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعْدَ الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} لِأَنَّ هَذَا وَعْدُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كتابا مؤجلا} انْتَصَبَ {كِتَابًا} عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: "وَكَتَبَ اللَّهُ" لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى كَتَبَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عليكم} تأكيد لقوله: {حرمت عليكم} الْآيَةَ لِأَنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا وَانْتَصَبَ الْمَصْدَرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ فَعْلٌ تَقْدِيرُهُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ بـ "عليكم" عَلَى الْإِغْرَاءِ وَقُدِّمَ الْمَنْصُوبُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ التقدير وقوله: {صبغة الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ به فقد اهتدوا} لِأَنَّ هَذَا دِينُ اللَّهِ وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لأن الزلفى مصدر كالرجعى و"يقربونا" يَدُلُّ عَلَى "يُزَلِّفُونَا" فَتَقْدِيرُهُ: يُزَلِّفُونَا زُلْفَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ مَعَ حَذْفِ عَامِلِهِ كقوله: {فإما منا بعد وإما فداء} وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا تَمُنُّوا مَنًّا وَإِمَّا إِنْ تُفَادُوا فِدَاءً فَهُمَا مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِنَفْسِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} لِأَنَّهُ إِذَا أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا فَيَكُونُ {خَلَقَهُ} عَلَى مَعْنَى خَلَقَهُ خَلْقًا وَالضَّمِيرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَيْ أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ الصَّفَّارُ: وَالَّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَنَّ فِي هَذَا إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَكْثَرُ وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: "أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ" لِأَنَّهُ قَدْ يُحْسِنُ الْخَلْقَ وَهُوَ الْمُحَاوَلَةُ وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَإِذَا قَالَ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ فَائِدَتَانِ الْأُولَى: هَلِ الْأَوْلَى التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ أَوِ الْفِعْلِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَصْدَرُ أَوْلَى لِأَنَّهُ اسْمٌ وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ الْفِعْلِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ فَيَكُونُ جُمْلَةً فَيَزْدَادُ ثِقَلًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفِعْلَ أَوْلَى لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ الثَّانِيَةُ: حَيْثُ أُكِّدَ الْمَصْدَرُ النَّوْعِيُّ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُنْعَتَ بِالْوَصْفِ الْمُرَادِ مِنْهُ نَحْوُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 قمت قياما حسنا {وسرحوهن سراحا جميلا} وقوله: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} وَقَدْ يُضَافُ الْوَصْفُ إِلَى الْمَصْدَرِ فَيُعْطَى حُكْمَ الْمَصْدَرِ قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الثَّانِي: الْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ وَهِيَ الْآتِيَةُ عَلَى حَالٍ واحدة عكس الْمُبِيِّنَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مُنْتَقِلَةً وَهِيَ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لنفسه وسميت مؤكدة لأنها نعلم قَبْلَ ذِكْرِهَا فَيَكُونُ ذِكْرُهَا تَوْكِيدًا لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حيا} وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} {فتبسم ضاحكا من قولها} لِأَنَّ مَعْنَى تَبَسَّمَ: ضَحِكَ مَسْرُورًا وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ للناس رسولا} {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} وَذُكِرَ الْإِعْرَاضُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الضلال ومثله: {أقررتم وأنتم تشهدون} إِذْ مَعْنَى الْإِقْرَارُ أَقْرَبُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ وَالشَّهَادَةَ حَالَانِ لَهُمْ عِنْدَ التَّوَلِّي وَالْإِقْرَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} وَقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فَإِنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ففي الجنة خالدين فيها} وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحَالِ الِانْتِقَالُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ هُنَا فَإِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي غَيْرِ الْمُؤَكِّدَةِ وَلَمَّا لَمْ يَقِفِ ابْنُ جِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَدَّرَ مَحْذُوفًا أَيْ مُعْتَقَدًا خُلُودَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا سَاغَ مَجِيئُهَا غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي التَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ الْحَالَ الْمُؤَكِّدَةَ مَفْهُومَهَا مَفْهُومُ عَامِلِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّبَسُّمُ وَالضَّحِكُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ" وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ والإدبار في قوله تعالى: {ولى مدبرا} {ثم وليتم مدبرين} فَإِنَّهُمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَالتَّوْلِيَةُ أَنْ يُوَلِّيَ الشَّيْءَ ظَهْرَهُ وَالْإِدْبَارُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْهُ فَلَيْسَ كُلُّ مُوَلٍّ مُدْبِرًا وَلَا كُلُّ مُدْبِرٍ مُوَلِّيًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} فَلَوْ كَانَ أَصَمَّ مُقْبِلًا لَمْ يَسْمَعْ فَإِذَا وَلَّى ظَهْرَهُ كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِنَ السَّمَاعِ فَإِذَا أَدْبَرَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ لِبُعْدِهِ عَنِ السَّمَاعِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِدْبَارَ قَوْلُهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} فإنه بمعنى الإقبال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وقوله: {ولم يعقب} إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الْهُرُوبِ وَعَدَمِ رُجُوعِهِ يُقَالُ: فُلَانٌ وَلَّى إِذَا رَجَعَ وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: لَمْ يَقِفْ وَلَمْ يلتفت وكذلك قوله: {وأرسلناك للناس رسولا} قِيلَ: لَيْسَتْ بِمُؤَكَّدَةٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ قَدْ لَا يَكُونُ رَسُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ أرسلنا عليهم الريح العقيم} وقوله: {وهو الحق مصدقا} جَعَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْرِبِينَ مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ صِفَةَ الْحَقِّ التَّصْدِيقُ قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ الْعَامِلِ وَأَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ وَدَعْوَى التَّأْكِيدِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا فِي نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ فِيهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ كَوْنُهُ حَقًّا وَكَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ {مُصَدِّقًا} حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لَا مُؤَكِّدَةٌ وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا الْحَقُّ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الثَّابِتِ وَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ الْحَقُّ لِتَأَوُّلِهِ بِالْمُشْتَقِّ وَقَوْلِهِ: {قَائِمًا بالقسط} فـ "قائما" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ فَهِيَ لَازِمَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَقَدْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى مَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ منفرد بالربوبية وقائم بالقسط فإنه سبحانه بِالصِّفَتَيْنِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمَا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَالِ الِاتِّصَافِ بِالْأُخْرَى وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَمْ يَزَلْ بِهِمَا لِأَنَّ صِفَاتِهِ ذَاتِيَّةٌ قديمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 فائدة عن صاحب المفصل في وقوع الحال بعد الجملة الاسمية قَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ: لَا تَقَعُ الْمُؤَكِّدَةُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ إِنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الْجُمْلَتَيْنِ مُحْتَجًّا بِمَا سَبَقَ وَكَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعاء إذا ولوا مدبرين} وقوله تعالى: {ولى مدبرا ولم يعقب} فمدبرين ومدبرا حال مؤكدة لفعل التولية في أدوات التأكيد مؤكدات الجمل الاسمية الأول: التأكيد بـ "إن" قال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عظيم} وَهِيَ أَقْوَى مِنَ التَّأْكِيدِ بِاللَّامِ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ قَالَ: وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِ إِنَّ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاءِ هُوَ الْجَوَابُ لَكِنْ بِشَرْطِ إِنْ يَكُونُ لِلسَّائِلِ فِيهِ ظَنٌّ بِخِلَافِ مَا أَنْتَ تُجِيبُهُ بِهِ فَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ مَرَدَّ الْجَوَابِ أَصْلًا فِيهَا فَلَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلى قولك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 "صَالِحٌ" فِي جَوَابِ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ حَتَّى تَقُولَ: إِنَّهُ صَالِحٌ وَلَا قَائِلَ بِهِ بِخِلَافِ اللَّامِ فَإِنَّهُ لَا يُلْحَظُ فِيهَا غَيْرُ أَصْلِ الْجَوَابِ وَقَدْ يَجِيءُ مَعَ التَّأْكِيدِ فِي تَقْدِيرِ سُؤَالِ السَّائِلِ إِذَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْكَلَامِ مَا يُلَوِّحُ نَفْسَهُ لِلنَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زلزلة الساعة شيء عظيم} أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ وُجُوبَهَا مُجِيبًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَاصِفًا لَهَا بِأَهْوَلِ وَصْفٍ لِيُقَرِّرَ عَلَيْهِ الْوُجُوبَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أَيْ: لَا تَدْعُنِي فِي شَأْنِهِمْ وَاسْتِدْفَاعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ بِشَفَاعَتِكَ لِأَنَّهُمْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ وَقَدْ جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَفِّهِ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الدُّعَاءِ لِمَنْ وجبت شقاوته قوله تعالى: {يا إبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إن ربي غفور رحيم} فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أَوْرَثَ لِلْمُخَاطَبِ حَيْرَةً كَيْفَ لَا يُنَزِّهُ نَفْسَهُ مَعَ كَوْنِهَا مُطَمْئِنَةً زَكِيَّةً فَأَزَالَ حَيْرَتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ} فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ {بِالسُّوءِ} إِلَّا الْمَعْصُومَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صلاتك سكن لهم} واعلم أن كل جملة صدرت بإن مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَجَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فَإِنَّ الْفَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 يَصِحُّ أَنْ تَقُومَ فِيهَا مَقَامَ إِنَّ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ حَسُنَ تَجْرِيدُهَا عَنْ كَوْنِهَا جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ وَإِنْ صُدِّرَتْ لِإِظْهَارِ فَائِدَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ قِيَامُ الْفَاءِ مَقَامَهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون} بَعْدَ قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يسمعون} وَمِنْ فَوَائِدِهَا: تَحْسِينُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَهَا إِذَا فسر بالجملة الشرطية مالا يَحْسُنُ بِدُونِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} {أنه من يحادد الله ورسوله} {أنه من عمل منكم سوءا بجهالة} {إنه إنه لا يفلح الكافرون} وَأَمَّا حُسْنُهُ بِدُونِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هو الله أحد} فَلِفَوَاتِ الشَّرْطِ الثَّانِي: "أَنَّ" الْمَفْتُوحَةُ نَحْوُ: عَلِمْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَهِيَ حَرْفٌ مُؤَكِّدٌ كَالْمَكْسُورَةِ نَصَّ عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ: لِأَنَّكَ لَوْ صَرَّحْتَ بِالْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا لَمْ يُفِدْ تَوْكِيدًا وَيُقَالُ التَّوْكِيدُ لِلْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِأَنَّ مَحَلَّهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا الْمُفْرَدُ وَبِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ فِي الْمَكْسُورَةِ لِلْإِسْنَادِ وَهَذِهِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الثَّالِثُ: "كَأَنَّ" وَفِيهَا التَّشْبِيهُ الْمُؤَكِّدُ إِنْ كَانَتْ بَسِيطَةً وَإِنْ كَانَتْ مركبة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 كاف التشبيه وأن فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأَنَّ فِيهَا مَا سَبَقَ وَزِيَادَةٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ أَيْ بَيْنِ قَوْلِكَ: كَأَنَّهُ أَسَدٌ وَبَيْنَ أَنَّهُ كَالْأَسَدِ أَنَّكَ مَعَ كَأَنَّ بَانٍ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَقَالَ الْإِمَامُ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ: اشْتَرَكَ الْكَافُ وَكَأَنَّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّشْبِيهِ وَكَأَنَّ أبلغ وبذلك جزم حازم في منهج الْبُلَغَاءِ وَقَالَ: وَهِيَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَقْوَى الشَّبَهُ حَتَّى يَكَادَ الرَّائِي يَشُكُّ فِي أَنَّ الْمُشَبَّهَ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَوْ غَيْرُهُ وَلِذَلِكَ قالت بلقيس: {كأنه هو} الرَّابِعُ: "لَكِنْ" لِتَأْكِيدِ الْجُمَلِ ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ وَالتَّنُوخِيُّ فِي "الْأَقْصَى" وَقِيلَ: لِلتَّأْكِيدِ مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ وَقِيلَ لِلِاسْتِدْرَاكِ الْمُجَرَّدِ وَهِيَ أَنْ يُثْبِتَ لِمَا بَعْدَهَا حُكْمٌ يُخَالِفُ مَا قَبِلَهَا وَمِثْلُهَا "لَيْتَ" و"لعل" وَ"لَعَنَّ" فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ هَمْزَةَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ عَيْنًا وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ التَّنُوخِيُّ الْخَامِسُ: لَامُ الِابْتِدَاءِ نحو: {إن ربي لسميع الدعاء} وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا زَحْلَقُوهَا فِي بَابِ إِنَّ عَنْ صَدْرِ الْجُمْلَةِ كَرَاهِيَةَ ابتداء الكلام المؤكدين وَلِأَنَّهَا تَدُلُّ بِجِهَةِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّ تَدُلُّ بِجِهَتَيْنِ الْعَمَلُ وَالتَّأْكِيدُ وَالدَّالُّ بِجِهَتَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ بِجِهَةٍ كَنَظِيرِهِ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا جَاءَتْ مَعَ إِنَّ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ إِنَّ أَفَادَتِ التَّكْرِيرَ مَرَّتَيْنِ فَإِذَا دَخَلَتِ اللَّامُ صَارَتْ ثَلَاثًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وَعَنِ الْكِسَائِيُّ أَنَّ اللَّامَ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَإِنَّ لتأكيد الاسم وفيه تجوز لأن لتأكيد إِنَّمَا هُوَ لِلنِّسْبَةِ لَا لِلِاسْمِ وَالْخَبَرِ السَّادِسُ: الْفَصْلُ وَهُوَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الْجُمْلَةِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَقَالَ: فِي قوله تعالى: {إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا} {أَنَا} وَصْفٌ لِلْيَاءِ فِي {تَرَنِ} يَزِيدُ تَأْكِيدًا وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُضْمَرَ يُؤَكِّدُ الضَّمِيرَ وَأَمَّا تَأْكِيدُ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فَلَمْ يُعْهَدْ وَلِهَذَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ دُعَامَةً لِأَنَّهُ يُدَعَّمُ بِهِ الْكَلَامُ أَيْ يَقْوَى وَلِهَذَا قَالُوا لَا يُجَاءُ مَعَ التَّوْكِيدِ فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ نَفْسُهُ هُوَ الْفَاضِلُ وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وَخَالَفَ فِي أَمَالِيهِ فَقَالَ: ضَمِيرُ الْفَصْلِ لَيْسَ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَإِمَّا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا لَأَنَّ اللَّفْظِيَّ إِعَادَةُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ كَزَيْدٍ زَيْدٍ أَوْ معناه كقمت أنا وَالْفَصْلُ لَيْسَ هُوَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ وَلَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَنِّيًا عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَلَا مُفَسِّرًا وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا لِأَنَّ أَلْفَاظَهُ مَحْصُورَةٌ كَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَهَذَا مِنْهُ نَفْيٌ لِلتَّوْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ وَلَبْسٌ لِلْكَلَامِ وَفِي الْبَسِيطِ لِلْوَاحِدِيِّ عند قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} قَالَ سِيبَوَيْهِ: دَخَلَ الْفَصْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تجدوه عند الله هو خيرا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ "مَا" فِي قَوْلِهِ تعالى: {فبما رحمة} انْتَهَى السَّابِعُ: ضَمِيرُ الْبَيَانِ لِلْمُذَكَّرِ وَالْقِصَّةِ لِلْمُؤَنَّثِ وَيُقَدِّمُونَهُ قَبْلَ الْجُمْلَةِ نَظَرًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَهُ الشَّأْنُ وَالْقِصَّةُ وَعَادَتُهُمْ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَ جُمْلَةٍ قَدْ يُقَدِّمُونَ قَبْلَهَا ضَمِيرًا يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ خَبَرًا عَنْهُ وَمُفَسِّرَةً لَهُ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ التَّفْخِيمِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَتَطَلَّعَ السَّامِعُ إِلَى الْكَشْفِ عَنْهُ وَطَلَبِ تَفْسِيرِهِ وَحِينَئِذٍ تُورَدُ الْجُمْلَةُ الْمُفَسِّرَةُ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أنا} وَقَدْ يُفِيدُ مَعَهُ الِانْفِرَادُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قل هو الله أحد} أَيِ: الْمُنْفَرِدُ بِالْأُحْدِيَّةِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّحَاةِ: هو ضمير الشأن و"الله" مبتدأ ثان و"أحد" خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَالْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَخَبَرُهُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى عَائِدٍ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ تَفْسِيرٌ لَهُ وَلِكَوْنِهَا مُفَسِّرَةً لَمْ يَجِبْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ فَنَزَلَتْ وَمِنْهُ: {وَأَنَّهُ لما قام عبد الله} وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مُؤَنَّثٌ كقوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار} فَالْهَاءُ فِي {فَإِنَّهَا} ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَ {تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ إِنَّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْلَمَ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ علماء بني إسرائيل} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 بقراءة الياء و"أن يعلمه" مبتدأ وآية الْخَبَرُ وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَأَنَّثَ لِوُجُودِ آيَةٍ فِي الْكَلَامِ الثَّامِنُ: تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ وَيَجِبُ أَنْ يُؤَكَّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} وقوله تعالى: {فاذهب أنت وربك} وَقِيلَ: لَا يَجِبُ التَّأْكِيدُ بَلْ يُشْتَرَطُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آباؤنا} فَعَطَفَ {آبَاؤُنَا} عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ وَلَيْسَ هُنَا تَأْكِيدٌ بَلْ فَاصْلٌ وَهُوَ "لَا" وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَأْتِي قَبْلَ وَاوِ الْعَطْفِ كَالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كما أمرت ومن تاب معك} وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَاصِلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الملقين} فأكد السحر ضَمِيرَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْإِلْقَاءِ دُونَ ضَمِيرِ مُوسَى حَيْثُ لَمْ يَقُولُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أَنْتَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَبُّوا التَّقْدِيمَ فِي الْإِلْقَاءِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ يُقَرِّرُ عَظَمَتَهُ فِي أَذْهَانِ الْحَاضِرِينَ فَلَا يَرْفَعُهَا مَا يَأْتِي بَعْدَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَءُوا بِمُوسَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْبَدَاءَةَ بِالْإِلْقَاءِ عَلَى عَادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّنَّاعِ فِي تَأَدُّبِهِمْ مَعَ قُرَنَائِهِمْ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ تَأَدَّبُوا تَهَذَّبُوا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَكِّدْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ التَّأْكِيدِ بِالتَّصْرِيحِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أول من ألقى} وَهَذَا جَوَابٌ بَيَانِيٌّ لَا نَحْوِيٌّ فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ هَذَا الْإِطْنَابِ وَهَلَّا قَالُوا إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ فَالْجَوَابُ مِنْ وجهين: أحدهما: لفظي وهو المزاوجة لرءوس الْآيِ عَلَى سِيَاقِ خَوَاتِمِهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا وَالثَّانِي: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قُوَّةِ أَنْفُسِ السَّحَرَةِ وَاسْتِطَالَتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى مُوسَى فَجَاءَ عَنْهُمْ بِاللَّفْظِ أَتَمَّ وَأَوْفَى مِنْهُ فِي إِسْنَادِهِمُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي "خَاطِرَيَاتِهِ" ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ السَّحَرَةَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ لِسَانٍ فَيَذْهَبُ بِهِمْ هَذَا الْمَذْهَبُ مِنْ صِيغَةِ الْكَلَامِ! وَأَجَابَ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَعْرُوفِ مَعَانِيهِمْ وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} أَنَّ هَذِهِ الْفَصَاحَةَ لَمْ تَجْرِ عَلَى لُغَةِ الْعَجَمِ التَّاسِعُ: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرٍ مُبْتَدَأٍ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَلِهَذَا قِيلَ بِإِفَادَةِ الْحَصْرِ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَشَّافِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} مَعْنَاهُ الْحَصْرُ أَيْ: لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ إِلَّا هُمْ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من الأرض هم ينشرون} أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يُنْشِرُ إِلَّا هُمْ وَإِنَّ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا يُلْزِمُهُمْ حَصَرَ الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِمْ ثُمَّ خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَمَّا خَالَفَ مَذْهَبَهُ الْفَاسِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ من النار} فَقَالَ: هُمْ هُنَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: *هُمْ يَفْرِشُونَ اللُّبَدَ كُلَّ طِمْرَةٍ* فِي دَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ أَمْرِهِمْ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ لَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ انْتَهَى وَبَيَانُهُ أَنَّ مُقْتَضَى قَاعِدَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ الْفُسَّاقِ مِنَ النَّارِ وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَقَدُهُ فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّأْوِيلِ لِلْآيَةِ بِفَائِدَةٍ تَتِمُّ لَهُ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الْخُلُودِ لَهُمْ لَا اخْتِصَاصَهُ بِهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ خُلِّدُوا فِي النَّارِ عَلَى زَعْمِهِ إِلَّا أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَهُ أَحَقُّ بِالْخُلُودِ وَأَدْخُلُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَخَيَّلَ فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الْمَعَانِي فِي اقْتِضَاءِ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الِاخْتِصَاصِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ أَقْوَى وَأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ إِفَادَةِ مُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ فِي الصِّفَةِ وَقَدْ نَصَّ الْجُرْجَانِيُّ فِي دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ عَلَى أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاخْتِصَاصِ جَلِيلَةً وَأَمَّا إِرَادَةُ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهَا فَلَيْسَتْ جَلِيلَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَيْسَ هُنَا مَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ الْكَلَامِ عَنْ مَعْنَاهُ الْجَلِيِّ كَيْفَ وَقَدْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ وَتَوَاتَرَتْ عَلَى أَنَّ الْعُصَاةَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مُوَحِّدٌ أَبَدًا فهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 الْآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى انْفِرَادِ الْكُفَّارِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مُوَافَقَةٌ وَلَا دَلِيلَ لِلْمُخَالِفِ سِوَى قَاعِدَةِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَإِلْزَامِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُلْزِمُوهُ مِنْ عَدَمِ الْعَفْوِ وَتَحْقِيقِ الْعِقَابِ وَالْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النار نعوذ بالله من ذلك! فائدة: مواضع إفادة الحصر لَا تُخَصُّ إِفَادَةُ الْحَصْرِ بِتَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ بَلْ هُوَ كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْفَاعِلُ أَوِ الْمَفْعُولُ أَوِ الْجَارُّ أَوِ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقَاتُ بِالْفِعْلِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِي الإيمان بالله بل لابد مَعَهُ مِنْ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّوَكُّلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ الْقَدِيمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ قُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِيهِ لِيُؤْذِنَ بِاخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ولذلك قدم الظرف في قوله: {لا فيها غول} لِيُفِيدَ النَّفْيَ عَنْهَا فَقَطْ وَاخْتِصَاصَهَا بِذَلِكَ بِخِلَافِ تأخيره في: {لا ريب فيه} لِأَنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ بَلْ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الْعَاشِرُ: مِنْهَا "هَاءُ" التَّنْبِيهِ فِي النِّدَاءِ نَحْوُ: {يَا أَيُّهَا} قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا الْأَلِفُ وَالْهَاءُ اللَّتَانِ لَحِقَتَا "أَيًّا" تَوْكِيدًا فَكَأَنَّكَ كَرَّرْتَ يَا مرتين إذا قلت يأيها وَصَارَ الِاسْمُ تَنْبِيهًا هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَكَلِمَةُ التَّنْبِيهِ الْمُقْحَمَةُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَمَوْصُوفِهَا لِفَائِدَةِ تَبْيِينِ مُعَاضَدَةِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَمُكَاتَفَتِهِ بِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ وَوُقُوعِهَا عِوَضًا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ أَيْ مِنَ الْإِضَافَةِ الْحَادِي عَشَرَ: "يَا" الْمَوْضُوعَةُ لِلْبَعِيدِ إِذَا نُودِيَ بِهَا الْقَرِيبُ الْفَطِنُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ الْمُؤَذِّنُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَتْلُوهُ مُعْتَنًى بِهِ جِدًّا الثَّانِي عَشَرَ: الْوَاوُ زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِتَأْكِيدِ ثُبُوتِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} وقوله تعالى: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَوْصُوفَ بِهَا لَا تَقْتَرِنُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ لَا يَقَعُ فِي الصِّفَاتِ بَلِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ "قَرْيَةٍ" لِكَوْنِهَا عَامَّةً بِتَقْدِيمِ إِلَّا عَلَيْهَا الثَّالِثَ عَشَرَ: "إِمَّا" الْمَكْسُورَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أَصْلُهَا "إِنَّ" الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ "مَا" تَأْكِيدًا وَكَلَامُ الزَّجَّاجِ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ اللَّحَاقِ نُونُ التَّوْكِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِمُشَابَهَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِدُخُولِ مَا لِلتَّأْكِيدِ بِالْفِعْلِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا كَالْعَدَمِ فِي الْقَسَمِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَ إِمَّا تَوْكِيدُهُ بِالنُّونِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا مُؤْذِنَةٌ بِإِرَادَةِ شِدَّةِ التَّوْكِيدِ وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ أَتَلْزَمُ النُّونُ الْمُؤَكَّدَةُ فِعْلَ الشَّرْطِ عِنْدَ وَصْلِ إِمَّا أَمْ لَا فَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: يَلْزَمُ وَلَا تُحْذَفُ إِلَّا ضَرُورَةً وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: لَا تَلْزَمُ فَيَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا وَالْإِثْبَاتُ أَحْسَنُ وَيَجُوزُ حَذْفُ "ما" وإثبات النون قال سيبويه: إن تثبت لم تقحم النون كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما انْتَهَى وَجَاءَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ "إِمَّا" كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةً فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا الرَّابِعَ عَشَرَ: "أَمَّا" الْمَفْتُوحَةَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنه الحق من ربهم} إِنَّهَا تُفِيدُ التَّأْكِيدَ الْخَامِسَ عَشَرَ: "أَلَا" الِاسْتِفْتَاحِيَّةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ألا إنهم هم المفسدون} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لِلتَّحْقِيقِ أَيْ: تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَهَذَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِكَوْنِهَا بِهَذَا الْمَنْصِبِ مِنَ التَّحْقِيقِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ نَحْوُ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 السَّادِسَ عَشَرَ: "مَا" النَّافِيَةُ نَحْوُ: مَا زَيْدٌ قَائِمًا أَوْ قَائِمٌ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ جَعَلَ سِيبَوَيْهِ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي النفي جوابا لقد فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ قَدْ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ نَحْوُ مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلَقٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: الْقَدِيمِ هِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: قَوْلُكَ: مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلِقٍ جَوَابُ إِنَّ زَيْدًا لِمُنْطَلَقٍ مَا بِإِزَاءِ إِنَّ وَالْبَاءُ بِإِزَاءِ اللَّامِ وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ فَإِذَا كَانَتْ بِإِزَائِهَا كَانَتْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ هَذَا كله في مؤكدات الجملة الاسمية مؤكدات الجملة الفعلية وَأَمَّا مُؤَكِّدَاتُ الْفِعْلِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: "قَدْ" فَإِنَّهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فقد هدي إلى صراط مستقيم م} مَعْنَاهُ: حَصَلَ لَهُ الْهُدَى لَا مَحَالَةَ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهَا فِي شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مُتَشَوِّقًا إِلَى سَمَاعِهِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يَتَشَوَّقُ سَمَاعَ قُدُومِ زَيْدٍ قَدْ قَدِمَ زَيْدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَحْسُنِ الْمَجِيءُ بِهَا بَلْ تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 مثل} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا منكم في السبت} قَدْ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا الْقَسَمُ مِثْلُ إِنَّ وَاللَّامِ فِي الِاسْمِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا فِي إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي نَحْوُ: {قد أفلح من زكاها} والمضارع نحو: {قد نعلم إنه ليحزنك} {قد يعلم ما أنتم عليه} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتْ قَدْ لِتَوْكِيدِ الْعِلْمِ وَيَرْجِعُ ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا تُفِيدُ التَّعْلِيلَ مَعَ الْمُضَارِعِ وَقَالَ ابْنُ أَبَانٍ: تُفِيدُ مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ التَّعْلِيلَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ مُتَعَلِّقِهِ فَالْأُولَى كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَدْ يَفْعَلُ كَذَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْكَثِيرِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الْمَعْنَى -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ مَا أَنْتُمْ عليه ثانيا: السِّينُ الَّتِي لِلتَّنْفِيسِ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فسيكفيكهم الله} مَعْنَى السِّينِ: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى حِينٍ وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} السِّينُ تُفِيدُ وُجُودَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ فَهِيَ تُؤَكِّدُ الْوَعْدَ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: "سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا" يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتَنِي وإن تبطأت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 ونحوه: {سيجعل لهم الرحمن ودا} {ولسوف يعطيك ربك فترضى} {سوف يؤتيهم أجورهم} لَكِنْ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ وُجُودَ الرَّحْمَةِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْفِعْلِ "لَا" مِنَ السِّينِ وَبِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَا مَحَالَةَ لَا إِشْعَارَ لِلسِّينِ بِهِ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّينَ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مَعَ التَّأَخُّرِ فَإِذَا كَانَ الْمَقَامُ لَيْسَ مَقَامَ تَأْخِيرٍ لِكَوْنِهِ بِشَارَةً تَمَحَّضَتْ لِإِفَادَةِ الْوُقُوعِ وَتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُوبِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ لَا مِنَ السِّينِ وَالثَّانِي: أَنَّ السِّينَ يَحْصُلُ بِهَا تَرْتِيبُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ أَمْرَيْنِ الْوَعِيدُ وَالْإِخْبَارُ بِطُرُقِهِ وَأَنَّهُ مُتَرَاخٍ فَهُوَ كَالْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ مَرَّتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ وَتَعْيِينَ طُرُقِهِ مُؤْذِنٌ بِتَحَقُّقِهِ عِنْدَ المخبر به ثالثها: النُّونُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الْفِعْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَبِالْخَفِيفَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذَكْرِهِ مَرَّتَيْنِ قِيلَ: وَهَذَانَ النُّونَانِ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فِي مُقَابَلَةِ تَأْكِيدِ الِاسْمِ بِأَنَّ وَاللَّامِ وَلَمْ يَقَعْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 فِي الْقُرْآنِ التَّأْكِيدُ بِالْخَفِيفَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: {وليكونا من الصاغرين} وقوله تعالى: {لنسفعا بالناصية} وَلَمَّا لَمْ يُتَجَاوَزِ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الْأَسْمَاءِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهَا فِي تَأْكِيدِ الْأَفْعَالِ قَالَ تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَةٍ مَهَّلَ وَأَمْهِلْ وَرُوَيْدًا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُنَّ فِعْلَانِ وَاسْمُ فِعْلٍ رَابِعًا: "لَنْ" لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَإِنَّ فِي تَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ فَتَقُولُ: لَا أَبْرَحُ فَإِذَا أَرَدْتَ تَأْكِيدَ النَّفْيِ قُلْتَ: لَنْ أَبْرَحَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: سَيَفْعَلُ يَعْنِي وَالسِّينُ لِلتَّأْكِيدِ فَجَوَابُهَا كَذَلِكَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنْ تَدُلَّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ "لَا" وَكَذَا قَالَ فِي الْمُفَصَّلِ: "لَنْ" لِتَأْكِيدِ مَا تُعْطِيهِ "لَا" مِنْ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تراني} قَالَ: هُوَ دَلِيلٌ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. ولن يتمنوه أبدا} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الآخرة فيقولون: {يا ليتها كانت القاضية} يَعْنِي: الْمَوْتَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَنْفِي الْأَبَدَ وَلَكِنْ إِلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ النَّفْيَ بِلَا أَطْوَلُ مِنَ النَّفْيِ بِلَنْ لِأَنَّ آخِرَهَا أَلِفٌ وَهُوَ حَرْفٌ يَطُولُ فِيهِ النَّفَسُ فَنَاسَبَ طُولُ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ "لَنْ" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 ولذلك قال تعالى: {لن تراني} وَهُوَ مُخَصَّصٌ بِدَارِ الدُّنْيَا وَقَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الأبصار} وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ تُشَاكِلُ الْمَعَانِيَ وَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ لَا بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ وَهَذَا أَلْطَفُ مِنْ رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا أَشَارَ ابْنُ الزَّمْلِكَانِيُّ فِي التِّبْيَانِ بِقَوْلِهِ: "لا" تنفي ما بعد و"لن" تنفي ما قرب وبحسب الْمَذْهَبَيْنِ أَوَّلُوا الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} {ولا يتمنونه أبدا} وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ: {لَا يَتَمَنَّوْنَهُ} جَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الموت} وحرف الشرط يعم كل الأزمنة فقوبل بلا لِيُعَمَّمَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ أَيْ زَعَمُوا ذَلِكَ فِي وَقْتِ مَا قِيلَ لَهُمْ تَمَنَّوُا الموت وأما {ولن يتمنوه} فَجَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عند الله خالصة} أَيْ: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الْآنَ اسْتِعْجَالًا لِلسُّكُونِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَعَلَى وَفْقِ هذا القول جاء قوله: {لن تراني} قلت: والحق أن "لا" و"لن" لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالتَّأْبِيدُ وَعَدَمُهُ يُؤْخَذَانِ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ وَمَنِ احْتَجَّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وبقوله: {لن يخلقوا ذبابا} عورض بقوله: {فلن أكلم اليوم إنسيا} وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ وبقوله: {ولن يتمنوه أبدا} ولو كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 لتأبيد لَكَانَ ذِكْرُ الْأَبَدِ تَكْرِيرًا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَبُقُولِهِ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} لَا يُقَالُ: هِيَ مُقَيَّدَةٌ فَلَمْ تُفِدِ التَّأْبِيدَ وَالْكَلَامُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ فَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ "لَا" لِلِاسْتِغْرَاقِ الْأَبَدِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يقضى عليهم فيموتوا} وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} {ولا يؤوده حفظهما} وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الخياط} وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ لِلتَّأْبِيدِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ "لَا" دُونَ "لَنْ" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ وَالتَّأْبِيدُ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ الْقِسْمُ الثَّانِي: الصِّفَةُ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ إِنْ وَقَعَتْ صفة للنكرة وموضحة للمعرفة الأسباب التي تأتي الصفة من أجلها وَتَأْتِي لِأَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَمِنْهُ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم} فَلَيْسَ ذِكْرُ الْوَصْفِ هُنَا لِلتَّمْيِيزِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 حَتَّى يُوَضَّحَ بِالصِّفَةِ وَأَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا الْمَعْنَى فَذَكَرَ أَسَامِيَ بَعْضِ مَمْدُوحِهِ ثُمَّ قَالَ: أَسَامِيًا لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفَةً وَإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاهَا فَقَوْلُهُ: لَمْ تَزِدْهُ بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِطْنَابِ وَالثَّنَاءِ لَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّبْيِينِ وَقِيلَ: إِنَّ الصِّفَاتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ الْمُرَادُ بِهَا التَّعْرِيفُ فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَاصِلَةٌ لَهُ لَا لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ وَلَوْ كَانَتْ لِلثَّنَاءِ لَكَانَ الِاخْتِيَارُ قَطْعَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمَدْحِ لَيْسَ غَيْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ نَبِيُّونَ غَيْرَ مُسْلِمِينَ كَذَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَأُرِيدَ بِهَا التَّعْرِيضُ باليهود وأنهم بعداء من ملة اإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وَأَنَّ الْيَهُودَ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذِهِ الصفة للتمييز وقد أطلق الله وصف اإسلام عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَالْأَصْلُ فِي الْمَدْحِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَمْدُوحِ وَغَيْرِهِ بِالْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ وَالْإِسْلَامُ وَصْفٌ عَامٌّ فَوَصْفُهُمْ بِالْإِسْلَامِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا له أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ غَايَتَهُ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ الرَّاجِعَيْنِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَوْصَافِ الْعِبَادِ فَكَذَلِكَ يُوصَفُونَ بِهَا فِي أَشْرَفِ حَالَاتِهِمْ وَأَكْمَلِ أَوْقَاتِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} أَيْ: مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ لِقَضَائِكَ وَكَذَا قَوْلُ يُوسُفَ: {توفني مسلما} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} تَنْوِيهٌ بِقَدْرِ الْإِسْلَامِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ فَإِنَّ الصِّفَةَ تُعَظَّمُ بِعِظَمِ مَوْصُوفِهَا كَمَا وُصِفَتِ الملائكة المقربون بالإيمان في قوله: {يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به} تَنْوِيهًا بِقَدْرِ الْإِيمَانِ وَحَضًّا لِلْبَشَرِ عَلَى التَّحَلِّي بِهِ لِيَكُونُوا كَالْمُقَرَّبِينَ فِي وَصْفِ الْإِيمَانِ حَتَّى قِيلَ أَوْصَافُ الْأَشْرَافِ أَشْرَفُ الْأَوْصَافِ الثَّانِي: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ وَتَعْرِيفُهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْإِضَافَةِ فَإِنْ قَالَ: قَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ الذِّهْنُ يَتَبَادَرُ إِلَّا إِلَيْهِ! قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ وَضْعِهِ بَلْ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} وفي موضع آخر: {رسل الله} وَفِي حَقِّ عِيسَى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَفِي حَقِّ مُوسَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ثُمَّ إِنَّ الصِّفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ أَوْ دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَوْقَهُ فَلَا لِأَنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ تَابِعَةٌ وَالتَّابِعُ دُونَ الْمَتْبُوعِ فَإِنْ: قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُزَالَ إِبْهَامُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَبْهَمُ مِنْهُ؟ فَالْجَوَابُ إِنَّ التَّعْرِيفَ لَمْ يَقَعْ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الثَّالِثُ: لِتَعْيِينِهِ لِلْجِنْسِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يطير بجناحيه} لِأَنَّ الْمَعْنَى بِدَابَّةٍ وَالَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ الْجِنْسِيَّةُ لَا الْإِفْرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فَجَمْعُ {أُمَمٍ} مُحَقِّقٌ إِرَادَةَ الْجِنْسِ مِنَ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْجِنْسِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ كَوْنُ الدَّابَّةِ غَيْرَ مُنْفَكَّةٍ عَنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ وَكَوْنُ الطَّائِرِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ كَوْنُهُ طَائِرًا بِجَنَاحَيْهِ لِيَنْتَفِيَ تَوَهُّمُ الْفَرْدِيَّةِ هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصْفَ لِيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ دَابَّةً مَخْصُوصَةً وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِدُونِ الْوَصْفِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ المنفية -لاسيما مَعَ "مِنْ" الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ- قَطْعِيَّةٌ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ: {فِي الْأَرْضِ} وَ {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} يفيد زيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا من طائر في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ لَمَّا كَانَ يوصف به من يعقل كالجان والملائكة فلولم يقل: {بجناحيه} لتوهم الاقتصار على حبسها مِمَّنْ يَعْقِلُ فَقِيلَ: {بِجَنَاحَيْهِ} لِيُفِيدَ إِرَادَةَ هَذَا الطَّيْرِ الْمُعْتَقَدِ فِيهِ عَدَمَ الْمَعْقُولِيَّةِ بِعَيْنِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي الْخِفَّةِ وَشِدَّةِ الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: *طَارُوا إِلَيْهِ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا* فَقَوْلُهُ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} رَافِعٌ لِاحْتِمَالِ هَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الطَّائِرِ فَقَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ} لَكَانَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ يُوهِمُ وَلَا طَائِرٍ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ إِذَا قُيِّدَ بِظَرْفٍ أَوْ حَالٍ يُقَيَّدُ بِهِ الْمَعْطُوفُ وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِطَيْرِ الْأَرْضِ الَّذِي لَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ كَالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا قَالَ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} زَالَ هَذَا الْوَهْمُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَائِرٍ مُقَيَّدٍ إِنَّمَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الدَّابَّةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لهم لا تفسدوا في الأرض} مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْفَسَادَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ قِيلَ فِي ذكرها تنبيه على أن الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ شَأْنُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ -وَهِيَ سُتْرَةُ أَمْوَالِكُمْ- جَدِيرٌ أَلَّا يُفْسَدَ فيه إذا مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير} لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِبَعْضِهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ قولهم بأفواههم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصدور} وَنَحْوَهَا مِنَ الْمُقَيَّدِ -إِذِ الْقَوْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ وَالْأَكْلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَطْنِ- فَفَوَائِدُهُ مُخْتَلِفَةٌ فَقِيلَ: {بِأَفْوَاهِهِمْ} لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اللِّسَانِ أَيْ لَا يُعَضِّدُهُ حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ فَارِغٌ مِنْ مَعْنًى تَحْتَهُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ أَجْرَاسٌ وَنَغَمٌ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُؤَثِّرٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى مَعْنًى قَوْلٌ بِالْفَمِ وَمُؤَثِّرٌ فِي الْقَلْبِ وَمَا لَا مَعْنَى لَهُ مَقُولٌ بِالْفَمِ لَا غَيْرَ أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْهَبُ أَيْ هُوَ مَذْهَبُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ لَا بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ تُوجِبُ اعْتِقَادَهُ بِالْقَلْبِ وَقِيلَ: إِنَّهُ رَافِعٌ لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ حَدِيثِ النَّفْسِ كَمَا في قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فَأَفَادَ: {بِأَفْوَاهِهِمُ} التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّهُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَمْ يُسْتَفَدْ هَذَا الْمَعْنَى وَيَشْهَدُ لَهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنك} الْآيَةَ فَلَمْ يُكَذِّبْ أَلْسِنَتَهُمْ بَلْ كَذَّبَ مَا انْطَوَى عَنْ ضَمَائِرِهِمْ مِنْ خِلَافِهِ وَإِنَّمَا قَالَ: {في بطونهم نارا} لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ إِذَا أَمْعَنَ وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ إِذَا اقْتَصَرَ قَالَ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْكُلُونَ مَا يُجَرُّ -إِذَا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ- نَارًا وَإِنَّمَا قَالَ: {الَّتِي فِي الصدور} فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير وَالتَّعَقُّلِ وَسَمَاعِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ قَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَلْ شَيْءٌ أَبْلَغُ فِي الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى آثَارِ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ فَيَرَوْا بُيُوتًا خَاوِيَةً قَدْ سَقَطَتْ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرًا يَشْرَبُ أَهْلُهَا فِيهَا قَدْ عُطِّلَتْ وَقَصْرًا بَنَاهُ مَلِكُهُ بِالشِّيدِ خَلَا مِنَ السَّكَنِ وَتَدَاعَى بِالْخَرَابِ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ وَيَخَافُوا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَبْصَارَهُمُ الظَّاهِرَةَ لَمْ تَعْمَ عَنِ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ وَإِنْ عَمِيَتْ قُلُوبُهُمُ الَّتِي فِي صُدُورِهِمْ وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ قَدْ يُعْنَى بِهَا الْقَلْبُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذكري} جَازَ أَنْ يُعْنَى بِالْقَلْبِ الْعَيْنُ فَقَيَّدَ الْقُلُوبَ بِذِكْرِ مَحَلِّهَا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ غَيْرِهَا وَقِيلَ: ذِكْرُ مَحَلِّ الْعَمَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِاسْمِ الْعَمَى مِنْ عَمَى الْبَصَرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" أَيْ: هَذَا أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْهُ فَعَمَى الْقَلْبِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ لَا عَمَى الْبَصَرِ فَأَعْمَى الْقَلْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَعْمَى مِنْ أَعْمَى الْعَيْنِ فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {الَّتِي فِي الصدور} عَلَى أَنَّ الْعَمَى الْبَاطِنَ فِي الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّدْرُ لَا الْعَمَى الظَّاهِرُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي مَحَلُّهَا الْوَجْهُ فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِالصِّفَةِ الْأُولَى: الصِّفَةَ الْعَامَّةَ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ اعْلَمْ أَنَّ الصِّفَةَ الْعَامَّةَ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ لَا تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَعَمُّ مِنَ الْفَصِيحِ إِذْ كَلُّ فَصِيحٍ مُتَكَلِّمٌ وَلَا عَكْسُ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أُشْكِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 الوعد وكان رسولا نبيا} إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {نَبِيًّا} صِفَةٌ لِـ "رَسُولَ" لِأَنَّ النَّبِيَّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ إِذْ كُلُّ رَسُولٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسُ وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {رَسُولًا} وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي رَسُولَ مِنْ مَعْنَى يُرْسِلُ أَيْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ مُرْسَلًا فِي حَالِ نُبُوَّتِهِ وَهِيَ حَالٌ مؤكدة كقوله: {وهو الحق مصدقا} الثانية: تأتي الصفة لازمة لا للتقييد كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا برهان له به} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لم ينزل به سلطانا} وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ نَحْوَ قَوْلِهِ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} جِيءَ بِهَا لِلتَّوْكِيدِ لَا أَنْ يَكُونَ فِي الآلهة ما يجوز أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِكَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ: لَا أَحَقَّ بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ فَاللَّهُ مُثِيبُهُ وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لِبَيَانِ خَاصَّةِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَلَّا تَقُومَ عَلَى صِحَّتِهِ حُجَّةٌ لَا بَيَانُ أَنَّهُ نَوْعَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا طائر يطير بجناحيه} هُوَ بَيَانُ خَاصَّةِ الطَّيَرَانِ لَا أَنَّهُ نَوْعَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وقوله: {سفها بغير علم} وَالسَّفَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ وَقِيلَ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِمِقْدَارِ قُبْحِهِ وَقَوْلِهِ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بغير الحق} وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُمْ إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِصِفَةِ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ أَبْلَغُ فِي ذَمِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِلْفِعْلِ كَمَا فِي عَكْسِهِ: {قال رب احكم بالحق} لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي التَّصْرِيحِ بِالصِّفَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ كَقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَهُ وَلَوْ وُجِدَ لَكَانَ بِحَقٍّ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا قَيَّدَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَإِلَّا اسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ شُبْهَةً وَإِنَّمَا نَصَحُوهُمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فَقَتَلُوهُمْ وَلَوْ أَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا وَجْهًا يُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْقَتْلَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جدال في الحج} مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ أَيْضًا لَكِنْ خُصِّصَ بِالذِّكْرِ هُنَا لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ وَخَطَرِهِ فِي الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ فِي الْحَجِّ كَيْفَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل} لِأَنَّ الرِّيَاءَ يَقَعُ فِي الْحَجِّ كَثِيرًا فَاعْتَنَى فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْإِخْلَاصِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَاتِّبَاعُ الْهَوَى لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وَقِيلَ بَلْ يَكُونُ الْهَوَى فِي الْحَقِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فَإِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى حَسُنٌ لِمَنْ يُوقِنُ وَلِمَنْ لَا يُوقِنُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ ظُهُورَ حسنه والاطلاع عليه وصفه بذلك لأن المؤمن هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْجَاهِلِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ فَفَائِدَتُهُ مُبَاشَرَتُهُمْ ذَلِكَ التَّحْرِيفَ بِأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ فَإِنَّهُ يُقَالُ كَتَبَ فُلَانٌ كَذَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ بَلْ أَمَرَ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَلَيٍّ: "كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ". الثَّالِثَةُ: قَدْ تَأْتِي الصِّفَةُ بِلَفْظٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لونها} قِيلَ: الْمُرَادُ سَوْدَاءٌ نَاصِعٌ وَقِيلَ: بَلْ عَلَى بابها ومنه قوله تعالى: {كأنه جمالت صفر} قِيلَ: كَأَنَّهُ أَيْنُقٌ سُودٌ وَسُمِّيَ الْأَسْوَدُ مِنَ الْإِبِلِ أَصْفَرُ لِأَنَّهُ سَوَادٌ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ الرَّابِعَةُ: قَدْ تَجِيءُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْمِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كلوا من ثمره إذا أثمر} مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّمَا يُؤْكَلُ إِذَا أَثْمَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 فَقِيلَ: فَائِدَتُهُ نَفْيُ تَوَهُّمِ تَوَقُّفِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالنُّضْجِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ أَوَّلِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذا حسد} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هي أحسن} فَإِنَّ غَيْرَ مَالِ الْيَتِيمِ كَذَلِكَ لَكِنْ إِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الطَّمَعَ فِيهِ أَكْثَرُ لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ النَّاصِرِ لَهُ بِخِلَافِ مَالِ الْبَالِغِ أَوْ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِمَجْمُوعِ الْحُكْمَيْنِ وَهُمَا النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ بِغَيْرِ الْأَحْسَنِ وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ كَذَلِكَ وَقُصِدَ بِهِ لِيُعْلَمَ وُجُوبُ الْعَدْلِ فِي الْفِعْلِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى كقوله: {فلا تقل لهما أف} الْخَامِسَةُ: قَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ السَّابِقَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إله واحد} فَإِنَّ ابْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ جَعَلُوهُ نَعْتًا قُصِدَ بِهِ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يقول: إن إلهين مثنى والاثنان للتثنية فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه: أحدهما: قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ: إِنَّ فَائِدَتَهَا تَوْكِيدُ نَهْيِ الإشراك بالله سبحانه وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 لأن الْعِبْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْإِلَهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا اثْنَيْنِ فَقَطْ وَلَوْ وُصِفَ إِلَهَيْنِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ عَاجِزَيْنِ لَأَشْعَرَ بِأَنَّ الْقَادِرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَا فَمَعْنَى التَّثْنِيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ فَسُبْحَانَ مَنْ دَقَّتْ حِكْمَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ! وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ: {فإن كانتا اثنتين} الثَّانِي: أَنَّ الْوَحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا النَّوْعِيَّةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ" وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْعَدَدُ نَحْوَ: "إِنَّمَا زَيْدٌ رَجُلٌ وَاحِدٌ" فَالتَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِهَا فَلَوْ قِيلَ: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فَقَطْ لَصَحَّ فِي مَوْضُوعِهِ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ اتِّخَاذِ جِنْسَيْنِ آلِهَةً وَجَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَعْدَادُ آلِهَةٍ لِأَنَّهُ يطلق عليهم أنهم واحد لاسيما وَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ لَا تَتَضَادُّ مَطْلُوبَاتُهُ فَيَصِحُّ فَلَمَّا قَالَ: {اثْنَيْنِ} بَيَّنَ فِيهِ قُبْحَ التَّعْدِيدِ لِلْإِلَهِ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَدَدِيَّةِ وقد أومأ إليه الزمخشري بقوله: أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَلَمْ تَصِفْهُ بِوَاحِدٍ لَمْ يَحْسُنْ وَقِيلَ لَكَ إِنَّكَ نَفَيْتَ الْإِلَهِيَّةَ لَا الْوَحْدَانِيَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ وَاقِعًا عَلَى التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ أَتَى بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَكَ: لَا تَتَّخِذْ ثَوْبَيْنِ يَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قُلْتَ: ثَوْبَيْنِ اثْنَيْنِ عَلِمَ الْمُخَاطَبُ أَنَّكَ نَهَيْتَهُ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ وَأَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى نَفْسِ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 فَأَتَى بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ الدَّالِّ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُعَدِّدِ الْآلِهَةَ وَلَا تَتَّخِذْ عَدَدًا تَعْبُدُهُ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ الرَّابِعُ: أَنَّ "اتَّخَذَ" هِيَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَيَكُونُ: {اثْنَيْنِ} مَفْعُولَهَا الْأَوَّلُ وَ {إِلَهَيْنِ} مَفْعُولَهَا الثَّانِي وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَيَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ إِلَهَيْنِ أَخَصُّ مِنَ اثْنَيْنِ وَاتِّخَاذُ اثْنَيْنِ يَقَعُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَعَلَى مالا يَجُوزُ وَأَمَّا اتِّخَاذُ اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ فَلَا يَقَعُ إلا على ما يَجُوزُ وَقَدَّمَ إِلَهَيْنِ عَلَى اثْنَيْنِ إِذِ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ اتِّخَاذُهُمَا إِلَهَيْنِ فَالنَّهْيُ وَقَعَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ الْآلِهَةُ الْمُتَّخَذَةُ وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذكر الاثنين والإلهين إِذْ هُمَا مَفْعُولَا الِاتِّخَاذِ قَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْجَيِّدُ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْكِيدِ وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ إِلَهَيْنِ مَفْعُولَ تَتَّخِذُوا واثنين صِفَةً فَإِنَّهُ أَيْضًا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوَصْفِ إِلَى التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ اثْنَيْنِ مَا اسْتُفِيدَ مِنْ إِلَهَيْنِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ وَالْجِنْسِ وَالثَّانِي عَلَى مُجَرَّدِ الِاثْنَيْنِيَّةِ قَالَ: وَهَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ كل زوجين اثنين} فِي دُخُولِ اثْنَيْنِ فِي حَدِّ الْوَصْفِ إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِتَنْوِينِ كُلٍّ فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ التَّنْوِينَ عِوَضًا عَنْهُ وَ {زوجين} مفعول "احمل" أو "فاسلك" و"اثنين" نعت ومن يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْأَمْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ لِكَوْنِهِ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا وَالتَّقْدِيرُ: احْمِلْ أَوِ اسْلُكْ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَمَنْ قَرَأَ بِإِضَافَةِ كُلٍّ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَ اثْنَيْنِ المفعول والجار والمجرور متعلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 فعل الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِي: جَعْلُ مِنْ زائدة على رأي الأخفش وكل هي المفعول واثنين صِفَةٌ الْخَامِسُ: أَنَّهُ بَدَلٌ وَيُنْوَى بِالْأَوَّلِ الطَّرْحُ وَاخْتَارَهُ النِّيلِيُّ فِي شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ قَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ التَّأْوِيلِ وَنَظِيرُ السُّؤَالِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} فإن مروان بن سعد الْمُهَلَّبِيَّ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَخْفَشَ فَقَالَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ؟ أَرَادَ مَرْوَانُ أَنَّ لَفْظَ كَانَتَا تُفِيدُ التَّثْنِيَةَ فَمَا فَائِدَةُ تَفْسِيرِهِ الضَّمِيرَ الْمُسَمَّى بِاثْنَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ كَانَتَا ثَلَاثًا وَلَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَمْ يفصل الخبر الاسم في شيء؟ فَأَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّهُ أَفَادَ الْعَدَدَ الْمَحْضَ مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَةِ أَيْ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا صَغِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا أَوْ كَبِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا أَوْ صَالِحَتَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ فَلَمَّا قَالَ: {اثْنَتَيْنِ} أَفْهَمَ أَنَّ فَرْضَ الثُّلُثَيْنِ لِلْأُخْتَيْنِ تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا اثْنَتَيْنِ فَقَطْ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوَرِّثُونَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا نُوَرِّثُ إِلَّا مَنْ يَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَنْكِئُ الْعَدُوَّ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِتَوْرِيثِ الْبَنَاتِ أَعْلَمَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي أخذ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ مَنُوطٌ بِوُجُودِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى العدد قال الحريري: ولعمري لقد أَبْدَعَ مَرْوَانُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ وَسُؤَالِهِ وَأَحْسَنَ أَبُو الْحَسَنِ فِي كَشْفِ إِشْكَالِهِ! وَلَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ هَذَا الْجَوَابَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ- وَقَدْ بَيَّنَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَخْفَشِ- ثُمَّ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُثَنَّى مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَاتِ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ خَبَرًا دَالًّا عَلَى التَّجْرِيدِ مِنَ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا يُعْنَى بِاللَّفْظِ ذَاتُهُ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ لَا يَفْهَمُ إِلَّا ذَاتٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَجْرِيدٍ عَنْ مَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ عَقْلٍ فَكَذَلِكَ اثْنَتَيْنِ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى مُسَمَّى اثْنَتَيْنِ فَقَطْ فَلَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ثُمَّ لَوْ سَلِمَ صِحَّةُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا إِذْ لَوْ صَحَّ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ حَصَلَ وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ تَثْنِيَةَ الضَّمِيرِ فِي كَانَتَا عَائِدٌ عَلَى الْكَلَالَةِ وَالْكَلَالَةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَجَمَاعَةً فَإِذَا أَخْبَرَ بِاثْنَتَيْنِ حَصَلَتْ بِهِ فَائِدَةٌ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي كَانَتَا الْعَائِدُ عَلَى الْكَلَالَةِ هُوَ فِي مَعْنَى اثْنَيْنِ صَحَّ أَنَّ تُثَنِّيَهُ لِأَنَّ تَثْنِيَتَهُ فَرْعٌ عَنِ الْإِخْبَارِ بِاثْنَيْنِ إِذْ لَوْلَاهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ لَمْ تُسْتَفَدِ التَّثْنِيَةُ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُمَاثِلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يوصيكم الله في أولادكم} ثم قال: {فإن كن نساء} {وإن كانت واحدة} وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْكَلَالَةِ وَإِلَّا لَكَانَ الضَّمِيرُ لِغَيْرِ مَذْكُورٍ وَالْجَوَابُ بِشَيْءٍ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَعُودُ عَلَى الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ إِلَيْهِ وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِهِ فَإِذَا قُلْتَ إِذَا جَاءَكَ رِجَالٌ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَإِنْ كَانَ اثْنَيْنِ فَكَذَا صَحَّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْجَائِي وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: وَإِنْ كَانَ الْجَائِي مِنَ الرِّجَالِ لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِكَ: إِذَا جَاءَكَ وَالْآيَةُ سِيقَتْ لبيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 الْوَارِثِينَ الْأَوْلَادِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِنَ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ فَقَدْ دَخَلَتْ الِاثْنَانِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى وَيَجُوزُ أَنَّ تَبْقَى الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَخْتَصُّ هَذَا الْجَوَابُ بِهَذِهِ قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ أُخَرُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ فَإِنْ كَانَ من ترك اثنتين وهذا مفيد فَأَضْمَرَهُ عَلَى مَا بَعْدُ وَ"مَنْ" يَسُوغُ مَعَهَا ذِكْرُ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَإِذَا وَقَعَ الضَّمِيرُ مَوْقِعَ "مَنْ" جَرَى مَجْرَاهَا فِي جَوَازِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالِاثْنَيْنِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى أُصُولِهَا الْمَرْفُوضَةِ كَقَوْلِهِ تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان} وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْأَعْدَادِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْمَعْدُودِ كَثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ اثْنَيْنِ رَجُلٍ وَوَاحِدِ رَجُلٍ وَلَكِنَّهُمْ رَفَضُوا ذَلِكَ لِأَنَّكَ تَجِدُ لَفْظَةً تَجْمَعُ الْعَدَدَ وَالْمَعْدُودَ فَتُغْنِيكَ عَنْ إِضَافَةِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُكَ: رَجُلَانِ وَرَجُلٌ وليس كذلك ما فوق الاثنتين أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ثَلَاثَةُ لَمْ يُعْلَمِ الْمَعْدُودُ مَا هُوَ؟ وَإِذَا قُلْتَ: رِجَالٌ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ مَا هُوَ فَأَنْتَ مُضْطَرٌّ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: كَانَ الرجال ثلاثة ولم يقل: كان الرجلان اثنتين وَلَا الرَّجُلَانِ كَانَا اثْنَيْنِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالًا لِلشَّيْءِ الْمَرْفُوضِ كَقَوْلِهِ: *ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْظَلِ* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الشِّعْرِ؟ قِيلَ: إِنَّا وَجَدْنَا فِي القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة كاستحوذ وَنَظَائِرِهَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَبَّرَ بِالْأَدْنَى عَنْهُ وَعَمَّا فَوْقَهُ قَالَهُ ابْنُ الضَّائِعِ النَّحْوِيُّ قُلْتُ: وَنَظَائِرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فإن لم يكونا رجلين} فَإِنَّ الرُّجُولِيَّةَ الْمُثَنَّاةَ فُهِمَتْ مِنَ الضَّمِيرِ بِدَلِيلِ: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: {رَجُلَيْنِ} حَالٌ لَا خَبَرٌ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدَا حَالَ كَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فَإِنَّ الْأُنُوثَةَ فُهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَضَعْتُهَا} وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمُ السُّؤَالَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ: الضَّمِيرُ فِي {يَكُونَا} لِلرَّجُلَيْنِ لِأَنَّ "الشَّهِيدَيْنِ" قُيِّدَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الرِّجَالِ فَكَأَنَّ الْكَلَامَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلَانِ رَجُلَيْنِ وَهَذَا مُحَالٌ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ الْأَخْفَشُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: إِنَّ الْخَبَرَ هُنَا أَفَادَ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الصِّفَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ إِذْ وَضَعَ فِيهِ "الرَّجُلَيْنِ" مَوْضِعَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ تَجَوُّزٌ بَعِيدٌ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ الْمُجَرَّدُ مِنْهُمَا الرُّجُولِيَّةُ أَوِ الْأُنُوثِيَّةُ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِصِفَةٍ مَا دَالًّا عَلَى نَفْيِهَا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 عَلَى أَنَّ فِي جَوَابِ الْفَارِسِيِّ هُنَاكَ نَظَرًا فإنه لم يرد عَلَى أَنْ جَعَلَ نَفْسَ السُّؤَالِ جَوَابًا كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَ ذُكِرَ الْعَدَدُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلضَّمِيرِ فَقَالَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ فَلَمْ يَزِدِ الْأَلْفَاظَ تَجَرُّدًا قَالَ: وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ {رجلين} منصوب على الحال المبينة وكان تَامَّةٌ فَهُوَ أَظْرَفُ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عن وجه النظم وأسلوب البلاغة ونفي مالا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْحَشْوِ فَأَجَابَ بِالْإِعْرَابِ وَلَمْ يُجِبْ عَنِ السُّؤَالِ بِشَيْءٍ وَالَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ خَبَرٌ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَالٌ وَمَا زَادَنَا إِلَّا التَّكَلُّفَ فِي جَعْلِهِ حَالًا وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ هُوَ أَنَّ {شَهِيدَيْنِ} لَمَّا صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ بِمَعْنَى شَخْصَيْنِ شَهِيدَيْنِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} ثُمَّ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} عَلَى الشَّهِيدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ وَكَانَ عَوْدُهُ عَلَيْهِمَا أَبْلَغَ لِيَكُونَ نَفْيُ الصِّفَةِ عَنْهُمَا كَمَا كَانَ إِثْبَاتُهَا لَهُمَا فَيَكُونُ الشَّرْطُ مُوجَبًا وَنَفْيًا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كَالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ وَفِي النَّظْمِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الِارْتِبَاطِ وَجَرْيِ الكلام على نسق واحد مالا خَفَاءَ بِهِ وَأَمَّا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ وُضِعَ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ اخْتِصَارًا لِبَيَانِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ اثْنَيْنِ ثُمَّ وُضِعَ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ مَوْضِعَ الْوَارِثِ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ لَمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْهُ الِاثْنَانِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْوَارِثِ -وَإِنْ كَانَ جَمْعًا- بِاثْنَيْنِ فَفِيهِ تَفَاوُتٌ مَا لِكَوْنِهِ مُفْرَدَ اللَّفْظِ فَكَانَ الْأَلْيَقُ بِحُسْنِ النَّظْمِ وَضْعُ الْمُضْمَرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ ثُمَّ يُجْرِي الْخَبَرَ عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ -وَهُوَ الْوَارِثُ- فَيَجْرِي الْكَلَامُ فِي طَرِيقِهِ مَعَ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ المضمر الظَّاهِرِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ تَفَاوُتِ اللَّفْظِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ لَفْظٍ مُفْرَدٍ بِمُثَنَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 وَنَظِيرُ هَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ اسْمٌ مَوْضِعَ غَيْرِهِ إِيجَازًا ثُمَّ جَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ فِي الْحَدِيثِ عَمَّنْ هُوَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بأسنا بياتا أو هم قائلون} فَعَادَ هَذَا الضَّمِيرُ وَالْخَبَرُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ أُقِيمَتِ الْقَرْيَةُ فِي الذِّكْرِ مَقَامَهُمْ فَجَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ مَعَ حُصُولِ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ الْقَرْيَةِ مَوْضِعَ أَهْلِهَا وَفُهِمَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وهذه الغاية في البيان يقصد عن مداها الْإِنْسَانِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نفخة واحدة} قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: لَمَّا فُهِمَ مِنْهَا التَّأْكِيدُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الذَّاتِ وَلَيْسَ فِي {وَاحِدَةٌ} دَلَالَةً عَلَى نَفْخٍ فَدَلَّ عَلَى أنها ليست تأكيدا وَفِي فَائِدَةِ {وَاحِدَةٌ} خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: التَّوْكِيدُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: "أَمْسِ الدَّابِرُ" الثَّانِي: وَصْفُهَا لِيَصِحَّ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْفَاعِلِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِلَّا إِذَا وُصِفَ وَرُدَّ بِأَنَّ تَحْدِيدَهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مُصَحِّحٌ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْفَاعِلِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَحْدَةَ لَمْ تُعْلَمْ مِنْ نَفْخَةٍ إِلَّا ضِمْنًا وَتَبَعًا لِأَنَّ قَوْلَكَ نَفْخَةٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ النَّفْخُ وَالْوَحْدَةُ فَلَيْسَتْ نَفْخَةٌ مَوْضُوعَةً لِلْوَحْدَةِ فَلِذَلِكَ صَحَّ وَصْفُهَا الرَّابِعُ: وصفه النفخة بواحدة لأجل نفي توهم الكثرة كقوله تعالى: {إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فَالنِّعْمَةُ فِي اللَّفْظِ وَاحِدَةٌ وَقَدْ عَلَّقَ عَدَمَ الإحصاء بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 الْخَامِسُ: أَتَى بِالْوَحْدَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ كقوله: {وما أمرنا إلا واحدة} أَيْ: لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {وإلهكم إله واحد} قِيلَ: مَا فَائِدَةُ {إِلَهٍ} وَهَلَّا جَاءَ وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ أَوْجَزُ قِيلَ: لَوْ قَالَ: وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ لَكَانَ ظَاهِرُهُ إِخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا فِي إِلَهِيَّتِهِ يَعْنِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ إِخْبَارًا عَنْ تَوَحُّدِهِ فِي ذَاتِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كُرِّرَ ذِكْرُ الْإِلَهِ وَالْآيَةُ إِنَّمَا سِيقَتْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِيَّتِهِ فِي ذَاتِهِ وَنَفْيِ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى إِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَالْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ أي الأصول كما أن زيدا واحدا وَأَعْضَاؤُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَمَّا قَالَ: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} دَلَّ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: {وَاحِدٌ} يَحْتَمِلُ الْأَحَدِيَّةَ فِي الذَّاتِ وَالْأَحَدِيَّةَ في الصفات سواء ذكر الإله أولا فلا يتم الجواب ومنها قوله: {ومناة الثالثة الأخرى} وَمَعْلُومٌ بِقَوْلِهِ: {الثَّالِثَةَ} أَنَّهَا {الْأُخْرَى} وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ وَمِثْلُهُ عَلَى رَأْيِ الْفَارِسِيِّ: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} قِيلَ: بِمَعْنَى "عَنْ" أَيْ: خَرَّ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ كَمَا تَقُولُ: اشْتَكَى فُلَانٌ عَنْ دَوَاءٍ شَرِبَهُ أَيْ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ فَخَرَّ لَهُمْ وَقِيلَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ لَفْظَةَ "عَلَى" فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا فِي الشَّرِّ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ تَقُولُ خَرِبَتْ عَلَى فُلَانٍ ضَيْعَتُهُ كَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} {ويقولون على الله الكذب} {أتقولون على الله ما لا تعلمون} وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُقَالُ: سَقَطَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ كَذَا إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَوْقِهِ بَلْ تَحْتَهُ فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ فوقهم} عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِالْفَوْقِيَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَأَتَى اللَّهُ بنيانهم من القواعد} كَمَا تَقُولُ: أَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى رَأْسِهِ السَّادِسَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ قُدِّمَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ ثُمَّ الظَّرْفُ أَوْ عَدِيلُهُ ثُمَّ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} فَقَوْلُهُ: {وَجِيهًا} حَالٌ وَكَذَلِكَ {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وَقَوْلُهُ: {يُكَلِّمُ} وَقَوْلُهُ {مِنَ الصَّالِحِينَ} فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ انْتَصَبَتْ عَنْ قَوْلِهِ "كَلِمَةٍ" وَالْحَالُ الْأُولَى جِيءَ بِهَا عَلَى الْأَصْلِ اسْمًا صَرِيحًا وَالثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَجِيءَ بِهَا هَكَذَا لِوُقُوعِهَا فَاصِلَةً فِي الْكَلَامِ وَلَوْ جِيءَ بِهَا اسْمًا صَرِيحًا لَنَاسَبَتِ الْفَوَاصِلَ وَالثَّالِثَةُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَالرَّابِعَةُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يكتم إيمانه} {قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} وَلَمَّا كَانَ الظَّرْفُ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمُفْرَدِ وَشَبَهٌ مِنَ الْجُمْلَةِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ أَوْجَبَ ابن عصفور وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} وَلَا يُقَالُ: إِنَّ {أَذِلَّةٍ} بَدَلٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَوَامِدِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَذَا كتاب أنزلناه مبارك} فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {مُبَارَكٌ} خَبَرًا لِمَحْذُوفٍ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ السَّابِعَةُ: فِي اجْتِمَاعِ التابع والمتبوع فِي اجْتِمَاعِ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْمَتْبُوعَ فيقولون: أبيض ناصع وأصفر فاقع وأحمر قان وأسود غِرْبِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} والمعنى: أن التبع فيه زِيَادَةِ الْوَصْفِ فَلَوْ قُدِّمَ لَكَانَ ذِكْرُ الْمَوْصُوفِ بَعْدَهُ عَيْبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وغرابيب سود} وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي صَدِئَتْ فِيهَا الْأَذْهَانُ الصَّقِيلَةُ وَعَادَتْ بِهَا أَسِنَّةُ الْأَلْسِنَةِ مَفْلُولَةً وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَجَائِبِ أَنَّ شَيْخًا أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُدَرِّسٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ السَّوَادَ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْغِرْبَانِ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ فَلَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَرَابِيبَ هُوَ الْغُرَابُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِتَقْدِيمِ "الْغَرَابِيبِ" هُوَ تَنَاسُبُ الْكَلِمِ وَجَرَيَانُهَا عَلَى نَمَطٍ مُتَسَاوِي التَّرْكِيبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْبِيضُ والحمر دون إتباع كان الأليق بحسن النسق وترتيب النظام أني يَكُونَ السُّودُ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي السُّودِ هُنَا زِيَادَةُ الْوَصْفِ كَانَ الْأَلْيَقُ فِي الْمَعْنَى أَنْ يُتْبَعَ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْغَرَابِيبُ فَيُقَابِلُ حَظَّ اللَّفْظِ وَحَظَّ الْمَعْنَى فَوَفَّى الْخِطَابَ وَكَمُلَ الْغَرَضَانِ جَمِيعًا وَلَمْ يَطْرَحْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَقَعُ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ الطَّرْحِ وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْغَرَابِيبِ عَلَى السُّودِ فَوَقَعَ فِي لَفْظِ الْغَرَابِيبِ حَظُّ الْمَعْنَى فِي زِيَادَةِ الْوَصْفِ وَفِي ذِكْرِ السُّودِ مُفْرَدًا مِنَ الْإِتْبَاعِ حَظُّ اللَّفْظِ إذا جَاءَ مُجَرَّدًا عَنْ صُورَةِ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ فَاتَّسَقَتِ الْأَلْفَاظُ كَمَا يَنْبَغِي وَتَمَّ الْمَعْنَى كَمَا يَجِبُ وَلَمْ يُخِلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْغَرَابِيبِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِمَعْنَى السُّودِ لئلا تتنافر الألفاظ فإن ضم الغرابيب إِلَى الْبَيْضِ وَالْحُمْرِ وَلَزَّهَا فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ: *كَابْنِ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرْنٍ* غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِتَلَاؤُمِ الْأَلْفَاظِ وَتَشَاكُلِهَا وَبِذِكْرِ السُّودِ وَقَعَ الِالْتِئَامُ وَاتَّسَقَ نَسَقُ النِّظَامِ وَجَاءَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي دَرَجَةِ التَّمَامِ وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي تَكِلُّ دُونَهَا الْعُقُولُ وَتَعْيَا بِهَا الْأَلْسُنُ لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ! وَالْحَمْدُ لله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ثُمَّ رَأَيْتُ أَبَا الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيَّ أَشَارَ إِلَى مَعْنًى غَرِيبٍ فَنَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الدَّيْنَوَرِيِّ أَنَّ الْغِرْبِيبَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْعِنَبِ وَلَيْسَ بِنَعْتٍ قَالَ: وَمِنْ هَذَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْآيَةِ وَسُودٌ عِنْدِي بَدَلٌ لَا نَعْتٌ وَإِنْ كَانَ الْغِرْبِيبُ إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُهُ وَلَمْ يُقَيَّدْ بِذِكْرِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ قَلَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعِنَبُ الَّذِي هُوَ اسْمُهُ خَاصَّةً فَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التَّقْيِيدُ الثامنة: عند تكرار النعوت لواحد إذا تكررت النعوت لواحدة فَتَارَةً يُتْرَكُ الْعَطْفُ كَقَوْلِهِ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم وَتَارَةً تَشْتَرِكُ بِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ مَعَانِيهَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: دُخُولُ الْعَاطِفِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ كُلَّ صفة مستقلة وَالْعَطْفُ أَحْسَنُ إِنْ تَبَاعَدَ مَعْنَى الصِّفَاتِ نَحْوَ: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} وَإِلَّا فَلَا التَّاسِعَةُ: فَصْلُ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ المدح والذم أبلغ من جعلها نمط وَاحِدًا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتْ صِفَاتٌ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ فِي إِعْرَابِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فَإِذَا خُولِفَ فِي الْإِعْرَابِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفتن وَعِنْدَ الْإِيجَازِ تَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وَمِثْلُهُ فِي الْمَدْحِ قَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصلاة والمؤتون الزكاة} فانتصب {والمقيمين} عَلَى الْقَطْعِ وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ {الْمُؤْمِنُونَ} وَقِيلَ: بَلِ انْتَصَبَ بِالْعَطْفِ عَلَى قوله: {بما أنزل إليك} وَهُوَ مَجْرُورٌ وَكَأَنَّهُ قَالَ: يُؤْمِنُونَ بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَبِالْمُقِيمِينَ أَيْ بِإِجَابَةِ الْمُقِيمِينَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِلتَّفْخِيمِ فَالْأَلْيَقُ بِهِ إِضْمَارُ الْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ الْكَلَامُ جُمْلَةً لَا مُفْرَدًا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَجَوَّزَ السِّيرَافِيُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القربى} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَالصَّابِرِينَ} وَرَدَّهُ الصَّفَّارُ بِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَوْصُولِ قَبْلَ تَمَامِ الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَ {وَالصَّابِرِينَ} مَعْطُوفًا عَلَى {وَالسَّائِلِينَ} فَهُوَ مِنْ صِلَةِ " مَنْ " فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ " مِنْ " صِلَةِ مَنْ وَتَكُونُ الصلة كملت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 عند قوله تعالى: {وآتى الزكاة} ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقَطْعِ وَمِثَالُهُ فِي الذَّمِّ: {وامرأته حمالة الحطب} بِنَصْبِ {حَمَّالَةَ} تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: إِنَّمَا يَحْسُنُ الْقَطْعُ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ مَعْلُومًا أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَجْهُولٍ وَقَوْلُنَا " أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ " لابد مِنْهُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي له ملك السماوات والأرض} رفع على الإبدال من {الذي نزل} أَوْ رُفِعَ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ نُصِبَ عَلَيْهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْإِبْدَالُ أَوْلَى لِأَنَّ مِنْ حَقِّ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وكونه تعالى {نزل الفرقان على عبده} لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلْعَالَمِينَ فَأُبْدِلَ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بَيَانًا وَتَفْسِيرًا وَتَبَيَّنَ لَكَ المدح وجوابه ما ذكرنا أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم وها هنا لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمَعْلُومِ وَجُعِلَتْ صِلَةً نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورُ وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصفة للثناء والتعظيم واشرط بَعْضُهُمْ ثَالِثًا وَهُوَ تَقَدُّمُ الْإِتْبَاعِ حَكَاهُ ابْنُ بابشاذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وَزَيَّفَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ فَحِينَئِذٍ يَتَقَدَّمُ الْإِتْبَاعُ لِيَسْتَحْكِمَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ قَالَ: وَالْأَصْلُ -فِيمَا الصِّفَةُ فِيهِ مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ وَالْمَوْصُوفُ مَعْلُومٌ- قَطْعُ الضَّمِيرِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَلَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ أُورِدَ عَلَى دَعْوَى أَفْصَحِيَّةِ الْقَطْعِ عِنْدَ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَلَى الْإِتْبَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَضَعَّفُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ مَعَ حُصُولِ شَرْطَيِ الْقَطْعِ وَأَجَابَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْقَطْعِ مُطَّرِدٌ مَا لَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ خَاصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ لَا يَلِيقُ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا سِوَاهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قَلِيلٌ جِدًّا فَكَذَلِكَ لَمْ يُفْصِحْ سِيبَوَيْهِ بِاشْتِرَاطِهِ فَإِذَا كَانَتِ الصف مِمَّنْ لَا يُشَارِكُ فِيهَا الْمَوْصُوفُ غَيْرَهُ وَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ فَالْوَجْهُ فِيهَا الْإِتْبَاعُ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُ وَعَلَيْهِ وَرَدَ السَّمَاعُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطول} لَمَّا كَانَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِـ {غَافِرِ الذَّنْبِ} وَمَا بَعْدَهُ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِتْبَاعُ وَالْإِتْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ وَيَلْزَمُ الْإِتْبَاعُ فِي الْكُلِّ وَهَذَا مَعَ تَكَرُّرِ الصِّفَاتِ وَذَلِكَ مِنْ مُسَوِّغَاتِ الْقَطْعِ عَلَى صِفَةٍ مَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تقييد بصفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وَأَمَّا الْإِتْبَاعُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ مِنْ صِفَتِهِ تَعَالَى فَكَثِيرٌ فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَارِدِ فِي سُورَةِ وَالنَّجْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى. وأنه هو رب الشعرى} فَوَرَدَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ الْفَصْلُ بِالضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِيَتَحَدَّدَ بِمَفْهُومِهِ نَفْيُ الِاتِّصَافِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَكَانَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: " وَأَنَّهُ هُوَ لَا غَيْرُهُ " وَلَمْ يَرِدْ هَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذكر والأنثى} لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَاطَاهُ أَحَدٌ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا ادِّعَاءً بِخِلَافِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُمْرُوذَ قُلْتُ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {التائبون العابدون} الآية وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مسلمات} الْآيَاتِ وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْصَافِ الذَّمِّ قَوْلُهُ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ} الآية قَدْ جَرَتْ كُلُّهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْإِتْبَاعِ وَلَمْ يَجِئْ فِيهَا الْقَطْعُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: {عُتُلٍّ} بِالرَّفْعِ عَلَى الذَّمِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْوِيَةٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الثَّانِي قَدْ يَلْتَبِسُ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَدْحِ بِالِاخْتِصَاصِ وَقَدْ فَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَيَّنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَصِبُ لَفْظًا يَتَضَمَّنُ نَفْسُهُ مَدْحًا نَحْوَ " هَذَا زِيدٌ عَاقِلُ قَوْمِهِ " وَفِي الِاخْتِصَاصِ لَا يَقْتَضِي اللفظ ذلك كقوله تعالى: {رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت} فيمن نصب {أهل} العاشرة: في وصف الجمع بالمفرد يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْمُفْرَدِ قَالَ تَعَالَى: {مِمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى} فَوَصَفَ الْجَمْعَ بِالْمُفْرَدِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الحسنى} فَوَصَفَ الْأَسْمَاءَ وَهِيَ جَمْعُ اسْمٍ بِالْحُسْنَى وَهُوَ مفرد تأنيث الأحسن وكذلك قوله تعالى: {قال فما بال القرون الأولى} فَإِنَّ الْأُولَى تَأْنِيثُ الْأَوَّلِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمُفْرَدٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرِدِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَنَّثَ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ بِخِلَافِ لفظ المذكر وأما قوله تعالى: {وكنتم قوما بورا} وَالْبُورُ الْفَاسِدُ فَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَ جَمْعُهُ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ وَقَدْ يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ وَلَا يُوصَفُ مُفْرَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمُفْرَدِ وَمِنْهُ: {فَوَجَدَ فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 رجلين يقتتلان} فَثَنَّى الضَّمِيرَ وَلَا يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ يَقْتَتِلُ ومنه: {وأخر متشابهات} ولا يقال وأخرى متشابهة الحادية عشر: قَدْ تَدْخُلُ الْوَاوُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً تَأْكِيدًا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} قَالَ: الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ وَالْقِيَاسُ عَدَمُ دُخُولِ الْوَاوِ فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} وَإِنَّمَا تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا وَالْقِيَاسُ مَعَ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّ الصِّفَةَ كَالْحَالِ فِي الْمَعْنَى وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِالْوَاوِ فِي الصِّفَاتِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامنهم كلبهم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وَتَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَالْعَالِمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الصِّفَةُ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّخْصِيصِ أَوِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَهَذَا فِي مَوْضِعِ الْإِطَالَةِ لَا الِاخْتِصَارِ فَصَارَ مِنْ بَابِ نَقْصِ الْغَرَضِ وَقَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: عِنْدِي أَنَّ الْبَيَانَ حَصَلَ بِالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مَعًا فَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ يُنْقِصُ الْغَرَضَ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: مَرَرْتُ بِطَوِيلٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ قَوْسٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ ظُهُورًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَا فَرْقَ فِي صِفَةِ النَّكِرَةِ بين أن يذكر معها أولا قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْبَدَلُ وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَهُوَ يُفِيدُ الْبَيَانَ وَالتَّأْكِيدَ أَمَّا الْبَيَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَخَاكَ بَيَّنْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِزَيْدٍ الْأَخَ لَا غَيْرَ وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فلأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُ زَيْدًا جَازَ أَنْ تَكُونَ ضَرَبْتَ رَأْسَهُ أَوْ يَدَهُ أَوْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَإِذَا قُلْتَ " يَدَهُ " فَقَدْ رَفَعْتَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ فالبدل جار مجرى التأكيد الدلالة الأولى عليه أو المطابقة كما بَدَلِ الْكُلِّ أَوِ التَّضَمُّنِ كَمَا فِي بَدَلِ الْبَعْضِ أَوِ الِالْتِزَامِ كَمَا فِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ فَكَأَنَّكَ قَدْ ذَكَرْتَ الرَّأْسَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالتَّضَمُّنِ وَأُخْرَى بِالْمُطَابَقَةِ وَإِذَا قُلْتَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِكَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ أَنَّكَ لَمْ تَشْرَبْهُ كُلَّهُ فَجِئْتَ بِالْبَعْضِ تَأْكِيدًا وَهَذَا معنى قول سيبويه: ولكنه بني الِاسْمَ تَأْكِيدًا وَجَرَى مَجْرَى الصِّفَةِ فِي الْإِيضَاحِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو زَيْدًا ورأيت غلامك زيدا ومررت بِرَجُلٍ صَالِحٍ زَيْدٍ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُهُ بِأَنَّهُ غُلَامُكَ أَوْ بِأَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَمَّا ذَكَرْتَهُمَا أُثْبِتَ بِاجْتِمَاعِهِمَا الْمَقْصُودُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وإنما يذكر الأولى لِتَجُوزَ التَّوْطِئَةُ وَلِيُفَادَ بِمَجْمُوعِهِمَا فَضْلُ تَأْكِيدٍ وَتَبْيِينٍ لَا يَكُونُ فِي الْإِفْرَادِ وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: لَيْسَ كُلُّ بَدَلٍ يُقْصَدُ بِهِ رَفَعُ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ بَلْ مِنَ الْبَدَلِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّأْكِيدُ وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ غَنِيًّا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الصِّرَاطَ الثاني لم يشك أجد أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبَدَلِ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَلِهَذَا جَوَّزُوا بَدَلَ الْمُضْمَرِ من المضمر كلقيته أباه انتهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي تَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ وَكَأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ مِنْ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكَرُّرِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لمن آمن منهم} وَبِدَلِيلِ بَدَلِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُظْهَرِ مِنَ الْمُضْمَرِ وَهَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ فِي الصِّفَةِ فَكَمَا أُعِيدَتِ اللَّامُ الْجَارَّةُ فِي الِاسْمِ فَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْعَامِلِ الرَّافِعِ أَوِ النَّاصِبِ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرَارِ وَهُوَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَبْيِينٌ لِلْأَوَّلِ كَالصِّفَةِ وَقِيلَ لِأَبِي عَلِيٍّ: كَيْفَ يَكُونُ الْبَدَلُ إِيضَاحًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جُمْلَتِهِ؟ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَاتَّصَلَ الْبَدَلُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ جَازَ أَنْ يُوَضِّحَهُ وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَدَلِ التَّبْيِينُ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ فَقَوْلُكَ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَفْضَلِهِمْ فُلَانٌ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ الْأَكْرَمُ وَالْأَفْضَلُ بِذِكْرِهِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْوَاحِدِيُّ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ نَحْوَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} يُسَمَّى هَذَا بَدَلَ الْبَيَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْبَدَلِ إِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْبَدَلَيْنِ أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَفَائِدَةُ الْبَدَلِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْعُمُومِ وَالثَّانِيَةُ بِالْخُصُوصِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الذين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 {آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون} وقوله: {لنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة} وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتخيص عَلَى نَاصِيَةٍ وَالثَّانِيَةَ عَلَى عِلَّةِ السَّفْعِ لِيَشْمَلَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ كُلِّ نَاصِيَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا وَيَجُوزُ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صراط الذين} وَبَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كاذبة} قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَا يَحْسُنُ بَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى تُوصَفَ كَالْآيَةِ لِأَنَّ الْبَيَانَ مُرْتَبِطٌ بِهِمَا جَمِيعًا وَالنَّكِرَةُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا. حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا. وَكَوَاعِبَ أترابا. وكأسا دهاقا} فَحَدَائِقَ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ " مَفَازًا " وَمِنْهُ قوله تعالى: {وغرابيب سود} فَإِنَّ سُودٌ بَدَلٌ مِنْ غَرَابِيبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ سُودٌ غَرَابِيبُ فَغَرَابِيبُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِسُودٍ وَنُزِعَ الضَّمِيرُ مِنْهَا وَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهَا الَّذِي كَانَ مَوْصُوفًا بِهَا كَقَوْلِهِ تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} وقوله: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} فَهَذَا بَدَلُ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ مِنْ أُخْرَى مَوْصُوفَةٍ فِيهَا بَيَانُ الْأُولَى وَمِثْلُ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ مِثْلِهَا مُجَرَّدَةٍ وَبَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} لِأَنَّ " صِرَاطِ اللَّهِ " مُبَيِّنٌ إِلَى الصِّرَاطِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ مَجِيءَ الْخَاصِّ وَالْأَخَصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَالْأَعَمِّ كَثِيرٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْحَذَّاقُ فِي قوله تعالى: {ما يلفظ من قول} إِنَّهُ لَوْ عُكِسَ فَقِيلَ " مَا يَقُولُ مِنْ لَفْظٍ " لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْقَوْلَ أَخَصُّ مِنَ اللَّفْظِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ الْمُهْمَلَ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ وَقَدْ يَجِيءُ لِلِاشْتِمَالِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَلِ الْبَعْضِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَعْضِ جَرَّ فِي الِاشْتِمَالِ وَصْفًا كَقَوْلِهِ: {وَمَا أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} فَإِنَّ أَذْكُرَهُ بِمَعْنَى " ذِكْرَهُ " وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي {أَنْسَانِيهِ} الْعَائِدَةُ إِلَى الْحُوتِ وَتَقْدِيرُهُ: " وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ " وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عن الشهر الحرام قتال فيه} فَـ {قِتَالٍ} بَدَلٌ مِنَ "الشَّهْرِ " بَدَلَ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَمَا كَانَ زَيْدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعَقْلِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ فَجَاءَ بِهِ تَأْكِيدًا وَقَوْلِهِ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود. النار} فَالنَّارُ بَدَلٌ مِنَ " الْأُخْدُودِ " بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّارِ وَغَيْرِهَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ " الْمُوقَدَةُ فِيهِ" وَمِنْ بَدَلِ الْبَعْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلا} فَالْمُسْتَطِيعُونَ بَعْضُ النَّاسِ لَا كُلُّهُمْ وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: بَلْ هَذِهِ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَجَّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضَهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جمعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 لكم} فِي أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ لِأَنَّ {النَّاسَ} فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {إِنَّ النَّاسَ} فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مُطَابِقٌ لِعِدَّةِ الْمُسْتَطِيعِينَ فِي كَمِّيَّتِهِمْ وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعُهُمْ وَالصَّحِيحُ مَا صَارَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ بَابَ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِي بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنْ يُذْكَرَ الْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ مُبَيِّنًا وَمُوَضِّحًا وَلَا بُدَّ فِي إِبْدَالِ الْبَعْضِ مِنْ ضَمِيرٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بعضهم ببعض} {ويجعل الخبيث بعضه على بعض} وَقَدْ يُحْذَفُ لِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حج البيت من استطاع} " مِنْهُمْ " وَهُوَ مُرَادٌ بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ من آمن منهم} فَـ {مَنْ آمَنَ} بَدَلٌ مِنْ {أَهْلِهِ} وَهُمْ بَعْضُهُمْ وَقَدْ يَأْتِي الْبَدَلُ لِنَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ مبدله نحو: جاء القوم أكثرهم وأعجبني زَيْدٌ ثَوْبُهُ وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَلَا يَصِحُّ "غِلْمَانُهُ " وَعَدَلَ عَنِ الْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يعقلون} لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي الْحَالِ الثاني وهو {ولو أنهم صبروا} فَلَوْ أُبْدِلَ لَأَوْهَمَ بِخِلَافِ " إِنَّكَ أَنْ تَقُومَ خَيْرٌ لَكَ " الْبَدَلُ أَرْجَحُ وَالْبَدَلُ فِي تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ وَلَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 قَدْ يُكَرَّرُ عَامِلُهُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} فَـ {طَلْعِهَا} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ {النَّخْلِ} وَكَرَّرَ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ "مِنْ" وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لمن آمن منهم} {لِمَنْ آمَنَ} بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنَ {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَقَدْ كَرَّرَ اللَّامَ وَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سقفا من فضة} فَقَوْلُهُ {لِبُيُوتِهِمْ} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ اللَّامَ الْأُولَى لِلْمِلْكِ وَالثَّانِيَةَ لِلِاخْتِصَاصِ فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ الْبَدَلُ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْحَرْفَيْنِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَكُونُ لَنَا عيدا لأولنا وآخرنا} فَـ {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {لَنَا} وَقَدْ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ مَقْصُودًا بِهِ التَّفْصِيلُ وَمِنْهُ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: جَازَ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّ فِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ سَبَبِ الْجُثُوِّ قِيلَ: وَلَمْ يَظْهَرْ عَامِلُ الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ إِيذَانًا بِافْتِقَارِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ فإن حروف الجر مفتقرة ولم يظهروا الفعل إذا لَوْ أَظْهَرُوهُ لَانْقَطَعَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ لَأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْفِعْلِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَإِنْ كَانَ رَافِعًا أَوْ نَاصِبًا فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُجَوِّزُونَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أمدكم} يجوز أَنْ يَكُونَ {أَمَدَّكُمُ} الثَّانِي بَدَلًا مَنْ {أَمَدَّكُمْ} الْأَوَّلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ صِلَةَ " الَّذِي " كَالْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ شَارِحَةً لِلْأُولَى كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُ رَأْسَ زَيْدٍ قَذَفْتُهُ بِالْحَجَرِ ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} أبدل قوله: {اتبعوا من لا يسألكم} من قوله: {اتبعوا المرسلين} لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَلَطُّفًا فِي اقْتِضَاءِ اتِّبَاعِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ له العذاب} فَـ {يَلْقَ} مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْأَلِفِ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فبين بها الأثام ما هو تقسيم البدل باعتبار آخر وَيَنْقَسِمُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى بَدَلِ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدٍ وَجُمْلَةٍ مِنْ جُمْلَةٍ وَقَدْ سَبَقَا وَجُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ آدَمَ خلقه من تراب} وَقَوْلِهِ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وَجَازَ إِسْنَادُ {يُقَالُ} إِلَى مَا عَمِلَتْ فِيهِ كَمَا جَازَ إِسْنَادُ {قِيلَ} فِي {وَإِذَا قِيلَ إن وعد الله حق} وَمِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُفْرَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ {النَّجْوَى} وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما. يضاعف له العذاب} الْآيَةَ وَالرَّابِعُ: بَدَلُ الْمُفْرَدِ مِنَ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أنهم إليهم لا يرجعون} فَـ {أَنَّهُمْ} بَدَلٌ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ وَعَدَمَ الرُّجُوعِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ بَدَلًا لَكَانَ مَعَهُ الِاسْتِفْهَامُ؟ قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مَعْنَوِيٌّ تنبيه في تكرار البدل وَقَدْ يُكَرَّرُ الْبَدَلُ كَقَوْلِهِ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لصاحبه} فَقَوْلُهُ: {إِذْ هُمَا} بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِذْ أخرجه الذين كفروا} وقوله: {إذ يقول لصاحبه} بدل من {إذ هما في الغار} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 تنبيه في إعراب كلمة "آزر" في سورة الأنعام أَعْرَبُوا {آزَرَ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأبيه آزر} بَدَلًا قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْبَيَانِ وَالْأَبُ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ حَسُنَ الْبَدَلُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَبَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ويعقوب} فَقَالَ " آزَرَ " لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ "آزَرَ" اسْمُ أَبِيهِ لَكِنْ فِي الْمُعْرَبِ لِلْجَوَالِيقِيِّ عَنِ الزَّجَّاجِ لَا خِلَافَ أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ "تَارِحُ" وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ وَقِيلَ: آزَرُ ذَمٌّ فِي لُغَتِهِمْ وَكَأَنَّهُ يَا مُخْطِئُ وَهُوَ مِنَ الْعَجَمِيِّ الَّذِي وَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْعَرَبِيِّ نَحْوَ الْإِزَارُ وَالْإِزْرَةُ قَالَ تَعَالَى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} وَعَلَى هَذَا فَالْوَجْهُ الرَّفْعُ فِي قِرَاءَةِ {آزَرَ} الْقِسْمُ الرَّابِعُ: عَطْفُ الْبَيَانِ وَهُوَ كَالنَّعْتِ فِي الْإِيضَاحِ وَإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ الْكَائِنِ فِيهِ وَشَرَطَ صَاحِبِ الْكَشَّافِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وُضُوحُهُ زَائِدًا عَلَى وُضُوحِ مَتْبُوعِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وَرُدَّ مَا قَالَهُ بِأَنَّ الشَّرْطَ حُصُول زِيَادَةِ الْوُضُوحِ بِسَبَبِ انْضِمَامِ عَطْفِ الْبَيَانِ مَعَ مَتْبُوعِهِ لَا أَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ أَوْضَحَ وَأَشْهَرَ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَحْصُلَ بِاجْتِمَاعِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ زِيَادَةُ وُضُوحٍ لَا تَحْصُلُ حَالَ انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي " خَالِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ زَيْدٌ " مَعَ أَنَّ اللَّقَبَ أَشْهَرُ فَيَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَفَاءٌ بِانْفِرَادِهِ وَيُرْفَعُ بِالِانْضِمَامِ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: جُعِلَ " يا هذا الحمد " عَطْفُ بَيَانٍ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ أَعْرَفُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَى ذِي اللَّامِ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْبَيَانِ مَعْرِفَةً وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِكَ: لَبِسْتُ ثَوْبًا جُبَّةً وَقَدْ أعرب الفارسي: {من شجرة مباركة زيتونة} وكذا: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِي: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثنين إنما هو إله واحد} فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ؟ قُلْتُ: عَطْفُ الْبَيَانِ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِيضَاحِ بِاسْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الْإِيضَاحِ كَالْمَدْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الكعبة البيت الحرام} فَإِنَّ {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عَطْفُ بَيَانٍ جِيءَ بِهِ لِلْمَدْحِ لَا لِلْإِيضَاحِ وَأَمَّا الصِّفَةُ فَوُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى حَاصِلٍ فِي مَتْبُوعِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مُفِيدَةً لِلْإِيضَاحِ لِلْعِلْمِ بِمَتْبُوعِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} وقوله تعالى: {آيات بينات مقام إبراهيم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيث سكنتم من وجدكم} أَنَّ {مِنْ وُجْدِكُمْ} عَطْفُ بَيَانٍ وَهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُعَادُ فِي الْبَدَلِ لَا فِي عَطْفِ الْبَيَانِ فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَدَلِ؟ قُلْتُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ابْنُ كَيْسَانَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَدَلَ يُقَرِّرُ الثَّانِي فِي مَوْضِعِ الْأَوَّلِ وَكَأَنَّكَ لَمْ تَذْكُرِ الْأَوَّلَ وَعَطْفُ الْبَيَانِ أَنْ تُقَدِّرَ أَنَّكَ إِنْ ذَكَرْتَ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالثَّانِي وَإِنْ ذَكَرْتَ الثَّانِي لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالْأَوَّلِ فَجِئْتَ بِالثَّانِي مُبَيِّنًا لِلْأَوَّلِ قَائِمًا لَهُ مَقَامَ النَّعْتِ وَالتَّوْكِيدِ قَالَ: وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِي النِّدَاءِ تَقُولُ: يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ عَلَى الْبَدَلِ كَأَنَّكَ رَفَعْتَ الْأَوَّلَ وَقُلْتَ: يَا زَيْدُ أَقْبِلْ فَإِنْ أَرَدْتَ عَطْفَ الْبَيَانِ قُلْتَ: يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ الْقِسْمُ الْخَامِسُ: ذِكْرُ الخاص بعدم العام فيؤتى به معطوفا عليه بالواو وللتنبيه عَلَى فَضْلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَامِّ تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الْوَصْفِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ وَعَلَى هَذَا بَنَى الْمُتَنَبِّي قَوْلَهُ: فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وَابْنُ الرُّومِيِّ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: كَمْ مِنْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنِ ذُرَا شَرَفٍ كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ وَحَكَى الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعَطْفَ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَفْصِيلًا وَلَهُ شَرْطَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ مَالِكٍ: أَحَدُهُمَا كَوْنُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالثَّانِي كَوْنُ الْمَعْطُوفِ ذَا مَزِيَّةٍ وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِّ الْمَذْكُورِ: هَلْ يتناول الخاص المعطوف عليه أولا يَتَنَاوَلُهُ؟ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا نَظِيرَ مَسْأَلَةِ "نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ" عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْعَامِّ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ عَطْفُ الْخَاصِّ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى إِرَادَةِ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَهُوَ نَظِيرُ بَحْثِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا مِنْ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقَوْمِ وَقَدْ يَتَقَوَّى هَذَا بِقَوْلِهِ يَا حُبَّ لَيْلَى لَا تَغَيَّرْ وَازْدَدِ وَانْمُ كَمَا يَنْمُو الْخِضَابُ فِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَطْفِ الْعَامِّ وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الْقَوْلَيْنِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قوله: {جنات وعيون. وزروع ونخل طلعها هضيم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وَقَدْ يُقَالُ: آيَةُ الشُّعَرَاءِ إِنَّمَا جَازَ فِيهَا الِاحْتِمَالَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ "جَنَّاتٍ" وَقَعَ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ وَلَمْ يَعُمَّ الْجِنْسَ وَأَمَّا الْآيَةُ السَّابِقَةُ فَالْإِضَافَةُ تَعُمُّ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ ورمان} أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَوَاضِحٌ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: إِنَّ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ لَيْسَا بِفَاكِهَةٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَوْلُهُ: " فَاكِهَةٌ " مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِعَامٍّ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهَا كَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَالْعِيدِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بالكتاب وأقاموا الصلاة} مَعَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ يَشْمَلُ كُلَّ عِبَادَةٍ وَمِنْهَا الصَّلَاةُ لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ إِظْهَارًا لِمَرْتَبَتِهَا لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال} فَإِنَّ عَدَاوَةَ اللَّهِ رَاجِعَةٌ إِلَى عَدَاوَةِ حِزْبِهِ فَيَكُونُ جِبْرِيلَ كَالْمَذْكُورِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ انْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومِ مَلَائِكَتِهِ وَتَحْتَ عُمُومِ رُسُلِهِ ثُمَّ عُمُومِ حِزْبِهِ ثُمَّ خُصُوصِهِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعَدَدِ فَيَكُونُ الذِّكْرُ ثَلَاثًا وَذِكْرُهُمَا بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ -مَعَ كَوْنِهِمَا مِنَ الْجِنْسِ- دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ التَّنْوِيهِ بِشَرَفِهِمَا عَلَى أن التفصيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 إِنْ كَانَ بِسَبَبِ الْإِفْرَادِ فَقَدْ عَدَلَ لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلَهُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ وَقَدْ يُلْحَظُ شَرَفُهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا وَأَيْضًا فَالْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بَعْدَ الْعَامِّ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ فِرَارًا من التكرار أو يدخل وفائدته التوكيد وحكاه الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" مِنْ كِتَابِ الْوَصِيَّةِ وَخَرَّجَ عليه ما إذا أوصى رجل لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَزَيْدٌ فَقِيرٌ فَهَلْ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ مَا أَوْصَى لَدَيْهِ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى مَا أَرَادَ الْوَصِيُّ وَجْهَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْطَى غَيْرَ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَطْعُ اجْتِهَادِ الْوَصِيِّ قُلْتُ: وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ اللَّفْظِ هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ جِنِّي وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَحْسُنُ عَدُّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَأَيْضًا فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفَانِ هَلْ يُجْعَلُ الْآخَرُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى مَا يَلِيهِ وَقَعَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكَشَّافِ تَجْوِيزُ الْأَمْرَيْنِ فَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الحي} أَنَّ " مُخْرِجًا " مَعْطُوفٌ عَلَى {فَالِقُ} لَا عَلَى {يُخْرِجُ} فِرَارًا مِنْ عَطَفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَخَالَفَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَوَّلَهُ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغمام والملائكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وقضي الأمر} عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى {اللَّهِ} لِأَنَّ قَضَاءَهُ قَدِيمٌ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ كَانَ قَوْلُهُ: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ أَنْشَأَهَا وَأَوْجَدَهَا {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} يَعْنِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ هَذِهِ صِفَتُهَا وَإِنْ أريد به المخاطبون بمكة كان قوله: {خلق} عَطْفًا عَلَى {خَلَقَكُمْ} وَمُوجِبُ ذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ التَّكْرَارِ وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "جِبْرِيلَ" مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَلَوْ سَلَّمْنَا بِعَطْفِهِ عَلَى رُسُلِهِ فَكَذَلِكَ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ لِعَطْفِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَلَيْسُوا مِنْهُ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا: لِمَ خَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ؟ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّهُمَا بِالْحَيَاةِ فَجِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِيكَائِيلُ بِالرِّزْقِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَلِأَنَّهُمَا كَانَا سَبَبَ النُّزُولِ فِي تَصْرِيحِ الْيَهُودِ بِعَدَاوَتِهِمَا وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ حَيَاةَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ حَيَاةِ الْأَبْدَانِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونخل ورمان} وَغَلَطَ بَعْضُهُمْ مَنْ عَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فَاكِهَةً نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهَا وَهُوَ غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ هَاهُنَا الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ بَلْ كُلُّ مَا كَانَ الْأَوَّلُ فِيهِ شَامِلًا لِلثَّانِي وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ لِعُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَجْمُوعٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ وَلَمَّا لَمَحَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ وَهُوَ الْمُغَايِرَةُ لَمْ يُحَنِّثِ الْحَالِفَ عَلَى أَكْلِ الْفَاكِهَةِ بِأَكْلِ الرُّمَّانِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} إِذِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ جُمْلَةِ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وآمنوا بما نزل على مُحَمَّدٍ} وَالْقَصْدُ تَفْضِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نُزِّلَ عَلَيْهِ إِذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ومشارب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وَقَوْلُهُ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أشركوا} فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مَعَ دُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ النَّاسِ أَنَّ حِرْصَهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَقَوْلُهُ: {الذين يؤمنون بالغيب} فهذا عام {وبالآخرة هم يوقنون} وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ يَشْمَلُهَا وَلَكِنْ خَصَّهَا لِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فَكَانَ فِي تَخْصِيصِهِمْ بِذَلِكَ مَدْحٌ لَهُمْ وَقَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَعَمَّ بِقَوْلِهِ: {خَلَقَ} جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ ثُمَّ خَصَّ فقال: {خلق الإنسان من علق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دما مسفوحا أو لحم خنزير} فَإِنَّهُ عَطَفَ "اللَّحْمَ" عَلَى "الْمَيْتَةِ" مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ ذَكَاةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالْقَصْدُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى شِدَّةِ التَّحْرِيمِ فِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرُ كَلَامِ الْكَثِيرِينَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَقَدْ سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ وَآخَرِينَ مَجِيئُهُ فِي "أَوْ" فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نفسه} مَعَ أَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 مِنْ عَمَلِ السُّوءِ فَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْمَعْنَى: يَظْلِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ السُّوءِ حَيْثُ دَسَّاهَا بِالْمَعْصِيَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} فَإِنَّ الْوَحْيَ مَخْصُوصٌ بِمَزِيدِ قُبْحٍ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيدِ الْعِقَابِ فِيهِ وَالْإِثْمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ دَاخِلٌ فِيهِ قِيلَ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ظُلْمِ النَّفْسِ وَهُوَ الرِّبَا أَوْ كُلُّ كَبِيرَةٍ فَخَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ قُبْحِهِ وَأُرِيدَ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الْقِسْمُ السَّادِسُ: ذِكْرُ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ وَهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ وُجُوَدَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَاضِحَةٌ وَالِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْعَامِّ قَبْلَهُ ثَابِتَانِ هُنَا أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ صلاتي ونسكي} وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وأن الله علام الغيوب} وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ العظيم} وقوله إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمر} بعد قوله: {قل من يرزقكم} وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يَقَعَانِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَكِنَّ وُقُوعَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي النَّفْيِ وَأَمَّا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ مِنْ عَطْفِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ الْقِسْمُ السَّابِعُ: عَطْفُ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِالْوَاوِ وَيَكُونُ فِي الْجُمَلِ كَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَيَكْثُرُ فِي الْمُفْرَدَاتِ كَقَوْلِهِ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استكانوا} وقوله: {فلا يخاف ظلما ولا هضما} {لا تخاف دركا ولا تخشى} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وقوله: {ثم عبس وبسر} وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وقوله: {لا تبقي ولا تذر} وَقَوْلِهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وَقَوْلِهِ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِوَجُ وَالْأَمْتُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَقِيلَ: الْأَمْتُ أَنْ يَغْلُظَ مَكَانٌ وَيَرِقَّ مَكَانٌ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي "الْمَقَايِيسِ" وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَقَوْلِهِ: {أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم} وقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} وقوله: {إلا دعاء ونداء} وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ بِأَنَّ النِّدَاءَ قَدْ يُقَالُ إِذَا قِيلَ "يَا" أَوْ "أَيَا" وَنَحْوَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ الِاسْمَ وَالدُّعَاءُ لَا يَكَادُ يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ الِاسْمُ نَحْوَ: يَا فُلَانُ وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أطعنا سادتنا وكبراءنا} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرض} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وَقَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فَإِنَّ "نَصَبٌ" مِثْلُ "لَغَبٍ" وَزْنًا وَمَعْنًى وَمَصْدَرًا وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ ربهم ورحمة} عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالرَّحْمَةِ وَالْأَحْسَنُ خِلَافُهُ وَأَنَّ الصَّلَاةَ لِلِاعْتِنَاءِ وَإِظْهَارِ الشَّرَفِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُتَغَايِرَيْنِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ من قبلك} إِنَّهُمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ أَوَّلًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ شَرْطَ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ تَغَايُرُ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ أَيِ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُتَغَايِرَةِ وَلَا تَقُولُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْعَالِمُ فَإِنَّهُ تَكْرَارٌ وَالْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الذين يؤمنون بالغيب} وَالْمَعْطُوفُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليك} وَالْمُنْزَلُ هُوَ الْغَيْبُ بِعَيْنِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْغَيْبِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْبٌ خَاصٌّ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب المنير} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 هو الزبور ونقله على إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ النَّعْتِ كَمَا تُعْطَفُ النُّعُوتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا يَرُدُّهُ تَكْرَارُ الْبَاءِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْفَصْلِ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَكْرَارِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ الْفَصْلِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَعَدَمِ التَّجَوُّزِ فِي العطف الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ وَبَيَانُهُ وَجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {جَاءَتْهُمُ} يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِي الْمُرْسَلِينَ الْمَذْكُورِينَ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ وقوله تعالى: {ثم أخذت الذين كفروا} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: كَذَّبُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِقِيَامِ الحجة عليهم {بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} وَجَاءَ تَقْدِيمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْعَطْفِ اعْتِرَاضًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ وَمِثْلُهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ قَوْلُهُ تعالى: {فقد كذب رسل من قبلك} وَقَوْلُهُ: {جَاءُوا} انْصِرَافٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِي الضَّمِيرِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جِئْتُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَأَقَامَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَائِبِ مَقَامَ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَرَيْنَ بهم} وَفِيهِ وَجْهٌ مِنَ التَّعَجُّبِ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ إِذَا اسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَيْبَةِ لِيَعُمَّ الْإِخْبَارُ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْآيَتَيْنِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْكِتَابِ الْمُنِيرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بعدي اسمه أحمد} وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذَا النَّوْعَ وَمَنَعَ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَعَلَّهُ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَصْلَ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ كَالْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِ الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ بِالْوَاوِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَقَدْ أُنِيبَتْ " أَوْ " عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} {ومن يكسب خطيئة أو إثما} قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يُرَادَ بِالْخَطِيئَةِ مَا وَقَعَ خَطَأً وَبِالْإِثْمِ مَا وَقَعَ عَمْدًا قُلْتُ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نفسه} وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ" قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ قَدْ سَبَقَهُ بِهِ ثَعْلَبٌ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ فَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نذرا} الْعُذْرُ وَالنُّذْرُ وَاحِدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَبَعْضُهُمْ يُثَقِّلُ وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ يُجْرَى فِي الْعَطْفِ بِثُمَّ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قَالَ: مَعْنَاهُ: "وَتُوبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الِاسْتِغْفَارُ" وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ وجعل منه قوله تعالى: {وغرابيب سود} والغرابيب هي السود {سبلا فجاجا} {الرحمن الرحيم} وَغَيْرُ ذَلِكَ الثَّالِثُ: مِمَّا يَدْفَعُ وَهْمَ التَّكْرَارِ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ الْقِسْمُ الثَّامِنِ: الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِيُرَى الْمَعْنَى فِي صُورَتَيْنِ أَوْ لِيَكُونَ بَيَانُهُ بَعْدَ التَّشَوُّفِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَلَذُّ لِلنَّفْسِ وَأَشْرَفُ عِنْدَهَا وَأَقْوَى لِحِفْظِهَا وَذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤلاء مقطوع مصبحين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وقوله تعالى {قل هو الله أحد} فَإِنَّ وَضْعَ الضَّمِيرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ مَعْنَاهُ الْبَيَانُ أَوِ الْحَدِيثُ أَوِ الْأَمْرُ لِلَّهِ أَحَدٌ مَكْفُوًّا بها ثم فسر وكان أو قع فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ مُفَسَّرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ وَتُفِيدُ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُرَادَ تَعْظِيمًا لَهُ وَسَيَأْتِي عَكْسُهُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ وَمِثْلُهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات ربه أربعين ليلة} وَأَعَادَ قَوْلَهُ: {أَرْبَعِينَ} وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الثلاثين والعشر أَنَّهَا أَرْبَعُونَ لِنَفْيِ اللَّبْسِ لِأَنَّ الْعَشْرَ لَمَّا أَتَتْ بَعْدَ الثَّلَاثِينِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْمُوَاعَدَةِ دَخَلَهَا الِاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْمُوَاعَدَةِ فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَرْبَعِينِ نَفْيًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعَدَدِ لِلْمُوَاعَدَةِ وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} أَعَادَ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ لَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ تَجِيءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِلْإِبَاحَةِ وَقَوْلُهُ: {كَامِلَةٌ} تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ وَتَأْكِيدٌ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَ زَمَنُ الْمُوَاعَدَةِ أَرْبَعِينَ فَلِمَ كَانَتْ ثَلَاثِينَ ثُمَّ عشرا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 أَجَابَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي "التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ" بِأَنَّ الْعَشْرَ إِنَّمَا فُصِلَ مِنْ أُولَئِكَ لِيَتَحَدَّدَ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْمُوَاعَدَةِ وَيَكُونُ فِيهِ مُتَأَهِّبًا مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ حَاضِرَ الذِّهْنِ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْأَرْبَعِينَ أَوَّلًا لَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فَإِذَا جَعَلَ الْعَشْرَ فِيهَا إِتْمَامًا لَهَا اسْتَشْعَرَتِ النَّفْسُ قُرْبَ التَّمَامِ وَتَجَدَّدَ بِذَلِكَ عَزْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّلَوُّمِ الَّذِي جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَيُفْصِلُونَهُ مِنْ أَيَّامِ الْأَجَلِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ هَذَا فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَعْنِي الْأَعْرَافَ الثَّلَاثِينَ ثُمَّ الْعَشْرَ وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} وَلَمْ يَفْصِلِ الْعَشْرَ مِنْهَا وَالْجَوَابُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْأَعْرَافِ ذِكْرَ صِفَةِ الْمُوَاعَدَةِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فَذَكَرَ عَلَى صِفَتِهَا وَفِي الْبَقَرَةِ إِنَّمَا ذَكَرَ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مُجْمَلَةً فَقَالَ: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} {وإذ أنجيناكم من آل فرعون} وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ لَنَا مِمَّا سَبَقَ جَوَابَانِ فِي ذِكْرِ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ إِمَّا الْإِجْمَالُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ وَإِمَّا رَفْعُ الِالْتِبَاسِ وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِنَّمَا عَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا أَكْثَرَ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي الْحَجِّ وَيُكْمِلُ سَبْعًا إِذَا رَجَعَ رَابِعُهَا: أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْجِنْسَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَفِّرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ أَنْ يُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ وَيَكْسُوَهُمْ وَلَا الْمَظَاهِرَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَحِلُّ هَذَيْنِ الصَّوْمَيْنِ فَكَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ صَارَا بِاخْتِلَافِ الْمَحِلَّيْنِ كَالْجِنْسَيْنِ وَالْجِنْسَانِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ -وَهِيَ قَوْلُهُ: {تلك عشرة كاملة} -رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أنه إنما عليه أحد النوعين: إما الثلاثة وَإِمَّا السَّبْعُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ كَمَالٍ لَا ذِكْرُ الْعَشَرَةِ فَلَيْسَتِ الْعَشَرَةُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُتَقَدِّمَ عَشَرَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وإنما ذكر لتوصف بالكامل الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْقِصَّةِ السَّادِسُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَالتَّقْدِيرُ: فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ أَلْجَأَنَا إِلَيْهِ السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً كَكَفَّارَاتِ الْجِنَايَاتِ وَلَمَّا فَصَلَ هَاهُنَا بَيْنَ صَوْمِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْطَارِ قَبْلَ صَوْمِهَا بِذِكْرِ الْفِدْيَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَهِيَ كَالْمُتَّصَلَةِ فَإِنْ قُلْتَ: فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ قُلْتُ: هِيَ فِي حُكْمِ الْمُتَتَابِعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّوَابِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ خَفَّفَ بِالتَّفْرِيقِ ثَامِنُهَا: أَنَّ السَّبْعَ قَدْ تُذْكَرُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا الْعَدَدُ وَالَّذِي فَوْقَ السِّتَّةِ وَدُونَ الثَّمَانِيَةِ وَرَوَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْعَرَبِ: سَبَّعَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ أَيْ أَكْثَرَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ التَّضْعِيفَ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} هُوَ جَمْعُ السَّبْعِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنَ السَّبْعِ وَلَفْظُهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِآلَةِ الْجَمْعِ فَيُفْضِي إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ رَفْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ الْفَذْلَكَةِ وَلِلْعَرَبِ مُسْتَنَدٌ قَوِيٌّ فِي إِطْلَاقِ السَّبْعِ وَالسَّبْعَةِ وَهِيَ تُرِيدُ الْكَثْرَةَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ تَاسِعُهَا: أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا عُطِفَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ احْتَمَلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْدَادِ فَقُيِّدَ بِالْعَشَرَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَمُلَ وَقَطَعَ الزِّيَادَةَ الْمُفْضِيَةَ لِلتَّسَلْسُلِ عَاشِرُهَا: أَنَّ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورَةَ عَقِبَ الثَّلَاثَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها في أربعة أيام} أَيْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خَلَقَ الْأَرْضَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 فِيهِمَا فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَنْدَفِعَ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ فَجَاءَ التَّقْيِيدُ بِالْعَشَرَةِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ التَّدَاخُلِ وَهَذَا الْجَوَابُ أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السلام ترجيحه وردده ابن أبي الإصبع بأن احْتِمَالَ التَّدَاخُلِ لَا يُظَنُّ إِلَّا بِعَدَدَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا جُمْلَةً فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ احْتَمَلَ ذَلِكَ فَالتَّقْيِيدُ مَانِعٌ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْهُ فَإِنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ رافع لذلك الاحتمال الحادي عش: ر أَنَّ حُرُوفَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ مُشْتَبِهَةٌ فَأُزِيلَ الْإِشْكَالُ بقوله: {تلك عشرة كاملة} لِئَلَّا يَقْرَءُوهَا تِسْعَةً فَيَصِيرُ الْعَدَدُ اثْنَيْ عَشَرَ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا واحدا" فائدة في التأكيد بمائة إلا واحدا التأكيد بمائة إِلَّا وَاحِدًا لِإِزَالَةِ إِلْبَاسِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ بِالسَّبْعَةِ وَالسَّبْعِينَ لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا مَأْمُونٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ اللَّهَ حَفِظَهُ الْقِسْمُ التَّاسِعُ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْبَيَانِيِّينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي أَقْسَامِ الْإِطْنَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وَمِنْهُ بَيْتُ الْكِتَابِ: إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّ الْوَحْشَ فِي ظُلَلَاتِهَا سَوَاقِطُ مِنْ حَرٍّ وَقَدْ كَانَ أظهرا وَلَوْ أَتَى عَلَى وَجْهِهِ لَقَالَ: "إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّهَا" وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَتِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ كَالْبَيْتِ سَهُلَ الْأَمْرُ لَكِنَّ الْجُمْلَتَيْنِ فِيهِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الرَّافِعَ لِلْوَحْشِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ كَمَا يَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ سَادٌّ مَسَدَّ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَإِنْ قُدِّرَ رَفْعُ الْوَحْشِ بِالِابْتِدَاءِ فَالْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَسْهُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْشَ الْكَرِيهَةَ أَوْشَكَتْ حِبَالُ الْهُوَيْنَى بِالْفَتَى أَنْ تَقَطَّعَا فَاخْتِلَافُ لَفْظَيْنِ ظَاهِرَيْنِ أَشْبَهَا لَفْظَيِ الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ فِي اخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبي} ثم قال: {والذين يؤذون رسول الله} وَلَمْ يَقُلْ: يُؤْذُونَهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْظِيمِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "نَبِيُّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} الْآيَةَ فَإِنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يُضْمَرْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ مُرْتَبِطَةً بِبَعْضِهَا ارْتِبَاطَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ الشَّيْطَانُ وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى تَفْسِيرِهِ وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: إِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ حَسُنَ الْإِظْهَارُ وَالْإِضْمَارُ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ وَزَيْدٌ رَجُلٌ فَاضِلٌ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَهُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ وَقَوْلِهِ: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يجعل رسالته} وَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ قَبُحَ الْإِظْهَارُ وَلَمْ يَكَدْ يُوجَدُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا قَالَ: وَإِذَا اقْتَرَنَ بِالِاسْمِ الثَّانِي حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ كَانَ الْمُنَاسِبُ الْإِظْهَارَ كَقَوْلِهِ: تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ. مَا الحاقة} و {القارعة. ما الْقَارِعَةِ} وَالْإِضْمَارُ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وما أدراك ما هيه} الخروج على خلاف الأصل وأسبابه وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً وَأَصْلُ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ كَذَلِكَ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ ثَانِيًا أَنْ يُذْكَرَ مُضْمَرًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ السَّابِقِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْإِعْرَابُ وَفِي الْأَفْعَالِ الْبِنَاءُ وَإِذَا جَرَى الْمُضَارِعُ مَجْرَى الِاسْمِ أُعْرِبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إنه لا يحب الظالمين} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كان توابا} وَلِلْخُرُوجِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا: قَصْدُ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ والله بكل شيء عليم} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حزب الله هم المفلحون} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بما تعملون} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أشرك بربي أحدا} فَأَعَادَ ذِكْرَ الرَّبِّ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ ولهضم للخضم وقوله تعالى: {الله أحد. الله الصمد} {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بالعباد} {هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وما كان عطاء ربك محظورا} {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سعيرا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وقوله تعالى: {الحاقة. ما الحاقة} {القارعة. ما الْقَارِعَةِ} كَانَ الْقِيَاسُ ـ لَوْلَا مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ ـ " الْحَاقَّةُ مَا هِيَ " وَمِثْلُهُ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ما أصحاب المشأمة} تَفْخِيمًا لِمَا يَنَالُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وأليم العقاب الثاني: قصد الإهانة والتحقير كقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يتبع خطوات الشيطان} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حزب الشيطان} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كان للإنسان عدوا مبينا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصد عن السبيل وما كيد فرعون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَمَا لِلنَّوَى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي النَّوَى وَعَهْدُ النَّوَى عِنْدَ الْفِرَاقِ ذَمِيمُ وَسَمِعَ الْأَصْمَعِيُّ مَنْ يُنْشِدُ: فَمَا لِلنَّوَى جَدَّ النَّوَى قَطَعَ النَّوَى كَذَاكَ النَّوَى قَطَّاعَةٌ لِلْقَرَائِنِ فَقَالَ: لَوْ قُيِّضَ لِهَذَا الْبَيْتِ شَاةٌ لَأَتَتْ عَلَيْهِ الثَّالِثُ: الِاسْتِلْذَاذُ بِذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أنزلناه وبالحق نزل} إِنْ كَانَ الْحَقُّ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حيث نشاء} وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْهَا" وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ الْجَنَّةَ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: كَرِّرْ عَلَى السَّمْعِ مِنِّي أَيُّهَا الْحَادِي ذِكْرَ الْمَنَازِلِ وَالْأَطْلَالِ وَالنَّادِي وَقَوْلُهُ: يَا مُطْرِبِي بِحَدِيثِ مَنْ سَكَنَ الْغَضَى هجت الهوى وقدحت في حراق إن كررت حَدِيثَكَ يَا مُهَيِّجَ لَوْعَتِي إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الحبيب تلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الرَّابِعُ: زِيَادَةُ التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نزل} وقوله: {الله الصمد} بعد قوله: {الله أحد} وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّقْدِيرِ سَبَبُ نُزُولِهَا وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تدعوننا إليه فنزل: {الله أحد} مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي سَأَلْتُمُونِي وَصْفَهُ هُوَ اللَّهُ ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ تَقْدِيرُ كَوْنِهِ اللَّهَ أُعِيدَ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ دُونَ ضَمِيرِهِ وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يشكرون} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وما هو من عند الله} {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هو من الكتاب} الْخَامِسُ: إِزَالَةُ اللَّبْسِ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمِيرُ يُوهِمُ أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تشاء} لَوْ قَالَ: "تُؤْتِيهِ" لَأَوْهَمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السوء عليهم دائرة السوء} كرر السوء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 لأنه لو قال: "عليهم دائرته" لَالْتَبَسَ بِأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَنَظِيرُهُ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} وَتَبْيِينُهُ: الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ وَالثَّانِي الْوُجُودُ فِي الْجَنِينِ أَوِ الطِّفْلِ وَالثَّالِثُ الَّذِي بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَهُوَ أَرْذَلُ الْعُمُرِ وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ التَّحَرُّكَ وَالِاهْتِدَاءَ لِلثَّدْيِ وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ويؤيد الغيرية التنكير ونحوه قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مشهودا} الْآيَةَ لَوْ قَالَ: "إِنَّهُ" لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْفَجْرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نفس تجادل عن نفسها} فَلَمْ يَقُلْ: "عَنْهَا" لِئَلَّا يَتَّحِدَ الضَّمِيرَانِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا مَعَ أَنَّ الْمُظْهَرَ السَّابِقَ لَفْظُ النَّفْسِ فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ ضَرَبَ زَيْدٌ نَفْسَهُ وَكَقَوْلِهِ تعالى: {ثم استخرجها من وعاء أخيه} وَإِنَّمَا حَسُنَ إِظْهَارُ الْوِعَاءِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فَاسْتَخْرَجَهَا مِنْهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى الْأَخِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَخَ مُبَاشِرٌ لَطَلَبِ خُرُوجِ الْوِعَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا فِي الْمُبَاشِرِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ فَأُعِيدَ لَفْظُ الظَّاهِرِ لِنَفْيِ هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الله تبارك وتعالى الرب عز وجل وَإِنَّمَا لَمْ يُضْمَرِ الْأَخُ فَيُقَالُ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَائِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ فِي {اسْتَخْرَجَهَا} لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَوْ قَالَ مِنْ وِعَائِهِ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يُوسُفُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مذكور فأظهر لذلك والثاني أن لأخ مَذْكُورٌ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيمَا تَقَدَّمَ مَقْصُودًا بِالنِّسْبَةِ الْإِخْبَارِيَّةِ فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَى إِعَادَةِ مَا وَأُضِيفَ إِلَيْهِ أَظْهَرَهُ أَيْضًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله} السَّادِسُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ تَرْبِيَةَ الْمَهَابَةِ وَإِدْخَالَ الرَّوْعَةِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ بِذِكْرِ الِاسْمِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْخَلِيفَةُ لِمَنْ يَأْمُرُهُ بِأَمْرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا مَكَانَ أَنَا آمُرُكَ بِكَذَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} وَقَوْلُهُ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وَقَوْلُهُ {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} وَلَمْ يَقُلْ لِخَزَنَتِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 السَّابِعُ: قَصْدُ تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} وَلَمْ يَقُلْ "عَلَيَّ" وَحِينَ قَالَ {عَلَى اللَّهِ} لَمْ يَقُلْ: "إِنَّهُ يُحِبُّ" أَوْ "إِنِّي أُحِبُّ" تَقْوِيَةً لِدَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ بِالتَّوَكُّلِ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْمُتَوَكَّلِ عَلَيْهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ والله بكل شيء عليم} الثَّامِنُ: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانِ} وَلَمْ يَقُلْ: "خَلَقْنَاهُ" لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ خَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وكانت الجبال كثيبا مهيلا} فَإِنَّمَا أُعِيدَ لَفْظُ {الْجِبَالِ} وَالْقِيَاسُ الْإِضْمَارُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي "الم السَّجْدَةِ" فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وَهُوَ قَوْلُهُ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} وَهُوَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ سِيقَتَا لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ فَإِعَادَةُ الظَّاهِرِ أَبْلَغُ وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ {الْجِبَالَ} لَاحْتُمِلَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَرْضِ التَّاسِعُ: أَنْ يُقْصَدَ التَّوَصُّلُ بِالظَّاهِرِ إِلَى الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يؤمن بالله وكلماته} بَعْدَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {إِنِّي رَسُولُ الله إليكم جميعا} {فآمنوا بالله ورسوله} دُونَ "فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَبِي" لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَبِي لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاتِّبَاعُ لَهُ هُوَ مَنْ وُصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنَا أَوْ غَيْرِي إِظْهَارًا لِلنَّصَفَةِ وَبُعْدًا مِنَ التَّعَصُّبِ لِنَفْسِهِ الْعَاشِرُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قولا غير الذي قيل لهم} وقوله: {فإن الله عدو للكافرين} أَعْلَمَنَا أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِهَؤُلَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ هَذَا إِنْ خِيفَ الْإِلْبَاسُ لِعَوْدِهِ لِلْمَذْكُورِينَ وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ} دُونَ " فَإِنَّهُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا من السماء} وَلَمْ يَقُلْ: "عَلَيْهِمْ" لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ مَا فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} مِنْ ذِكْرِ الظُّلْمِ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ الْعَذَابُ وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} وقوله تعالى: {فلعنة الله على الكافرين} والأصل "عليهم" لدلالة عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ لَحِقَتْهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فَإِنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَقَدَّمْتُ فِي الشَّرْطِ وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةٍ أُخْرَى زَائِدَةٍ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَائِدَتُهُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول} لِأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ عَظِيمٍ وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يفلح الظالمون} وَالْقِيَاسُ "أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ" وَلَوْ ذَكَرَ الظَّاهِرَ لَقَالَ: "لَا يُفْلِحُ الْمُفْتَرُونَ" أَوِ "الْكَاذِبُونَ" لَكِنْ صَرَّحَ بِالظُّلْمِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْفَلَاحِ الظُّلْمُ وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} وَلَمْ يَقُلْ: "أَجْرَهُمْ" تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صَلَاحَهُمْ عِلَّةٌ لِنَجَاتِهِمْ وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لربك وانحر} وَلَمْ يَقُلْ: "لَنَا" لِيُنَبِّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنْ يُصَلِّيَ لَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ وَرَبَّاهُ بِنِعْمَتِهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ عَدُوًّا لَهُمْ فَجَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَتْ عَدَاوَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا فَمَا بَالُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ أَشْرَفُ وَالْمَعْنَى وَمَنْ عَادَاهُمْ عَادَاهُ اللَّهُ وَعَاقَبَهُ أَشَدَّ العقاب المهين وَقَدْ أَدْمَجَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَذْهَبَهُ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى النَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَهُوَ كَمَا قِيلَ: وَمَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلَكِنَّ ذَا الْهَوَى إِلَى حَيْثُ يَهْوَى الْقَلْبُ تَهْوِي بِهِ الرِّجْلُ وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُطِيعٍ: أُمِّي الضَّرِيحَ الَّذِي أُسَمِّي ثُمَّ اسْتَهِلُّ عَلَى الضَّرِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ "عَلَيْهِ" لِأَنَّهُ بَاكٍ بِذِكْرِ الضَّرِيحِ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِ وَيَحْزَنَ لِذِكْرَاهُ الْحَادِي عَشَرَ: قَصْدُ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قرية استطعما أهلها} وَلَمْ يَقُلْ: "اسْتَطْعَمَهُمْ" لِلْإِشْعَارِ بِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَأَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا اسْتَطْعَمَاهُ وَأَبَى وَمَعَ ذَلِكَ قَابَلَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسوء} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: "إِنَّهَا لَأَمَّارَةٌ" لَاقْتَضَى تَخْصِيصَ ذَلِكَ فَأَتَى بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْمِيمُ مَعَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بعده: {إلا ما رحم ربي وقوله: {إن ربي غفور رحيم} وَلَمْ يَقُلْ: "إِنَّهُ" إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ وَإِمَّا لِلِاسْتِلْذَاذِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظن لا يغني من الحق شيئا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رحمة فرح بها} ثم قال: {فإن الإنسان كفور} وَلَمْ يَقُلْ " فَإِنَّهُ" مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسِ شَأْنُهُ كُفْرَانُ النِّعَمِ الثَّانِي عَشَرَ: قَصْدُ الْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وَلَمْ يَقُلْ: "لَكَ" لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ لَأُخِذَ جَوَازُهُ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وبنات عمك} فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الثَّالِثَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ التَّجْنِيسِ وَمِنْهُ: {قُلْ أَعُوذُ برب الناس} السورة ذكره الشيخ عز الدين ابن عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَتَحَمَّلَ ضَمِيرًا لَا بُدَّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {أَتَيَا أهل قرية استطعما أهلها} الْخَامِسَ عَشَرَ: كَوْنُهُ أَهَمَّ مِنَ الضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُعِيدَ {إِحْدَاهُمَا} لِتَعَادُلِ الْكَلِمِ وَتَوَازُنِ الْأَلْفَاظِ فِي التَّرْكِيبِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي التَّرْصِيعِ الْبَدِيعِيِّ بَلْ هَذَا أَبْلَغُ مِنَ التَّرْصِيعِ فَإِنَّ التَّرْصِيعَ تَوَازُنُ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ صِيَغِهَا وَهَذَا مِنْ حَيْثُ تَرْكِيبِهَا فَكَأَنَّهُ تَرْصِيعٌ مَعْنَوِيٌّ وَقَلَّمَا يُوجَدُ إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنَ الْكَلَامِ وَقَدِ اسْتَغْرَبَ أَبُو الْفَتْحِ مَا حُكِيَ عَنِ المتنبي في قوله: وقد جادت الأجفان قرحى من البكا وعادت بَهَارًا فِي الْخُدُودِ الشَّقَائِقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 قَالَ: سَأَلْتُهُ: هَلْ هُوَ "قَرْحَى" أَوْ "قَرْحًا مُنَوَّنٌ؟ فَقَالَ لِي: قَرْحًا مُنَوَّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهَا "وَعَادَتْ بَهَارًا" قَالَ: يَعْنِي أَنَّ بهارا جمع بهار وقرحى جَمْعُ قُرْحَةٍ ثُمَّ أَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُتَنَبِّي وَاسْتَغْرَبَ فِطْنَتَهُ لِأَجْلِ هَذَا وَبَيَانُ مَا ذَكَرْتُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِقِسْمَيْنِ قِسْمُ الضَّلَالِ وَقِسْمُ التَّذْكِيرِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى ظَاهِرٍ حَيْثُ أَسْنَدَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يُوصَلْ بِضَمِيرٍ مَفْصُولٍ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ لَازِمًا فَأَتَى بِالثَّانِي عَلَى صُورَتِهِ مِنَ التَّجَرُّدِ عَنِ الْمَفْعُولِ ثُمَّ أَتَى بِهِ خَبَرًا بَعْدَ اعْتِدَالِ الْكَلَامِ وَحُصُولِ التَّمَاثُلِ فِي تَرْكِيبِهِ وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرْفُوعَ حَرْفٌ لَكَانَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ الْأَخِيرُ بَدَلًا أَوْ نَعْتًا عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ ضَلَالٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا كَانَ تَذْكِيرٌ مِنَ الْأُخْرَى وَقَدَّمَ عَلَى "الْأُخْرَى" لَفْظَ "إِحْدَاهُمَا" لِيُسْنِدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى مِثْلِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ السَّادِسَ عَشَرَ: كَوْنُ مَا يَصْلُحُ لِلْعَوْدِ وَلَمْ يُسَقِ الْكَلَامُ لَهُ كَقَوْلِهِ: {رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعلم} وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَبْكِي عَلَى زَيْدٍ وَلَا زَيْدَ مثله برئ مِنَ الْحُمَّى سَلِيمُ الْجَوَانِحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 السَّابِعَ عَشَرَ: الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الْجُمْلَةِ فِي حُكْمِ الْأُولَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} فِي سُورَةِ الشُّورَى فَإِنْ {يَمْحُ} اسْتِئْنَافٌ وَلَيْسَ عَلَى الْجَوَابِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وَلَيْسَ صَحِيحًا فِي {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لِأَنَّ مَحْوَ الْبَاطِلِ ثَابِتٌ فَلِذَلِكَ أُعِيدَ الظَّاهِرُ وَأَمَّا حَذْفُ الْوَاوِ مِنَ الْخَطِّ فَلِلَّفْظِ وَأَمَّا حذفها في الوقف كقوله تعالى: {يدع الداع} و {سندع الزبانية} فَلِلْوَقْفِ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ وُقُوفُ يَعْقُوبَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْبَزْدَوِيِّ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ وَهَذَا أَنَّا لا نسلم أن المعلق ها هنا بِالشَّرْطِ هُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا الْمَشِيئَةُ وَلَيْسَ الْمَحْوُ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَشِيئَةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الشَّرْطَ هُنَا مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ مَشِيئَةُ الْخَتْمِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْقُوَّةِ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ على الهدى} {ولو شاء الله ما أشركوا} {ولو شاء الله ما اقتتلوا} المعنى: "ولو شاء الله جمعهم لجمعهم" "ولو شاء الله عدم إيمانهم ما أشركوا" "ولو شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ قِتَالِهِمْ مَا اقْتَتَلُوا" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 قِيلَ: لَا يَكَادُ يَثْبُتُ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ إِلَّا نَادِرًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَذْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مَا ادَّعَيْنَاهُ فَإِنَّ مَحْوَ اللَّهِ ثَابِتٌ قَبْلَ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْخَتْمَ فَإِنْ قُلْتَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ لَكِنَّهَا إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِقَرِينَةِ الْجَوَابِ وَالْجَوَابُ هُنَا شَيْئَانِ فَالْمَعْنَى إِنْ يَشَأِ اللَّهُ الْخَتْمَ وَمَحْوَ الْبَاطِلِ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ الْبَاطِلَ وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ مَا ادَّعَاهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثابت وغير ممتنع ويمحو الْبَاطِلَ كَانَ ثَابِتًا فَلَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَهَذَا أَحْسَنُ جِدًّا بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ كُلًّا مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ بَلْ مَجْمُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ وَالْمَجْمُوعُ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ثَابِتًا الْأَوَّلُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ لِيَشْمَلَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ من أحسن عملا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من يشاء} لِأَنَّ إِنْزَالَ الْخَيْرِ هُنَا سَبَبٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ " اللَّهِ " لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مُنَاسِبٌ لِلْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ دَائِرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْسَعُ وَمِثْلُهُ: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نشاء} كما سبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وَمِنْ فَوَائِدِهِ: التَّلَذُّذُ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمُ الْمِنَّةِ بِالنِّعْمَةِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ: قَصْدُ الذَّمِّ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ويقول الكافر} فَقَالَ: الْمَرْءُ هُوَ الْكَافِرُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِزِيَادَةِ الذَّمِّ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الفاسقين} إِنَّ "الْفَاسِقِينَ" يُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَيَكُونُ قَدْ أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَالتَّصْرِيحُ بِصِفَةِ الْفِسْقِ سَبَبٌ لَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعُمُومَ لِكُلِّ فَاسِقٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَكَذَا سَائِرُ هَذِهِ النَّظَائِرِ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الباب قوله تعالى: {إن تكونوا صالحين} أَيْ: فِي مُعَامَلَةِ الْأَبَوَيْنِ {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غفورا} وقوله تعالى: {من كان عدوا لجبريل} إلى قوله: {فإن الله عدو للكافرين} وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ شَرْطٌ فَإِنَّ الشُّرُوطَ أَسْبَابٌ وَلَا يَكُونُ الْإِحْسَانُ لِلْوَالِدَيْنِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ اللَّهِ لِكُلِّ تَائِبٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُثَابَ غَيْرُ الْفَاعِلِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ وَكَذَلِكَ مُعَادَاةُ بَعْضِ الْكَفَرَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمُعَادَاةِ كُلِّ كَافِرٍ فَتَعَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ لَيْسَ إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الثَّانِي قَدْ مَرَّ أَنَّ سُؤَالَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ الواحدة نحو: {الحاقة. ما الْحَاقَّةِ} فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ فِي جُمْلَتَيْنِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فَحَسُنَ فِيهِمَا مَا مالا يَحْسُنُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا فَتَكْرَارُ الْمَوْتِ فِي عَجُزِ الْبَيْتِ أَوْسَعُ مِنْ تَكْرَارِهِ فِي صَدْرِهِ لِأَنَّا إِذَا عَلَّلْنَا هَذَا إِنَّمَا نَقُولُ أَعَادَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لَمَّا أَرَادَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْتِ وَتَهْوِيلِ أَمْرِهِ فَإِذَا عَلَّلَهَا مُكَرَّرَةً فِي عَجُزِهِ عَلَّلْنَاهُ بِهَذَا وَبِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَمِثَالُهُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} وَقَوْلِهِ: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أهلها كانوا ظالمين} وَقَدْ أُشْكِلَ الْإِظْهَارُ هَاهُنَا وَالْإِضْمَارُ فِي الْمِثْلِ قوله: {إلى فرعون وملإه إنهم كانوا قوما فاسقين} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ فِي مَدَائِنِ لُوطٍ إِهْلَاكَ الْقُرَى صَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَلَاكُ كَأَنَّهَا اكْتَسَبَتِ الظُّلْمَ مَعَهُمْ وَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ مَعَهُمْ إِذْ لِلْبِقَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الطِّبَاعِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِهْلَاكُهُمْ بِصِفَاتِهِمْ حَيْثُ كَانُوا وَلَمْ يُهْلِكْ بَلَدَهُمْ أَتَى بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمَكَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى طَالَ الْكَلَامُ حَسُنَ إِيقَاعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ كَيْلَا يَبْقَى الذِّهْنُ مُتَشَاغِلًا بِسَبَبِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فَيَفُوتُهُ مَا شَرَعَ فِيهِ كَمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ آيَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أعلم أم الله ومن أظلم} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إن الله بالناس} وَقَوْلِهِ: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال للناس} وقوله: {رجال لا تلهيهم تجارة} الْقِسْمُ الْعَاشِرُ تَجِيءُ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ بِصِيَغٍ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ كَفَعَّالٍ وَفَعِيلٍ وَفَعْلَانٍ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّ أَصْلَهُ وُضِعَ لِذَلِكَ فَإِنَّ ضَرُوبًا نَابَ عَنْ قَوْلِكَ ضارب وضارب وضارب ما جاء على فعلان أَمَّا فَعْلَانُ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فَعِيلٍ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ الرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ جِهَةِ أَنْ فَعْلَانِ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ كَغَضْبَانَ لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا وَلِهَذَا لا يحوز التَّسْمِيَةُ بِهِ وَحَكَاهُ الزَّجَّاجُ فِي تَأْلِيفِهِ الْمُفْرَدِ على البسملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وأما قول الشاعر الْيَمَامَةِ: * وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا * فَهُوَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ كَذَا أَجَابَ بِهِ الزمخشري ورده بعضهم بأن النعت لَا يَدْفَعُ وُقُوعَ إِطْلَاقِهِمْ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الرَّحْمَنَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ مُضَافًا وَمُنَكَّرًا وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَأَجَابَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ " لَا زِلْتَ ذَا رَحْمَةٍ " وَلَمْ يرد بالاسم الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْرِفُ هَذَا الِاسْمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فله الأسماء الحسنى} وأما قوله: {وما الرحمن} فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا جَهِلُوا الصِّفَةَ دُونَ الْمَوْصُوفِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا "وَمَنِ الرَّحْمَنُ" وَذَكَرَ الْبُرْزَابَاذَانِيُّ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَنِ حَيْثُ جَعَلُوهُ بِمَعْنَى الْمُتَّصِفِ بِالرَّحْمَةِ قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الملك العظيم العادل لدليل: {الملك يومئذ الحق للرحمن} إِذِ الْمُلْكُ يَسْتَدْعِي الْعَظَمَةَ وَالْقُدْرَةَ وَالرَّحْمَةَ لِخَلْقِهِ لَا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} وَإِنَّمَا يَصْلُحُ السُّجُودُ لِمَنْ لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ و {إني أعوذ بالرحمن} وَلَا يُعَاذُ إِلَّا بِالْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى الْحِفْظِ والذب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} أَيْ: وَمَا يَنْبَغِي لِلْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْمُسْتَغْنِي عَنْ مُعَاوَنَةِ الْوَالِدِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا {الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} {وخشعت الأصوات للرحمن} {قل من يكلأكم بالليل والنهار من الرحمن} وَلَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى حَافِظٍ يَحْفَظُهُمْ مِنْ ذِي الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} {وربنا الرحمن المستعان} {من خشي الرحمن بالغيب} وَلَا مُنَاسَبَةَ لِمَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا "رَحِيمٌ" فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ كَقَوْلِهِمْ: "كَرِيمٌ" وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّحْمَنَ أَبْلَغُ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَحَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ عن الأكثرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهِمُ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى لَفْظِ التَّنْبِيهِ وَالتَّنْبِيهُ تَضْعِيفٌ وَكَأَنَّ الْبِنَاءَ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الصِّفَةُ وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ لِلتَّوْكِيدِ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ قَالَ وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ زعم أن رحيما أبلغ من رحمن يجيد إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُبَالَغَةِ وَلَوْ قِيلَ فَعْلَانٌ أَشَدُّ مُبَالَغَةً كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا خُصَّ بِاللَّهِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ مَمْنُوعٌ وَأَرَادَ بِهِ مَنْعَ الْخَلْقِ أَنْ يَتَّسِمُوا بِهِ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا التَّوْكِيدُ وَإِتْبَاعُ الْأَوَّلِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ وَعَنِ الْخَطَّابِيِّ اسْتِشْكَالُ هَذَا وَقَالَ لَعَلَّهُ أَرْفَقُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ" وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الزَّاهِرِ: الرَّحِيمُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ الرَّحْمَنَ جَاءَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرَّحِيمِ وَلَوْ كَانَ أَبْلَغُ لَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَيَقُولُونَ فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يَعْكِسُونَ هَذَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ الْأَبْلَغُ لَكَانَ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَهُ فَلَمْ يَكُنْ لذكره معنى وهذا قدر ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرْدَافِ وَأَنَّهُ أَرْدَفَ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مارق منها ولطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وفيه ضعف لاسيما إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّحْمَنَ عَلَمٌ لَا صِفَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّحْمَنُ كَالْعَلَمِ إِذْ لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا اللَّهُ قُدِّمَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَعْلَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِفِ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا ثُمَّ يُتْبَعَ الْأَنْكَرَ وَمَا كَانَ التَّعْرِيفِ أَنْقَصُ قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فَجَاءَ هَذَا عَلَى مِنْهَاجِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَجَابَ الْجُوَيْنِيُّ بِأَنَّ الرَّحْمَنَ لِلْخَلْقِ وَالرَّحِيمَ لهم بالرزق والخلق قبل الزرق وَمِنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي حَقِّهِ وَالنِّهَايَةُ فِي صِفَاتِهِ وَأَكْثَرُ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ جَارِيَةٌ عَلَى فَعِيلٍ كَرَحِيمٍ وَقَدِيرٍ وَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَكَرِيمٍ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى فَعْلَانٍ إِلَّا قَلِيلٌ وَلَوْ كَانَ فَعْلَانٌ أَبْلَغَ لَكَانَ صِفَاتُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهِ أَكْثَرَ قُلْتُ: وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ وُرُودَ فَعْلَانٍ بِصِيغَةِ التَّكْثِيرِ كَانَ فِي عَدَمِ تَكْرَارِ الْوَصْفِ بِهِ بِخِلَافِ فَعِيلٍ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِقَّ فِي الْكَثْرَةِ رِقَّتَهُ كَثُرَ فِي مَجِيءِ الْوَصْفِ وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي فَعْلَانٍ مِنْ جهة موافقة لفظ التَّثْنِيَةِ كَمَا زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ فَفَعِيلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ كَعَبِيدٍ وَكَلِيبٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَكْثَرُ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَهَذَا أَحْسَنُهَا قَالَ: وَقَوْلُ قُطْرُبٍ إِنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَيَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وهو ممتنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 تنبيهات الْأَوَّلُ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ الرَّشِيدِيِّ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ كَغَفَّارٍ وَرَحِيمٍ وَغَفُورٍ وَمَنَّانٍ كُلُّهَا مَجَازٌ إِذْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ هِيَ أَنْ تُثْبِتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ وَصِفَاتُ اللَّهِ مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ لَا يُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا وَالْمُبَالَغَةُ أَيْضًا تَكُونُ فِي صِفَاتٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ انْتَهَى وَذُكِرَ هَذَا لِلشَّيْخِ ابْنِ الْحَسَنِ السُّبْكِيِّ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا صِفَاتٌ فَإِنْ قُلْنَا: أَعْلَامٌ زَالَ ذَلِكَ قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ وَالثَّانِي: بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَفْعُولَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً إِذِ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جماعة متعددين وعلى هذا التقسيم يحب تَنْزِيلُ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَالرَّحْمَنِ وَالْغَفُورِ وَالتَّوَّابِ وَنَحْوِهَا وَلَا يَبْقَى إِشْكَالٌ حِينَئِذٍ لِهَذَا قَالَ بَعْضُ المفسرين في حكم مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ تَكْرَارُ حِكَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 يتوب إليه من عباده أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة أَوْ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ نَزَّلَ صَاحِبَهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ لِسِعَةِ كَرَمِهِ وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ سُؤَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَهُوَ أَنَّ قَدِيرًا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَعْنَى قَادِرٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَعْنَى قَادِرٍ مُحَالٌ إِذْ الِاتِّحَادُ مِنْ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ حملها على كُلُّ فَرْدٍ وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا وَالْمُبَالَغَةُ إِذَنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ التَّعَلُّقِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الْوَصْفِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم} يَسْتَحِيلُ عَوْدُ الْمُبَالَغَةِ إِلَى نَفْسِ الْوَصْفِ إِذِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ لَا يَصِحُّ التَّفَاوُتُ فِيهِ فَيَجِبُ صَرْفُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ إِمَّا لِعُمُومِ كُلِّ أَفْرَادِهِ وَإِمَّا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الشَّيْءَ وَلَوَاحِقَهُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ الثَّانِي سُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَلْ تَدْخُلُ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقَالُ: عَلَّامَةٌ؟ فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ الْإِنَاثَ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ جُرِّدَ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لَمْ يُصْرَفْ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي آخِرِهِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ أَوِ الصِّفَةِ وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَعْلَانٌ صِفَةً مِنَ الصَّرْفِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُؤَنَّثُهُ فَعَلَى كَغَضْبَانَ وَغَضْبَى وَمَا لَمْ يَكُنْ مُؤَنَّثُهُ فَعْلَى يَنْصَرِفُ كَنَدْمَانٍ وَنَدْمَانَةٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَنَّ رَحْمَنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُؤَنَّثٌ عَلَى فَعْلَى فَلَيْسَ لَهُ مؤنث فَعْلَانَةٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا مؤنث له من لفظه ف إذا عُدِمَ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ إِلَى الْقِيَاسِ وَكُلُّ أَلِفٍ وَنُونٍ زَائِدَتَانِ فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْبِهْ غَضْبَانَ وَلَمْ يُشْبِهْ نَدْمَانَ مِنْ جِهَةِ التَّأْنِيثِ فَلِمَاذَا تُرِكَ صَرْفُهُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الصَّرْفُ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هُوَ كَغَضْبَانَ فَلَا يَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هُوَ كَنَدْمَانَ فَلَا يَكُونُ مُنْصَرِفًا لِأَنَّ الصَّرْفَ لَيْسَ بِالشَّبَهِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَصْلِ وَعَدَمُ الصَّرْفُ بِالشَّبَهِ وَلَمْ يُوجَدْ قُلْتُ: وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَسَاكِرَ يَدْفَعُ هَذَا عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ نَعَمْ أَنْكَرَ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ تَمْثِيلَهُ بِـ "الرَّحْمَنِ" لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ وَقَالَ لَمْ يُمَثِّلْ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَنْبَغِي التَّمْثِيلُ بِهِ فَإِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ بِالْغَلَبَةِ لله مُخْتَصٌّ بِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُجَرَّدْ مِنْ " الْ " وَلَمْ يُسْمَعْ مُجَرَّدًا إِلَّا فِي النِّدَاءِ قَلِيلًا مِثْلُ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الآخرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 قال وقد أنكر على الشاطبي *تَبَارَكَ رَحْمَانًا رَحِيمًا وَمَوْئِلًا* لِأَنَّهُ أَرَادَ الِاسْمَ الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ وَلَمْ يَحْضُرِ الزَّمَخْشَرِيَّ هَذَا الْجَوَابُ فَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ كَمَا سبق ما جاء على فعيل وَأَمَّا "فَعِيلٌ" فَعِنْدَ النُّحَاةِ أَنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرَارِ كَرَحِيمٍ وَسَمِيعٍ وَقَدِيرٍ وَخَبِيرٍ وَحَفِيظٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَعَلِيمٍ فَإِنَّهُ مُحَوَّلٌ عَنْ "فَاعِلٍ" بِالنِّسْبَةِ وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِلْفَاعِلِ لَا لِلْمَفْعُولِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ وَالْقَتْلُ لَا يَتَفَاوَتُ وَقَدْ يَجِيءُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كقوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} وقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير} وقوله: {خلصوا نجيا} وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمِنَ الْمُشْكَلِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نسيا} فَإِنَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُ أَصْلِ النِّسْيَانِ وَهُوَ كَالسُّؤَالِ الْآتِي فِي {ظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَيَخْتَصُّ هَذَا بجواب آخر وهو مناسبة رؤوس الآي قبله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ما جاء على فعال وَأَمَّا "فَعَّالٌ" فَنَحْوَ غَفَّارٍ وَمَنَّانٍ وَتَوَّابٍ وَوَهَّابٍ {فعال لما يريد} {علام الغيوب} ونحو: {لكل صبار شكور} ونحو: {نزاعة للشوى} وَمِنَ الْمُشْكَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للعبيد} وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ وَالْوَاقِعُ نَفْيُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الناس شيئا} {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا: أحدهما: أَنَّ "ظَلَّامًا" وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَكِنَّهُ جَاءَ فِي مُقَابِلِهِ الْعَبِيدُ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ إِذَا قُوبِلَ بِهِمُ الظُّلْمُ كَانَ كَثِيرًا وَيُرَشِّحُ هَذَا الْجَوَابَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ في موضع آخر: {علا م الغيوب} فَقَابَلَ صِيغَةَ "فَعَّالٍ" بِالْجَمْعِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: {عالم الغيب} فَقَابَلَ صِيغَةَ "فَاعِلٍ" الدَّالَّةَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِالْوَاحِدِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله ولا الملائكة المقربون} حَيْثُ احْتَجَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ على الأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَابَلَ عِيسَى بِمُفْرَدِهِ بِمَجْمُوعِ الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي تَفْضِيلِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ فَيَنْتَفِي الْقَلِيلُ ضرورة لأن الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ فَإِذَا تَرَكَ الظُّلْمَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ ظُلْمِهِ فِي حق من يجوز عليه النفع كَانَ الظُّلْمُ الْقَلِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَكْثَرَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى النَّسَبِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَيْ: "ذَا ظُلْمٍ" كَقَوْلِهِ: "وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ" أَيْ: بِذِي نُبْلٍ أَيْ: لَا يُنْسَبُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ بَزَّازٍ وَعَطَّارٍ الرَّابِعُ: أَنَّ فَعَّالًا قَدْ جاء غير مراد به الكثرة كقوله طَرَفَةَ: وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ يَحُلُّ التِّلَاعَ قَلِيلًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: "يَسْتَرْفِدِ القوم أرفد" هذا يدل عَلَى نَفْيِ الْحَالِ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ تمام المدح لا يحصل بِإِيرَادِ الْكَثْرَةِ الْخَامِسُ: أَنَّ أَقَلَّ الْقَلِيلِ لَوْ وَرَدَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَقَدْ جَلَّ عَنْهُ لَكَانَ كَثِيرًا لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ زَلَّةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةٌ ذَكَرَهُ الْحَرِيرِيُّ فِي الدُّرَّةِ قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمَخْزُومِيُّ فِي قَوْلِهِ: كَفُوفَةِ الظُّفْرِ تَخْفَى مِنْ حَقَارَتِهَا وَمِثْلَهَا فِي سَوَادِ الْعَيْنِ مَشْهُورُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 السَّادِسُ: أَنَّ نَفْيَ الْمَجْمُوعِ يَصْدُقُ بِنَفْيِ وَاحِدٍ وَيَصْدُقُ بِنَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ وَيُعَيَّنُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ لِلدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لا يظلم مثقال ذرة} السَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَجَعَلَ فِي مُقَابِلِهِ ذَلِكَ {وَمَا ربك بظلام} الثَّامِنُ: أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ ظَلَّامٌ وَالتِّكْرَارُ إِذَا وَرَدَ جَوَابًا لِكَلَامٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ كَمَا إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ: "بِظَلَّامٍ" لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَنْ يُعَذِّبُ غَيْرَهُ عَذَابًا شَدِيدًا ظَلَّامٌ قَبْلَ الْفَحْصِ عَنْ جُرْمِ الذَّنْبِ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا وَغَيْرُ الْمُبَالَغَةِ سَوَاءً فِي الْإِثْبَاتِ جَرَى النَّفْيُ عَلَى ذَلِكَ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ ثَمَّةَ ظَلَّامًا لِلْعَبِيدِ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ وَأَمَّا "فُعَالٌ" بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوَ عُجَابٌ وَكُبَارٌ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال: {ومكروا مكرا كبارا} قَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي "اللَّامِعِ الْعَزِيزِيِّ": "فَعِيلٌ" إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ نُقِلَ بِهِ إِلَى "فُعَالٍ" وإذا أريد به الزيادة شدوا فقال "فُعَّالٌ" ذَلِكَ مِنْ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ وَعُجَّابٍ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 {إن هذا لشيء عجاب} بِالتَّشْدِيدِ وَقَالُوا طَوِيلٌ وَطُوَّالٌ وَيُقَالُ نَسَبٌ قَرِيبٌ وَقُرَابٌ وَهُوَ أَبْلَغُ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ: وَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ بَنِي لُؤَيٍّ عَرَفْتُ الْوُدَّ والنسب القرابا ما جاء على فعول وَأَمَّا "فَعُولٌ" كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَوَدُودٍ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار} وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي نُوحٍ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شكورا} وَقَدْ أَطْرَبَنِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكور} فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا قَالَ "الشَّاكِرُ" فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إما شاكرا وإما كفورا} كَيْفَ غَايَرَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ وَجَعَلَ الْمُبَالَغَةَ مِنْ جَانِبٍ الْكُفْرَانِ؟ قُلْتُ: هَذَا سَأَلَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيِّ فَأَجَابَ بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ شُكْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا قَلِيلٌ وَكُلُّ كُفْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا عَظِيمٌ فَجَاءَ شَكُورٌ بلفظ "فاعل" وجاء كفور "فَعُولٍ" عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فَتَهَلَّلَ وَجْهُ الصَّاحِبِ ما جاء على فعل وَأَمَّا "فَعِلٌ" فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 وقوله تعالى: {كذاب أشر} قرن "فعلا" بفعال ما جاء على فعل وَأَمَّا "فُعَلٌ" فَيَكُونُ صِفَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَهْلَكْتُ مالا لبدا} اللُّبَدُ الْكَثِيرُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} ويكون مصدر كَهُدَى وَتُقَى وَيَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ "أَفْعُلٍ" مِنْ كذا كقوله تعالى: {وأخر متشابهات} وقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} كما قال: {أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} ما جاء على فعلى وَأَمَّا فُعْلَى فَيَكُونُ اسْمًا كَالشُّورَى وَالرُّجْعَى قَالَ الله تعالى: {إن إلى ربك الرجعى} وقال تعالى: {وكلمة الله هي العليا} ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن والسوأى فِي تَأْنِيثِ الْأَسْوَأِ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله} قال الفارسي: يحتمل السوءى تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأْنِيثَ "الْأَسْوَأِ" وَالْمَعْنَى كان عاقبتهم لخلة السوءى فتكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 السوءى عَلَى هَذَا خَارِجَةً مِنَ الصِّلَةِ فَتُنْصَبُ عَلَى الْمَوْضِعِ وَمَوْضِعُ "أَنْ" نَصْبٌ فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أي كان عاقبتهم الخصلة السوءى لِتَكْذِيبِهِمْ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السُّوأَى مَصْدَرًا مِثْلَ الرُّجْعَى وَعَلَى هَذَا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ وَمُنْتَصِبَةٌ بِأَسَاءُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} وَيَكُونُ {أَنْ كَذَّبُوا} نَصْبًا لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَيَجُوزُ فِي إِعْرَابِ {السُّوأَى} وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةَ "الْعَاقِبَةِ" وَتَقْدِيرُهَا: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الْمَذْمُومَةُ التَّكْذِيبَ وَ"الْفُعْلَى" فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صِفَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ القصوى} وقوله تعالى: {فأراه الآية الكبرى} فَجَرَتْ صِفَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا فَإِنَّهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ تُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ كَالْأَبْطَحِ وَالْأَجْرَعِ والأدهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 المجلد الثالث تابع النوع السادس والأربعون ... القسم الحادي عشر: الْمُثَنَّى وَإِرَادَةُ الْوَاحِدِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللؤلؤ والمرجان} وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وَإِنَّمَا تُخْرَجُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمِلْحِ وَقَدْ غَلَطَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ حَيْثُ قَالَ يَذْكُرُ الدُّرَّةَ: فَجَاءَ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ ... يَدُومُ الْفُرَاتُ فَوْقَهَا وَيَمُوجُ وَالْفُرَاتُ لَا يَدُومُ فَوْقَهَا وَإِنَّمَا يَدُومُ الْأُجَاجُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} إِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ جَمِيعًا وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ"رَجُلٍ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ". وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فيهن نورا} أَيْ فِي إِحْدَاهُنَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وقوله تعالى: {نسيا حوتهما} وَالنَّاسِي كَانَ يُوشَعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِمُوسَى: {فَإِنِّي نسيت الحوت} وَلَكِنْ أُضِيفَ النِّسْيَانُ لَهُمَا جَمِيعًا لِسُكُوتِ مُوسَى عَنْهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عليه} وَالتَّعْجِيلُ يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ تأخر فلا إثم عليه} قِيلَ إِنَّهُ مِنْ هَذَا أَيْضًا وَإِنَّ مَوْضِعَ الْإِثْمِ وَالتَّعْجِيلِ يَجْعَلُ الْمُتَأَخِّرَ الَّذِي لَمْ يُقَصِّرْ مِثْلَ مَا جَعَلَ لِلْمُقَصِّرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْتَ مُقَصِّرٌ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُؤَثِّمُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} وقوله تعالى: {جعلا له شركاء} أي أحدهما على أحد القولين. وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فَالْجُنَاحُ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا أَعْطَى قَالَ أَبُو بكر الصيرفي: المعنى: فإن خيف من ذَلِكَ جَازَتِ الْفِدْيَةُ وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى عَدَمِ الْإِقَامَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقِيَا فِي جهنم} قِيلَ هُوَ خِطَابٌ لِلْمَلِكِ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ثَنَاهُ عَلَى"أَلْقِ"وَالْمَعْنَى: أَلْقِ أَلْقِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي"قِفَا"وَخَالَفَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَقَالَ بَلْ هُوَ مُخَاطَبَةٌ لِلْمَلَكَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ ربكما تكذبان} قَالَ: يُخَاطِبُ الْإِنْسَانَ مُخَاطَبَةً بِالتَّثْنِيَةِ. وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {جَنَّتَيْنِ} فَقِيلَ: جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ بِدَلِيلِ قوله تعالى آخر الآية: {ودخل جنته} فَأَفْرَدَ بَعْدَ مَا ثَنَى. وَقَوْلِهِ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتت أكلها} فإنه ما ثنى هنا إِلَّا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ لَهَا وَجْهَيْنِ وَأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ رَأَيْتَ فِي كِلْتَا النَّاحِيَتَيْنِ مَا يَمْلَأُ عَيْنَيْكَ قُرَّةً وَصَدْرَكَ مَسَرَّةً. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ من دون الله} وَإِنَّمَا الْمُتَّخَذُ إِلَهًا عِيسَى دُونَ مَرْيَمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ"وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ" قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ "الْقَدِّ" وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ جِنِّي وَغَيْرُهُ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: *قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ* . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: عَشِيَّةَ سَالَ الْمِرْبَدَانِ كِلَاهُمَا ... سَحَابَةَ مَوْتٍ بِالسُّيُوفِ الصَّوَارِمِ وَإِنَّمَا هُوَ مِرْبَدُ الْبَصْرَةِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: "وَدَارٍ لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ". وَقَوْلُهُ: "بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ". وَقَوْلُ جَرِيرٍ: لَمَّا مَرَرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَنِي ... صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّوَاقِيسِ قَالُوا: أَرَادَ "دَيْرَ الْوَلِيدِ" فَثَنَّاهُ بِاعْتِبَارِ مَا حَوْلَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي عَشَرَ. إِطْلَاقُ الْجَمْعِ وَإِرَادَةُ الْوَاحِدِ. كَقَوْلِهِ: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} إِلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 في غمرتهم حتى حين} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: فَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَمِثْلُهُ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ وَهَذَا مِمَّا لَا شَرِيكَ فِيهِ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجْرِي عَلَى أَيْدِي خَلْقِهِ نُزِّلَتْ أَفْعَالُهُمْ مَنْزِلَةَ قَبُولِ الْقَوْلِ بِمَوْرِدِ الْجَمْعِ. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} والرسول كان واحدا بدليل قوله تعالى: {ارجع إليهم} . وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مُخَاطَبَةَ رئيسهم فإن العادة جارية لاسيما مِنَ الْمُلُوكِ أَلَّا يُرْسِلُوا وَاحِدًا. وَمِنْهُ: {فَفَرَرْتُ منكم لما خفتكم} وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي وُجُوهِ الْمُخَاطَبَاتِ. ومنه: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} وَالْمُرَادُ جِبْرِيلُ. وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى ما آتاهم الله من فضله} وَالْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {الذين قال لهم الناس} وَالْمُرَادُ بِهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِنَّمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ "النَّاسِ" عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ قَوْلًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ حَسُنَ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الكل قال الله تعالى: {إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} {وإذ قلتم يا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وَالْقَائِلُ ذَلِكَ رُءُوسُهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ دَسَّهُمْ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جُعْلًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا. الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثم ارجع البصر كرتين} فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ فَهُوَ جَمْعٌ وَالْمَعْنَى "كَرَّاتٌ" لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحْسَرُ إِلَّا بِالْجَمْعِ. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الطلاق مرتان} . الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّكْرَارُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ. وَهُوَ مَصْدَرُ كَرَّرَ إِذَا رَدَّدَ وَأَعَادَ هُوَ "تَفْعَالٌ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ بِخِلَافِ التَّفْعِيلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مَصْدَرُ "فَعَّلَ" وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ فِي التَّفْعِيلِ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ غَلِطَ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ ظَنًّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَلَيْسَ كذلك بل هو من محاسنها لاسيما إِذَا تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ فِي خِطَابَاتِهَا إِذْ أَبْهَمَتْ بِشَيْءٍ إِرَادَةً لِتَحْقِيقِهِ وَقُرْبَ وُقُوعِهِ أَوْ قَصَدَتِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَرَّرَتْهُ تَوْكِيدًا وَكَأَنَّهَا تُقِيمُ تَكْرَارَهُ مَقَامَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَوْ الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ حَيْثُ تَقْصِدُ الدُّعَاءَ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ وَكَانَتْ مُخَاطَبَاتُهُ جَارِيَةً فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ تَسْتَحْكِمُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ وَعَلَى ذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا وَرَدَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَوَاعِظِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَلَا يَقْمَعُ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرَارُ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} قَالَ فِي "الْكَشَّافِ" أَيْ سَهَّلْنَاهُ لِلِادِّكَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِأَنْ نَسَجْنَاهُ بِالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ التَّكْرَارُ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قدر} . وَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} . وَقَوْلِهِ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} . وقوله: {كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هو من عند الله} . وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الذين من قبلكم بخلاقهم} . وَفَائِدَتُهُ الْعُظْمَى التَّقْرِيرُ وَقَدْ قِيلَ الْكَلَامُ إِذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرَّرَ الْأَقَاصِيصَ وَالْأَخْبَارَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . وَقَالَ: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أو يحدث لهم ذكرا} . وَحَقِيقَتُهُ إِعَادَةُ اللَّفْظِ أَوْ مُرَادِفِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنًى خَشْيَةَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ لِطُولِ الْعَهْدِ بِهِ. فَإِنْ أُعِيدَ لَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْنَى السَّابِقِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ من دونه} . فَأَعَادَ قَوْلَهُ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ ديني} قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} لَا لِتَقْرِيرٍ الْأَوَّلِ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهَا وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ يَخُصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي الثَّانِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وَأَخَّرَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ وَثَانِيًا فِيمَنْ فُعِلَ لِأَجْلِهِ الْفِعْلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ سُؤَالُ الْحِكْمَةِ عَنِ التَّكْرَارِ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ أَمَّا إِذَا وَافَقَ الْأَصْلَ فَلَا وَلِهَذَا لَا يَتَّجِهُ سُؤَالُهُمْ لِمَ كَرَّرَ "إِيَّاكَ" فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَقِيلَ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا تَقُولُ "بين زبد وَبَيْنَ عَمْرٍو مَالٌ". وَقِيلَ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِارْتِفَاعِ أَنْ يُتَوَهَّمَ إِذَا حُذِفَتْ أَنَّ مَفْعُولَ "نَسْتَعِينُ" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفِعْلِ فَتَفُوتُ إِذْ ذَاكَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ لِأَنَّ هُنَا عَامِلَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مَعْمُولًا فَإِذَا ذُكِرَ مَعْمُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَقَدْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَنْ سَبَبِ ذِكْرِ مَا الْأَصْلُ ذِكْرُهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تكلف الجواب عنه وقس بذلك نظائره. فوائد التكرير. وَلَهُ فَوَائِدُ:. أَحَدُهَا: التَّأْكِيدُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْرِيرَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي تَكْرَارِ التَّأْسِيسِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يُقَرِّرُ إِرَادَةَ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَعَدَمَ التَّجَوُّزِ فَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إِنَّ الثَّانِيَةَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَةَ أَبْلَغَ فِي الْإِنْشَاءِ فَقَالَ: وَفِي {ثُمَّ} تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وكذا قوله: {ما أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ ما يوم الدين} وَقَوْلُهُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قدر} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ: هَلْ هُوَ إِنْذَارُ تَأْكِيدٍ أو إنذاران؟ إن قُلْتَ":سَوْفَ تَعْلَمُ ثُمَّ سَوْفَ تَعْلَمُ "كَانَ أَجْوَدُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَطْفٍ لِتُجْرِيَهُ عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ التَّأْكِيدِ وَلِعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِتَعَدُّدِ الْمُخْبَرِ بِهِ. وَأَطْلَقَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ" الْخُلَاصَةِ "أَنَّ الْجُمْلَةَ التَّأْكِيدِيَّةَ قَدْ تُوصَلُ بِعَاطِفٍ وَلَمْ تَخْتَصَّ بِثُمَّ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ وَالِدِهِ التَّخْصِيصَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتقوا الله} فَإِنَّ الْمَأْمُورَ فِيهِمَا وَاحِدٌ كَمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَرَجَّحُوا ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ" التَّقْوَى "الْأُولَى مَصْرُوفَةً لِشَيْءٍ غَيْرِ" التَّقْوَى "الثَّانِيَةِ مَعَ شَأْنِ إِرَادَتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ فَمُرَادُهُمْ تَأْكِيدُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرِيرِ الْإِنْشَاءِ لَا أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ وَلَوْ كَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لَمَا فُصِلَ بِالْعَطْفِ وَلَمَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: {وَلْتَنْظُرْ نفس} . فَإِنْ قُلْتَ:"اتَّقُوا" الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى "وَلْتَنْظُرْ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ: {وَقُولُوا للناس حسنا} قولوا للناس حسنا معطوف على: {لا تعبدون إلا الله} لا على قوله: {وبالوالدين إحسانا} وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يا مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العالمين} وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هداكم} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ "اصْطِفَاءَيْنِ" وَ"ذِكْرَيْنِ" وَهُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ طُلِبَ فِيهِ تَكْرَارُ الذِّكْرِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {كي نسبحك كثيرا وَنَذْكُرُكَ كَثِيرًا} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} كَرَّرَ "أُولَئِكَ". وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} . وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بالذي} إلى قوله: {من المصلحين} كررت "أن" في أربع مواضيع تَأْكِيدًا. وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أول المسلمين} . الثَّانِي: زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 تعالى: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} فَإِنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ النِّدَاءَ لِذَلِكَ. الثَّالِثُ: إِذَا طَالَ الْكَلَامُ وَخُشِيَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ أُعِيدَ ثَانِيًا تَطْرِيَةً لَهُ وَتَجْدِيدًا لِعَهْدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ من بعدها لغفور رحيم} . وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بعد ما فتنوا} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله} ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} فَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَمَّا لَا تَجِيءُ بِالْفَاءِ!. وَمِثْلُهُ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ثم قال: {فلا تحسبنهم} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ من بعدهم} ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} . ومنه قوله: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهم لي ساجدين} . وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وعظاما أنكم مخرجون} فقوله: {أنكم} الثاني بناء على الأول إذ كارا بِهِ خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هم غافلون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {كذلك نجزي المحسنين} . بِغَيْرِ {إِنَّا} وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ ذِكْرَ {إِنَّا كَذَلِكَ} لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَهُ في هذه القصة من قوله {إنا كذلك} فكأنه طرح فِيمَا اكْتَفَى بِذِكْرِهِ أَوَّلًا عَنْ ذِكْرِهِ ثَانِيًا وَلِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالنِّسْبَةِ فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُونَ تَوْكِيدِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَهَذَا أُسْلُوبٌ غَرِيبٌ وَقَلَّ فِي الْقُرْآنِ وَجُودُهُ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ تَقَدُّمِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ كَالْمُبْتَدَأِ وَحُرُوفِ الشَّرْطَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَيُسْتَغْنَى عَنْهُ عِنْدَ أَمْرٍ مَحْذُورِ التَّنَاسِي. وَقَدْ يَرِدُ مِنْهُ شَيْءٌ يَكُونُ بِنَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ بِأَنْ تَتَقَدَّمَ التَّفَاصِيلُ وَالْجُزْئِيَّاتُ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا التَّنَاسِي لِطُولِ الْعَهْدِ بِهَا بَنَى عَلَى مَا سَبَقَ بِهَا بِالذِّكْرِ الْجُمْلِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وكفرهم بآيات الله وقتلهم} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فَقَوْلُهُ "فَبِظُلْمٍ" بَيَانٌ لِذِكْرِ الْجُمْلِيِّ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْقَوْلِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ جُمْلِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّفَاصِيلِ مِنَ النَّقْضِ وَالْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غلف} وَالْقَوْلُ عَلَى مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ وَدَعْوَى قَتْلِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الِاعْتِرَاضِ بِهَا مَوْضِعَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قليلا} وقوله: {وما قتلوه وما صلبوه} إلى قوله: {شهيدا} وأنه لَمَّا ذَكَرَ بِالْبِنَاءِ جُمْلِيَّ الظُّلْمِ مِنْ قَوْلِهِ "فَبِظُلْمٍ" لِأَنَّهُ يَعُمُّ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ وينطوي عليه ذكر حينئد مُتَعَلِّقُ الْجُمْلِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} عَقِبَ الْبَاءِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْأَصْلِ حَقُّهُ أن بلى مَعْمُولَهُ فَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 الذين هادوا حرمنا} هو متعلق بقوله: {فبظلم} وَقَدِ اشْتَمَلَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ مَا تَأَخَّرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي عُدِّدَتْ بَعْدَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ الشَّيْءِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَذُكِرَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْأَوْلَى بِخُصُوصِ كُلٍّ وَاحِدٍ ثُمَّ ذُكِرَ الْعَامُّ الْمُنْطَوِي عَلَيْهَا فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ثُمَّ ذُكِرَتْ جُزْئِيَّاتٌ أُخَرَ بِخُصُوصِهَا فَتَرْكِيبُ الْأَسَالِيبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآيَةِ وَهُوَ التَّعْمِيمُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ ثُمَّ التَّخْصِيصُ بَعْدَ التَّعْمِيمِ ثُمَّ الْبِنَاءُ بَعْدَ الِاعْتِرَاضِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {عذابا أليما} فقوله: {ولولا رجال مؤمنون} إلى قوله: {بغير علم} هُوَ الْمُقْتَضَى الْأَوَّلُ الْمُتَقَدِّمِ وَقَوْلُهُ: {لَوْ تَزَيَّلُوا} هُوَ الْمُقْتَضَى الثَّانِي وَهُوَ الْبِنَاءُ لِأَنَّهُ الْمُذَكِّرُ بِالْمُقْتَضَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ "لَوْلَا" خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ أَوْرَدَ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} وُرُودًا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ أُخِذَا مَعًا كَأَنَّهُمَا مُقْتَضًى مُنْفَرِدٌ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ وهو الشرط الماضي فقوله: {لو تزيلوا} بناء على قوله: {ولولا رجال} نَظَرَ فِي الْمُضَارَعَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بعدها لغفور رحيم} فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَأَصْلَحُوا} وَيَكُونُ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ لَا تَكْرِيرًا. وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بالله من بعد إيمانه} ثم قال: {من شرح بالكفر صدرا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وقوله: {ولولا رجال مؤمنون} ثم قال: {لو تزيلوا} ونازعه العراق لِأَنَّ الْمُعَادَ فِيهِمَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهَذَا يَجِيءُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ التَّكْرِيرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا. الرَّابِعُ: فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} {القارعة ما الْقَارِعَةِ} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أدراك ما ليلة الْقَدْرِ} . وَقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} . وَقَوْلِهِ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ المشأمة ما أصحاب المشأمة} . وقوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} . الْخَامِسُ: فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَذِكْرُ "ثُمَّ" فِي الْمُكَرَّرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَإِنْ تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَغْيِيرٌ بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ دَائِمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 السَّادِسُ: التَّعَجُّبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثم قتل كيف قدر} فَأُعِيدَ تَعَجُّبًا مِنْ تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَتِهِ الْغَرَضَ عَلَى حَدِّ قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ!. السَّابِعُ: لِتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ ربكما تكذبان} فَإِنَّهَا وَإِنْ تَعَدَّدَتْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ بِهَا الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ فَكُلَّمَا ذَكَرَ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ النِّعَمِ طَلَبَ إِقْرَارَهُمْ وَاقْتَضَاهُمُ الشُّكْرَ عَلَيْهِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَصُوَرٌ شَتَّى. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَكْرِيرِهَا عَدُّ النِّعَمِ وَاقْتِضَاءُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} وَأَيُّ نِعْمَةٍ هُنَا! وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ. قِيلَ: إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ فِيمَا أَنْذَرَ بِهِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوبَاتِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ لِيَحْذَرُوهَا فَيَرْتَدِعُوا عَنْهَا نَظِيرُ أَنْعُمِهِ عَلَى مَا وَعَدَهُ وَبَشَّرَ مِنْ ثَوَابِهِ عَلَى طَاعَتِهِ لِيَرْغَبُوا فِيهَا وَيَحْرِصُوا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِأَنْ تَعْتَبِرَهُ بِضِدِّهِ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِنْ تَقَابَلَا فِي ذَوَاتِهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي مَوْضِعِ النِّعَمِ بِالتَّوْقِيتِ عَلَى مِلَاكِ الْأَمْرِ مِنْهَا وَعَلَيْهِ قَوْلُ بَعْضِ حُكَمَاءِ الشُّعَرَاءِ: وَالْحَادِثَاتُ وَإِنْ أَصَابَكَ بُؤْسُهَا فَهُوَ الَّذِي أَنْبَاكَ كَيْفَ نَعِيمُهَا وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِتَعْلَمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَلَوْ كَانَ عَائِدًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَقَعُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِكُلِّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِطْنَابٍ بَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ أُرِيدَ بِهَا غَيْرَ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 قُلْتُ: إِنْ قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَكُلُّ وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ لِتَوْجِيهِ الْعِدَّةِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ مُكَرَّرَةً قَالَ الْكِرْمَانِيُّ جَاءَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كُرِّرَتْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لِأَنَّ سِتَّ عَشْرَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِنَانِ لِأَنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا رَاجِعَةٌ إِلَى النِّعَمِ وَالنِّقَمِ فَأَعْظَمُ النِّقَمِ جَهَنَّمُ وَلَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَجَاءَتْ سَبْعَةٌ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَبْوَابِ وَسَبْعَةٌ عَقِبَ كُلِّ نِعْمَةٍ ذَكَرَهَا لِلثَّقَلَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نَبَّهَ فِي سَبْعٍ مِنْهَا عَلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْعِبَادِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى عِدَّةِ أُمَّهَاتِ النِّعَمِ وَأَفْرَدَ سَبْعًا مِنْهَا لِلتَّخْوِيفِ وَإِنْذَارًا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ وَفَصَلَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالسَّبْعِ الثَّوَانِي بِوَاحِدَةٍ سَوَّى فِيهَا بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَنَاءِ حَيْثُ اتَّصَلَتْ بِقَوْلِهِ: {كل من عليها فان} فَكَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ أُتْبِعَتْ بِثَمَانِيَةٍ فِي وَصْفِ الْجِنَانِ وَأَهْلِهَا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِهَا ثُمَّ بِثَمَانِيَةٍ أُخَرَ فِي وَصْفِ الْجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ دُونِ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِذَلِكَ أَيْضًا فَاسْتُكْمِلَتْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المراسلات عَشْرُ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً وَأَتْبَعَ كُلَّ قِصَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ وَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ القصة وكل قصة مخالفة لصحابتها فَأَثْبَتَ الْوَيْلَ لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَزَاءُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَجَعَلَ لِلْكُفَّارِ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الثَّوَابِ وَيْلٌ وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وإن ربك لهو العزيز الرحيم} فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ لِأَجْلِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ قَدْ يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحد. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} فَذَلِكَ لِظُهُورِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْعَجَبُ مِنْ تَخَلُّفِ مَنْ لَا يَتَأَمَّلُهَا مَعَ ظُهُورِهَا. وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فَإِنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْأَكْثَرِ، فَدَلَّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى إِيمَانِ الْأَقَلِّ فَكَانَتِ الْعِزَّةُ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ وَهُمَا مُرَتَّبَتَانِ كَتَرْتِيبِ الْفَرِيقَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} الْآيَةَ، لِأَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ أَوَّلًا وَثَانِيًا عَلَى نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَهَذَا أَقْرَبُ لِلْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَحَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فَإِنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْإِلَهِيَّةِ للطائع والعاصي متغيرة الأنواع الدنيوية الْبَرْزَخِيَّةُ ثُمَّ الْحَشْرِيَّةُ كَمَا أَنَّ أَحْوَالَ الِاسْتِقْرَارِ بعد الجميع في الغايقة بَلْ كُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَفِي [ثُمَّ] دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَقِّي إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الزَّمَانُ مُرَتَّبًا فِي الْإِنْذَارِ عَلَى التَّكْرَارِ وَفِي الْمُنْذِرِ بِهِ عَلَى التَّنْوِيعِ. وَمِنْهُ تَكْرَارُ: {فذوقوا عذابي ونذر} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَّرَ لِيَجِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْهَا اتِّعَاظًا وَتَنْبِيهًا وَأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَأَنْ يَتَنَبَّهُوا كَيْلَا يَغْلِبَهُمُ السُّرُورُ وَالْغَفْلَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ تِكْرَارًا وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ الْحَسَنُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الكفار قالوا: نعبد إلهك شهرا ونعبك آلِهَتَنَا شَهْرًا فَجَاءَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنَ التَّكْرَارِ فِي شَيْءٍ بَلْ هِيَ بِالْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ أَلْيَقُ وَذَلِكَ لأن قوله: {لا أعبد ما تعبدون} ، أَيْ لَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَوْلَهُ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عبدتم} ،أَيْ وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْحَالِ مَا عبدتم في المستقبل {ولا أنتم عابدون} فِي الْحَالِ مَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِبَادَتِهِ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ الْحَالُ وَالْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالُ وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ النَّفْيُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَحَذْفُ الْمَاضِي مِنْ جِهَتِهِ وَمِنْ جِهَتِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَيْهِ. وَفِيهِ تَقْدِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ وَالثَّانِيَةَ اسْمِيَّةٌ وَقَوْلُكَ: لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَنَا فَاعِلُهُ، أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَفْعَلُهُ. فالجملة الفعلية نفي لإمكانه والاسمية لانصافه كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} . {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ في القبور} . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِ وَمِنَ الِاتِّصَافِ بِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمْ إِلَّا بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَفَرَّقَ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْيِهِ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ ما عبدتم} وَقَالَ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ما أعبد} عَائِدٌ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَالَ لَا أعبد ما تعبدون بِالْمُضَارِعِ وَفِي الثَّانِي: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عبدتم} بِالْمَاضِي فَإِنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِخِلَافِ الْمَاضِي فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ مَرَّةً مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ فَفِيهِ كمال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 بَرَاءَتِهِ وَدَوَامُهَا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ مَرَّةً بِخِلَافِ قوله: {لا أعبد ما تعبدون} فَإِنَّ النَّفْيَ مِنْ جِنْسِ الْإِثْبَاتِ وَكِلَاهُمَا مُضَارِعٌ يَظْهَرَانِ جُمْلَةً وَمُنْفَرِدًا. وَمِنْهُ تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سورة البقرة1 لن الْمُنْكِرِينَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالنَّسْخِ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ وَأَهْلُ النِّفَاقِ أَشَدُّ إِنْكَارًا لَهُ لأنه كان أول نسخ نزل وكفارة قُرَيْشٍ قَالُوا نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى فِرَاقِ دِينِنَا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتناوكانوا قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقَدْ فَارَقَ قِبْلَتَهُمَا وَآثَرَ عَلَيْهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ أَمْرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظلموا منهم} وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أَيْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فَلَا تَمْتَرِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يعلمون} ، أَيْ يَكْتُمُونَ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حين. وأبصرهم فسوف يبصرون} . وَقَالَ صَاحِبُ [الْيَنْبُوعِ] :لَمْ يَبْلُغْنِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فيه شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ: هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ فَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَشْدِيدِ الْوَعِيدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ [الْحِينُ] فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَ [الْحِينُ] فِي هَاتَيْنِ يَوْمَ فَتْحِ مكة. ومن فوائد قوله تعال في الأوليين: {وأبصرهم} وفي هاتين {وأبصر} أَنَّ الْأُولَى بِنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ قَتْلًا وَأَسْرًا وَهَزِيمَةً وَرُعْبًا فَمَا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ بهم قيل له: {وأبصرهم} ،وَأَمَّا يَوْمُ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ اقْتَرَنَ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمُ الْإِنْعَامُ بِتَأْمِينِهِمْ وَالْهِدَايَةُ إِلَى إِيمَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ وَفْقًا لِلتَّشَفِّي بِهِمْ بَلْ كَانَ فِي اسْتِسْلَامِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ لِعَيْنِهِ قُرَّةً وَلِقَلْبِهِ مَسَرَّةً فَقِيلَ لَهُ: {أَبْصِرْ} . وَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أَيْ يُبْصِرُونَ مَنَّكَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ وَمَنَّنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لهن} . وللتكرار [هنا] فَائِدَتَانِ:. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ إِحْدَاهُمَا كَمَا لو ارتدت الزوجية قَبْلَ الدُّخُولِ يَحْرُمُ النِّكَاحُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِمَا فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّانِيَةَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفَيْنِ كَذَلِكَ الْمَانِعُ مِنْهُمَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْإِضْرَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَلْ إِذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ الْخَلْقِ وَمَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا سَبَقَ عَلَى طَرِيقِ الْغَلَطِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى. وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الرَّدِّ رَاجِعًا إِلَى الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أحلام بل افتراه بل هو شاعر} . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا وَلَكِنَّهُ عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْقَضَى وَقْتُهُ وَأَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} . {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لما يذوقوا عذاب} . وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ [الْكَافِيَةِ] أَنَّ [بَلْ] حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لغرض آخر لإبطال وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ وَبِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} ،فَأَضْرَبَ بِهَا عَنْ قَوْلِهِمْ، وَأَبْطَلَ كَذِبَهُمْ. وَقَوْلِهِ: {بل أنتم قوم عادون} أَضْرَبَ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ إِتْيَانِهِمُ الذُّكُورَ وَتَرْكِ الْأَزْوَاجِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم وأقيموا الشهادة لله} ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 فَالْأَوَّلُ لِلْمُطَلِّقِينَ وَالثَّانِي لِلشُّهُودِ، نَحْوَ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} ،أَوَّلُهَا لِلْأَزْوَاجِ وَآخِرُهَا لِلْأَوْلِيَاءِ. وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْأَمْثَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وما يستوي الأحياء ولا الأموات} . وَكَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ ثَنَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:" وَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ"، قَالَ:" وَلِذَلِكَ أَخَّرَ وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ". وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ وَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوَاصِمِ:" ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ نُوحٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةٍ، وَقِصَّةَ مُوسَى فِي سَبْعِينَ آيَةٍ". انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا لِفَائِدَةٍ خَلَتْ عنه في الموضع الآخر وهي أمور: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 أحدها: أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ الْقِصَّةَ زَادَ فِيهَا شَيْئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّةَ1 فِي عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانًا فَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَيْسَ كُلَّ حَيَّةٍ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ أَنْ يُكَرِّرَ أَحَدُهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ أَوْ قَصِيدَتِهِ كَلِمَةً لِصِفَةٍ زَائِدَةٍ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يُهَاجِرُ بعده آخرون يحكمون عَنْهُ مَا نَزَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْأَوَّلِينَ وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِهِ مُهَاجِرِيًّا فَلَوْلَا تَكَرُّرُ الْقِصَّةِ لَوَقَعَتْ قِصَّةُ مُوسَى إِلَى قَوْمٍ وَقِصَّةُ عِيسَى إِلَى آخَرِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقِصَصِ فَأَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ فِيهَا فَيَكُونُ فِيهِ إِفَادَةُ الْقَوْمِ وَزِيَادَةُ [تَأْكِيدٍ وَتَبْصِرَةٍ] ، لِآخَرِينَ وَهُمُ الْحَاضِرُونَ وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ وغيره. الثَّالِثَةُ: تَسْلِيَتُهُ لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا اتَّفَقَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهُ مَعَ أُمَمِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل ما نثبت به فؤادك} . الرَّابِعَةُ: أَنَّ إِبْرَازَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا كَتَوَفُّرِهَا عَلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ فَلِهَذَا كُرِّرَتِ الْقِصَصُ دُونَ الْأَحْكَامِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ آيَةٍ لِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ:" وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ". السَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمَّا سَخِرَ الْعَرَبُ بِالْقُرْآنِ قال: {فأتوا بسورة من مثله} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} ،فَلَوْ ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ مَثَلًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَاكْتَفَى بِهَا لَقَالَ الْعَرَبِيُّ بِمَا قَالَ الله تعالى: فأتوا بسورة من مثله} إِيتُونَا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَأَنْزَلَهَا سُبْحَانَهُ فِي تَعْدَادِ السُّوَرِ دَفْعًا لِحُجَّتِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ كَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَإِنْ ظُنَّ أَنَّهَا لَا تُغَايِرُ الْأُخْرَى فَقَدْ يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِهَا زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتِلْكَ حَالُ الْمَعَانِي الْوَاقِعَةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تُخَالِفَ نَظِيرَتَهَا مِنْ نَوْعِ مَعْنًى زَائِدٍ فِيهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ ذِكْرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُ أَجْزَاءً ثُمَّ قَسَّمَ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ عَلَى تَارَاتِ التَّكْرَارِ لِتُوجَدَ مُتَفَرِّقَةً فِيهَا وَلَوْ جُمِعَتْ تِلْكَ الْقِصَصُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَأَشْبَهَتْ مَا وُجِدَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ انْفِرَادِ كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا بِمَوْضِعٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً فَاجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَعَانٍ عَجِيبَةٍ:. مِنْهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهَا مَعَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لَمْ يُوقِعْ فِي اللَّفْظِ هُجْنَةً وَلَا أَحْدَثَ مَلَلًا فَبَايَنَ بِذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَلْبَسَهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ أَنْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَاحِدَةً بِأَعْيَانِهَا فَيَكُونُ شَيْئًا مُعَادًا فَنَزَّهَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْقِصَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ صَارَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي تَارَاتِ التَّكْرِيرِ فَيَجِدُ الْبَلِيغُ - لِمَا فِيهَا مِنَ التَّغْيِيرِ- مَيْلًا إِلَى سَمَاعِهَا لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ الَّتِي لِكُلٍّ مِنْهَا حِصَّةٌ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَمِنْهَا: ظُهُورُ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي إِخْرَاجِ صُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي النَّظْمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُونَ مِنَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْقِصَصِ وَالْأَنْبَاءِ مَعَ تَغَايُرِ أَنْوَاعِ النَّظْمِ وَبَيَانِ وُجُوهِ التَّأْلِيفِ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ مَرْدُودٌ إِلَى قُدْرَةِ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ نِهَايَةٌ وَلَا يَقَعُ عَلَى كَلَامِهِ عَدَدٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلام والبحر يمده} الْآيَةَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَقَاصِيصَ بَنِي إِسْرَئِيلَ وُجُوهًا مِنَ الْمَقَاصِدِ:. أَحَدُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْوَحْيِ. الثَّانِي: تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضْلِ كَالنَّجَاةِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَفَرْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَتَفَجُّرِ الْحَجَرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 الثَّالِثُ إِخْبَارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِتَقْدِيمِ كُفْرِهِمْ وَخِلَافِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِ فغير بدع ما يعامله أخلافهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّابِعُ تَحْذِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ وَهُنَا سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا مَا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَكَرُّرِ قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَوْقُهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ فِيهَا مِنْ تَشْبِيبِ النِّسْوَةِ بِهِ وَتَضَمُّنِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ امْرَأَةٍ وَنِسْوَةٍ افْتُتِنَّ بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا وَأَرْفَعِهِمْ مِثَالًا فَنَاسَبَ عَدَمُ تَكْرَارِهَا لِمَا فيها من الإعضاء وَالسَّتْرِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا النَّهْيَ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ الثَّانِي أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِحُصُولِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ فَإِنَّ مَآلَهَا إِلَى الْوَبَالِ كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سَائِرِ الْقِصَصِ بِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْقَصَصِ الثَّالِثُ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ إِنَّمَا كَرَّرَ اللَّهُ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَاقَ قِصَّةَ يُوسُفَ مَسَاقًا وَاحِدًا إِشَارَةً إِلَى عَجْزِ الْعَرَبِ كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 إِنْ كَانَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي تَصْدِيرُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ فَافْعَلُوا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَا فَعَلْتُ في قصص سائر الأنبيا. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُمْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَرْيَمَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ. وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ السُّوَرَ الْأُوَلَ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا نَصْرَ رُسُلِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ وَنِجَاءِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهَذِهِ السُّوَرُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ بَلْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْمُهُمْ وَلِهَذَا سُمِّيتْ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرَ فِيهَا إِكْرَامَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ وبدأ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ كَرَامَتِهِ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمُ أَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَهُوَ أَبُ أَكْثَرِهِمْ وَلَيْسَ هُوَ أَبُ نُوحٍ وَلُوطٍ لَكِنْ لُوطٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَيُّوبُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى في سورةالأنعام: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب} . وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فيها امتحانه للمؤمنين نصره لَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ إِلَى الْجِهَادِ وَذَكَرَ فِيهَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ لِمَنْ صَبَرَ وَعَاقِبَةَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَالَ فِيهَا: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} ،وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ، إِمَّا بِكَوْنِهِمْ غُلِبُوا وَذُلُّوا وَإِمَّا بِكَوْنِهِمْ أُهْلِكُوا وَلِهَذَا ذَكَرَ قِصَّةَ إِلْيَاسَ دُونَ غَيْرِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ إِهْلَاكَ قومه بل قال: {فكذبوه فإنهم لمحضرون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ إِلْيَاسَ وَهَذَا يَقْتَضِي عَذَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ وَإِلْيَاسُ الْمَعْرُوفُ بَعْدَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعْدَ مُوسَى لَمْ يُهْلِكِ الْمُكَذِّبِينَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَبَعْدَ نُوحٍ لَمْ يُهْلِكْ جَمِيعَ النَّوْعِ وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ نَذِيرًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا وَفِي هَذَا ظُهُورُ بُرْهَانِهِ وَآيَاتِهِ حَيْثُ أَذَلَّهُمْ وَنَصَرَهُ {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فجعلناهم الأسفلين} وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ [الَّذِي يُعَرِّضُ عَدُوَّهُ وَالْقَصَصُ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي] قَتَلَ عَدُوَّهُ، وَإِبْرَاهِيمُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ بَلْ هَاجَرَ وَتَرَكَهُمْ وَأُولَئِكَ الرُّسُلُ لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى هَلَكُوا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ سَبَبُ الْهَلَاكِ وَهُوَ إِقَامَتُهُ فِيهِمْ وَانْتِظَارُ الْعَذَابِ النَّازِلِ وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ لَمْ يُقِمْ فِيهِمْ بَلْ خَرَجَ عَنْهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ عليهم بعد ذلك ومحمد وإبراهيم أفصل الرُّسُلِ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ يَتُوبُ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ كَمَا جَرَى لِقَوْمِ يُونُسَ فَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ جِنْسِ وَاقِعَتِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ بِمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ؟. فَالْجَوَابُ: أَمَّا حَالَةُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَتْ إِلَى الرَّحْمَةِ أَمْيَلَ فَلَمْ يَسْعَ فِي هَلَاكِ قَوْمِهِ لَا بِالدُّعَاءِ وَلَا بِالْمَقَامِ وَدَوَامِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض من بعدهم} ،وَكَانَ كُلُّ قَوْمٍ يَطْلُبُونَ هَلَاكَ نَبِيِّهِمْ فَعُوقِبُوا وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ أَوْصَلُوهُ إِلَى الْعَذَابِ لَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وَلَمْ يَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ العذاب إذ الدنيا ليس دَارُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَنْ أَرَادُوا عَدَاوَةَ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُهْلِكُوهُ فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ صُورَةَ الْهَلَاكِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ وَلَمْ يُهْلِكْ أَعْدَاءَهُ بَلْ أَخْزَاهُمْ وَنَصْرَهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَظْهَرَهُ حَتَّى صَارَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا ثُمَّ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا سَيِّدُ الْجَمِيعِ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُهُ وَالْخَلِيلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَفِي طَرِيقِهِمَا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِمَا وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ذَنْبًا غَيْرَ الشِّرْكِ وَكَذَلِكَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَأَمَّا عَادٌ فَذَكَرَ عَنْهُمُ التَّجَبُّرَ وَعِمَارَةَ الدُّنْيَا وَقَوْمُ صَالِحٍ ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلُ مَدْيَنَ الظُّلْمَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ الشِّرْكِ وَقَوْمُ لُوطٍ اسْتِحْلَالَ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا كَانَ دِينُهُمُ اسْتِحْلَالُ الْفَاحِشَةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعُقُوبَتِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ نُوحٍ خَيْرٌ يُرْجَى غَرِقَ الْجَمِيعُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ وَعَظِّمْ فَوَائِدَهُ وَتَدَبَّرْ حِكْمَتَهُ فَإِنَّهُ سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} ، فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَنْهَارِ مَعَ كُلِّ صِنْفٍ، وَكَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ، وَمِنْ لَبَنٍ، وَمَنْ خَمْرٍ، وَمِنْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 عَسَلٍ. لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَنْهَارُ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةً وَفِيمَا عَدَا الْمَاءِ مَجَازًا لِلتَّشْبِيهِ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا مَعَ الْمَاءِ وَعَطَفَ الْبَاقِي عَلَيْهِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَفْرَدَ ذِكْرَ الْمَاءِ وَجَمَعَ الْبَاقِي صِيغَةً وَاحِدَةً؟ قِيلَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَجَمَعَ بَيْنَ مَحَامِلٍ مِنَ الْمَجَازِ مُخْتَلِفَةٍ فِي صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. فائدة في صنيعهم عند استثقال تكرار اللفظ. قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون لِمَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} فَإِنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ اللَّفْظُ غَيَّرَ فَعِّلْ إِلَى أَفْعِلْ فَلَمَّا ثَلَّثَ تَرَكَ اللَّفْظَ أَصْلًا، فَقَالَ: "رُوَيْدًا". وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} ثم قال: {إمرا} . قَالَ الْكِسَائِيُّ:" مَعْنَاهُ شَيْئًا مُنْكَرًا كَثِيرَ الدَّهَاءِ مِنْ جِهَةِ الْإِنْكَارِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا". قَالَ الْفَارِسِيُّ:" وَأَنَا أَسْتَحْسِنُ قَوْلَهُ هذا ". وقوله تعالى: {ارجعوا وراءكم} ، قال الفارسي:" {وراءكم} فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ تَأَخَّرُوا وَالْمَعْنَى ارْجِعُوا تَأَخَّرُوا فَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَيْسَتْ ظَرْفًا لِأَنَّ الظُّرُوفَ لَا يُؤَكَّدُ بِهَا". وَإِذَا تَكَرَّرَ اللَّفْظُ بِمُرَادِفَةٍ جَازَتِ الْإِضَافَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَذَابٌ مِنْ رجز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 أليم} وَالْقَصْدُ الْمُبَالَغَةُ أَيْ عَذَابٌ مُضَاعَفٌ وَبِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وقوله: {فاعفوا واصفحوا} . الْقِسْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ: الزِّيَادَةُ فِي بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ عَلَى وَزْنٍ مِنَ الْأَوْزَانِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى وَزْنٍ آخَرَ أَعْلَى مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مِنَ الْمَعْنَى أَكْثَرَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ أَوَّلًا لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ أَدِلَّةٌ عَلَى الْمَعَانِي فَإِذَا زِيدَتْ فِي الْأَلْفَاظِ وَجَبَ زِيَادَةُ الْمَعَانِي ضَرُورَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} ،فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ [قَادِرٍ] لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ مُتَمَكِّنُ الْقُدْرَةِ لَا يُرَدُّ شَيْءٌ عَنِ اقْتِضَاءِ قُدْرَتِهِ وَيُسَمَّى هَذَا قُوَّةُ اللَّفْظِ لِقُوَّةِ المعنى. وكقوله تعالى: {واصطبر} فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ مِنَ [اصْبِرْ] . وَقَوْلِهِ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ السَّيِّئَةُ ثَقِيلَةً وَفِيهَا تَكَلُّفٌ زِيدَ فِي لَفْظِ فِعْلِهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يصطرخون فيها} ،فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ [يَتَصَارَخُونَ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُبْكِبُوا فيها} وَلَمْ يَقُلْ: [وَكُبُّوا] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَبْكَبَةُ تَكْرِيرُ الْكَبِّ جَعَلَ التَّكْرِيرَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى التَّكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 فِي جَهَنَّمَ [يَنْكَبُّ] كَبَّةً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي قَعْرِهَا اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنْهَا خَيْرَ مُسْتَجَارٍ!. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: صَرَّ الْجُنْدُبَ وَصَرْصَرَ الْبَازِيُّ كَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا فِي صَوْتِ الْجُنْدُبِ اسْتِطَالَةً فَقَالُوا: صَرَّ صَرِيرًا فَمَدُّوا وَتَوَهَّمُوا فِي صَوْتِ الْبَازِيِّ تَقْطِيعًا فَقَالُوا: صَرْصَرَ. وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا، فَإِنَّ [سَتَّارًا] وَ [غَفَّارًا] أَبْلَغُ مِنْ [سَاتِرٍ] [وغافر] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كان غفارا} ،وَمِنْ هَذَا رَجَّحَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى [الرَّحْمَنِ] عَلَى مَعْنَى [الرَّحِيمِ] لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْأَلِفُ وَالنُّونُ وَقَدْ سَبَقَ فِي السَّادِسِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ - وَيُقَالُ التَّكْثِيرُ - وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِالصِّيغَةِ دَالَّةً عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ قَبْلَ التَّضْعِيفِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا تَضْعِيفُهُ وَلِهَذَا رُدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} حَيْثُ جَعَلَ [نَزَّلْنَا] هُنَا لِلتَّضْعِيفِ. وَقَدْ جَاءَ التَّضْعِيفُ دَالًّا عَلَى الْكَثْرَةِ فِي اللَّازِمِ قَلِيلًا نَحْوَ مَوَّتَ الْمَالُ. وَجَاءَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّكْثِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عليه آية من ربه} . {لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} . فإن قلت: {فأمتعه قليلا} مُشْكِلٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ [فَعَّلَ] لِلتَّكْثِيرِ، فَكَيْفَ جَاءَ [قَلِيلًا] نَعْتًا لِمَصْدَرِ [مَتَّعَ] وَهَذَا وَصْفُ كَثِيرٍ بِقَلِيلٍ وَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 قلت: وصفت بِالْقِلَّةِ مِنْ حَيْثُ صَيْرُورَتِهِ إِلَى نَفَادٍ وَنَقْصٍ وَفَنَاءٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْقِسْمِ مُقَيَّدٌ بِنَقْلِ صِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِمَعْنًى فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ مِنْ نَقْلِ الثُّلَاثِيِّ إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الصِّيغَةِ، فقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} ،لَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ صُدُورِ الْكَلَامِ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ ثُلَاثِيٍّ. وَكَذَا قَوْلُهُ {ورتل القرآن ترتيلا} يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ عَلَى هَيْئَةِ التَّأَنِّي وَالتَّدَبُّرِ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ،لَيْسَ النَّفْيُ لِلْمُبَالَغَةِ بَلْ نَفَى أَصْلَ الْفِعْلِ. الْقِسْمُ السَّادِسَ عَشَرَ: التَّفْسِيرُ وَتَفْعَلُهُ الْعَرَبُ فِي مَوَاضِعِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوم} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى:" قَرَأْتُ فِي تَفْسِيرِ الْجُنَيْدِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَأْخُذُهُ سنة} ، تَفْسِيرٌ لِلْقَيُّومِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم} فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ وَتَبْيِينٌ لَهُ لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ فَلَمْ يَتَعَدَّ الْفِعْلُ مِنْهَا إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خلقه من تراب} خَلَقَهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العذاب يذبحون} ،في [يُذَبِّحُونَ] وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلسَّوْمِ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: وَمَتَى كَانْتِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرًا لَمْ يَحْسُنِ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا لِأَنَّ تَفْسِيرَ الشَّيْءِ لَاحِقٌ بِهِ وَمُتَمِّمٌ لَهُ وَجَارٍ مَجْرَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ كَالصِّلَةِ مِنَ الْمَوْصُولِ وَالصِّفَةِ مِنَ الْمَوْصُوفِ وَقَدْ يَجِيءُ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وما يعلنون} ،وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ وَإِلَّا لَمَا حَزِنَ الرَّسُولُ وَإِنَّمَا يَجِيءُ بِهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ قَوْلُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا} . وَلَوْ جَاءَتِ الْآيَتَانِ عَلَى حَدِّ مَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم} ،لَكَانَتْ [أَنَّ] مَفْتُوحَةً، لَكِنَّهَا جَاءَتْ عَلَى حَدِّ قوله ..... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 فَائِدَةُ. قِيلَ: الْجُمْلَةُ التَّفْسِيرِيَّةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ، إِذَا كَانَ لِلْمُفَسَّرِ مَوْضِعٌ وَيَقْرُبُ مِنْهَا ذِكْرُهُ تَفْصِيلًا، كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ ليلة} . ومثل: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} . الْقِسْمُ السَّابِعَ عَشَرَ: خُرُوجُ اللَّفْظِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نسائكم} ،فَإِنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ بِقَيْدٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عليكم} وَلَمْ يَقُلْ: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَمْ يَكُنَّ فِي حُجُورِكُمْ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِجْرَ خَرَجَ مَخْرَجُ الْعَادَةِ. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ إِذَا كَانَتْ بِالْمَجْمُوعِ فَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِانْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ وَالْمَجْمُوعُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ كَمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْمَجْمُوعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَ أَحَدُ شَطْرَيِ الْعِلَّةِ كَانَ جُزْءُ الْعِلَّةِ ثَابِتًا فَيَعْمَلُ عَمَلَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 {وأحل لكم ما وراء ذلكم} عُلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنْ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ إِذَا لَمْ يُدْخَلْ بِأُمِّهَا، فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فلا جناح عليكم} ؟ . قِيلَ: فَائِدَتُهُ: أَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَيْدَ الدُّخُولِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ كَمَا فِي الْحِجْرِ الْمَفْهُومِ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا تَقْيِيدَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْعِرَاقِيِّ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ إِذَا لَمْ تَغْلِبْ لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً دَلَّتِ الْعَادَةُ عَلَيْهَا فَاسْتَغْنَى الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَادَةِ عَنْ ذِكْرِهَا فَلَمَّا ذَكَرَهَا مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْإِخْبَارَ بِوُقُوعِهَا لِلْحَقِيقَةِ بَلْ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا نَفْيُ الْحُكْمِ مِنَ الْمَسْكُوتِ أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ غَالِبَةً أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَهَا لِيَعْرِفَ السَّامِعُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعْرِضُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أولادكم خشية إملاق} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فرهان مقبوضة} ، وَجَوَّزُوا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُخْتَصُّ بِالسَّفَرِ لَكِنْ ذُكِرَ لِأَنَّ فَقْدَ الْكَاتِبِ يَكُونُ فِيهِ غَالِبًا فَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ إِعْوَازِ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ الْمَوْثُوقِ بِهِمَا أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ بِحِفْظِ مَالِ الْمُسَافِرِينَ بِأَخْذِ الْوَثِيقَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ الرَّهْنُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إن خفتم} ، وَالْقَصْرُ جَائِزٌ مَعَ أَمْنِ السَّفَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا الشَّرْطِ وَغَالِبُ أَسْفَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لَمْ تَخْلُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخَوْفَ هُنَا شَرْطًا إِنْ حُمِلَ الْقَصْرُ عَلَى تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالنُّزُولِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 عَنِ الدَّابَّةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَنَحْوِهِ لَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَكِنَّ ذَلِكَ شِدَّةُ خَوْفٍ لَا خَوْفٌ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُسَاعِدُهُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إن علمتم فيهم خيرا} الْقِسْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقَسَمُ وَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ جُمْلَةٌ يُؤَكَّدُ بِهَا الْخَبَرُ، حَتَّى إِنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} قَسَمًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِخْبَارٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ سُمِّيَ قَسَمًا. وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاسْمِ مُعَظَّمٍ كَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأرض إنه لحق} . وقوله: {قل إي وربي إنه لحق} . وقوله: {قل بلى وربي لتبعثن} . وقوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} . وقوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين} . وقوله: {فلا وربك لا يؤمنون} . وقوله: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} . فَهَذِهِ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ أَقْسَمَ اللَّهُ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 كقوله: {والتين والزيتون} . {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تعلمون عظيم} . {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس} . وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْقَسَمِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِ فَالْمُؤْمِنُ يُصَدِّقُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْكَافِرِ فَلَا يُفِيدُهُ. فَالْجَوَابُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْقَسَمَ لِكَمَالِ الْحُجَّةِ وَتَأْكِيدِهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ يُفْصَلُ بِاثْنَيْنِ: إِمَّا بِالشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِالْقَسَمِ، فذكر تعالى النوعين حتى يبقى لهم حجة. وقوله: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} وَعَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السماء والأرض إنه لحق} صَاحَ وَقَالَ: مَنِ الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَلَيْنَا أَلَّا نُقْسِمَ بِمَخْلُوقٍ؟ قِيلَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:. أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُذِفَ مُضَافٌ أَيْ ورب الفجر ورب التِّينِ وَكَذَلِكَ الْبَاقِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَظِّمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَتُقْسِمُ بِهَا فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَقْسَامَ إِنَّمَا تَجِبُ بِأَنْ يُقْسِمَ الرَّجُلُ بِمَا يُعَظِّمُهُ أَوْ بِمَنْ يُجِلُّهُ وَهُوَ فَوْقَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ فَأَقْسَمَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِمَصْنُوعَاتِهِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بارىء وَصَانِعٍ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَسَمُهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم في قوله: {لعمرك} لِيَعْرِفَ النَّاسُ عَظَمَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَكَانَتَهُ لَدَيْهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: فِي [كَنْزِ اليواقيت] : والقسم بالشيء لايخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنعفة، فَالْفَضِيلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأمين} والمنفعة نحو: {والتين والزيتون} . وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء:. أحداها: بذاته، كقوله تعالى: {فورب السماء والأرض} . {فوربك لنسألنهم أجمعين} . وَالثَّانِي: بِفِعْلِهِ، نَحْوَ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وما طحاها. ونفس وما سواها} . والثالث: مفعوله، نحو: {والنجم إذا هوى} . {والطور وكتاب. مسطور} . وَهُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مُظْهَرٍ وَمُضْمَرٍ: فالمظهر: كقوله تعالى: {فورب السماء والأرض} ونحوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وَالْمُضْمَرُ: عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَامُ القسم، كقوله: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم} وَقِسْمٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ منكم إلا واردها} تقديره: [والله] . وقد أقسم تعالى بطوائف الْمَلَائِكَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّازِعَاتِ. فَوَائِدٌ. الْأُولَى: أَكْثَرُ الْأَقْسَامِ الْمَحْذُوفَةُ الْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْوَاوِ فَإِذَا ذُكِرَتِ الْبَاءُ أُتِيَ بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جهد أيمانهم} {يحلفون بالله} . ولا تجيء الباء والفعل محذوف إلا قليلا وعليه حمل بعضهم قوله: {يا بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 لا تشرك بالله} وَقَالَ: الْبَاءُ بَاءُ الْقَسَمِ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِـ[تُشْرِكْ] وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ} ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {بِاللَّهِ} لَا تُشْرِكْ وَحَذَفَ {لَا تُشْرِكْ} لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ادع لنا ربك بما عهد عندك} قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: [بِمَا عَهِدَ] قَسَمٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سُؤَالٌ لَا قَسَمٌ. وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحق إن كنت قلته} فتقف على [لي] وتبتدىء بِحَقٍّ فَتَجْعَلُهُ قَسَمًا. هَذَا مَعَ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إن الواو فرع الباء، لَكِنَّهُ قَدْ يَكْثُرُ الْفَرْعُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَيَقِلُّ الْأَصْلُ. الثَّانِيَةُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْقَسَمَ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِتَوْكِيدِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَتَارَةً يَزِيدُونَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ وَتَارَةً يَحْذِفُونَ مِنْهُ لِلِاخْتِصَارِ وَلِلْعِلْمِ بِالْمَحْذُوفِ. فَمَا زَادُوهُ لَفْظُ [إِي] بِمَعْنَى [نَعَمْ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِي وَرَبِّي} وَمِمَّا يَحْذِفُونَهُ فِعْلُ الْقَسَمِ وَحَرْفُ الْجَرِّ وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَذْكُورًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسول الله} أي [والله] . وقوله: {لأقطعن أيديكم} {لنسفعا بالناصية} {ليسجنن وليكونا من الصاغرين} . وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْجَوَابَ وَيُبْقُونَ الْقَسَمَ لِلْعِلْمِ بِهِ كقوله تعالى: {ص والقرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 ذي الذكر} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْجَوَابَ حُذِفَ لِطُولِ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ: "لَأُعَذِّبَنَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ". وَقِيلَ: الْجَوَابُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ. وَمِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمُقْسَمُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} أَيْ نَحْلِفُ إِنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بمعنى اليمين بدليل قوله: {أيمانهم جنة} وأما قوله تعالى: {فالحق والحق أقول} ، فَالْأَوَّلُ قَسَمٌ بِمَنْزِلَةِ، [وَالْحَقِّ] وَجَوَابُهُ: [لَأَمْلَأَنَّ] ، وَقَوْلُهُ: {والحق أقول} تَوْكِيدٌ لِلْقَسَمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، ثم قال: {قتل أصحاب الأخدود} قَالُوا: وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَأَصْلُهُ: [لَقَدْ قُتِلَ] ثُمَّ حُذِفَ اللَّامُ وَقَدْ. الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ الْأَلْفَاظُ: الْجَارِيَةُ مَجْرَى الْقَسَمِ ضَرْبَانِ:. أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ جَارِيَةً كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقَسَمٍ فَلَا تُجَابُ بِجَوَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتيناكم بقوة} ، {فيحلفون له كما يحلفون لكم} ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا وَأَنْ يَكُونَ حَالًا لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَوَابِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الكتاب لتبيننه} {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} . الرَّابِعَةُ: الْقَسَمُ وَالشَّرْطُ، يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَسَمُ وَدَخَلَ الشَّرْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوَابِ كَانَ الْجَوَابُ لِلْقَسَمِ وَأَغْنَى عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ وَإِنْ عُكِسَ فَبِالْعَكْسِ وَأَيُّهُمَا تَصَدَّرَ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ لَهُ. وَمِنْ تَقَدُّمِ الْقَسَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} ، تَقْدِيرُهُ: [وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ] فَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ على الشرط ليس بِلَامِ الْقَسَمِ وَلَكِنَّهَا زَائِدَةٌ وَتُسَمَّى الْمُوَطِّئَةَ لِلْقَسَمِ وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ مُنْتَظَرٌ أَيِ الشَّرْطُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا خَبَرًا. وَلَيْسَ دُخُولُهَا عَلَى الشَّرْطِ بِوَاجِبٍ بِدَلِيلِ حَذْفِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ لِلْقَسَمِ لَا لِلشَّرْطِ دُخُولُ اللَّامِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْزُومٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وَلَوْ كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ لَكَانَ مَجْزُومًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تحشرون} ،فَاللَّامُ فِي [وَلَئِنْ] هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ وَاللَّامُ فِي {لَإِلَى اللَّهِ} هِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَلَمْ تَدْخُلْ نُونُ التَّوْكِيدِ عَلَى الْفِعْلِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّامِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَالْأَصْلُ: [لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لِتُحْشَرُونِ إِلَى اللَّهِ] فَلَمَّا قُدِّمَ مَعْمُولُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ حُذِفَ مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 الْقِسْمُ التَّاسِعَ عَشَرَ: إِبْرَازُ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ لِيَدُلَّ عَلَى بَقِيَّةِ جُمَلِهِ. كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أُكَلِّمُكَ حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ وَحَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الخياط} ، يَعْنِي وَالْجَمَلُ لَا يَلِجُ فِي السَّمِّ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَدْخُلُونَ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَلِّقٌ بِالْحَالِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَصْلًا وَلَيْسَ لِلْغَايَةِ هُنَا مَفْهُومٌ وَوَجْهُ التَّأْكِيدِ فِيهِ كَدَعْوَى الشَّيْءِ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ وُلُوجَ الْجَمَلِ فِي السَّمِّ غَايَةً لِنَفْيِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَتِلْكَ غَايَةٌ لَا تُوجَدُ فَلَا يَزَالُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مُنْتَفِيًا. وَغَالَى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي وَصْفِ جِسْمِهِ بِالنُّحُولِ فَجَاءَ بِمَا يَزِيدُ عَلَى الْآيَةِ فَقَالَ وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوًى وَصَبَابَةٍ عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ خَالِدُ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الشُّعَرَاءِ فِي اعْتِبَارِ الْمُبَالَغَةِ وَإِلَّا فَمُعَارَضَاتُ الْقُرْآنِ لَا تَجُوزُ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سلف} فَإِنَّ الْمَعْنَى إِنْ كَانَ مَا سَلَفَ فِي الزَّمَنِ السَّالِفِ يُمْكِنُ رُجُوعُهُ فَحِلُّهُ ثَابِتٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُ أَبَدًا وَلَا يَثْبُتُ حِلُّهُ أَبَدًا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ الْمُجَرَّدِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فأنا أول العابدين} ،أَيْ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا أَعْبُدُ سواه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سلاما} ، أَيْ إِنْ كَانَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ لَغْوًا فَلَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا إِلَّا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {لَا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} ،فَإِنَّ النَّاسَ اسْتَشْكَلُوا وَجْهَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ مُطْلَقًا وَمُقْتَضَى اسْتِثْنَائِهَا مِنَ النَّفْيِ أَنَّهُمْ يَذُوقُونَهَا فِي الْجَنَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَوَجَّهُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنَّهُ مِنَ التَّوْكِيدِ فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَوْتَةُ الْأُولَى لَا يَذُوقُونَهَا أَصْلًا إِذْ يَسْتَحِيلُ عَوْدُ مَا وَقَعَ فَلَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَصْلًا أَيْ إِنْ كَانُوا يَذُوقُونَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ إِيقَاعُ الْمَوْتَةِ الْأُولَى فِي الْجَنَّةِ مُسْتَحِيلًا فَعَرَّضَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِلَى اسْتِحَالَةِ الْمَوْتِ فِيهَا. هَذَا إِنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا فَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَالْمَعْنَى: [لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى قَدْ ذَاقُوهَا] . وَيَحْتَمِلُ عَلَى الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهَا أَيْ فِي مُقَدِّمَاتِهَا لِأَنَّ الَّذِي يَرَى مَقَامَهُ فِي الْجَنَّةِ عند الْجَنَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ فِيهَا بِتَأْوِيلِ الذَّوْقِ عَلَى مَعْنَى الْمُسْتَحِيلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. الْقِسْمُ الْمُوَفِّي الْعِشْرِينَ: الِاسْتِثْنَاءُ وَالِاسْتِدْرَاكُ وَوَجْهُ التَّأْكِيدِ فِيهِ أَنَّهُ ثَنَّى ذِكْرَهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي الْجُمْلَةِ وَمَرَّةً فِي التَّفْصِيلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي جُمْلَتِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ} ،فَإِنَّ فِيهِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا إِبْلِيسُ مِنْ كَوْنِهِ خَرَقَ إِجْمَاعَ الْمَلَائِكَةِ وَفَارَقَ جَمِيعَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِخُرُوجِهِ مِمَّا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ وَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِكَ أَمَرَ الْمَلِكُ بِكَذَا فَأَطَاعَ أَمْرَهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ وَوَزِيرٍ إِلَّا فُلَانًا فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ مَعْصِيَةِ الملك بهذا الصِّيغَةِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: أَمَرَ الْمَلِكُ فَعَصَاهُ فُلَانٌ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ وُصِفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ فِيمَا ضَرَبَهُ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَخَتَمَ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما} فَإِنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَهْوِيلًا عَلَى السَّامِعِ لِيَشْهَدَ عُذْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِ. وَحِكْمَةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَعْظِيمٌ لِلْمُدَّةِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يُبَاشِرُ السَّمْعَ ذِكْرُ [الْأَلْفِ] وَاخْتِصَارُ اللَّفْظِ فَإِنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ أَخْصَرُ مِنْ [تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا] وَلِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ يُفِيدُ حَصْرَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَلَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا النَّقْصَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاء ربك} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ وَصْفَ الشَّقَاءِ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ وَالْكَافِرَ اسْتَثْنَى مَنْ حَكَمَ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ بِلَفْظٍ مُطْمِعٍ حَيْثُ أَثْبَتَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُطْلَقَ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، أَيْ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي إِخْرَاجِ أَهْلِ الشَّقَاءِ مِنَ النَّارِ. وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَكَّدَ خُلُودَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يَرْفَعُ أَصْلَ الِاسْتِثْنَاءَ حَيْثُ قَالَ {عَطَاءً غَيْرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 مجذوذ} أَيْ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، لِيُعْلَمَ أَنَّ عَطَاءَهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ وَهَذِهِ الْمَعَانِي زَائِدَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ اللُّغَوِيِّ. وَقِيلَ: وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى مَنْزِلَةٍ أَعْلَى كَالرِّضْوَانِ وَالرُّؤْيَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ:. *وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا* وَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ لِخُرُوجِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ أَوْ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ وَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ دَالًّا عَلَى نَجَاةِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْعَذَابِ فَكَأَنَّهُ تَصَوَّرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى انْقِطَاعِ النَّعِيمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَطَاءً غير مجذوذ} فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ لَا يُحْمَلُ عَلَى انْقِطَاعِ عَذَابِ الْجَحِيمِ لِتَنَاسُبِ أَطْرَافِ الْكَلَامِ. وَقَالَ: مَعْنَى قوله: {إن ربك فعال لما يريد} عَقِبَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: {عَطَاءً غير مجذوذ} عَقِبَ الثَّانِي، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ بِأَهْلِ النَّارِ مَا يُرِيدُ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا يُعْطِي لِأَهْلِ الْجَنَّةِ عَطَاءَهُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ. قِيلَ: وَمَا أَصْدَقَ فِي سِيَاقِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُ الْقَائِلِ:. *حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ* وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْإِخْرَاجُ عَنْ حُكْمِ مَا قَبْلَهُ وَلَا مُوجِبَ للعدول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 عَنِ الظَّاهِرِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاةِ وَلَمَّا كَانَ إِنْجَاءُ الْمُسْتَحِقِّ الْعَذَابَ مَحَلَّ تَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لما يريد} ،أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ اعْتِرَاضُ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ويحكم ما يريد. وأما الاستثناء الثاني فلم يَكُنْ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَانَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ المستحقين للثواب وقطع النعيم لا يناسب إنحاء أَهْلِ النَّارِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ، فَلِذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: {عطاء غير مجذوذ} بَيَانًا لِلْمَقْصُودِ. وَرِعَايَةُ هَذَا الْبَابِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ الْبَابِ الَّذِي تَوَهَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ أَيْضًا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُنْصِفِ أَنَّهُ تَعَسُّفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لهم طعام إلا من ضريع} فَالْمَعْنَى لَا طَعَامَ لَهُمْ أَصْلًا لِأَنَّ الضَّرِيعَ لَيْسَ بِطَعَامِ الْبَهَائِمِ فَضْلًا عَنِ الْإِنْسِ وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: لَيْسَ لِفُلَانٍ ظِلٌّ إِلَّا الشَّمْسَ تُرِيدُ ذلك نَفْيَ الظِّلِّ عَنْهُ عَلَى التَّوْكِيدِ وَالضَّرِيعُ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ يُسَمَّى الشَّبْرَقَ فِي حَالِ خُضْرَتِهِ وَطَرَاوَتِهِ فَإِذَا يَبِسَ سُمِّيَ الضَّرِيعَ وَالْإِبِلُ تَرْعَاهُ طَرِيًّا لَا يَابِسًا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ بِأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ صِفَةِ ذَمٍّ مَنْفِيَّةٍ عَنِ الشَّيْءِ صِفَةُ مَدْحٍ بِتَقْدِيرِ دُخُولِهَا فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} التَّأْكِيدُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: عَلَى الِاتِّصَالِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالِانْقِطَاعِ. الْقِسْمُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الْمُبَالَغَةُ. وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ فَتَزِيدُ فِي التَّعْرِيفِ بِمِقْدَارِ شِدَّتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ فَيُدَّعَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 لَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ مَا يُسْتَبْعَدُ عِنْدَ السَّمَاعِ أَوْ يُحِيلُ عَقْلُهُ ثُبُوتَهُ. وَمِنْ أَحْسَنِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، وَهِيَ ظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ الْمَوْجِ فَوْقَهُ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ فَوْقَ الْمَوْجِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحناجر} ،أَيْ كَادَتْ تَبْلُغُ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنَّ الْخَوْفَ وَالرَّوْعَ يُوجِبُ لِلْخَائِفِ أَنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْهَضَ بِالْقَلْبِ نَحْوَ الْحَنْجَرَةِ. ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. أَوْ أَنَّهَا لَمَّا اتَّصَلَ وَجِيبُهَا وَاضْطِرَابُهَا بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ. وَرَدَّ ابْنُ الانبارى تقديرا: [كَادَتْ] فَإِنَّ [كَادَ] لَا تُضْمَرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولدا} . وَمِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جمالت صفر} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وَقَدْ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَعْظَمِ الأكبر للبمالغة وَهُوَ مَجَازٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفا صفا} ،فَجَعَلَ مَجِيءَ جَلَائِلِ آيَاتِهِ مَجِيئًا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فوفاه حسابه} ، فَجَعَلَ نَقْلَهُ بِالْهَلَكَةِ مِنْ دَارِ الْعَمَلِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وُجْدَانًا لِلْمَجَازِيِّ. وَمِنْهُ مَا جَرَى مَجْرَى الْحَقِيقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يذهب بالأبصار} ،فَإِنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ بِ يَكَادُ صَرْفُهَا إِلَى الْحَقِيقَةِ فَانْقَلَبَ مِنَ الِامْتِنَاعِ إِلَى الْإِمْكَانِ. وَقَدْ تجيء المبالغة مدمج كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بالنهار} ، فَإِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُدْمَجَةٌ فِي الْمُقَابَلَةِ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ لَا إِلَى الْمُخَاطِبِ مَعْنَاهُ أَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ عِنْدَكُمْ وَإِلَّا فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِمُبَالَغَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الْآيَةَ، فَقِيلَ: سَبَبُهَا أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ عَنَّفَنَا بِهَذَا الْقَوْلِ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العلم إلا قليلا} ،وَنَحْنُ قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْكَامُهُ وَنُورٌ وَهُدًى! فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التَّوْرَاةُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ " وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وَقِيلَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ من شجرة أقلام} . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِكَثْرَةِ كَلِمَاتِهِ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَإِنَّمَا قَرَّبَ الْأَمْرَ عَلَى أَفْهَامِ الْبَشَرِ بِمَا يَتَنَاهَى لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَعْهَدُهُ الْبَشَرُ مِنَ الْكَثْرَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ مَا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَكُنْ لِتَنْفَدَ وَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ أَنَّهَا تَنْفَدُ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْلَامِ وَالْبُحُورِ وَكَمَا قَالَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ حِينَ غَمَسَ مِنْقَارَهُ فِيهَا ". وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا جَاءَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِغْضَاءِ عَنِ الْعُيُوبِ وَالصَّفْحِ عَنِ الذُّنُوبِ وَالتَّغَافُلِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. وَقَوْلُهُ تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 تَنْبِيهٌ:. تَحَصَّلَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ قَصْدَ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَلْزِمُ فِي الْحَالِ الْإِيجَازَ إِمَّا بِالْحَذْفِ وَإِمَّا بحجل الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ أَوْ يَتَكَرَّرُ لَفْظٌ يَتِمُّ بِتَكَرُّرِهِ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ وَيَقُومُ مَقَامَ أَوْصَافٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {الحاقة ما الْحَاقَّةِ} . وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كِتَابِهِ لِافْتِرَاقِهَا فِي أحكام. فائدة. [في اختلاف الأقوال في تقدير المبالغة في الكلام] . اخْتُلِفَ فِي الْمُبَالَغَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:. أَحَدُهَا: إِنْكَارُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الِاسْتِحَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْغَايَةُ فِي الْحُسْنِ وَأَعْذَبُ الْكَلَامِ مَا بُولِغَ فِيهِ وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ: لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَلَا يَنْحَصِرُ الْحُسْنُ فِيهَا فَإِنَّ فَضِيلَةَ الصِّدْقِ لَا تُنْكَرُ وَلَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً لَمْ تَرِدْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهَا طَرِيقَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لُغَةً كَمَا فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ وَالثَّانِي: أَنْ يُشْفَعَ مَا يُفْهِمُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى عَلَى وجه يتقضى زِيَادَةً فَتَتَرَادَفُ الصِّفَاتُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 بقصد التهويل كما في قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سحاب ظلمات بعضها فوق بعض} . الْقِسْمُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الِاعْتِرَاضُ. وَأَسْمَاهُ قُدَامَةُ [الْتِفَاتًا] ، وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ أَوْ كَلَامَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ مَعْنًى بِشَيْءٍ يَتِمُّ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ بِدُونِهِ وَلَا يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ فَيَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْكَلَامَيْنِ لِنُكْتَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ إِرَادَةُ وَصْفِ شَيْئَيْنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَصْدًا وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الِانْجِرَارِ وَلَهُ تَعْلِيقٌ بِالْأَوَّلِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ. وَعِنْدَ النُّحَاةِ جُمْلَةٌ صُغْرَى تَتَخَلَّلُ جُمْلَةً كُبْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي أَمَالِيهِ: الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ تَارَةً تَكُونُ مُؤَكِّدَةً وَتَارَةً تَكُونُ مُشَدِّدَةً لِأَنَّهَا إِمَّا أَلَّا تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ بَلْ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَقَطْ فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ وَإِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ وَعَلَى مَعْنَى زَائِدٍ فَهِيَ مُشَدِّدَةٌ. انْتَهَى. وَذَكَرَ النُّحَاةُ مِمَّا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ عَنِ الْحَالِيَّةِ كَوْنَهَا طَلَبِيَّةً كَقَوْلِهِ تعالى:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 {ومن يغفر الذنوب إلا الله} ،فإنه معترض بين: {فاستغفروا لذنوبهم} وبين: {ولم يصروا على ما فعلوا} . وَلَهُ أَسْبَابٌ:. مِنْهَا: تَقْرِيرُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ أَحْسَنُ بِفُلَانِ - وَنِعْمَ مَا فَعَلَ. وَرَأَى مِنَ الرَّأْيِ كَذَا - وَكَانَ صَوَابًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} لَقَدْ عَلِمْتُمْ اعْتِرَاضٌ وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ مِنْ تُهْمَةِ السَّرِقَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ على محمد وهو الحق من ربهم} . {وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} واعترض بقوله: {وكذلك يفعلون} بين كلامها. وقوله: {وأتوا به متشابها} . وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّنْزِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} فَاعْتِرَاضُ [سُبْحَانَهُ] لِغَرَضِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ وَفِيهِ الشَّنَاعَةُ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْبَنَاتَ لِلَّهِ. وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّبَرُّكِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} . وَفِيهَا اعْتِرَاضَانِ، فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} بَيْنَ: الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ وَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {لَوْ تَعْلَمُونَ} بَيْنَ: الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ شَأْنِ مَا أَقْسَمَ بِهِ مِنْ مَوَاقِعِ النُّجُومِ وَتَأْكِيدُ إِجْلَالِهِ فِي النُّفُوسِ لَا سِيَّمَا بِقَوْلِهِ: {لَوْ تَعْلَمُونَ} . وقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. أُولَئِكَ لهم جنات عدن} [وأولئك] الخبر [وإنا لَا نُضِيعُ] اعْتِرَاضٌ. وَمِنْهَا: كَوْنُ الثَّانِي بَيَانًا لِلْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويحب المتطهرين} فإنه اعتراض وقع بين قوله: {فأتوهن} وبين قوله: {نساؤكم حرث لكم} وَهُمَا مُتَّصِلَانِ مَعْنًى لِأَنَّ الثَّانِيَ بَيَانٌ لِلْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْحَرْثُ وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ بِأَكْثَرِ مِنْ جُمْلَةٍ. وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ عَلَى أَمْرٍ عُلِّقَ بِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} ، فَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وفصاله في عامين} بَيْنَ [وَوَصَّيْنَا] وَبَيْنَ الْمُوصَى بِهِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِذْكَارُ الْوَلَدِ بِمَا كَابَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ فَذِكْرُ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ يُفِيدُ زِيَادَةَ التَّوْصِيَةِ بِالْأُمِّ لِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فِي حَمْلِ الْوَلَدِ مَا لَا يَتَكَلَّفُهُ الْوَالِدُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ التَّوْصِيَةُ بِالْأُمِّ ثَلَاثًا وبالأب مرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَمِنْهَا: زِيَادَةُ الرَّدِّ عَلَى الْخَصْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} الآية. فقوله: {والله مخرج} اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَفَائِدَتُهُ أَنْ يُقَرِّرَ فِي أَنْفُسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ تَدَارُؤَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَتْلِ تِلْكَ الْأَنْفُسِ لَمْ يَكُنْ نَافِعًا لَهُمْ فِي إِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُظْهِرٌ لِذَلِكَ وَمُخْرِجُهُ وَلَوْ جَاءَ الْكَلَامُ خَالِيًا مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ لَكَانَ {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نفسا فادارأتم فيها} {فقلنا اضربوه ببعضها} . وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} فَاعْتَرَضَ بَيْنَ [إِذْ] وَجَوَابِهَا بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما ينزل} فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ دَعْوَاهُمْ فَجَعَلَ الْجَوَابَ اعْتِرَاضًا. قَوْلُهُ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} إِلَى قَوْلِهِ: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعلمون} . وقوله: {قل اللهم فاطر السماوات والأرض} إِلَى قَوْلِهِ: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا ذكر الله وحده اشمأزت} الْآيَةَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضر} سَبَبٌ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشمأزت} على معنى أنه يَشْمَئِزُّونَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ الْآلِهَةِ فَإِذَا مَسَّ أَحَدَهُمْ ضُرٌّ أَوْ أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ تَنَاقَضَ فِي دَعْوَاهُ فَدَعَا مَنِ اشْمَأَزَّ مِنْ ذِكْرِهِ وَانْقَبَضَ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَلَجَأَ إِلَيْهِ دُونَ الْآلِهَةِ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ فَقَيَّدَ الْقَوْلَ بِمَا فِيهِ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} ثُمَّ عَقَّبَهُ مِنَ الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ أَشَدَّ التَّأْكِيدِ وأعظمه وأبلغه،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وَلِذَلِكَ كَانَ اتِّصَالُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضر دعا ربه} لِلسَّبَبِ الْوَاقِعِ فِيهَا وَخُلُوِّ الْأَوَّلِ مِنْهُ مِنَ الْأَمْرِ اشْتِرَاكُ جُمْلَةٍ مَعَ جُمْلَةٍ وَمُنَاسَبَةٌ أَوْجَبَتِ العطف بالواو الموضوعة لمطلق بالجمع كَقَوْلِهِمْ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَتَسْبِيبُ السَّبَبِ مَعَ مَا فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ اشْمِئْزَازِهِمْ لَيْسَ يَقْتَضِي الْتِجَاءَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ التَّنَاقُضِ وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ زَيْدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ لَجَأَ إِلَيْهِ فَهَذَا سَبَبٌ ظَاهِرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اطِّرَادِ الْأَمْرِ وَتَقُولُ زَيْدٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ فَإِذَا مَسَّهُ ضُرٌّ لَجَأَ إِلَيْهِ فَتَجِيءُ بِالْفَاءِ هُنَا كَالْأَوَّلِ لِغَرَضِ الْتِزَامِ التَّنَاقُضِ أَوِ الْعَكْسِ حَيْثُ أَنْزَلَ الْكَافِرُ كُفْرَهُ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ فِي فَصْلِ سَبَبِ الِالْتِجَاءِ فَأَنْتَ تُلْزِمُهُ الْعَكْسَ بِأَنَّكَ إِنَّمَا تَقْصِدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْإِنْكَارَ وَالتَّعَجُّبَ مِنْ فِعْلِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السوء ولا هم يحزنون} بِقَوْلِهِ اللَّهُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} اعْتِرَاضٌ وَاقِعٌ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ مُتَّصِلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يمسهم السوء ولا هم يحزنون} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وَهُوَ عَلَى مَهْيَعِ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الضد عقب الضد كَمَا قِيلَ: *وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ* وَمِنْهَا: الْإِدْلَاءُ بِالْحُجَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كنتم لا تعلمون. بالبينات والزبر} فَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: [فَاسْأَلُوا] بَيْنَ قَوْلِهِ: [نُوحِي إِلَيْهِمْ] وبين قوله: [بالبينات والزبر] إظهارا لقوة الحجة عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وبهذه الآية ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ قَوْلَهُ إِنَّهُ لَا يُعْتَرَضُ بِأَكْثَرِ مِنْ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. ورد بأن جملة الأمر دليل لِلْجَوَابِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَنَفْسُهُ عِنْدَ آخَرِينَ فَهُوَ مَعَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ نَعَمْ جَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا من إستبرق} أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِمَنْ خَافَ مقام ربه جنتان} فَلَزِمَ الِاعْتِرَاضُ بِسَبْعِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّاتٍ إِنْ كَانَ: {ذواتا أفنان} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَإِلَّا فَيَكُونُ بِسِتِّ جُمَلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كانوا يكسبون. أفأمن أهل القرى} الْآيَةَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَبْعُ جمل معترضة: جملة الشرط [واتقوا] [وفتحنا] [وكذبوا] [وأخذناهم] [وبما كانوا يكسبون] وزعم أن [أفأمن] معطوف على {فأخذناهم بغتة} وَكَذَا نَقْلَهُ ابْنُ مَالِكٍ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَتَبِعَهُ أَبُو حَيَّانَ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَرَدَّ عَلَيْهِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجُمْلَةَ وَالْكَلَامَ مُتَرَادِفَانِ قَالَ وَإِنَّمَا اعْتُرِضَ بِأَرْبَعِ جُمَلٍ وَزَعَمَ أَنَّ مِنْ عِنْدَ {ولو أن} إلى {والأرض} جملة لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه. وَفِي الْقَوْلَيْنِ نَظَرٌ أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا ثَمَانِ جُمَلٍ أحدها:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 {وهم لا يشعرون} وَأَرْبَعَةٌ فِي حَيِّزِ [لَوْ] وَهِيَ [آمَنُوا] وَ [اتقوا] [وفتحنا] وَالْمُرَكَّبَةُ مَعَ أَنَّ وَصِلَتِهَا مَعَ ثَبَتَ مُقَدَّرًا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهَا فِعْلِيَّةٌ أَوِ اسْمِيَّةٌ والسادسة [ولكن كذبوا] والسابعة [فأخذناهم] والثامنة [بما كانوا يكسبون] . وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعِدَّهَا ثَلَاثَ جُمَلٍ أَحَدُهَا [وَهُمْ لَا يشعرون] لِأَنَّهَا حَالٌ مُرْتَبِطَةٌ بِعَامِلِهَا وَلَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بِرَأْسِهَا وَالثَّانِيَةُ [لَوْ] وَمَا فِي حَيِّزِهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فِعْلِيَّةٌ إِنْ قُدِّرَ: [وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا] أَوِ اسْمِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ إِنْ قُدِّرَ: إِيمَانَهُمْ، وَاتَّقَوْا ثَابِتَانِ، وَالثَّالِثَةُ {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} كُلُّهُ جُمْلَةٌ. وَيَنْبَغِي عَلَى قَوَاعِدِ الْبَيَانِيِّينِ أَنْ يَعُدُّوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَعَلَى رَأْيِ النُّحَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ: {وَلَوْ أن أهل القرى آمنوا واتقوا} جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ لِارْتِبَاطِ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ لَفْظًا [وَلَكِنْ كذبوا] ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ [فَأَخَذْنَاهُمْ] ثَالِثَةٌ أَوْ رَابِعَةٌ و [بما كانوا يكسبون] متعلق أَخَذْنَاهُمْ فَلَا يُعَدُّ اعْتِرَاضًا. وَقَوْلُهُ: {وَغِيضَ الْمَاءُ وقضي الأمر واستوت على الجودي} ، فهذه ثلاث جمل معترضة بين {وقيل يا أرض ابلعي ماءك} وبين {وقيل بعدا} . وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ فَإِنَّ [وَقُضِيَ الْأَمْرُ] معترض بين [غيض الماء] وبين [واستوت] . وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الِاعْتِرَاضِ فِي الِاعْتِرَاضِ كقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ذَاكِرًا عن إبراهيم قوله: {اعبدوا الله واتقوه} ثُمَّ اعْتَرَضَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البلاغ المبين} وَذَكَرَ آيَاتٍ إِلَى أَنْ قَالَ: {فَمَا كَانَ جواب قومه} يَعْنِي قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ. وَجَعَلَ الزمخشري قوله تعالى: {فاستفتهم} وفي آخر الصافات معطوفا على {فاستفتهم} فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: وَقَالَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ في: {نذيرا للبشر} إنه حال من فاعل [قم] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ هَذَا مِنْ بِدْعِ التَّفَاسِيرِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الصَّافَّاتِ مِنْهُ. وَمِنَ الْعَجَبِ دَعْوَى بَعْضِهِمْ كَسْرَ هَمْزَةِ [إِنَّ] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أهل النار} عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقُرْآنِ ذي الذكر} حَكَاهُ الرُّمَّانِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ خَبَرُ [إِنَّ] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لما جاءهم} قِيلَ: الْخَبَرُ: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 فَوَائِدُ. قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ أَجَازَهُ قَوْمٌ فِي [ثُمَّ] وَ [أَوْ] فَتَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ ثُمَّ وَاللَّهِ عَمْرٌو. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أولى بهما} اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ مَعَ أَنَّ فِيهِ فَاءً وَالْجُمْلَةُ مُسْنَدَةٌ لِـ[يَكُنْ] . قَالَ الطِّيبِيُّ: سُئِلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ ذكره} : أَهُوَ اعْتِرَاضٌ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ بِالْوَاوِ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا بِالْفَاءِ فَلَا. وَفَهِمَ صَاحِبُ: [فَرَائِدِ الْقَلَائِدِ] مِنْ هَذَا اشْتِرَاطُ الْوَاوِ فَقَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ: {إِنَّهُ كان صديقا نبيا} هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَعْنِي [إِبْرَاهِيمَ] وَ [إِذْ] قَالَ: هَذَا مُعْتَرِضٌ لِأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بِدُونِ الْوَاوِ بَعِيدٌ عَنِ الطَّبْعِ وَعَنْ الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ يَأْتِي بِالْوَاوِ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَمْثِلَةِ وَبِدُونِهَا كقوله سبحانه: {ولهم ما يشتهون} وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لقرآن كريم} . القسم الثاني وَالْعِشْرُونَ: الِاحْتِرَاسُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُحْتَمِلًا لِشَيْءٍ بَعِيدٍ فَيُؤْتَى بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ، كقوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 تَعَالَى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ من غير سوء} ، فَاحْتَرَسَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: [مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] عَنْ إِمْكَانِ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ الْبَهَقُ وَالْبَرَصُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالذِّلَّةِ وَهُوَ السُّهُولَةُ لَتُوُهِّمَ أَنَّ ذَلِكَ لِضَعْفِهِمْ فَلَمَّا قِيلَ: {أعزة على الكافرين} عُلِمَ أَنَّهَا مِنْهُمْ تَوَاضُعٌ وَلِهَذَا عُدِّيَ الذُّلُّ بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعَطْفِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رحماء بينهم} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يشعرون} فقوله {وهم لا يشعرون} احْتِرَاسٌ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ عَدْلِ سُلَيْمَانَ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ جُنُودِهِ أَنَّهُمْ لَا يُحَطِّمُونَ نَمْلَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِأَلَّا يَشْعُرُوا بِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ تَبَسُّمُ سُلَيْمَانَ سُرُورًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْهَا وَلِذَلِكَ أَكَّدَ التَّبَسُّمَ بِالضَّحِكِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ تَبَسَّمَ كَتَبَسُّمِ الْغَضْبَانِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تَبَسُّمَهُ تَبَسُّمُ سُرُورٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ معرة بغير علم} الْتِفَاتٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ضَرَرَ مُسْلِمٍ. وقوله تعالى: {وقيل بعدا للقوم الظالمين} ،فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ مَنْ هَلَكَ بِالطُّوفَانِ عَقَّبَهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ لِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَهُمْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 احْتِرَاسٌ مِنْ ضَعْفٍ يُوهِمُ أَنَّ الْهَلَاكَ بِعُمُومِهِ رُبَّمَا شَمِلَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فَلَمَّا دَعَا عَلَى الْهَالِكِينَ وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ عُلِمَ اسْتِحْقَاقُهُمْ لِمَا نَزَلْ بِهِمْ وَحَلَّ بِسَاحَتِهِمْ مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلًا: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} . وَأَعْجَبُ احْتِرَاسٍ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} الْآيَةَ. وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جانب الطور الأيمن} ،فَلَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ رَسُولِهِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَضَى لِمُوسَى فِيهِ الْأَمْرَ عَرَّفَ الْمَكَانَ بِالْغَرْبِيِّ وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [الْأَيْمَنَ] كَمَا قَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أَدَبًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ كَوْنُهُ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ يَسْلُبَ عَنْهُ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنَ الْيُمْنِ أَوْ مُشَارِكًا لِمَادَّتِهِ وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ تَشْرِيفًا لِمُوسَى فَرَاعَى فِي الْمَقَامَيْنِ حُسْنَ الْأَدَبِ مَعَهُمَا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ. وَقَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} فَإِنَّهُ لَوِ اخْتَصَرَ لَتَرَكَ: [وَاللَّهُ يَعْلَمُ] لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِتَكْذِيبِهِمْ فِي دَعَاوَى الْإِخْلَاصِ فِي الشَّهَادَةِ لَكِنَّ حُسْنَ ذِكْرِهِ رَفَعَ تَوَهُّمَ أَنَّ التَّكْذِيبَ لِلْمَشْهُودِ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إذ أخرجني من السجن} وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُبَّ مَعَ أَنَّ النِّعْمَةَ فِيهِ أعظم لوجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 أَحَدُهُمَا: لِئَلَّا يَسْتَحْيِي إِخْوَتُهُ وَالْكَرِيمُ يُغْضِي وَلَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الصَّفَاءِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ السِّجْنَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَعْظَمُ بِخِلَافِ الْجُبِّ. وَقَوْلُهُ: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكُهُولَةَ مَعَ أَنَّهُ لَا إِعْجَازَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَهْدِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ وَلَا يَتَمَادَى بِهِ الْعُمْرُ فَجُعِلَ الِاحْتِرَاسُ بِقَوْلِهِ: [وَكَهْلًا] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، وَالسَّقْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ فَوْقٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَفَعَ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ السَّقْفَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَحْتٍ بِالنِّسْبَةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السُّقُوفِ يَكُونُ أَرْضًا لِقَوْمٍ وَسَقْفًا لِآخَرِينَ فَرَفَعَ تَعَالَى هَذَا الِاحْتِمَالَ بِشَيْئَيْنِ وَهُمَا وقوله: [عَلَيْهِمْ] وَلَفْظَةُ [خَرَّ] لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا هَبَطَ أَوْ سَقَطَ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى سُفْلٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَكَّدَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَالِّينَ تَحْتَهُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ فَجَاءَ بِقَوْلِهِ: [مِنْ فَوْقِهِمْ] لِيُخْرِجَ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي فِي كَلَامِهِمْ فَقَالَ: [من فوقهم] أَيْ عَلَيْهِمْ وَقَعَ وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا وَمَا أفتلوا. وقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَحْتَمِلُ مَعْنَى [كَيْفَ] وَ [أَيْنَ] احْتَرَسَ بِقَوْلِهِ: [حَرْثَكُمْ] لِأَنَّ الْحَرْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيْثُ تَنْبُتُ الْبُذُورُ وَيَنْبُتُ الزَّرْعُ وَهُوَ الْمَحَلُّ الْمَخْصُوصُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُصِيبَةِ يُخَفِّفُ مِنْهَا وَيُسَلِّي عَنْهَا فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 فَائِدَةٌ. عَابَ قُدَامَةُ عَلَى ذِي الرُّمَّةِ قَوْلَهُ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيٍّ عَلَى البلى ... ولا زال منهلا بجرعاتك الْقَطْرُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْتَرِسْ وَهَلَّا قَالَ كَمَا قال طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها ... وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الدُّعَاءَ بِالسَّلَامَةِ لِلدَّارِ. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: [وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا] اتِّصَالَ الدَّوَامِ بِالسُّقْيَا مِنْ غَيْرِ إِقْلَاعٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَقُولُ: مَا زَالَ فُلَانٌ يَزُورُنِي إِذَا كَانَ مُتَعَاهِدًا لَهُ بِالزِّيَارَةِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: التَّذْيِيلُ. مَصْدَرُ [ذَيَّلَ] لِلْمُبَالَغَةِ وَهِيَ لُغَةً جَعْلُ الشَّيْءِ ذَيْلًا لِلْآخَرِ. وَاصْطِلَاحًا أَنْ يُؤْتَى بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ تَحْقِيقًا لِدَلَالَةِ مَنْطُوقِ الْأَوَّلِ أَوْ مَفْهُومِهِ لِيَكُونَ مَعَهُ كَالدَّلِيلِ لِيَظْهَرَ الْمَعْنَى عِنْدَ مَنْ لَا يَفْهَمُ وَيَكْمُلَ عِنْدَ مَنْ فَهِمَهُ. كَقَوْلِهِ تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا} ثُمَّ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَهَلْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 نجازي إلا الكفور} ،أَيْ هَلْ يُجَازَى ذَلِكَ الْجَزَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْكَفُورُ إِلَّا الْكُفُورَ فَإِنْ جَعَلْنَا الْجَزَاءَ عَامًّا كَانَ الثَّانِي مُفِيدًا فَائِدَةً زَائِدَةً. وَقَوْلِهِ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقا} . وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أفإن مت فهم الخالدون} . وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} . فقوله: {ولا ينبئك مثل خبير} تَذْيِيلٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى.. وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عالين} . وقوله: {فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين} . وَجَعَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِهِ [الْإِعْجَازُ] مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} . وَقَوْلَهُ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّعْلِيلِ. وَقَوْلَهُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مهتدون} ، قوله:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 {وكذلك} ، تَذْيِيلٌ، أَيْ فَذَلِكَ شَأْنُ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ وَقَوْلُهُ: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ من نذير} ، جَعَلَ التَّذْيِيلَ هُنَا مِنَ التَّفْسِيرِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: التَّتْمِيمُ. وَهُوَ أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ فَيُلْحِقُ بِهِ مَا يُكْمِلُهُ إِمَّا مُبَالَغَةً أَوِ احْتِرَازًا أَوِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ فِي مَعْنًى فَيَذْكُرَهُ غَيْرَ مَشْرُوحٍ وَرُبَّمَا كَانَ السَّامِعُ لَا يَتَأَمَّلُهُ لِيَعُودَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَيْهِ شَارِحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيرا} ، فالتتميم في قوله: {على حبه} جَعَلَ الْهَاءَ كِنَايَةً عَنِ الطَّعَامِ مَعَ اشْتِهَائِهِ. وكذلك قوله: {وآتى المال على حبه} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة} ،فقوله: {وهو مؤمن} تتميم في غاية الحسن. القسم السادس العشرون: الزِّيَادَةُ. وَالْأَكْثَرُونَ يُنْكِرُونَ إِطْلَاقَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَيُسَمُّونَهُ التَّأْكِيدَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ بِالصِّلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ الْمُقْحَمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 قَالَ ابْنُ جِنِّي: كُلُّ حَرْفٍ زِيدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ مَرَّةً أُخْرَى وَبَابُهَا الْحُرُوفُ وَالْأَفْعَالُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فبما نقضهم ميثاقهم} . {فبما رحمة من الله} . وَقَوْلِهِ: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المهد صبيا} قِيلَ: [كَانَ] هَاهُنَا زَائِدَةٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِعْجَازٌ لِأَنَّ الرِّجَالَ كُلُّهُمْ كَانُوا فِي الْمَهْدِ، وَانْتَصَبَ [صَبِيًّا] عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: هِيَ فِي كَلَامِهِمْ زِيدَتْ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَاضِي فِي [قَالُوا] . وَمِنْهُ زِيَادَةُ [أَصْبَحَ] قَالَ حَازِمٌ: إِنْ كَانَ الأمر الذي ذكر أنه فيه أصبح يَكُنْ أَمْسَى فِيهِ فَلَيْسَتْ زَائِدَةً وَإِلَّا فَهِيَ زائدة كقوله: أَصْبَحَ الْعَسَلُ حُلْوًا. وَأَجَابَ الرُّمَّانِيُّ عَنْ قَوْلِهِ: {فأصبحوا خاسرين} فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَنْ بِهِ عِلَّةٌ تُزَادُ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ يَرْجُو الْفَرَجَ عِنْدَ الصَّبَاحِ فَاسْتَعْمَلَ [أَصْبَحَ] لِأَنَّ الْخُسْرَانَ جُعِلَ لَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَرْجُونَ فِيهِ الْفَرَجَ فَلَيْسَتْ زَائِدَةً. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ إِنَّهَا تَأْتِي لِلدَّوَامِ وَاسْتِمْرَارِ الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مساكنهم} ، {وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كظيم} فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ لِظُهُورِ الصِّفَةِ نَهَارًا وَالْمُرَادُ الدَّوَامُ أَيْضًا أَيِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ الصِّفَةُ نَهَارَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ وَاللَّغْوَ مِنْ عِبَارَةِ الْبَصْرِيِّينَ وَالصِّلَةَ وَالْحَشْوَ مِنْ عِبَارَةِ الْكُوفِيِّينَ قَالَ سِيبَوَيْهِ عقب قوله تعالى: {فبما نقضهم} : إِنَّ [مَا] لَغْوٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُحْدِثْ شَيْئًا. وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مُرَادَ النَّحْوِيِّينَ بِالزَّائِدِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} مَعْنَاهُ: [مَا لِنْتَ لَهُمْ إِلَّا رَحْمَةً] وَهَذَا قَدْ جَمَعَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ثُمَّ اخْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ وَجَمَعَ فِيهِ بَيْنَ لَفْظَيِ الْإِثْبَاتِ وَأَدَاةِ النَّفْيِ الَّتِي هِيَ [مَا] . وَكَذَا قَوْلُهُ تعالى: {إنما الله إله واحد} فـ[إنما] ها هنا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَتَمْحِيقٍ إِنَّ هُنَا لِلتَّحْقِيقِ وَمَا لِلتَّمْحِيقِ فَاخْتَصَرَ وَالْأَصْلُ: [مَا اللَّهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ] . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُقُوعِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ الطرطوسي فِي [الْعُمْدَةِ] : زَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ أَلَّا صِلَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالدَّهْمَاءُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّلَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسَعُنَا إِنْكَارُهُ فَذُكِرَ كَثِيرًا. وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ فِي التَّوْجِيهِ: وَعِنْدَ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ زَائِدٌ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَمَا جَاءَ مِنْهُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوْكِيدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَجَعَلَ وَجُودَهُ كَالْعَدَمِ وَهُوَ أَفْسَدُ الطُّرُقِ. وَقَدْ رُدَّ عَلَى فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُ إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُهْمَلَ لَا يَقَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً لِلتَّعَجُّبِ وَالتَّقْدِيرُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ؟ فَجَعَلَ الزَّائِدَ مُهْمَلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّائِدَ مَا أُتِيَ بِهِ لِغَرَضِ التَّقْوِيَةِ وَالتَّوْكِيدِ وَالْمُهْمَلَ مَا لَمْ تَضَعْهُ الْعَرَبُ وَهُوَ ضِدُّ المستعمل وليس المراد من الزيادة حَيْثُ - ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ - إِهْمَالَ اللَّفْظِ وَلَا كَوْنُهُ لَغْوًا فَتَحْتَاجُ إِلَى التَّنَكُّبِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِهَا إِلَى غَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا [مَا] زَائِدَةً هُنَا لِجَوَازِ تَعَدِّي الْعَامِلِ قَبْلَهَا إِلَى مَا بَعْدَهَا لَا لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا مَعْنًى. وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْآيَةِ: إِنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ فَقَدِ انْتُقِدَ عَلَيْهِ بِأَنْ قِيلَ: تَقْدِيرُهُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ [مَا] مُضَافَةً لِلرَّحْمَةِ وَأَسْمَاءُ الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ لَا يُضَافُ مِنْهَا غَيْرُ [أَيْ] وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ كَانَ مَا بَعْدَهَا بَدَلًا مِنْهَا وَالْمُبْدَلُ مِنَ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ يَجِبُ مَعَهُ ذِكْرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ مَذْكُورَةً فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الدَّعْوَى وَسَنُبَيِّنُ فِي فَصْلِ زِيَادَةِ الْحُرُوفِ الْفَائِدَةَ فِي إدخال [ما] ها هنا، فَانْظُرْ هُنَاكَ. تَنْبِيهَاتٌ:. الْأَوَّلُ: أَهْلُ الصِّنَاعَةِ يُطْلِقُونَ الزَّائِدَ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا مَا يُتَعَلَّقُ بِهِ هُنَا وَهُوَ مَا أُقْحِمَ تَأْكِيدًا نَحْوَ: {فَبِمَا رحمة من الله لنت لهم} {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بعوضة} {ليس كمثله شيء} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وَمَعْنَى كَوْنِهِ زَائِدًا أَنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِدُونِهِ دُونَ التَّأْكِيدِ فَبِوُجُودِهِ حَصَلَ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ وَالْوَاضِعُ الْحَكِيمُ لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إِلَّا لِفَائِدَةٍ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنِ التَّوْكِيدِ بِالْحَرْفِ وَمَا مَعْنَاهُ إِذْ إِسْقَاطُ الْحَرْفِ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى؟ فَقَالَ: هَذَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الطِّبَاعِ إِذْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِوُجُودِ الْحَرْفِ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ لَا يَجِدُونَهُ بِإِسْقَاطِ الْحَرْفِ قَالَ وَمِثَالُ ذَلِكَ مِثَالُ الْعَارِفِ بِوَزْنِ الشِّعْرِ طَبْعًا فَإِذَا تَغَيَّرَ الْبَيْتُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَنْكَرَهُ وَقَالَ: أَجِدُ نَفْسِي عَلَى خِلَافِ مَا أَجِدُهُ بِإِقَامَةِ الْوَزْنِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَتَغَيَّرُ نَفْسُ الْمَطْبُوعِ عِنْدَ نُقْصَانِهَا وَيَجِدُ نَفْسَهُ بِزِيَادَتِهَا عَلَى مَعْنًى بِخِلَافِ مَا يجدها بنقضانه. الثَّانِي: حَقُّ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَرْفِ وَفِي الْأَفْعَالِ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَنَصَّ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُزَادُ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِالزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا} : إِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ مُقْحَمٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ مُخَادَعَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ آخِرًا وَحَشْوًا وَأَمَّا وُقُوعُهَا أَوَّلًا فَلَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ إِذْ قَضِيَّةُ الزِّيَادَةِ إِمْكَانُ اطِّرَاحِهَا وَقَضِيَّةُ التَّصْدِيرِ الِاهْتِمَامُ وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ بِزِيَادَةِ لَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أقسم بيوم الْقِيَامَةِ} . وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ آخَرَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى [إلا] والظاهر أنها ردا لِكَلَامٍ تَقَدَّمَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {أُقْسِمُ بيوم الْقِيَامَةِ} ،وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى [لَا] وَفِيهِ بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 فصل: في حروف الزيادة. الزِّيَادَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَالْبَاءِ في خبر ليس وما أو للتأكيد الْإِيجَابِ كَاللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ سَبْعَةٌ إِنْ وَأَنْ وَلَا وَمَا وَمِنْ وَالْبَاءُ وَاللَّامُ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَأْتِي فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ زَائِدَةً لَا أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلزِّيَادَةِ ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الزَّوَائِدِ فِيهَا فَقَدْ زَادُوا الْكَافَ وَغَيْرَهَا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الزِّيَادَةِ أن تكون بها. زيادة "إن ". فَأَمَّا إِنْ الْخَفِيفَةُ فَتَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا مَعَ مَا النافية كقول امرىء الْقَيْسِ: حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا فَمَا إِنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالِ أَيْ فَمَا حَدِيثٌ. فَزَادَ [إِنْ] لِلتَّوْكِيدِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنِ الْخَفِيفَةُ زَائِدَةٌ فَجَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا النَّافِيَةِ تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِهَا فَهُوَ عِنْدَ الْفَرَّاءِ مِنَ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ مِنَ التَّأْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مكناهم فيما إن مكناكم فيه} :أَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَقِيلَ نَافِيَةٌ وَالْأَصْلُ: [فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ] بِدَلِيلِ: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لم نمكن لكم} وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ مَا لِئَلَّا تَتَكَرَّرُ فَيُثْقُلُ اللَّفْظُ. وَوَهِمَ ابْنُ الْحَاجِبِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهَا تُزَادُ بَعْدَ [لَمَّا] الْإِيجَابِيَّةُ وَإِنَّمَا تِلْكَ في [أن] المفتوحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 زيادة "أن". وَأَمَّا أَنِ الْمَفْتُوحَةُ فَتُزَادُ بَعْدَ لَمَّا الظَّرْفِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سيء بهم} ،وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِزِيَادَتِهَا لِأَنَّ [لَمَّا] ظَرْفُ زَمَانٍ وَمَعْنَاهَا وُجُودُ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ وَظُرُوفُ الزَّمَانِ غير المتمكنة لا تضاف إلى المفرد [وأن] الْمَفْتُوحَةُ تَجْعَلُ الْفِعْلَ بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَلَمْ تَبْقَ [لَمَّا] مُضَافَةً إِلَى الْجُمَلِ فَلِذَلِكَ حُكِمَ بِزِيَادَتِهَا. وَجَعَلَ الْأَخْفَشُ مِنْ زِيَادَتِهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} ، {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْأَصْلُ: [وَمَا لَنَا فِي أَلَّا نَفْعَلَ كَذَا] ! فَلَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّهَا عملت النصب في المضارع. زيادة ما. وَأَمَّا [مَا] فَتُزَادُ بَعْدَ خَمْسِ كَلِمَاتٍ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فَتُزَادُ بَعْدَ [مِنْ] وَ [عَنْ] غَيْرَ كَافَّةٍ لَهُمَا عَنِ الْعَمَلِ وَتُزَادُ بَعْدَ الْكَافِ وَرُبَّ وَالْبَاءِ كَافَّةً [تَارَةً] وَغَيْرَ كَافَّةٍ أخرى. والكافة إِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَهِيَ الْمُتَّصِلَةُ بِإِنَّ وَأَخَوَاتِهَا، نَحْوَ: {إِنَّمَا اللَّهُ إله واحد} {كأنما يساقون إلى الموت} وَجَعَلُوا مِنْهَا {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء} ،وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى [الَّذِي] وَ [الْعُلَمَاءُ] خَبَرٌ وَالْعَائِدُ مُسْتَتِرٌ فِي [يَخْشَى] وَأُطْلِقَتْ [مَا] عَلَى جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} وَإِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وَقِيلَ: بَلْ مَوْصُولَةٌ، أَيْ [كَالَّذِي هُوَ لَهُمْ آلِهَةٌ] . وَغَيْرُ الْكَافَّةِ تَقَعُ بَعْدَ الْجَازِمِ نَحْوَ: {وإما ينزغنك} ، {أيا ما تدعوا} . {أينما تكونوا} . وبعد الخافض حرفا كان: {فبما رحمة من الله} . {فبما نقضهم ميثاقهم} . {عما قليل} . {مما خطيئاتهم} أو اسما نحو: {أيما الأجلين قضيت} . وَتُزَادُ بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ جَازِمَةً، كَانَتْ نَحْوَ: {أينما تكونوا يدرككم الموت} . أَوْ غَيْرَ جَازِمَةٍ، نَحْوَ: {حَتَّى إِذَا مَا جاءوها شهد عليهم سمعهم} . وَبَيْنَ الْمَتْبُوعِ وَتَابِعِهِ، نَحْوَ: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا حَرْفٌ زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ عِنْدَ جميع البصريين. وَيُؤَيِّدُهُ سُقُوطُهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَ [بعوضة] بدلا وَقِيلَ: [مَا] اسْمُ نَكِرَةٍ صِفَةٌ لِـ[مَثَلًا] أَوْ بَدَلٌ وَ [بَعُوضَةً] عَطْفُ بَيَانٍ. وَقِيلَ: في قوله: {فقليلا ما يؤمنون} بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ الْكَلَامِ، نَحْوَ:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 {فبما رحمة} و [قليلا} فِي مَعْنَى النَّفْيِ أَوْ لِإِفَادَةِ التَّقْلِيلِ كَمَا فِي نَحْوِ: [أَكَلْتُ أَكْلًا مَا] ،وَعَلَى هَذَا فيكون: [فقليلا بعد قليل] . زيادة "لا". وَأَمَّا [لَا] فَتُزَادُ مَعَ الْوَاوِ بَعْدَ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} ،لِأَنَّ [اسْتَوَى] مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَطْلُبُ اسْمَيْنِ أَيْ لَا تَلِيقُ بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ نَحْوَ [اخْتَصَمَ] فَعُلِمَ أَنَّ [لَا] زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ فِي السيئة لتحقق أنه لاتساوي الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَلَا السَّيِّئَةُ الْحَسَنَةَ. وَتُزَادُ بَعْدَ [أَنِ] الْمَصْدَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ،أَيْ لِيَعْلَمَ وَلَوْلَا تَقْدِيرُ الزِّيَادَةِ لَانْعَكَسَ الْمَعْنَى فَزِيدَتْ [لَا] لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ قَالَهُ ابْنُ جِنِّي. وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ مَلْكُونَ، بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ نَفْيٌ حَتَّى تَكُونَ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ السكونى بِأَنَّ هُنَا مَا مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ قَوْلِهِ: {أَلَّا يَقْدِرُونَ على شيء} ،وَيَكُونُ هَذَا مِنْ وُقُوعِ النَّفْيِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمُرَادُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ كَقَوْلِهِ: [مَا عَلِمْتُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدًا] فَأَبْدَلْتَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي [يَقُولُ] مَا بَعْدَ [إِلَّا] وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْيِ فَكَمَا كَانَ النَّفْيُ هُنَا وَاقِعًا عَلَى الْعِلْمِ وَحُكِمَ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بحكمه كذلك يكون تأكيدا النفي أيضا على ما وقع علي العلم ويحكم للعلم بحكم النفي فيدخل عل الْعِلْمِ تَوْكِيدُ النَّفْيِ وَالْمُرَادُ تَأْكِيدُ نَفْيِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وَإِذَا كَانُوا قَدْ زَادُوا لَا فِي الْمُوجَبِ الْمَعْنَى لَمَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مَنْفِيٌّ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} ،الْمَعْنَى [أَنْ تَسْجُدَ] ، فَزَادَ [لَا] تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ [مَنَعَكَ] فَكَذَلِكَ تُزَادُ [لَا] فِي الْعِلْمِ الْمُوجَبِ تَوْكِيدًا لِلنَّفْيِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْمُوَجَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّلُوبِينُ: وَأَمَّا زِيَادَةُ [لَا] في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} ،فَشَيْءٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ إِلَّا عَلَى زِيَادَةِ [لَا] فِيهَا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا بَعْدَهُ يَقْتَضِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ: {لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ [لِكَيْ يَعْلَمَ] وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ تَفْسِيرٌ لِزِيَادَتِهَا وَسَبَبُ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَّا وَكَفَرُوا مَعَ ذَلِكَ بِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} الآية. ومنه: {ما منعك أن لا تسجد} ، بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} ،وَلَيْسَ الْمَعْنَى مَا مَنَعَكَ مِنْ تَرْكِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّوْبِيخُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا دَعَاكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ لِأَنَّ الصَّارِفَ عَنِ الشَّيْءِ دَاعٍ إِلَى تَرْكِهِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْفِعْلِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا مَنَعَكَ مِنْ أَلَّا تَسْجُدَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وَهَذَا أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ فِيهِ إِبْقَاءُ الْمَنْعِ عَلَى أَصْلِهِ وَعَدَمُ زِيَادَتِهَا أَوْلَى لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ [أَنْ] كَثِيرٌ كَثْرَةً لَا تَصِلُ إِلَى الْمَجَازِ وَالزِّيَادَةِ فِي دَرَجَتِهِ. قَالُوا: وَفَائِدَةُ زِيَادَتِهَا تَأْكِيدُ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّ وَضْعَ [لَا] نَفْيُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُصُولَ الْحُكْمِ مَعَ الْمُعَارِضِ أَثْبَتُ مِمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَرِضْهُ الْمُعَارِضُ أَوْ أَسْقَطَ مَعْنَى مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْقُطَ. وَمِنْهُ: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا. ألا تتبعن} . وَقِيلَ: وَقَدْ تُزَادُ قَبْلَ الْقَسَمِ نَحْوَ: {فَلَا أقسم برب المشارق والمغارب} . {فلا أقسم بمواقع النجوم} . {لا أقسم بيوم الْقِيَامَةِ} ، أَيْ أُقْسِمُ بِثُبُوتِهَا. وَضُعِّفَ فِي الْأَخِيرَةِ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَدْرًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا بين الفا وَمَعْطُوفِهَا. وَقِيلَ: زِيدَتْ تَوْطِئَةً لِنَفْيِ الْجَوَابِ، أَيْ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُتْرَكُونَ سُدًى. وَرَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} الْآيَاتِ. فَإِنَّ جَوَابَهُ مُثْبَتٌ وَهُوَ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الأنسان في كبد} . وَقِيلَ: غَيْرُ زَائِدَةٍ. وَقِيلَ: هِيَ رَدٌّ لِكَلَامٍ قَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِادِّعَاءُ فِي سُورَةٍ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي أُخْرَى فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى [لَا] هَذِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ} . فَقِيلَ: زَائِدَةٌ لِيَصِحَّ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الشِّرْكُ. وَقِيلَ: نَافِيَةٌ أَوْ نَاهِيَةٌ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ تَمَّ عند قوله: {حرم ربكم} ،ثم ابتدأ: {عليكم ألا تشركوا به} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يؤمنون} ،فِيمَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ فَقِيلَ [لَا] زَائِدَةٌ وَإِلَّا لَكَانَ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ. وَرَدَّهُ الزَّجَّاجُ: بِأَنَّهَا نَافِيَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْكَسْرِ4 فَيَجِبُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: نَافِيَةٌ وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ أَيْ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أنهم لا يرجعون} . وَقِيلَ: [لَا] زَائِدَةٌ وَالْمَنْعُ: مُمْتَنِعٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَعَلَى هَذَا فَـ[حَرَامٌ] خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وُجُوبًا لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ أَنَّ [وَصِلَتُهَا] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا} عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ {يَأْمُرَكُمْ} عَطْفًا عَلَى {يُؤْتِيَهُ} فَـ[لَا] زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى النَّفْيِ السَّابِقِ. وَقِيلَ: عُطِفَ عَلَى {يَقُولَ} ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُنَصِّبَهُ اللَّهُ لِلدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ الْأَنْدَادِ ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ وَيَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْهَى قُرَيْشًا عَنْ عِبَادَةِ الملائكة وأهل الكتاب عن عبادة عزيز وَعِيسَى فَلَمَّا قَالُوا لَهُ: أَنَتَّخِذُكَ رَبًّا؟ قِيلَ لَهُمْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَيَنْهَاهُمْ عن عبادة الملائكة والأنبياء. زيادة "من". وَأَمَّا [مِنْ] فَإِنَّهَا تُزَادُ فِي الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ نَفْيٍ أَوْ شَبَهِهِ، نَحْوَ: {وَمَا تَسْقُطُ من ورقة إلا يعلمها} . {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فارجع البصر هل ترى من فطور} . {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ معه من إله} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ زِيَادَتَهَا مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِنَحْوِ قَوْلِهِ تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} . {يغفر لكم من ذنوبكم} . {يحلون فيها من أساور من ذهب} . {ويكفر عنكم من سيئاتكم} . وَأَمَّا [مَا] فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رحمة من الله لنت لهم} وقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} فَـ[مَا] فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ زَائِدَةٌ إِلَّا أَنَّ فِيهَا فَائِدَةً جَلِيلَةً وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَبِنَقْضِهِمْ لَعَنَّاهُمْ جَوَّزْنَا أَنَّ اللِّينَ وَاللَّعْنَ كَانَا لِلسَّبَبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَدْخَلَ [مَا] فِي الْمَوْضُوعَيْنِ قَطَعْنَا بِأَنَّ اللِّينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلرَّحْمَةِ وَأَنَّ اللَّعْنَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِأَجْلِ نقض الميثاق. زيادة "الباء". وَأَمَّا [الْبَاءُ] فَتُزَادُ فِي الْفَاعِلِ نَحْوَ: {كَفَى بِاللَّهِ} ،أَيْ كَفَى اللَّهُ وَنَحْوَ [أَحْسِنْ بِزَيْدٍ!] إِلَّا أَنَّهَا فِي التَّعَجُّبِ لَازِمَةٌ وَيَجُوزُ حَذْفُهَا في فاعل {كفى بالله شهيدا} ، {وكفى بنا حاسبين} وَإِنَّمَا هُوَ [كَفَى اللَّهُ] وَ [كَفَانَا] . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دَخَلَتْ لِتَضَمُّنِ [كَفَى] مَعْنَى اكْتَفَى وَهُوَ حَسَنٌ. وَفِي الْمَفْعُولِ، نَحْوَ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة} لِأَنَّ الْفِعْلَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَلْقَيْنَا فيها رواسي} ،ونحو: {وهزي إليك بجذع النخلة} . {ألم يعلم بأن الله يرى} . {فليمدد بسبب إلى السماء} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} . {فطفق مسحا بالسوق والأعناق} ،أَيْ يَمْسَحُ السُّوقَ مَسْحًا. وَقِيلَ: فِي الْأَوَّلِ ضَمَّنَ [تُلْقُوا] مَعْنَى [تُفْضُوا] . وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبَبِ أَيْدِيكُمْ كَمَا يُقَالُ لَا تُفْسِدْ أَمْرَكَ بِرَأْيِكَ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تنبت بالدهن} :إِنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ وَالْمُرَادُ: [تُنْبِتُ الدُّهْنَ] . وَفِي المبتدأ، وهو قليل ومنه عند سيبويه: {بأيكم المفتون} . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: {بِأَيِّكُمْ} مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِقْرَارٍ مَحْذُوفٍ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِالْمَفْتُونِ ثُمَّ اخْتُلِفَ فَقِيلَ: [الْمَفْتُونُ] مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفِتْنَةِ وَقِيلَ: الْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ فِي أَيِّكُمُ الْجُنُونُ. وَفِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، نَحْوَ: {جزاء سيئة بمثلها} . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . وَفِي خَبَرِ لَيْسَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . {أليس الله بكاف عبده} . وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي [الْمُقَرَّبِ] : وَتُزَادُ فِي نَادِرِ كَلَامٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بقادر على أن يحيي الموتى} . انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وَمُرَادُهُ الْآيَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بخلقهن بقادر} وَلِذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ الْآيَةُ الَّتِي فِي [الْإِسْرَاءِ] : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لهم أجلا لا ريب فيه} . وَزَعَمَ ابْنُ النَّحَّاسِ أَنَّهُ أَرَادَ الْآيَةَ الْأُولَى، أَعْنِي قَوْلَهُ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ، فَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ فِي خَبَرِ لَيْسَ - لِأَنَّ [لَيْسَ] هُنَا بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَاهَا مِنَ النَّفْيِ فَصَارَ الْكَلَامُ تَقْرِيرًا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ فِي [نادر] في القياس لا في الاستعمال. زيادة "اللام". وَأَمَّا اللَّامُ، فَتُزَادُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ: كَقَوْلِهِ: وَمَلَكْتَ مَا بَيْنَ الْعِرَاقِ وَيَثْرِبَ ... مُلْكًا أَجَارَ لِمُسْلِمٍ وَمُعَاهِدِ وَجَعَلَ مِنْهُ الْمُبَرِّدُ قَوْلَهُ تعالى: {ردف لكم} ،وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ ضُمِّنَ [رَدِفَ] مَعْنَى: اقْتَرَبَ كقوله: {اقترب للناس حسابهم} . وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لكم ويهديكم} ،فَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: لِلتَّعْلِيلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّبْيِينَ وَلِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ أَيْ فَيَجْمَعُ لَكُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أكون أول المسلمين} ،فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: لَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ مَزِيدَةً مِثْلَهَا فِي [أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ] وَلَا تُزَادُ إِلَّا مَعَ [أَنْ] خَاصَّةً دُونَ الِاسْمِ الصَّرِيحِ كَأَنَّهَا زِيدَتْ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ إِلَى مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا أَتَتِ السِّينُ فِي [أَسْطَاعَ] يَعْنِي بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ [أَطُوعُ] وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَجِيئُهُ بِغَيْرِ لَامٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأمرت أن أكون من المسلمين} . انْتَهَى. وَزِيَادَتُهَا فِي [أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ] لَمْ يَذْكُرْهُ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لَهَا فِي إعراب: {يريد الله ليبين لكم} . وَتُزَادُ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ الضَّعِيفِ إِمَّا لِتَأَخُّرِهِ نَحْوَ: {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} ،ونحو: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} . أَوْ لِكَوْنِهِ فَرْعًا فِي الْعَمَلِ، نَحْوَ: {مُصَدِّقًا لما معهم} ، {فعال لما يريد} ، {نزاعة للشوى} . وَقِيلَ مِنْهُ: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} ،وَقِيلَ: بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُسْتَقَرٍّ مَحْذُوفٍ صِفَةً لِعَدُوٍّ وَهِيَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ التَّأَخُّرُ وَالْفَرْعِيَّةُ، فِي نحو: {وكنا لحكمهم شاهدين} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وأما قوله تعالى: {نذيرا للبشر} ،فَإِنْ كَانَ [نَذِيرًا] بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ، فَهُوَ مِثْلَ: {فعال لما يريد} ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ فَاللَّامُ مِثْلُهَا فِي: [سُقْيًا لِزَيْدٍ] . وَقَدْ تَجِيءُ اللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ النَّفْيِ وَتُسَمَّى لَامَ الْجُحُودِ وَتَقَعُ بَعْدَ [كَانَ] مثل: {وما كان الله ليعذبهم} ،اللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَالْبَاءِ الدَّاخِلَةِ فِي خَبَرِ [لَيْسَ] ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: [إِنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ] أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا كُنْتُ أَضْرِبُكَ. بِغَيْرِ لَامٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مِمَّا يَجُوزُ كَوْنُهُ فَإِذَا قُلْتَ مَا كُنْتُ لِأَضْرِبَكَ فَاللَّامُ جَعَلَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَكُونُ أَصْلًا. وَقَدْ تَأْتِي مُؤَكَّدَةً فِي مَوْضِعٍ وَتُحْذَفُ فِي آخَرَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تبعثون} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ تَأْكِيدَيْنِ وَأَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَكَانَ الْمُتَبَادَرُ الْعَكْسَ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ الْإِنْكَارُ لَكِنْ فِي النَّظْمِ وُجُوهٌ:. أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَعْثَ لَمَّا قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَيْهِ صَارَ الْمُنْكِرُ لَهُ كَالْمُنْكِرِ لِلْبَدَهِيَّاتِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مَا بَعْدَهُ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُنَزَّلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكِرِ إِذَا كَانَ معه مالو تَأَمَّلَهُ ارْتَدَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ. وَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنَ التَّمَادِي فِي الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ العمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 لِمَا بَعْدَهُ وَالِانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ مِنْ أَمَارَاتِ إِنْكَارِ الْمَوْتِ فَلِهَذَا قَالَ: [مَيِّتُونَ] وَلَمْ يَقُلْ: تَمُوتُونَ وَإِنَّمَا أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا لِظُهُورِ أَدِلَّتِهِ الْمُزِيلَةِ لِلْإِنْكَارِ إِذَا تَأَمَّلُوا فِيهَا وَلِهَذَا قِيلَ: تُبْعَثُونَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ [تَمُوتُونَ] . الثَّانِي: أَنَّ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى مَيِّتُونَ أَحَقُّ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَرُدُّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْبَعْثِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَكَّدَهُ وَكَذَّبَ مُنْكِرَهُ كَقَوْلِهِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن} قَالَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْفِرْكَاحِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ اسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ اللَّامِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: [لَتُبْعَثُونَ] وَاسْتُغْنِيَ بِهَا فِي الثَّانِي لِذِكْرِهَا فِي الْأَوَّلِ. الرَّابِعُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بُولِغَ فِي تَأْكِيدِ الْمَوْتِ تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَرَقُّبِهِ فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ أُكِّدَتْ جُمْلَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِيهَا غَايَةَ السَّعْيِ كَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ وَلَمْ يُؤَكِّدْ جُمْلَةَ الْبَعْثِ إِلَّا بِـ[إِنَّ] لِأَنَّهُ أُبْرِزَ بِصُورَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا يَقْبَلُ إِنْكَارًا. قُلْتُ: هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتُوجِبُ مَا جَاءَتِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَذْفُ اللَّامِ فِي [تُبْعَثُونَ] لِأَنَّ اللَّامَ تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ فَلَا يُجَاءُ بِهِ مَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ وَلِأَنَّ تُبْعَثُونَ عَامِلٌ فِي الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَنَظِيرُ هَذَا آيَةُ الْوَاقِعَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون} . وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمَاءِ: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أجاجا} بِغَيْرِ لَامٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:. أَحَدُهَا: أَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَاءِ مِلْحًا أَسْهَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ جَعْلِ الْحَرْثِ حُطَامًا إِذِ الْمَاءُ الْعَذْبُ يَمُرُّ بِالْأَرْضِ السَّبْخَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا فَالتَّوَعُّدُ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَعَّدَ عَبْدَهُ بِالضَّرْبِ بِعَصَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْكِيدٍ وَإِذَا تَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ احْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ جَعْلَ الْحَرْثِ حُطَامًا قَلْبٌ لِلْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَجَعْلَ الْمَاءِ أُجَاجًا قَلْبٌ لِلْكَيْفِيَّةِ فَقَطْ وَهُوَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ. الثَّالِثُ: أَنَّ [لَوْ] لَمَّا كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُعَلِّقَةً ثَانِيَتَهُمَا بِالْأُولَى تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ [بِالشَّرْطِ] أَتَى بِاللَّامِ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ حَذَفَ الثَّانِي للعلم بها لأن الشيء إذا علم [وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به] لم يبال بإسقاطه عن اللفظ [استغناء بمعرفة السامع] وَيُسَاوِي لِشُهْرَتِهِ حَذْفَهُ وَإِثْبَاتَهُ مَعَ مَا فِي حَذْفِهِ مِنْ خِفَّةِ اللَّفْظِ وَرَشَاقَتِهِ لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهَا - وَالْمَسَافَةُ قَصِيرَةٌ - يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهَا ثَانِيًا. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّامَ أُدْخِلَتْ فِي آيَةِ الْمَطْعُومِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى أَمْرِ الْمَشْرُوبِ وَأَنَّ الْوَعِيدَ بِفَقْدِهِ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ ولهذا قدمت آيَةِ الْمَطْعُومِ عَلَى آيَةِ الْمَشْرُوبِ ذَكَرَهَا وَالَّذِي قَبْلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمِنْ ذَلِكَ حَذْفُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 والرسول} وَإِثْبَاتُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَالْجَوَابُ أَنَّكَ إِذًا عَطَفْتَ عَلَى مَجْرُورٍ.. الْقِسْمُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: بَابُ الِاشْتِغَالِ. فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا أُضْمِرَ ثُمَّ فُسِّرَ كَانَ أَفْخَمَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ إِضْمَارٌ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَجِدُ اهْتِزَازًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أحد من المشركين استجارك فأجره} . وَفِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رحمة ربي} . وَفِي قَوْلِهِ: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أعد لهم عذابا أليما} . وَفِي قَوْلِهِ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} - لا تجد مثله إذا قُلْتَ: وَإِنِ اسْتَجَارَكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَجِرْهُ. وَقَوْلُكَ: لَوْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي. وَقَوْلُكَ: {يدخل من يشاء في رحمته وأعد لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} وَقَوْلُكَ: هَدَى فَرِيقًا وَأَضَلَّ فَرِيقًا إِذِ الْفِعْلُ الْمُفَسَّرُ فِي تَقْدِيرِ الْمَذْكُورِ مَرَّتَيْنِ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، {إذا السماء انفطرت} ،وَنَظَائِرُهُ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ بضميره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 الْقِسْمُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: التَّعْلِيلُ. بِأَنْ يَذَكُرَ الشَّيْءَ مُعَلَّلًا فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَا عِلَّةٍ لِوَجْهَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ قَاضِيَةٌ بِعُمُومِ الْمَعْلُولِ وَلِهَذَا اعْتَرَفَتِ الظَّاهِرِيَّةُ بِالْقِيَاسِ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ. الثَّانِي: أَنَّ النُّفُوسَ تَنْبَعِثُ إِلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَغَالِبُ التَّعْلِيلِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِ سُؤَالٍ اقْتَضَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَهُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْعِلَّةِ. وَمِنْهُ: {إن النفس لأمارة بالسوء} . {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} . {إن صلاتك سكن لهم} . وَتَوْضِيحُ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْفَاءَ السَّبَبِيَّةَ لَوْ وُضِعَتْ مَكَانَ [إِنَّ] لَحَسُنَ. وَالطُّرُقُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعِلَّةِ أَنْوَاعٌ:. الْأَوَّلُ: التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حكمة بالغة} . وقال: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} ،وَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ النَّافِعُ. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 الثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا لِكَذَا أَوْ أَمَرَ بِكَذَا لِكَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا} . {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} . {لئلا يعلم أهل الكتاب} . {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم} . {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} . {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قلوبكم به} وَهُوَ كَثِيرٌ. فَإِنْ قِيلَ: اللَّامُ فِيهِ لِلْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ،وقوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} ،وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ أَيْ لَا تَجِبُ وَلَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْحِكْمَةِ وَقَدْ أَجَابَ الْمَلَائِكَةَ عَنْ قَوْلِهِمْ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفسد فيها} بقوله: {قال إني أعلم ما لا تعلمون} . وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ سُبْحَانَهُ مْجَرَّدًا عَنِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ لَمْ يَسْأَلِ الْمَلَائِكَةُ عَنْ حِكْمَتِهِ وَلَمْ يَصِحَّ الْجَوَابُ بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصَالِحِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 وَلِأَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَجْهَلُ الْعَاقِبَةَ كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا اللَّامُ الْوَارِدَةُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ لَامُ الْحِكْمَةِ وَالْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْحِكْمَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِالْتِقَاطِهِ وَتَقْدِيرِهِ لَهُمْ فَإِنَّ التقاطهم لهم إِنَّمَا كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَذَكَرَ فِعْلَهُمْ دُونَ قَضَائِهِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي كَوْنِهِ حَزَنًا لَهُمْ وَحَسْرَةً عَلَيْهِمْ. قَاعِدَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ:. حَيْثُ دَخَلَتْ وَاوُ الْعَاطِفِ عَلَى لَامِ التَّعْلِيلِ فَلَهُ وَجْهَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مُعَلِّلُهُ مَحْذُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} ، فَالْمَعْنَى وَلِلْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُضْمَرَةٍ لِيُظْهِرَ صِحَّةَ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السماوات والأرض بالحق ولتجزى} ، التَّقْدِيرُ: لِيَسْتَدِلَّ بِهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَلِتُجْزَى. وَكَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ولنعلمه} ، التَّقْدِيرُ: لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا وَلِنُعَلِّمَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَفِي الثَّانِي عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ. وَقَدْ يَحْتَمِلُهُمَا الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً فِعْلُنَا ذَلِكَ، وَعَلَى الثَّانِي: وَلِنُبَيِّنَ لِلنَّاسِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً وَيَطَّرِدُ الْوَجْهَانِ فِي نَظَائِرِهِ وَيُرَجَّحُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَحَذْفُ الْمُعَلِّلِ هَاهُنَا أَرْجَحُ إِذْ لَوْ فَرَضَ عِلَّةً أُخْرَى لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُعَلِّلٍ مَحْذُوفٍ وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّرَ الْمُعَلِّلُ مُؤَخَّرًا؟. قُلْتُ: فَائِدَةُ هَذَا الْأُسْلُوبِ هُوَ أَنْ يُجَاءَ بِالْعِلَّةِ بِالْوَاوِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عِلَّةً أُخْرَى لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ اخْتِصَاصُ ذِكْرِهَا لِكَوْنِهَا أَهَمُّ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مُعَلِّلٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا لِيُشْعِرَ تَقْدِيمُهُ بِالِاهْتِمَامِ. الثَّالِثُ: الْإِتْيَانُ بِكَيْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ،فَعَلَّلَ سُبْحَانَهُ الْفَيْءَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ كَيْلَا يَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ. وَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إن ذلك على الله يسير. لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم} ،وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ الْأَنْفُسُ أَوِ الْمُصِيبَةُ أَوِ الْأَرْضُ أَوِ الْمَجْمُوعُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ هَيِّنٌ عَلَيْهِ وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ الَّتِي مِنْهَا أَلَّا يَحْزَنَ عِبَادُهُ عَلَى مَا فَاتَهُمْ وَلَا يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِيهِ مُقَدَّرَةٌ كَائِنَةٌ وَلَا بُدَّ قَدْ كُتِبَتْ قَبْلَ خَلْقِهِمْ هَانَ عَلَيْهِمُ الْفَائِتُ فَلَمْ يَأْسُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْرَحُوا. الرَّابِعُ: ذِكْرُ الْمَفْعُولِ لَهُ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ بِهِ كَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وَنَصْبُ ذَلِكَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ للناس ما نزل إليهم} . وقوله: {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} . وقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} ،أَيْ لِأَجْلِ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} . وقوله: {فالملقيات ذكرا. عذرا أو نذرا} ،أَيْ لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَدْ يَكُونُ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حذر الموت} ،فَـ[مِنَ الصَّوَاعِقِ] يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ [مِنْ] لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ خَوْفًا مِنَ الصَّوَاعِقِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَلِّلَةً بِمَعْنَى اللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} أَيْ لِغَمٍّ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَـ[مِنَ الصَّوَاعِقِ] فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَالْعَامِلُ فِيهِ [يَجْعَلُونَ] . [وَحَذَرَ الْمَوْتِ] مَفْعُولٌ لَهُ أَيْضًا فَالْعَامِلُ فِيهِ [مِنَ الصَّوَاعِقِ] فَـ[مِنَ الصَّوَاعِقِ] عِلَّةٌ لِـ[يَجْعَلُونَ] . مَعْلُولٌ لِحَذَرَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ [مِنَ الصَّوَاعِقِ] يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِنَا: لِمَ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ؟ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ [حَذَرَ الْمَوْتِ] يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِنَا: لِمَ يَخَافُونَ مِنَ الصَّوَاعِقِ؟ فَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ. الْخَامِسُ: اللَّامُ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وَتَقُومُ مَقَامَهُ الْبَاءُ، نَحْوَ: {فبظلم من الذين هادوا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ومن، نحو: {من أجل ذلك كتبنا} . وَالْكَافُ، نَحْوَ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} ،وقال: {فاذكروني أذكركم} ،وقال: {فاذكروا الله كما علمكم} أَيْ لِإِرْسَالِنَا وَتَعْلِيمِنَا. السَّادِسُ: الْإِتْيَانُ بِإِنَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} . {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} . {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} . وَكَقَوْلِهِ: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يسرون وما يعلنون} ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ لَمَا حَزِنَ الرَّسُولُ وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْجُمْلَةِ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ قَوْلُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إن العزة لله جميعا} وَالْوَقْفُ عَلَى الْقَوْلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَالِابْتِدَاءُ بإن لازم. وقد يكون علة كَقَوْلِهِ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا. إِنَّهَا سَاءَتْ مستقرا ومقاما} وَفِيهَا وَجْهَانِ لِأَهْلِ الْمَعَانِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُؤَالَهُمْ لِصَرْفِ الْعَذَابِ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ غَرَامٌ أَيْ مُلَازِمٌ الْغَرِيمَ وَبِأَنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا. الثَّانِي: أَنَّ [سَاءَتْ] . تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ غَرَامًا. السَّابِعُ: أَنَّ وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الكتاب على طائفتين من قبلنا} . وقوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} . وَقَوْلِهِ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ألا يجدوا ما ينفقون} . كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ؟ قِيلَ: لِلْحُزْنِ، فَقِيلَ: لِمَ حَزِنُوا؟ فَقِيلَ: لِئَلَّا يَجِدُوا. وَقَوْلِهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَفِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ:. أَحَدُهُمَا: لِلْكُوفِيِّينَ، أَنَّ الْمَعْنَى لِئَلَّا يَقُولُوا وَلِئَلَّا تَقُولُ نَفْسٌ. الثَّانِي: لِلْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا أَوْ حَذَارِ أَنْ يَقُولُوا فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الطَّرِيقَانِ فِي قَوْلُهُ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ؟ فَإِنَّكَ إِذَا قَدَّرْتَ: [لِئَلَّا تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا] لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُ [فَتُذَكِّرَ] عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَّرْتَ: [حَذَارِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا] لَمْ يَسْتَقِمِ الْعَطْفُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الضَّلَالَةُ عِلَّةً لشهادتهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 قِيلَ: بِظُهُورِ الْمَعْنَى يَزُولُ الْإِشْكَالُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت نسيت، فَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ سَبَبًا لِلْإِذْكَارِ جُعِلَ مَوْضِعَ العلة، تَقُولُ: [أَعْدَدْتُ هَذِهِ الْخَشَبَةَ أَنْ تَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمُ بِهَا] ، فَإِنَّمَا أَعْدَدْتُهَا لِلدَّعْمِ لَا لِلْمَيْلِ، وَأَعْدَدْتُ هَذَا الدَّوَاءَ أَنْ أَمْرَضَ فَأُدَوَاى بِهِ وَنَحْوُهُ. هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: تَقْدِيرُهُ فِي: [تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] إِنْ ضَلَّتْ فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ اتَّصَلَ بِمَا قَبْلَهُ فَفُتِحَتْ أَنْ. الثَّامِنُ: [مِنْ أَجْلِ] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنه من قتل نفسا بغير نفس} فَإِنَّهُ لِتَعْلِيلِ الْكَتْبِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْوَقْفُ على: {من النادمين} وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّادِمِينَ} ،أَيْ مِنْ أَجْلِ قَتْلِهِ لِأَخِيهِ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ يُشَوِّشُ صِحَّةَ النَّظْمِ وَيُخِلُّ بِالْفَائِدَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ لِلْآخَرِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ عَلَى أُمَّةٍ أُخْرَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ؟ وَإِذَا كَانَ عِلَّةً فَكَيْفَ كَانَ قَتْلُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ قَاتِلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ؟. قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - يَجْعَلُ أَقْضِيَتَهُ وَأَقْدَارَهُ عِلَلًا لِأَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمْرِهِ فَجَعَلَ حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ عِلَّةً لِحِكْمَةِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَ مِنْ أَعْلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَخَّمَ أَمَرَهُ وَعَظَّمَ شَأْنَهُ وجعل أنمة أَعْظَمَ مِنْ إِثْمِ غَيْرِهِ وَنَزَّلَ قَاتِلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مَنْزِلَةَ قَاتِلِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا فِي أَصْلِ العذاب لا في وصفه. التاسع: التعليل بلعل، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ من قبلكم لعلكم تتقون} ، قِيلَ: هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: [اعْبُدُوا] ، وَقِيلَ لِقَوْلِهِ: [خَلَقَكُمْ] . وَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ من قبلكم لعلكم تتقون} حَيْثُ لُمِحَ فِيهَا مَعْنَى الرَّجَاءِ رَجَعَتْ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ. الْعَاشِرُ: ذِكْرُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ عَقِبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، فَتَارَةً يُذْكَرُ بِأَنَّ وَتَارَةً بِالْفَاءِ وَتَارَةً يُجَرَّدُ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فردا وأنت خير الوارثين} إلى قوله: {خاشعين} . وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ محسنين} . والثاني: كقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جلدة} . وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادخلوها بسلام} {إن الذين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يحزنون} . الْحَادِي عَشَرَ: تَعْلِيلُهُ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لبغوا في الأرض} . {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كذب بها الأولون} ، أَيْ آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ لَا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ الَّتِي تَأْتِي مِنْهُ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً. وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فصلت آياته} . وقوله: {وقالوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لقضي الأمر} ،فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَمْنَعُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَيَانًا بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهُ وَإِنَّ عِنَايَتَهُ وَحِكْمَتَهُ بِخَلْقِهِ اقضت مَنْعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَ ثُمَّ عَايَنُوهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ جعل الرَّسُولُ بَشَرًا لِيُمْكِنُهُمُ التَّلَقِّي عَنْهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَلَوْ جَعَلَهُ مَلَكًا فَإِمَّا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ أَوْ يَجْعَلَهُ عَلَى هَيْئَةِ الْبَشَرِ وَالْأَوَّلُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّلَقِّي عَنْهُ وَالثَّانِي لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إِذَا كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ. الثَّانِي عَشَرَ: إِخْبَارُهُ عَنِ الْحِكَمِ والغايات التني جَعَلَهَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، كَقَوْلِهِ:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وأنزل من السماء ماء} الآية. وقوله: {ألم نجعل الأرض مهادا} الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} . الْآيَةَ. وَكَمَا يَقْصِدُونَ الْبَسْطَ وَالِاسْتِيفَاءَ يَقْصِدُونَ الْإِجْمَالَ وَالْإِيجَازَ كَمَا قِيلَ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 الْأُسْلُوبُ الثَّانِي: الْحَذْفُ. وَهُوَ لُغَةً الْإِسْقَاطُ، وَمِنْهُ حَذَفْتُ الشِّعْرَ إِذَا أَخَذْتُ مِنْهُ. وَاصْطِلَاحًا إِسْقَاطُ جُزْءِ الْكَلَامِ أَوْ كُلِّهِ لِدَلِيلٍ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ الْحَذْفُ لِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَيُسَمَّى اقْتِصَارًا، فَلَا تَحْرِيرَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلْتَبِسُ بِهِ الْإِضْمَارُ وَالْإِيجَازُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ شَرْطَ الْحَذْفِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يَكُونَ [فِي الْحَذْفِ] ثَمَّ مُقَدَّرٌ، نَحْوَ: {وَاسْأَلِ القرية} بِخِلَافِ الْإِيجَازِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الجامع للمعاني الجمة بنفسه. والفرق بينه وَبَيْنَ الْإِضْمَارِ: أَنَّ شَرْطَ الْمُضْمَرِ بَقَاءُ أَثَرِ الْمُقَدَّرِ فِي اللَّفْظِ، نَحْوَ: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . {ويعذب المنافقين} . {انتهوا خيرا لكم} . أَيِ ائْتُوا أَمْرًا خَيْرًا لَكُمْ وَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَذْفِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِضْمَارِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُقَدَّرِ بَابُ الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّهُ مِنْ أَضْمَرْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ، قَالَ: سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وَأَمَّا الْحَذْفُ فَمِنْ حَذَفْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وَهُوَ يُشْعِرُ بِالطَّرْحِ بِخِلَافِ الْإِضْمَارِ وَلِهَذَا قَالُوا: [أَنْ] تَنْصُبُ ظَاهِرَةً وَمُضْمَرَةً. وَرَدَّ ابْنُ مَيْمُونٍ قَوْلَ النُّحَاةِ: إِنَّ الْفَاعِلَ يُحْذَفُ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ وَقَالَ الصَّوَابُ: أَنْ يُقَالَ: يُضْمَرُ وَلَا يُحْذَفُ لِأَنَّهُ عُمْدَةٌ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي [خَاطِرِيَّاتِهِ] : مِنَ اتِّصَالِ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ أَنَّكَ تُضْمِرُهُ فِي لَفْظٍ إِذَا عَرَفْتَهُ نَحْوَ قُمْ وَلَا تَحْذِفَهُ كَحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِسَائِيُّ فِي ضَرَبَنِي وضربت قومك. فصل: في أن الحذف نوع من أنواع المجاز على المشهور. الْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَذْفَ مَجَازٌ وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي [التَّلْخِيصِ] عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْحَذْفَ لَيْسَ بِمَجَازٍ إِذْ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْحَذْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ: وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ عَيْنُ الْمَجَازِ أَوْ مُعْظَمُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَلَيْسَ كُلُّ حَذْفٍ مجازا. انتهى. وقال الزبخاني فِي [الْمِعْيَارِ] : إِنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا تَغَيَّرَ بسببه حكم،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ حُكْمٌ كَقَوْلِكَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو بِحَذْفِ الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَالْمَحْذُوفُ لَيْسَ كذلك لعدم استعماله وإن أريد بالمجاز إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِهِ - وَهُوَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ - فالحذف كذلك. فصل: في أن الحذف خلاف الأصل. وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي فَرْعَانِ:. أَحَدُهُمَا: إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْحَذْفِ وَعَدَمِهِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى عَدَمِهِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ. وَالثَّانِي: إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ قِلَّةِ الْمَحْذُوفِ وَكَثْرَتِهِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى قِلَّتِهِ أَوْلَى. أوجه الكلام على الحذف. ويقع الكلام في الحذف من خَمْسَةِ أَوْجُهٍ فِي فَائِدَتِهِ وَفِي أَسْبَابِهِ ثُمَّ فِي أَدِلَّتِهِ ثُمَّ فِي شُرُوطِهِ ثُمَّ فِي أقسامه. فوائد الحذف. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي فَوَائِدِهِ:. فَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ لِذَهَابِ الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَتَشَوُّفِهِ إِلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فَيَرْجِعُ قَاصِرًا عَنْ إِدْرَاكِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ شَأْنُهُ وَيَعْلُو فِي النَّفْسِ مَكَانُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ إِذَا ظَهَرَ فِي اللَّفْظِ زَالَ مَا كَانَ يَخْتَلِجُ فِي الْوَهْمِ مِنَ الْمُرَادِ وخلص للمذكور!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وَمِنْهَا: زِيَادَةُ لَذَّةٍ بِسَبَبِ اسْتِنْبَاطِ الذِّهْنِ لِلْمَحْذُوفِ وَكُلَّمَا كَانَ الشُّعُورُ بِالْمَحْذُوفِ أَعْسَرَ كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهِ أَشَدَّ وَأَحْسَنَ. وَمِنْهَا: زِيَادَةُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقُولُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصَةِ. وَمِنْهَا: طَلَبُ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ. وَمِنْهَا: التَّشْجِيعُ عَلَى الْكَلَامِ وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ ابْنُ جِنِّي: [شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ] . وَمِنْهَا: مَوْقِعُهُ فِي النَّفْسِ فِي مَوْقِعِهِ عَلَى الذِّكْرِ وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُ الصِّنَاعَتَيْنِ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: مَا مِنَ اسْمٍ حُذِفَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَفَ فِيهَا إِلَّا وَحَذْفُهُ أَحْسَنُ مِنْ ذِكْرِهِ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحَةٍ وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحِ أسباب الحذف الثَّانِي: فِي أَسْبَابِهِ:. فَمِنْهَا: مُجَرَّدُ الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَبَثِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ نَحْوَ الْهِلَالُ وَاللَّهِ أَيْ هَذَا فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَرِينَةِ شَهَادَةِ الْحَالِ إِذْ لَوْ ذَكَرَهُ مَعَ ذَلِكَ لَكَانَ عَبَثًا مِنَ الْقَوْلِ. وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَاصَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَحْذُوفِ وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْمُهِمِّ وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ بَابِ التَّحْذِيرِ، نَحْوَ: إِيَّاكَ والشر والطريق الطريق الله اللَّهَ وَبَابُ الْإِغْرَاءِ هُوَ لُزُومُ أَمْرٍ يُحْمَدُ بِهِ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} عَلَى التَّحْذِيرِ أَيِ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا وَ [سُقْيَاهَا] إِغْرَاءً بِتَقْدِيرِ الْزَمُوا نَاقَةَ اللَّهِ. وَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ قَالَ حَازِمٌ فِي [مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ] : إِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ مَا لَمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 شكل بِهِ الْمَعْنَى لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْدِيدُ أَشْيَاءَ فَيَكُونُ فِي تَعْدَادِهَا طُولٌ وَسَآمَةٌ فَيَحْذِفُ وَيَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَتُتْرَكُ النَّفْسُ تَجُولُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْتَفَى بِالْحَالِ عَنْ ذِكْرِهَا عَلَى الْحَالِ قَالَ: وَبِهَذَا الْقَصْدِ يُؤْثَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعَجُّبُ وَالتَّهْوِيلُ علىالنفوس وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فَحَذَفَ الْجَوَابَ، إِذْ كَانَ وَصْفُ مَا يَجِدُونَهُ وَيَلْقَوْنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى فَجَعَلَ الْحَذْفَ دَلِيلًا عَلَى ضِيقِ الْكَلَامِ عَنْ وَصْفِ مَا يُشَاهِدُونَهُ وَتُرِكَتِ النُّفُوسُ تُقَدِّرُ مَا شَأْنُهُ وَلَا يُبْلَغُ مَعَ ذَلِكَ كُنْهُ مَا هُنَالِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ". قُلْتُ وَمِنْهُ: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاخْتِصَارِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْمُتَحَمِّلَةِ مَعَ قِلَّتِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ. وَمِنْهَا: التخفيف لكثرة دورانه في كلامهم كما حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي نَحْوِ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عن هذا} وَغَيْرُهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ لَا أَدْرِ فَيَحْذِفُونَ الْيَاءَ وَالْوَجْهُ [لَا أَدْرِي] لِأَنَّهُ رَفْعٌ وَتَقُولُ: [لَمْ أُبَلْ] فَيَحْذِفُونَ الْأَلِفَ وَالْوَجْهُ لَمْ أُبَالِ وَيَقُولُونَ: [لَمْ يَكْ] فَيَحْذِفُونَ النُّونَ كُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُونَهُ اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَتِهِ فِي كَلَامِهِمْ. وَمِنْهَا: حَذْفُ نُونِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَأَثَرُهَا بَاقٍ نَحْوَ: الضاربا زيدا، والضاربو زيدا. وقراءة من قرأ: {والمقيمى الصلاة} كَأَنَّ النُّونَ ثَابِتَةٌ فَعَلُوا ذَلِكَ لِاسْتِطَالَةِ الْمَوْصُولِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 في الصلة، نحو: {والليل إذا يسر} حُذِفَتِ الْيَاءُ لِلتَّخْفِيفِ. وَيُحْكَى عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ المؤرج السدوسي سأله: [عن ذلك] فَقَالَ: لَا أُجِيبُكَ حَتَّى تَنَامَ عَلَى بَابِي لَيْلَةً فَفَعَلَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إِذَا عَدَلَتْ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ نَقَصَتْ حُرُوفَهُ وَاللَّيْلُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْرِي وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وما كانت أمك بغيا} الْأَصْلُ [بَغِيَّةٌ] فَلَمَّا حُوِّلَ وَنُقِلَ عَنْ فَاعِلٍ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ انْتَهَى. وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ، نحو: {ما ودعك ربك وما قلى} . {والليل إذا يسر} وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: إِنَّمَا حُذِفَتِ الْيَاءُ فِي الْفَوَاصِلِ لِأَنَّهَا عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ وَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْقَوَافِي الَّتِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ يَاءٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يُحْذَفَ صِيَانَةً لَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين} إلى قوله: {إن كنتم تعقلون} حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَبْلَ ذِكْرِ الرب، أي هو رب السموات. وَاللَّهُ رَبُّكُمْ. وَاللَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعْظَمَ حَالَ فِرْعَوْنَ وَإِقْدَامُهُ عَلَى السُّؤَالِ تَهَيُّبًا وَتَفْخِيمًا فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ لِيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَمِنْهَا: صِيَانَةُ اللِّسَانِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عمي} أي هم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وَمِنْهَا: كَوْنُهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {عالم الغيب والشهادة} {فعال لما يريد} . وَمِنْهَا: شُهْرَتُهُ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً قال الزمخشري وهو نوع من دلالةالحال الَّتِي لِسَانُهَا أَنْطَقُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ كَقَوْلِ رؤبة خير جواب من قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قراءة حمزة: {تساءلون به} . لِأَنَّ هَذَا مَكَانٌ شُهِرَ بِتَكْرِيرِ الْجَارِّ فَقَامَتِ الشهرة مقام الذكر. وكذا قال الفارسي متلخصا مِنْ عَدَمِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ: إِنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْجَارِّ الْمُقَدَّرِ أَيْ وَ [بِالْأَرْحَامِ] وَإِنَّمَا حُذِفَتِ اسْتِغْنَاءً بِهِ فِي الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْمُقَدَّرُ يُحِيلُ الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ عَطْفِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى مِثْلِهِ!. قُلْتُ: إِعَادَةُ الْجَارِّ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَطْفِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ. أدلة الحذف. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي أَدِلَّتِهِ:. وَلَمَّا كَانَ الْحَذْفُ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ دَلِيلِهِ. وَالدَّلِيلُ تَارَةً يَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ مُطْلَقٍ وَتَارَةً عَلَى مَحْذُوفٍ مُعَيَّنٍ. فَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ حَيْثُ تَسْتَحِيلُ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَقْلًا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ،. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا تَكَلُّمُ الْأَمْكِنَةِ إِلَّا مُعْجِزَةً. وَمِنْهَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ كَقَوْلِهِ تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 فَإِنَّ الذَّاتَ لَا تَتَّصِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ شَرْعًا إِنَّمَا هُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الذَّوَاتِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ التَّنَاوُلُ وَلَكِنَّهُ لَمَّا حُذِفَ وَأُقِيمَتِ الْمَيْتَةُ مَقَامَهُ أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْفِعْلُ وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْهُ فَلِذَلِكَ أُنِّثَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَقَوْلُ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ مَحَلَّ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْعَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى الْحَذْفِ وَالتَّعْيِينِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وجاء ربك} ،أَيْ أَمْرُهُ أَوْ عَذَابُهُ أَوْ مَلَائِكَتُهُ لِأَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ وَلِاسْتِحَالَةِ مَجِيءِ البارىء عَقْلًا لِأَنَّ الْمَجِيءَ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَدَلَّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى التَّعْيِينِ وَهُوَ الْأَمْرُ وَنَحْوُهُ وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَمْثِيلٌ مَثَّلَتْ حَالَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْمَلِكِ إِذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} ،لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّوْحِيدِ فَعَدَمُ الْفَسَادِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ ضَرُورَةً وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الشَّرْطِ بُلُوغًا لَهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ وَتَدُلَّ عَادَةُ النَّاسِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَلِكُنَّ الذي لمتنني فيه} فَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ ظَرْفًا لِلَوْمِهِنَّ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظرف حبه بدليل: {شغفها حبا} أو مراودته بدليل: {تراود فتاها} ،ولكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 الْعَقْلَ لَا يُعَيِّنُ وَاحِدًا مِنْهَا بَلِ الْعَادَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الثَّانِي فَإِنَّ الْحُبَّ لَا يُلَامُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ يَقْهَرُهُ وَيَغْلِبُهُ وَإِنَّمَا اللَّوْمُ فِيمَا لِلنَّفْسِ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَهُوَ الْمُرَاوَدَةُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِهَا. وَمِنْهَا: أَنْ تَدُلَّ الْعَادَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لو نعلم قتالا} ، أَيْ مَكَانَ قِتَالٍ وَالْمُرَادُ مَكَانًا صَالِحًا لِلْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَخْبَرَ النَّاسِ بِالْقِتَالِ وَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يُرِيدُوا لَوْ نَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْقِتَالِ فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مُجَاهِدٌ: [مَكَانَ قِتَالٍ] . وَقِيلَ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمَحْذُوفِ هُنَا مِنْ دَلَالَةِ السِّيَاقِ لَا الْعَادَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْحَذْفِ وَالشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: {بِسْمِ الله} فَإِنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ وَدَلَّ الشُّرُوعُ عَلَى تَعْيِينِهِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ فِي مَبْدَئِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ وَنَحْوِهِ وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ فَفِي الْقِرَاءَةِ أَقْرَأُ وَفِي الْأَكْلِ: آكُلُ وَنَحْوَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ يُقَدَّرُ الْفِعْلُ أَوْ الِاسْمُ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يُقَدَّرُ عَامٌّ كَالِابْتِدَاءِ أَوْ خَاصٌّ كَمَا ذَكَرْنَا؟. وَمِنْهَا: اللُّغَةُ كَضَرَبْتُ فَإِنَّ اللُّغَةَ قَاضِيَةٌ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ نَعَمْ هِيَ تَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْحَدَثِ لَا تَعْيِينُهُ وَكَذَلِكَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَمِنْهَا: تَقَدُّمُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَمَا فِي سِيَاقِهِ كقوله: {وأبصر فسوف يبصرون} ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ نَحْوَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تسجد} وفي موضع:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 {ألا تسجد} . وَكَقَوْلِهِ: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بلاغ} أَيْ هَذَا، بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فقال تعالى: {هذا بلاغ للناس} وَنَظَائِرِهِ. وَمِنْهَا: اعْتِضَادُهُ بِسَبَبِ النُّزُولِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَيْ قُمْتُمْ مِنَ الْمَضَاجِعِ يَعْنِي النَّوْمَ وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا يَعْنِي إِذَا قُمْتُمْ مُحْدِثِينَ. وَاحْتُجَّ لِزَيْدٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ فِقْدَانِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِقْدَهَا فَأَخَّرُوا الرَّحِيلَ إِلَى أَنْ أَضَاءَ الصُّبْحُ فَطَلَبُوا الْمَاءَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنْ نَوْمِهِمْ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَبِمَا رُجِّحَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ الْأَحْدَاثَ الْمَذْكُورَةَ بعد قوله: {إذا قمتم} الْأَوْلَى أَنْ يَحْمِلَ قَوْلُهُ: {إِذَا قُمْتُمْ} مَعْنًى غَيْرَ الْحَدَثِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلْحَدَثِ وَلِسَبَبِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ النوم ليس بحدث بل سبب للحدث. شروط الحذف. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي شُرُوطِهِ. فَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ فِي الْمَذْكُورِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ إِمَّا مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مِنْ سِيَاقِهِ وَإِلَّا لَمْ يُتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مُخِلًّا بِالْفَهْمِ وَلِئَلَّا يصير الكلام لغزا فيهج فِي الْفَصَاحَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا أُبْقِيَ دَلِيلٌ عَلَى مَا أُلْقِيَ. وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ مَقَالِيَّةٌ وَحَالِيَّةٌ. فَالْمَقَالِيَّةُ قَدْ تَحْصُلُ مِنْ إِعْرَابِ اللَّفْظِ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 مِنْ نَاصِبٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا نَحْوَ: أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا أَيْ وُجِدْتَ أَهْلًا وَسَلَكْتَ سَهْلًا وَصَادَفْتَ رَحْبًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لله} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تساءلون به والأرحام} وَالتَّقْدِيرُ: احْمِدُوا الْحَمْدَ وَاحْفَظُوا الْأَرْحَامَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {ومن أحسن من الله صبغة} . {ملة أبيكم إبراهيم} . وَالْحَالِيَّةُ قَدْ تَحْصُلُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى والنظر وَالْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَحْذُوفٍ وَهَذَا يَكُونُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ النَّظْمِ الْأَوَّلِ لِزِيَادَةِ عمومه كما في قوله فُلَانٌ يَحُلُّ وَيَرْبِطُ أَيْ يَحُلُّ الْأُمُورَ وَيَرْبِطُهَا أَيْ ذُو تَصَرُّفٍ. وَقَدْ تَدُلُّ الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ عَلَى التَّقْدِيرِ، كَقَوْلِهِمْ فِي: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} :إِنَّ التَّقْدِيرَ لَأَنَا أُقْسِمُ لِأَنَّ فِعْلَ الحال لا يقسم عليه. وقوله تعالى: {تفتأ تذكر يُوسُفَ} التَّقْدِيرُ لَا تَفْتَأُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَوَابُ مُثْبَتًا لَدَخَلَتِ اللَّامُ وَالنُّونُ كَقَوْلِهِ: {بَلَى وربي لتبعثن} . وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلٍ وَاحِدٍ وَقَدْ يَكُونُ هُنَا أَدِلَّةٌ يَتَعَدَّدُ التَّقْدِيرُ بِحَسَبِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حسنا} فإنه يحتمل ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَالْمَعْنَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 حسنا} مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ!! ثُمَّ كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: لَا، فَقِيلَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} ثَانِيهَا: تَقْدِيرُ: ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٌ فَحُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} . ثَالِثُهَا: تَقْدِيرُ: [كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ] ،فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يشاء} وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ الْجُمْلَةَ بِأَسْرِهَا نَحْوَ: {قَالُوا سلاما} أَيْ سَلَّمْنَا سَلَامًا أَوْ أَحَدَ رُكْنَيْهَا نَحْوَ: {قال سلام قوم منكرون} أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَحُذِفَ خبر الأولى ومتبدأ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفَ فَضْلَةً فَلَا يُشْتَرَطُ لِحَذْفِهِ دَلِيلٌ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَلَّا يَكُونَ فِي حَذْفِهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى أَوِ اللَّفْظِ كَمَا فِي حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ وَنَحْوِهِ. وَشَرَطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي حَذْفِ الْجَارِّ أَيْضًا أَمْنَ اللَّبْسِ ومنع الحذف في نحو: رغبت أَنْ تَفْعَلَ أَوْ عَنْ أَنْ تَفْعَلَ لِإِشْكَالِ المراد يعد الحذف. وأورد عليه {وترغبون أن تنكحوهن} ،فَحَذَفَ الْحَرْفَ. وَجَوَابُهُ أَنَّ النِّسَاءَ يَشْتَمِلْنَ عَلَى وَصْفَيْنِ وَصْفُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَعَنْهُنَّ فَحُذِفَ لِلتَّعْمِيمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ الْمَحْذُوفِ. وَأُنْكِرَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. بلى قادرين على أن نسوي بنانه} أَنَّ التَّقْدِيرَ: بَلَى حَسِبَنَا قَادِرِينَ وَالْحِسَابُ الْمَذْكُورُ بِمَعْنَى الظَّنِّ وَالْمَحْذُوفُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ إِذِ التَّرَدُّدُ فِي الْإِعَادَةِ كُفْرٌ فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْحِسَابَ الْمُقَدَّرَ بِمَعْنَى الْجَزْمِ وَالِاعْتِقَادِ لَا بِمَعْنَى الظَّنِّ وَتَقْدِيرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ الْمَلْفُوظَ. وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ ذِكْرُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ:. مِنْهَا: وَهُوَ أَقْوَاهَا، كَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ ربك} أَيْ أَمْرُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} . وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض} ،أَيْ كَعَرْضِ بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ. وَفِيهِ إِيجَازٌ بَلِيغٌ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَرْضُ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِالطُّولِ! كَقَوْلِهِ: {بَطَائِنُهَا من إستبرق} . وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ التَّعْظِيمَ وَالسِّعَةَ لِأَحَقِّيَّةِ الْعَرْضِ، كَقَوْلِهِ: كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ عَلَى الْخَائِفِ الْمَظْلُومِ كِفَّةُ حَابِلِ وَمِنْهَا: أَلَّا يَكُونَ الْفِعْلُ طَالِبًا لَهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ امْتَنَعَ حَذْفُهُ كَالْفَاعِلِ وَمَفْعُولِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَاسْمِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يُحْذَفْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْغَرَضِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وَمِنْهَا: قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي وَمِنْ حَقِّ الْحَذْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَطْرَافِ لَا فِي الْوَسَطِ لِأَنَّ طَرَفَ الشَّيْءِ أَضْعَفُ مِنْ قَلْبِهِ وَوَسَطِهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} وَقَالَ الطَّائِيُّ الْكَبِيرُ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَمْنُوعَ فَاسْتَلَبَتْ مَا حَوْلَهَا الْخَيْلُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا فكأن الطرفين سياج للوسط ومبذولان للعوراض دُونَهُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْإِعْلَالَ عِنْدَ التَّصْرِيفِيِّينَ بِالْحَذْفِ مِنْهَا فَحَذَفُوا الْفَاءَ فِي الْمَصَادِرِ مِنْ بَابِ وَعَدَ نَحْوَ الْعِدَةِ وَالزِّنَةِ وَالْهِبَةِ وَاللَّامَ فِي نحواليد وَالدَّمِ وَالْفَمِ وَالْأَبِ وَالْأَخِ وَقَلَّمَا تَجِدُ الْحَذْفَ فِي الْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِهَذَا يَظْهَرُ لُطْفُ هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. تَنْبِيهَاتٌ:. الْأَوَّلُ: قَدْ تُوجِبُ صِنَاعَةُ النَّحْوِ التَّقْدِيرَ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَإِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَقَدَّرَهُ النُّحَاةُ: [مَوْجُودٌ] أَوْ [لَنَا] . وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ وَتَقْدِيرُهُمْ فَاسِدٌ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً أَعَمُّ مِنْ نَفْيِهَا مُقَيَّدَةً فَإِنَّهَا إِذَا انْتَفَتْ مُطْلَقَةً كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ الْقَيْدِ وَإِذَا انْتَفَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُهَا مَعَ قَيْدٍ آخَرَ. وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْإِنْكَارِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ [فِي الْوُجُودِ] يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ كُلِّ إِلَهٍ غَيْرَ اللَّهِ قَطْعًا فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا كَلَامَ فِيهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيٌ لِلْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً لَا مُقَيَّدَةً. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ خَبَرٍ لِاسْتِحَالَةِ مُبْتَدَأٍ بِلَا خَبَرٍ ظَاهِرًا أَوْ مُقَدَّرًا وَإِنَّمَا يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ الْقَوَاعِدَ حَقَّهَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مَفْهُومًا وَتَقْدِيرُهُمْ هُنَا أَوْ غَيْرُهُ لِيَرَوْا صُورَةَ التَّرْكِيبِ مِنْ حيث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 اللَّفْظِ مِثَالًا، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَهُمْ تَقْدِيرَانِ إِعْرَابِيٌّ وَهُوَ الَّذِي خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَرِضِ وَمَعْنَوِيٌّ وَهُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ. وَمِنَ الْمُنْكَرِ فِي هَذَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ الطِّرَاوَةِ: إِنَّ الْخَبَرَ فِي هَذَا [إِلَّا اللَّهُ] وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ نَكِرَةً وَالْخَبَرُ مَعْرِفَةً!. الثَّانِي: اعْتَبَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي الْحَذْفِ التَّدْرِيجَ حَيْثُ أَمْكَنَ وَلِهَذَا قَالَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} إِنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ: [يَوْمَ لَا تَجْزِي فِيهِ] فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَصَارَ [تَجْزِيهِ] ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرِ فَصَارَ [تَجْزِي] . وَهَذَا مُلَاطَفَةٌ فِي الصِّنَاعَةِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حُذِفَ فِيهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي [الْمُحْتَسَبِ] : وَقَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ أَوَثَقُ فِي النَّفْسِ وَآنَسُ مِنْ أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفَانِ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. الثَّالِثُ: المشهور في قوله تعالى: {فانفجرت منه} ،أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ التَّقْدِيرُ: [فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ] وَدَلَّ [انْفَجَرَتْ] عَلَى الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنَ الِانْفِجَارِ أَنَّهُ قَدْ ضُرِبَ. وَكَذَا: {أَنِ اضرب بعصاك البحر فانفلق} ،إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَحْصُلَ الِانْفِجَارُ وَالِانْفِلَاقُ دُونَ ضَرْبٍ. وَابْنُ عُصْفُورٍ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: إِنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ الْمَذْكُورَ مَعَ الْمَعْطُوفِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ من المعطوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 فَالْفَاءُ فِي [انْفَلَقَ] هُوَ فَاءُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ [ضَرْبٌ] فَذُكِرَتْ فَاؤُهُ وَحُذِفَ فِعْلُهَا وَذُكِرَ فِعْلُ [انْفَلَقَ] وَحُذِفَتْ فَاؤُهُ لِيَدُلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى المحذوف وهو تحيل غريب. أقسام الحذف. الْخَامِسُ: فِي أَقْسَامِهِ:. الْأَوَّلُ: الِاقْتِطَاعُ، وَهُوَ ذِكْرُ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ وَإِسْقَاطُ الْبَاقِي، كَقَوْلِهِ: *دَرَسَ الْمُنَا بِمَتَالِعٍ فَأَبَانِ* أَيِ الْمَنَازِلُ وَأَنْكَرَ صَاحِبُ [الْمَثَلِ السَّائِرِ] وُرُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَقَدْ جَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ فَوَاتِحَ السُّوَرِ لِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ:" [الم] مَعْنَاهُ: [أَنَا الله أعلم وأرى] و [المص] أنا لله أَعْلَمُ وَأُفَصِّلُ وَكَذَا الْبَاقِي. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وامسحوا برؤوسكم} :إِنَّ الْبَاءَ هُنَا أَوَّلُ كَلِمَةِ [بَعْضَ] ثُمَّ حُذِفَ الْبَاقِي كَقَوْلِهِ: *قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ* أَيْ وَقَفْتُ، وَفِي الْحَدِيثِ: " كَفَى بِالسَّيْفِ شَا " أَيْ شَاهِدًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وقال الزمخشري في قوله: {من اللَّهُ} فِي الْقَسَمِ: إِنَّهَا [ايْمَنُ] الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ حُذِفَتْ نُونُهَا. وَمِنْ هَذَا التَّرْخِيمُ ومنه قراءة بعضهم: [يا مال] عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْتَظِرُ وَلَمَّا سَمِعَهَا بَعْضُ السَّلَفِ قَالَ مَا أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ عَجَزُوا عَنْ إِتْمَامِ الْكَلِمَةِ. الثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ وَهُوَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمَقَامُ ذِكْرَ شَيْئَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ وَارْتِبَاطٌ فَيُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ وَيُخَصُّ بِالِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ غَالِبًا فَإِنَّ الِارْتِبَاطَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ وُجُودِيٌّ وَلُزُومِيٌّ وَخَبَرِيٌّ وَجَوَابِيٌّ وَعَطْفِيٌّ. ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ الِاكْتِفَاءَ بِأَحَدِهِمَا كَيْفَ اتُّفِقَ بَلْ لِأَنَّ فِيهِ نُكْتَةً تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ. وَالْمَشْهُورُ فِي مِثَالِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} أَيْ وَالْبَرْدَ هَكَذَا قَدَّرُوهُ. وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ سُؤَالَ الْحِكْمَةِ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَرِّ بِالذِّكْرِ وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ وَالْوِقَايَةُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَرِّ أَهَمُّ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الْبَرْدِ عِنْدَهُمْ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ الْبَرْدَ ذُكِرَ الِامْتِنَانُ بِوِقَايَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} وقوله: {وجعل لكم من. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 الجبال أكنانا} وَقَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيها دفء} . فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْوِقَايَتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظلالا} ،فَإِنَّ هَذِهِ وِقَايَةُ الْحَرِّ، ثُمَّ قَالَ: {وَجَعَلَ لكم من الجبال أكنانا} ،فَهَذِهِ وِقَايَةُ الْبَرْدِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ؟. قِيلَ: لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسَاكِنِ وَهَذِهِ إلى الملابس، وقوله: {وجعل لكم من الجبال أكنانا} لم يذكره السهيلي، وَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنهار} . فَإِنَّهُ قِيلَ: الْمُرَادُ: [وَمَا تَحَرَّكَ] وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ السُّكُونِ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ الْحَالَيْنِ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَلِأَنَّ السَّاكِنَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْمُتَحَرِّكِ أَوْ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ يَصِيرُ إِلَى السُّكُونِ وَلِأَنَّ السُّكُونَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْحَرَكَةُ طارئة. وقوله: {بيدك الخير} تقدير: [وَالشَّرُّ] إِذْ مَصَادِرُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ مَطْلُوبُ الْعِبَادِ وَمَرْغُوبُهُمْ إِلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُجُودًا فِي الْعَالَمِ مِنَ الشَّرِّ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ فِي بَابِ الْأَدَبِ أَلَّا يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ". وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَرَدَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ مِنْ فَتْحِ بِلَادِ الرُّومِ وَفَارِسَ وَوَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي الْخَيْرِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وقوله: {الذين يؤمنون بالغيب} ،أَيْ وَالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ وآثر الغيب لأنه أبدع ولأنه يستلزمالإيمان بِالشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. وَمِثْلُهُ: {أَمْ يَجْعَلُ له ربي أمدا. عالم الغيب} ،أَيْ وَالشَّهَادَةُ بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخر. وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ،فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا الظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ وَطَوَى الْبَاقِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} أَيْ وَالْبَرِّ، وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ الْبَحْرِ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} ،أَيْ وَالْمَغَارِبِ. وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أَيْ وَلَا غَيْرَ إِلْحَافٍ. وَقَوْلُهُ: {مِنْ أَهْلِ الكتاب أمة قائمة} ،أَيْ وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} ،أي والمؤمنين. وقوله: {هدى للمتقين} ،أَيْ وَالْكَافِرِينَ. قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {هدى للناس} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وقوله: {ولا تكونوا أول كافر به} ،قِيلَ: الْمَعْنَى وَآخِرَ كَافِرٍ بِهِ فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ قُوَّةِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ الْكُفْرِ وَآخِرَهُ سَوَاءٌ وَخُصَّتِ الْأَوْلَوِيَّةُ بِالذِّكْرِ لِقُبْحِهَا بِالِابْتِدَاءِ. وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافات ويقبضن ما يمسكهن} ،أَيْ وَيَبْسُطْنَ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ. وَحَكَى فِي [التَّذْكِرَةِ] عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أكاد أخفيها لتجزى} أَنَّ الْمَعْنَى: [أَكَادُ أُظْهِرُهَا أُخْفِيهَا لِتُجْزَى] ، فَحَذَفَ [أُظْهِرُهَا] لِدَلَالَةِ [أُخْفِيهَا عَلَيْهِ] . قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى: [أُزِيلُ خَفَاءَهَا] ،فَلَا حَذْفَ. وَقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ،أَيْ بَيْنَ أَحَدٍ وَأَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ،أَيْ وَمَنْ أَنْفَقَ بَعْدَهُ وَقَاتَلَ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَطْلُبُ اثْنَيْنِ وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إليه جميعا} ،أَيْ وَمَنْ لَا يَسْتَنْكِفُ وَلَا يَسْتَكْبِرُ بِدَلِيلِ التقسيم بعده بقوله: {فأما الذين آمنوا} {وأما الذين استنكفوا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} ،فَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ عَنِ الْجِهَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومن خلفهم} ، الِاكْتِفَاءُ بِجِهَتَيْنِ عَنْ سَائِرِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} ،أَيْ وَلَمْ تُعْبِدْنِي. وَقَوْلُهُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ليس له ولد} ،أَيْ وَلَا وَالِدَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ الْأَبِ فَإِنَّ الْأَبَ يُسْقِطُهَا. وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ المفلحين} وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِسْمَ الْآخَرَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ [أَمَّا] إِذْ وَضْعُهَا لِتَفْصِيلِ كَلَامٍ مُجْمَلٍ وَأَقَلُّ أَقْسَامِهَا قِسْمَانِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتُبْ وَلَا يُؤْمِنُ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ. وَالثَّانِي فِي آلِ عِمْرَانَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى قوله: {إلا الله} هَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ. وَقَوْلُهُ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لهم} ،أَيْ وَفِعْلًا غَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِشَيْئَيْنِ: بِأَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَبِأَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ فَبَدَّلُوا الْقَوْلَ فِي [حِنْطَةٍ] [حِطَّةٌ] وَبَدَّلُوا الْفِعْلَ بِأَنْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا سَاجِدِينَ وَالْمَعْنَى إِرَادَتُنَا حِطَّةٌ أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 ولا الحرور} ،قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دُخُولُ [لَا] عَلَى نِيَّةِ التَّكْرَارِ كَأَنَّهُ قَالَ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا النُّورُ وَالظُّلُمَاتُ وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَوَائِلِ عَنِ الثَّوَانِي وَدَلَّ بِمَذْكُورِ الْكَلَامِ عَلَى مَتْرُوكِهِ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود من الفجر} . فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ لِلْفَجْرِ خَيْطٌ أَسْوَدُ إِنَّمَا الْأَسْوَدُ مِنَ اللَّيْلِ. فَأُجِيبَ: إِنَّ {مِنَ الْفَجْرِ} متصل بقوله: {الخيط الأبيض} وَالْمَعْنَى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّيْلِ لَكِنْ حذف [من الليل] لدلالة الكلام ثم عليه ولوقوع الْفَجْرِ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ [مِنَ الْفَجْرِ] مُتَعَلِّقًا بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَوْ وَقَعَ [مِنَ الْفَجْرِ] فِي مَوْضِعِهِ مُتَّصِلًا بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ لَضَعُفَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَهُوَ [مِنَ اللَّيْلِ] فَحُذِفَ [مِنَ اللَّيْلِ] لِلِاخْتِصَارِ وَأُخِّرَ [مِنَ الْفَجْرَ] لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: مِنْ هَذَا قِسْمٌ يُسَمَّى الضَّمِيرُ وَالتَّمْثِيلُ، وَأَعْنِي بِالضَّمِيرِ أَنْ يُضْمِرَ من القول المجاور لِبَيَانِ أَحَدِ جُزْأَيْهِ كَقَوْلِ الْفَقِيهِ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ [وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ] . وَيَكُونُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ، كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك} ،وقد شهد الحسن وَالْعِيَانُ أَنَّهُمْ مَا انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَهِيَ الْمُضْمَرَةُ وَانْتَفَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فظ غليط القلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وقوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} ،الْمَعْنَى لَوْ أَفْهَمْتُهُمْ لَمَا أَجْدَى فِيهِمُ التَّفْهِيمُ فَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبُوا الْقُوَّةَ الْفَاهِمَةَ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مَعَ انْتِفَاءِ الْفَهْمِ أَحَقُّ بِفَقْدِ الْقَبُولِ وَالْهِدَايَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْفِعْلِ لِشَيْئَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَحَدِهِمَا فَيُضْمَرُ لِلْآخَرِ فِعْلٌ يُنَاسِبُهُ كقوله تعالى: {والذين تبوأوا الدار والإيمان} أَيْ وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمِعُوا لَهَا تغيظا وزفيرا} أَيْ وَشَمُّوا لَهَا زَفِيرًا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} ، وَالصَّلَوَاتُ لَا تُهْدَمُ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَتُرِكَتْ صَلَوَاتٌ. وَقَوْلِهِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} فَالْفَاكِهَةُ وَلَحْمُ الطَّيْرِ وَالْحُورُ الْعِينُ لَا تَطُوفُ وَإِنَّمَا يُطَافُ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ،فَنَقَلَ ابْنُ فَارِسٍ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى [مَعَ] أَيْ شُرَكَائِكُمْ كَمَا يُقَالُ: لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلُهَا لَرَضَعَهَا أَيْ مَعَ فَصِيلِهَا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} . وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِلثَّانِي لِيَصِحَّ الْعِطْفُ هُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لِتَعَذُّرِ الْعَطْفِ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ وَتَضْمِينِ الْعَامِلِ مَعْنًى يَنْتَظِمُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَمِيعًا،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 فَيُقَدَّرُ آثَرُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّهُ أَيُّهُمَا أَوْلَى تَرْجِيحُ الْإِضْمَارِ أَوِ التَّضْمِينِ؟. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ: إِنْ كَانَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي يَلِيهِ حَقِيقَةً كَانَ الثَّانِي مَحْمُولًا عَلَى الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنَ التَّضْمِينِ نَحْوَ: [يَجْدَعُ اللَّهُ أَنْفَهُ وَعَيْنَيْهِ] ،أَيْ وَيَفْقَأُ عَيْنَيْهِ فَنِسْبَةُ الْجَدْعِ إِلَى الْأَنْفِ حَقِيقَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ كَانَ الْعَامِلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى مَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِضْمَارُ كَقَوْلِهِمْ: *عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا* وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} قَالَ: لِأَنَّ فِعْلَ أَمْرِ الْمُخَاطَبِ لَا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى: [اسْكُنْ أَنْتَ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ] لِأَنَّ شَرْطَ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِأَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَا عَمِلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: [اسْكُنْ زَوْجَكَ] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تضار والدة بولدها ولا مولود} وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ [مَوْلُودٌ] مَعْطُوفًا عَلَى [وَالِدَةٌ] لِأَجْلِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ أَوْ لِلْأَمْرِ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُقَدِّرَ مَرْفُوعًا بِمُقَدَّرٍ مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ أَيْ وَلَا يُضَارُّ مَوْلُودٌ لَهُ. وقوله تعالى: {والطير} ، قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ: [وَسَخَّرَنَا لَهُ الطَّيْرَ] عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {فَضْلًا} وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ، ومن رفعه فقيل: على المضمر في [آتى] ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وَجَازَ ذَلِكَ لِطُولِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: [مَعَهُ] ، وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وَلِتُؤَوِّبَ مَعَهُ الطَّيْرُ. الْخَامِسُ: أَنْ يَقْتَضِيَ الْكَلَامُ شَيْئَيْنِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {فمن ربكما يا موسى} وَلَمْ يَقُلْ: وَهَارُونَ لِأَنَّ مُوسَى الْمَقْصُودُ الْمُتَحَمِّلُ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَغَاصَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْكَلَامَ فَيَقُولُ: [وَهَارُونَ] وَلَكِنَّهُ نَكَلَ عَنْ خِطَابِ هَارُونَ تَوَقِّيًا لِفَصَاحَتِهِ وَحِدَّةِ جَوَابِهِ وَوَقْعِ خِطَابِهِ إِذِ الْفَصَاحَةُ تُنَكِّلُ الْخَصْمَ عَنِ الْخَصْمِ لِلْجَدَلِ وَتُنَكِّبُهُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. السَّادِسُ: أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ ثُمَّ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ: إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهِ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ. وَيَبْقَى عَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ أُوْثِرَ ذِكْرُ التِّجَارَةِ؟ وَهَلَّا أُوثِرَ اللهو؟. وجوابه ما قال الرَّاغِبُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ التِّجَارَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ انْفِضَاضِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا. وَلِأَنَّهُ قَدْ تُشْغِلُ التِّجَارَةُ عَنِ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُشْغِلُهُ اللَّهْوُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ،فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وأعاد الضمير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 عَلَى الْفِضَّةِ وَحْدَهَا، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَلِأَنَّ الفضة أكثر وجودا في أيديالناس وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ فَيَكُونُ كَنْزُهَا أَكْثَرَ وَقِيلَ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَكْنُوزَ دَنَانِيرٌ وَدَرَاهِمٌ وَأَمْوَالٌ. وَنَظِيرُهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقتتلوا} ،لِأَنَّ الطَّائِفَةَ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرَتْ شَيْئَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَكْتَفِي بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهِ عَنِ الْآخَرِ اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَقَوْلِ حَسَّانِ: إن شرح الشباب والشعر الأسـ ود ما لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا وَلَمْ يَقُلْ: [يَعَاصَا] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لم تروها} وقد جعل ابن لأنباري فِي كِتَابِ [الْهَاءَاتِ] ضَمِيرَ {لَمْ تَرَوْهَا} رَاجِعًا إِلَى الْجُنُودِ. وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَأْتِيَ هُنَا بِمَا سَبَقَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يرضوه إن كانوا مؤمنين} فَقِيلَ [أَحَقُّ] خَبَرٌ عَنْهُمَا وَسَهُلَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ بِعَدَمِ إِفْرَادِ [أَحَقُّ] وَأَنَّ إِرْضَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِرْضَاءٌ لِرَسُولِهِ. وَقِيلَ: [أَحَقُّ] خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْعَكْسُ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ". قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ يَقْصِدُونَ ذِكْرَ الشَّيْءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 فَيَذْكُرُونَ قَبْلَهُ مَا هُوَ سَبَبٌ مِنْهُ ثُمَّ يَعْطِفُونَهُ عَلَيْهِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ وَلَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ سَرَّنِي زَيْدٌ وَحُسْنُ حاله والمواد حسن ماله وَفَائِدَةُ هَذَا الدَّلَالَةُ عَلَى قُوَّةِ الِاخْتِصَاصِ بِذِكْرِ الْمَعْنَى وَرَسُولُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَيَدُلَّ عليه ما تقدمه من قوله: {والذين يؤذون رسول الله} ، وَلِهَذَا وَحَّدَ الضَّمِيرَ وَلَمْ يُثَنِّ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عنه} . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ،فَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَقِيلَ أَعَادَهُ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ الْمَفْهُومَةُ مِنَ استعينوا. وقيل: المعنى على التثنيةوحذف مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} ،وَهُوَ نَظِيرُ آيَةِ الْجُمُعَةِ كَمَا سَبَقَ. وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَتَانِ: وَهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ وَمُؤَنَّثَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِلْقُلُوبِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالتِّجَارَةِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِاللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لِقُدُومِهِ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ:" أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "،وَأَعَادَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يكسب خطيئة أو إثما} عَلَى الْإِثْمِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذْكِيرِ فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أَيْ بذلك القول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 السَّابِعُ: الْحَذْفُ الْمُقَابَلِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الكلام متقابلان، فيحدف مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابَلَةً لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} ، الْأَصْلُ فَإِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ فَنِسْبَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: [إِجْرَامِي] وَهُوَ الْأَوَّلُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ} - وَهُوَ الثَّالِثُ - كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ} - وَهُوَ الثَّانِي - إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ} - وَهُوَ الثَّالِثُ -كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ} - وَهُوَ الثَّانِي - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأنا برىء مما تجرمون} ،وَهُوَ الرَّابِعُ، وَاكْتَفَى مِنْ كُلِّ مُتَنَاسِبَيْنِ بِأَحَدِهِمَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولون} ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ أُرْسِلَ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فَأَتَوْا بِآيَةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إن شاء أو يتوب عليهم} ، تَقْدِيرُهُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:" وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ "، عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُطْلَقُ قَوْلِهِ: فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ مُقَيَّدًا بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} ، فَتَقْدِيرُهُ: لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطَّهَّرْنَ فَإِذَا طَهُرْنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ وَهُوَ قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ كَنِسْبَةِ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعِ وَيُحْذَفُ مِنْ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ السِّيَاقِ قَاطِعَةٌ بِهَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يُعْتَضَدُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ إِلَّا بَعْدَ الطُّهْرِ وَالتَّطَهُّرِ جَمِيعًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تخرج بيضاء من غير سوء} ، تَقْدِيرُهُ: [أَدْخِلْ يَدَكَ تَدْخُلُ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ] ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ تَنَاسُبٌ بِالطِّبَاقِ فَلِذَلِكَ بَقِيَ الْقَانُونُ فِيهِ الَّذِي هُوَ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ وَنِسْبَةُ الثَّانِي إِلَى الرابع علىحالة الْأَكْثَرِيَّةِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ مَوْضِعِهِ وَلَمْ يُجْعَلْ بِالنِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَبَيْنَ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَهِيَ نِسْبَةُ النَّظِيرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ أَيْ هِزَّةٌ بَعْدَ انْتِفَاضَةٍ كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ ثُمَّ اهْتَزَّ. كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّائِغِ، وَقَالَ: هَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَوْ يَكُونُ لَكَانَ خُلْفًا وَإِنَّمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِدْخَالِهَا خُرُوجَهَا، وَ [يَخْرُجُ] مَجْزُومٌ عَلَى الْجَوَابِ فَاحْتَاجَ أَنْ تُقَدِّرَ جَوَابًا لَازِمًا وَشَرْطًا مَلْزُومًا حَذْفًا لِأَنَّهُمَا نَظِيرُ مَا ثَبَتَ لَكِنْ وَقَعَ فِي تَقْدِيرِ مَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنْ أَدْخَلَهَا تَدْخُلُ لَكِنَّهُ قَدْ يُقَدِّرُهُ تَقْدِيرًا بَعِيدًا وَهُوَ أَدْخِلْهَا تَدْخُلُ كَمَا هِيَ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ بَيْضَاءَ وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ فَيُقَالُ لَهُ: لَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيًّا بِالْفِعْلِ فإذا قيل: إن جاءني زيدا أَكْرَمْتُهُ فَهَذَا اللَّازِمُ بِالْوَضْعِ وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ وَالْإِكْرَامُ لَازِمٌ لِلْمَجِيءِ بَلْ لِوَضْعِ الْمُتَكَلِّمِ فَالْمَوْضُوعُ هُنَا أَنَّ الْإِدْخَالَ سَبَبٌ فِي خُرُوجِهَا بَيْضَاءَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِخْرَاجِهَا أَنْ تَخْرُجَ بَيْضَاءَ لُزُومًا ضَرُورِيًّا إِلَّا بِضَرُورَةِ صِدْقِ الْوَعْدِ فَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ إِلَّا حَتَّى تُخْرَجَ قِيلَ هَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا مَعْنَى لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وآخر سيئا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 أصل الكلام: خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح لأن الخلط يستدعي مخلوط وَمَخْلُوطًا بِهِ أَيْ تَارَةً أَطَاعُوا وَخَلَطُوا الطَّاعَةَ بِكَبِيرَةٍ وَتَارَةً عَصَوْا وَتَدَارَكُوا الْمَعْصِيَةَ بِالتَّوْبَةِ. وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} الْآيَةَ، فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّقْسِيمِ اللَّفْظِيِّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَلَا خَوْفَ وَلَا حُزْنَ يَلْحَقُهُ وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ وَمَنْ كَذَبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْأُخْرَى. قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بما لا يسمع إلا دعاء} ،قَالَ سِيبَوَيْهِ [فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى] : لَمْ يُشَبَّهُوا بِالنَّاعِقِ وَإِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْعُوقِ بِهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى سِعَةِ الْكَلَامِ وَالْإِيجَازِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمَعْنَى. انْتَهَى. وَالَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،- وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّاعِقَ بِمَعْنَى الدَّاعِي وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ أَلَّا يُرَادَ بِهِ الدَّاعِي بَلِ النَّاعِقُ مِنَ الْحَيَوَانِ - شَبَّهَهُمْ في تألهم وَتَأَتِّيهِمْ بِمَا يَنْعِقُ مِنَ الْغَنَمِ بِصَاحِبِهِ مِنْ أنهم يدعون مالا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَفْهَمُ مَا يُرِيدُهُ فَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفٌ. وَقِيلَ: لَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِلَّا الِاكْتِفَاءَ مِنَ الْأَوَّلِ بِالثَّالِثِ لِنِسْبَةٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالَّذِي يَنْعِقُ -وَهُوَ الثَّالِثُ الْمُشَبَّهُ بِهِ - عَنِ الْمُشَبَّهِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُكَ وَهُوَ الْأَوَّلُ وَأَقْرَبُ إِلَى هَذَا التَّشْبِيهُ الْمُرَكَّبُ وَالْمُقَابَلَةُ وَهُوَ الَّذِي غَلِطَ مَنْ وَضَعَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الِاكْتِفَاءِ لِلِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ عَلَى مَا سَلَفَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وَقَدْ قَالَ الصَّفَّارُ: هَذَا الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ - مِنْ أَنَّهُ حَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ وَمِنَ الثَّانِي الْمَعْطُوفَ - ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ فيه حدفا كَثِيرًا مَعَ إِبْقَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْوَاوُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا مُسْتَأْنَفٌ وَالْأَصْلُ مَثَلُكَ وَمَثَلُهُمْ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْأَصْلَ وَمَثَلُكُ وَمَثَلُهُمْ ثُمَّ حَذَفَ [مَثَلُكَ] وَالْوَاوَ الَّتِي عَطَفَتْ مَا بَعْدَهَا وَبَقِيَتِ الْوَاوُ الْأَوْلَى وَيُزْعَمُ أَنَّ الْكَلَامَ رُبِطَ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِالْوَاوِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ وَفِيهِ مَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ الْحَجَّاجِ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الآية والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم لاصنام بِالَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ فَهُوَ تَمْثِيلُ دَاعٍ بِدَاعٍ مُحَقَّقٌ لَا حَذْفَ فِيهِ وَالْكُفَّارُ عَلَى هَذَا دَاعُونَ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ. مَدْعُوُّونَ. وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مستقيم} فَإِنَّ فِيهِ جُمْلَتَيْنِ حُذِفَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اكْتِفَاءً بِنِصْفِ الْأُخْرَى وَأَصْلُ الْكَلَامِ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا!. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ أَصْلَهُ هَكَذَا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا بُدَّ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ. وَهَاهُنَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَلْ هَذَا أَهْدَى مِنْ ذَلِكَ أَمْ ذَاكَ أَهْدَى مِنْ هَذَا؟ فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِلَّا نِصْفُ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ وَنِصْفُ الْأُخْرَى وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ هَذِهِ مَذْكُورٌ فِي تِلْكَ وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ تِلْكَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْفَصَاحَةِ ثُمَّ تُرِكَ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ لِهَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ وَأَيُّهُمَا هُوَ الْأَهْدَى لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْآيَةِ أَصْلًا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقُولُ الَّذِي يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يخلق} وَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يعلمون} . فَائِدَةٌ. قَدْ يُحْذَفُ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وَقَدْ يُعْكَسُ وَقَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ الْأَمْرَيْنِ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النبي} فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ [مَلَائِكَتَهُ] أَيْ إِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {يَمْحُوا الله ما يشاء ويثبت} ، أَيْ مَا يَشَاءُ. وَقَوْلِهِ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ من المشركين ورسوله} ، أَيْ بَرِيءٌ أَيْضًا. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غير الأرض والسماوات} . وقوله: {يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن لم يحضن} ، أَيْ كَذَلِكَ. وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو الْفَتْحِ قَوْلَهُ تعالى: {أسمع بهم وأبصر} التَّقْدِيرُ: وَأَبْصِرْ بِهِمْ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ كَانَ بِلَفْظِ الْفَضْلَةِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْفَاعِلِ. وَهَذَا التَّوْجِيهُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَإِنْ قُلْنَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ فَلَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض ليقولن الله} ، وَالتَّقْدِيرُ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ فَحَذَفَ [خَلَقَهُنَّ] لِقَرِينَةٍ تَقَدَّمَتْ فِي السُّؤَالِ. وَقَوْلِهِ: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نجزي المحسنين} وَلَمْ يَقُلْ: [إِنَّا كَذَلِكَ] اخْتِيَارًا وَاسْتِغْنَاءً عَنْهُ بقوله فيما سبق [إنا كذلك] . والثالث: كقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} ،فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ [أَحَقُّ] خَبَرٌ عَنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} ، فَالْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَعْنِي [بِهَا] لِأَنَّهُ لَوْ حُذِفَ مِنَ الثَّانِي لَمْ يَحْصُلِ الرَّبْطُ لِوُجُوبِ الضَّمِيرِ فِيمَا وَقَعَ مَفْعُولًا ثَانِيًا أَوْ كَالْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ[سَمِعْتُمْ] ، وَلَوْ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِثْبَاتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْأَوَّلِ غَيْرَ مُتَعَلِّقِ الثَّانِي.. الثَّامِنُ: الِاخْتِزَالُ، وَهُوَ الِافْتِعَالُ مِنْ خَزَلَهُ قَطَعَ وَسَطَهُ ثُمَّ نُقِلَ فِي الِاصْطِلَاحِ إِلَى حَذْفِ كَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَهِيَ إِمَّا اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 الأول: الاسم. " حذف المبتدأ ". فمنه حذف المبتدأ، كقوله تعالى: [ثلاثة] و [خمسة] ،و [سبعة] ،أي هم ثلاثة وهم خمسةوهم سَبْعَةٌ. وَقَوْلِهِ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فئتين التقتا فئة} ، أَيْ إِحْدَاهُمَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} . وقوله: {بلاغ فهل يهلك} ، أَيْ هَذَا بَلَاغٌ. وَقَوْلِهِ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ، أَيْ هُمْ عِبَادٌ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} ، أَيْ هِيَ النَّارُ. وَقَوْلُهُ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سوء العذاب. النار} ، أَيْ هُوَ النَّارُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ [النَّارُ] فِي الْآيَتَيْنِ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَيُمْكِنُ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ تَكُونَ النَّارُ بَدَلًا مِنْ [سُوءِ الْعَذَابِ] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 وقوله: {فقالوا ساحر كذاب} ،أي سَاحِرٌ. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . {وقالوا أساطير الأولين} . {وقل الحق من ربكم} ،أَيْ هَذَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيْسَ هَذَا كما يضلنه بَعْضُ الْجُهَّالِ أَيْ قُلِ الْقَوْلَ الْحَقَّ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَنَصَبَ [الْحَقَّ] وَالْمُرَادُ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَلِهَذَا قَالَ: {مِنْ رَبِّكُمْ} ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا قَوْلَ حَقٍّ مُطْلَقٍ بَلْ هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} ، وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} . وقوله: {سورة أنزلناها} ، أَيْ هَذِهِ سُورَةٌ. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ، أَيْ فَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ وَإِسَاءَتُهُ عَلَيْهَا. وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ مسه الشر فيؤوس قنوط} ، أَيْ فَهُوَ يَئُوسٌ. {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كفروا في البلاد. متاع قليل} ، أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ أَوْ ذَاكَ مَتَاعٌ. {وَمَا أدراك ما الحطمة. نار الله الموقدة} ، أَيْ وَالْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ. {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر} ، أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَالْقَصْرِ فَيَكُونُ مِنْ باب قول: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} ، أي كل واحدمنهم وَالْمُحْوِجُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرَرُ كُلُّهُ كَقَصْرٍ وَاحِدٍ وَالْقَصْرُ هُوَ الْبَيْتُ مِنْ أَدَمٍ كَانَ يُضْرَبُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 على المال، ويؤيده قوله: {جمالت صفر} ، أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ شَبَّهَهُ بِالْجَمَاعَةِ أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّرَرِ كَالْجَمَلِ لِجَمَاعَاتِهِ فَجَمَاعَاتُهُ إِذَنْ مِثْلُ الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ شَرَرَةٌ مِنْهُ كَالْقَصْرِ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي. وَأَمَّا قوله: {ولا تقولوا ثلاثة} ، فقيل: إن [ثلاثة] خير مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: [آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ] . وَاعْتُرِضَ بِاسْتِلْزَامِهِ إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَوِ الْخَبَرِ إِلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْخَبَرِ لَا إِلَى مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ وَحِينَئِذٍ يَقْتَضِي نَفْيَ عِدَّةِ الْآلِهَةِ لَا نَفْيَ وَجُودِهِمْ. قِيلَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ نَفْيَ كَوْنِ آلِهَتِهِمْ ثَلَاثَةً يَصْدُقُ بِأَلَّا يَكُونَ لِلْآلِهَةِ الثَّلَاثَةِ وُجُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنَ السَّالِبَةِ الْمُحَصِّلَةِ فَمَعْنَاهُ: لَيْسَ آلِهَتُكُمْ ثَلَاثَةً وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ آلِهَةٌ وَإِنَّمَا حُذِفَ إِيذَانًا بِالنَّهْيِ عَنْ مُطْلَقِ الْعَدَدِ الْمُفْهِمِ لِلْمُسَاوَاةِ بِوَجْهٍ مَا فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ صَرَّحَ بِالشَّرِكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ واحد} فَأَفْهَمَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْإِلَهُ يَكُونُ غَيْرُهُ مَعَهُ خَطَأً لِإِفْهَامِهِ مُسَاوَاةً مَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ الثَّلَاثَةِ لِامْتِنَاعِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ عَقْلًا وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ واحد} نَفْيُ الشَّرِكَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ تَخْصِيصَ النَّهْيِ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ الْفِعْلِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي اللَّهِ وَعِيسَى وَأُمِّهِ: ثَلَاثَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وَنَحْوُهُ فِي الْخُرُوجِ عَلَى السَّبَبِ: {لَا تَأْكُلُوا الربا أضعافا مضاعفة} . وَقَالَ صَاحِبُ [إِسْفَارِ الصَّبَاحِ] : الْوَجْهُ تَقْدِيرُ كَوْنِ ثَلَاثَةٍ أَوْ فِي [الْوُجُودِ] ثُمَّ حُذِفَ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ [لَنَا] أَوْ فِي الْوُجُودِ الْحَذْفُ الْمُطَّرِدُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَوْحِيدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ كَالْعَدَدِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا كَقَوْلِكَ: عِنْدِي ثَلَاثَةٌ أي دراهم وقد علم بقرينة قوله: {إنما الله إله واحد} . وَقَدْ عُورِضَ هَذَا بِأَنَّ نَفْيَ وُجُودِ ثَلَاثَةٍ لَا يَنْفِي وُجُودَ إِلَهَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ [آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ] يُوجِبُ ثُبُوتَ الْآلِهَةِ وَتَقْدِيرُ [لَنَا آلِهَةٌ] لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ إِلَهَيْنِ. فَعُورِضَ بِأَنَّهُ كَمَا لَا يُوجِبُهُ فَلَا يَنْفِيهِ. فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْفِهِ فَقَدْ نَفَاهُ مَا بَعْدَهُ من قوله: {إنما الله إله واحد} . فَعُورِضَ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِنْ نَفَى ثُبُوتَ إِلَهَيْنِ فَكَيْفَ ثُبُوتُ آلِهَةٍ!. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ وَلَكِنْ يُنَاقِضُهُ لِأَنَّ تَقْدِيرَ آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ يُثْبِتُ وُجُودَ إِلَهَيْنِ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ بِخِلَافِ تَقْدِيرِ: [لَنَا آلِهَةٌ ثَلَاثَةٌ] ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ وُجُودَ إِلَهَيْنِ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ إِلَى أَصْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْآلِهَةِ. وَفِي أَجْوِبَةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ نَظَرٌ. قُلْتُ: وَذَكَرَ ابْنُ جِنِّي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 حذف الخبر. نحو: {أكلها دائم وظلها} ، أي دَائِمٌ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ مَنِ اقْتَصَّ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ: {هَذَا ذكر} ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد. هذا} قَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَآلِ أَمْرِ الطَّاغِينَ وَمِنْهُ يُفْهَمُ الْخَبَرُ. وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ أَهَذَا خَيْرٌ أَمَّنْ جَعَلَ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا وَقَسَا قَلْبُهُ فَحُذِفَ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} . وقوله تعالى: {قالوا لا ضير} . {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت} . وقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا} قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيمَا أَتْلُوهُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وَجَاءَ [فَاقْطَعُوا] جُمْلَةٌ أُخْرَى. وَكَذَا قوله: {الزانية والزاني} فِيمَا نَقُصُّ لَكُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّارِقُ مُبْتَدَأٌ فَاقْطَعُوا خَبَرُهُ وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْمَ عَامٌّ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 بِهِ سَارِقًا مَخْصُوصًا فَصَارَ كَأَسْمَاءِ الشَّرْطِ تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهَا لِعُمُومِهَا وَإِنَّمَا قَدَّرَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ لِجَعْلِ الْخَبَرِ أَمْرًا وَإِذَا ثَبَتَ الْإِضْمَارُ فَالْفَاءُ دَاخِلَةٌ فِي مَوْضِعِهَا تَرْبُطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْإِضْمَارِ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ الِاخْتِيَارِيَّ فِيهِ النَّصْبُ قَالَ وَقَدْ قَرَأَ نَاسٌ بِالنَّصْبِ ارْتِكَانًا لِلْوَجْهِ الْقَوِيِّ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الرَّفْعَ. وَكَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} : مَثَلُ، هُنَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فِيمَا نقض عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ وَكَذَا قَالَ أَيْضًا فِي قوله تعالى: {والذان يأتيانها منكم فآذوهما} : إِنَّهُ عَلَى الْإِضْمَارِ. وَقَدْ رُدَّ بِأَنَّهُ أَيُّ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ هُنَا فَإِنَّهُ إِنَّمَا صِرْنَا إِلَيْهِ فِي السَّارِقِ وَنَحْوِهِ لِتَقْدِيرِهِ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ فَاحْتِيجَ لِلْإِضْمَارِ حَتَّى تَكُونَ الْفَاءُ عَلَى بَابِهَا فِي الرَّبْطِ وَأَمَّا هَذَا فَقَدَ وُصِلَ بِفِعْلٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَأْتِيكَ فَلَهُ دِرْهَمٌ. وَأَجَابَ الصَّفَّارُ بِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ مَعَ الضَّرُورَةِ كَيْفَ كان لأنه إذا أضمر فقد تكلف وَإِنْ لَمْ يُضْمِرْ كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا وَبَعْدَهُ الْأَمْرُ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنَّظَرِ [إِلَى لِلَّذَينِ يَأْتِيَانِهَا] فَكَيْفَمَا عَمِلَ لَمْ يَخْلُ مِنْ قُبْحٍ. وَإِنْ قُدِّرَ مَنْصُوبًا وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْأَلِفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ [الزَّيْدَانِ] فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقَعَ أَيْضًا فِي مَحْذُورٍ آخَرَ فَلِهَذَا قَدَّرَهُ هَذَا التَّقْدِيرَ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مَعَ الرَّفْعِ يَتَكَافَآنِ. وَقَوْلُهُ: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ يُعَذِّبُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الخبر: {أولئك ينادون من مكان بعيد} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وقوله: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} ، فَأَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ حَاضِرُونَ وَهُوَ لَازِمُ الْحَذْفِ هُنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكتاب من قبلكم} ، أَيْ حِلٌّ لَكُمْ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وقالت اليهود عزير ابن الله} ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّنْوِينِ فَلَا حَذْفَ لِأَنَّهُ يجعله مبتدأ [وابن اللَّهِ] خَبَرٌ حِكَايَةً عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يُنَوِّنْ فَقِيلَ: إِنَّهُ صفة والخبر محذوف أي عزيز ابْنُ اللَّهِ إِلَهُنَا وَقِيلَ: بَلِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ أي إلهنا عزيز وَابْنُ صِفَةٌ. وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يطابق: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ التَّكْذِيبُ لَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْبُنُوَّةِ فَكُذِّبَ لِأَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ رَاجِعٌ إِلَى نِسْبَةِ الْخَبَرِ لَا إلى الصف فَلَوْ قِيلَ زَيْدٌ الْقَائِمُ فَقِيهٌ فَكُذِّبَ انْصَرَفَ التَّكْذِيبُ لِإِسْنَادِ فِقْهِهِ لَا لِوَصْفِهِ بِالْقَائِمِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ إِنْشَاءً فَهِيَ خَبَرٌ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ تَامَّةِ الْإِفَادَةِ فَيَصِحُّ تَكْذِيبُهَا وَالْأَوْلَى تَقْوِيَتُهُ وَأَنْ يُقَالَ الصِّفَةُ وَالْإِضَافَةُ وَنَحْوُهُمَا فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَوَاحِقٌ بِصُورَةِ الْإِفْرَادِ أَيْ يُرِيدُ أَنْ يُصَوِّرَهُ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى كَذِبِهَا مَعَ أَنَّهَا تُصُوِّرَتْ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَذِبَ الصِّفَةِ بِإِسْنَادِ مُسْنَدِهَا إِلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 مَعْدُومِ الثُّبُوتِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفِقْهِ مَا لَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {عزير ابن الله} خَبَرُ الْجُمْلَةِ أَيْ حَكَى فِيهِ لَفْظَهُمْ أَيْ قَالُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْقَبِيحَةَ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَدَّرُ خَبَرٌ وَلَا مُبْتَدَأٌ. وَقِيلَ: [ابْنُ اللَّهِ] خَبَرٌ وَحُذِفَ التَّنْوِينُ مِنْ [عُزَيْرُ] لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقِيلَ: حُذِفَ تَنْوِينُهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَقِرَاءَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد. الله الصمد} على إراد التَّنْوِينِ بَلْ هُنَا أَوْضَحُ لِأَنَّهُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقِيلَ: [ابْنُ اللَّهِ] نَعْتٌ وَلَا مَحْذُوفَ وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا اللفظ إنكارا عليهم إلا أن فيه نعتا لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ إِنْ قُلْتَ وَضَعَتْهُ الْعَرَبُ لِتَحْكِيَ بِهِ مَا كَانَ كَلَامًا لَا قَوْلًا وَأَيْضًا إِنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ: {وَقَالَتِ النَّصَارَى المسيح ابن الله} وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْقَوْلَانِ مَنْقُولَانِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ بَلَغُوا فِي رُسُوخِ الِاعْتِقَادِ فِي هَذَا الشَّيْءِ إِلَى أَنْ يَذْكُرُونَ هَذَا النُّكْرَ كَمَا تَقُولُ فِي قَوْمٍ تَغَالُوا فِي تَعْظِيمِ صَاحِبِهِمْ أَرَاهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَمْرًا عَظِيمًا ثَابِتًا يَقُولُونَ: زَيْدٌ الْأَمِيرُ!. مَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. قَوْلُهُ تعالى: {فصبر جميل} يَحْتَمِلُ حَذْفَ الْخَبَرِ أَيْ أَجْمَلُ أَوْ حَذْفَ الْمُبْتَدَأِ أَيْ فَأَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ وَهَذَا أَوْلَى لِوُجُودِ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ - هِيَ قِيَامُ الصَّبْرِ بِهِ - دالة على. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 الْمَحْذُوفِ وَعَدَمُ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْخَبَرِ وَأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الصَّبْرِ لَهُ وَاتِّصَافِهِ بِهِ وَحَذْفُ الْمُبْتَدَأِ يُحَصِّلُ ذَلِكَ دُونَ حَذْفِ الْخَبَرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ أَجْمَلُ مِمَّنْ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَهُ وَلِأَنَّ الصَّبْرَ مَصْدَرٌ وَالْمَصَادِرُ مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ فَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ خَبَرًا وَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ. وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أَيْ أَمْثَلُ أَوْ أَوْلَى لَكُمْ مِنْ هَذَا أَوْ أَمْرُكُمُ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْكُمْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {سورة أنزلناها} إِمَّا أَنْ يُقِدِّرَ فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سُورَةٌ أَوْ هَذِهِ سُورَةٌ. وَقَدْ يُحْذَفَانِ جُمْلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ. حَذْفُ الْفَاعِلِ. الْمَشْهُورُ امْتِنَاعُهُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:. أَحَدُهَا: إِذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ. ثَانِيهَا: فِي الْمَصْدَرِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ الْفَاعِلُ مُظْهَرًا يَكُونُ مَحْذُوفًا وَلَا يَكُونُ مُضْمَرًا نحو: {أو إطعام} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 ثَالِثُهَا: إِذَا لَاقَى الْفَاعِلُ سَاكِنًا مِنْ كَلِمَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِكَ لِلْجَمَاعَةِ: اضْرِبُ الْقَوْمَ، وَلِلْمُخَاطَبَةِ: اضْرِبِ الْقَوْمَ. وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ حَذْفَهُ مُطْلَقًا إِذَا مَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إذا بلغت التراقي} أَيْ بَلَغَتِ الرُّوحُ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس. {فإذا نزل بساحتهم} يعني العذاب، لقوله قبله: {أفبعذابنا يستعجلون} . {فلما جاء سليمان} تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ سُلَيْمَانَ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ فِي الْمَذْكُورَاتِ مُضْمَرٌ لَا مَحْذُوفٌ وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. أَمَّا حَذْفُهُ وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ مَعَ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فَلَهُ أَسْبَابٌ:. مِنْهَا: الْعِلْمُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عجل} . {وخلق الإنسان ضعيفا} وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ إِنَّمَا هُوَ الْإِعْلَامُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ وَلَا غَرَضَ فِي إِبَانَةِ الْفَاعِلِ مَنْ هُوَ. وَمِنْهَا: تَعْظِيمُهُ كَقَوْلِهِ: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} إِذْ كَانَ الَّذِي قَضَاهُ عَظِيمُ الْقَدْرِ. وَقَوْلِهِ: {وغيض الماء وقضي الأمر} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وقوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ: هَذَا أَدَلُّ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمُنَزَّلِ وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ [أَنْزَلَ] مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ كَمَا تَقُولُ الْمَلِكُ أَمَرَ بِكَذَا وَرَسَمَ بِكَذَا وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ كقوله: {وقضي الأمر} قَالَ: كَأَنَّ طَيَّ ذِكْرِ الْفَاعِلِ كَالْوَاجِبِ لِأَمْرَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّنَ الْفَاعِلُ وَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَانَ ذِكْرُهُ فَضْلًا وَلَغْوًا. وَالثَّانِي: الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ مِنْهُ غَيْرُ مُشَارِكٍ وَلَا مُدَافِعٍ عَنِ الِاسْتِئْثَارِ بِهِ وَالتَّفَرُّدِ بِإِيجَادِهِ وَأَيْضًا فَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصِيرِ أَنَّ اسْمَهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُصَانَ وَيُرْتَفَعُ بِهِ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ وَعَنِ الْحَسَنِ لَوْلَا أَنِّي مَأْذُونٌ لِي فِي ذِكْرِ اسْمِهِ لَرَبَأْتُ بِهِ عَنْ مَسْلَكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَمِنْهَا: مُنَاسَبَةُ الْفَوَاصِلِ، نَحْوَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نعمة تجزى} وَلَمْ يَقُلْ يَجْزِيهَا. وَمِنْهَا: مُنَاسَبَةُ مَا تَقَدَّمَهُ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يفقهون} ، لأن قبلها: {وإذا أنزلت سورة} عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فَجَاءَ قَوْلُهُ: {وَطُبِعَ} لِيُنَاسِبَ بِالْخِتَامِ الْمَطْلَعَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدَهَا: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي الْبِنَاءَ فَجَاءَتْ عَلَى الْأَصْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَهُوَ كَثِيرٌ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَفِي الْقُرْآنِ مِنْهُ زُهَاءَ أَلْفِ مَوْضِعٍ وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ فَلَا يَقِيسُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِكَثْرَةِ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ وَحَذْفُ الْمُضَافِ مَجَازٌ. انْتَهَى. وَشَرَطَ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ [مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ] لِجَوَازِهِ وُجُودَ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ نَحْوَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، أَيْ أَهْلَهَا قَالَ: وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ نَقُولَ: جَاءَ زَيْدٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامَ زَيْدٍ لِأَنَّ المجيء يكون له ولا دليل [في مثل هذا] عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ الْقَدِيمِ: لَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُضَافِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ وفي غير ملبس كقوله: {واسأل القرية} . وَضُعِّفَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَدَّرَ فِي قَوْلِهِ: {وهو خادعهم} أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. فَإِنْ قُلْتَ: كَمَا لا يجوز مجيئه لايجوز خِدَاعُهُ فَحِينَ جَرَّكَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ امْتِنَاعُ مَجِيئِهِ فَهَلَّا جَرَّكَ إِلَى مِثْلِهِ امْتِنَاعُ خِدَاعِهِ!. قُلْتُ: يَجُوزُ فِي اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ تَصَوُّرُ خِدَاعِهِ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مُلْبِسًا فَلَا يُقَدَّرُ. انْتَهَى. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر} أي رحمته ويخاف عذابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} أَيْ: سَدُّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أَيْ: شَعْرُ الرَّأْسِ. {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تخافت بها} أَيْ بِقِرَاءَةِ صَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِقِرَاءَتِهَا. {وَلَكِنَّ البر من آمن بالله} أَيْ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. {فَلَمَّا أَتَاهَا نودي} أَيْ نَاحِيَتَهَا وَالْجِهَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا. {هَلْ يسمعونكم إذ تدعون} أَيْ هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى {قال هل يسمعونكم إذ تدعون} . {على خوف من فرعون وملأهم} ، أَيْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وضعف الممات} أَيْ ضَعَّفَ عَذَابَهُمَا. {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الذي ينعق} أَيْ وَمَثَلُ وَاعِظِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَنَاعِقِ الْأَنْعَامِ. {وأزواجه أمهاتهم} أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أَيْ شُكْرَ رِزْقِكُمْ. وَقِيلَ: تَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك. وقوله: {أماناتكم} أَيْ ذَوِي أَمَانَاتِكُمْ كَالْمُودَعِ وَالْمُعِيرِ وَالْمُوَكَّلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وَالشَّرِيكِ وَمَنْ يَدُكَ فِي مَالِهِ أَمَانَةً لَا يَدَ ضَمَانٍ وَيَجُوزُ أَنْ لَا حَذْفَ فِيهِ لِأَنَّ [خُنْتَ] مِنْ بَابِ [أَعْطَيْتَ] فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَيُقْتَصَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَقَوْلُهُ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أخاهم شعيبا} ، أَيْ أَهْلُ مَدْيَنَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ ثاويا في أهل مدين} . {واسأل القرية التي كنا فيها} أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ. وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَرْيَةَ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الجماعة، والثاني: أن المراد الْأَبْنِيَةِ نَفْسِهَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ نَبِيٌّ صَاحِبُ مُعْجِزَةٍ. {الحج أشهر معلومات} وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ. {وجاء ربك والملك} أَيْ أَمْرُ رَبِّكَ. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بكفرهم} أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ قَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهُ عَلَى بَابِهِ فَإِنَّ فِي ذِكْرِ الْعِجْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِمْ صَارَ صُورَةُ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ لَا تَمَّحِي. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فعل ربك بعاد إرم} فَإِرَمُ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ إلا أنه منع الصرف للعملية وَالتَّأْنِيثِ أَمَّا لِلْعَلَمِيَّةِ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا التَّأْنِيثُ فَلِقَوْلِهِ: {ذات العماد} . وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أصبحوا بها كافرين} أي بسؤالها فحذف المضاف وَلَمْ يَكْفُرُوا بِالسُّؤَالِ إِنَّمَا كَفَرُوا بِرَبِّهِمُ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ فِيمَا سَأَلُوا عَنْهُ نُسِبَ الْكُفْرُ إِلَيْهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وقيل: الهاء الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ لِقُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ بِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ كِنَايَةٌ عَمَّا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى وَقَوْمُ عِيسَى مِنَ الْآيَاتِ ثم كفروا فمعنى السؤال الأول والثان الِاسْتِفْهَامُ وَمَعْنَى الثَّالِثِ طَلَبُ الشَّيْءِ. وَقَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عليكم الميتة} ، أَيْ تَنَاوُلُهَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَجْرَامِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ الْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ تَنَاوُلِهَا فَلَا حَذْفَ وَلَوْ كَانَ ثَمَّ حَذْفٌ لَمْ يُؤَنِّثِ الْفِعْلَ وَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَ إِنَّمَا يُحْذَفُ إِذَا كَانَ لِلْكَلَامِ دَلَالَةٌ غَيْرَ الدَّلَالَةِ الْإِفْرَادِيَّةِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ التَّنَاوُلُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ وَالْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ مَحَالِّ الْحَذْفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصالحين} ، فَهَاهُنَا إِضْمَارٌ لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا جَعَلْتُهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ] لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي زُمْرَةِ الصالحين. وقوله: {تجعلونه قراطيس} أَيْ ذَا قَرَاطِيسَ أَوْ مَكْتُوبًا فِي قَرَاطِيسَ {تُبْدُونَهَا} أَيْ تُبْدُونَ مَكْتُوبَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} لَيْسَ الْمَعْنَى تُخْفُونَهَا إِخْفَاءً كَثِيرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ: تُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْ إِنْكَارِ ذِي الْقَرَاطِيسِ أَيْ يَكْتُمُونَهُ فَلَا يُظْهِرُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الكتاب} . وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} . وقوله: {فسالت أودية بقدرها} ، أَيْ بِقَدْرِ مِيَاهِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهم بها} ، أَيْ هَمَّ بِدَفْعِهَا أَيْ عَنْ نَفْسِهِ فِي هذا التأويل بتنزيله يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي الوقف على قوله: {لقد همت به} . تنبيه. في جواز حذف المضاف مع الالتفات إليه. اعْلَمْ أَنَّ الْمُضَافَ إِذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ من عود الضمير عليه وَمَعَ اطِّرَاحِهِ يَصِيرُ الْحُكْمُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ للقائم مقامه. فمثال استهلاكه حكمه وتناسي أمره قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج} : فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي [يَغْشَاهُ] عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ بِتَقْدِيرِ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ. وَقَوْلِهِ: {أَوْ كصيب} أَيْ كَمِثْلِ ذَوِي صَيِّبٍ وَلِهَذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إليه مجموعا في قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وَلَوْ لَمْ يُرَاعَ لَأَفْرَدَهُ أَيْضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وقوله: {كذبت قوم نوح} وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحُذِفَتِ التَّاءُ لِأَنَّ الْقَوْمَ مُذَكَّرٌ ومنه قول حسان: يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عَلَيْهِمُ بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ بِالْيَاءِ أَيْ مَاءٌ بَرَدَى وَلَوْ رَاعَى الْمَذْكُورَ لَأَتَى بِالتَّاءِ. قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مُرَاعَاةُ التَّأْنِيثِ وَالْمَحْذُوفِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بأسنا بياتا أو هم قائلون} أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي [أَهْلَكْنَاهَا] وَ [فَجَاءَهَا] لِإِعَادَتِهِمَا عَلَى الْقَرْيَةِ الْمُؤَنَّثَةِ وَهِيَ الثَّابِتَةُ ثُمَّ قَالَ: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فَأَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ حَمْلًا عَلَى [أَهْلِهَا] الْمَحْذُوفِ. وَفِي تَأْوِيلِ إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى التَّأْنِيثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ صَارَتِ الْمُعَامَلَةُ مَعَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِي الثَّانِي حَذْفُ الْمُضَافِ كَمَا قُدِّرَ فِي الْأَوَّلِ فَإِذَا قُلْتَ: سَأَلْتُ الْقَرْيَةَ وَضَرَبْتُهَا فَمَعْنَاهُ وَضَرَبْتُ أَهْلَهَا فَحُذِفَ الْمُضَافُ كَمَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ إِذْ وَجْهُ الْجَوَازِ قَائِمٌ. وَقِيلَ: هُنَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ وَالْمَعْنَى أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا وَبَيَاتًا حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ مُبَيِّتِينَ وَ {أَوْ هم قائلون} جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ. وَأَنْكَرَ الشَّلُوبِينُ مُرَاعَاةَ الْمَحْذُوفِ وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى وَنَقَلَهُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمَاعَةٌ وَلِهَذَا يُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ الْجَمْعِ نَحْوَ هِيَ الرِّجَالُ وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عِنْدَهُمْ مُؤَنَّثٌ وَأَسْمَاءُ الْجُمُوعِ تَجْرِي مَجْرَاهَا وَعَلَى هَذَا جَاءَ التَّأْنِيثُ لَا عَلَى الْحَذْفِ وَكَذَا الْقَوْلُ في البيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وفي قراءة بعضهم: {والله يريد الآخرة} قَدَّرُوهُ عَرَضَ الْآخِرَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّرَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى بِخِلَافِ الثَّوَابِ. حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَهُوَ أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا كَقَوْلِهِ: {كل في فلك يسبحون} . وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . وَكَذَا كُلُّ مَا قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ مِمَّا وَجَبَتْ إِضَافَتُهُ مَعْنًى لَا لَفْظًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} ، أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِهِ. حَذْفُ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. قَدْ يُضَافُ الْمُضَافُ إِلَى مُضَافٍ فَيُحْذَفُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَيَبْقَى الثَّالِثُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وتجعلون رزقكم} أَيْ بَدَلَ شُكْرِ رِزْقِكُمْ. وَقَوْلِهِ: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عليه من الموت.} أَيْ كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرٍ وَكَذَلِكَ قُدِّرَتِ الثَّانِيَةُ [كَالَّذِي] حَالًا مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي [أَعْيُنِهِمْ] لِأَنَّ الْمُضَافَ بَعْضٌ فَلَا تَقْدِيرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وقوله: {فما أصبرهم على النار} وَقَدَّرَهُ أَبُو الْفَتْحِ فِي الْمُحْتَسَبِ عَلَى أَفْعَالِ أهل النار. وأما قوله: {من الموت} فَالتَّقْدِيرُ مِنْ مُدَانَاةِ الْمَوْتِ أَوْ مُقَارَبَتِهِ وَلَا ينكر عسره على الإنسان ولكن إذا دفع إلى أمر هابه. وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عليه من الموت} . وقوله: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} ، أَيْ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ. وَقَوْلُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} ، أَيْ مِنْ أَمْوَالِ كُفَّارِ أَهْلِ الْقُرَى. وَقَوْلُهُ: {فإنها من تقوى القلوب} أَيْ مِنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ وَقَوْلُهُ: {أو كصيب من السماء} الْآيَةَ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ أَمَّا حَذْفُ الْمُضَافِ فَلِقَرِينَةِ عطفه على {كمثل الذي استوقد نارا} وأما المضاف إليه فلدلالة: {جعلون أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عَلَيْهِ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ مَجْمُوعًا وَإِنَّمَا صُيِّرَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بَيْنَ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَصِفَةِ ذَوِي الصَّيِّبِ لا بين صف الْمُنَافِقِينَ وَذَوِي الصَّيِّبِ. حَذْفُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. كَقَوْلِهِ: {خلطوا عملا صالحا} أي بسيء {وآخر سيئا} أي بصالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وَكَذَا بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ الله أكبر} أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى} أَيْ مِنَ السِّرِّ وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْمُفَصَّلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِمَّا قُطِعَ3 فِيهِ عَنْ مُتَعَلِّقَهِ قَصْدًا لِنَفْيِ الزِّيَادَةِ نَحْوَ فُلَانٌ يُعْطِي لِيَكُونَ كالفعل المتعدي إذا جعل قاصر لِلْمُبَالَغَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مِنَ الْحَذْفِ فَإِنَّهُ قَالَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ وَهُمْ فِيهَا شُرَكَاءٌ وَالثَّانِي أَنْ يُوجَدَ مُطْلَقًا لَهُ الزِّيَادَةُ فِيهَا إِطْلَاقًا ثُمَّ يُضَافُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَكِنْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ كَمَا يُضَافُ مَا لَا تَفْضِيلَ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِكَ النَّاقِصُ وَالْأَشَجُّ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ كَأَنَّكَ قُلْتَ: عَادِلًا. انْتَهَى. حَذْفُ الْمَوْصُوفِ. يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرَانِ:. أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الصِّفَةِ خَاصَّةً بِالْمَوْصُوفِ حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ فَمَتَى كَانْتِ الصِّفَةُ عَامَّةً امْتَنَعَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي آخِرِ بَابِ تَرْجَمَةِ [هَذَا بَابُ مَجَارِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ] وَكَذَلِكَ نَصَّ عليه أرسطاطا ليس فِي كِتَابِهِ الْخَطَابَةُ. الثَّانِي: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ السياق كقوله تعالى: {والله عليم بالمتقين} . {والله عليم بالظالمين} فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي سِيَاقِ الْقَوْلِ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ الْقَوْلِ مِنَ الْمَدْحِ أَوِ الذم بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 كقوله تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف عين} أَيْ حُورٌ قَاصِرَاتٌ. وَقَوْلِهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} أَيْ وَجَنَّةٌ دَانِيَةٌ. وَقَوْلِهِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكور} أي العبد الشكور. وقوله: {هدى للمتقين} أَيْ الْقَوْمِ الْمُتَّقِينَ. وَقَوْلِهِ: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ ألواح ودسر} أَيْ سَفِينَةٌ ذَاتُ أَلْوَاحٍ. وَقَوْلِهِ: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أَيِ الْأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ. وَقَوْلِهِ: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا سابغات. وقوله: {يا أيها الساحر} أَيْ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ السَّاحِرُ. وَقَوْلِهِ: {أَيُّهَا المؤمنون} أي القوم المؤمنون. وقوله: {وعمل صالحا} أَيْ عَمَلًا صَالِحًا. حَذْفُ الصِّفَةِ. وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ فِي النَّكِرَاتِ وَكَأَنَّ التَّنْكِيرَ حِينَئِذٍ عَلَمٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا نُقِيمُ لهم يوم القيامة وزنا} أَيْ وَزْنًا نَافِعًا. وَقَوْلِهِ: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جوع وآمنهم من خوف} أَيْ مِنْ جُوعٍ شَدِيدٍ وَخَوْفٍ عَظِيمٍ. وَقَوْلِهِ: {يا أهل الكتاب لستم على شيء} أَيْ شَيْءٍ نَافِعٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وقوله: {ما تذر من شيء} أَيْ سُلِّطَتْ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} أَيْ جَامِعًا لِأُكَمِّلَ كُلَّ صِفَاتِ الرُّسُلِ. وَقَوْلِهِ: {يأخذ كل سفينة غصبا} أَيْ صَالِحَةٍ وَقِيلَ إِنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْإِضْمَارَ بَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَقَوْلِهِ: {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وشراب} أَيْ كَثِيرٍ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَيَجِيءُ فِي العرف. كقوله تعالى: {الآن جئت بالحق} أَيِ الْمُبِينِ. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قد جمعوا لكم} أَيِ النَّاسُ الَّذِينَ يُعَادُونَكُمْ. وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ مِنْ أهلك} أي الناجين. وقوله: {وكذب به قومك} أَيْ قَوْمُكَ الْمُعَانِدُونَ. وَمِنْهُ: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أَيْ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أَيْ مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ. قاله ابن مالك وغيره وبهذا التقدير يزل إشكال التكرار من الآية. وقوله تعالى: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} أَيْ لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ شَيْئًا فَحُذِفَتِ الصِّفَةُ أَوِ الْحَالُ قِيلَ وَالْعُمْرُ هُنَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. حَذْفُ الْمَعْطُوفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} ، {أفلم يسيروا} ، {أثم إذا ما وقع} التَّقْدِيرُ أَعَمُوا! أَمَكَثُوا!! أَكَفَرْتُمْ!!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وقوله: {ما شهدنا مهلك أهله} ، أَيْ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَمَهْلِكِهِ بِدَلِيلِ قوله: {لنبيتنه وأهله} ، أَيْ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَمَهْلِكِهِ بِدَلِيلِ قوله لنبيتنه وأهله وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَهْلِهِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُمْ: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} كذب في الإخبار وأوهموا قومهم أنهم قَتَلُوهُ وَأَهْلَهُ سِرًّا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ أَحَدٌ وَقَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ وَهُمْ كَاذِبُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَيْ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَهُ وَمَهْلِكَ أَهْلِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَصْلُهُ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِكَ بِالْخِطَابِ ثُمَّ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ فَلَا حَذْفَ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْمَعْطُوفُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ من قبل الفتح وقاتل} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} أَيْ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَخَالَفُوا الْأَمْرَ فَفَسَقُوا وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنَ الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْفِسْقُ مَأْمُورًا بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {أَمَرْنَا مترفيها} صِفَةٌ لِلْقَرْيَةِ لَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا} التَّقْدِيرُ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنَّ نُهْلِكَ قَرْيَةً مِنْ صِفَتِهَا أَنَّا أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا وَيَكُونُ إذا على هذا لم يأت لها جوابا ظَاهِرٌ اسْتِغْنَاءً بِالسِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إذا جاءوها فتحت أبوابها} . حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} أي لو ملكا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 ويجوز حذفه مع حرف العطف كقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعدة من أيام أخر} أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ. وَقَوْلِهِ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البحر} فانفلق التَّقْدِيرُ: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ ضرب وحرف العطف وهو الفاء المتصلة انْفَلَقَ فَصَارَ: [فَانْفَلَقَ] فَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى انْفَلَقَ هِيَ الْفَاءُ الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِـ[ضَرَبَ] وَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ بِـ[انْفَلَقَ] فَمَحْذُوفَةٌ. كَذَا زَعْمُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَالْأَبَّذِيِّ قَالُوا وَالَّذِي دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ إِنَّمَا نُوِيَ بِهِ مُشَارَكَةُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي فَإِذَا حُذِفَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي لَفْظَ الْمَعْطُوفِ أَوِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَلَّا يُؤْتَى بِهِ لِيَزُولَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحَذْفِ بَلْ مِنْ إِقَامَةِ الْمَعْطُوفِ مَقَامَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَيُقَامُ السَّبَبُ كَثِيرًا مَقَامَ مُسَبِّبِهِ وَلَيْسَ مَا بَعْدَهَا مَعْطُوفًا عَلَى الْجَوَابِ بَلْ صَارَ هُوَ الْجَوَابُ بِدَلِيلِ: {فَانْبَجَسَتْ} هُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ. حَذْفُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. اخْتَلَفُوا فِيهِ وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} . حَذْفُ الْمَوْصُولِ. قَوْلُهُ: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وأنزل إليكم} أَيْ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ لِأَنَّ [الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا] لَيْسَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَنَا وَلِذَلِكَ أُعِيدَتْ [مَا] بَعْدَ [مَا] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 فِي قَوْلِهِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ من قبل} . وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} . وَقَوْلِهِ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أَيْ مَنْ لَهُ. وَشَرَطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ لِجَوَابِ الْحَذْفِ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْصُولٍ آخَرَ وَيُؤَيِّدُهُ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: وَلَا يُحْذَفُ مَوْصُولٌ حَرْفِيٌّ إِلَّا [أَنْ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ومن آياته يريكم البرق} . حَذْفُ الْمَخْصُوصِ فِي بَابِ نِعْمَ إِذَا عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} التَّقْدِيرُ نِعْمَ الْعَبْدُ أَيُّوبُ أَوْ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِي ذِكْرِ أَيُّوبَ فَإِنْ قَدَّرْتَ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ لَمْ يَكُنْ هُوَ عَائِدًا عَلَى الْعَبْدِ بَلْ عَلَى أَيُّوبَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نعم العبد} فَسُلَيْمَانُ هُوَ الْمَخْصُوصُ الْمَمْدُوحُ وَإِنَّمَا لَمْ يُكَرَّرْ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَنْصُوبًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَدَرْنَا فنعم القادرون} أَيْ نَحْنُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أَيِ الْجَنَّةُ أَوْ دَارُهُمْ. {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي عقباهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 {ونعم أجر العاملين} أَيْ أَجْرُهُمْ. وَقَالَ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أَيْ مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ وَقَالَ تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} أَيْ إِيمَانُكُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ وَكُفْرُكُمْ بِمَا وَرَاءَهُ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْفَاعِلُ وَالْمَخْصُوصُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَبِهَا وَنِعْمَتْ " أَيْ نِعْمَتِ الرُّخْصَةُ. حَذْفُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ. يَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ:. أَحَدُهَا: الصلة، كقوله تعالى: {هذا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا:} . الثَّانِي: الصِّفَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نفس شيئا،} أَيْ فِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فيه إلى الله} وَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْأُولَى لِأَنَّ حُكْمَهُنَّ حُكْمُهَا، فَالتَّقْدِيرُ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ ينصرون} فِيهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْأَخْفَشُ: حُذِفَتْ عَلَى التَّدْرِيجِ أَيْ حُذِفَ الْعَطْفُ فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ فَحُذِفَ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ حُذِفَا مَعًا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وَقِيلَ: عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ أَوَّلًا اتِّسَاعًا وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ. وَجَعَلَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} ، أَيْ مِنْهُ وَقَوْلَهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ من حميم ولا شفيع يطاع} أَيْ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ [يُغْنِي] جُمْلَةٌ قَدْ أُضِيفَ إِلَيْهَا اسْمُ الزَّمَانِ وَلَيْسَتْ صِفَةً. وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ عَوْدَ ضَمِيرٍ إِلَى الْمُضَافِ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ غَيْرُ جَائِزٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: فَإِنْ قُلْتَ أَعْجَبَنِي يَوْمٌ قُمْتُ فِيهِ امْتَنَعَتِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ وَلَا يُضَافُ مَوْصُوفٌ إِلَى صِفَتِهِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ {مَا للظالمين من حميم} صِفَةٌ لِيَوْمٍ الْمُضَافُ إِلَيْهَا الْأَزْمِنَةُ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَقَعُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْهُ ثُمَّ حُذِفَ الْعَائِدُ المجرور [في] كما يحذف من الصفة. الثالث: الخبر، كقوله تعالى: {وكل وعد الله الحسنى} في قراءة ابن عامر. الرابع: الحال. تنبيه. [عن ابن الشجري في تفاوت أنواع الحذف] . قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: أَقْوَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْحَذْفِ الصِّلَةُ لِطُولِ الْكَلَامِ فِيهَا لِأَنَّهُ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ نَحْوَ: جَاءَ الَّذِي ضَرَبْتُ وَهُوَ الْمَوْصُولُ وَالْفِعْلُ وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ ثُمَّ الصِّفَةُ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَتَى بِالصِّفَةِ لِلتَّوْضِيحِ ثُمَّ الْخَبَرِ لِانْفِصَالِهِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْكُومٌ عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وَوَجْهُ التَّفَاوُتِ أَنَّ الصِّفَةَ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ وَصِلَتَهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَلِهَذَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا وَالصِّفَةُ دُونَهَا فِي ذلك ولهذا يكثر حذف الموصوف وإقامة الصفةمقامه وَالْخَبَرُ دُونَ ذَلِكَ فَكَانَ الْحَذْفُ آكَدَ فِي الصِّلَةِ مِنَ الصِّفَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ شَيْئَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى الْحَذْفِ الصِّفَةُ تَسْتَدْعِي مَوْصُوفًا وَالْعَامِلُ يَسْتَدْعِيهِ أَيْضًا. وَيَسْتَحْسِنُ ابْنُ مَالِكٍ هَذَا الْكَلَامَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى الْحَالِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الصِّفَةِ. حَذْفُ الْمَفْعُولِ. وَهُوَ ضَرْبَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مَعَ الْحَذْفِ فَيُنْوَى لِدَلِيلٍ وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ موضع ما يليق ب، كقوله تعالى: {فعال لما يريد} أي يريده. {فغشاها ما غشى} أَيْ غَشَّاهَا إِيَّاهُ. {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يشاء ويقدر} . {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا من رحم} . {وسلام على عباده الذين اصطفى} . {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} . وَكُلُّ هَذَا عَلَى حَذْفِ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مُرَادٌ حُذِفَ تَخْفِيفًا لِطُولِ الْكَلَامِ بِالصِّفَةِ وَلَوْلَا إِرَادَةُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ لَخَلَتِ الصِّلَةُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ لَهُ وَاقْتِضَاءُ الصِّلَةِ إِذَا كَانَ الْعَائِدَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عملت أيديهم} في قراءة حمزة والكسائي بغير هاء أَيْ مَا عَمِلَتْهُ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ فَـ "مَا" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِلْعَطْفِ عَلَى [ثَمَرِهِ] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ [مَا] نَافِيَةً وَالْمَعْنَى لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَلَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ فَيَكُونُ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَكُونُ الْهَاءُ مُرَادَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُولَةٍ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ويشرب مما تشربون} وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ [شَرِبَ] يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وَالْغَرَضُ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ أُمُورٌ:. مِنْهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ وَالْقَرَائِنُ إِمَّا حَالِيَّةٌ كَمَا فِي قوله تعالى: {أرني أنظر إليك} ، لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ أَرِنِي ذَاتَكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَابَ الْمُوَاجَهَةَ بِذَلِكَ ثُمَّ بَرَاهُ الشَّوْقُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَ لِيَأْتِيَ بِهِ مَعَ الْأَصْرَحِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ هَذَا الْمَطْلُوبُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ إِجْلَالًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى أَنْ تأجرني} الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ حُذِفَ مَفْعُولُهُ أَيْ تَأْجُرُنِي نَفْسَكَ. وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يصدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 الرعاء} فَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ {يُصْدِرَ} فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عرفات} أَيْ أَنْفُسُكُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يومكم هذا} أَيْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذريتي} أَيْ نَاسًا أَوْ فَرِيقًا. وَقَوْلُهُ: {فَادْعُ لَنَا ربك يخرج لنا} أَيْ شَيْئًا. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسماوات} أي غير السموات. وَقَوْلُهُ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَيْ سَمُّوهُ اللَّهَ أَوْ سَمُّوهُ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تُسَمُّوهُ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ لَزِمَ الشِّرْكُ إِنْ كَانَ مُسَمَّى اللَّهِ غَيْرَ مُسَمَّى الرَّحْمَنِ وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ كَانَ عَيْنُهُ. وَمِنْهَا: قَصْدُ الِاحْتِقَارِ كَقَوْلِهِ: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} أَيِ الْكُفَّارَ. وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّعْمِيمِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يؤمنون} وكذا {ما كانوا مؤمنين} وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِي الْحَذْفَ فِي رُءُوسِ الْآيِ نحو: {لو كانوا يعلمون} و {لقوم يشكرون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 {أفلا تسمعون} . {أفلا تبصرون} . {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وما يعلنون} . {إنما نحن مستهزئون} . {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} . وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الْغَرَضُ إِثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِفَاعِلٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِغَيْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دار السلام} أَيْ كُلُّ أَحَدٍ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ عَامَّةٌ وَالْهِدَايَةَ خَاصَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وزنوهم يخسرون} فَكَالَ وَوَزَنَ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِاللَّامِ وَالتَّقْدِيرُ: كَالُوا وَوَزَنُوا لَهُمْ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ [هُمْ] مَنْصُوبًا فِي الْمَوْضِعِ بَعْدَ اللَّامِ هُوَ الظَّاهِرُ وَقَرَّرَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ، قَالَ: وَأَخْطَأَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ [هُمْ] ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ أُكِّدَتْ بِهِ الْوَاوُ كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِكَ خَرَجُوا هُمْ فَ هُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَفِّفِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا القول أمران:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 أحدهما: عدم ثبوت الألف فِي [كَالُوهُمْ] وَ [وَزَنُوهُمْ] وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَأَثْبَتُوهَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ كَمَا أَثْبَتُوهَا في قوله تعالى: {خرجوا من ديارهم} {قالوا لنبي لهم} وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فَالْمَعْنَى: {إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} وَإِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لِلنَّاسِ يُخْسِرُونَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَيْ فِي الْمِصْرِ وَعِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الشَّهْرَ ظَرْفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ. وَمِنْهَا: تَقَدُّمُ مِثْلِهِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أَيْ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ. فَلَمَّا كَانَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي بِلَفْظِ الْأَوَّلِ فِي عُمُومِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى الصِّلَةِ جَازَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أعلم} . وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} أي غير السموات. وقوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} ، أَيْ وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ بِدَلِيلِ ما بعده. وقوله: {وأبصر فسوف يبصرون} أي أبصرهم، بدليل قوله: {وأبصرهم} . وَسَبَقَ عَنِ ابْنِ ظَفَرٍ السِّرُّ فِي ذِكْرِ الْمَفْعُولِ فِي الْأَوَّلِ وَحَذْفُهُ فِي الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 أَنَّ الْأُولَى اقْتَضَتْ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمَّا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ قِيلَ: [أَبْصِرْهُمْ] . وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ وَاقْتَرَنَ بِهَا مَعَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ تَأْمِينُهُمْ وَالدُّعَاءُ إِلَى إِيمَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلتَّشَفِّي بَلْ لِلْبُرُوزِ فَقِيلَ لَهُ: [أَبْصِرْ] وَالْمَعْنَى: فَسَيُبْصِرُونَ مِنْكَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلِهِ: {فهل وجدتم ما وعد ربكم} ، أَيْ وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {وما وعدنا ربنا} قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَدْ يُقَالُ: أَطْلَقَ ذَلِكَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَسَائِرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ أَجْمَعَ وَلِأَنَّ الْمَوْعُودَ كُلَّهُ مِمَّا سَاءَهُمْ وَمَا نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا عَذَابٌ لَهُمْ فَأَطْلَقَ لِذَلِكَ لِيَكُونَ مِنَ الضَّرْبِ الْآتِي. وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية} . وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ، نَحْوَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى} أَيْ مَا قَلَاكَ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ فَوَاصِلَ الْآيِ عَلَى الْأَلِفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَهُ أَيْ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ كَمَنْ أَقْسَى قَلْبَهُ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ {فَوَيْلٌ للقاسية} . وَمِنْهَا: الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَذْكُرُونَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} . {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 {ولو شاء لهداكم أجمعين} . {فإن يشأ الله يختم على قلبك} . {من يشأ الله يضلله} . {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} . التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَفَعَلَ. وَشَرَطَ ابْنُ النَّحْوِيَّةِ فِي حَذْفِهِ دُخُولَ أَدَاةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} . {ولو نشاء لقلنا مثل هذا} . {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مستقيم} . وَالْحِكْمَةُ فِي كَثْرَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَضْمُونِ الْجَوَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مَثِيلَةَ الْجَوَابِ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْإِرَادَةُ كَالْمَشِيئَةِ فِي جَوَازِ اطِّرَادِ حَذْفِ مَفْعُولِهَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ وَالتَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نور الله بأفواههم} وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مَا يدل على أنهم أمروا لكذب وَهُوَ بِزَعْمِهِمْ إِطْفَاءُ نُورِ اللَّهِ فَلَوْ ذُكِرَ أيضا لكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 كَالْمُتَكَرِّرِ فَحُذِفَ وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بأفواههم} وَكَانَ فِي الْحَذْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْغَرِيبِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَهَّلَ فِي تَقْدِيرِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِحَسَبِ التَّقْدِيرِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كل نفس هداها} فَإِنَّ التَّقْدِيرَ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: وَلَوْ شِئْنَا أَنْ نُؤْتِيَ كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا لَآتَيْنَاهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ هَذَا الْمَفْعُولَ أَدَّى وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ وَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ [لَوْ] أَنْ يَكُونَ الْإِثْبَاتُ بَعْدَهَا نَفْيًا أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَوْ جِئْتَنِي أَعْطَيْتُكَ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجِيءٌ وَلَا إِعْطَاءٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شئنا لرفعناه بها} فَقَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ: فَلَمْ نَشَأْ فَلَمْ نَرْفَعْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: [فَلَمْ نَرْفَعْهُ فَلَمْ نَشَأْ] لِأَنَّ نَفْيَ اللَّازِمِ يُوجِبُ نَفْيَ الْمَلْزُومِ فَوُجُودُ الْمَلْزُومِ يُوجِبُ وُجُودَ اللَّازِمِ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَشِيئَةِ وُجُودُ الرَّفْعِ وَمَنْ نَفَى الرَّفْعَ نَفَى الْمَشِيئَةَ وَأَمَّا نَفْيُ الْمَلْزُومِ فَلَا يُوجِبُ نَفْيَ اللَّازِمِ وَلَا وُجُودُ اللَّازِمِ وُجُودَ الْمَلْزُومِ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لفسدتا} فَإِنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاءُ وُجُودِ الْآلِهَةِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا وَهُوَ الْفَسَادُ. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوَّلَ شَرْطًا لِلثَّانِي لِأَنَّهُمْ عَدُّوا [لَوْ] مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ وَقَدْ يَكُونُ الشَّرْطُ مُسَاوِيًا لِلْمَشْرُوطِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ. وَالْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ تَعْلِيلُ عَدَمِ الرَّفْعِ بِعَدَمِ الْمَشِيئَةِ لَا الْعَكْسُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وَأَوْضَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يكسبون} جَعَلَ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ لِأَنَّ كَذَّبُوا مَلْزُومُ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَأَخَذَهُمْ بِذَلِكَ مَلْزُومُ عَدَمِ فَتْحِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَيْهِمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ} لِلسَّبَبِيَّةِ وَجَعَلَ التَّكْذِيبَ سَبَبًا لِأَخْذِهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَادِّ وَوُقُوعِ الْأَفْرَادِ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ وَأَمَّا مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِهِ فَذَلِكَ مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ لَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً مَعَ أَنَّهَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِنَا كُلُّ إِنْسَانٍ نَاطِقٌ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مُبْطِلًا للقاعدة. تنبيهان. التنبيه الأول: متى يذكر مفعول المشيئة والإرادة؟. يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:. أَحَدُهَا: مَا إِذَا كَانَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ عَظِيمًا أَوْ غَرِيبًا فَإِنَّهُ لَا يُحْذَفُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} الْآيَةَ. أَرَادَ رَدَّ قَوْلِ الْكُفَّارِ: [اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا] بِمَا يُطَابِقُهُ فِي اللَّفْظِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الرَّدِّ لِأَنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ فَقَالَ: [لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاصْطَفَى] لَمْ يَظْهَرِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لَأَنَّ الِاصْطِفَاءَ قَدْ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى التَّبَنِّي وَلَوْ قَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاتَّخَذَ وَلَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ. مَا فِي إِظْهَارِهِ مِنْ تَعْظِيمِ جُرْمِ قَائِلِهِ. ومثله صَاحِبُ كِتَابِ [الْقَوْلِ الْوَجِيزِ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ الْبَيَانِ مِنَ الْكِتَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 الْعَزِيزِ] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} . وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . وَ {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يجعله على صراط مستقيم} وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ. قُلْتُ: يَجِيءُ الذِّكْرُ فِي مفعول الإرادة أيضا إذ كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لهوا} . الثَّانِي: إِذَا احْتِيجَ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ كَقَوْلِهِ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ} فَإِنَّهُ لَوْ حُذِفَ لَمْ يَبْقَ لِلضَّمِيرِ مَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَادَ عَلَى مَعْمُولِ مَعْمُولِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْكِرًا لِذَلِكَ أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَيَقْصِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا فَالْحَذْفُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَذْفَ مَفْعُولِ [أراد] و [شاء] لَا يُذْكَرُ إِلَّا لِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. التَّنْبِيهُ الثاني: في إنكار أبي حيان للقاعدة السابقة. أَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانِ فِي بَابِ عَوَامِلِ الْجَزْمِ مِنْ شَرْحِ التَّسْهِيلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَقَالَ غَلِطَ الْبَيَانِيُّونَ فِي دَعْوَاهُمْ لُزُومَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ إِلَّا فِيمَا إِذَا كَانَ مُسْتَغْرَبًا وَفِي القرآن: {لمن شاء منكم أن يستقيم} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمَفْعُولَ هَاهُنَا عَظِيمٌ فَلِهَذَا صُرِّحَ بِهِ فَلَا غَلَطَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 عَلَى الْقَوْمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أراد الله بهذا مثلا} فَإِذَا جَعَلْتَ [مَاذَا] بِمَعْنَى [الَّذِي] فَمَفْعُولُ [أَرَادَ] مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ وَإِنْ جَعَلْتَ [ذَا] وَحْدَهُ بِمَعْنَى [الَّذِي] فَيَكُونُ مَفْعُولُ [أَرَادَ] مَحْذُوفًا وَهُوَ ضَمِيرُ [ذَا] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [مَثَلًا] مَفْعُولَ [أَرَادَ] لِأَنَّهُ أَحَدُ مَعْمُولَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَالٌ. فَصْلٌ. وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ أَشْيَاءَ غَيْرُ مَا سَبَقَ مِنْهَا الصَّبْرُ، نَحْوَ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تصبروا} {اصبروا وصابروا} . وَقَدْ يُذْكَرُ نَحْوَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يدعون ربهم} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: قَوْلُهُمْ: صَبَرَ عَنْ كَذَا مَحْذُوفٌ مِنْهُ الْمَفْعُولُ وَهُوَ النَّفْسُ. وَمِنْهَا: مَفْعُولُ [رَأَى] كَقَوْلِهِ: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الغيب فهو يرى} . قَالَ الْفَارِسِيُّ: الْوَجْهُ أَنَّ يَرَى هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ لِمَفْعُولَيْنِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْغَائِبِ لَا تَكُونُ إِلَّا علما والمعنى عيه قوله: {عالم الغيب} وَذِكْرُهُ الْعِلْمَ، قَالَ: وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ يَرَى الْغَائِبَ حَاضِرًا أَوْ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تزعمون} ، أَيْ تَزْعُمُونَهُمْ إِيَّاهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: هُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لِدَلِيلٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى دَالٌّ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ أَيْ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَيَعْتَقِدُهُ حَقًّا وَصَوَابًا وَلَا فَائِدَةَ فِي الْآيَةِ مَعَ الِاقْتِصَارِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَعَدَلَ عَنِ الصَّوَابِ. وَمِنْهَا: وَعَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَأَعْطَيْتُ قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} ، فَـ[جَانِبَ] مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاعَدْنَاكُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ مُكْثًا فِيهِ. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة} . {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثاني: وأنها لَكُمْ بَدَلٌ مِنْهُ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ ثَبَاتَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ مِلْكَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنهم في الأرض} ، فلم يعد الفعل فيها إلا إلى واحد {وليستخلفنهم} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَبْيِينٌ لِلْوَصِيَّةِ لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} {إن الله وعدكم وعد الحق} فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ انْتِصَابَ الْوَعْدِ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَعْدًا. وَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فَمِمَّا تَعَدَّى فِيهِ [وَعَدَ] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 إِلَى اثْنَيْنِ لِأَنَّ [الْأَرْبَعِينَ [لَوْ كَانَ ظَرْفًا لَكَانَ الْوَعْدُ فِي جَمِيعِهِ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْدُودٌ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَظْرُوفِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ وَلَيْسَ الْوَعْدُ وَاقِعًا فِي الْأَرْبَعِينَ بَلْ وَلَا فِي بَعْضِهَا. ثُمَّ قَدَّرَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ مَحْذُوفًا مُضَافًا إِلَى [الْأَرْبَعِينَ] وَجَعَلُوهُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي فَقَالُوا التَّقْدِيرُ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى انقضاء اربعين أَوْ تَمَامَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ عُدُولِهِمْ عَنْ كَوْنِ [أَرْبَعِينَ] هُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ نَفْسُ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا تُوعَدُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى تَعْلِيقِ الْوَعْدِ بابتدائها وتمامها ليترتب على الِانْتِهَاءِ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَيْسَ أَرْبَعِينَ ظَرْفًا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى وَعَدَهُ فِي أَرْبَعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْوَعْدُ فِي كُلٍّ مِنْ أَجْزَائِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ. وَمِنْهَا: اتَّخَذَ تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ أَوْ لِاثْنَيْنِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا} . {واتخذوا من دونه آلهة} . {أم اتخذ مما يخلق بنات} . {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} . ومن الثاني: {اتخذوا أيمانهم جنة} . {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} . {فاتخذتموهم سخريا} وَالثَّانِي مِنَ الْمَفْعُولَيْنِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العجل من بعده} وقوله: {باتخاذكم العجل} {اتخذوه وكانوا ظالمين} {إن الذين اتخذوا العجل} ، فَالتَّقْدِيرُ: فِي هَذَا كُلِّهِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا فَحُذِفَ المفعول الثاني. والدليل على ذلك أنه لوكان عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ مَنْ صَاغَ عِجْلًا أَوْ نَحْوَهُ أَوْ عَمَلَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَعْمَالِ اسْتَحَقَّ الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ ربهم} . وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ أُولَئِكَ عَبَدُوهُ فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا فِي الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ أَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ اتَّخَذَ فِيهَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ قَالَ وَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَتَقْدِيرُهُ: [وَعَبَدْتُمُوهُ إِلَهًا] وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِاثْنَيْنِ لَصَرَّحَ بِالثَّانِي وَلَوْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. الضَّرْبُ الثَّانِي:. أَلَّا يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَقْصُودًا أَصْلًا وَيُنَزَّلُ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ وَذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ وُقُوعِ نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَطْ وَجَعْلُ الْمَحْذُوفِ نَسْيًا مَنْسِيًّا كَمَا يُنْسَى الْفَاعِلُ عِنْدَ بناء لفعل فَلَا يُذْكَرُ الْمَفْعُولُ وَلَا يُقَدَّرُ غَيْرَ أَنَّهُ لَازِمُ الثُّبُوتِ عَقْلًا لِمَوْضُوعِ كُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُدْرَى تَعْيِينُهُ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ مَوْضُوعِ الْكَلَامِ مُقَدَّرًا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لم تفعلوا ولن تفعلوا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وقوله: {كلوا واشربوا} لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأَكْلَ مِنْ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ وُقُوعَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ. وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْتَوِي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وَيُسَمَّى الْمَفْعُولُ حِينَئِذٍ مَمَاتًا. وَلَمَّا كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ هَذَا مِنَ الْمَحْذُوفِ فَإِنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ تَبِعْنَاهُمْ فِي الْعِبَارَةِ نَحْوَ فُلَانٌ يُعْطِي قَاصِدًا أَنَّهُ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ وَتُوجَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ إِيهَامًا لِلْمُبَالَغَةِ بِخِلَافِ مَا يُقْصَدُ فِيهِ تَعْمِيمُ الْفِعْلِ نَحْوَ هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَإِنَّهُ أَعَمُّ تَنَاوُلًا مِنْ قَوْلِكَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَيَمْنَعُهُ وَالْغَالِبُ أَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يبصرون} ، وَالْآخَرُ فِي الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لقوم يعقلون} . وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُحْيِي ويميت} وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أمة من الناس} إِلَخْ الْآيَةَ حُذِفَ مِنْهَا الْمَفْعُولُ خَمْسَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَهُوَ قَوْلُهُ [يَسْقُونَ] وَقَوْلُهُ [تذودان] وقوله: {لا نسقي حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ} مَوَاشِيَهُمْ [فَسَقَى لَهُمَا] غَنَمَهُمَا وقوله: {لنخرجنك يا شعيب} قِيلَ: لَوْ ذُكِرَ الْمَفْعُولُ فِيهَا نَقَصَ الْمَعْنَى والمراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَأَنَّ إِلَهَهُمْ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَدَ قَوْمًا يُعَانُونَ السَّقْيَ وَامْرَأَتَيْنِ تُعَانِيَانِ الذَّوْدَ وَأَخْبَرَتَاهُ أَنَّا لَا نَسْتَطِيعُ السَّقْيَ فَوَجَدَا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمَا السَّقْيَ وَوَجَدَ مِنْ أَبِيهِمَا مُكَافَأَةً عَلَى السَّقْيِ وَهَذَا مِمَّا حُذِفَ لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَأَنَّ الْقَصْدَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ سَقْيٌ وَمِنَ الْمَرْأَتَيْنِ ذَوْدٌ وَأَنَّهُمَا قَالَتَا لَا يَكُونُ مِنَّا سَقْيٌ حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ وَأَنَّ مُوسَى سَقَى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا أَنَّ الْمَسْقِيَّ غَنَمٌ أَوْ إِبِلٌ أَوْ غَيْرُهُ فَخَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: يَذُودَانِ غَنَمَهُمَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ لَمْ يَتَوَجَّهْ مِنْ موسى عَلَى الذَّوْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدُ غَنَمٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَوْدُ إِبِلٍ لَمْ يُنْكِرْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّا جَعَلْنَا هَذَا مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي مُوَافَقَةً لِلزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ تُرِكَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الفعل لا المفعول ألا ترى أنه إنمارحمهما لِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى الذِّيَادِ وَهُمْ عَلَى السَّقْيِ ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيم إِبِلٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمَا: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرعاء} الْمَقْصُودُ مِنْهُ السَّقْيُ لَا الْمَسْقِيُّ. وَجَعَلَهُ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي مِمَّا حُذِفَ فِيهِ لِلِاخْتِصَارِ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالْأَقْرَبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَرَجَّحَ الجزري قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ فَإِنَّ الْغَنَمَ لَيْسَتْ سَاقِطَةً عَنِ الِاعْتِبَارِ بِالْأَصَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا ضَعْفًا عَنِ الْمُزَاحَمَةِ وَالْمَرْأَتَانِ فِيهِمَا ضَعْفٌ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ضَعْفِ الْمَسْقِيِّ ضَعْفُ السَّاقِي كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلرَّحْمَةِ وَالْإِعَانَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} . وقوله: {وأنه هو أغنى وأقنى} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأحيا} . وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين} لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الزَّوْجَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْلُقُ كُلَّ ذَكَرٍ وَكُلَّ أُنْثَى وَكَانَ ذِكْرُهُ هُنَا أَبْلَغَ لِيَدُلَّ عَلَى عُمُومِ ثُبُوتِ الْخَلْقِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ. وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْلِحْ لِي في ذريتي} لِوُجُودِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ لَفْظًا أَوْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي ذُرِّيَّتِي وَمَعْنَى الدُّعَاءِ بِهِ قَصْرُ الْإِصْلَاحِ لَهُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إِشْعَارًا بِعِنَايَتِهِ بِهِمْ. وَقَوْلِهِ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيْ عَاقِبَةُ أَمْرِكُمْ لِأَنَّ سِيَاقَ الْقَوْلِ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشْيَاءُ:. مِنْهَا: الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا سَبَقَ، نَحْوَ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ أَيْ بِالْقِيَامِ وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ تَمْكِينِهِمْ وَإِقْدَارِهِمْ. وَمِنْهَا: الْمُبَالَغَةُ بِتَرْكِ التَّقْيِيدِ، نَحْوَ: {هُوَ يحيي ويميت} وقوله: {فهم لا يبصرون} وَنَفْيُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَعَلَّقٍ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِهِ مُتَعَلَّقًا بِهِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْأَوَّلِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَفِي الثَّانِي مُتَعَلَّقُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 تَنْبِيهٌ. قَدْ يُلْحَظُ الْأَمْرَانِ فَيَجُوزُ الِاعْتِبَارَانِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله} أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ مِنْهُ الْوَجْهَيْنِ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ: {وجاهدوا في الله} . حَذْفُ الْحَالِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ من كل باب. سلام عليكم} أَيْ قَائِلِينَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَحْذِفُ الْحَالَ إِذَا كَانَتْ بِالْفِعْلِ لِدَلَالَةِ مَصْدَرِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فَتَقُولُ قَتَلْتُهُ صَبْرًا وَأَتَيْتُهُ رَكْضًا، قَالَ تَعَالَى: {تزرعون سبع سنين دأبا} فَدَأَبًا يُقَدَّرُ بِالْفِعْلِ تَقْدِيرُهُ [تَدْأَبُونَ] فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ فِي الْحَالِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي الْمَصْدَرُ مَنْصُوبٌ بِهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ فَسِيبَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى السَّمَاعِ وَلَا يَقِيسُ وَالْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ يَقِيسَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 حذف المنادى. قوله تعالى: {ألا ياسجدوا} عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ بِتَخْفِيفِ [أَلَا] عَلَى أَنَّهَا تَنْبِيهٌ وَ [يَا] نِدَاءٌ وَالتَّقْدِيرُ أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا لِلَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [يَا] تَنْبِيهًا وَلَا مُنَادَى هُنَاكَ وَجَمَعَ بَيْنَهُنَّ تَأْكِيدًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْطَافِ الْمَأْمُورِ وَاسْتِدْعَاءِ إِقْبَالِهِ عَلَى الْآمِرِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ بِالتَّشْدِيدِ فَعَلَى أَنَّ أَنْ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَا النَّافِيَةُ وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا منصوب وحذفت النون علامة النصب فالفعل هنامعرب وفي تلك القراءة مبني فاعرفه. فائدة. [في حَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ المتكلم] . كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ نَحْوَ يَا رَبِّ يَا قَوْمِ وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ النِّدَاءَ بَابُ حَذْفٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْذَفُ مِنْهُ التَّنْوِينُ وَبَعْضُ الِاسْمِ لِلتَّرْخِيمِ وَجَاءَ فِيهِ إِثْبَاتُهَا سَاكِنَةً كقراءة من قرأ {يا عبادي فاتقون} ، ومحركة بالفتح كقراءة من قرأ {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} ، وَمُنْقَلِبَةً عَنِ الْيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تقول نفس يا حسرتى} . حَذْفُ الشَّرْطِ. {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصلاة} أَيْ إِنْ قُلْتَ لَهُمْ أَقِيمُوا يُقِيمُوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وجعل منه الزمخشري: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} . وَجَعَلَ أَبُو حَيَّانَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قبل إن كنتم مؤمنين} ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ فلم تقتلون؟ وجواب [إِنْ كُنْتُمْ] مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ فَلِمَ فَعَلْتُمْ وَكُرِّرَ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مَرَّتَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الشَّرْطُ مِنَ الْأَوَّلِ وَبَقِيَ جَوَابُهُ وَحُذِفَ الْجَوَابُ مِنَ الثَّانِي وَبَقِيَ شَرْطُهُ انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَنْكَرَ قَوْلَهُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ في: {فتاب عليكم} وفي {فانفجرت} ، وَقَالَ: إِنَّ الشَّرْطَ لَا يُحْذَفُ فِي غَيْرِ الْأَجْوِبَةِ وَالْآنَ قَدْ رَجَعَ إِلَى مُوَافَقَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون} ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُنْكِرِينَ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ إِنْكَارِكُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم} بِمَعْنَى إِنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ فَعَدَلَ عَنِ الِافْتِخَارِ بِقَتْلِهِمْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: {فالله هو الولي} ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَرَادُوا أَوْلِيَاءً فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ بِالْحَقِّ لَا وَلِيَّ سِوَاهُ. حَذْفُ جَوَابِ الشَّرْطِ. قَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 على مثله فآمن واستكبرتم} ، أَيْ أَفْلَسْتُمْ ظَالِمِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقَبَهُ: {إِنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين} وَقَدَّرَهُ الْبَغْوِيُّ: مَنِ الْمُحِقُّ مِنَّا وَمَنِ الْمُبْطِلُ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَمِنْ حَذْفِ جَوَابِ الْفِعْلِ: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فدمرناهم} ، تَقْدِيرُهُ: [فَذَهَبَا إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْنَاهُمْ] ، وَالْفَاءُ الْعَاطِفَةُ عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِالْفَاءِ الْفَصِيحَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ: وَانْظُرْ إِلَى الْفَاءِ الْفَصِيحَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فتاب عليكم} كَيْفَ أَفَادَتْ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ: {اضْرِبُوهُ ببعضها} ، تَقْدِيرُهُ: فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} . وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي فضلنا على كثير} ، تَقْدِيرُهُ: فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ وَعَرِفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةِ {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} . وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا صَنَعَ بِهِمَا وَعَمَّا قَالَاهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ نَحْنُ فَعَلْنَا إِيتَاءَ الْعِلْمِ وَهُمَا فَعَلَا الْحَمْدَ تَعْرِيضًا لِاسْتِثَارَةِ الْحَمْدِ عَلَى إِيتَاءِ الْعِلْمِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ مِثْلُهُ [قُمْ يَدْعُوكَ] بَدَلُ [قُمْ فَإِنَّهُ يَدْعُوكَ] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 حَذْفُ الْأَجْوِبَةِ. وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي جَوَابِ لَوْ، وَلَوْلَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا على النار} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ ربهم} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملائكة يضربون وجوههم} . وقوله: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الموت} ، تَقْدِيرُهُ: فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ [لَرَأَيْتَ عَجَبًا] أَوْ [أمرا عظيما] أو [لرأيت سُوءَ مُنْقَلَبِهِمْ] أَوْ [لَرَأَيْتَ سُوءَ حَالِهِمْ] . وَالسِّرُّ فِي حَذْفِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهَا لَمَّا رُبِطَتْ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى حَتَّى صَارَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهَا فَضْلًا وَطُولًا فَخُفِّفَ بِالْحَذْفِ خُصُوصًا مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَحَذْفُ الْجَوَابِ يَقَعُ فِي مَوَاقِعِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ وَإِنَّمَا يُحْذَفُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ السَّامِعَ مَعَ أَقْصَى تَخَيُّلِهِ يَذْهَبُ مِنْهُ الذِّهْنُ كُلَّ مَذْهَبٍ وَلَوْ صُرِّحَ بِالْجَوَابِ لَوَقَفَ الذِّهْنُ عِنْدَ الْمُصَرَّحِ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ الْوَقْعُ وَمِنْ ثَمَّ لَا يَحْسُنُ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ مَخْصُوصًا إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالسِّيَاقِ كَمَا قَدَّرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} الْآيَةَ، فَقَالَ: تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وَحَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ فِي الْيَاقُوتَةِ عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْآيَةَ مَا سِيقَتْ لِتَفْضِيلِ الْقُرْآنِ بَلْ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ ذم الكفار بدليل قوله قبلها: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} ، وبعدها: {أفلم ييأس الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى الناس جميعا} فَلَوْ قُدِّرَ الْخَبَرُ [لَمَا آمَنُوا بِهِ] لَكَانَ أَشَدَّ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ [رُءُوسِ الْمَسَائِلِ] كَوْنَ الْجَوَابِ [كَانَ هَذَا الْقُرْآنَ] عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَفِيهِ مَا ذَكَرْتُ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: لَوْ قَضَيْتُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ الْقُرْآنُ عَلَى الْجِبَالِ إِلَّا سَارَتْ وَرَأَوْا ذَلِكَ لَمَا آمَنُوا. وَقِيلَ: جَوَابُ [لَوْ] مُقَدَّمٌ مَعْنَاهُ: يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} ، مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَنَفِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ [مَا نَفِدَتْ] هو الجواب مبالغة في نفي النفاد لأنه إذا كان نفي النقاد لَازِمًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا وَالْبَحْرُ مَدَادًا لَكَانَ لُزُومُهَا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا أَوْلَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أن يضلوك} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: ظَاهِرُهُ نَفْيُ وُجُودِ الْهَمِّ مِنْهُمْ بِإِضْلَالِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ فَإِنَّهُمْ هَمُّوا وَرَدُّوا الْقَوْلَ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ: {لَهَمَّتْ} لَيْسَ جَوَابَ [لَوْ] بَلْ هُوَ كَلَامٌ تَقَدَّمَ عَلَى [لَوْ] وَجَوَابُهَا مَقُولٌ عَلَى طَرِيقِ الْقَسَمِ وَجَوَابُ [لَوْ] مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ لَأَضَلُّوكَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى برهان ربه} ، أَيْ هَمَّتْ بِمُخَالَطَتِهِ وَجَوَابُ [لَوْلَا] مَحْذُوفٌ، أَيْ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَخَالَطَهَا. وَقِيلَ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، والوقف على هذا {ولقد همت به} وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَهِمَّ بِهَا. ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَالْأَوَّلُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ جَوَابِ [لَوْ] عَلَيْهَا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ وَلِلشَّرْطِ صَدْرُ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لمهتدون} جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إِنَّا لَمُهْتَدُونَ} أَيْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اهْتَدَيْنَا. وَقَدْ تَوَسَّطَ الشَّرْطُ هُنَا بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ بِالْجَزَاءِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ دَلِيلُ الْجَوَابِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الشَّرْطِ وَالَّذِي حَسَّنَ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ عَلَيْهِ الِاهْتِمَامُ بِتَعْلِيقِ الْهِدَايَةِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يكفون عن وجوههم النار} تَقْدِيرُهُ: لَمَا اسْتَعْجَلُوا فَقَالُوا مَتَى هَذَا الْوَعْدُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ [لَعَلِمُوا صِدْقَ الْوَعْدِ] لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ وَجَعَلَ اللَّهُ السَّاعَةَ موعدهم فقال تعالى: {بل تأتيهم بغتة} . وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: [لَمَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَلَنَدِمُوا أو تابوا] . وقوله فِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} تَقْدِيرُهُ لَمَا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} . وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: لَشَغَلَكُمْ ذَلِكَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ. وَقِيلَ: لَرَجَعْتُمْ عَنْ كُفْرِكُمْ أَوْ لَتَحَقَّقْتُمْ مِصْدَاقَ مَا تُحَذَّرُونَهُ. وَقَوْلُهُ: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا} أي لا يتبعونهم. وقوله: {قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تعلمون} ، تَقْدِيرُهُ: [لَآمَنْتُمْ] أَوْ [لَمَا كَفَرْتُمْ] أَوْ [لَزَهِدْتُمْ فِي الدُّنْيَا] أَوْ [لَتَأَهَّبْتُمْ لِلِقَائِنَا] . وَنَحْوُهُ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} ، أَيْ يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا لَمَا رَأَوُا الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ لَمَا اتَّبَعُوهُمْ. وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى ركن شديد} ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَعْنَاهُ لَوْ أَنَّ لِي قُوَّةً لَحُلْتُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} أَيْ رَأَيْتَ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ عِبْرَةً عَظِيمَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وقوله عَقِبَ آيَةَ اللِّعَانِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تواب حكيم} ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمَعْنَى وَكُلُّ مَا عُلِمَ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَكْتَفِي بِتَرْكِ جَوَابِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَشْتُمُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ الْمَشْتُومُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَبُوكَ.. فَيُعْلَمُ أَنَّكَ تُرِيدُ: لَشَتَمْتُكَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَأْوِيلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَهَلَكْتُمْ أَوْ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَاقِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَصْلُحْ أَمْرُكُمْ وَنَحْوُهُ مِنَ الْوَعِيدِ الْمُوجِعِ فَحُذِفَ لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَنَالَ الْكَاذِبَ مِنْكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَهَذَا أَجْوَدُ مِمَّا قَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ. وَكَذَلِكَ [لَوْلَا] الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رؤوف رحيم} ، جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْأُولَى لَافْتَضَحَ فَاعِلُ ذَلِكَ وَفِي الثَّانِيَةِ: لَعَجَّلَ عَذَابَ فَاعِلِ ذَلِكَ وَسَوَّغَ الْحَذْفَ طُولُ الْكَلَامِ بِالْمَعْطُوفِ وَالطُّولُ دَاعٍ لِلْحَذْفِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلينا رسولا فنتبع آياتك} جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْلَا احْتِجَاجُهُمْ بِتَرْكِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَقْدِيرُهُ: لَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَمُوَاتَرَةِ الِاحْتِجَاجِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي به لولا أن ربطنا على قلبها} أي لأبدت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رحمة ربي} ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ تُمَلَّكُونَ، [تَمْلِكُونَ] فَأَضْمَرَ [تُمَلَّكُ] الْأُولَى عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ وَأُبْدِلَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الَّذِي هُوَ [الْوَاوُ] ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ وَهُوَ [أَنْتُمْ] لِسُقُوطِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فَـ[أنتم] فاعل الفعل المضمر [وتملكون] تَفْسِيرُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْرَابُ فَأَمَّا مَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ الْبَيَانِ فَهُوَ أَنَّ [أَنْتُمْ] تَمْلِكُونَ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالشُّحِّ الْمُتَتَابِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا سَقَطَ لِأَجْلِ الْمُفَسَّرِ بَرَزَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَمِنْ حَذْفِ الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، أَيْ أَعْرَضُوا؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {إِلَّا كَانُوا عنها معرضين} وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْحِجْرِ: {فَقَالُوا سلاما قال إنا منكم وجلون} وفي غيرها من السور: {قالوا سلاما} {قال سلام} قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْأُولَى فَاكْتَفَى بِمَا فِي هَذِهِ وَلَوْ ثَبَتَ تَعَدُّدُ الْوَقَائِعِ لَنَزَلَتْ عَلَى وَاقِعَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وكقوله تعالى: {إذا السماء انشقت} قال الزمخشري حَذْفِ الْجَوَابِ وَتَقْدِيرُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي سُورَتَيِ التكوير والانفطار وهو قوله: {علمت نفس} . وقال في: {والسماء ذات الْبُرُوجِ} : الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ يَدُلُّ عليه قوله: {قتل أصحاب الأخدود} . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أَيْ [حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا] والواو واو وحال وَفِي هَذَا مَا حُكِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالَوَيْهِ فِي مَجْلِسِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فَسُئِلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جاءوها وفتحت أبوابها} ، فِي النَّارِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي الْجَنَّةِ بِالْوَاوِ! فَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: هَذِهِ الْوَاوُ تُسَمَّى وَاوَ الثَّمَانِيَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْطِفُ الثَّمَانِيَةَ إِلَّا بِالْوَاوِ قَالَ: فَنَظَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ وَقَالَ أَحَقٌّ هَذَا فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا أَقُولُ كَمَا قَالَ إِنَّمَا تُرِكَتِ الْوَاوُ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا مُغْلَقَةٌ وَكَانَ مَجِيئُهُمْ شَرْطًا فِي فَتْحِهَا فَقَوْلُهُ: {فُتِحَتْ} فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفُتِحَتْ} فِي الْجَنَّةِ فَهَذِهِ وَاوُ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ جَاءُوهَا وَهِيَ مُفَتَّحَةُ الْأَبْوَابِ أَوْ هَذِهِ حَالُهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ هُوَ الصَّوَابُ وَيَشْهَدُ لَهُ أَمْرَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ مُطَّرِدَةٌ شَاهِدَةٌ فِي إِهَانَةِ الْمُعَذَّبِينَ بِالسُّجُونِ مِنْ إِغْلَاقِهَا حَتَّى يَرِدُوا عَلَيْهَا وَإِكْرَامُ الْمُنَعَّمِينَ بِإِعْدَادِ فَتْحِ الْأَبْوَابِ لَهُمْ مُبَادَرَةً وَاهْتِمَامًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وَالثَّانِي: النَّظِيرُ فِي قَوْلِهِ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لهم الأبواب} . وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:. أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ: [فُتِحَتْ] وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْوَاوَ مَعَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: [وَفُتِحَتْ] كَأَنَّهُ قَالَ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا [جَاءُوهَا] وَفُتِحَتْ} قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: وَفِي هَذَا حَذْفُ الْمَعْطُوفِ وَإِبْقَاءُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ آخِرُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْفَرَاغِ استقروا أو خلدوا أواستووا مِمَّا يَقْتَضِهِ الْمَقَامُ وَلَيْسَ فِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِذَا جَاءُوهَا أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا الْمَجِيءُ لَيْسَ سَبَبًا مُبَاشِرًا لِلْفَتْحِ بَلِ الْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ، أَيْ رَحِمَهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَحْسَنُ مِنَ الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ [ثُمَّ] . وَحَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِبْقَاءُ الْمَعْطُوفِ سَائِغٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فدمرناهم تدميرا} ، التَّقْدِيرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَذَهَبَا فَبَلَّغَا فَكُذِّبَا فَدَمَّرْنَاهُمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عليكم} ، أَيْ فَامْتَثَلْتُمْ أَوْ فَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وقوله: {فلما أسلما وتله للجبين} أَيْ رُحِمَا وَسَعِدَا وَتَلَّهُ وَابْنُ عَطِيَّةَ يَجْعَلُ التَّقْدِيرَ فَلَمَّا أَسْلَمَا أُسْلِمَا وَهُوَ مُشْكِلٌ. وَقَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كفروا يا ويلنا} ، الْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا كَانَ ذَلِكَ نَدِمَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ لِأَنَّهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَشْرَاطِ. وَقَدْ يَجِيءُ فِي الْكَلَامِ شَرْطَانِ وَيُحْذَفُ جَوَابُ أَحَدِهِمَا اكْتِفَاءً بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فِي الِاعْتِرَاضِ بِهِ مَجْرَى الظَّرْفِ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ بِنَفْسِهِ جَرَى مَجْرَى الْجُزْءِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ جُمْلَةً لَمَا جَازَ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ [أَمَّا] وَجَوَابِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ جَوَابٌ لَهُمَا. وَنَظِيرُهُ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أن تطأوهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الذين كفروا منهم} فقوله: [لعذبنا] جواب للولا ولو جَمِيعًا. وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الجواب [لأما] وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ جَوَابِ [إِنَّ] لِأَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَوَالِيَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أن يغويكم} وَنَظَائِرِهِ. فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ الشَّرْطَيْنِ [أَمَّا [كَانَتْ أَحَقَّ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَوَابَهَا إِذَا انْفَرَدَتْ لَا يُحْذَفُ أَصْلًا وَجَوَابُ غَيْرِهَا إِذَا انْفَرَدَ يُحْذَفُ كَثِيرًا لِدَلِيلٍ وَحَذْفُ مَا عُهِدَ حَذْفُهُ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ مَا لَمْ يُعْهَدْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وَالثَّانِي: أَنَّ أَمَّا قَدِ الْتُزِمَ مَعَهَا حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَقَامَتْ هِيَ مَقَامَهُ فَلَوْ حُذِفَ جوابها لكان ذلك إجحافا وإن ليس كَذَلِكَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الآية الكريمة وإما الشَّرْطُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ جَوَابُ الْأَوَّلِ وَالْمَحْذُوفُ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ الْفَاءَيْنِ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {قل اللهم مالك الملك} الْآيَةَ. إِنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ أَعِزَّنَا وَلَا تُذِلَّنَا. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مصيبة بما قدمت أيديهم} ، تَقْدِيرُهُ: [فَكَيْفَ تَجِدُونَهُمْ مَسْرُورِينَ أَوْ مَحْزُونِينَ] فَـ "كَيْفَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ وَهَذَا الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ قَدْ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ إِذَا. حَذْفُ جَوَابِ الْقَسَمِ. لِعِلْمِ السَّامِعِ الْمُرَادَ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ ترجف الراجفة} ، تَقْدِيرُهُ: لَتُبْعَثُنَّ وَلَتُحَاسَبُنَّ بِدَلِيلِ إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ فِي قولهم: {أإنا لمردودون في الحافرة} . وَقِيلَ: الْقَسَمُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذلك لعبرة لمن يخشى} . وكقوله تعالى: {لن نؤثرك} وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ فِي: {ص وَالْقُرْآنِ ذي الذكر} فَقَالَ الزَّجَّاجُ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ تَأَخَّرَ كَثِيرًا وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا قِصَصٌ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ في العربية. وقيل: {كم أهلكنا} وَمَعْنَاهُ: لَكَمْ أَهْلَكْنَا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَحُذِفَتِ اللَّامُ لِطُولِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: {إِنْ كُلٌّ إلا كذب الرسل} وَالْمُعْتَرِضُ بَيْنَهُمَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ: {بَلِ الذين كفروا في عزة وشقاق} ، مثل: {ق والقرآن المجيد بل عجبوا} . وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ فِي هَذَا الْقَوْلِ: مَعْنَى "بَلْ" تَوْكِيدُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ فَصَارَ مِثْلَ أَنَّ الشَّدِيدَةِ تُثْبِتُ مَا بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنًى آخَرَ فِي نَفْيِ خَبَرٍ مُتَقَدِّمٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ: إِنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: إِنَّ "بَلْ" تَقَعُ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ كَمَا تَقَعُ "إِنَّ" لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَوْكِيدُ الْخَبَرِ وذلك في {ص والقرآن} الآية. وفي: {ق والقرآن} الْآيَةَ. وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى "إِنَّ" لِأَنَّهُ سَائِغٌ فِي كَلَامِهِمْ أَوْ يَكُونَ "بَلْ" جَوَابًا لِلْقَسَمِ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً رَفْعَ خَبَرٍ وَإِتْيَانَ خَبَرٍ بَعْدَهُ كَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ سَائِرِ التَّوْكِيدَاتِ فَحَسُنَ وَضْعُهَا موضع "إن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ أَوِ الْحَقُّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انشقت} جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ فَيَوْمَئِذٍ يُلَاقِي حِسَابَهُ. وَعَنْ قتادة أن جوابه: {وأذنت لربها وحقت} يَعْنِي أَنَّ الْوَاوَ فِيهَا بِمَعْنَى السُّقُوطِ كَقَوْلِهِ تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه} ، أَيْ نَادَيْنَاهُ. حَذْفُ الْجُمْلَةِ. هِيَ أَقْسَامٌ: قِسْمٌ هِيَ مُسَبَّبَةٌ عَنِ الْمَذْكُورِ وَقِسْمٌ هِيَ سَبَبٌ لَهُ وَقِسْمٌ خَارِجٌ عَنْهَا، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ليحق الحق ويبطل الباطل} فَإِنَّ اللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُتَعَلِّقٍ يَكُونُ سَبَبًا عَنْ مَدْخُولِ اللَّامِ فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ لَهَا مُتَعَلِّقٌ فِي الظَّاهِرِ وَجَبَ تَقْدِيرُهُ ضَرُورَةً فَيُقَدَّرُ: فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْفَجَرَتْ منه اثنتا عشرة عينا} ، فَإِنَّ الْفَاءَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مُسَبَّبٍ عَنْ شَيْءٍ وَلَا مُسَبَّبَ إِلَّا لَهُ سَبَبٌ فَإِذَا وُجِدَ الْمُسَبَّبُ - وَلَا سَبَبَ لَهُ ظَاهِرًا - أَوْجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ ضَرُورَةً فَيُقَدَّرَ: فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَ. والثالث: كقوله تعالى: {فنعم الماهدون} أَيْ نَحْنُ هُمْ أَوْ هُمْ نَحْنُ. وَقَدْ يكون المحذوف أكثر من جملةكقوله تعالى: {فأرسلون يُوسُفَ} الْآيَةَ. فَإِنَّ التَّقْدِيرَ:" فَأَرْسِلُونِ إِلَى يُوسُفَ لِأَسْتَعْبِرَهُ الرُّؤْيَا فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ فَجَاءَ فَقَالَ له:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 يَا يُوسُفُ" وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْكُلَّ محذوف لأن قوله: {أرسلون} يَدُلُّ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ "إِلَى يُوسُفَ" مَحْذُوفٌ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْإِرْسَالَ إِلَى يُوسُفَ عِنْدَ الْعَجْزِ الْحَاصِلِ لِلْمُعَبِّرِينَ عَنْ تَعْبِيرِ رُؤْيَا الْمَلِكِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَلَبِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِ اسْتِعْبَارُهُ الرُّؤْيَا الَّتِي عَجَزُوا عَنْ تَعْبِيرِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} الآية، فأعقب بقوله حكاية عنها: {قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم} ، تَقْدِيرُهُ: فَأَخَذَ الْكِتَابَ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ فَرَأَتْهُ بِلْقِيسُ وقرأته و {قالت يا أيها الملأ} . وقوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} حَذْفٌ يَطُولُ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا وُلِدَ يَحْيَى وَنَشَأَ وَتَرَعْرَعَ قُلْنَا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مُوسَى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى قال يا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أفعصيت أمري} . وقوله: {فلما رآه مستقرا عنده} إلى قوله: {نكروا لها عرشها} . وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} أَيْ كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ تُرِكَ عَلَى ظُلْمِهِ وَكُفْرِهِ وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} . وَمِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} قِيلَ: الْمَعْنَى جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ وَبَاقِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وقوله: {يحب أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} ، قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 الْفَارِسِيُّ: الْمَعْنَى فَكَمَا كَرِهْتُمُوهُ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ:" وَاتَّقُوا الله" عطف على قوله:" فاكرهوا" إن لَمْ يُذْكَرْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فانفجرت" أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ فَقَوْلُهُ:" كَرِهْتُمُوهُ" كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ معنى الجواب لأن قوله:" أيحب أحدكم" كَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي جَوَابِهِ لَا، فَقَالَ: فَكَرِهْتُمُوهُ أَيْ فَكَمَا كَرِهْتُمُوهُ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ قَدَّرَ الْمَحْذُوفَ مَوْصُولًا وَهُوَ "مَا" الْمَصْدَرِيَّةُ وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ فَهَذَا كَرِهْتُمُوهُ وَالْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ الْمَحْذُوفَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا أَمْرِيَّةٌ وَالْمَعْنَى فَهَذَا كَرِهْتُمُوهُ وَالْغِيبَةُ مِثْلُهُ وَإِنَّمَا قَدَّرَهَا أَمْرِيَّةً لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا الْجُمْلَةَ الْأَمْرِيَّةَ فِي قَوْلِهِ:" وَاتَّقُوا اللَّهَ". حَذْفُ الْقَوْلِ. قَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حَتَّى إِنَّهُ فِي الْإِضْمَارِ بِمَنْزِلَةِ الْإِظْهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، أَيْ يَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِلْقُرْبَةِ. وَمِنْهُ: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا} أي وقلنا كلوا أو قائلين. وقوله: {علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا} أَيْ قُلْنَا. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خذوا} أَيْ وَقُلْنَا خُذُوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا من مقام إبراهيم مصلى} أَيْ وَقُلْنَا: اتَّخِذُوا. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد من البيت وإسماعيل ربنا} أَيْ يَقُولَانِ: رَبَّنَا وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم} أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ لِأَنَّ أَمَّا لَا بُدَّ لَهَا فِي الْخَبَرِ مِنْ فَاءٍ فَلَمَّا أُضْمِرَ الْقَوْلُ أُضْمِرَ الْفَاءُ. وَقَوْلُهُ: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أتراب هذا ما توعدون} يُقَالُ لَهُمْ هَذَا. وَقَوْلُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ من كل باب سلام عليكم} أي يقولون سلام. وقوله: {تتلقاهم الملائكة} أي يقولون لهم ذلك. وقوله: {الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم} أَيْ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إنا لمغرمون} أَيْ يَقُولُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أَيْ مُعَذَّبُونَ وَتَفَكَّهُونَ: تَنْدَمُونَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا} أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وقوله: {ماذا قال ربكم قالوا الحق} أَيْ قَالُوا قَالَ الْحَقَّ. حَذْفُ الْفِعْلِ. وَيَنْقَسِمُ إلى عام وخاص:. الخاص فَالْخَاصُّ نَحْوُ: أَعْنِي مُضْمَرًا وَيَنْتَصِبُ الْمَفْعُولُ بِهِ فِي الْمَدْحِ نَحْوُ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ، وقوله: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} أَيْ أَمْدَحُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَنْعُوتُ متعينا لم يجز تقديره ناصب نعته بأعنى نَحْوُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدِ بَلِ الْمُقَدَّرُ فِيهِ وَفِي نَحْوِهِ أَذْكُرُ أَوْ أَمْدَحُ فَاعْرِفْ ذَلِكَ وَالذَّمُّ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَالْأَخْفَشُ يَنْصِبُ فِي الْمَدْحِ بأمدح وفي الذم بأذم. وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الْمَادِحِ إِبَانَةُ الْمَمْدُوحِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِبَانَةِ إِعْرَابِهِ عَنْ غَيْرِهِ لِيَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَيَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أَمْدَحُ وَالرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى "هُوَ" وَلَا يَظْهَرَانِ لِئَلَّا يَصِيرَا بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ. وَالَّذِي لَا مَدْحَ فِيهِ فَاخْتِزَالُ الْعَامِلِ فِيهِ وَاجِبٌ كَاخْتِزَالِهِ فِي وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إِذْ لَوْ قِيلَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَكَانَ عِدَةً لَا قَسَمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 العام. وَالْعَامُّ كُلُّ مَنْصُوبٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى أَوْ تَقْدِيرًا وَيُحْذَفُ لِأَسْبَابٍ:. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انشقت} ، {وإياي فارهبون} . ومنه: {أبشرا منا واحدا نتبعه} {والسماء رفعها} {إذا الشمس كورت} {وإن أحد من المشركين استجارك} {وإن طائفتان} فإنه ارتفع "باقتتل" مُقَدَّرًا. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفِعْلِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الْعَامِلَةِ سِوَى "إِنْ" لِأَنَّهَا الْأَصْلُ. وَجَعَلَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ هَذَا مِمَّا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَذْفِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمُفَسِّرَ كَالْمُتَسَلِّطِ عَلَى الْمَذْكُورِ وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ إِبْهَامٍ وَلَقَدْ يَزِيدُهُ الْإِضْمَارُ إِبْهَامًا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُضْمَرُ مِنْ جِنْسِ الْمَلْفُوظِ بِهِ نَحْوَ: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَرْفُ جَرٍّ نحو: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنه يفيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 أَنَّ الْمُرَادَ: بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ أَيُّ فِعْلٍ كَانَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النُّحَاةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ بَعْضُ جُمْلَةٍ وَاخْتَلَفُوا. فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةٌ أَيِ ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةٌ وَتَابَعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ فِعْلِيَّةً وَلَكِنْ خَالَفَهُمْ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْفِعْلَ مُقَدَّمًا وَهُوَ يُقَدِّرُهُ مُؤَخَّرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَهُ فِعْلَ الْبِدَايَةِ وَهُوَ يُقَدِّرُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسْبِهِ فَإِذَا قَالَ الذَّابِحُ: بِسْمِ اللَّهِ كَانَ التَّقْدِيرُ: بِسْمِ اللَّهِ أَذْبَحُ وَإِذَا قَالَ القارىء: بِسْمِ اللَّهِ فَالتَّقْدِيرُ: بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ. وَمَا قَالَ أَجْوَدُ مِمَّا قَالُوا لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُنَاسَبَةِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهَا وَلِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ أَهَمُّ مِنَ الْفِعْلِ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ "، جَنْبِي فَقَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ على الفعل المتعلق ثم الْجَارُّ وَهُوَ "وَضَعْتُ". الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ وَقَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا ليقولن الله} وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قل بل ملة إبراهيم} أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 أَوْ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَقِرَاءَةِ: {يُسَبِّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال رجال} ببناء الفعل للمفعول فإن التقدير: يسبحه رِجَالٌ. وَفِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: الْإِخْبَارُ بِالْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ. وَمِنْهَا جَعْلُ الْفَضْلَةِ عُمْدَةً. وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَاعِلَ فُسِّرَ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ كَضَالَّةٍ وَجَدَهَا بَعْدَ اليأس، ويصح أن يكون "يسبح" بدل مِنْ "يُذْكَرُ"عَلَى طَرِيقَةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَ"لَهُ فِيهَا" خَبَرُ مُبْتَدَأٍ هُوَ "رِجَالٌ". مِثْلُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْمَعْنَى زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ فَيُرْفَعُ الشُّرَكَاءُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ "زُيِّنَ". وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ "لِلَّهِ شُرَكَاءَ" مَفْعُولَيْ "جَعَلُوا" لأن لله في موضع الخبر المنسوخ وشركاء نَصْبٌ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سُؤَالٌ مُقَدَّرٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قِيلَ جَعَلُوا الْجِنَّ فَيُفِيدُ الْكَلَامُ إِنْكَارَ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا فَدَخَلَ اعْتِقَادُ الشَّرِيكِ مِنْ غَيْرِ الْجِنِّ فِي إِنْكَارِ دُخُولِ اتِّخَاذِهِ مِنَ الْجِنِّ. وَالثَّانِي: ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْجِنَّ بَدَلٌ مِنْ "شُرَكَاءَ" فَيُفِيدُ إِنْكَارَ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ وَإِنْ جُعِلَ "لِلَّهِ" صِلَةً كَانَ "شُرَكَاءَ الْجِنَّ" مَفْعُولَيْنِ قُدِّمَ ثَانِيهِمَا عَلَى أَوَّلِهِمَا وَعَلَى هَذَا فَلَا حَذْفَ. فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فقيل: {وجعلوا لله شركاء الجن} وَلَمْ يَقُلْ: "وَجَعَلُوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ" تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ شَأْنَ اللَّهِ أَعْظَمُ فِي النُّفُوسِ فَإِذَا قُدِّمَ "لِلَّهِ" وَالْكَلَامُ فِيهِ يَسْتَدْعِي طَلَبَ الْمَجْعُولِ لَهُ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: شُرَكَاءُ وَقَعَ فِي غَايَةِ التَّشْنِيعِ لِأَنَّ النَّفْسَ مُنْتَظِرَةٌ لِهَذَا الْمُهِمِّ الْمُعَلَّقِ بِهَذَا الْمُعَظَّمِ نِهَايَةَ التَّعْظِيمِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ عُلِّقَ بِهِ هَذَا الْمُسْتَبْشَعُ فِي النِّهَايَةِ كَانَ أَعْظَمَ مَوْقِعًا مِنَ الْعَكْسِ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: وَجَعَلُوا شُرَكَاءَ لَمْ يُعْطِهِ تَشَوُّفَ النُّفُوسِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ: جَعَلُوا شُرَكَاءَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَصَدَقَاتِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَعْلَ غَالِبًا لَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَيُخْبَرُ بِهِ إِلَّا وَهُوَ جَعْلٌ مُسْتَقْبَحٌ كَاذِبٌ إِذْ لَا يُسْتَعْمَلُ جَعَلَ اللَّهُ رَحْمَةً وَمَشِيئَةً وَعِلْمًا وَنَحْوَهُ لَا سِيَّمَا بِالِاسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِيِّ كَـ {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} {ويجعلون لله ما يكرهون} إلى غير ذلك. الرابع: أن أصل الجعل وإن جاز وإسناده إِلَى اللَّهِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَائِقًا فَإِنَّ بَابَهُ مَهُولٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَنَا عَظِيمَ خَطَرِهِ وَأَلَّا نَقُولَ فِيهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَدَبُ عَقْلًا وَكَانَ نَفْسُ الْجَعْلِ مُسْتَنْكَرًا إِنْ لَمْ يُتْبَعْ بِمَجْعُولٍ لَائِقٍ فَإِذَا أُتْبِعَ بِمَجْعُولٍ غَيْرِ لَائِقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ فُسِّرَ بِخَاصٍّ مُسْتَنْكَرٍ صار قوله: {وجعلوا لله شركاء الجن} فِي قُوَّةِ إِنْكَارِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْأَوَّلُ جَسَارَتُهُمْ فِي أَصْلِ الْجَعْلِ الثَّانِي فِي كَوْنِ الْمَجْعُولِ شُرَكَاءَ الثَّالِثُ فِي أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ جِنٍّ. الْخَامِسُ: أَنَّ فِي تَقْدِيمِ "لِلَّهِ" إِفَادَةَ تَخْصِيصِهِمْ إِيَّاهُ بِالشَّرِكَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ دُونَ جَمِيعِ مَا يَعْبُدُونَ لِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ. السَّادِسُ: أَنَّهُ جِيءَ بِكَلِمَةِ "جَعَلُوا" لَا "اعْتَقَدُوا" وَلَا "قَالُوا" لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُعْتَقَدِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِبْدَاعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 السَّابِعُ: كَلِمَةُ "شُرَكَاءَ" وَلَمْ يَقُلْ: شَرِيكًا، وِفَاقًا لِمَزِيدِ مَا فَتَحُوا مِنِ اعْتِقَادِهِمْ. الثَّامِنُ: لَمْ يَقُلْ "جِنًّا" وَإِنَّمَا قَالَ: الْجِنَّ، دَلَالَةً عَلَى أنهم اتخذوا الجن كلها جعلوه مِنْ حَيْثُ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَهُوَ أَقْبَحُ مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي وَضَعَهُ لِلْمُفْرَدَاتِ الْمَعْدُولَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {انتهوا خيرا لكم} أَيْ وَائْتُوا أَمْرًا خَيْرًا لَكُمْ فَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ "خَيْرًا" انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ ائْتِ لِأَنَّهُ لَمَّا نهاء عَلِمَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ:" وَائْتُوا خَيْرًا" لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَلِأَنَّ النَّهْيَ تَكْلِيفٌ وَتَكْلِيفُ الْعَدَمِ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْدُورًا فَثَبَتَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ التَّكْلِيفِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُنَافِي الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ الضِّدُّ. وَحَمَلَهُ الْكِسَائِيُّ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ يَكُنِ الِانْتِهَاءُ خَيْرًا لَكُمْ وَيَمْنَعُهُ إِضْمَارُ كَانَ وَلَا تُضْمَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِذْ مَنْ تَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ وَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ "خَيْرًا". وَحَمَلَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيِ انْتَهُوا انْتِهَاءً خَيْرًا لَكُمْ وَقَالَ إِنَّ هَذَا الْحَذْفَ لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِيمَا كَانَ أَفْعَلَ نَحْوَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَفْعَلُ. وَرُدَّ مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا} لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا قَالَا لَا يَكُونُ خَيْرًا لَأَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ التَّثْلِيثِ وَكَانَ مُعَطِّلًا لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُ. وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ: وأنت خَيْرًا يَكُونُ أَمْرًا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَلِلَّهِ دَرُّ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ مَا أَطْلَعَهُمَا عَلَى المعاني!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وقوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} إِنْ لَمْ يَجْعَلْ مَفْعُولًا مَعَهُ أَيْ وَادْعُوا شركاءكم وبإظهار "ادعوا" قرأ وَكَذَلِكَ هُوَ مُثْبَتٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وقوله تعالى: {فراغ عليهم ضربا باليمين} ، قال ابن الشجري: معناه مال عليهم بضربهم ضَرْبًا. وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ نَحْوَ أَتَيْتُهُ مَشْيًا أَيْ مَاشِيًا. {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} أَيْ سَاعِيَاتٍ. وَقَوْلُهُ: "بِالْيَمِينِ" إِمَّا الْيَدُ أَوِ الْقُوَّةُ. وَجَوَّزَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ إِرَادَةَ الْقَسَمِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِلْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تعالى: {لأكيدن أصنامكم} . وَزَعَمَ النَّوَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا تقسموا طاعة معروفة} ، أَنَّ التَّقْدِيرَ لِيَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ. الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَقَوْلِهِ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر. ففتحنا} قَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ فَنَصَرْنَاهُ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى مَا حُذِفَ. وَقَوْلِهِ: {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحر} أَيْ يُكْتَبُ بِذَلِكَ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَا نَفِدَتْ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ. وَقَوْلِهِ: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ موتوا ثم أحياهم} . فَقَوْلُهُ:" ثُمَّ أَحْيَاهُمْ "مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَلَا يَصِحُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 عَطْفُ قَوْلِهِ:" ثُمَّ أَحْيَاهُمْ " عَلَى قَوْلِهِ:" مُوتُوا " لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَفِعْلُ الْأَمْرِ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَاضِي. وَقَوْلِهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} أي فاختلفوا فبعث وحذف لدلالة قوله: {ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً كُفَّارًا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فَاخْتَلَفُوا وَالْأَوَّلُ أَوْجُهُ. وَقَوْلِهِ: {أَوَعَجِبْتُمْ أن جاءكم ذكر من ربكم} فَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ. وَقَوْلِهِ: {قَالَ نعم وإنكم لمن المقربين} ، هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ سَدَّ مَسَدَّهُ حَرْفُ الإيجاب كأنه قال إيجابا لقولهم: {ن لنا لأجرا} ، نَعَمْ إِنَّ لَكُمْ أَجْرًا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ على سفر} ، أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الْفِطْرَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَخْذًا مِنَ الظَّاهِرِ. وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى من رأسه ففدية} ، أَيْ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ. وَقَوْلِهِ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّقْدِيرُ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 فَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الموتى} . وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّيٍّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشهيد} أَنَّ التَّقْدِيرَ فَكَيْفَ يَكُونُ إِذَا جِئْنَا. السَّادِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كقوله: {وإذ قتلتم نفسا} ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ بِإِضْمَارِ "اذْكُرْ" وَلِهَذَا لَمْ يأت لإذ بِجَوَابٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} وَلَيْسَ شَيْءٌ قَبْلَهُ تَرَاهُ نَاصِبًا لِـ"صَالِحًا"، بَلْ عُلِمَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَنَّ فيه إضمار" أرسلنا ". وقوله: {ولسليمان الريح} أَيْ وَسَخَّرْنَا. وَمِثْلُهُ: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قبل} {وذا النون} . وَكَذَا: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} ، أَيْ وَاذْكُرْ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى "اذْكُرْ" فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قليل مستضعفون في الأرض} {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} . وما قاله ظاهر، إلا أن مَفْعُولَ "اذْكُرْ" يَكُونُ مَحْذُوفًا أَيْضًا تَقْدِيرُهُ:" وَاذْكُرُوا أخالكم "وَنَحْوَهُ إِذَا كَانَ كَذَا وَذَلِكَ لِيَكُونَ "إِذْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ وَلَوْ لَمْ يفد ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ لَزِمَ وُقُوعُ "إِذْ" مَفْعُولًا بِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُفَارِقُ الظَّرْفِيَّةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 السَّابِعُ: الْمُشَاكَلَةُ كَحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي" بِسْمِ اللَّهِ "لِأَنَّهُ مَوْطِنٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهِ سِوَى ذِكْرُ اللَّهِ فَلَوْ ذُكِرَ الْفِعْلُ وَهُوَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ فَاعِلِهِ كَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْمَقْصُودِ وَكَانَ فِي حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى لِيَكُونَ الْمَبْدُوءُ بِهِ اسْمَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَمَعْنَاهُ:" مِنْ كُلِّ شَيْءٍ "وَلَكِنْ لَا تَقُولُ هَذَا الْمُقَدَّرَ لِيَكُونَ اللَّفْظُ فِي اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَقْصُودِ الْجَنَانِ وَهُوَ أن يكون في القلب ذكر الله وَحْدَهُ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْحَذْفَ أَعَمُّ مِنَ الذِّكْرِ فَإِنَّ أَيَّ فِعْلٍ ذَكَرْتَهُ كَانَ الْمَحْذُوفُ أَعَمَّ مِنْهُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْرَعُ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَصْدَرِهِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {فضرب الرقاب} وقوله: {فإما منا بعد وإما فداء} أَيْ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَصْبِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما} وَفِي الذَّارِيَاتِ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما} وَفِي نَصْبِهَا وَجْهَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْقَوْلِ أَيْ يَذْكُرُونَ قَوْلًا سَلَامًا فَيَكُونَ مِنْ قُلْتُ حَقًّا وَصِدْقًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَقَالُوا سَلَّمْنَا سَلَامًا أَيْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا فَيَكُونَ قَدْ حَكَى الْجُمْلَةَ بَعْدَ الْقَوْلِ ثُمَّ حَذَفَهَا وَاكْتَفَى بِبَعْضِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ هل هو منصوب بالقول أو بكونه مصدر لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؟. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 منصوب "بقالوا" كَقَوْلِكَ فَقُلْتُ حَقًّا أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ قَالُوا: أَنْزَلَ خَيْرًا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ وَتَبْقِيَةِ بَعْضِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أساطير الأولين} فَمَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَصْبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ قَالُوا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا ذَلِكَ وَلَا هُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ قُلْتُ حَقًّا وَصِدْقًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا رَفْعُهُ. تَنْبِيهٌ:. قَدْ يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِي أَمْرِ الْمَحْذُوفِ وَعَدَمِهِ لِعَدَمِ تَحْصِيلِ مَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى النِّدَاءِ فَلَا يُقَدَّرُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ إِنْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ أَوْ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ الَّتِي تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ أَيْ سموه الله أو الرحمن. قد يَشْتَبِهُ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ لِقِيَامِ قَرِينَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تعالى: {بلى قادرين} قدره سيبويه بـ"بلى نجمعها قادرين"، فقادرين حال وحذف الفعل لدلالة: {ألن نجمع} عَلَيْهِ. وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ " نَحْسَبُ " لِدَلَالَةِ {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} أَيْ بَلَى نَحْسَبُنَا قَادِرِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وَتَقْدِيرُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَنَّ بَلَى لَيْسَ جَوَابًا لـ"يحسب" إنما هو جواب لـ"ألن نَجْمَعَ" وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: بَلَى نَقْدِرُ قَادِرِينَ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْفِعْلِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَوَاصِبِ الِاسْمِ وُقُوعُهُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ. تَنْبِيهٌ آخَرُ:. إِنَّ الْحَذْفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلَّا يُقَامَ شَيْءٌ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ كَمَا سَبَقَ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَامَ مَقَامُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أرسلت به إليكم} ، لَيْسَ الْإِبْلَاغُ هُوَ الْجَوَابَ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَلَا مَلَامَ عَلَيَّ لِأَنِّي قد أَبْلَغْتُكُمْ. وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ من قبلك} فَلَا تَحْزَنْ وَاصْبِرْ. وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مضت سنت الأولين} أَيْ يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ. حَذْفُ الْحَرْفِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي" الْمُحْتَسِبِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ: حَذْفُ الْحَرْفِ لَيْسَ يُقَاسُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْفَ نائب عن الفعل بفاعله ألاتراك إِذَا قُلْتَ: مَا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ نَابَتْ مَا عَنْ أَنْفِي كَمَا نَابَتْ إِلَّا عَنْ أَسْتَثْنِي وَكَمَا نَابَتِ الْهَمْزَةُ وَهَلْ عَنْ أَسْتَفْهِمُ وَكَمَا نَابَتْ حُرُوفُ الْعَطْفِ عَنْ أَعْطِفُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَوْ ذَهَبْتَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 تَحْذِفُ الْحَرْفَ لَكَانَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا وَاخْتِصَارُ الْمُخْتَصَرِ إجحاف به إلا إِذَا صَحَّ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَقَدْ جَازَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ حَذْفُهُ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. فَمِنْهُ الْوَاوُ تُحْذَفُ لِقَصْدِ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّ فِي إِثْبَاتِهَا مَا يَقْتَضِي تَغَايُرَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فَإِذَا حُذِفَتْ أشعر بأن الكل كالواحد: كقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكبر} تَقْدِيرُهُ: وَلَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يومئذ ناعمة} أَيْ وَوُجُوهٌ. وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْفَارِسِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} الْآيَةَ. وَقَالَ: تَقْدِيرُهُ: "وَقُلْتَ لَا أَجِدُ" فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "أَتَوْكَ" لِأَنَّ جَوَابَ "إِذَا" قَوْلُهُ: "تَوَلَّوْا". وَمَنَعَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ وَعَلَى هَذَا فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ حَالٌ مِنَ الْكَافِ فِي" أتوك "، "وقد" قَبْلَهُ مُضْمَرَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حصرت صدورهم} أَيْ إِذَا مَا أَتَوْكَ قَائِلًا لَا أَجِدُ تَوَلَّوْا وَعَلَى هَذَا فَلَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ حَالٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ: لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَالُوا لِأَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ الْقَوْمِ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِالْبُكَاءِ عِنْدَ التَّوَلِّي وإنما شرطه عدم الجدة ونزلت في السبعة الذين سمى أبو إِسْحَاقَ وَلَوْ كَانَ جَوَابُ "إِذَا أَتَوْكَ" فِي قوله: {تولوا وأعينهم تفيض} لَكَانَ مَنْ لَمْ تُفِضْ عَيْنَاهُ مِنَ الدَّمْعِ هُوَ الَّذِي حَرِجَ وَأَثِمَ وَمَا رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْهُمْ إِلَّا لِأَنَّ الرَّسُولَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 لَمْ يَجِدْ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ وَإِذَا عَطَفْتَ "قُلْتَ لَا أَجِدُ" عَلَى "أَتَوْكَ" كَانَ الْحَرَجُ غَيْرَ مَرْفُوعٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُقَالَ: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} فَجَوَابُ إِذَا فِي قَوْلِهِ لَا أَجِدُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ خَبَرٌ وَنَبَأٌ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَفَضِيلَةُ الْبُكَاءِ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ وَرَفْعُ الْحَرَجِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْجِدَةِ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ في قوله تعالى: {قالوا اتخذ الله ولدا} : آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي مَصَاحِفِ الشَّامِ بِغَيْرِ وَاوٍ - يَعْنِي قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ - لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُلَابِسَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} لِأَنَّ الْقَائِلِينَ:" اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ فَيُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْوَاوِ لِالْتِبَاسِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا كَمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا فِي نحو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فيها خالدون} ، وَلَوْ كَانَ وَهُمْ كَانَ حَسَنًا إِلَّا أَنَّ الْتِبَاسَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى وَارْتِبَاطَهَا بِهَا أَغْنَى عن الواو. ومثله: {سيقولون ثلاثة رابعهم} وَلَمْ يَقُلْ: وَرَابِعُهُمْ كَمَا قَالَ: {وَثَامِنُهُمْ} وَلَوْ حُذِفَ الْوَاوُ مِنْهَا كَمَا حُذِفَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاوِ بِالْمُلَابَسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا كَانَ حَسَنًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْوَاوِ لِاسْتِئْنَافِ الْجُمْلَةِ وَلَا يُعْطَفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. انْتَهَى. وَحَصَلَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ عِنْدَ حَذْفِ الْوَاوِ يَجُوزُ أَنْ يُلَاحَظَ مَعْنَى الْعَطْفِ وَيُكْتَفَى لِلرَّبْطِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا بِالْمُلَابَسَةِ كَمَا ذَكَرَ. وَيَجُوزُ أَلَّا يُلَاحَظَ ذَلِكَ فَتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً. قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ: وَحَذْفُ الْوَاوِ فِي الْجُمَلِ أَسْهَلُ مِنْهُ فِي الْمُفْرَدِ وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُهَا فِي الْجُمَلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 فِي الْكَلَامِ الْمَحْمُولِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب} كُلُّهُ مَحْمُولٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَالْوَاوُ مَزِيدَةٌ حُذِفَتْ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمَلِ بِأَنْفُسِهَا بِخِلَافِ الْمُفْرَدِ وَلِأَنَّهُ فِي الْمُفْرَدِ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا فِي نَحْوِ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَرَجُلًا عَاقِلًا.، وَلَوْ جَازَ حَذْفُ الْوَاوِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا بَدَلًا بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ} أَيْ وَقَالَ. وَمِنْهُ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى رَأْيٍ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} أَيْ فَالْوَصِيَّةُ. وَالْفَاءُ فِي الْعَطْفِ كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ من الجاهلين} ، تَقْدِيرُهُ: " فَقَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ "ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هودا قال يا قوم اعبدوا الله} حُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ مِنْ قَوْلِهِ:" قَالَ" وَلَمْ يَقُلْ: "فَقَالَ" كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ قَالَ: مَا قَالَ لَهُمْ هُودٌ؟ فَقِيلَ: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله واتقوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 وَمِنْهُ حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} أَيْ أَهَذَا رَبِّي؟. وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكَ من سيئة فمن نفسك} أَيْ أَفَمِنْ نَفْسِكَ!. وَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا علي} أي أو تلك نعمة!. وقوله: {إنك لأنت يُوسُفَ} عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ. وَمِنْهُ حَذْفُ أَلِفِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنبياء الله} {فيم أنت من ذكراها} {عم يتساءلون} و {مم خلق} . وَمِنْهُ حَذْفُ الْيَاءِ فِي: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} لِلتَّخْفِيفِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. وَمِنْهُ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ، كقوله: {ها أنتم هؤلاء} أي يا هؤلاء. وقوله: {يُوسُفَ} أَيْ يَا يُوسُفُ. وَقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي وهن العظم مني واشتعل الرأس} أَيْ يَا رَبِّ. وَيَكْثُرُ فِي الْمُضَافِ نَحْوِ: {فاطر السماوات} {ربنا أنزل علينا مائدة} . وكثر ذلك في نداء الرب سبحانه وَحِكْمَةُ ذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ لِأَنَّ النداء يتشرب معنى الأمر لأن إِذَا قُلْتَ يَا زَيْدُ فَمَعْنَاهُ أَدْعُوكَ يَا زَيْدُ فَحُذِفَتْ يَا مِنْ نِدَاءِ الرَّبِّ لِيَزُولَ معنى الأمر ويتمحص التعظيم والإجلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وَقَالَ الصَّفَّارُ: يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مِنَ الْمُنَادَى إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُنَادَى نَكِرَةً مُقْبَلًا عَلَيْهَا إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَإِلَّا إِذَا كَانَ اسْمَ إِشَارَةٍ. وَمِنْهُ حَذْفُ "لَوْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بعض} تَقْدِيرُهُ: لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذا لارتاب المبطلون} مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. وَمِنْهُ حَذْفُ "قَدْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} أَيْ وَقَدِ اتَّبَعَكَ لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْحَالِ إِلَّا وَ"قَدْ" مَعَهُ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً. وَمِثْلُهَا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أمواتا} أَيْ وَقَدْ كُنْتُمْ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صدورهم} قِيلَ مَعْنَاهُ:" قَدْ حَصِرَتْ " بِدَلَالَةِ قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ "حَصِرَةً صُدُورُهُمْ". وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْحَالُ مَحْذُوفَةٌ، وَ"حُصِرَتْ صُدُورُهُمْ" صِفَتُهَا أَيْ جَاءُوكُمْ يَوْمًا حُصِرَتْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُحْصَرَ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ لقومهم طريقته قَاتَلَهُمُ اللَّهُ. وَرَدَّهُ أَبُو عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ أَيْ قَاتَلُوا قَوْمَهُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُحْصَرَ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ لَكِنْ بِقَوْلِ اللَّهُمَّ أَلْقِ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ. وَمِنْهُ حَذْفُ " أَنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خوفا وطمعا} ، الْمَعْنَى أَنْ يُرِيَكُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وَحَذْفُ "لَا" فِي قَوْلِهِ: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ} أَيْ لَا تَفْتَأُ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلنَّفْيِ وَمَعْنَاهَا لَا تَبْرَحُ. قَوْلُهُ: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أن تميد بكم} ، أَيْ لَا تَمِيدُ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تبوء بإثمي وإثمك} أي لا تبوء. وبهذا يَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنَ الْآيَةِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فدية} ، أي لا يطيقونه على قول. فائدة. [في حَذْفُ الْجَارِّ ثُمَّ إِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ] . كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ الْجَارِّ ثُمَّ إِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ موسى قومه} أي من قومه. {ورفع بعضهم درجات} {ولا تعزموا عقدة النكاح} أَيْ عَلَى عُقْدَةِ. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، أَيْ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَلَا تخافوهم} . {ويبغونها عوجا} أي يبغون لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 {والقمر قدرناه} أي قدرنا له. {سنعيدها سيرتها} أي على سيرتها. فصل. [فيما حذف في آية وأثبت في أخرى] . مِنَ الْأَنْوَاعِ مَا حُذِفَ فِي آيَةٍ وَأُثْبِتَ فِي أُخْرَى وَهُوَ قِسْمَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ما حذف منه محمولا على المذكور كالمطلق في الرقبة في كفارة لظهار مُقَيَّدًا بِالْمُؤْمِنَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَكَقَوْلِهِ: {وَجَنَّةٍ عرضها السماوات والأرض} ، قُيِّدَتْ بِالتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ والملائكة} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فَإِنَّ هَذِهِ تَقْتَضِي أَنَّ الْأُولَى عَلَى حَذْفِ مضاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مُرَادًا. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كثيرة ومنها تأكلون} وَفِي الزُّخْرُفِ: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تأكلون} . وقوله في الْبَقَرَةِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضل أولئك هم الغافلون} . وَحِكْمَتُهُ: أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَاطِفُ بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ فِي الْأَعْرَافِ فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ لِأَنَّ التَّسْجِيلَ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ وَتَشْبِيهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ وَاحِدٌ فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ مُقَرِّرَةً مَا فِي الْأُولَى فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ كفروا سواء عليهم} وَقَالَ فِي يس: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لم تنذرهم} مَعَ الْعَاطِفِ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ مَا فِي يس وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى فَاحْتَاجَتْ إِلَى الْعَاطِفِ وَالْجُمْلَةُ هُنَا لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} فَأَثْبَتَ الْوَاوَ فِي الْأَعْرَافِ وَحَذَفَهَا فِي الْكَهْفِ فقال: {وإن تدعهم إلى الهدى} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي فِي الْأَعْرَافِ خِطَابٌ لجمع وأصله تدعونهم حذفت لِلْجَزْمِ وَالَّتِي فِي الْكَهْفِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ وَعَلَامَةُ الْجَزْمِ فِيهِ سُقُوطُ الْوَاوِ. وَمِنْهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ المنير} وفي فاطر:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 {جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} والفرق أن الأولى حذفت الباء ففيها للاختصار استغناء بالتي قبلها وخرجت عَنِ الْأَصْلِ لِلتَّوْكِيدِ وَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى كَمَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَ وَبِأَخِيكَ وَبِأَبِيكَ إِذَا اخْتَصَرْتَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ: {مَا أَنْتَ إِلَّا بشر مثلنا} وفي قصة شعيب: {وما أنت} بِالْوَاوِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأُولَى جَرَى عَلَى انْقِطَاعِ الكلام عند النحويين واستئناف {وما أنت} فَاسْتَغْنَى عَنِ الْوَاوِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَفِي الثَّانِيَةِ جَرَى فِي الْعَطْفِ وَأَنْ يَكُونَ قوله: {وما أنت} معطوفا على {إنما أنت} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يمكرون} وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ: {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الْقِصَّةَ لَمَّا طَالَتْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ نَاسَبَ التَّخْفِيفُ بِحَذْفِ النُّونِ بِخِلَافِهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فَإِنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ فِي البقرة: {فلا تكونن من الممترين} وَفِي آلِ عِمْرَانَ: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْبَقَرَةِ لِلْيَهُودِ وَهُمْ أشد جدالا. ومنه قوله في الأعراف: {لست بربكم قالوا بلى شهدنا} وفي الأنعام: {يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شهدنا على أنفسنا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَيَقْتُلُونَ النبيين بغير الحق} 1 وفي سورة آل عمران {بغير حق} وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجُمْلَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَهُوَ عَامٌّ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ حَتَّى يَكُونَ عَامًّا وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ جَاءَ عَنْ أُنَاسٍ مَعْهُودِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ يُسْتَبَاحُ بِهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ عِنْدَهُمْ كَانَ مَعْرُوفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} فَالْحَقُّ هُنَا الَّذِي تُقْتَلُ بِهِ الْأَنْفُسُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ومنه قوله تعالى في هُودٍ حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون} وَأَمَرَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِقُرَيْشٍ {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تعلمون} ويمكن أن يقال لما كررت مراجعته لقوم نَاسَبَ اخْتِصَاصَ قِصَّتِهِ بِالِاسْتِئْنَافِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ وَأَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ مُدَّةُ إِنْذَارِهِ لِقَوْمِهِ قَصِيرَةً فَعَقَّبَ عَمَلَهُمْ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ بِوَعِيدِهِمْ بِالْفَاءِ إِشَارَةً إِلَى قُرْبِ نُزُولِ الْوَعِيدِ لَهُمْ بِخِلَافِ شُعَيْبٍ فَإِنَّهُ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِي قَوْمِهِ فَاسْتَأْنَفَ لَهُمْ ذِكْرَ الْوَعِيدِ وَلَعَلَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ سَأَلُوهُ السُّؤَالَ الْمُتَقَدِّمَ فَأَجَابَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ وَالْفَاءُ لَا تَحْسُنُ فِيهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ وَلَا يَحْسُنُ مَعَهُ الْحَذْفُ وَمِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليم} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 عذاب أليم} ، إلى أن قال: {يغفر لكم ذنوبكم} ، وَقَالَ فِي خِطَابِ الْكَافِرِينَ: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ من ذنوبكم} ، {يا قومنا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ من ذنوبكم} . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: مَا عَلِمْتُهُ جَاءَ الْخِطَابُ هَكَذَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي خِطَابِ الْكَافِرِينَ وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ وَلِئَلَّا يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمِيعَادِ. وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الجواب وإن لم يحصل كان هذاالكلام فَاسِدًا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ: وَيُقَالُ: مَا فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي الْخِطَابِ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ؟ إِذِ الْكَافِرُ إِذَا آمَنَ وَالْمُؤْمِنُ إِذَا تَابَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْغُفْرَانِ وَمَا تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب منالكافر إِذَا هُوَ آمَنَ مَوْجُودٌ فِي الْمُؤْمِنِ إِذَا تَابَ. وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي آخر الكتاب. الْإِيجَازُ. وَهُوَ قِسْمٌ مِنَ الْحَذْفِ وَيُسَمَّى إِيجَازَ الْقَصْرِ فَإِنَّ الْإِيجَازَ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ وَجِيزٌ بِلَفْظٍ ووجيز بحذف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 فَالْوَجِيزُ بِاللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المعنى أقل من القدرالمعهود عَادَةً وَسَبَبُ حُسْنِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:" أوتيت جوامع الكلم ".و. اللفظ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ وَهُوَ الْمَقْصُورُ. أَمَّا الْمُقَدَّرُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية. وقوله: {قتل الإنسان ما أكفره} وَهُوَ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الْمَقْصُورُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ لَفْظِهِ عَنْ مَعْنَاهُ لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَعَانٍ كثيرة أولا. الْأَوَّلُ: كَاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لَهُ مَجَازَانِ، أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ إِذَا أُرِيدَ مَعَانِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ مُغَايِرَةٌ لِلصَّلَاةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الِاعْتِنَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الْآيَةَ. فَإِنَّ السُّجُودَ فِي الْكُلِّ يَجْمَعُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الِانْقِيَادُ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . وقوله: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إِذْ مَعْنَاهُ كَبِيرٌ وَلَفْظُهُ يَسِيرٌ. وَقَدْ نُظِرَ لِقَوْلِ الْعَرَبِ:" الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ "وَهُوَ بِنُونٍ ثُمَّ فَاءٍ وَيُرْوَى بِتَاءٍ ثُمَّ قَافٍ وَيُرْوَى " أَوْقَى " وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ حُكْمُهُ خَافَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَقَدْ حَكَاهُ الْحَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ علي بن أبي طالب وَقَالَ: قَوْلُ عَلِيٍّ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وقد تكلموا في وجه الأبلغية. انتهى. وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ "الْمَثَلِ السَّائِرِ" إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا نِسْبَةَ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ يَقْدَحُونَ أَذْهَانَهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ وَكَيْفَ يُقَابَلُ الْمُعْجِزُ بِغَيْرِهِ مُفَاضَلَةً وَهُوَ مِنْهُ فِي مَرْتَبَةِ الْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِهِ: وَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُونَ إِذَا بَدَا جَمَالُ خِطَابٍ فَاتَ فَهْمَ الْخَلَائِقِ وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وُجُوهٌ:. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أَوْجَزُ فَإِنَّ حُرُوفَهُ عَشْرَةٌ وَحُرُوفُ "الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ" أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَالتَّاءُ وَأَلِفُ الْوَصْلِ سَاقِطَانِ لَفْظًا وَكَذَا التَّنْوِينُ لِتَمَامِ الْكَلَامِ الْمُقْتَضِي لِلْوَقْفِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ كُلْفَةٌ بِتَكْرِيرِ الْقَتْلِ وَلَا تَكْرِيرَ فِي الْآيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ فِيهِ حُرُوفٌ مُتَلَائِمَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى الصَّادِ إِذِ الْقَافُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالصَّادُ مِنْ حُرُوفِ الاستعلاء والإطباق،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 بِخِلَافِ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى التَّاءِ الَّتِي هي حرف منخفض فهو غير ملائم وَكَذَا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّادِ إِلَى الْحَاءِ أَحْسَنُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ اللَّامِ إِلَى الْهَمْزَةِ لِبُعْدِ مادون طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَقْصَى الْحَلْقِ. الرَّابِعُ: فِي النُّطْقِ بِالصَّادِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ حُسْنُ الصَّوْتِ وَلَا كَذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقَافِ وَالْفَاءِ. الْخَامِسُ: تَكْرِيرُ ذَلِكَ فِي كَلِمَتَيْنِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ بَعْدَ فَصْلٍ طَوِيلٍ وَهُوَ ثِقَلٌ فِي الْحُرُوفِ أَوِ الْكَلِمَاتِ. السَّادِسُ: الْإِثْبَاتُ أَوَّلٌ وَالنَّفْيُ ثَانٍ عَنْهُ وَالْإِثْبَاتُ أَشْرَفُ. السَّابِعُ: أَنَّ الْقِصَاصَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ أَوْزَنُ فِي الْمُعَادَلَةِ مِنْ مُطْلَقِ الْقَتْلِ وَلِذَلِكَ يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ بِخِلَافِ الْآيَةِ. الثَّامِنُ: الطِّبَاعُ أَقْبَلُ لِلَفْظِ الْحَيَاةِ مِنْ كَلِمَةِ الْقَتْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِصَارِ وَعَدَمِ تَكْرَارِ الْكَلِمَةِ وَعَدَمِ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ وَعَدَمِ تَكْرَارِ الْحَرْفَيْنِ وَقَبُولِ الطَّبْعِ لِلَفْظِ "الْحَيَاةِ" وَصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ. التَّاسِعُ: أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَيَاةَ وَالْآيَةُ نَاصَّةٌ عَلَى ثُبُوتِهَا الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ. الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الحياة وقوله في القصاص حياة مَفْهُومٌ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ قَوْلَهُمْ خَطَأٌ فَإِنَّ الْقَتْلَ كُلَّهُ لَيْسَ نَافِيًا لِلْقَتْلِ فَإِنَّ الْقَتْلَ الْعُدْوَانِيَّ لَا يَنْفِي الْقَتْلَ وَكَذَا الْقَتْلُ فِي الرِّدَّةِ وَالزِّنَا لَا يَنْفِيهِ وَإِنَّمَا ينفيه قتل خاص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 وهو قتل القصاص الذي فِي الْآيَةِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمَقْصُودِ وَالَّذِي فِي الْمَثَلِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى رَبْطِ الْمَقَادِيرِ بِالْأَسْبَابِ وَإِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ أَيْضًا بِالْمَقَادِيرِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ يَتَضَمَّنُهُ إِلَّا أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى رَبْطِ الْأَجَلِ فِي الْحَيَاةِ بِالسَّبَبِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ نَفْيِ الْقَتْلِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي تَنْكِيرِ "حَيَاةٌ" نَوْعُ تَعْظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً مُتَطَاوِلَةً كَقَوْلِهِ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَلِهَذَا فَسَّرُوا الْحَيَاةَ فِيهَا بِالْبَقَاءِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: فيه بناء أفعل التفضيل من مُتَعَدٍّ وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ أَفْعَلَ فِي الْغَالِبِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فَيَكُونُ تَرْكُ الْقِصَاصِ نَافِيًا الْقَتْلَ وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَكْثَرُ نَفْيًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْ هَذَا. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّفْظَ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِذَا تَوَالَتْ حَرَكَاتُهُ تَمَكَّنَ اللِّسَانُ مِنَ النُّطْقِ وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ بِخِلَافِهِ إِذَا تَعَقَّبَ كُلَّ حَرَكَةٍ سُكُونٌ وَالْحَرَكَاتُ تَنْقَطِعُ بِالسَّكَنَاتِ نَظِيرُهُ إِذَا تَحَرَّكَتِ الدَّابَّةُ أَدْنَى حَرَكَةٍ فَخَنِسَتْ ثُمَّ تَحَرَّكَتْ فَخَنِسَتْ لَا يُتَبَيَّنُ انْطِلَاقُهَا وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا تَخْتَارُهُ وَهِيَ كَالْمُقَيَّدَةِ وَقَوْلُهُمْ: "الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ" حَرَكَاتُهُ مُتَعَاقِبَةٌ بِالسُّكُونِ بِخِلَافِ الْآيَةِ. السَّابِعَ عَشَرَ: الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى فَنٍّ بَدِيعٍ وَهُوَ جَعْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ مَحَلًّا وَمَكَانًا لِضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ وَاسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْتِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ ذَكَرَهُ فِي الكشاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ فِي الْآيَةِ طِبَاقًا لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْعِرٌ بِضِدِّ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ الْمَثَلِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: الْقِصَاصُ فِي الْأَعْضَاءِ وَالنُّفُوسِ وَقَدْ جُعِلَ في الكل حياة فيكون جمعا بين حياةالنفس وَالْأَطْرَافِ وَإِنْ فُرِضَ قِصَاصٌ بِمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ كَالسِّنِّ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْحَيَاةِ تَنْقُصُ بِذَهَابِهِ وَيَصِيرُ كَنَوْعٍ آخَرَ وَهَذِهِ اللَّطِيفَةُ لَا يَتَضَمَّنُهَا المثل. العشرون: أنها أكثر فائدة لتضمنه الْقِصَاصَ فِي الْأَعْضَاءِ وَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى حَيَاةِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهٍ بِهِ الْقِصَاصُ صَرِيحًا وَمِنْ وَجْهِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرْفِ لِأَنَّ أَحَدَ أَحْوَالِهَا أَنْ يَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ فَيُزِيلَهَا وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا زِيَادَةُ {لَكُمْ} فَفِيهَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ بَيَانُ الْعِنَايَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُ حَيَاتُهُمْ لَا غَيْرُهُمْ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالْمَعْنَى مَعَ وُجُودِهِ فِيمَنْ سِوَاهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْبَيَانِ الْمُوجَزِ الَّذِي لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَيْءٌ. وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ.} الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نِهَايَةُ التَّنْزِيهِ. وَقَوْلُهُ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كريم} ، وهذا بينا عَجِيبٌ يُوجِبُ التَّحْذِيرَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالْإِمْهَالِ. وَقَوْلُهُ: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} وقوله: {إن المتقين في مقام أمين} ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وقوله: {فاصدع بما تؤمر} فَهَذِهِ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الرِّسَالَةِ. وَقَوْلُهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، فَهَذِهِ جَمَعَتْ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ كُلَّهَا لِأَنَّ فِي {خُذِ الْعَفْوَ} صِلَةَ الْقَاطِعِينَ وَالصَّفْحَ عَنِ الظَّالِمِينَ وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ تَقْوَى اللَّهِ وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ وَصَرْفَ اللِّسَانِ عَنِ الْكَذِبِ وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ وَتَنْزِيهَ النَّفْسِ عَنْ مُمَارَاةِ السفيه. قوله: {مدهامتان} معناه مسودتاه مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ. وَقَوْلُهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكتسبت} . وقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} فدل بأمرين على ججميع مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ وَالْحَبِّ وَالتَّمْرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّارِ وَالْمِلْحِ لِأَنَّ النَّارَ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْمِلْحَ مِنَ الْمَاءِ. وَقَوْلُهُ: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ، فَدَلَّ عَلَى نَفْسِهِ وَلُطْفِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَدَى للحجة عل مَنْ ضَلَّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ظُهُورُ الثَّمَرَةِ بِالْمَاءِ وَالتُّرْبَةِ لَوَجَبَ فِي الْقِيَاسِ أَلَّا تَخْتَلِفَ الطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ وَلَا يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا نَبَتَ فِي مَغْرِسٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ صُنْعُ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ. وَقَوْلُهُ: {لَا يُصَدَّعُونَ عنها ولا ينزفون} ، كيف نفى بهذين جميع عيوب الخمر وجمع بقوله: {ولا يُنْزِفُونَ} عَدَمَ الْعَقْلِ وَذَهَابَ الْمَالِ وَنَفَادَ الشَّرَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يبصرون} فدل على فضل السمع والبصر حيث جعل مع الصم فُقْدَانَ الْعَقْلِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَعَ الْعَمَى إِلَّا فقدان البصر وحده. وقوله: {وقيل يا أرض ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا للقوم الظالمين} كَيْفَ أَمَرَ وَنَهَى وَأَخْبَرَ وَنَادَى وَنَعَتَ وَسَمَّى وَأَهْلَكَ وَأَبْقَى وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى قَصَّ مِنَ الْأَنْبَاءِ مالو شُرِحَ مَا انْدَرَجَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ بَدِيعِ اللَّفْظِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ لَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ وانحسرت الأيدي. وقوله تعالى عن النملة: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} فَجَمَعَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَحَدَ عَشَرَ جِنْسًا مِنَ الْكَلَامِ نَادَتْ وَكَنَّتْ وَنَبَّهَتْ وَسَمَّعَتْ وَأَمَرَتْ وقضت وَحَذَّرَتْ وَخَصَّتْ وَعَمَّتْ وَأَشَارَتْ وَغَدَرَتْ فَالنِّدَاءُ "يَا" وَالْكِنَايَةُ " أَيُّ " وَالتَّنْبِيهُ "هَا" وَالتَّسْمِيَةُ النَّمْلُ وَالْأَمْرُ "ادْخُلُوا" وَالْقَصَصُ "مَسَاكِنَكُمْ" وَالتَّحْذِيرُ "لَا يَحْطِمَنَّكُمْ" وَالتَّخْصِيصُ سليمان والتعميم جنوده والإشارة "وهم" والغدر لَا يَشْعُرُونَ. فَأَدَّتْ خَمْسَ حُقُوقٍ حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ رَسُولِهِ وَحَقَّهَا وَحَقَّ رَعِيَّتِهَا وَحَقَّ جُنُودِ سُلَيْمَانَ فَحَقُّ اللَّهِ أَنَّهَا اسْتُرْعِيَتْ عَلَى النَّمْلِ فَقَامَتْ بِحَقِّهِمْ وَحَقُّ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا نَبَّهَتْهُ عَلَى النمل وحقها إسقاطها حق الله عن الجنود في نصحهم4 وحق الجنود بِنُصْحِهَا لَهُمْ لِيَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ وَحَقُّ الْجُنُودِ إِعْلَامُهَا إياهم وجميع الخلق أن من. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 استرعاه رَعِيَّةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَالذَّبُّ عَنْهَا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ". وَيُقَالُ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَضْحَكْ فِي عُمْرِهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَأُخْرَى حِينَ أَشْرَفَ عَلَى وَادِي النَّمْلِ فَرَآهَا عَلَى كِبَرِ الثَّعَالِبِ لَهَا خَرَاطِيمُ وَأَنْيَابٌ فَقَالَ رَئِيسُهُمُ: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ فَخَرَجَ كَبِيرُ النَّمْلِ فِي عِظَمِ الْجَوَامِيسِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ هَالَهُ فَأَرَاهُ الْخَاتَمَ فَخَضَعَ لَهُ ثُمَّ قَالَ: أهذه كلها نمل؟ فقال: إن النمل لكبيرة إِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ فِي الْجِبَالِ وَصِنْفٌ في القرى وصنف في المدن. فقال سلميان عَلَيْهِ السَّلَامُ: اعْرِضْهَا عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ: قِفْ. فَبَقِيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِسْعِينَ يَوْمًا وَاقِفًا يَمُرُّ عَلَيْهِ النَّمْلُ، فَقَالَ: هَلِ انْقَطَعَتْ عَسَاكِرُكُمْ، فَقَالَ مَلِكُ النَّمْلِ: لَوْ وَقَفْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا انْقَطَعَتْ. فَذَكَرَ الْجُنَيْدُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِعَظِيمِ النَّمْلِ: لِمَ قُلْتَ لِلنَّمْلِ: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ؟ أَخِفْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ ظُلْمِنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ خِفْتُ أَنْ يُفْتَتَنُوا بِمَا رَأَوْا مِنْ مُلْكِكَ فَيَشْغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ الله. وَقَوْلُهُ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أنشأها أول مرة} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْحِجَاجِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مشتركون} وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّحْسِيرِ. وَقَوْلُهُ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الْخَلَّةِ إِلَّا عَلَى التَّقْوَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وقوله: {أن تقول نفس يا حسرتى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ. وقوله: {أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّبْعِيدِ. وَقَوْلُهُ: {اعملوا ما شئتم} ، فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّخْيِيرِ. وَقَوْلُهُ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غطاءك فبصرك اليوم حديد} ، وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّذْكِيرِ. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا به بل هم قوم طاغون} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ فِي التَّقْرِيعِ عَلَى التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. وَقَوْلُهُ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن} ، وهذا أشد ما يكون من التقريع. {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} وَهَذَا غَايَةُ التَّرْهِيبِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون} ، وَهَذِهِ غَايَةُ التَّرْغِيبِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وَقَوْلُهُ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . وَقَوْلُهُ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحِجَاجِ وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أُثْبِتَتْ دَلَالَةُ التَّمَانُعِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْوَصْفِ بِكُلِّ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْقَلِيلَ جِدًّا حَوَى مَعَانِيَ كَثِيرَةً لَا تَنْحَصِرُ عَدَدًا. وَقَوْلُهُ: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو} وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَوْلُهُ: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} . وقوله: {إنما بغيكم} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وأخذوا من مكان قريب} . وقوله: {هدى للمتقين} . وقوله: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} . وقوله: {فانبذ إليهم على سواء} مَعْنَاهُ قَابِلْهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مَعَكَ وَعَامِلْهُمْ مِثْلَ مُعَامَلَتِهِمْ لَكَ سَوَاءً مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٍ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ. وَقَوْلُهُ: {وَغِيضَ الْمَاءُ وقضي الأمر} فَإِنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى انْقِطَاعِ مُدَّةِ الْمَاءِ النازل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ: {وَقُضِيَ الأمر} أَيْ هَلَكَ مَنْ قُضِيَ هَلَاكُهُ وَنَجَا مَنْ قُدِّرَتْ نَجَاتُهُ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهِ إِلَى لَفْظِ التَّمْثِيلِ لِأَمْرَيْنِ اخْتِصَارِ اللَّفْظِ وَكَوْنِ الْهَلَاكِ وَالنَّجَاةِ كَانَا بِأَمْرٍ مُطَاعٍ إِذِ الْأَمْرُ يَسْتَدْعِي آمِرًا وَمُطَاعًا وَقَضَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ. وَمِنْ أَقْسَامِ الْإِيجَازِ الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ لِلشَّيْءِ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَخَافُ الشُّجْعَانَ وَالْمُرَادُ لَا يَخَافُ أَحَدًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ أَيْضًا تَتَرَبَّصُ لِأَنَّ السَّبَبَ الْغَالِبَ لِلْفِرَاقِ الطَّلَاقُ. وَقَوْلُهُ: {أو جاء أحد منكم من الغائط} وَلَمْ يَذْكُرِ النَّوْمَ وَغَيْرَهُ لِأَنَّ السَّبَبَ الضَّرُورِيَّ النقاض خُرُوجُ الْخَارِجِ فَإِنَّ النَّوْمَ النَّاقِضَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَذَكَرَ السَّبَبَ الظَّاهِرَ وَعُلِمَ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي الباقي. ومنه قوله: {يعلم السر وأخفى} أي وهو مالم يَقَعْ فِي وَهْمِ الضَّمِيرِ مِنَ الْهَوَاجِسِ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ مُخَيِّلَاتِ الْوَسَاوِسِ. وَمِنْهُ: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} وَنَظَائِرُهُ. وَكَذَلِكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَائِمٌ خَبَرٌ عَنْ أَحَدِهِمَا وَاسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ خَبَرِ الْآخَرِ. وَمِنْهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ مَقَامَ الْخَبَرِ نَحْوُ أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ فَإِنَّ قَائِمٌ مُبْتَدَأٌ لَا خَبَرَ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وَمِنْهَا بَابُ "عَلِمْتُ أَنَّكَ قَائِمٌ" إِذَا جَعَلْنَا الْجُمْلَةَ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ مَحِلَّةٌ لِاسْمٍ وَاحِدٍ سَدَّ مَسَدَّ اسْمَيْنِ مَفْعُولَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ. وَمِنْهُ بَابُ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي ضُرِبَ زَيْدٌ فَ زَيْدٌ دَلَّ عَلَى الْفَاعِلِ بِإِعْطَائِهِ حُكْمَهُ وَعَلَى الْمَفْعُولِ بِوَضْعِهِ. وَمِنْهَا جَمِيعُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ فَإِنَّ " كَمْ مَالَكَ "؟ يغني عن عشرين أو ثلاثين ومن يقم أكرمه يغني عن زيد وعمرو قال ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "الْجَامِعِ". وَمِنْهُ الْأَلْفَاظُ اللَّازِمَةُ لِلْعُمُومِ مِثْلَ أَحَدٍ وَدَيَّارٍ قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ أَيْضًا. وَمِنْهُ لَفْظُ الْجَمْعِ فَإِنَّ الزَّيْدِينَ يُغْنِي عَنْ زَيْدٍ وَزَيْدٍ وَزَيْدٍ وَكَذَا التَّثْنِيَةُ أَصْلُهَا رَجُلٌ وَرَجُلٌ فَحَذَفُوا الْعَطْفَ وَالْمَعْطُوفَ وَأَقَامُوا حَرْفَ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ مَقَامَهُمَا اخْتِصَارًا وَصَحَّ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الذَّاتَيْنِ فِي التَّسْمِيَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الِاسْمَيْنِ رَجَعُوا إِلَى التَّكْرَارِ بِالْعَطْفِ نَحْوِ مررت بزيد وبكر. منه بَابُ الضَّمَائِرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَاعِدَةِ الضَّمِيرِ. وَمِنْهُ لَفْظُ "فَعَلَ" فَإِنَّهُ يَجِيءُ كَثِيرًا كِنَايَةً عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَالَ تَعَالَى: {لبئس ما كانوا يفعلون} {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} . {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 الْقَوْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. هُوَ أَحَدُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ دَلَالَةً عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَمَلَكَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ وَانْقِيَادِهِ لَهُمْ وَلَهُ فِي الْقُلُوبِ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ وَأَعْذَبُ مَذَاقٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدِّهِ مِنَ الْمَجَازِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ تَقْدِيمُ مَا رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ كَالْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُ مَا رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ كَالْفَاعِلِ نُقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ رُتْبَتِهِ وَحَقِّهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَجَازَ نَقْلُ مَا وُضِعَ لَهُ إِلَى مَا لَمْ يُوضَعْ. وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصُولٍ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: في أسباب التقديم والتأخير. الْأَوَّلُ: فِي أَسْبَابِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ:. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلَهُ التَّقْدِيمُ وَلَا مُقْتَضًى لِلْعُدُولِ عَنْهُ كَتَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْمُبْتَدَأِ عَلَى الْخَبَرِ وَصَاحِبِ الْحَالِ عَلَيْهَا نَحْوَ جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِبَيَانِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يكتم إيمانه} ، فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ قَوْلَهُ: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فَلَا يُفْهَمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الْأَسْبَابِ كَوْنَ التَّأْخِيرِ مَانِعًا مِثْلَ الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا} بتقديم الحال أعني {من قومه} على الوصف أعني {الذين كفروا} وَلَوْ تَأَخَّرَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا هَاهُنَا اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الدُّنُوِّ وَلَيْسَتِ اسْمًا وَالدُّنُوُّ يَتَعَدَّى بِـ"مِنْ" وَحِينَئِذٍ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَنَّهُمْ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا فَقَدَّمَ لِاشْتِمَالِ التَّأْخِيرِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِبَيَانِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَائِلِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَحِينَ أُمِنَ هَذَا الْإِخْلَالُ بِالتَّأْخِيرِ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إلا بشر مثلكم} بِتَأْخِيرِ الْمَجْرُورِ عَنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِالتَّنَاسُبِ فَيُقَدَّمَ لِمُشَاكَلَةِ الْكَلَامِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ كَقَوْلِهِ: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} ، بِتَقْدِيمِ "إِيَّاهُ" عَلَى "تَعْبُدُونَ" لِمُشَاكَلَةِ رُءُوسِ الْآيِ وكقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} فإنه لو أخر {في نفسه} عن {موسى} فَاتَ تَنَاسُبُ الْفَوَاصِلِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ من سحرهم أنها تسعى} وبعده،: {إنك أنت الأعلى} . وكقوله: {وتغشى وجوههم النار} فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْفَاعِلِ عَنِ الْمَفْعُولِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِمَا بعده. وكقوله: {إن الله سريع الحساب} ، وَهُوَ أَشْكَلُ بِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {مُقَرَّنِينَ في الأصفاد} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} بتقديم "هارون" مع أن "موسى" أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ. الرَّابِعُ: لِعِظَمِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ إِذَا أَخْبَرَتْ عَنْ مُخْبَرٍ مَا - وَأَنَاطَتْ بِهِ حُكْمًا - وَقَدْ يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ فِيمَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ وَقَدْ عَطَفَتْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ عَدَمَ التَّرْتِيبِ - فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَبْدَءُونَ بِالْأَهَمِّ وَالْأَوْلَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي شَأْنُهُ أَهَمُّ لَهُمْ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يُهِمَّانِهِمْ وَيَعْنِيَانِهِمْ. انْتَهَى. قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول} . وقال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} ، فَقَدَّمَ الْعِبَادَةَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا. وَمِنْهُ تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ فِي بِسْمِ اللَّهِ مُؤَخَّرًا. وَأَوْرَدُوا: {اقْرَأْ بِاسْمِ ربك} ، وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيمَ الْفِعْلِ هُنَاكَ أَهَمُّ لِأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ. وَالثَّانِي: أَنْ باسم ربك مُتَعَلِّقٌ بِ اقْرَأِ الثَّانِي وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ وَالْقَصْدُ التَّعْمِيمُ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْخَاطِرُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهِ وَالْهِمَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 {وجعلوا لله شركاء} ، بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْجَعْلِ لِلَّهِ لَا إِلَى مُطْلَقِ الْجَعْلِ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِإِرَادَةِ التَّبْكِيتِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمَذْكُورِ كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شركاء الجن} ، وَالْأَصْلُ" الْجِنَّ شُرَكَاءَ "، وَقُدِّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّوْبِيخُ وَتَقْدِيمُ الشُّرَكَاءِ أَبْلَغُ فِي حُصُولِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وَسَنَذْكُرُهُ. السَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَالْخَبَرِ والظرف والجار والمجرور ونحوها على الفعل كقوله تعالى: {إياك نعبد} ، أَيْ نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ فَلَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ. وَقَوْلِهِ: {إن كنتم إياه تعبدون} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ. وَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: {قال أراغب أنت عن آلهتي} ، وَقَوْلِهِ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الظَّرْفِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، وكذلك: {له الملك وله الحمد} ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِاللَّهِ تَعَالَى: وقوله: {لإلى الله تحشرون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 أي لا إلى غيره وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} أُخِّرَتْ صِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي الْأَوَّلِ وَقُدِّمَتْ فِي الثَّانِي لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ وَفِي اخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِ الرَّسُولِ شَهِيدًا عليهم. وقوله: {وأرسلناك للناس رسولا} أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْيِ فَإِنَّ تَقْدِيمَهُ يُفِيدُ تَفْضِيلَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هم عنها ينزفون} ، أَيْ لَيْسَ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ مَا فِي خَمْرَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْغَوْلِ وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ النَّفْيَ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا ريب فيه} فكذلك إذا قلنا لاعيب فِي الدَّارِ كَانَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعَيْبِ فِي الدَّارِ وَإِذَا قُلْنَا لَا فِي الدَّارِ عَيْبٌ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهَا بِعَدَمِ الْعَيْبِ. تَنْبِيهٌ:. مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ فَهِمَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ غَالِبٌ لَا لَازِمٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قبل} وقوله: {أفي الله شك} إِنْ جَعَلْنَا مَا بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً. وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ "الْفَلَكِ الدَّائِرِ" الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَخَالَفُوا الْبَيَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ وَأَنْتَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ قَيْدَ الْغَلَبَةِ سَهُلَ الْأَمْرُ. نَعَمْ لَهُ شَرْطَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا بِالْوَضْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَقْدِيمًا حَقِيقَةً كَاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ. وَالثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التركيب مثل: {وأما ثمود فهديناهم} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ في آية واحدة وهي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إياه تدعون فيكشف} ، التَّقْدِيمُ فِي الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ بِخِلَافِ الثَّانِي. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِهِ. وَهِيَ إِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَوْ يُقَدَّمَ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرٌ أَوْ بِالْعَكْسِ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا قُدِّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَمُقْتَضَيَاتُهُ كَثِيرَةٌ قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ مِنْهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَلِلَّهِ دَرُّ ابْنِ عَبْدُونٍ فِي قَوْلِهِ: سَقَاكَ الْحَيَا مِنْ معان سِفَاحِ فَكَمْ لِي بِهَا مِنْ مَعَانٍ فِصَاحِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 أَحَدُهَا: السَّبْقُ. وَهُوَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا السَّبْقُ بِالزَّمَانِ وَالْإِيجَادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذين اتبعوه وهذا النبي} قال ابن عطية: المراد بالذين اتَّبَعُوهُ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ. وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَصْطَفِي من الملائكة رسلا ومن الناس} فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَفْضِيلُ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا قدم الملك لسبقه في الوجود. وقوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك} فَإِنَّ الْأَزْوَاجَ أَسْبَقُ بِالزَّمَانِ لِأَنَّ الْبَنَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ بَضْعَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قرة أعين} . وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وآل عِمْرَانَ} . وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} . {صحف إبراهيم وموسى} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} فَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ مُوسَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِالتَّرْكِ وَكَانَتْ صُحُفُ مُوسَى مُنْتَشِرَةً أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ. وَثَانِيهِمَا: مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وَقَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ التَّحْقِيرُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، تَقَدَّمَ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْبَقَ مِنَ النَّصَارَى وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاوَرَةِ. وَقَدْ لَا يُلْحَظُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وقد تبين لكم من مساكنهم} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أبقى} . وَمِنَ التَّقْدِيمِ بِالْإِيجَادِ تَقْدِيمُ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ في قوله: {تأخذه سنة ولا نوم} لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَأْخُذَ الْعَبْدَ السِّنَةُ قَبْلَ النَّوْمِ فَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَلَى حَسَبِ هَذِهِ الْعَادَةِ. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَذَكَرَ مَعَهُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّمَدُّحِ والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدىء بِالْأَفْضَلِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحَالَتْ عَلَيْهِ السِّنَةُ فَأَحْرَى أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ النَّوْمُ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الظُّلْمَةِ عَلَى النُّورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنور} فَإِنَّ الظُّلُمَاتِ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ فِي الْإِحْسَاسِ وَكَذَلِكَ الظُّلْمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ الْمَعْنَوِيِّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ والأفئدة} فَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ ظُلْمَةٌ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى نُورِ الْإِدْرَاكَاتِ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} {بل مكر الليل والنهار} {حين تمسون وحين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 تصبحون} وَلِذَلِكَ اخْتَارَتِ الْعَرَبُ التَّارِيخَ بِاللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَتِ اللَّيَالِي مُؤَنَّثَةً وَالْأَيَّامُ مُذَكَّرَةً وَقَاعِدَتُهُمْ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ إِلَّا فِي التَّارِيخِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النهار} . قُلْتُ: اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السلام في قواعده بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَبْقِ اللَّيْلَةِ عَلَى الْيَوْمِ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: تُدْرِكُ الْقَمَرَ فِي سُلْطَانِهِ وَهُوَ اللَّيْلُ أَيْ لَا تَجِيءُ الشَّمْسُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وكل في فلك يسبحون} أي لا يأتي فِي بَعْضِ سُلْطَانِ الشَّمْسِ وَهُوَ النَّهَارُ وَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُقَابَلَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} مُشْكِلٌ عَلَى هَذَا لِأَنَّ الْإِيلَاجَ إِدْخَالُ الشَّيْءِ في وَهَذَا الْبَحْثُ يُنَافِيهِ. قُلْتُ: الْمَشْهُورُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يَزِيدُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِقْدَارًا مِنَ النَّهَارِ وَمِنَ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ مِقْدَارًا مِنَ اللَّيْلِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يُولِجُ بَعْضَ مِقْدَارِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَبَعْضَ مِقْدَارِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ وَعَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ يَجْعَلُ اللَّيْلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّهَارُ وَيَجْعَلُ النَّهَارَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّيْلُ وَالتَّقْدِيرُ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي مَكَانِ النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي مَكَانِ اللَّيْلِ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وجعل الظلمات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 والنور} أَيِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فلك يسبحون} . وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا أَعْنِي سَبْقَ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي أَوَّلِ تَارِيخِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ إِذْ كَانَا إِنَّمَا هُمَا أَسْمَاءٌ لِسَاعَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ قَطْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ "دَرَجَ الْفَلَكِ" وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا وَأَنَّهُ لَا شَمْسَ وَلَا قَمَرَ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ - صَرِيحٌ فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ: " وَخَلَقَ [اللَّهُ] النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ " قَالَ: وَيَعْنِي بِهِ الشَّمْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأَخُّرَ خَلْقِ الْأَيَّامِ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ لَازِمٌ. فَإِنْ قُلْتَ: الْحَدِيثُ كَالْمُصَرِّحِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ قَالَ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ حِينَ خَلَقَ الْبَرِّيَّةَ وَهِيَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَيَّامِ كُلِّهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: قَدْ نَبَّهَ الطَّبَرِيُّ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى أَسْمَاءَ الْأَيَّامِ قَبْلَ خَلْقِ التُّرْبَةِ وَخَلَقَ الْأَيَّامَ كُلَّهَا ثُمَّ قَدَّرَ كُلَّ يَوْمٍ مِقْدَارًا فَخَلَقَ التُّرْبَةَ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ السَّبْتِ قَبْلَ خَلْقِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَكَذَا الْبَاقِي. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَكِنْ أَوْجَبَهُ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تأخير الْأَيَّامِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْخَبَرَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّمَانَ قِسْمَانِ تَحْقِيقِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ التَّقْدِيرِيُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، {مشارق الأرض ومغاربها} ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اسْتَغْنَى عَنْ أَحَدِهِمَا ذَكَرَ الْمَشْرِقَ فقد فقال: {ورب المشارق} {إنا زينا السماء الدنيا} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقوله: {وأنه هو أمات وأحيا} {وكنتم أمواتا فأحياكم} . وَيُمْكِنُ فِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ:. مِنْهَا: أَنَّ فِيهِ قَهْرًا لِلْخَلْقِ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ حَيَاةَ الإنسان كلاحياة وَمَآلُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَوْتَ تَقَدَّمَ فِي الْوُجُودِ إِذِ الْإِنْسَانُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَانَ مَيِّتًا لِعَدَمِ الرُّوحِ. وَهَذَا إِنْ أُرِيدَ بِالْمَوْتِ عدم الوجود بدليل {وكنتم أمواتا فأحياكم} وإن أريد به بعد الوجود فالناس منتازعون فِي الْمَوْتِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَالْحَيَاةِ أولا؟. وَقِيلَ بِالْوَقْفِ، فَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ: الْمَوْتُ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُضَادُّ الْحَيَاةَ مُحْتَجِّينَ بقوله: {الذي خلق الموت والحياة} وَالْحَدِيثُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ وَذَبْحِهِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْخَلْقَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمُقَدَّرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لِبَيَانِ انْقِطَاعِ الْمَوْتِ وَثُبُوتِ الْخُلُودِ. فَإِنْ قُلْنَا: عَدَمِيٌّ، فَالتَّقَابُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَعَلَى الصَّحِيحِ تَقَابُلُ التَّضَادِّ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وُجُودِيٌّ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيمُ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 لِكَوْنِهِ سَابِقًا أَوْ مَعْدُومَ الْحَيَاةِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْبَدَنِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ الغاية التي يساق إليها فِي دَارِ الدُّنْيَا فَهِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ بِعَدَمِ تحقيقها لتحقق فَخَصَّ الْعِلَّةَ الْعَامَّةَ كَمَا وَقَعَ تَأْكِيدُهُ فِي قوله: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} أَوْ تَزْهِيدًا فِي الدَّارِ الْفَانِيَةِ وَتَرْغِيبًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ "الحياة" في قوله: {فيها تحيون وفيها تموتون} وقوله: {ومحياي ومماتي لله رب العالمين} ؟. قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فَلِأَنَّ حَيَاتَهُمَا فِي الدُّنْيَا سَبَقَتِ الْمَوْتَ وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْقِ بِالْخِطَابِ لِمَنْ هُوَ حَيٌّ يَعْقُبُهُ الْمَوْتُ فَمَا التَّقْدِيمُ بِالتَّرْتِيبِ وَكَذَا الْآيَةُ بَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ في الحكاية عن منكر البعث: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} ؟. قُلْتُ: لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ فِي قوله: {إني متوفيك ورافعك إلي} مَعَ أَنَّ الرَّفْعَ سَابِقٌ؟. قِيلَ: فِيهِ جَوَابَانِ:. أحدهما: المراد بالتوفي النوم، كقوله تعالى: {يتوفاكم بالليل} . وَثَانِيهِمَا: أَنَّ التَّاءَ فِي "مُتَوَفِّيكَ" زَائِدَةٌ أَيْ موفيك عملك. ومنها سبق إنزال، كقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وأنزل الفرقان} . وَقَوْلِهِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إليهم} فَإِنَّمَا قَدَّمَ الْقُرْآنَ مُنَبِّهًا لَهُ عَلَى فَضِيلَةِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ. وَمِنْهَا سَبْقُ وُجُوبٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اركعوا واسجدوا} وقوله: {تراهم ركعا سجدا} . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين} . قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمُ السُّجُودُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ رُكُوعُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِـ"ارْكَعِي" اشْكُرِي. وَقِيلَ: أَرَادَ بِـ"اسْجُدِي" صَلِّي وَحْدَكِ. وَبِـ"ارْكَعِي" صَلِّي فِي جَمَاعَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {مَعَ الراكعين} . وَمِنْهَا سَبْقُ تَنْزِيهٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه} فَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: {كُلٌّ آمن بالله وملائكته} فَبَدَأَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الشَّرْعِ ثُمَّ قَالَ:" وَمَلَائِكَتِهِ " مُرَاعَاةً لِإِيمَانِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَكِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْكِتَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ ثُمَّ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ. وَإِنَّمَا عَرَفَ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه فَتَرَتَّبَ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ وَالْإِعْجَازُ فَقَالَ: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وكتبه ورسله} لِأَنَّ الْمَلَكَ هُوَ النَّازِلُ بِالْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ أَقْدَمَ مِنَ الْمَلَكِ وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَلَكِ كَانَتْ قَبْلَ سَمَاعِهِ الْكِتَابَ وَأَمَّا إِيمَانُنَا نَحْنُ بِالْعَقْلِ آمَنَّا بالله أي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 بِوُجُودِهِ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم عرفنا اسمه وجوب النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَآمَنَّا بِالرَّسُولِ ثُمَّ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَبِالْمَلَكِ النَّازِلِ بِهِ فَلَوْ تَرَتَّبَ اللَّفْظُ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِنَا لَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْكِتَابِ وَلَكِنْ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ إِمَامُ الْمُؤْمِنِينَ. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي هَذَا التَّرْتِيبِ سِرٌّ لَطِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّورَ وَالْكَمَالَ وَالرَّحْمَةَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَسَائِطُ فِي ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُقَابِلُ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ أَصْلٍ وَثَانِيًا مِنْ وَسَائِطَ وَثَالِثًا مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَرَابِعًا مِنْ وُصُولِهَا إِلَى الْمُقَابِلِ لَهَا وَالْأَصْلُ الْمُقْتَضِي لِلْخَيْرَاتِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ اللَّهُ وَمِنْ أَعْظَمِ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ إِنْزَالُ كُتُبِهِ إِلَيْهِمْ وَالْمُوَصِّلُ لَهَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُقَابِلُ لَهَا الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ فَجَاءَ التَّرْتِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ. الثَّانِي: بِالذَّاتِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وثلاث ورباع} . وَنَحْوِهِ {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْدَادِ كُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا فَوْقَهَا بِالذَّاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم} فَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَثْنَى أَنَّ الْمَعْنَى حَثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَتَرْكِ الْهَوَى مُجْتَمِعِينَ مُتَسَاوِيِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ مُتَفَكِّرِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَهَمَّ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ فَبَدَأَ بِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 الثَّالِثُ: بِالْعِلَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ. كَتَقْدِيمِ "الْعَزِيزِ" عَلَى "الْحَكِيمِ" لِأَنَّهُ عَزَّ فَحَكَمَ وَتَقْدِيمِ "الْعَلِيمِ" عَلَى "الْحَكِيمِ" لأن الإتقان ناشىء عَنِ الْعِلْمِ وَكَذَا أَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَقْدِيمِ وَصْفِ الْعِلْمِ عَلَى الْحِكْمَةِ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنك أنت العليم الحكيم} . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُدِّمَ وَصْفُ الْعِلْمِ هُنَا لِيَتَّصِلَ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ {لَا عِلْمَ لَنَا} وَفِي غَيْرِهِ مِنْ نَظَائِرِهِ لِأَنَّهُ صِفَاتُ ذَاتٍ فَيَكُونُ مِنَ الْقِسْمِ قَبْلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين} قُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ حُصُولِ الْإِعَانَةِ. وَقَوْلُهُ: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} فَإِنَّ التَّوْبَةَ سَبَبُ الطَّهَارَةِ. وَكَذَا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أفاك أثيم} لِأَنَّ الْإِفْكَ سَبَبُ الْإِثْمِ. وَكَذَا: {وَمَا يُكَذِّبُ به إلا كل معتد أثيم} . وَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وأناسي كثيرا} قَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ سَبَبُ إِحْيَاءِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ وَقَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْيَا بِهِ النَّاسُ بِأَكْلِ لُحُومِهَا وَشُرْبِ أَلْبَانِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وَكَذَا كُلُّ عِلَّةٍ مَعَ مَعْلُولِهَا كَقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} ، قِيلَ: قُدِّمَ الْأَمْوَالُ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ النِّكَاحُ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مؤونته فَهُوَ سَبَبٌ وَالتَّزْوِيجُ سَبَبٌ لِلتَّنَاسُلِ وَلِأَنَّ الْمَالَ سَبَبٌ لِلتَّنْعِيمِ بِالْوَلَدِ وَفَقْدَهُ سَبَبٌ لِشَقَائِهِ. وَكَذَا تقديم البنات عَلَى الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ من الذهب والفضة} وَأَخَّرَ ذِكْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَنِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينِ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ مِنَ الْمَالِ فَإِنَّ الطَّبْعَ يَحُثُّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فَيَحْصُلُ النِّكَاحُ وَالنِّسَاءُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَوْلَادِ فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ وَالْبَنُونَ أَقْعَدُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّهَبُ أَقْعَدُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذْ هِيَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ النِّعَمِ فَلَمَّا صُدِّرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِ الْحُبِّ وَكَانَ الْمَحْبُوبُ مُخْتَلِفَ الْمَرَاتِبِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ فِي رُتْبَةِ الْمَحْبُوبَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إن شكرتم وآمنتم} قُدِّمَ الشُّكْرُ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَنْظُرُ "إِلَى" مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي خَلْقِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِلْمَنَافِعِ فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُبْهَمًا فَإِذَا انْتَهَى بِهِ النَّظَرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ آمَنَ بِهِ ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُتَّصِلًا فَكَانَ الشُّكْرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِيمَانِ وَكَأَنَّهُ أَصْلُ التَّكْلِيفِ وَمَدَارُهُ. انْتَهَى. وَجَعَلَهُ غَيْرُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ الشُّكْرِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لشرفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 الرَّابِعُ: بِالرُّتْبَةِ. كَتَقْدِيمِ "سَمِيعٍ" عَلَى "عَلِيمٍ" فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْوِيفَ وَالتَّهْدِيدَ فَبَدَأَ بِالسَّمِيعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَصْوَاتِ وَإِنَّ مَنْ سَمِعَ حِسَّكَ فَقَدْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْكَ فِي الْعَادَةِ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ علم الله تعلق بِمَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ. وَكَقَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ سَلَامَةٌ وَالرَّحْمَةَ غَنِيمَةٌ وَالسَّلَامَةُ مَطْلُوبَةٌ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ فِي آيَةِ سَبَأٍ في قوله: {الرحيم الغفور} لِأَنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِلْكِ تَعْدَادِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغفور} فَالرَّحْمَةُ شَمِلَتْهُمْ جَمِيعًا وَالْمَغْفِرَةُ تَخُصُّ بَعْضًا وَالْعُمُومُ قَبْلَ الْخُصُوصِ بِالرُّتْبَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم} فَإِنَّ الْهَمَّازَ هُوَ الْمُغْتَابُ وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلى شيء بخلاف النميمة. وقوله: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَالَّذِينَ يَأْتُونَ عَلَى الضَّامِرِ مِنَ الْبَعِيدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي الْمَشْيِ مُضَاعَفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} مَعَ أَنَّ الرَّاكِبَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاشِي فَجَبْرًا لَهُ فِي بَابِ الرُّخْصَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 ومنه قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} فَقَدَّمَ الطَّائِفِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَيْتِ ثُمَّ ثَنَّى بِالْقَائِمِينَ وَهُمُ الْعَاكِفُونَ لِأَنَّهُمْ يَخُصُّونَ مَوْضِعًا بِالْعُكُوفِ وَالطَّوَافُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَالْأَعَمُّ قَبْلَ الأخص ثُمَّ ثَلَّثَ بِالرُّكُوعِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ. ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ:. الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَمَعَ الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ جَمْعَ سَلَامَةٍ وَالرُّكَّعَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ أَقْرَبُ إِلَى لفظ الفعل فطائفون بِمَنْزِلَةِ يَطُوفُونَ فَفِي لَفْظِهِ إِشْعَارٌ بِصِلَةِ التَّطْهِيرِ وَهُوَ حُدُوثُ الطَّوَافِ وَتَجَدُّدُهُ وَلَوْ قَالَ: بِالطُّوَّافِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ يُخْفِي ذَلِكَ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقَائِمَيْنِ وَأَمَّا الرَّاكِعُونَ فَلِمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنَهُ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ فَلِهَذَا لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ سَلَامَةٍ إِذْ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْفِعْلِ الْبَاعِثِ عَلَى التَّطْهِيرِ كَمَا احْتِيجَ فِيمَا قَبْلَهُ. الثَّانِي: كَيْفَ وَصَفَ الرُّكَّعِ بِالسُّجُودِ وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ؟. وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الرُّكَّعَ هُمُ السُّجُودُ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ السُّجُودَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ فَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ إِرَادَةَ الْمَصْدَرِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الرَّاكِعَ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَيْسَ بِرَاكِعٍ شَرْعًا وَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ كَالَّذِي قَبْلَهُ. الثَّالِثُ: هَلَّا قِيلَ السُّجَّدُ كَمَا قِيلَ الرُّكَّعُ وَكَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّجُودَ يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ وَعَلَى الْخُشُوعِ فَلَوْ قال: المسجد لَمْ يَتَنَاوَلْ إِلَّا الْمَعْنَى الظَّاهِرَ وَمِنْهُ: {تَرَاهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 ركعا سجدا} وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَرُؤْيَةُ الْعَيْنِ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالظَّاهِرِ فَقُصِدَ بِذَلِكَ الرَّمْزُ إِلَى السُّجُودِ الْمَعْنَوِيِّ وَالصُّورِيِّ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَعْمَالِ الظَّاهِرِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْبَيْتُ كَمَا فِي الطَّوَافِ وَالْقِيَامِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَجُعِلَ السُّجُودُ وَصْفًا لِلرُّكُوعِ وَتَتْمِيمًا لَهُ لِأَنَّ الْخُشُوعَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَسِرُّهَا الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ. الْخَامِسُ: بِالدَّاعِيَةِ. كَتَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ عَلَى حِفْظِ الْفُرُوجِ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويحفظوا فروجهم} لِأَنَّ الْبَصَرَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ ". السَّادِسُ: التَّعْظِيمُ. كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يطع الله والرسول} . وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} . {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وأولو العلم} . {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 السَّابِعُ: الشَّرَفُ وَهُوَ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا: شَرَفُ الرِّسَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نبي} فَإِنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمي} {وكان رسولا نبيا} . وَمِنْهَا: شَرَفُ الذُّكُورَةِ:. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات} . وقوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} . وقوله: {رجالا كثيرا ونساء} . وأما تقديم الإناث في قول تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا} فَلِجَبْرِهِنَّ إِذْ هُنَّ مَوْضِعُ الِانْكِسَارِ وَلِهَذَا جَبَرَ الذُّكُورَ بِالتَّعْرِيفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ التَّقْدِيمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَقْدِيمَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الْعِبَادِ. وَمِنْهَا: شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بالعبد} وَمِنَ الْغَرِيبِ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْحُرَّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَبْدِ أَمْ لَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعَقْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ من في السماوات والأرض والطير صافات} . وقوله: {متاعا لكم ولأنعامكم} . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَنْعَامِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {تَأْكُلُ منه أنعامهم وأنفسهم} فَمِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ وَقَدْ سَبَقَ. وَمِنْهَا: شَرَفُ الْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يؤمنوا} وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي كُلِّ موضع والطائع على العاصي وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال. وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} . وَمِنْهَا: شَرَفُ الْحَيَاةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ من الميت ويخرج الميت من الحي} . وقوله: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خلق الموت والحياة} فَمِنْ تَقَدُّمِ السَّبْقِ بِالْوُجُودِ وَقَدْ سَبَقَ. وَمِنْهَا: شرف المعلوم، نحو: {عالم الغيب والشهادة} فَإِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِيَّاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ. وَمِنْهُ: {يعلم سركم وجهركم} . {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وأما قوله: {فإنه يعلم السر وأخفى} ، أَيْ مِنَ السِّرِّ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: " السِّرُّ: مَا أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ وَأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ مِمَّا يَكُونُ في عد عِلْمُ اللَّهِ فِيهِمَا سَوَاءٌ " وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآتِيَ أَبَلَغُ وَفِيهِ وَجْهَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَسْتَدْعِي مُفَضَّلًا عَلَيْهِ عُلِمَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ السِّرِّ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَثَانِيهِمَا: مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ. وَمِنْهَا شَرَفُ الْإِدْرَاكِ، كَتَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ وَالسَّمِيعِ عَلَى الْبَصِيرِ لِأَنَّ السَّمْعَ أَشْرَفُ عَلَى أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَقُدِّمَ الْقَلْبُ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم غشاوة} لِأَنَّ الْحَوَاسَّ خَدَمَةُ الْقَلْبِ وَمُوَصِّلَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فَأُخِّرَ الْقَلْبُ فِيهَا لِأَنَّ الْعِنَايَةَ هُنَاكَ بِذَمِّ الْمُتَصَامِّينَ عَنِ السَّمَاعِ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ فِي آذَانِهِمْ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا وَلِهَذَا صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها} . وَمِنْهَا: شَرَفُ الْمُجَازَاةِ، كَقَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة} . وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْعَامَّ أَشْرَفُ مِنَ الْخَاصِّ كَتَقْدِيمِ الْعَفُوِّ عَلَى الْغَفُورِ أَيْ عَفُوٌّ عَمَّا لَمْ يُؤَاخِذْنَا بِهِ مِمَّا نَسْتَحِقُّهُ بِذُنُوبِنَا غَفُورٌ لِمَا وَاخَذَنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا قَبِلْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَتَقَدَّمَ الْعَفُوُّ عَلَى الْغَفُورِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَأُخِّرَتِ الْمَغْفِرَةُ لِأَنَّهَا أَخَصُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وَمِنْهَا: شَرَفُ الْإِبَاحَةِ لِلْإِذْنِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حلال وهذا حرام} ، وإنما تقديم الْحَرَامُ فِي قَوْلِهِ: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} فَلِلزِّيَادَةِ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِأَجْلِ السِّيَاقِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طيبا} . ثم {إنما حرم عليكم الميتة} . وَمِنْهَا: الشَّرَفُ بِالْفَضِيلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصالحين} وقوله: {ومنك ومن نوح} وَقَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الْآيَةِ. وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون} وقوله: {رب موسى وهارون} فِي الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ فَإِنَّ مُوسَى اسْتَأْثَرَ بِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى لَهُ بِتَكْلِيمِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَ هَارُونَ وَمُوسَى فِي سُورَةِ طه بِتَقْدِيمِ هَارُونَ قُلْنَا لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ وَمِنْهُ تَقْدِيمُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال} لِأَنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَمِيكَائِيلَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 صَاحِبُ الْأَرْزَاقِ وَالْخَيْرَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمُهَاجِرِينَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} . وقوله: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْهِجْرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ" وَبِالْآيَةِ احْتَجَّ الصِّدِّيقُ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ وَتَعْيِينِ الْإِمَامَةِ فِيهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما} فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ السَّلَامِ وَقَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قُدِّمَ الْقَرِيبُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} . وَتَقْدِيمُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، فِي نَحْوِ: {جَنَّتَانِ عن يمين وشمال} {عن اليمين وعن الشمال} . وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم} . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَوَجْهُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْجِهَادَ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ إِنْفَاقِ الأمولا فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّبْقِ بِالسَّبَبِيَّةِ. وَمِنْهُ: {مُحَلِّقِينَ رؤوسكم ومقصرين} فَإِنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 ومنه تقديم السموات عَلَى الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بالحق} وهو كثير وكذلك كثير ما يقع السموات بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَالْأَرْضُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا مُفْرَدَةً. وأما تأخيرها عنها في قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ في الأرض ولا في السماء} فَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إذ تفيضون فيه} وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَعَمَلُهُمْ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سَبَأٍ فَإِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِيَاقِ عِلْمِ الْغَيْبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض ولا في السماء} . وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بيمينه} فَلِأَنَّ الْآيَةَ فِي سِيَاقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنَّمَا هو لأهل الأرض. وكذا قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} . وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جان} وَقَوْلِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ والجن على الله كذبا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وَقَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الجان من مارج من نار} . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْجِنِّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {يا معشر الجن والإنس} فَلِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ فِي الْخَلْقِ فَيَكُونُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ - أَعْنِي التَّقْدِيمَ بِالزَّمَانِ - وَلِهَذَا لَمَّا أَخَّرَ في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر الْإِنْسَانِ ثُمَّ قَالَ: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْثِلَةِ السَّالِفَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَعْجَبِ لِأَنَّ خَلْقَهَا أَغْرَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على أربع} . أَوْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى أَجْسَامًا وَأَعْظَمُ أَقْدَامًا وَلِهَذَا قدموا في: {يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقطار السماوات والأرض} وَفِي: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ والطير} . وَمِنْهُ تَقْدِيمُ السُّجَّدِ عَلَى الرَّاكِعِينَ فِي قَوْلِهِ: {واسجدي واركعي مع الراكعين} وَسَبَقَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْبِغَالِ عَلَى الْحَمِيرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} . وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ فِي قَوْلِهِ: {والذين يكنزون الذهب والفضة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 فإن قلت: فهل يجوز أَنْ يَكُونَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ؟. قلت: هيهات الذهب أيضا مؤنت وَلِهَذَا يُصَغَّرُ عَلَى ذُهَيْبَةٍ كَـ"قَدَمٍ". وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الصُّوفِ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وأشعارها} وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى اخْتِيَارِ لُبْسِ الصُّوفِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَابِسِ وَأَنَّهُ شعار الملائكة في قوله: {مسومين} قيل: سيماهم يؤمئذ الصُّوفُ. وَعَنْ عَلِيٍّ: الصُّوفُ الْأَبْيَضُ رَوَاهُ أَبُو نعيم في مَدْحِ الصُّوفِ وَقَالَ: إِنَّهُ شِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابن مسعود: " كانت الأنبياء قَبْلَكُمْ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ " وَفِي الصَّحِيحِ فِي مُوسَى عليه السلام: " عليه عباءة ". منه تَقْدِيمُ الشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {والشمس والقمر} وقوله: {وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نورا} ، وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، قَالَ الشَّاعِرُ: يَا مُفْرَدًا بِالْحُسْنِ وَالشَّكْلِ مَنْ دَلَّ عَيْنَيْكَ عَلَى قَتْلِي الْبَدْرُ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى نُورُهُ وَالشَّمْسُ مِنْ نُورِكَ تَسْتَمْلِي وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مُنَاسَبَةَ رُءُوسِ الْآيِ أَوْ أَنَّ انتفاع أهل السموات بِهِ أَكْثَرُ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يُقَالُ إِنَّ القمر وجهه يضيء لأهل الشمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وَظَهْرُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِنَّ} لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ نُورِهِ يُضِيءُ إِلَى أَهْلِ السماء. الثامن: الغلبة والكثرة. كقوله تعالى: {منهم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بإذن الله} قَدَّمَ الظَّالِمَ لِكَثْرَتِهِ ثُمَّ الْمُقْتَصِدَ ثُمَّ السَّابِقَ. وقوله: {فمنهم شقي وسعيد} {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخرة} . {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين} . وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} يعني بدليل قوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وَحَدِيثِ بَعْثِ النَّارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ كفروا فأعذبهم عذابا شديدا} قُدِّمَ ذِكْرُ الْعَذَابِ لِكَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ الذين كفروا بعيسى وراموا قتله. وَجُعِلَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ والسارقة} لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِي الذُّكُورِ أَكْثَرُ. وَقَدَّمَ فِي الزنى المرأة في قوله: {الزانية والزاني} لأن الزنى فِيهِنَّ أَكْثَرُ وَأَمَّا قَوْلُهُ:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سِيقَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا لِعُقُوبَتِهِمَا عَلَى مَا جَنَيَا وَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمَادَّةُ الَّتِي نشأت منها الخيانة لأنها لو لم تطمع الرجل [ولم تومض له] وَتُمَكِّنْهُ لَمْ يَطْمَعْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ فَلَمَّا كَانَتْ أَصْلًا وَأَوَّلًا فِي ذَلِكَ بَدَأَ بِذِكْرِهَا وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكَاحِ وَالرَّجُلُ أَصْلٌ [فِيهِ] لأنه هو الراغب والخاطب يَبْدَأُ الطَّلَبُ. وَمِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويحفظوا فروجهم} ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّمَ غَضَّ الْبَصَرِ لِأَنَّ النَّظَرَ يريد الزنى وَرَائِدُ الْفُجُورِ وَالْبَلْوَى بِهِ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ وَلَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ، حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ وَلِهَذَا وَرَدَ: " إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي ". وَأَمَّا تَقْدِيمُ التَّعْذِيبِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ فللسياق. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لكم} قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ: إِنَّمَا قُدِّمَ الْأَزْوَاجُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ أَنَّ فِيهِمْ أَعْدَاءً وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي الْأَزْوَاجِ أَقْعَدُ مِنْهُ فِي الْأَوْلَادِ فَكَانَ أَقْعَدَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَقُدِّمَ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وأولادكم فتنة} لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تَكَادُ تُفَارِقُهَا الْفِتْنَةُ: {إِنَّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} {مرنا مترفيها ففسقوا فيها} ، وَلَيْسَتِ الْأَوْلَادُ فِي اسْتِلْزَامِ الْفِتْنَةِ مِثْلَهَا وَكَانَ تقدمها أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 التَّاسِعُ: سَبْقُ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ. وَهُوَ دَلَالَةُ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تريحون وحين تسرحون} لَمَّا كَانَ إِسْرَاحُهَا وَهِيَ خِمَاصٌ وَإِرَاحَتُهَا وَهِيَ بِطَانٌ قَدَّمَ الْإِرَاحَةَ لِأَنَّ الْجَمَالَ بِهَا حِينَئِذٍ أفخر. وقوله: {وجعلناها وابنها آية للعالمين} لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ: {والتي أحصنت فرجها} وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِابْنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَإِنَّهُ قَدَّمَ الْحُكْمَ مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِهِ لِلْحُكْمِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السِّيَاقُ فِي الْحُكْمِ قَدَّمَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} ، ويحتمل أن الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْحِكْمَةَ وَبِهَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتيناه حكما وعلما} وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْحَكِيمِ عَلَى الْعَلِيمِ فِي سُورَةِ الانعامفلأنه مَقَامُ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَأَمَّا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ فَقَدَّمَ الْعَلِيمَ عَلَى الْحَكِيمِ لِقَوْلِهِ فِي آخرها: {وعلمتني من تأويل الأحاديث} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَحْوِ عَلَى الْإِثْبَاتِ فِي قَوْلِهِ: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} فإن قبله: {لكل أجل كتاب} وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَحْوُ أَقَلُّ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا سِيَّمَا على قراءة تشديد يُثَبِّتُ فَإِنَّهَا نَاصَّةٌ عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ لَا الِاسْتِئْنَافُ. وَقَوْلُهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ويحق الحق بكلماته} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قبلك وجعلنا لهم أزواجا} ، قَدَّمَ "رُسُلًا" هُنَا عَلَى "مِنْ قَبْلِكَ" وَفِي غَيْرِ هَذِهِ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي الرُّسُلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قَدَّمَ الْقَبْضَ لِأَنَّ قَبْلَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كثيرة وَكَانَ هَذَا بَسْطًا فَلَا يُنَاسِبُ تِلَاوَةَ الْبَسْطِ فَقَدَّمَ الْقَبْضَ لِهَذَا وَلِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْهُ سَبَبُهُ خَوْفُ الْقِلَّةِ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَا يُنْجِيهِ فَإِنَّ الْقَبْضَ مُقَدَّرٌ وَلَا بد. العاشر: مراعاة اشتقاق اللفظ. كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} . {علمت نفس ما قدمت وأخرت} . {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يوم معلوم} . {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} . {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعة ولا يستقدمون} فَقُدِّمَ نَفْيُ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ وإنما ذكر التقدم مع عدم إمكان التقدم نَفْيًا لِأَطْرَافِ الْكَلَامِ كُلِّهِ. وَكَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ هُوَ يبدئ ويعيد} . وقوله: {كما بدأكم تعودون} . {لله الأمر من قبل ومن بعد} . {له الحمد في الأولى والآخرة} . وقوله: {هو الأول والآخر} . {في الدنيا والآخرة} . فَإِنْ قُلْتَ قَدْ جَاءَ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخرة والأولى} . {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} . قُلْتُ: لِمُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 ومثله: {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين} وَلِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ فَقُدِّمُوا. الْحَادِيَ عَشَرَ: لِلْحَثِّ عَلَيْهِ خِيفَةً مِنَ التَّهَاوُنِ بِهِ. كَتَقْدِيمِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بعد وصية يوصي بها أو دين} فَإِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ سَابِقٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ لَكِنْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ بِتَأْخِيرِهَا بِخِلَافِ الدين. ونظيره: {يهب لمن يشاء إناثا} قدم الإناث حثا على الإحسان إليهم. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي [النَّتَائِجِ] : إِنَّمَا قُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَجْهَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بخلاف الدين الذي تعوذ الرسل منه فبدىء بِهَا لِلْفَضْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ وَالدَّيْنَ لِغَيْرِهِ وَنَفْسُكَ قَبْلَ نَفْسِ غَيْرِكَ تَقُولُ هَذَا لِي وَهَذَا لِغَيْرِي وَلَا تَقُولُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ هَذَا لِغَيْرِي وَهَذَا لِي. الثَّانِيَ عَشَرَ: لِتَحَقُّقِ مَا بَعْدَهُ وَاسْتِغْنَائِهِ هُوَ عَنْهُ فِي تَصَوُّرِهِ. كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وعمل صالحا} . وقوله: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا} . الثَّالِثَ عَشَرَ: الِاهْتِمَامُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ. كَقَوْلِهِ: {فَحَيُّوا بأحسن منها أو ردوها} . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَهُ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْهُ ". وَقَوْلِهِ: {ولذي القربى واليتامى والمساكين} لِفَضْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ. وَكَقَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَ مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} . وقوله: {ودية مسلمة إلى أهله} فَقَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الدِّيَةِ وَعَكَسَ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ حَيْثُ قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وتحرير رقبة مؤمنة} . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي [الْحَاوِي] : وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَافِرَ يَرَى تَقْدِيمَ نَفْسِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: " إِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهُمَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لِئَلَّا يُلْحَقَ بِهِمَا مَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي دار الحرب في قوله: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة} فَضَمَّ إِلَيْهِ الدِّيَةَ إِلْحَاقًا بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ "، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 وَقَالَ الْفَقِيهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الرِّفْعَةِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يُهْدِرُ الدِّمَاءَ وَهُوَ مَوْجُودٌ كَانَ الْغَايَةَ بِبَذْلِ الدَّمِ عِنْدَ الْعِصْمَةِ لِأَجْلِ الْمِيثَاقِ أَتَمَّ لِأَنَّهُ يُغْمِضُ حكمته فَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الدِّيَةُ فِيهِ وَأُخِّرَتِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ حُكْمَهَا قَدْ سَبَقَ. وَلَمَّا كَانَتْ عِصْمَةُ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةً وَقِيَاسُ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ لَا إِثْمَ فِيهِ خُصُوصًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنِ الْخَطَأِ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِذِكْرِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ أَتَمَّ لِأَنَّهَا الَّتِي تُغْمِضُ فَقُدِّمَتْ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} قِيلَ: لِمَاذَا بَدَأَ بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ الْمَشْرِقِ وَكَانَ مَسْكَنُ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ؟ قِيلَ: لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ إِمَّا لِتَمَرُّدِ أَهْلِهِ وَكَثْرَةِ طُغْيَانِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْنَا عِلْمُهُ. وَمِنْ هَذَا أَنَّ تأخر المقصود بالمدح والذم أولىمن تَقَدُّمِهِ كَقَوْلِهِ نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَهُمْ فِي هَذَا بِذِكْرِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَهَمُّ. فَأَمَّا تَقْدِيمُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إنه أواب} فَإِنَّ الْمَمْدُوحَ هُنَا بِـ"نِعْمَ الْعَبْدُ" هُوَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَكَذَلِكَ أَيُّوبُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ فِي الْآيَتَيْنِ ضَمِيرُ سُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَتَقْدِيرُهُ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ إِنَّهُ أَوَّابٌ. الرَّابِعَ عَشَرَ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ لَا مُقَيَّدٌ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لله شركاء الجن} ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ "اللَّهَ" فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ"جَعَلَ" وَ"شُرَكَاءَ" مَفْعُولٌ أَوَّلُ وَيَكُونُ "الْجِنَّ" فِي كَلَامٍ ثَانٍ مُقَدَّرٍ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ جَعَلُوا شُرَكَاءَ؟ قِيلَ: الْجِنُّ وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْإِنْكَارِ عَلَى جَعْلِهِمْ "لِلَّهِ شُرَكَاءَ" عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَدْخُلُ مُشْرِكَةُ غَيْرِ الْجِنِّ وَلَوْ أَخَّرَ فَقِيلَ: وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كان الجن مفعولا أولا وشركاء ثَانِيًا فَتَكُونُ الشَّرِكَةُ مُقَيِّدَةً غَيْرَ مُطْلَقَةٍ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى الْجِنِّ فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ تَوَجَّهَ لِجَعْلِ الْمُشَارَكَةِ لِلْجِنِّ خَاصَّةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ سَبَقَتْ. الْخَامِسَ عَشَرَ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مُرَتَّبٌ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} قَدَّمَ الْجِبَاهَ ثُمَّ الْجُنُوبَ لِأَنَّ مَانِعَ الصَّدَقَةِ فِي الدُّنْيَا كَانَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ أَوَّلًا عَنِ السائل ثم ينوه بِجَانِبِهِ ثُمَّ يَتَوَلَّى بِظَهْرِهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: التَّنَقُّلُ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ: إِمَّا مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ، كقوله: {يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فراشا والسماء بناء} قَدَّمَ ذِكْرَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ وَقَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا في السماء} ، لقصد الترقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العرش العظيم} . وَإِمَّا بِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْجَاثِيَةِ: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وما يبث من دابة} . وَإِمَّا مِنَ الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إلا هو} . وَقَوْلِهِ: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ} . وإما من الأدنى كقوله: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة} . وَقَوْلِهِ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة} . وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} . فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا اكْتَفَى بِنَفْيِ الْأَدْنَى لِيُعْلَمَ مِنْهُ نَفْيُ الْأَعْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؟ قُلْتُ: جَوَابُهُ مِمَّا سَبَقَ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالزَّمَانِ. وَكَقَوْلِهِ: {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} الْآيَةَ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ المسيح أن يكون عبدا لله} فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ سِيَاقَهَا يَقْتَضِي التَّرَقِّيَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَسْتَنْكِفُ فُلَانٌ عَنْ خِدْمَتِكَ وَلَا مَنْ دُونَهُ بَلْ وَلَا مَنْ فَوْقَهُ. وَجَوَابُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ الْوَلَدِيَّةَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَوَارِقِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 وَالْمُعْجِزَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وغيره ولكونه خلق من غير تراب وَالتَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا وَغَالِبِ هَذِهِ الْأُمُورِ هِيَ لِلْمَلَائِكَةِ أَتَمُّ وَهُمْ فِيهَا أَقْوَى فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ أَوْجَبَتْ عِبَادَتَهُ فَهُوَ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بَلْ وَلَا مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلتَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فِي الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ الشَّرَفُ الْمُطْلَقُ وَالْفَضِيلَةُ على المسيح. السابع عشر: الترقي. كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يبطشون بها} الْآيَةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَدَأَ مِنْهَا بِالْأَدْنَى لِغَرَضِ الترقي لأن منفعة الرَّابِعِ أَهَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّالِثِ فَهُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَمَنْفَعَةَ الثَّالِثِ أَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّانِي وَمَنْفَعَةَ الثَّانِي أَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ. وَقَدْ قُرِنَ السَّمْعُ بِالْعَقْلِ وَلَمْ يُقْرَنْ بِهِ الْبَصَرُ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} وَمَا قُرِنَ بِالْأَشْرَفِ كَانَ أَشْرَفَ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبْعِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ:. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ الْوَصْفُ الْأَعْلَى ثُمَّ مَا دُونَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَضْعَفِهَا لِأَنَّهُ إِذَا بدأ بسلب الوصف الأعلى ثم بسلب مادونه كَانَ ذَلِكَ أَبْلِغَ فِي الذَّمِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَلْبِ الْأَعْلَى سَلْبُ مَا دُونَهُ كَمَا تَقُولُ لَيْسَ زَيْدٌ بِسُلْطَانٍ وَلَا وَزِيرٍ وَلَا أَمِيرٍ وَلَا وَالٍ وَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ. قُلْتُ: مَا ذَكَرْتَهُ طَرِيقٌ حَسَنَةٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَعْبُدُهَا الْكُفَّارُ أَمْثَالُ الْكُفَّارِ فِي أَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مَرْبُوبَةٌ ثُمَّ حَطَّهَا عَنْ دَرَجَةِ الْمِثْلِيَّةِ بِنَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلْكُفَّارِ عَنْهَا. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الذَّوَاتِ الْمُتَنَائِيَةِ إِنَّمَا تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهَا إِذْ هِيَ أَسْبَابٌ فِي ثُبُوتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهَا وَتَقْوَى الْمُمَاثَلَةُ بِقُوَّةِ أَسْبَابِهَا وَتَضْعُفُ بِضَعْفِهَا فَإِذَا سُلِبَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِإِحْدَى الذَّاتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى انْتَفَى وَجْهٌ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إِذَا سُلِبَ وَصْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ انْتَفَى وَجْهٌ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَسْلُبُ أَسْبَابَ الْمُمَاثَلَةِ أَقْوَاهَا فَأَقْوَاهَا حَتَّى تَنْتَفِيَ الْمُمَاثَلَةُ كُلُّهَا بِهَذَا التَّدْرِيجِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَلْطَفُ مِنْ سَلْبِ أَسْبَابِ الْمُمَاثَلَةِ أَقْوَاهَا ثُمَّ أَضْعَفِهَا فَأَضْعَفِهَا. الثَّامِنَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ الْإِفْرَادِ. فَإِنَّ الْمُفْرَدَ سَابِقٌ عَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَالُ والبنون} ، وقوله: {من مال وبنين} وَلِهَذَا لَمَّا عُبِّرَ عَنِ الْمَالِ بِالْجَمْعِ أُخِّرَ عَنِ الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذهب والفضة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه} وقوله: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} . التَّاسِعَ عَشَرَ: التَّحْذِيرُ مِنْهُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مشركة} ، قَرَنَ الزِّنَى بِالشِّرْكِ وَقَدَّمَهُ. وَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} قَدَّمَهُنَّ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ بِهِنَّ أَعْظَمُ مِنَ الْمِحْنَةِ بِالْأَوْلَادِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي [فِي النَّاسِ] فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ". وَمِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ بدأ بذكر النساء في الدنيا وختم [الْحَرْثِ] وَهُمَا طَرَفَانِ مُتَشَابِهَانِ وَفِيهِمَا الشَّهْوَةُ وَالْمَعَاشُ الدُّنْيَوِيُّ وَلَمَّا ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ أَخَّرَ ذِكْرَ الْأَزْوَاجِ كَمَا يَجِبُ فِي التَّرْتِيبِ الْأُخْرَوِيِّ وَخَتَمَ بِالرِّضْوَانِ. وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَجَبِ إِذَا حَضَرَ لَهُ الذِّهْنُ وَفَرَغَ لَهُ الْفَهْمُ!. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ نَفْيِ الولد على نفي الوالد في قوله: {لم يلد ولم يولد} فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي الْأَوَّلِ مُنَازَعَةُ الْكَفَرَةِ وَتَقَوُّلُهُمُ اقْتَضَتِ الرُّتْبَةُ بِالطَّبْعِ تَقْدِيمَهُ فِي الذِّكْرِ اعْتِنَاءً بِهِ قَبْلَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْوَالِدِ الَّذِي لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ. الْعِشْرُونَ: التَّخْوِيفُ مِنْهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وَنَظَائِرِهِ السَّابِقَةِ فِي الثَّامِنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير} . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّمَ الْجِبَالَ عَلَى الطَّيْرِ لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا لَهُ وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ. قَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: وَلَيْسَ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بناطق مَا يُرَادُ بِهِ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ. الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ: كَوْنُهُ أَدَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أربع} . وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: قَصْدُ التَّرْتِيبِ. كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَسْحِ بَيْنَ الْغَسْلَيْنِ وَقَطْعَ النَّظَرِ عَنِ النَّظِيرِ مَعَ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي لِسَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ التَّرْتِيبِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وَكَذَلِكَ الْبَدَاءَةُ فِي الصَّفَا بِالسَّعْيِ وَمِثْلُهُ الْكَفَّارَةُ الْمُرَتَّبَةُ فِي الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ. وَهُنَا قَاعِدَةٌ ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا وَهِيَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُرَتَّبَةَ بَدَأَ اللَّهُ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ وَالْمُخَيَّرَةَ بَدَأَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلِهَذَا حَمَلُوا آيَةَ الْمُحَارَبَةِ فِي قَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} ، الْآيَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا التَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ خِلَافًا لِمَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَهَا عَلَى التَّخْيِيرِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِفَّةُ اللَّفْظِ. كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: رَبِيعَةُ وَمُضَرُ مَعَ أَنَّ مُضَرَ أَشْرَفُ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مُضَرَ لَتَوَالَى حَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ وَذَلِكَ يَثْقُلُ فَإِذَا قَدَّمُوا رَبِيعَةَ وَوَقَفُوا عَلَى مُضَرَ بِسُكُونِ الرَّاءِ نَقُصَ الثِّقَلُ لِقِلَّةِ الْحَرَكَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ. وَقَدْ يَكُونُ تَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ مِنْ ذَلِكَ فَالْإِنْسُ أَخَفُّ لِمَكَانِ النُّونِ وَالسِّينِ الْمَهْمُوسَةِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: رِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ. كتأخير الغفور في قوله: {عفو غفور} وقوله: {وكان رسولا نبيا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وَإِنْ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ تَأْخِيرَ مَا هُوَ الْأَبْلَغُ فَإِنَّهُ يُقَالُ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ وَسَبَقَ لَهُ نَظَائِرُ. وَكَقَوْلِهِ: {خُذُوهُ فغلوه ثم الجحيم صلوه} ، وَلَوْ قَالَ: صَلُّوهُ الْجَحِيمَ لَأَفَادَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ يَفُوتُ الْجَمْعُ. وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ الِاخْتِصَاصُ. وَقَوْلِهِ: {إِنْ كنتم إياه تعبدون} فَقَدَّمَ [إِيَّاهُ] عَلَى [تَعْبُدُونَ] لِمُشَاكَلَةِ رُءُوسِ الْآيِ. تَنْبِيهٌ:. قَدْ يَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ سَبَبَانِ فَأَكْثَرُ لِلتَّقْدِيمِ فَإِمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ إِعَادَةُ الْكُلِّ أَوْ يُرَجَّحَ بَعْضُهَا لِكَوْنِهِ أَهَمَّ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى أَهَمَّ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْأَسْبَابُ رُوعِيَ أَقْوَاهَا فَإِنْ تَسَاوَتْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ فِي تَقْدِيمِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا قُدِّمَ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. فَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْرَابُ كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَخْشَى الله من عباده العلماء} ، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} ، {وإذ ابتلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 إبراهيم ربه} . وَنَحْوِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَصْرِ. كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ. كَقَوْلِهِ: {قل أفغير الله تأمروني} {قل الله أعبد} . وَكَتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ: {وَظَنُّوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} وَلَوْ قَالَ:" وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ " لَمَا أَشْعَرَ بِزِيَادَةِ وُثُوقِهِمْ بِمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ. وَكَذَا: {أَرَاغِبٌ أنت عن آلهتي} وَلَوْ قَالَ:" أَأَنْتَ رَاغِبٌ عَنْهَا "؟ مَا أَفَادَتْ زِيَادَةَ الْإِنْكَارِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَكَذَلِكَ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَلَمْ يَقُلْ: فَإِذَا أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَاخِصَةٌ وَكَانَ يُسْتَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ لِأَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالشُّخُوصِ. وَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نفسا فادارأتم فيها} ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا أَوَّلُ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فِي التِّلَاوَةِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَاتِلِ قَبْلَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَإِنَّمَا أُخِّرَ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {إِنَّ الله يأمركم} الْآيَةَ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تُذْبَحُ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَاتِلٍ خَفِيَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِلْمُ هَذَا فِي نُفُوسِهِمْ أُتْبِعَ بقوله: {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لَا أَنَّهُ عَرَّفَهُمُ الِاخْتِلَافَ فِي الْقَاتِلِ بَعْدَ أَنْ دَلَّهُمْ عَلَى ذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي يُرَادُ به التقدم،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 وَتَأْوِيلُهُ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فَسَأَلْتُمْ مُوسَى فَقَالَ لَكُمْ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تذبحوا بقرة} . وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَفِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيرَادَهَا إِنَّمَا كَانَ يَتَأَتَّى عَلَى الْوَجْهِ الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ لِمَعْنًى حَسَنٍ لَطِيفٍ اسْتَخْرَجَهُ وَأَبْدَاهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هواه} وَأَصْلُ الْكَلَامِ هَوَاهُ إِلَهَهُ كَمَا تَقُولُ اتَّخَذَ الصَّنَمَ مَعْبُودًا لَكِنْ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِلْعِنَايَةِ كَمَا تَقُولُ عَلِمْتُ مُنْطَلِقًا زَيْدًا لِفَضْلِ عِنَايَتِكَ بِانْطِلَاقِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الْآيَةَ، أَيْ أَنْزَلَهُ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَالَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ. وَرَدَّهُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْ له عوجا قيما} مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَامِلٌ فِي ذَاتِهِ وَأَنَّ " قَيِّمًا " مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِغَيْرِهِ وَكَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ سَابِقٌ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ " قَيِّمًا " أَنَّهُ قَائِمٌ بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ. قَالَ: فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَهَذَا فَهْمٌ عَجِيبٌ مِنَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا يَقُولُ بِأَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ كَوْنِهِ قَيِّمًا فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ اللَّفْظِ لِأَجْلِ الْإِعْرَابِ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ ثَابِتًا قَبْلَ الْآخَرِ وَيُذْكَرُ بَعْدَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَفْسِيرِ الْقَيِّمِ بِالْمُسْتَقِيمِ فَأَمَّا إِذَا فُسِّرَ بِالْقِيَامِ عَلَى غَيْرِهِ فلا نسلم أن القائل يقول بالتقديم والتأخير. وهاهنا أمران أمران:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَظْهَرَ جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَعْنِي قوله: {ولم يجعل له عوجا قيما} مِنْ جُمْلَةِ صِلَةِ "الَّذِي" وَتَمَامِهَا وَعَلَى هَذَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْحَالِ وَعَامِلِهَا وَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَهَا النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْكِتَابَ وَالْعَامِلُ فِيهَا " أَنْزَلَ ". قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: [قَيِّمًا] فَيَجُوزُ فِي نَصْبِهِ وُجُوهٌ:. أَحَدُهَا:- وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ - أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ [الْكِتَابَ] وَالْعَامِلُ فِيهِ [أَنْزَلَ] وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا] فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا اعْتِرَاضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَتَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا فَيَكُونُ مَفْعُولًا لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يجعل له عوجا} وَتَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَ [قَيِّمًا] مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا عِنْدَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ وَ [قَيِّمًا] مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَإِذَا كَانَ حَالًا يَكُونُ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ بَعْضِ الصِّلَةِ وَتَمَامِهَا فَكَانَ الْأَحْسَنُ جَعْلَهُ مَعْمُولًا لِمُقَدَّرٍ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي تَفْسِيرِ البحر بعد نقله كلام الزمخشري: وعجيب من كَوْنُهُ لَمْ يَجْعَلِ الْفَاصِلَ الْمَذْكُورَ حَالًا أَيْضًا وَلَا فَصَلَ بَلْ هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ غَيْرَ مُعْوَجٍّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وَهَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ جَعْلُ الْجُمْلَةِ حَالًا - قَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ قَبْلَ ابْنِ الْمُنَيِّرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَرْتَضِ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ جَعْلَ الجملة حالا يفيده لا مَا يُفِيدُ الْعَطْفُ مِنْ نَفْيِ الْعِوَجِ عَنِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْإِنْزَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَالْفَائِدَةُ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ رُبَّمَا لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ غَيْرِ مَا قَالَ لَكِنْ مَا قَالَ هُوَ الْأَحْسَنُ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْمُنَيِّرِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ الْجُمْلَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً فَهِيَ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ لِلْعَطْفِ فَلَمْ يَقَعْ فَصْلٌ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ: [عِوَجًا] وَيَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ " قَيِّمًا " بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ رِوَايَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ الْفَصْلِ وَانْقِطَاعِ الْكَلَامِ عَمَّا قَبْلَهُ قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ وَتَحْتَمِلُ السَّكْتَةُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ قَيِّمًا نَعْتًا لِلْعِوَجِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ تَسْتَدْعِي النَّعْتَ غَالِبًا وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ إِيلَاءُ النكرة الجامدة نعتها كقوله: {صراطا مستقيما} ، و {قرآنا عربيا} فَإِذَا وَلِيَ النَّكِرَةَ الْجَامِدَةَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ نَكِرَةٌ ظَهَرَ فِيهِ مَعْنَى الْوَصْفِ فَرُبَّمَا خِيفَ اللَّبْسُ في جعل [قيما] نعتا لـ[عوج] فوقع اللَّبْسُ بِهَذِهِ السَّكْتَةِ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَوَهَّمُ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا وَلَا يَصْلُحُ قَيِّمًا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِ عِوَجٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يُوصَفُ بِضِدِّهِ لِأَنَّ الْعِوَجَ لَا يَكُونُ قَيِّمًا وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 الثَّانِي: نَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ قَيِّمًا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ عِوَجًا وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ همت به وهم بها} قِيلَ: التَّقْدِيرُ: لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَهَمَّ بِهَا وَهَذَا أَحْسَنُ لَكِنْ فِي تَأْوِيلِهِ قَلَقٌ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّغَائِرَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَضَحِكَتْ فبشرناها بإسحاق} قِيلَ: أَصْلُهُ: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ. وَقِيلَ: ضَحِكَتْ أَيْ حَاضَتْ بَعْدَ الْكِبَرِ عِنْدَ الْبُشْرَى فَعَادَتْ إِلَى عَادَاتِ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ. وقوله: {فأردت أن أعيبها} ، قدم علىما بَعْدَهُ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِلتَّوَافُقِ. وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أَيْ أَحَوَى غُثَاءً أَيْ أَخْضَرَ يَمِيلُ إِلَى السواد والموجب لتأخير أحوى رِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دينا} قَالَ ابْنُ بُرْهَانَ النَّحْوِيُّ: أَصْلُهُ: وَمَنْ يَبْتَغِ دينا غير الإسلام. وقوله: {وغرابيب سود} قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغِرْبِيبُ: الشَّدِيدُ السَّوَادِ فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَقَالَ صَاحِبُ [الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ] : قَالَ ابْنُ عِيسَى:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 الْغِرْبِيبُ: الَّذِي لَوْنُهُ لَوْنُ الْغُرَابِ فَصَارَ كَأَنَّهُ غُرَابٌ. قَالَ: وَالْغُرَابُ يَكُونُ أَسْوَدَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ وَعَلَى هَذَا فَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الذِّكْرَ هُنَا الْقُرْآنُ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . وقوله: {اقتربت الساعة وانشق القمر} . وقوله: {فكذبوه فعقروها} أَيْ فَعَقَرُوهَا ثُمَّ كَذَّبُوهُ فِي عَقْرِهَا وَفِي إِجَابَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عنده} تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَعِنْدَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى أَيْ وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ. وَقَوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوثان} أي الْأَوْثَانَ مِنَ الرِّجْسِ. {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لربهم يرهبون} أَيْ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ. {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أَيِ الَّذِينَ هُمْ حَافِظُونَ لِفُرُوجِهِمْ. {فَلَا تَحْسَبَنَّ الله مخلف وعده رسله} أَيْ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ. {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نفسه بصيرة} أَيْ بَلِ الْإِنْسَانُ بَصِيرٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي شُهُودِ جَوَارِحِهِ عَلَيْهِ. {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وأجل مسمى} أي ولولا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ الْعَذَابُ لَازِمًا لَهُمْ. {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أَيْ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ. {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لشديد} أَيْ لَشَدِيدٌ لِحُبِّ الْخَيْرِ. {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم.} أَيْ زَيَّنَ لِلْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يُحَسِّنُونَ لَهُمْ قَتْلَ بَنَاتِهِمْ خَشْيَةَ الْعَارِ. وَقَوْلُهُ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فضل الله عليكم ورحمته} . وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} أَيْ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعمالهم كرماد اشتدت به الريح} تقديره: مثل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ. وقوله: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} أَيْ فَأَنَا عَدُوُّ آلِهَتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ وَكُلِّ مَعْبُودٍ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا} أَيْ فَزِعُوا وَأُخِذُوا فَلَا فَوْتَ لِأَنَّ الْفَوْتَ يَكُونُ بَعْدَ الْأَخْذِ. وَقَوْلُهُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} ، يعني القيامة. {وجوه يومئذ خاشعة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} وَالنَّصَبَ وَالْعَمَلُ يَكُونَانِ فِي الدُّنْيَا فَكَأَنَّهُ عَلَى التقديم والتأخير معناه وجوه عاملة ناصبة وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاشِعَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يومئذ ناعمة} . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فتكفرون} ، تَقْدِيرُهُ: لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ دعيتم إلا الْإِيمَانِ فَكَفَرْتُمْ وَمَقْتُهُ إِيَّاكُمُ الْيَوْمَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ دُعِيتُمْ إِلَى النَّارِ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود من الفجر} ، لِأَنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ لَهُ سَوَادٌ وَالتَّقْدِيرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ الصُّبْحِ مِنْ بَقِيَّةِ سَوَادِ اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لم تكن بينكم وبينه مودة} . وقوله: {كأن لم تكن} منظوم بقوله: {قد أنعم الله علي} لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الشَّمَاتَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تتخذوا إلهين اثنين} ، أي اثنين إلهين لأن اتخاذاثنين يقع على ما يجوز وما لايجوز وَ"إِلَهَيْنِ" لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَ إِلَهَيْنِ أَخَصُّ فَكَانَ جَعْلُهُ صفة أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا قُدِّمَ فِي آيَةٍ وَأُخِّرَ فِي أُخْرَى. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي فَاتِحَةِ الفاتحة: {الحمد لله} وفي خاتمة الجاثية: {فلله الحمد} فَتَقْدِيمُ "الْحَمْدِ" فِي الْأَوَّلِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرِ لِمَنِ الْحَمْدُ وَمَنْ أَهْلُهُ فَجَاءَ الْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ نَظِيرُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثم قال: {لله الواحد القهار} . وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} قَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَرْفُوعِ لِاشْتِمَالِ مَا قَبْلَهُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الرُّسُلَ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَكَانَ مَظِنَّةُ التَّتَابُعِ عَلَى مَجْرَى الْعِبَارَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةَ وَيَبْقَى مُخَيَّلًا فِي فِكْرِهِ أكانت كلها كذلك أم كان فيها.. عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قبل} ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قبل} ، فإن ما قبل الأولى {أإذا كنا ترابا وآباؤنا} وما قبل الثانية {أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما} ، فَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَاكَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ تُرَابًا وَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَا كَوْنُهُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْأُولَى أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي تَبْعِيدِ الْبَعْثِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَقَالَ الْمَلَأُ من قومه الذين كفروا} ، فَقُدِّمِ الْمَجْرُورُ عَلَى الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ - وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ تَمَامَ الْوَصْفِ بِتَمَامِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفُ وَتَمَامُهُ {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا} - لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سورة طه: {آمنا برب هارون وموسى} . بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {رَبِّ مُوسَى وهارون} . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نحن نرزقكم وإياهم} ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} قَدَّمَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْأُولَى فِي الْفُقَرَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {من إملاق} فَكَانَ رِزْقُهُمْ عِنْدَهُمْ أَهَمَّ مِنْ رِزْقِ أَوْلَادِهِمْ فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ والخطاب في الثانية للأغيناء بدليل: {خشية إملاق} فَإِنَّ الْخَشْيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فَكَانَ رِزْقُ أَوْلَادِهِمْ هُوَ الْمَطْلُوبَ دُونَ رِزْقِهِمْ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ فَكَانَ أَهَمَّ فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِهِمْ. وَمِنْهَا ذِكْرُ اللَّهِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غيب السماوات والأرض} فقدم ذكر السموات لِأَنَّ مَعْلُومَاتِهَا أَكْثَرُ فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَدَلَّ عَلَى صِفَةِ الْعَالِمِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ فِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 سِيَاقِ تَعْجِيزِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْخَلْقِ وَالْمُشَارَكَةِ وَأَمْرُ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِكَثِيرٍ فَبَدَأَ بِالْأَرْضِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ عَجْزِهِمْ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ عَنْ أَعْظَمِهِمَا أَعْجَزَ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} ، فقدم السموات تنبيها على عظم قدرته سبحانه لأنه خَلْقَهَا أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ كَمَا صُرِّحَ به في سور الْمُؤْمِنِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَعْظَمِ كَانَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَصْغَرِ أَقْدَرَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا اكْتَفَى مِنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ!. قُلْتُ: أَرَادَ ذِكْرَهَا مُطَابَقَةً لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ وَمَا أُودِعَهُ مِنَ الْبَيَانِ وَالتِّبْيَانِ تَحْمَدْ عَاقِبَةَ النَّظَرِ وَتَنْتَظِرْ خَيْرَ مُنْتَظَرٍ!. وَمِنْ أَنْوَاعِهِ أَنْ يُقَدَّمَ اللَّفْظُ فِي الْآيَةِ وَيَتَأَخَّرَ فِيهَا لِقَصْدِ أَنْ يَقَعَ الْبَدَاءَةُ وَالْخَتْمُ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فأما الذين اسودت وجوههم} . وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ من اللهو ومن التجارة} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا أَسْلَفْنَاهُ لَقِيلَ مَا تَكْتُمُونَ وَتَبْدُونَ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِعِلْمِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 أمدح كما قيل: {يعلم سركم وجهركم} و {عالم الغيب والشهادة} {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} . فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى} . قُلْتُ لِأَجْلِ تَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ. وَمِنْهَا أَنْ يَقَعَ التَّقْدِيمُ فِي مَوْضِعٍ وَالتَّأْخِيرُ فِي آخَرَ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، لِلتَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى عِدَّةِ أَسَالِيبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقوله: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} . وَقَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {وختم على سمعه وقلبه} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ كِلَا الطَّرِيقَيْنِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَطْفَ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالتَّثْنِيَةِ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَإِنَّهُ حَسَنٌ مُؤَدٍّ إِلَى الْغَرَضِ. وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَمْ يُجْعَلْ لِلرَّجُلِ مَنْزِلَةً بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ بِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهَا مِنَ الْجَائِي كَأَنَّكَ قُلْتَ: مَرَرْتُ بِهِمَا يَعْنِي فِي قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَجَاءَنِي إِلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ تَقْدِيمُ الْأَفْضَلِ فَالْقَلْبُ رَئِيسُ الْأَعْضَاءِ وَالْمُضْغَةُ لَهَا الشَّأْنُ ثُمَّ السَّمْعُ طَرِيقُ إدرك وَحْيِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ كُلُّهَا. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 الْقَلْبُ:. وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ خِلَافٌ فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حَازِمٌ فِي كِتَابِ: "مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ" وَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَبِقَصْدِ الْعَبَثِ أَوِ التَّهَكُّمِ أَوِ الْمُحَاكَاةِ أَوْ حَالِ اضْطِرَارٍ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذلك. وقبله جماعة مطلقة بِشَرْطِ عَدَمِ اللَّبْسِ كَمَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ: "مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ". وَفَصَّلَ آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَتَضَمَّنَ اعْتِبَارًا لَطِيفًا فَبَلِيغٌ وَإِلَّا فَلَا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: يَجُوزُ الْقَلْبُ عَلَى التَّأْوِيلِ ثُمَّ قَدْ يَقْرُبُ التَّأْوِيلُ فَيَصِحُّ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ وَقَدْ يَبْعُدُ فَيَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ:. أَحَدُهَا: قَلْبُ الْإِسْنَادِ. وَهُوَ أَنْ يَشْمَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى شَيْءٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} إِنْ لَمْ تَجْعَلِ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمَفَاتِحَ تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعُصْبَةَ تَنُوءُ بِالْمَفَاتِحِ لِثِقَلِهَا فَأَسْنَدَ " لَتَنُوءُ " إِلَى "الْمَفَاتِحِ" وَالْمُرَادُ إِسْنَادُهُ إِلَى الْعُصْبَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْحَالِ وَالْعُصْبَةَ مُسْتَصْحِبَةُ الْمَفَاتِحِ لَا تستصحبها المفاتيح وفائدته المبالغة يجعل الْمَفَاتِحِ كَأَنَّهَا مُسْتَتْبِعَةٌ لِلْعُصْبَةِ الْقَوِيَّةِ بِثِقَلِهَا. وَقِيلَ: لَا قَلْبَ فِيهِ وَالْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من نقلها وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ أَنَّهَا بِالنَّقْلِ وَلَا قَلْبَ وَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ لِأَنَّ [نَاءَ] غَيْرُ مُتَعَدٍّ يُقَالُ: نَاءَ النَّجْمُ أَيْ نَهَضَ وَيُقَالُ: نَاءَ أَيْ مَالَ لِلسُّقُوطِ فَإِذَا نَقَلْتَ الْفِعْلَ بِالْبَاءِ قُلْتَ: نُؤْتُ بِهِ أَيْ أَنْهَضْتُهُ وَأَمَلْتُهُ لِلسُّقُوطِ فَقَوْلُهُ: {لتنوء بالعصبة} أَيْ تُمِيلُهَا الْمَفَاتِحُ لِلسُّقُوطِ لِثِقَلِهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ مَذْهَبُ الْفَارِسِيِّ أَصَحَّ لِأَنَّ نَقْلَ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِالْبَاءِ مَقِيسٌ وَالْقَلْبَ غَيْرُ مَقِيسٍ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ مَقِيسٌ أَوْلَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أَيْ خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَابْنُ السِّكِّيتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: {وكان الإنسان عجولا} . قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: خلق الإنسان من العجلة لِكَثْرَةِ فِعْلِهِ إِيَّاهُ وَاعْتِمَادِهِ لَهُ وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى مِنَ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدِ اطَّرَدَ وَاتَّسَعَ فَحَمْلُهُ عَلَى الْقَلْبِ يَبْعُدُ فِي الصَّنْعَةِ وَيُضْعِفُ الْمَعْنَى. وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ إِنَّ الْعَجَلَ هَاهُنَا الطِّينُ قَالَ: وَلَعَمْرِي إِنَّهُ فِي اللُّغَةِ كَمَا ذَكَرَ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا إِلَّا نَفْسُ الْعَجَلِ أَلَا ترى إلى قوله عقبه: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} ، ونظيره قوله: {وكان الإنسان عجولا} {وخلق الإنسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 ضعيفا} لِأَنَّ الْعَجَلَةَ ضَرْبٌ مِنَ الضَّعْفِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَالْحَاجَةُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ سكرة الموت بالحق} أي إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَأَنَّهُ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ} وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ. مِثْلُهُ: {لكل أجل كتاب} ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لِكُلِّ أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ أَجَلٌ مُؤَجَّلٌ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ يُرِدْكَ بخير} : هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ يُرِيدُ بِكَ الْخَيْرَ وَيُقَالُ: أَرَادَهُ بِالْخَيْرِ وَأَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ. وَجَعَلَ ابْنُ الضَّائِعِ مِنْهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كلمات} ، قَالَ: فَآدَمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ هُوَ الْمُتَلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ حَقِيقَةً وَيَقْرُبُ أَنْ يُنْسَبَ التَّلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّى شَيْئًا أَوْ طَلَبَ أَنْ يَتَلَقَّاهُ فَلَقِيَهُ كَانَ الْآخَرُ أَيْضًا قَدْ طَلَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ قَالَ: ولقرب هذا المعنى قرىء بِالْقَلْبِ. وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَعُمِّيَتْ عليكم} أَيْ فَعَمِيتُمْ عَلَيْهَا. وَقَوْلَهُ: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض} . وقوله: {وقد بلغت من الكبر عتيا} ، {وقد بلغني الكبر} أَيْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ. وَقَوْلَهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هواه} وقوله: {فإنهم عدو لي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 إلا رب العالمين} ، فَإِنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُعَادِي وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَوْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَاوَزْتَهُ وَخَلَّفْتَهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَنْ له إرادة وأما عاديته فمفاعة لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ. وَجَعَلَ مِنْهُ بعضهم: {وإنه لحب الخير لشديد} أَيْ إِنَّ حُبَّهُ لِلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. وَقِيلَ لَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ وَالشِّدَّةُ الْبُخْلُ أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ لِلْمَالِ يَبْخَلُ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار} كقوله: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ لِأَنَّ الْمَعْرُوضَ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ لِلْمَعْرُوضِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ وَيُرِيدُ وَعَلَى هَذَا فَلَا قَلْبَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مَقْهُورُونَ فَكَأَنَّهُمْ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ وَالنَّارُ مُتَصَرِّفَةٌ فِيهِمْ وَهُوَ كَالْمَتَاعِ الَّذِي يُقَرَّبُ مِنْهُ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ كَمَا قَالُوا: عُرِضَتِ الْجَارِيَةُ عَلَى الْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عليه المراضع من قبل} وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الملكف فَالْمَعْنَى وَحَرَّمْنَا عَلَى الْمَرَاضِعِ أَنْ تُرْضِعَهُ وَوَجْهُ تَحْرِيمِ إِرْضَاعِهِ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يَقْبَلَ إِرْضَاعَهُنَّ حَتَّى يُرَدَّ إِلَى أُمِّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم} ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ وَمَا تَخْدَعُهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ هِيَ الْمُخَادِعَةُ وَالْمُسَوِّلَةُ، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ سولت لكم أنفسكم} . ورد بأن الفاعل في مثل هذا هوالمفعول في المعنى وأن التغاير في اللفظ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَلْبِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 الثاني: قلب المعطوف. إما بأن تجعل الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعْطُوفًا وَالْمَعْطُوفُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يرجعون} ، حَقِيقَتُهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ لأنه نَظَرَهُ مَا يَرْجِعُونَ مِنَ الْقَوْلِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ مَعَ تَوَلِّيهِ عَنْهُمْ. وَمَا يُفَسَّرُ بِهِ التَّوَلِّي مِنْ أَنَّهُ يَتَوَارَى فِي الْكُوَّةِ الَّتِي أَلْقَى مِنْهَا الْكِتَابَ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ رَاجِحَةٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: {ثم دنا فتدلى} أَيْ تَدَلَّى فَدَنَا لِأَنَّهُ بِالتَّدَلِّي نَالَ الدُّنُوَّ وَالْقُرْبَ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ وَإِلَى الْمَكَانَةِ لَا إِلَى الْمَكَانِ. وَقِيلَ: لَا قَلْبَ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَرَادَ الدُّنُوَّ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: " {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ} الْمَعْنَى فَإِذَا اسْتَعَذْتَ فَأَقْرَأْ ". وَقَوْلِهِ: {وَكَمْ مِنْ قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} ، وَقَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ: لَا قَلْبَ فِيهِ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهِ اعْتِبَارًا لَطِيفًا. وَرُدَّ بِتَضَمُّنِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي شِدَّةِ سَوْرَةِ الْبَأْسِ يَعْنِي هَلَكَتْ بِمُجَرَّدِ تَوَجُّهِ الناس إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَهَا. الثَّالِثُ: الْعَكْسُ. الْعَكْسُ، وَهُوَ أمر لفظي كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا من حسابك عليهم من شيء} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وَقَوْلِهِ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لهن} . {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل} . الرَّابِعُ: الْمُسْتَوِي. وَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ أَوِ الْكَلِمَاتِ تُقْرَأُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَمِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا لَا يَخْتَلِفُ لَفْظُهَا وَلَا مَعْنَاهَا كقوله: {وربك فكبر} . {كل في فلك} . الْخَامِسُ: مَقْلُوبُ الْبَعْضِ. وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْأُولَى مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْأُولَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فرقت بين بني إسرائيل} فَـ"بَنِي" مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ "بَيْنَ" وَهُوَ مُفَرَّقٌ إِلَّا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْضُهَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ وهو أولها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 الْمُدْرَجُ. هَذَا النَّوْعُ سَمَّيْتُهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ بِنَظِيرِ الْمُدْرَجِ مِنَ الْحَدِيثِ وَحَقِيقَتُهُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ أَنْ تَجِيءَ الْكَلِمَةُ إِلَى جَنْبِ أُخْرَى كَأَنَّهَا فِي الظَّاهِرِ مَعَهَا وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ بِلْقِيسَ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أعزة أهلها أذلة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لَا مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لمن الصادقين} . انْتَهَى قَوْلُ الْمَرْأَةِ ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} مَعْنَاهُ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ. وَمِنْهُ: {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} تَمَّ الْكَلَامُ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وصدق المرسلون} . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} فهذه صفة لأتقياء المؤمنين ثم قال: {يمدونهم في الغي} فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ تَمُدُّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي الْغَيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ مُتَّصِلًا: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . وَقَوْلُهُ: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بهم إنهم صالو النار} فالظاهر أن الكلام كله من كلام الزبانيةوالأمر لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سليم} مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى وَقَالَ: {إِلَّا مَنْ أَتَى الله بقلب سليم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 التَّرَقِّي. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نوم} ، {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة} . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَرَدَ: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا ولا هضما} والغالب أن يقدم في الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ مَنْعٌ لِلْحَقِّ مِنْ أَصْلِهِ وَالْهَضْمَ مَنْعٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ كَالتَّطْفِيفِ فَكَانَ يُنَاسِبُهُ تَقْدِيمُ الْهَضْمِ. قُلْتُ: لِأَجْلِ فَوَاصِلِ الْآيِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ: {وَقَدْ خاب من حمل ظلما} فَعَدَلَ عَنْهُ فِي الثَّانِي كَيْلَا يَكُونَ أَبْطَأَ وَقَدْ سِيقَتْ أَمْثِلَةُ التَّرَقِّي فِي أَسْبَابِ التَّقْدِيمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 الِاقْتِصَاصُ. ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامٌ فِي سُورَةٍ مُقْتَصًّا مِنْ كَلَامٍ فِي سُورَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي السُّورَةِ نَفْسِهَا وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} ، وَالْآخِرَةُ دَارُ ثَوَابٍ لَا عَمَلَ فِيهَا فَهَذَا مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ من المحضرين} مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ محضرون} . وقوله: {ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا} . فأما قوله تعالى: {ويوم يقوم الأشهاد} فَيُقَالُ: إِنَّهَا مُقْتَصَّةٌ مِنْ أَرْبَعِ آيَاتٍ لِأَنَّ الْأَشْهَادَ أَرْبَعَةٌ:. الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيدا} . وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناس} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وَالْأَعْضَاءُ لِقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وأرجلهم بما كانوا يعملون} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} وَقُرِئَتْ مُخَفَّفَةً وَمُثَقَّلَةً فَمَنْ شَدَّدَ فَهُوَ مِنْ [نَدَّ] إِذَا نَفَرَ وَهُوَ مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ: {يوم يفر المرء من أخيه} الْآيَةَ. وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النِّدَاءِ مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أصحاب النار} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 الْأَلْغَازُ. وَاللُّغْزُ الطَّرِيقُ الْمُنْحَرِفُ سُمِّيَ بِهِ لِانْحِرَافِهِ عَنْ نَمَطِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ وَيُسَمَّى أَيْضًا أُحْجِيَّةً لأن الحجى هُوَ الْعَقْلُ وَهَذَا النَّوْعُ يُقَوِّي الْعَقْلَ عِنْدَ التمرن والارتماض بِحَلِّهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَجَعَلَ مِنْهُ مَا جَاءَ في أوائل السور من الحروف المفردة والمركبةالتي جُهِلَ مَعْنَاهَا وَحَارَتِ الْعُقُولُ فِي مُنْتَهَاهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ فَعَلْتَهُ فقال: {بل فعله كبيرهم هذا} قَابَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَيُوَضِّحَ لهم المحجة. وكذلك قول نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أَتَى بِاثْنَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وأرسل الآخرة فَإِنَّ هَذِهِ مُغَالَطَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 الِاسْتِطْرَادُ. وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِعَيْبِ إِنْسَانٍ بِذِكْرِ عَيْبِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} . وَكَقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صاعقة عاد وثمود} وَقَوْلِهِ: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 الترويد. وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الْمُتَكَلِّمُ لَفْظَةً مِنَ الْكَلَامِ ثُمَّ يَرُدَّهَا بِعَيْنِهَا وَيُعَلِّقَهَا بِمَعْنًى آخَرَ كَقَوْلِهِ: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ الله أعلم} الْآيَةَ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَالثَّانِيَ مُبْتَدَأٌ. وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهرا من الحياة الدنيا} . وَقَوْلِهِ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} . وقد يحذف أحدها ويضمر أولا يُلَاحَظُ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا ريب فيه هدى للمتقين} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 التَّغْلِيبُ. وَحَقِيقَتُهُ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حُكْمَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَغْلُوبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ إِطْلَاقُ لَفْظَةٍ عَلَيْهِمَا إِجْرَاءً لِلْمُخْتَلِفَيْنِ مَجْرَى الْمُتَّفِقَيْنِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ:. الْأَوَّلُ: تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ لِأَنَّ الْوَاوَ جَامِعَةٌ لِأَنَّ لَفْظَ الفعل مقتص وَلَوْ أَرَدْتَ الْعَطْفَ امْتَنَعَ. وَقَوْلِهِ: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} . وقوله: {إلا امرأته كانت من الغابرين} وَالْأَصْلُ:" مِنَ الْقَانِتَاتِ وَالْغَابِرَاتِ " فَعُدَّتِ الْأُنْثَى مِنَ الْمُذَكَّرِ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ. هَكَذَا قَالُوا، وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ نَحْنُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ لَا تُرِيدُ إِلَّا مُوَالَاتَهُمْ وَالتَّصْوِيبَ لِطَرِيقَتِهِمْ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ: " هُمْ مِنِّي وَأَنَا منهم " فقوله سبحانه: {من القانتين} وَلَمْ يَقُلْ: مِنَ "الْقَانِتَاتِ" إِيذَانًا بِأَنَّ وَضْعَهَا فِي الْعِبَادِ جِدًّا وَاجْتِهَادًا وَعِلْمًا وَتَبَصُّرًا وَرِفْعَةً مِنَ اللَّهِ لِدَرَجَاتِهَا فِي أَوْصَافِ الرِّجَالِ الْقَانِتِينَ وَطَرِيقِهِمْ. وَنَظِيرُهُ وَلَكِنْ بِالْعَكْسِ قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ لَمَّا أَجْمَعَ القعود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ لِأَنَّهُ كَانَ شَيْخًا فَجَاءَ بِمِجْمَرَةٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَجْمِرْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ ما جئت به ثم تجهز. ونازعهم بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: يحتمل ألا يكون [مِنْ] لِلتَّبْعِيضِ بَلْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ كَانَتْ نَاشِئَةً مِنَ الْقَوْمِ الْقَانِتِينَ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْقَابِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّانِي: تَغْلِيبُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَالْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ. فَيُقَالُ: أَنَا وَزَيْدٌ فَعَلْنَا وَأَنْتَ وَزَيْدٌ تَفْعَلَانِ وَمِنْهُ قوله تعالى: {بل أنتم قوم تجهلون} بِتَاءِ الْخِطَابِ غَلَّبَ جَانِبَ [أَنْتُمْ] عَلَى جَانِبِ [قوم] والقياس أن يجيء بالياء لأنه وصف القوم وقوم اسْمُ غَيْبَةٍ وَلَكِنْ حَسُنَ آخِرُ الْخِطَابِ وَصْفًا لِ قَوْمٌ لِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. قال ابن الشجري. ولو قيل: إنه حالل لـ {فتلك بيوتهم خاوية} لن في الضمير الْخِطَابِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ لِمُلَازَمَتِهِ لَهَا أَوْ لِمَعْنَاهَا لَكَانَ مُتَّجِهًا وَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ الصِّنَاعَةُ لَكِنْ يُبْعِدُهُ أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُهُمْ بِجَهْلٍ مُسْتَمِرٍّ لَا مَخْصُوصٍ بِحَالِ الْخِطَابِ وَلَمْ يَقُلْ: [جَاهِلُونَ] إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ يَتَجَدَّدُونَ عِنْدَ كُلِّ مُصِيبَةٍ لِطَلَبِ آيَاتِ جَهْلِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلَوْ قيل: إنما قال: [تجهلون] بِالتَّاءِ – لِأَنَّ [قَوْمٌ] هُوَ [أَنْتُمْ] فِي الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ، قَالَ: [تَجْهَلُونَ] حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى - لَكَانَ حَسَنًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: *أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حيدره* الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى [أَنَا] لِأَنَّ الَّذِي هُوَ [أَنَا] فِي الْمَعْنَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كما أمرت ومن تاب معك} غُلِّبَ فِيهِ جَانِبُ [أَنْتَ] عَلَى جَانِبِ [مَنْ] فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ وَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَقِيمُوا فَغُلِّبَ الْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ فَصَلَ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمُ الْفِعْلُ فَصَارَ كَمَا تَرَى. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلْيَسْتَقِمْ كَذَلِكَ مَنْ تَابَ مَعَكَ. وَمَا قُلْنَا أَقَلُّ تَقْدِيرًا مِنْ هَذَا فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. وقوله تعالى: {قال اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ [مَنْ تَبِعَكَ] يَقْتَضِي الْغَيْبَةَ تَغْلِيبًا لِلْمُخَاطَبِ وَجُعِلَ الْغَائِبُ تَبَعًا لَهُ كَمَا كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَحَسُنَ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لَهُ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ ارْتِبَاطِ اللَّفْظِ بالمعنى. وكقوله تعالى: {يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قبلكم لعلكم تتقون} فإن الخطاب في [لعلكم] متعلق بقوله [خلقكم] لا بقوله [اعبدوا] حَتَّى يُخْتَصَّ بِالنَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ [اعْبُدُوا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وما ربك بغافل عما تعملون} فِيمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِـ[مَا تَعْمَلُونَ] الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَالْمُخَاطَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ سَامِعٍ أَبَدًا فَيَكُونُ تَغْلِيبًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ خِطَابُ مَنْ سِوَاهُ بِدُونِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّغْلِيبِ لامتنان أَنْ يُخَاطَبَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ أَوْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ....... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 الثَّالِثُ: تَغْلِيبُ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ. بِأَنْ يَتَقَدَّمَ لَفْظٌ يَعُمُّ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ فَيُطْلَقُ اللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِالْعَاقِلِ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقُولُ: "خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ وَرَزَقَهُمْ"، فَإِنَّ لَفْظَ [هُمْ] مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والله خلق كل دابة من ماء} لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ الدَّابَّةِ وَالْمُرَادُ بِهَا عُمُومُ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ غُلِّبَ مَنْ يعقل فقال: {فمنهم من يمشي} . فَإِنْ قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ فِي {فَمِنْهُمْ] لِأَنَّهُ لِمَنْ يَعْقِلُ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَمِيعِ فَلِمَ قَالَ: [مَنْ] وَهُوَ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَامِّ بَلْ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ؟. قُلْتُ: [مَنْ] هُنَا بَعْضُ [هُمْ] وَهُوَ ضَمِيرُ مَنْ يَعْقِلُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ يَقَعُ عَلَى بَعْضِهِ لَفْظُ مَا لَا يَعْقِلُ؟. قُلْتُ: مَنْ هُنَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِنَّهُ تَغْلِيبٌ مِنْ غَيْرِ عُمُومِ لَفْظٍ مُتَقَدِّمٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ رَأَيْتُ ثَلَاثَةً زَيْدًا وعمرا وحمارا. وقال ابن الصائغ: [هُمْ] لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ فَلَمَّا أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ غَلَّبَ من يعقل فقال: [هم] ومن بَعْضُ هَذَا الضَّمِيرِ وَهُوَ لِلْعَاقِلِ فَلَزِمَ أَنْ يقول [من] فلما قال: بوقوع التَّغْلِيبِ فِي الضَّمِيرِ صَارَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَاقِلِينَ فَتَمَّمَ ذَلِكَ بِأَنْ أَوْقَعَ [مَنْ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: {قالتا أتينا طائعين} ، إِنَّمَا جَمَعَهُمَا جَمْعَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 السَّلَامَةِ، وَلَمْ يَقُلْ [طَائِعِينَ] وَلَا [طَائِعَاتٍ] لِأَنَّهُ أراد: ائنيا بِمَنْ فِيكُمْ مِنَ الْخَلَائِقِ طَائِعِينَ فَخَرَجَتِ الْحَالُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الذُّكُورِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ كَمَا يَقُولُ الْآدَمِيُّونَ أَشْبَهَتَا الذُّكُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَإِنَّمَا قَالَ: [طَائِعِينَ] وَلَمْ يقل: [مطيعين] لنه مِنْ طِعْنَا أَيِ انْقَدْنَا وَلَيْسَ مِنْ أَطَعْنَا يُقَالُ طَاعَتِ النَّاقَةُ تَطُوعُ طَوْعًا إِذَا انْقَادَتْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض كل له قانتون} ، قِيلَ: أَوْقَعَ [مَا] لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى أَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ ومالا يعقل فغلب مالا يَعْقِلُ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَيُنَاقِضُهُ {كُلٌّ لَهُ قانتون} . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَاءَ بِـ[مَا] تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ وَتَصْغِيرًا قَالَ: [لَهُ قَانِتُونَ] تَعْظِيمٌ. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الضَّائِعِ بِصِحَّةِ وُقُوعِهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَهَذَا غَايَةُ الْخَطَأِ، وَقَوْلُهُ فِي دعاء الأصنام: {هل يسمعونكم إذ تدعون} . وقوله: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} وأما قوله: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} وقوله: {في فلك يسبحون} {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} . {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهم لي ساجدين} . {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} . {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهَا بِأَخْبَارِ الْآدَمِيِّينَ جَرَى ضَمِيرُهَا عَلَى حَدِّ مَنْ يَعْقِلُ وَكَذَا الْبَوَاقِي. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ غُلِّبَ غَيْرُ الْعَاقِلِ عَلَى الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض من دابة} فَإِنَّهُ لَوْ غُلِّبَ الْعَاقِلُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ لَأَتَى بِـ[مَنْ] . فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ غُلِّبَ فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ وَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِ مَا لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى أَجْنَاسِ مَنْ يعقل خاصة كهذه الآية. قوله: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن} وَلَمْ يَقُلْ [وَمَنْ فِيهِنَّ] قِيلَ: لِأَنَّ كَلِمَةَ [مَا] تَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا تَنَاوُلًا عَامًّا بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَ [مَنْ] لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ [مَا] هُنَا أَوْلَى. وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ وَالْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يذرأكم فيه} ، أَيْ خَلَقَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جِنْسِكُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ أَيْضًا مِنْ أَنْفُسِهَا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَذْرَؤُكُمْ أَيْ يُنْبِتُكُمْ وَيُكَثِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ وَالْجَعْلِ فَهُوَ خطاب للجميع للناس المخاطبين وللأنعام المذكور بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذِكْرُ الْجَمِيعِ - أَعَنَى النَّاسَ والأنعام - بطريق الخطاب لأن الأنعام غيب [وفيه] تغليب الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ [كُمْ] الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ فَفِي لَفْظِ [كُمْ] تَغْلِيبَانِ وَلَوْلَا التَّغْلِيبُ لَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: يَذْرَؤُكُمْ وَإِيَّاهَا هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَنُوزِعَا فِيهِ بِأَنَّ جَعْلَ الْخِطَابِ شَامِلًا لِلْأَنْعَامِ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَبَيَانُ الْأَلْطَافِ فِي حَقِّ النَّاسِ فَالْخِطَابُ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَالْمَعْنَى: يُكَثِّرُكُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 أَيُّهَا النَّاسُ فِي التَّدْبِيرِ حَيْثُ مَكَّنَكُمْ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ وَهَيَّأَ لَكُمْ مِنْ مَصَالِحِكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَاشِ وَتَدْبِيرِ التَّوَالُدِ وَجَعَلَهَا أَزْوَاجًا تَبْقَى بِبَقَائِكُمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا وَهَذَا أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَرَّرُوهُ وَهُوَ جَعْلُ الأنعام أنفسها أزواجا. وقوله: {يذرأكم فيه} أَيْ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ، كَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ [بِهِ] كَمَا قَالَ: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِإِظْهَارِ الِاقْتِدَارِ مَعَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَأَسْقَطَ السَّبَبِيَّةِ وَأَثْبَتَ [فِي] الظَّرْفِيَّةَ وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ إِعْجَازِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لِأَنَّ الْحَيَاةَ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَاخْتِيرَتْ [فِي] عَلَى الْبَاءِ لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ التَّرْغِيبِ وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ وَالْقِصَاصُ مَسُوقٌ لِلتَّجْوِيزِ وَحُسْنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتقوى} . الرَّابِعُ: تَغْلِيبُ الْمُتَّصِفِ بِالشَّيْءِ عَلَى مَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا} قيل: غلب غير المرتابين علىالمرتابين وَاعْتُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادقين} وَهَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فَقَطْ قَطْعًا فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا بِذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهَا التَّغْلِيبُ ثُمَّ هِيَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَهُمْ يَخُصُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 الجاحدين بقوله: {إن كنتم صادقين} وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ إِلَّا فِيهِمْ فَتَغْلِيبُ حَالِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ لَا عهد به في مخاطبات العرب. الْخَامِسُ: تَغْلِيبُ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ. بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْجَمِيعِ وَصْفٌ يَخْتَصُّ بِالْأَكْثَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لنخرجنك يا شعيب وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنا} أُدْخِلَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {لَتَعُودُنَّ} بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ أَصْلًا حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {إِنْ عدنا في ملتكم} ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عَادَ بِمَعْنَى صَارَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَأَنْشَدُوا: فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَ مَرَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْأَيَّامِ فَاعِلُ عَادَتْ وَإِنَّمَا الشَّاهِدُ فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا وَيَحْتَمِلُ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لِشُعَيْبٍ ذَلِكَ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ وَادِّعَائِهِمْ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ لَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَكُونُ لنا أن نعود فيها} كِنَايَةٌ عَنْ أَتْبَاعِهِ لِمُجَرَّدِ فَائِدَتِهِمْ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ نفسه وأتباعه فقد استثنى والمعلق بالمشيئة لايلزم إِمْكَانُهُ شَرْعًا تَقْدِيرًا وَالِاعْتِرَافُ بِالْقُدْرَةِ وَالرُّجُوعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْ عَلِمَ الْعَبْدُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ أَدَبًا مع ربه لاشكا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ مُجَرَّدُ الْمُسَاكَنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ منها} . ونظيره: {ومطهرك من الذين كفروا} وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْهِجْرَةِ عَنْهُمْ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ لَهُمْ لَا جَوَابًا لَهُمْ. وَفِيهِ بُعْدٌ. السَّادِسُ: تَغْلِيبُ الْجِنْسِ الْكَثِيرِ الْأَفْرَادِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ مَغْمُوزٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُطْلَقَ اسْمُ الْجِنْسِ عَلَى الْجَمِيعِ. كَقَوْلِهِ: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وَأَنَّهُ عُدَّ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ حَمْلَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ هُوَ الْأَصْلُ. وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَالْجِنُّ مِنَ النَّارِ ". وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَلَكًا فَسُلِبَ الْمَلَكِيَّةَ وَأُجِيبَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ بِأَنَّهُ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ فَحِينَئِذٍ عَمَّتْهُ الدَّعْوَةُ بِالْخُلْطَةِ لَا بِالْجِنْسِ فَيَكُونُ مِنْ تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ. هَذَا إِنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا وَلَمْ يُجْعَلْ [إِلَّا] بِمَعْنَى [لَكِنْ] . وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي [الْقَدِّ] : قَالَ أَبُو الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذ قال الله يا عيسى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين من دون الله} وإنما المتخذ عِيسَى دُونَ أُمِّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ: *لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ* السَّابِعُ: تَغْلِيبُ الْمَوْجُودِ عَلَى ما لم يوجد. كقوله: {بما أنزل إليك} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّ الْمُرَادَ: الْمُنَزَّلُ كُلُّهُ وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مُتَرَقَّبًا تَغْلِيبًا لِلْمَوْجُودِ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ. الثَّامِنُ: تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} قاله الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ لِلْعُلُوِّ وَالدَّرَكَاتِ لِلسُّفْلِ فَاسْتُعْمِلَ الدَّرَجَاتُ فِي الْقِسْمَيْنِ تَغْلِيبًا. التَّاسِعُ: تَغْلِيبُ مَا وَقَعَ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَا وَقَعَ بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيديكم} ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 نزاول بِهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بِالْوَاقِعِ بِالْأَيْدِي تَغْلِيبًا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ. وَيُشَاكِلُهُ ما أنشده الغزنوي في "العامريات" لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: فَلَا وَالْعَادِيَاتِ غَدَاةَ جَمْعٍ بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ الْعَاشِرُ: تَغْلِيبُ الأشهر. كقوله تعالى: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} أَرَادَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ فَغَلَّبَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْجِهَتَيْنِ قَالَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ وَسَيَأْتِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ. فَائِدَتَانِ:. إِحْدَاهُمَا: جَمِيعُ بَابِ التَّغْلِيبِ مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَانِتِينَ مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَقِسْ عَلَى هَذَا جَمِيعَ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ. الثَّانِيَةُ: الْغَالِبُ مِنَ التَّغْلِيبِ أَنْ يُرَاعَى الْأَشْرَفُ كَمَا سَبَقَ وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَثْنِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ: أَبَوَانِ وَفِي تثنية المشرق والمغرب: المشرقان لِأَنَّ الشَّرْقَ دَالٌّ عَلَى الْوُجُودِ وَالْغَرْبَ دَالٌّ عَلَى الْعَدَمِ وَالْوُجُودُ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ، قَالَ: *لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ* أَرَادَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَغَلَّبَ الْقَمَرَ لِشَرَفِ التَّذْكِيرِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، يُرِيدُونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي "الْمُحْكَمِ": إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ إِيثَارًا لِلْخِفَّةِ أَيْ غُلِّبَ الْأَخَفُّ عَلَى الْأَثْقَلِ لِأَنَّ لَفْظَ [عُمَرَ] مُفْرَدٌ وَلَفْظَ أَبِي بَكْرٍ مُرَكَّبٌ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ لِلشُّهْرَةِ وَطُولِ الْمُدَّةِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَلَى هَذَا فَلَا تَغْلِيبَ. وَرُدَّ بِأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِالْعُمَرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالُوا يَوْمَ الْجَمَلِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب: سنة العمرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 الالتفات. وفيه مباحث:. الأول: في حقيقة. وَهُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ تَطْرِيَةً وَاسْتِدْرَارًا لِلسَّامِعِ وَتَجْدِيدًا لِنَشَاطِهِ وَصِيَانَةً لِخَاطِرِهِ مِنَ الْمَلَالِ وَالضَّجَرِ بِدَوَامِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عَلَى سَمْعِهِ كَمَا قِيلَ: لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إِنْ كَانَتْ مُصَرَّفَةً ... إِلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ قَالَ حَازِمٌ فِي "مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ": وَهُمْ يَسْأَمُونَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ أَوْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ فَيَنْتَقِلُونَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَلَاعَبُ الْمُتَكَلِّمُ بِضَمِيرِهِ فَتَارَةً يَجْعَلُهُ تاء عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَارَةً يَجْعَلُهُ كافا فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ مُخَاطَبًا وَتَارَةً يَجْعَلُهُ هَاءً فَيُقِيمُ نَفْسَهُ مَقَامَ الْغَائِبِ. فَلِذَلِكَ كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَوَالِي فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ لَا يُسْتَطَابُ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِانْتِقَالُ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ نَقْلٌ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُتَنَقَّلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الأمر إلى الملتف عَنْهُ لِيَخْرُجَ نَحْوُ أَكْرِمْ زَيْدًا وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ فَضَمِيرُ أَنْتَ الَّذِي هُوَ فِي أَكْرِمْ غَيْرُ الضمير في إليه. واعلم أن للمتكلم وَالْخَطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَقَامَاتٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِالْتِفَاتَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحَدِهَا إِلَى الْآخَرِ بَعْدَ التَّعْبِيرِ بالأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: إِمَّا ذَلِكَ وَإِمَّا التَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا حَقُّهُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ. الْبَحْثُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِهِ. وَهِيَ كَثِيرَةٌ:. الْأَوَّلُ: الِالْتِفَاتُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ. وَوَجْهُهُ حَثُّ السَّامِعِ وَبَعْثُهُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ حَيْثُ أَقْبَلَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ فضل عنايةوتخصيص بِالْمُوَاجَهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون} ، الْأَصْلُ: "وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ" فَالْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مُنَاصَحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَ قَوْمِهِ تَلَطُّفًا وإعلاما أنه يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ فِي مَقَامِ تَخْوِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْمَهُ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ بِحَسْبِ حَالِهِمْ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ فَاطِرَهُ وَمُبْدِعَهُ ثم حذرهم بقوله: {وإليه ترجعون} . لِذَا جَعَلُوهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَإِلَيْهِ ترجعون} الخاطبين وَلَمْ يُرِدْ نَفْسَهُ وَيُؤَيِّدْهُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ وَلَوْ أراد نفسه لقال: [نرجع] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 وَأَيْضًا فَشَرْطُ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ و [فطرني] [وإليه تُرْجَعُونَ] كَلَامٌ وَاحِدٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ المراد بقوله: [ترجعون] ظَاهِرَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ، لِأَنَّ رُجُوعَ العبد إلى مولاه ليس بمعنى أن يعبده غَيْرَ ذَلِكَ الرَّاجِعِ فَالْمَعْنَى: كَيْفَ أَعْبُدُ مَنْ إِلَيْهِ رُجُوعِي وَإِنَّمَا تُرِكَ [وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ] إِلَى [وإليه ترجعون] لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِمْ. وَمَعَ ذَلِكَ أَفَادَ فَائِدَةً حَسَنَةً وَهِيَ أَنَّهُ نَبَّهَهُمْ أَنَّهُمْ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ عِبَادَةِ مَنْ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ فَعَلَى هَذَا الْوَاوُ لِلْحَالِ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَاوُ الْعَطْفِ. وَمِنْهُ قوله: {رحمة من ربك} عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {رَحْمَةً مِنَّا} إِلَى قَوْلِهِ: {رحمة من ربك} لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي رَحْمَتَهُ وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعَبْدِهِ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ رزق ربكم} . وقوله: {ادعوا ربكم} {واعبدوا ربكم} وَهُوَ كَثِيرٌ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مبينا ليغفر لك الله} وَلَمْ يَقُلْ: [لِنَغْفِرَ لَكَ] تَعْلِيقًا لِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ بِاسْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِسَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلِهَذَا عَلَّقَ بِهِ النَّصْرَ فَقَالَ: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عزيزا} . الثَّانِي: مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَوَجْهُهُ أَنْ يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا نَمَطُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ مِنَ السَّامِعِ حَضَرَ أَوْ غَابَ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 وَأَنَّهُ فِي كَلَامِهِ لَيْسَ مِمَّنْ يَتَلَوَّنُ وَيَتَوَجَّهُ فَيَكُونُ فِي الْمُضْمَرِ وَنَحْوِهِ ذَا لَوْنَيْنِ وَأَرَادَ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْغَيْبَةِ الْإِبْقَاءَ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ قَرْعِهِ فِي الْوَجْهِ بِسِهَامِ الْهَجْرِ فَالْغِيبَةُ أَرْوَحُ لَهُ وَأَبْقَى عَلَى مَاءِ وَجْهِهِ أَنْ يَفُوتَ كقوله: {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك} حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: [لَنَا] تَحْرِيضًا عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العليم} . وقوله: {يا أيها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} إِلَى قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} ولم يقل: [بي] .و. له فَائِدَتَانِ:. إِحْدَاهُمَا: دَفْعُ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَصَبِيَّةِ لَهَا، وَالثَّانِي: تَنْبِيهُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الِاتِّبَاعَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الِاتِّبَاعَ لِذَاتِهِ بَلْ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ. الثَّالِثُ: مِنَ الْخِطَابِ إِلَى التَّكَلُّمِ. كَقَوْلِهِ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا} ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِالْتِفَاتِ وَاحِدًا فَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَهُ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 الرَّابِعُ: مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فقد التفت عن {كنتم} إلى {جرين بهم} وَفَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى حِكَايَةِ حَالِهِمْ لِغَيْرِهِمْ لِتَعَجُّبِهِ مِنْ فِعْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ إِذْ لَوِ استمر علىخطابهم لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلًا كَانَ مَعَ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} فَلَوْ قَالَ: [وَجَرَيْنَ بِكُمْ] لَلَزِمَ الذَّمُّ لِلْجَمِيعِ فَالْتَفَتَ عَنِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الذَّمِّ الْخَاصِّ بِبَعْضِهِمْ وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عنهم. وقيل: لأنهم وقت الركوب حصروا لِأَنَّهُمْ خَافُوا الْهَلَاكَ وَتَقَلُّبَ الرِّيَاحِ فَنَادَاهُمْ نِدَاءَ الْحَاضِرِينَ ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ لَمَّا جَرَتْ بِمَا تَشْتَهِي النُّفُوسُ وَأَمِنَتِ الْهَلَاكَ لَمْ يَبْقَ حُضُورُهُمْ كَمَا كَانَ عَلَى مَا هِيَ عَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا أَمِنَ غَابَ فَلَمَّا غَابُوا عِنْدَ جريه بريح طيبة فكرهم الله بصيغة الغيبة فقال: {وجرين بهم} . وقوله: {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} ثُمَّ قَالَ: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} فَانْتَقَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَلَوْ رُبِطَ بِمَا قَبْلَهُ لَقَالَ:" يُطَافُ عَلَيْكُمْ" لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَا مُخْبَرٌ ثُمَّ التفت فقال: {وأنتم فيها خالدون} فَكَرَّرَ الِالْتِفَاتَ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وَقَوْلِهِ: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الراشدون} . وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم} وَالْأَصْلُ [فَقَطَّعْتُمْ] عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَكِنْ عَدَلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَقِيلَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَعَى عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَوَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ في دين الله لم!. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى} وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ فَلَا الْتِفَاتَ. الْخَامِسُ: مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. كَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} . {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدنيا} . {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدا} . وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فسقناه} وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ إِحْيَاءً لِلْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ وَأَفْخَمُ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الآية منها ما أخبر به سبحانه بسببه وهو سوق السحاب فإنه يسوق الرِّيَاحِ فَتَسُوقُهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَمْرِهِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِهِ وَسَائِرُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حُكْمُهُ وَعِلْمُهُ. وَعَادَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَنْ يُخْبِرَ بِهَا بِنُونِ التَّعْظِيمِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهُ جُنْدًا وَخَلْقًا قَدْ سَخَّرَهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَيْ إِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا جِبْرِيلُ. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} . وأما إرسال السحاب فهو سحاب يَأْذَنُ فِي إِرْسَالِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَبَبًا بِخِلَافِ سَوْقِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ فَإِنَّهُ قَدْ ذكر أسبابه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مختلفا ألوانها} {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} . وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ: فِي سُورَةِ طه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا من نبات شتى} : وَزَعَمَ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْتِفَاتًا وجعل قوله: {وأنزل من السماء ماء} آخِرَ كَلَامِ مُوسَى ثُمَّ ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَوْصَافِهِ لِمُعَالَجَتِهَا. وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ التَّنْبِيهُ عَلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 التَّخْصِيصِ بِالْقُدْرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ واحد وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى حِكَايَةِ الْحَالِ وَاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْبَدِيعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَكَذَا يَفْعَلُونَ لِكُلِّ فِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَخُصُوصِيَّةٍ بِحَالٍ تُسْتَغْرَبُ أَوْ تُهِمُّ المخاطب وإنما قال: {فتصبح الأرض مخضرة} لِإِفَادَةِ بَقَاءِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ. وَمِثْلُهُ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي [قَضَاهُنَّ] وَ [سَوَّاهُنَّ] إلى التكلم في قوله: {وزينا} ، فَقِيلَ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكَوْكَبَ زِينَةَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَحِفْظًا تَكْذِيبًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: وَجْهُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ خَلْقُ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَجَعْلُ الرَّوَاسِي مِنْ فَوْقِهَا وَإِلْقَاءُ الْبَرَكَةِ فِيهَا وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ فِي تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَأَنَّهُ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ فَأَتَى فِي هَذَا النَّوْعِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ عَطْفًا عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أإنكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رواسي} إلى قوله: {فقضاهن سبع سماوات} الْآيَةَ. وَالثَّانِي: قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مُدَّةِ خَلْقِهِ وَهُوَ تَزْيِينُ سَمَاءِ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعْلُهَا حِفْظًا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بَيَانَ مُدَّةِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ نَوْعَ الْأَوَّلِ يَتَضَمَّنُ إِيجَادًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ آثَارِ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا تَزْيِينُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْمَصَابِيحِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ مُدَّةِ خَلْقِ النُّجُومِ فَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إلى التكلم فقال: {زينا} . فائدة في تكرار الالتفات في موضع واحد وَقَدْ تَكَرَّرَ الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ من آياتنا إنه هو السميع البصير} فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، فَانْتَقَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} ، إلى التكلم في قوله: {باركنا حوله} ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {ليريه} بِالْيَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ ثُمَّ عَنِ الْغَيْبَةِ إلى التكلم في قوله: {آياتنا} ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {إنه هو السميع البصير} . وَكَذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قوله: {مالك يوم الدين} أُسْلُوبُ غَيْبَةٍ ثُمَّ الْتَفَتَ بِقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين} إِلَى أُسْلُوبِ خِطَابٍ فِي قَوْلِهِ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم} وَلَمْ يَقُلِ [الَّذِينَ غَضِبْتَ] كَمَا قَالَ: {أَنْعَمْتَ عليهم} . السَّادِسُ: مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. كَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} ولم يقل:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 [لَقَدْ جَاءُوا] لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا علهي مُنْكَرًا عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ بِهِ قَوْمًا حَاضِرِينَ. وَقَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمر} ثم قال: {وإن منكم إلا واردها} . وَقَوْلِهِ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كان لكم جزاء} . وقوله: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم} . وَقَوْلِهِ: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا ما كنزتم} . وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} . وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} . وَقَوْلِهِ: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ من دون المؤمنين} . وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نمكن لكم} . وقوله حكاية عن الخليل: {وإبراهيم إذ قال لقومه اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كنتم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وتخلقون إفكا} إلى قوله: {فما كان جواب قومه} . وَقَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جميعا} . وَقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ منها} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عليه يلهث أو تتركه يلهث} . وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح..} الآية. وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} ، وهو عجيب لأن [الذين] موصول لفظه للغيبة وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَائِدٍ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي [آمِنُوا] فَكَيْفَ يَعُودُ ضَمِيرُ مُخَاطَبٍ عَلَى غَائِبٍ! فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ. وَقَوْلَهُ: {مَالِكِ يوم الدين إياك نعبد} ، فقد التفت عن الغيبة وهو [مالك] إلى الخطاب وهو [إياك نعبد] . وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ فَفِيهِ الْتِفَاتَانِ - أَعْنِي فِي الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ:. أَحَدُهُمَا: فِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاضِرٌ فَأَصْلُهُ الْحَمْدُ لَكَ. وَالثَّانِي: [إياك] لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْأُسْلُوبِ السَّابِقِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ: [قُولُوا] كَانَ فِي [الْحَمْدُ لِلَّهِ] الْتِفَاتٌ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَمَدَ نَفْسَهُ وَلَا يَكُونُ فِي {إِيَّاكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 نعبد} الْتِفَاتٌ لِأَنَّ [قُولُوا] مُقَدَّرَةٌ مَعَهَا قَطْعًا فَإِمَّا أن يكون في الآية التفات أَوْ لَا الْتِفَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ. السَّابِعُ: بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ خِطَابِ فَاعِلِهِ أَوْ تَكَلُّمِهِ. فَيَكُونُ الْتِفَاتًا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بعد {أنعمت} فَإِنَّ الْمَعْنَى: غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ. ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ فِي "الْأَقْصَى الْقَرِيبِ" وَالْخَفَاجِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ تَجِيءُ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الِانْتِقَالُ التقديري. وزعم صحاب "ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ" أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهَا إِلَّا وَضْعُ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَوْضِعَ التَّكَلُّمِ وَوَضْعُ التَّكَلُّمِ مَوْضِعَ الْخِطَابِ وَمَثَّلَ الثَّالِثَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا لِيَ لا أعبد الذي فطرني} ، مَكَانَ [وَمَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ] . وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بعهدهم} ثم قال: {والصابرين في البأساء والضراء} ، وقوله: {المقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} . الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي أَسْبَابِهِ. اعْلَمْ أَنَّ لِلِالْتِفَاتِ فَوَائِدُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَمِنَ الْعَامَّةِ التَّفَنُّنُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْشِيطِ السَّامِعِ وَاسْتِجْلَابِ صفائه واتساع مجاري الكلام وتسهيل لوزن وَالْقَافِيَةِ. وَقَالَ الْبَيَانِيُّونَ: إِنَّ الْكَلَامَ إِذَا جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ وَطَالَ حَسُنَ تَغْيِيرُ الطَّرِيقَةِ. ونازعهم القاضي شمس الدين بن الجوزي وَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا لَا يَكْفِي فِي الْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّا رَأَيْنَا كَلَامًا أَطْوَلَ فِي هَذَا وَالْأُسْلُوبُ مَحْفُوظٌ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات..} إِلَى أَنْ ذَكَرَ عَشَرَةَ أَصْنَافٍ وَخَتَمَ بِـ {الذاكرين الله كثيرا والذاكرات} ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْأُسْلُوبَ وَإِنَّمَا الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ وَقَلْبُهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرحمن ويقلبه كَيْفَ يَشَاءُ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَائِبًا فَيَحْضُرُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَآخَرُ يَكُونُ حَاضِرًا فَيَغِيبُ فَاللَّهُ تَعَالَى لما قال: {الحمد لله رب العالمين} تَنَبَّهَ السَّامِعُ وَحَضَرَ قَلْبُهُ فَقَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين} . وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهِ وَمَوَاقِعِ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ. فَمِنْهَا: قَصْدُ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُخَاطَبِ، كَمَا فِي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين} ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا افْتَتَحَ حَمْدَ مَوْلَاهُ بِقَوْلِهِ: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] الدَّالِّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحَمْدِ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ التَّحَرُّكَ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَإِذَا انتقل إلى قوله: {رب العالمين} الدَّالِّ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ لِجَمِيعِهِمْ قَوِيَ تَحَرُّكُهُ فَإِذَا قال: {الرحمن الرحيم} الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْعِمٌ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا تَزَايَدَ التَّحَرُّكُ عِنْدَهُ فَإِذَا وَصَلَ لِـ {مالك يوم الدين} وهو خاتمة الصافات الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَيَتَأَهَّبُ قُرْبَهُ وَتَيَقَّنَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ بِتَخْصِيصِهِ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمُهِمَّاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 وَقِيلَ: إِنَّمَا اخْتِيرَ لِلْحَمْدِ لَفْظُ الْغَيْبَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الْخِطَابُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْدَ دُونَ الْعِبَادَةِ فِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّكَ تَحْمَدُ نَظِيرَكَ وَلَا تَعْبُدُهُ إِذِ الْإِنْسَانُ يَحْمَدُ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَعْبُدُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اسْتُعْمِلْ لَفْظُ الْحَمْدِ لِتَوَسُّطِهِ مَعَ الْغَيْبَةِ فِي الْخَبَرِ فَقَالَ: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] وَلَمْ يَقُلْ: [الْحَمْدُ لَكَ] وَلَفْظُ الْعِبَادَةِ مَعَ الْخِطَابِ فَقَالَ: {إِيَّاكَ نعبد} لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة على مَا هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَدُّبِ. وَعَلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ جَاءَ آخِرُ السورة فقال: {الذين أنعمت عليهم} مُصَرِّحًا بِذِكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِسْنَادِ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ لَفْظًا ولم يقل: [صراط المنعم علهيم] فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ رَوَى عَنْهُ لَفْظَ الْغَضَبِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَفْظًا وَجَاءَ بِاللَّفْظِ مُتَحَرِّفًا عَنْ ذِكْرِ الْغَاضِبِ فَلَمْ يَقُلْ غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ تَفَادِيًا عَنْ نِسْبَةِ الْغَضَبِ فِي اللَّفْظِ حَالَ الْمُوَاجَهَةِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ، فَإِنَّ التَّأَدُّبَ فِي الْغَيْبَةِ دُونَ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْحَقِيقَ بِالْحَمْدِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ بالصفات الْعَظِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَانًا وَرَحِيمًا وَمَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِمَعْلُومٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ حَقِيقٍ بِأَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا دُونَ غَيْرِهِ مُسْتَعَانًا بِهِ فَخُوطِبَ بِذَلِكَ لِتَمَيُّزِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ كُلِّهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ إِيَّاكَ يَا مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ نَخُصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لا غيرك. قيل: ومن لطائف التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مُبْتَدَأَ الْخَلْقِ الْغَيْبَةُ مِنْهُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَقُصُورُهُمْ عَنْ مُحَاضَرَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ وَقِيَامُ حِجَابِ الْعَظَمَةِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَرَفُوهُ بِمَا هُوَ لَهُ وَتَوَسَّلُوا لِلْقُرْبِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَأَقَرُّوا بِالْمَحَامِدِ لَهُ وَتَعَبَّدُوا لَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ تَأَهَّلُوا لِمُخَاطَبَاتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ فَقَالُوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 وَفِيهِ أَنَّهُمْ يُبْدُونَ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ دُعَاءٍ لَهُ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاةٍ لَهُ صِفَاتِ عَظَمَتِهِ لِمُخَاطَبَتِهِ عَلَى الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ لَا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالْإِغْفَالِ ولا عن اللعب والاستخفاف كما يَدْعُو بِلَا نِيَّةٍ أَوْ عَلَى تَلَعُّبٍ وَغَفْلَةٍ وَهُمْ كَثِيرٌ. وَمِنْهُ أَنَّ مُنَاجَاتَهُ لَا تَصْعَدُ إلا إذا تطهر مِنْ أَدْنَاسِ الْجَهَالَةِ بِهِ كَمَا لَا تَسْجُدُ الْأَعْضَاءُ إِلَّا بَعْدَ التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثِ الْأَجْسَامِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الِاسْتِعَاذَةُ عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرسول} ولم يقل:" واستغفرت لهم " [وعدل عنه إلى طريق الالتفات] لِأَنَّ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ بَيَانَ تَعْظِيمِ اسْتِغْفَارِهِ وَأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ بِمَكَانٍ. وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَا حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون} ، أَصْلُ الْكَلَامِ: [وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ] وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ مُنَاصَحَتَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُرِيَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ لَمَّا انْقَضَى غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ قال: {وإليه ترجعون} لِيَدُلَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ وَمُقْتَضِيًا لَهُ ثُمَّ سَاقَهُ هَذَا الْمَسَاقَ إِلَى أن قال: {إني آمنت بربكم فاسمعون} . ومنها: أن يكون الغرض به التَّتْمِيمَ لِمَعْنًى مَقْصُودٍ لِلْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِهِ مُحَافَظَةً على تتميم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 مَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ لَهُ، كَقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ ربك إنه هو السميع العليم} ، أصل الكلام: [إنا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنَّا] وَلَكِنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْإِنْذَارِ بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لِلْمَرْبُوبِينَ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الرَّبِّ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ تَتْمِيمِ الْمَعْنَى. وَمِنْهَا: قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} كأنه يذكرلغيرهم حَالَهُمْ لِيَتَعَجَّبَ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا إِشَارَةً مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنَّ مَا يَعْتَمِدُونَهُ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِمَّا يُنْكَرُ وَيُقَبِّحُ. وَمِنْهَا: قَصْدُ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بلد ميت فأحيينا به} فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه: [سُقْنَا] وَ [أَحْيَيْنَا] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وَمِنْهَا: قَصْدُ الِاهْتِمَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} فَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي [قَضَاهُنَّ] وَ [أَوْحَى] إِلَى التَّكَلُّمِ فِي [وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا] لِلِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَوَاكِبَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لِلزِّينَةِ وَالْحِفْظِ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً اعْتَقَدَتْ فِي النُّجُومِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ حِفْظًا وَلَا رُجُومًا فَعَدَلَ إِلَى التَّكَلُّمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُهِمًّا مِنْ مُهِمَّاتِ الِاعْتِقَادِ وَلِتَكْذِيبِ الْفِرْقَةِ الْمُعْتَقِدَةِ بُطْلَانَهُ. وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} ، عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوَبَّخًا وَمُنْكَرًا عَلَيْهِ وَلَمَّا أَرَادَ تَوْبِيخَهُمْ عَلَى هَذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْحُضُورِ، فَقَالَ: {لَقَدْ جِئْتُمْ} لِأَنَّ تَوْبِيخَ الْحَاضِرِ أَبْلَغُ فِي الْإِهَانَةِ لَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} ، قال: {تقطعوا أمرهم بينهم} دُونَ [تَقَطَّعْتُمْ أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ] ، كَأَنَّهُ يَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُمْ مَا فَعَلُوهُ وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ فَجَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ به قطعا تمثيلا لأخلاقهم في الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 فَائِدَةٌ. اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يخلف الميعاد} بَعْدَ {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا ريب فيه} . فَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {لَا ريب فيه} وهذا الذي بعده من مقولا لله تَصْدِيقًا لَهُمْ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمُ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إلى الغيبة كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} . فإن قلت: قد قال فِي آخِرِ السُّورَةِ: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنك لا تخلف الميعاد} ، فَلِمَ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ هُنَا قُلْتُ إِنَّمَا جَاءَ الِالْتِفَاتُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِتُنْصِفَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخر السورة: {إنك لا تخلف الميعاد} ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ مَقَامُ الطَّلَبِ لِلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنِ الْأَصْلِ الْمُسْتَمِرِّ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي شَرْطِهِ. تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ وَشَرْطُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ أَيْ كَلَامَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ حَتَّى يَمْتَنِعَ بين الشرط وجوابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 وفي هذا الشرط نظره فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَوَاضِعُ الِالْتِفَاتُ فِيهَا وَقَعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} . وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} . وَقَوْلِهِ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ، بعد قوله: {إنا أحللنا لك} التَّقْدِيرُ إِنْ وَهَبَتِ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنَّا أحللنا لك وَجُمْلَتَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ. وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ} . وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بالله ورسوله} وَفِيهِ الْتِفَاتَانِ: أَحَدُهُمَا بَيْنَ [أَرْسَلْنَا] وَالْجَلَالَةِ، وَالثَّانِي بين الكاف في [أرسلناك] [ورسوله] وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلِهِ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بالله} . وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جزاء موفورا} ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ [جَزَاؤُكُمْ] يَعُودُ عَلَى [التَّابِعِينَ] عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. وَقَوْلِهِ: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} ، عَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 وقوله: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا} ، قَالَ التَّنُوخِيُّ فِي" الْأَقْصَى الْقَرِيبِ ": الْوَاوُ لِلْحَالِ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون} . الْبَحْثُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا ابْتُلِيَ الْعَاقِلُ بِخَصْمٍ جَاهِلٍ مُتَعَصِّبٍ فَيَجِبُ أَنْ يَقْطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ خَوْضُهُ مَعَهُ أَكْثَرَ كَانَ بُعْدُهُ عَنِ الْقَبُولِ أَشَدَّ فَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقْطَعَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَنْ يُؤْخَذَ فِي كَلَامٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ وَيُطْنَبَ فِيهِ بِحَيْثُ يَنْسَى الْأَوَّلُ فَإِذَا اشْتَغَلَ خَاطِرُهُ بِهِ أَدْرَجَ لَهُ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ مُقَدَّمَةً تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَطْلَبَ الْأَوَّلَ لِيَتَمَكَّنَ مِنِ انْقِيَادِهِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ فِي كِتَابِ" دُرَّةِ التَّنْزِيلِ"، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يقولون واذكر عبدنا داود} ، قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: [وَاذْكُرْ] لَيْسَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ بَلْ نَقْلًا لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ وَالْمُقَدَّمَةُ الْمُدْرَجَةُ قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وما بينهما باطلا} إِلَى قَوْلِهِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياته وليتذكر أولو الألباب} . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الِاتِّصَالِ مَعَ أَنَّ فِي الِاتِّصَالِ وُجُوهًا مَذْكُورَةً فِي موضعها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 وَأَلْحَقَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا..} الْآيَةَ، فَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْثِ وَاسْتِبْعَادٌ نَحْوُ الْوَارِدِ فِي سُورَةِ ص، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يُشْبِهُ الِالْتِفَاتَ بِقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فوقهم كيف بنيناها..} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} ، فَبَعْدَ الْعُدُولِ عَنْ مُجَاوَبَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {ذَلِكَ رجع بعيد} وَذِكْرِ اخْتِلَافِهِمُ الْمُسَبَّبِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أمر مريج} ، صَرَفَ تَعَالَى الْكَلَامَ إِلَى نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا..} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا} وَذَلِكَ حِكْمَةٌ تُدْرَكُ مُشَاهَدَةً لَا يُمْكِنُهُمُ التَّوَقُّفُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا حُفِظَ عَنْهُمْ إِنْكَارُهُ فَعِنْدَ تَكَرُّرِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} . وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ أَيْضًا الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ إِلَى خِطَابٍ آخَرَ وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ كَمَا سَبَقَ تَقْسِيمُ الِالْتِفَاتِ:. أَحَدُهَا: الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ لِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ، كقوله تعالى: {جئتنا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء في الأرض} . الثاني: من خطاب الواحد إلىخطاب الجمع: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 الثَّالِثُ: مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ ربكما يا موسى} ، {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} . الرَّابِعُ: مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصلاة وبشر المؤمنين} ، وَفِيهِ انْتِقَالٌ آخَرُ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ ثَنَّى ثُمَّ جَمَعَ ثُمَّ وَحَّدَ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ. وَحِكْمَةُ التَّثْنِيَةِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ هُمَا اللَّذَانِ يُقَرِّرَانِ قَوَاعِدَ النُّبُوَّةِ وَيَحْكُمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ فَخَصَّهُمَا بِذَلِكَ ثُمَّ خَاطَبَ الْجَمِيعَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ قِبْلَةً لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَأْمُورُونَ بِهَا ثم قال لموسى وحده: {وبشر المؤمنين} لِأَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي إِلَيْهِ الْبِشَارَةُ وَالْإِنْذَارُ. الْخَامِسُ: مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} وَقَدْ سَبَقَ حِكْمَتُهُ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} ثم قال: {إما يأتينكم مني هدى} ، وَلَمْ يَقُلْ [مِنَّا] مَعَ أَنَّهُ لِلْجَمْعِ أَوْ لِلْوَاحِدِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ وَحِكْمَتُهُ الْمُنَاسَبَةُ لِلْوَاقِعِ فَالْهُدَى لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ فَنَاسَبَ الْخَاصَّ لِلْخَاصِّ. السَّادِسُ: مِنَ الْجَمْعِ إِلَى التَّثْنِيَةِ، كَقَوْلِهِ: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} إلى قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} . السَّابِعُ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ تَعْقِيبَ الْكَلَامِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُلَاقِيَةٍ لَهُ فِي الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ أَوِ الدُّعَاءِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {وَزَهَقَ الباطل إن الباطل كان زهوقا} والثاني كقوله: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 الثامن: من الماضي إلى الأمر، كقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كل مسجد وادعوه} وَقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزور} التَّاسِعُ: مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْأَمْرِ، تَعْظِيمًا لِحَالِ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَقْبَلُ. وَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {يا هود ما جئتنا ببينة} إلى قوله: {بريء مما تشركون} فإنه إنما قال: {أشهد الله} ،و {اشهدوا} وَلَمْ يَقُلْ [وَأُشْهِدُكُمْ] لِيَكُونَ مُوَازِنًا لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ صَحِيحٌ فِي مَعْنًى يُثْبِتُ التَّوْحِيدَ بِخِلَافِ إِشْهَادِهِمْ فَمَا هُوَ إِلَّا تَهَاوُنٌ بِدِينِهِمْ وَدَلَالَةٌ عَلَى قلة المبالاة به فلذلك عدل عن لفظ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ مُنْكِرًا اشْهَدْ عَلَيَّ أَنِّي أُحِبُّكَ. الْعَاشِرُ: مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، نَحْوَ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ} ، {فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير} ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وَالْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ أَنَّ الْكُفْرَ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا حَصَلَ أَنْ يَسْتَمِرَّ حُكْمُهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِيُفِيدَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ نافيا أَنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ وَلَا كَذَلِكَ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ حُكْمَهُ إِنَّمَا ثَبَتَ حَالَ حُصُولِهِ مَعَ أَنَّ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ إِشْعَارًا بِالتَّكْثِيرِ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 فَيُشْعِرُ قَوْلُهُ: {وَيَصُدُّونَ} أَنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِصَدَدِ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ وَصَدُّوا لَأَشْعَرَ بِانْقِطَاعِ صدهم. الحادي عشر: عكسه، كقوله: {يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} ، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} . قَالُوا: وَالْفَائِدَةُ فِي الْفِعْلِ الْمَاضِي إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ أَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَعْظَمُ مَوْقِعًا لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ وَالْفَائِدَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمَاضِي لِتَتَبَيَّنَ هَيْئَةُ الْفِعْلِ بِاسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ لِيَكُونَ السَّامِعُ كَأَنَّهُ شَاهِدٌ وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْبِيخِ بالماضي بعد قوله: [ينفخ] لِلْإِشْعَارِ بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ وَثُبُوتِهِ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا محالة كقوله: {وبرزوا لله جميعا} والمعنى: يبرزون، وإنما قال: [وحشرناهم] بعد [نسير] [وترى] وَهُمَا مُسْتَقْبَلَانِ لِذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 التَّضْمِينُ. وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ مَعْنَى الشَّيْءِ وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ وَفِي الْأَفْعَالِ وَفِي الْحُرُوفِ فَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ فَهُوَ أَنْ تُضَمِّنَ اسْمًا مَعْنَى اسْمٍ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْمَيْنِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ضُمِّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَحْقُوقٌ بِقَوْلِ الْحَقِّ وَحَرِيصٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَأَنْ تُضَمِّنَ فِعْلًا مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ وَيَكُونَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِحَرْفٍ فَيَأْتِي مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ آخَرَ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ التَّعَدِّي بِهِ فَيُحْتَاجُ إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِهِ أَوْ تَأْوِيلِ الْفِعْلِ لِيَصِحَّ تَعَدِّيهِ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَوْلَى فَذَهَبَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْحَرْفِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ أَوْلَى. وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْفِعْلِ وَتَعْدِيَتَهُ بِمَا لَا يَتَعَدَّى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْحَرْفِ أَوْلَى لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْأَفْعَالِ أَكْثَرُ. مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بها عباد الله} فَضَمَّنَ [يَشْرَبُ] مَعْنَى [يَرْوِي] لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ وَإِلَّا فَـ[يَشْرَبُ] يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَأُرِيدَ بِاللَّفْظِ الشُّرْبُ وَالرَّيُّ مَعًا فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ التَّجَوُّزُ فِي الْحَرْفِ وَهُوَ الْبَاءُ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى [مِنْ] . وَقِيلَ لَا مَجَازَ أَصْلًا بَلِ العين هاهنا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 لَا إِلَى الْمَاءِ نَفْسِهِ نَحْوَ نَزَلْتُ بِعَيْنٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: مَكَانًا يُشْرَبُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّ فِيهِ الْعُدُولَ عَنْ مُسَمَّاهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ كقوله: {جدارا يريد أن ينقض} ، فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ [أَرَادَ] فِي مَعْنَى مُقَارَبَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِرَادَةِ وَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شيئا فقد قارب فعلهولم يُرِدْ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ الْإِرَادَةُ أَلْبَتَّةَ. وَالتَّضْمِينُ أَيْضًا مَجَازٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَجَازٌ خَاصٌّ يُسَمُّونَهُ بِالتَّضْمِينِ تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجَازِ الْمُطْلَقِ. وَمِنَ التَّضْمِينِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: رَفَثْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ سَاغَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا قوله: {هل لك إلى أن تزكى} وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ لَكِنَّ الْمَعْنَى أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الذي يقبل التوبة عن عباده} ، فجاء بـ[من] لِأَنَّهُ ضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَقَوْلُهُ: {إذا خلوا إلى شياطينهم} ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ لَكِنْ ضَمَّنَ [خَلَوْا] مَعْنَى [ذَهَبُوا] [وَانْصَرَفُوا] وَهُوَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ لَقُوا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ [إِلَى] هُنَا بِمَعْنَى [الْبَاءِ] أَوْ بِمَعْنَى [مَعَ] . وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّمَا لَمْ تَأْتِ الْبَاءُ لِأَنَّهُ يُقَالُ خَلَوْتُ بِهِ إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ فَأَتَى بِـ[إِلَى] لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 وقوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} ، قِيلَ: الصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ لألزمن لك صراطك أو لأملكنه لَهُمْ وَ [أَقْعُدُ] وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْدُ عيناك عنهم} ، ضمن [تعد] معنى [تنصرف] فعدى بـ[من] قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ " لَا تَعْدُ عَيْنَيْكَ عَنْهُمْ " بِالنَّصْبِ لِأَنَّ تَعْدُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ عَدَوْتَ وجاوزت بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: جَاوَزَ فُلَانٌ عَيْنَهُ عَنْ فُلَانٍ وَلَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بِنَصْبِ العين لكان اللفظ يتضمنها مَحْمُولًا أَيْضًا عَلَى لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ وإذا كَذَلِكَ فَالَّذِي وَرَدَتْ بِهِ التِّلَاوَةُ مِنْ رَفْعِ الْعَيْنِ يَئُولُ إِلَى مَعْنَى النَّصْبِ فِيهَا إِذْ كان [لا تَعْدُ عَيْنَاكَ] بِمَنْزِلَةِ [لَا تَنْصَرِفْ] وَمَعْنَاهُ لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْعَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ: {وَلَا تُعْجِبْكَ أموالهم} أَسْنَدَ الْإِعْجَابَ إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْمَعْنَى لَا تُعْجَبْ بأموالهم. وقوله: {أو لتعودن في ملتنا} ، ضمن معنى [لتدخلن] أو [لتصيرن] أما قَوْلُ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فيها} فَلَيْسَ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ بَلْ مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا سَبَقَ وَتَأْوِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسْبَةِ فِعْلِ الْبَعْضِ إِلَى الْجَمَاعَةِ أو قال عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ لِكَلَامِهِمْ وَهَذَا أَحْسَنُ. وَقَوْلُهُ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} ضُمِّنَ [لَا تُشْرِكْ] مَعْنَى [لَا تَعْدِلْ] وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيَةُ أَيْ لا تسوى به شيئا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 وقوله: {وأخبتوا إلى ربهم} ضُمِّنَ مَعْنَى [أَنَابُوا] فَعُدِّيَ بِحَرْفِهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قلبها} ضمن {لتبدي به} مَعْنَى [تُخْبِرُ بِهِ] أَوْ [لِتُعْلِمَ] لِيُفِيدَ الْإِظْهَارُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَقَعُ سِرًّا غَيْرَ ظَاهِرٍ. وَقَوْلُهُ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاما محمودا} جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَصْبَ {مَقَامًا} عَلَى الظَّرْفِ عَلَى تَضْمِينِ {يَبْعَثُكَ} مَعْنَى يُقِيمُكَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وشركاءكم} ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ {فَأَجْمِعُوا} بِالْقَطْعِ أَرَادَ فأجمعوا أمركم وشركاءكم كَقَوْلِهِ: *مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا* وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فزع عن قلوبهم} ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَدَّاهُ بِـ[مَنْ] لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى كَشْفِ الْفَزَعِ. وَقَوْلُهُ: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أعزة على الكافرين} ، فَإِنَّهُ يُقَالُ ذَلَّ لَهُ لَا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ هُنَا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّعَطُّفِ وَالتَّحَنُّنِ. وَقَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ يؤلون من نسائهم} ضمن {يؤلون} معنى [يمتعنون] مِنْ وَطْئِهِنَّ بِالْأَلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الملأ الأعلى} أَيْ لَا يُصْغُونَ. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أي أنزل. {فيما فرض الله له} أَيْ أَحَلَّ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 {ومطهرك من الذين كفروا} أَيْ مُمَيِّزُكَ. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي لا يرضى. {استقيموا إليه} أَيْ أَنِيبُوا إِلَيْهِ وَارْجِعُوا. {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أَيْ زَالَ. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فَإِنَّهُ يُقَالُ: خَالَفْتُ زَيْدًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِتَعَدِّيهِ بِالْجَارِّ وَإِنَّمَا جَاءَ مَحْمُولًا عَلَى [يَنْحَرِفُونَ] أَوْ [يَزِيغُونَ] . وَمِثْلُهُ تَعْدِيَةُ [رَحِيمٍ] بِالْبَاءِ فِي نحو: {وكان بالمؤمنين رحيما} حملا على [رءوف] في نحو: {رؤوف رحيم} أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: رَأَفْتُ بِهِ وَلَا تَقُولُ رَحِمْتُ بِهِ وَلَكِنْ لَمَّا وَافَقَهُ فِي الْمَعْنَى تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهُ فِي التَّعْدِيَةِ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ضُمِّنَ مَعْنَى سَائِلٍ. {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى الناس} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضُمِّنَ مَعْنَى [تَحَامَلُوا] فَعَدَّاهُ بِـ[عَلَى] وَالْأَصْلُ فِيهِ مِنْ. تَنْبِيهَانِ:. الْأَوَّلُ: الْأَكْثَرُ أَنْ يُرَاعَى فِي التَّعْدِيَةِ مَا ضُمِّنَ مِنْهُ وَهُوَ الْمَحْذُوفُ لَا الْمَذْكُورُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّفَثُ إلى نسائكم} أَيِ الْإِفْضَاءُ. وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أَيْ يُرْوَى بِهَا وَغَيْرُهُ مِمَّا سَبَقَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وَلَمْ أَجِدْ مُرَاعَاةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} عَلَى قَوْلِ ابْنِ الضَّائِعِ أَنَّهُ ضُمِّنَ [يُقَالُ] مَعْنَى [يُنَادَى] وَ [إِبْرَاهِيمُ] نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ كَيْفَ عُدِّيَ بِاللَّامِ وَالنِّدَاءُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: قُلْتُ لَهُ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: كَيْفَ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالْمُرْضِعِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ضُمِّنَ [حَرَّمَ] الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الْمَنْعُ. فَاعْتُرِضَ كَيْفَ عُدِّيَ بِـ[عَلَى] وَالْمَنْعُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ صُورَةُ اللَّفْظِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّضْمِينَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ مَا سَبَقَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ:" إِعْجَازِ الْقُرْآنِ" هُوَ حُصُولُ مَعْنًى فِيهِ من غير ذكره لَهُ بِاسْمٍ [أَوْ صِفَةٍ] هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ ثُمَّ قَسَّمَهُ إِلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يُفْهَمُ مِنَ الْبِنْيَةِ كَقَوْلِكَ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ. وَالثَّانِي مِنْ مَعْنَى العبارة [من حيث لا يصح إلا به] كَالصِّفَةِ فَضَارِبٌ يَدُلُّ عَلَى مَضْرُوبٍ. قَالَ: وَالتَّضْمِينُ كُلُّهُ إِيجَازٌ، قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَعْلِيمَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُمُورِ بِاسْمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ في كتاب:" المعاني المتبدعة " أن التضمين واقع في القرآن خلافا لماأجمع عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيَانِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأولين لكنا عباد الله المخلصين} . وَيُطْلَقُ التَّضْمِينُ أَيْضًا عَلَى إِدْرَاجِ كَلَامِ الْغَيْرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 أَوْ لِتَرْتِيبِ النَّظْمِ وَيُسَمَّى الْإِبْدَاعَ كَإِبْدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِكَايَاتِ أَقْوَالِ الْمَخْلُوقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا من يفسد فيها ويسفك الدماء} . وَمِثْلُ مَا حَكَاهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {قَالُوا إِنَّمَا نحن مصلحون} . وقوله: {أنؤمن كما آمن السفهاء} . {وقالت اليهود} . {وقالت النصارى} . وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ مَا أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ اللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ. وَيَقْرُبُ مِنَ التَّضْمِينِ فِي إِيقَاعِ فِعْلٍ مَوْقِعَ آخَرَ إِيقَاعُ الظَّنِّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} . {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فئة قليلة} . {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} . {وظن داود أنما فتناه} . {وظنوا ما لهم من محيص} . وَشَرَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ حِسِّيًّا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ يَرَى حَاضِرًا: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ بَعْدُ كالآيات السابقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 قَالَ الرَّاغِبُ فِي "الذَّرِيعَةِ": الظَّنُّ إِصَابَةُ الْمَطْلُوبِ بِضَرْبٍ مِنَ الْإِمَارَةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ يَقِينٍ وَشَكٍّ فَيَقْرُبُ تَارَةً مِنْ طَرَفِ الْيَقِينِ وَتَارَةً مِنْ طَرَفِ الشَّكِّ فَصَارَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُفَسِّرُونَهُ بِهِمَا فَمَتَى رُئِيَ إِلَى طَرَفِ الْيَقِينِ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ أَنَّ الْمُثَقَّلَةُ وَالْمُخَفَّفَةُ فِيهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الذين يظنون أنهم ملاقو الله} {وظنوا أنه واقع بهم} . وَمَتَى رُئِيَ إِلَى الشَّكِّ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ أَنْ الَّتِي لِلْمَعْدُومِينَ مِنَ الْفِعْلِ نَحْوَ ظَنَنْتُ أَنْ يَخْرُجَ. قَالَ: وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو ربهم} لِأَمْرَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَالظَّنِّ فِي جَنْبِ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فِي الدُّنْيَا لَا يَكَادُ يَحْصُلُ إِلَّا لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} وَالظَّنُّ مَتَى كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ قَوِيَّةٍ فَإِنَّهُ يُمْدَحُ بِهِ وَمَتَى كَانَ عَنْ تَخْمِينٍ لَمْ يُمْدَحْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظن إثم} . وَجَوَّزَ أَبُو الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا يَظُنُّ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْيَقِينُ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى أَيْ فَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمُ فَكَيْفَ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فَهَذَا أَبْلَغُ كَقَوْلِهِ: " يَكْفِيكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ " أَيْ لَوْ تَوَهَّمَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَمَا هُنَاكَ مِنْ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّتِهِ لَاجْتَنَبَ الْمَعَاصِيَ فَكَيْفَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ! وَهَذَا أَبْلَغُ. وَقِيلَ: آيَتَا الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَالْبَاقِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ بِخِلَافِ الْيَقِينِ وَإِنِ اشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي وُجُوبِ الجزم بهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} . وَقَدْ جَاءَ عَكْسُهُ وَهُوَ التَّجَوُّزُ عَنِ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا علمنا} ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِلْمًا جَازِمًا بَلِ اعْتِقَادًا ظَنِّيًّا. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَكَانَ يَحْكُمُ بِالظَّنِّ وَبِالظَّاهِرِ. وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالِامْتِحَانِ فِي الْحُكْمِ وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنَّ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الرُّجْحَانُ فَتَجُوزُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 وضع الخبر موضع الطلب فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادهن} . {والمطلقات يتربصن} . {سلام عليكم} . {اليوم يغفر الله لكم} . وقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الْآيَةَ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَاجِبِ. {فلا رفث ولا فسوق} على قراءة نافع أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا. {وَمَا تُنْفِقُونَ إلا ابتغاء وجه الله} ، قَالُوا: هُوَ خَبَرٌ وَتَأْوِيلُهُ نَهْيٌ أَيْ لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {لَا يمسه إلا المطهرون} وكقوله: {لا تضار والدة بولدها} عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَقِيلَ إِنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ أعني – قوله: {لا يمسه} - وَلَكِنْ ضُمَّتْ إِتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ ". وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل لا تعبدون إلا الله} ضُمِّنَ {لَا تَعْبُدُونَ} مَعْنَى: لَا تَعْبُدُوا، بِدَلِيلِ قوله بعده: {وقولوا للناس حسنا} وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الخبر لكن إن كان حسنا معمولا لأحسنوا فعطف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 [قُولُوا] عَلَيْهِ أَوْلَى لِاتِّفَاقِهِمَا لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: [وَيُحْسِنُونَ] فَهُوَ الَّذِي قَبْلَهُ وَالْعَطْفُ على القريب أولى. وقيل: {لَا تَعْبُدُونَ} أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ يُسَارِعُ إِلَى الانتهاء فهومخبر عَنْهُ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تسفكون دماءكم} فِي مَوْضِعِ [لَا تَسْفِكُوا] . وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الصف: {وبشر المؤمنين} عطفا على قوله: {تؤمنون بالله ورسوله} وَلِهَذَا جُزِمَ الْجَوَابُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم في شغل فاكهون} إلى قوله: {وامتازوا اليوم} فَإِنَّ الْمَقَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى تَضْمِينِ [إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم] مَعْنَى الطَّلَبِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ: {فَالْيَوْمَ لَا تظلم نفس شيئا} فإنه كلام وقت الحشر لوروده ومعطوفا بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} وَعَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {لَا تُظْلَمُ نفس شيئا} وَإِنَّ الْخِطَابَ الْوَارِدَ بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تعملون} خِطَابٌ عَامٌّ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {إِنَّ أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} إلى قوله: {أيها المجرمون} مُقَيَّدًا بِهَذَا الْخِطَابِ لِكَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ: {ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} وَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَحْشَرِ ثُمَّ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شغل فاكهون} يُقَالُ لَهُمْ حِينَ يُسَاقُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ بِتَنْزِيلِ مَا هُوَ لِلتَّكْوِينِ مَنْزِلَةَ الْكَائِنِ أَيْ أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤول حالهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 إلى أسعد حال والتقدير حينئذ: فامتازوا عَنْكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي"الْمِفْتَاحِ". قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ طَلَبِيَّةً وَمَعْنَاهَا أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالذَّهَابِ إِلَى الْجَنَّةِ فَلْيَكُنِ الْخِطَابُ مَعَهُمْ لَا مَعَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَضْمِينَ أَصْحَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلطَّلَبِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ نَفْسَهَا طَلَبِيَّةٌ بَلْ مَعْنَاهُ أَنْ يُقَدَّرَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ بَعْدَهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ جَاءَ الْجَزْمُ فِي جَوَابِ الْخَبَرِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ جَازَ ذَلِكَ إِذِ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجَاهِدُوا. وقال ابن جني: لا يكون [يغفر] جوابا لـ[هل أدلكم] وإن كان أبو العباس قد قاله لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلاة. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ الدَّلَالَةُ: سَبَبُ السَّبَبِ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِيءُ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ الْحَاصِلِ تَحْقِيقًا لِثُبُوتِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَلَا بُدَّ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَفِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى نُقِلَتْ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ وَهِيَ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ حَقِيقَةً غَيْرُ مَصْرُوفٍ عَنْ جِهَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ لَيْسَ خَبَرًا عَنِ الْوَاقِعِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِشْكَالِ وَهُوَ احْتِمَالُ عَدَمِ وُقُوعِ مُخْبَرِهِ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ الْخَبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ أَمَّا الْخَبَرُ عَنِ الْحُكْمِ فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ خِلَافُهُ أصلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مدا} . وقوله: {قل أنفقوا طوعا أو كرها} . وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} . وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العالمين يا موسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ} فَقَوْلُهُ: {وَأَلْقِ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {أَنْ بُورِكَ} فَـ[أَلْقِ] وَإِنْ كَانَ إِنْشَاءً لَفْظًا لَكِنَّهُ خَبَرٌ مَعْنًى. وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا جَاءَهَا قِيلَ: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَقِيلَ: أَلْقِ. وَالْمُوجِبُ لِهَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ إِنَّ أَنْ هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لَا تأتي إلا بعد فعل في معنىالقول وَإِذَا قِيلَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَنِ ارْجِعْ وَنَادَانِي أن قم كله بمنزلة: قلت له وَقَالَ لِي قُمْ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ بُورِكَ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَهُوَ إِنْشَاءٌ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّقْدِيرَ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ فتكون مثل {لا تعبدون إلا الله} . وقوله: {يا ليتنا نرد ولا نكذب} إلى قوله: {وإنهم لكاذبون} فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ وَرَدَ التَّمَنِّي عَلَى التَّكْذِيبِ وهو إنشاء؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْعِدَةِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى مِنَ الشَّرْطِ والخبر كأنه قيل: إن زددنا لَمْ نُكَذِّبْ وَآمَنَّا وَالشَّرْطُ خَبَرٌ فَصَحَّ وُرُودُ التَّكْذِيبِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أَيْ وَنَحْنُ حَامِلُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وَالْكَذِبُ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَوْلُهُ: {أَسْمِعْ بهم وأبصر} تَقْدِيرُهُ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ! لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُ دَلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا ظُهُورُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْأَوَّلِ وَفِعْلُ الْأَمْرِ لَا يُبْرَزُ فَاعِلُهُ أَبَدًا. وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْأَمْرَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ دَاعِيَةً لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَذَلِكَ فَإِذَا عُبِّرَ عَنِ الْخَبَرِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِالدَّاعِيَةِ فَيَكُونُ ثُبُوتُهُ وَصِدْقُهُ أَقْرَبَ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِكَلَامِ الْعَرَبِ لَا لِكَلَامِ اللَّهِ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ الدَّاعِيَةُ لِلْفِعْلِ. بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَبْلَغُ؟ هَذَا الْقِسْمُ أَوِ الَّذِي قَبْلَهُ؟. قَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مدا} الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ نَحْوُ إِنْ زُرْتِنَا فَلْنُكْرِمْكَ يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْبُدُونَ إلا الله} وُرُودُ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَأَنَّهُ سُورِعَ فِيهِ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ "مُسْلِمٍ" فِي بَابِ تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها: وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ "، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ولا يسوم بالواو ولا يَخْطُبُ بِالرَّفْعِ وَكِلَاهُمَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ لِأَنَّ خَبَرَ الشَّارِعِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ خِلَافِهِ وَالنَّهْيُ قَدْ يَقَعُ مُخَالَفَتُهُ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَامِلُوا هَذَا النَّهْيَ مُعَامَلَةَ خَبَرِ الْحَتْمِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا " يَجُوزُ فِي تَسْأَلُ الرَّفْعُ وَالْكَسْرُ وَالْأَوَّلُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: " لَا يَخْطُبُ وَلَا يَسُومُ " وَالثَّانِي عَلَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ. انْتَهَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 وضع النداء موضع التعجب كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد} قال الفراء: معناه: فيالها مِنْ حَسْرَةٍ وَالْحَسْرَةُ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ النَّدَمِ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَبْقَى حَسِيرًا. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ:" الْمُبْتَدَأِ " عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَصْعَبِ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ لَا تُنَادَى وَإِنَّمَا تُنَادَى الْأَشْخَاصُ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّنْبِيهُ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ كقوله: يا عجبا لم فعلت! {يا حسرتى على ما فرطت} وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: الْعَجَبُ. قِيلَ: فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ يَا عَجَبًا احْضُرْ يَا حَسْرَةً احْضُرِي!. وقرأ الحسن {يا حسرة العباد} . ومنهم قَالَ: الْأَصْلُ [يَا حَسْرَتَاهُ] ثُمَّ أَسْقَطُوا الْهَاءَ تَخْفِيفًا وَلِهَذَا قَرَأَ عَاصِمٌ {يَا أَسَفَاهُ عَلَى يُوسُفَ} . وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِ:" الْفَسْرِ ": مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَسْرَةُ مِمَّا يَصِحُّ نِدَاؤُهُ لَكَانَ هَذَا وَقْتَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا بشرى} ، فَقَالُوا: مَعْنَى النِّدَاءِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَوْكِيدُ الْقِصَّةِ فَإِذَا قُلْتَ يَا عَجَبًا! فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: اعْجَبُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا قَوْمُ أَبْشِرُوا. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي:" الْخَاطِرِيَّاتِ": وَقَدْ توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 لمفعول به، كقوله تعالى: {ولكم فيها منافع} بعد قوله: {لذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها} الْمَعْنَى: وَلِتَنْتَفِعُوا بِهَا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {لِتَرْكَبُوا منها} وَعَلَى هَذَا قَالَ: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صدوركم} . وكذلك قوله: {ومنها تأكلون} أَيْ وَلِتَأْكُلُوا مِنْهَا وَلِذَلِكَ أَتَى وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تحملون فَعَطَفَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمة واحدة وأنا ربكم} أَيْ وَلِأَنِّي رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَوَضَعَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ لَهُ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَعَلُّقُ مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المشركين ورسوله} وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ الِابْتِدَاءِ لِجَوَازِ تَقْدِيرِ وَأَذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ وَبِأَنَّ رسوله كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 وَضْعُ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ. لِأَنَّ الْجُمُوعَ يَقَعُ بَعْضُهَا مَوْقِعَ بَعْضٍ لِاشْتِرَاكِهَا فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِلْقِلَّةِ وَغُرَفُ الْجَنَّةِ لَا تُحْصَى. وَقَوْلِهِ: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} وَرُتَبُ النَّاسِ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَشْرَةِ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} . وقوله: {واستيقنتها أنفسهم} وَهُوَ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْثِيرًا لَهَا وَكَانَ دُخُولُهَا عَلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِهَا عَلَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ إِشَارَةً إِلَى قِلَّةِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ!. وَقَدْ نص سبحانه على قتلهم بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فَيَكُونُ التَّكْثِيرُ الدَّاخِلُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِي الغرفات} لَا مِنْ جِهَةِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا اقْتَضَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمُوعَ التَّكْثِيرِ الْأَرْبَعَةَ وَجَمْعَيِ التَّصْحِيحِ - أَعْنِي جَمْعَ التَّأْنِيثِ وَجَمْعَ التَّذْكِيرِ - كُلُّ ذَلِكَ لِلْقِلَّةِ أَمَّا جُمُوعُ التَّكْسِيرِ فَبِالْوَضْعِ وَأَمَّا جَمْعَا التَّصْحِيحِ، فَلِأَنَّهُمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 أَقْرَبُ إِلَى التَّثْنِيَةِ، وَهِيَ أَقَلُّ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمُشَابِهُ لَهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْقِلَّةِ وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْجُمُوعِ فَيَرِدُ تَارَةً لِلْقِلَّةِ وَتَارَةً لِلْكَثْرَةِ بِحَسْبِ الْقَرَائِنِ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضالين} . {هدى للمتقين} . {وأولئك هم المفلحون} ، {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} . {إنما نحن مستهزئون} {وما كانوا مهتدين} {وكنتم أمواتا} {وعلم آدم الأسماء كلها} {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بسمعهم وأبصارهم} {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} {إذا طلقتم النساء} {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} {وبينات من الهدى} {واتقون يا أولي الألباب} {باللغو في أيمانكم} {أن ينكحن أزواجهن} {حافظوا على الصلوات} فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ هَذَا مِنْهُ بَلْ هِيَ لِلْقِلَّةِ لِأَنَّهَا خَمْسٌ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النساء} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 {فيما عرضتم به من خطبة النساء} فَالْمُرَادُ مِنْهَا وَاحِدٌ وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَدِهِمَا الْجَوَابُ عَنِ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} {إن تبدوا الصدقات} {الصابرين والصادقين} الآية. {والمؤمنين والمؤمنات} الْآيَةَ. وَلَا تُحْصَى كَثْرَةً. وَمِنْ شَوَاهِدِ مَجِيءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ قَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وَحُكِيَ أَنَّ النَّابِغَةَ قَالَ لَهُ: قَدْ قَلَّلْتَ جفتاك وَأَسْيَافَكَ ... وَطَعَنَ الْفَارِسِيُّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِوُجُودِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ فِيمَا لَهُ جمع كثرة وفيما لا جمع له كثرة فِي كَلَامِهِمْ وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ قَالَ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِحَسَّانَ تَجَنُّبُ اللَّفْظِ الَّذِي أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِلَّةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي اللِّسَانِ وَضْعُهُ لِقَرِينَةٍ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ مَدْحٍ أَوْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْقِلَّةُ لِمَعْنَى الْكَثْرَةِ لَكِنْ لَيْسَ فِي كُلِّ مَقَامٍ. وَمِنَ الْمُشْكِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كثيرة} فَإِنَّ أَضْعَافًا جَمْعُ قِلَّةٍ فَكَيْفَ جَاءَ بَعْدَ كَثْرَةٍ!. وَالْجَوَابُ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ وَهَذَا مِنْهُ. تَنْبِيهَانِ:. الْأَوَّلُ: إِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ لَهُ جمع كثرة فإن لم يكن فلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 كقوله: {أياما معدودات} فَإِنَّ أَيَّامًا أَفْعَالٌ مَعَ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ لَكِنْ لَيْسَ لِلْيَوْمِ جَمْعٌ غَيْرُهُ وَمِنْ ثَمَّ أَفْرَدَ السَّمْعَ وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم} لِأَنَّ فَعْلًا سَاكِنَ الْعَيْنِ صَحِيحَهَا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ غَالِبًا وَلَيْسَ لَهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْجِنْسِ عَلَى الْجَمْعِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنْفُسَكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا فِي الْقُرْآنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ {وإذا النفوس زوجت} وحكمته هنا ظاهرة لأن المراد استعياب جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي الْمَحْشَرِ. وَنَظِيرُهُ: {مِنْ كُلِّ الثمرات} لإمكان الثمار وليس رأس آية. منه: {آيات محكمات} لِإِمْكَانِ آيٍ وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ لِطَلَبِ الْمُشَاكَلَةِ فقد قال تعالى بعده: {وأخر متشابهات} فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْمُشَاكَلَةِ لِإِمْكَانِ أُخْرَيَاتٌ. وَكَذَلِكَ قوله: {تجري من تحتها الأنهار} وَلَيْسَ رَأْسَ آيَةٍ وَلَا فِيهِ مُشَاكَلَةٌ لِإِمْكَانِ الْأَنْهُرِ. وَقَدْ جَاءَ أَنْفُسُ لِلْقِلَّةِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَنْفُسَنَا وأنفسكم} وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسَانِ مِنْ بَابِ: {فَقَدْ صَغَتْ قلوبكما} . الثَّانِي إِنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمُنَكَّرِ أَمَّا الْمُعَرَّفُ فَيُسْتَغْنَى بِالْعُمُومِ عَنْ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَخْدِشُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا سَبَقَ جَعْلُهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الثمرات} : إِنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ وُضِعَ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ [الْ] فِي الثَّمَرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَصِيرُ كَالثِّمَارِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى ارْتِكَابِ وَضْعِ جَمْعِ قِلَّةٍ مَوْضِعَ جَمْعِ كَثْرَةٍ وَكَذَلِكَ بَيْتُ حسان السابق فإن الجفنات معرفة [أل] وأسيافنا مضاف ليعم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ. يَكْثُرُ فِي تَأْوِيلِهِ بِمُذَكَّرٍ، كَقَوْلِهِ تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه} عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْوَعْظِ. وَقَوْلِهِ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً ميتا} عَلَى تَأْوِيلِ الْبَلْدَةِ بِالْمَكَانِ وَإِلَّا لَقَالَ: [مَيْتَةٌ] . وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا ربي} أَيِ الشَّخْصُ أَوِ الطَّالِعُ. وَقَوْلِهِ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بينة من ربكم} أَيْ بَيَانٌ وَدَلِيلٌ وَبُرْهَانٌ. وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عليهم مدرارا} . وَإِنَّمَا يُتْرَكُ التَّأْنِيثُ كَمَا يُتْرَكُ فِي صِفَاتِ الْمُذَكَّرِ لَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مِعْطَارٌ لِأَنَّ السَّمَاءَ بِمَعْنَى الْمَطَرِ مُذَكَّرٌ قَالَ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وَيُجْمَعُ عَلَى أَسْمِيَةٍ وَسُمِّيٍّ قَالَ الْعَجَّاجُ: تَلُفُّهُ الْأَرْوَاحُ وَالسُّمِّيُّ ... وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إ لى قوله: {فارزقوهم منه} ذَكَّرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْقِسْمَةِ إِلَى الْمَقْسُومِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مما في بطونه} ذَهَبَ بِالْأَنْعَامِ إِلَى مَعْنَى النَّعَمِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قريب من المحسنين} ، وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ذُكِّرَتْ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْعَرَبَ تُفَرِّقُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَكَانِ فَيَقُولُونَ: هَذِهِ قَرِيبَتِي مِنَ النَّسَبِ وَقَرِيبِي مِنَ الْمَكَانِ فَعَلُوا ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ قُرْبِ النَّسَبِ وَالْمَكَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا قَرُبَ مِنْ مَكَانٍ وَنَسَبٍ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ الْقُرْبَ مِنَ الْمَكَانِ قُلْتَ زَيْدٌ قَرِيبٌ مِنْ عَمْرٍو وَهِنْدٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْعَبَّاسِ فَكَذَا فِي النَّسَبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذُكِّرَ [قَرِيبٌ] لِتَذْكِيرِ الْمَكَانِ أَيْ مَكَانًا قَرِيبًا. وَرَدَّهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَنُصِبَ [قَرِيبٌ] عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَطَرُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَقْتَضِيهِ فَحُمِلَ الْمُذَكَّرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغُفْرَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقِيلَ لِأَنَّهَا وَالرَّحِمَ سَوَاءٌ. وَمِنْهُ: {وَأَقْرَبَ رحما} فَحَمَلُوا الْخَبَرَ عَلَى الْمَعْنَى وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هذا رحمة من ربي} . وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ وَالْمَصَادِرُ كَمَا لَا تُجْمَعُ لَا تُؤَنَّثُ. وَقِيلَ: [قَرِيبٌ] عَلَى وَزْنِ [فَعِيلٌ] [وفعيل] يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ حَقِيقِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهِيَ رَمِيمٌ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَحْذُوفِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّ مَكَانَ رَحْمَةِ اللَّهِ قَرِيبٌ ثُمَّ حَذَفَ الْمَكَانَ وَأَعْطَى الرَّحْمَةَ إِعْرَابَهُ وَتَذْكِيرَهُ. وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ أَيْ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ شَيْءٌ قَرِيبٌ أَوْ لَطِيفٌ أَوْ بِرٌّ أَوْ إِحْسَانٌ. وَقِيلَ: مِنْ بَابِ إِكْسَابِ الْمُضَافِ حُكْمَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَالِحًا لِلْحَذْفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالثَّانِي وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ كَقَوْلِهِ: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ فَقَالَ: تَسَفَّهَتْ وَالْفَاعِلُ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ اكْتَسَبَ تَأْنِيثًا مِنَ الرِّيَاحِ إِذِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ جَائِزٌ وَإِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا تُعْطِي الْمُضَافَ تَأْنِيثًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَلَأَنْ تُعْطِيَهُ تَذْكِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَحَقُّ وَأَوْلَى لِأَنَّ التَّذْكِيرَ أَوْلَى وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهُ. وَقِيلَ: مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ لِكَوْنِ الْآخَرِ تَبَعًا لَهُ وَمَعْنًى من معاينة. وَمِنْهُ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أعناقهم لها خاضعين} فَاسْتُغْنِيَ عَنْ خَبَرِ الْأَعْنَاقِ بِخَبَرِ أَصْحَابِهَا وَالْأَصْلُ هُنَا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَاسْتُغْنِيَ بِخَبَرِ الْمَحْذُوفِ عَنْ خَبَرِ الْمَوْجُودِ وَسَوَّغَ ظُهُورَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَمَجَازَهَا الْوَقْتُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِتْيَانُهَا قَرِيبٌ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {بريح صرصر عاتية} وَلَمْ يَقُلْ: [صَرْصَرَةٍ] كَمَا قَالَ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتية} لِأَنَّ الصَّرْصَرَ وَصْفٌ مَخْصُوصٌ بِالرِّيحِ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهَا فَأَشْبَهَ بَابَ [حَائِضٍ] وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ [عَاتِيَةٍ] فَإِنَّ غَيْرَ الرِّيحِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُؤَنَّثَةِ يُوصَفُ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ به} فَفِي تَذْكِيرِ [مُنْفَطِرٌ] خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:. أَحَدُهَا: لِلْفَرَّاءِ أَنَّ السَّمَاءَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ فَجَاءَ [مُنْفَطِرٌ] عَلَى التَّذْكِيرِ. وَالثَّانِي: لِأَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ التَّاءُ مُفْرَدُهُ سَمَاءَةٌ وَاسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ نَحْوَ: {أعجاز نخل منقعر} . وَالثَّالِثُ: لِلْكِسَائِيِّ أَنَّهُ ذُكِّرَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى السَّقْفِ. وَالرَّابِعُ: لِأَبِي عَلِيٍّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ أَيْ ذَاتُ انْفِطَارٍ كَقَوْلِهِمْ امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ أَيْ ذَاتُ رِضَاعٍ. وَالْخَامِسُ: لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ صِفَةٌ لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ مُذَكَّرٍ أَيْ شَيْءٌ مُنْفَطِرٌ. وَسَأَلَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ بِحَضْرَةِ الْمُتَوَكِّلِ قَوْمًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ قَادِمٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بغيا} : كيف جاء بغيرها. وَنَحْنُ نَقُولُ: امْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْفَاعِلُ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ [الْقَتِيلِ] الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى [الْمَفْعُولِ] ؟ فَأَجَابَ ابْنُ قَادِمٍ وَخَلَطَ فَقَالَ لَهُ الْمُتَوَكِّلُ: أَخْطَأْتَ قُلْ يَا بَكْرُ لِلْمَازِنِيِّ قَالَ: بَغِيٌّ لَيْسَ لِـ[فَعِيلٍ] وَإِنَّمَا هُوَ [فَعُولٌ] وَالْأَصْلُ فِيهِ [بَغُويٌ] فَلَمَّا الْتَقَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وسبقت إحدهما بِالسُّكُونِ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَقِيلَ: [بَغِيٌّ] كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 صَبُورٌ بِغَيْرِ هَاءٍ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى صَابِرَةٍ فَهَذَا حُكْمُ فَعُولٍ إِذَا عَدَلَ عَنْ فَاعِلِهِ فَإِنْ عَدَلَ عَنْ مَفْعُولِهِ جَاءَ بِالْهَاءِ كَمَا قَالَ. *مِنْهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً* بِمَعْنَى [مَحْلُوبَةٍ] حَكَاهُ التَّوْحِيدِيُّ فِي "الْبَصَائِرِ". وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {من يحيي العظام وهي رميم} وَلَمْ يَقُلْ: [رَمِيمَةٌ] لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلِهِ وَكُلَّمَا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ جِهَتِهِ وَوَزْنِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ فَاعِلِهِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بغيا} أَسْقَطَ الْهَاءَ لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ عَنْ [بَاغِيَةٍ] . وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إِنَّ الضَّمِيرَ فِي ذَلِكَ يَعُودُ لِلرَّحْمَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَ [لِتِلْكَ] لِأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ ربي} وَلَمْ يَقُلْ [هَذِهِ] عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {إِلَّا من رحم} كَمَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ [يرحم] ويجوز رجوع الكتابة إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَ وَالتَّذْكِيرُ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَلِذَلِكَ خلقهم} كِنَايَةً عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَكَوْنِهِمْ فِيهِ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ لِهَذَا خَلَقَهُمْ. وَيُطَابِقُ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال: فأما قوله: {ولا يزالون مختلفين} فَمَعْنَاهُ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ وَالذَّهَابُ عَنِ الْحَقِّ فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 بِالْهَوَى وَالشُّبُهَاتِ. وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ فِيهِ مَعْنًى غَرِيبًا فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ خَلَفَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ يَخْلُفُ سَلَفَهُمْ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ قَوْلُكَ: خَلَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَوْلُكَ اخْتَلَفُوا كما سواء قولك: قتل بعضهم بعضا وقولهم: اقْتَتَلُوا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا أَفْعَلُهُ مَا اخْتَلَفَ العصران، [والجديدان] ، أَيْ جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْآخَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لعبرة نسقيكم مما في بطونه} ، فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ مِنْ بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ذَكَّرَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى يَعْنِي مَعْنَى النَّعَمِ وَقِيلَ: الْأَنْعَامُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَرَادَ الْبَعْضَ أَيْ مِنْ بُطُونِ أَيِّهَا كَانَ ذَا لَبَنٍ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ تَذْكِيرَ الْأَنْعَامِ لَكِنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى النَّعَمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هم فيها} فَأَنَّثَ [الْفِرْدَوْسَ] وَهُوَ مُذَكَّرٌ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَنَّةِ. وَقَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالها} ، فَأَنَّثَ [عَشْرُ] حَيْثُ جُرِّدَتْ مِنَ الْهَاءِ مَعَ إِضَافَتِهِ إِلَى الْأَمْثَالِ وَوَاحِدُهَا مُذَكَّرٌ وَفِيهِ أَوْجُهٌ:. أَحَدُهَا: أَنَّثَ لِإِضَافَةِ الْأَمْثَالِ إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَاتِ وَالْمُضَافُ يَكْتَسِبُ أَحْكَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فتكون كقوله: {يلتقطه بعض السيارة} . وَالثَّانِي: هُوَ مِنْ بَابِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَمْثَالَ فِي الْمَعْنَى مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ لَا مَحَالَةَ فَلَمَّا أُرِيدَ تَوْكِيدُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُطِيعِ وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ شَيْءٌ مِنْ علمه كَأَنَّ الْحَسَنَةَ الْمُنْتَظَرَةَ وَاقِعَةٌ جُعِلَ التَّأْنِيثُ فِي أَمْثَالِهَا مُنَبِّهَةً عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ وَإِشَارَةً إِلَيْهِ كما جعلت الهاء في قولهم: رواية وَعَلَّامَةٌ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَعْنَى الْمُؤَنَّثِ الْمُرَادِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالنِّهَايَةُ وَلِذَلِكَ أَنَّثَ الْمَثَلَ هُنَا تَوْكِيدًا لِتَصْوِيرِ الْحَسَنَةِ فِي نَفْسِ الْمُطِيعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا حُذِفَ وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ وَرُوعِيَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كَمَا يُرَاعَى الْمُضَافُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} ، أَيْ أَوْ [كَذِي ظُلُمَاتٍ] وَرَاعَاهُ فِي قَوْلِهِ: {يغشاه موج} ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ. وَأَمَّا ابْنُ جِنِّيٍّ فَذَكَرَ فِي "الْمُحْتَسِبِ" الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فهلا حملته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: [فَلَهُ عَشْرُ حسنات وأمثالها] ؟ قيل: حذف وإقامة الموصوف مَقَامَهُ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ فِي الْقِيَاسِ وَأَكْثَرُ مَا أَتَى فِي الشِّعْرِ وَلِذَلِكَ حُمِلَ {دَانِيَةً} مِنْ قوله: {ودانية عليهم ظلالها} ، عَلَى أَنَّهُ وَصْفُ جَنَّةٍ أَوْ [وَجَنَّةً دَانِيَةً] عطف على [جنة] من قولهم: {وجزاهم بما صبروا جنة} ، لَمَّا قَدَّرَ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةَ الصِّفَةِ مَقَامَهُ حَتَّى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرائك} فَكَانَتْ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى حَالٍ. وَفِي "كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ" لِلْأَصْبِهَانِيِّ: حَذْفُ الْمَوْصُوفِ هُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى حُسْنَ [ثَلَاثَةِ مُسْلِمِينَ] ، بحذف الموصوف. وقوله تعالى حكاية عن لقمان: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة} فَأَنَّثَ الْفِعْلَ الْمُسْنَدَ لِـ[مِثْقَالَ] وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَلَكِنْ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى [حَبَّةٍ] اكْتَسَبَ مِنْهُ التَّأْنِيثَ فَسَاغَ تَأْنِيثُ فِعْلِهِ. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أَنَّ التَّأْنِيثَ فِي [ذَائِقَةُ] بِاعْتِبَارِ مَعْنَى [كُلُّ] لِأَنَّ مَعْنَاهَا التَّأْنِيثُ قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ نُفُوسٌ وَلَوْ ذَكَّرَ عَلَى لَفْظِ [كُلُّ] جَازَ يَعْنِي - أَنَّهُ لَوْ قِيلَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقٌ جَازَ. وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ [كُلُّ] إِذَا كَانَتْ نَكِرَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْإِبْدَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكم} ، فَذَكَّرَ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى الْإِخْفَاءِ وَلَوْ قَصَدَ الصَّدَقَاتِ لَقَالَ: [فَهِيَ] وَإِنَّمَا أَنَّثَ [هِيَ] وَالَّذِي عَادَ إِلَيْهِ مُذَكَّرٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَإِبْدَاؤُهَا نِعْمَ مَا هِيَ كَقَوْلِهِ: الْقَرْيَةَ اسْأَلْهَا. ومنه: {سعيرا} وهو مذكر، ثم قال: {إذا رأتهم} فَحَمَلَهُ عَلَى النَّارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} ، فَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي اللَّفْظِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنَّمَا قَالَ: {خَلَقَهُنَّ} ، بِالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّهُ أُجْرِيَ عَلَى طَرِيقِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ وَلَمْ يُجْرَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّهُ فِيمَا لَا يَعْقِلُ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: {الذي خلقكم من نفس واحدة} : إِنَّ الْمُرَادَ آدَمُ فَأَنَّثَهُ رَدًّا إِلَى النَّفْسِ. وقد قرىء شَاذًّا [مِنْ نَفْسِ وَاحِدٍ] . وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ " اقْتَرَبَ " بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْمُبَرِّدِ، سُئِلَ عَنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ، مِنْهَا: مَا الْفَرْقُ بين قوله تعالى: {جاءتها ريح عاصف} وقوله: {ولسليمان الريح عاصفة} وقوله: {أعجاز نخل خاوية} و {كأنهم أعجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 نخل منقعر} ، فَقَالَ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَلَكَ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا وَلَكَ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثًا وَهَذَا مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ تَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَتَارَةً يُلْحَظُ مَعْنَى الْجِنْسِ فَيُذَكَّرُ وَتَارَةً مَعْنَى الْجَمَاعَةِ فَيُؤَنَّثُ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شعيب: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} ، وفي قصة صالح: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} . وقال: {إن البقر تشابه علينا} وَقُرِئَ: [تَشَابَهَتْ] . وَأَبْدَى السُّهَيْلِيُّ لِلْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ مَعْنًى حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّمَا حُذِفَتْ مِنْهُ لِأَنَّ [الصَّيْحَةَ] فِيهَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ إِذْ كَانَتْ مُنْتَظِمَةً بقوله: {ومن خزي يومئذ} فَقَوِيَ التَّذْكِيرُ بِخِلَافِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا ذَلِكَ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ: بِأَنَّ الصَّيْحَةَ يُرَادُ بِهَا الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الصِّيَاحِ فَيَجِيءُ فِيهَا التَّذْكِيرُ فَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَحْدَةُ مِنَ الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ التَّأْنِيثُ أَحْسَنَ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْعَذَابِ الَّذِي أَصَابَ بِهِ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ كُلُّهَا مُفْرَدَةُ اللَّفْظِ:. أَحَدُهَا: الرَّجْفَةُ فِي قوله: {فأخذتهم الرجفة} . وَالثَّانِي: الظُّلَّةُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} . وَالثَّالِثُ: الصَّيْحَةُ وَجَمَعَ لَهُمُ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّ الرَّجْفَةَ بَدَأَتْ بِهِمْ فَأَصْحَرُوا فِي الْفَضَاءِ خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ عَلَيْهِمْ فَضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ بِحَرِّهَا وَرُفِعَتْ لَهُمُ الظُّلَّةُ فَهُرِعُوا إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنَ الشمس فنزل عليهم العذاب وفيه الصيحة فكان ذكر الصيحةمع الرَّجْفَةِ وَالظُّلَّةِ أَحْسَنَ مِنْ ذِكْرِ الصِّيَاحِ فَكَانَ ذِكْرُ التَّاءِ أَحْسَنَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عليه الضلالة} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} . قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:. لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ:. أَمَّا اللَّفْظِيُّ، فَهُوَ أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْفِعْلِ والفاعل في قوله: {حق عليهم الضلالة} ، أكثر منها في قوله: {حقت عليه الضلالة} وَالْحَذْفُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَوَاجِزِ أَحْسَنُ. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ، فَهُوَ أَنَّ [مَنْ] فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حقت عليه الضلالة} رَاجِعَةٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا، بِدَلِيلِ {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا} ، ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} ، أَيْ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ وَلَوْ قَالَ: [ضَلَّتْ] لَتَعَيَّنَتِ التَّاءُ - وَالْكَلَامَانِ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا - فَكَانَ إِثْبَاتُ التَّاءِ أَحْسَنَ مِنْ تَرْكِهَا لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيمَا هُوَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُتَأَخِّرِ. وَأَمَّا {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} ، فَالْفَرِيقُ مُذَكَّرٌ وَلَوْ قَالَ: [ضَلُّوا] لَكَانَ بِغَيْرِ تاء وقوله: {حق عليهم الضلالة} فِي مَعْنَاهُ، فَجَاءَ بِغَيْرِ تَاءٍ وَهَذَا أُسْلُوبٌ لطيف من أساليب العرب أن يدعو حُكْمَ اللَّفْظِ الْوَاجِبِ فِي قِيَاسِ لُغَتِهِمْ إِذَا كَانَ فِي مُرَكَّبِهِ كَلِمَةٌ لَا يَجِبُ لَهَا حُكْمُ ذَلِكَ الْحُكْمِ. تَنْبِيهٌ:. جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكِّرُوا الْقُرْآنَ. فَفَهِمَ مِنْهُ ثَعْلَبٌ أَنَّ مَا احْتُمِلَ تَأْنِيثُهُ وَتَذْكِيرُهُ كَانَ تَذْكِيرُهُ أَجْوَدَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ تَذْكِيرِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ لِكَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ بِالتَّأْنِيثِ: {النار وعدها الله} {والتفت الساق بالساق} {قالت لهم رسلهم} . وَإِذَا امْتَنَعَ إِرَادَةُ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ، فَالْحَقِيقِيُّ أَوْلَى. قَالُوا: وَلَا يَسْتَقِيمُ إِرَادَةُ أَنَّ مَا احْتَمَلَ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ غُلِّبَ فِيهِ التَّذْكِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {والنخل باسقات} . {أعجاز نخل خاوية} ، فَأَنَّثَ مَعَ جَوَازِ التَّذْكِيرِ قَالَ تَعَالَى: {أَعْجَازُ نخل منقعر} ، {من الشجر الأخضر} قَالَ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا فُهِمَ بَلِ الْمُرَادُ الْمَوْعِظَةُ وَالدُّعَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْجَارُّ وَالْمَقْصُودُ ذَكِّرُوا النَّاسَ بِالْقُرْآنِ أَيِ ابْعَثُوهُمْ عَلَى حِفْظِهِ كَيْلَا يَنْسَوْهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ثَعْلَبٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَلَمْ يُحْتَجْ فِي التَّذْكِيرِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمُصْحَفِ ذُكِّرَ نَحْوُ: {وَلَا يقبل منها شفاعة} . قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ هَذَا أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ كَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ ذَهَبُوا إِلَى هَذَا فَقَرَءُوا مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِالتَّذْكِيرِ، نَحْوَ: {يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألسنتهم} وهذا في غير الحقيقي. ضابط الثأنيث. ضَابِطُ التَّأْنِيثِ ضَرْبَانِ:. حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُهُ، فَالْحَقِيقِيُّ: لَا يُحْذَفُ التَّأْنِيثُ مِنْ فِعْلِهِ غَالِبًا إِلَّا أَنْ يَقَعَ فَصْلٌ نَحْوُ:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 قَامَ الْيَوْمَ هِنْدٌ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْفَصْلُ حَسُنَ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ مَعَ الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ جَمْعًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْحَقِيقِيِّ فَالْحَذْفُ فِيهِ مَعَ الْفَصْلِ حَسَنٌ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ موعظة} ، فَإِنْ كَثُرَ الْفَصْلُ ازْدَادَ حُسْنًا، وَمِنْهُ: {وَأَخَذَتِ الذين ظلموا الصيحة} وَيَحْسُنُ الْإِثْبَاتُ أَيْضًا نَحْوُ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصيحة} فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَذْفِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُ عَلَيْهِ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَعَكْسُهُ. قَدْ سَبَقَ مِنْهُ كَثِيرٌ فِي نَوْعِ الِالْتِفَاتِ وَيَغْلِبُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ مَدْلُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الْمُهَدِّدَةِ الْمُتَوَعَّدِ بِهَا فَيَعْدِلُ فِيهِ إِلَى لَفْظِ الْمَاضِي تَقْرِيرًا وَتَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ويوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} . وَقَوْلِهِ فِي الزُّمَرِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} . وقوله: {وبرزوا لله جميعا} . وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وحشرناهم} أَيْ نَحْشُرُهُمْ. وَقَوْلِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا} . ثُمَّ تَارَةً يُجْعَلُ الْمُتَوَقَّعُ فِيهِ كَالْوَاقِعِ فَيُؤْتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي مُرَادًا بِهِ الْمُضِيُّ تَنْزِيلًا لِلْمُتَوَقَّعِ مَنْزِلَةَ مَا وَقَعَ فَلَا يَكُونُ تَعْبِيرًا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي بَلْ جُعِلَ الْمُسْتَقْبَلُ مَاضِيًا مُبَالَغَةً. وَمِنْهُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . {ونادى أصحاب الجنة} وَنَحْوُهُ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي مُرَادًا بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ فَهُوَ مَجَازٌ لَفْظِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 {ويوم ينفخ في الصور ففزع} ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُضِيُّ لِمُنَافَاةِ {يَنْفَخُ} الَّذِي هُوَ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْوَاقِعِ. وَفَائِدَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَاضِي الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِحْضَارِ التَّحَقُّقِ وَإِنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ لِتَحَقُّقِهِ أَنْ يُعَبَّرَ عن بِالْمَاضِي وَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ وَالثَّانِيَ لَا مَجَازَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قال الله يا عيسى} ، أَيْ يَقُولُ، عَكَسَهُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يُرَادُ بِهِ الديمومة والاستمرار كقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} . وقوله: {ثم قال له كن فيكون} ، أَيْ فَكَانَ اسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ تَكَوُّنِهِ. وَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} ، أَيْ مَا تَلَتْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} ، أَيْ عَلِمْنَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّقْلِيلُ فِي عِلْمِ اللَّهِ؟. قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ وَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي فَ قَدْ فِيهِ لِلتَّحْقِيقِ لَا التَّقْلِيلِ. وَقَوْلِهِ: {فَلِمَ تقتلون أنبياء الله} أَيْ فَلِمَ قَتَلْتُمْ!. وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أَيْ لَمْ يَتَعَارَفُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {مُنْفَكِّينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْتَهِينَ وَقِيلَ: زَائِلِينَ مِنَ الدُّنْيَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ [مَا انفك] و [مازال] إِنَّمَا هُوَ مِنِ انْفِكَاكِ الشَّيْءِ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ. وَقَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم} ، الْمَعْنَى: فَلِمَ عَذَّبَ آبَاءَكُمْ بِالْمَسْخِ وَالْقَتْلِ؟ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ لِأَنَّ الْجَاحِدَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أُعَذَّبُ لَكِنِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا قَدْ كَانَ. وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فتصبح الأرض مخضرة} . فعدل عن لفظ [أصبحت] إلى [تصبح] قصد لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ اخْضِرَارِ الْأَرْضِ لِأَهَمِّيَّتِهِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْزَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّهُ يَجِبُ نَصْبُ الْفِعْلِ الْمَقْرُونِ بِالْفَاءِ إذا وقع في جواب الاستفهام، كَقَوْلِهِ: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} وَ [فَتُصْبِحُ] هُنَا مَرْفُوعٌ؟. قُلْتُ: لِوُجُوهٍ:. أَحَدُهَا: أَنَّ شَرْطَ الْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّصْبِ أَنْ تَكُونَ سببية وهنا ليست كذلك بل هي لإستئناف لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلْإِصْبَاحِ. الثَّانِي: أَنَّ شَرْطَ النَّصْبِ أَنْ يَنْسَبِكَ مِنَ الْفَاءِ وَمَا قَبْلَهَا شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مَاءً تُصْبِحْ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ إِصْبَاحَ الْأَرْضِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ رُئِيَ أَمْ لَا. فَإِنْ قِيلَ: شَاعَ فِي كَلَامِهِمْ إِلْغَاءُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: [وَلَا تَزَالُ- تَرَاهَا- ظَالِمَةً] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 أَيْ وَلَا تَزَالُ ظَالِمَةً وَحِينَئِذٍ فَالْمَعْنَى مُنْصَبٌّ إِلَى الْإِنْزَالِ لَا إِلَى الرُّؤْيَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنْ أَنْزَلَ تُصْبِحُ فَقَدِ انْعَقَدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ. قُلْتُ: إِلْغَاءُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ فِي كَلَامِهِمْ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا مَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ؟. الثَّالِثُ: إِنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُوجَبٍ تَقْلِبُهُ إِلَى النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين} ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى نَفْيٍ تَقْلِبُهُ إِلَى الْإِيجَابِ فَالْهَمْزَةُ فِي الْآيَةِ لِلتَّقْرِيرِ فَلَمَّا انْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنَ النَّفْيِ إِلَى الْإِيجَابِ لَمْ يَنْتَصِبِ الْفِعْلُ لِأَنَّ شَرْطَ النَّفْيِ كَوْنُ السَّابِقِ مَنْفِيًّا مَحْضًا: ذَكَرَهُ الْعَزِيزِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ". وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ به زرعا} . الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ لَأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَكَانَ ينقلب النصب إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ مِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ فَتَشْكُرُ إِنْ نَصَبْتَ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٍ تَفْرِيطَهُ وَإِنْ رَفَعْتَ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِشُكْرِهِ. ذَكَرَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ قَالَ وَهَذَا وَمِثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَتَوْقِيرِ أَهْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: النَّصْبُ يُفْسِدُ الْمَعْنَى لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمُخَاطَبِ الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِلِاخْضِرَارِ وَإِنَّمَا الْمَاءُ نَفْسُهُ هُوَ سَبَبُ الِاخْضِرَارِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلى بلد ميت} ،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 فَقَالَ: [تُثِيرُ] مُضَارِعًا وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ ماضيا مبالغة في تحقيق إثارة الرياح الساحب لِلسَّامِعِينَ وَتَقْدِيرِ تَصَوُّرِهِ فِي أَذْهَانِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: أَهَمُّ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَقَدْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَمَا ذَكَرْتَهُ يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ إِذْ هُوَ أَهَمُّ وَإِثَارَةُ السَّحَابِ سَبَبٌ أُعِيدَ عَلَى قَرِيبٍ. قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ بِأَهَمِّيَّةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْمُقَدَّمَاتُ الْمَذْكُورَةُ أَهَمُّهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى الْقُدْرَةِ أَعْجَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَإِثَارَةُ السَّحَابِ أَعْجَبُهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ بِالْمُضَارِعِ وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ إِثَارَةَ السَّحَابِ أَعْجَبُ لِأَنَّ سَبَبَهَا أَخْفَى مِنْ حَيْثُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْفِعْلِ أَنَّ نُزُولَ الْمَاءِ سَبَبٌ فِي اخْضِرَارِ الْأَرْضِ وَإِثَارَةُ السَّحَابِ وَسَوْقُهُ سَبَبُ نُزُولِ الْمَاءِ. فَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْعَقْلِ لم نقل أَنَّ الرِّيَاحَ سَبَبُهَا لِعَدَمِ إِحْسَاسِنَا بِمَادَّةِ السَّحَابِ وجهته. وَمِنْ لَوَاحِقِ ذَلِكَ الْعُدُولُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اسم المفعول لتضمنه معنى الماضي، كقوله: {يوم مجموع له الناس} ، تَقْرِيرًا لِلْجَمْعِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَادًا لِلنَّاسِ مَضْرُوبًا لِجَمِيعِهِمْ وَإِنْ شِئْتَ فَوَازِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنْ قُلْتَ: الْمَاضِي أدل على الْمَقْصُودِ مِنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ فَلِمَ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى مَا دَلَالَتُهُ أَضْعَفُ؟ قُلْتُ: لِتَحْصُلَ الْمُنَاسَبَةُ بين [مجموع] و [مشهور] فِي اسْتِوَاءِ شَأْنِهِمَا طَلَبًا لِلتَّعْدِيلِ فِي الْعِبَارَةِ. وَمِنْهُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، كقوله تعالى: {وإن الدين لواقع} فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِقْبَالِ بَلْ فِي الْحَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلَّفْظِ. هِيَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْأَكْثَرُ - الْمُشَاكَلَةُ بِالثَّانِي لِلْأَوَّلِ، نَحْوُ [أَخْذُهُ مَا قدم وما حدث] . وقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَأَنَّ الْجَرَّ لِلْجِوَارِ: {وَالنَّجْمُ والشجر يسجدان والسماء رفعها} . وَقَدْ تَقَعُ الْمُشَاكَلَةُ بِالْأَوَّلِ لِلثَّانِي كَمَا فِي قراءة إبراهيم بن أبي عبيلة: {الحمد لله} بِكَسْرِ الدَّالِ، وَهِيَ أَفْصَحُ مِنْ ضَمِّ اللَّامِ للدال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى. وَمَتَّى كَانَ اللَّفْظُ جَزْلًا كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تراب} ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ [طِينٍ] كَمَا أَخْبَرَ بِهِ سبحانه في غير موضع: {ني خالق بشرا من طين} إِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الطِّينِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ إِلَى ذِكْرِ مُجَرَّدِ التُّرَابِ لِمَعْنًى لَطِيفٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَدْنَى الْعُنْصُرَيْنِ وَأَكْثَفُهُمَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مُقَابَلَةَ مَنِ ادَّعَى فِي الْمَسِيحِ الْإِلَهِيَّةَ أَتَى بِمَا يُصَغِّرُ أَمْرَ خَلْقِهِ عِنْدَ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ التُّرَابِ أَمَسَّ فِي الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَنَاصِرِ وَلَمَّا أَرَادَ سُبْحَانَهُ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إسرائيل أخبرهم أن يَخْلُقُ لَهُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ تَعْظِيمًا لأمر ما يخلقه بإذنه إذ كان الْمَطْلُوبُ الِاعْتِدَادَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِ لِيُعَظِّمُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابة من ماء} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمَاءِ دون بقي الْعَنَاصِرِ لِأَنَّهُ أَتَى بِصِيغَةِ الِاسْتِغْرَاقِ وَلَيْسَ فِي الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعِ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا الْمَاءُ لِيَدْخُلَ الْحَيَوَانُ الْبَحْرِيُّ فِيهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تكون من الهالكين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَتَى بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْقَسَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخَوَاتِهَا فَإِنَّ [وَاللَّهِ [وَ [بِاللَّهِ] أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَعْرَفُ مِنْ [تَاللَّهِ] لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ الذي جاور القسم أعزب الصِّيَغِ الَّتِي فِي بَابِهِ فَإِنَّ [كَانَ] وَأَخَوَاتِهَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ [تَفْتَأُ] وَأَعْرَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَلِذَلِكَ أَتَى بَعْدَهَا بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْهَلَاكِ بِالنِّسْبَةِ وَهِيَ لَفْظَةُ [حَرَضٍ] :. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وَلَمَّا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جهد أيمانهم} لَمَّا كَانَتْ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ مُسْتَعْمَلَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النار} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَيْهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ دُونَ ذَلِكَ مُشَارَكَتُهُمْ فِي الظُّلْمِ أَخْبَرَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْعِقَابِ عَلَى الظُّلْمِ وَهُوَ مَسُّ النَّارِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَالِاضْطِرَامِ وَإِنْ كَانَ الْمَسُّ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِشْعَارُ بِالْعَذَابِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يدي إليك لأقتلك} ، فَإِنَّهُ نَشَأَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ وَتَعْقِيبُهُ بِالْفَاعِلِ ثُمَّ بِالْمَفْعُولِ فَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ مفعولان: أحدهما يعدى وصول الفعل إليه بالحرف، والآخر بِنَفْسِهِ قُدِّمَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} . إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ يُقَالُ كَيْفَ تَوَخَّى حُسْنَ التَّرْتِيبِ فِي عَجُزِ الْآيَةِ دُونَ صَدْرِهَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ حُسْنَ التَّرْتِيبِ مَنَعَ مِنْهُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ مَانِعٌ أَقْوَى وَهُوَ مَخَافَةُ أَنْ يَتَوَالَى ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ مُتَقَارِبَاتِ الْمَخْرَجِ فَيَثْقُلَ الْكَلَامُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَئِنْ بَسَطْتَ يدك إلي والطاء والتاء مُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْحَرْفِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا أُمِنَ هَذَا الْمَحْذُورُ فِي عَجُزِ الْآيَةِ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ مَوْضِعَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْمُقَابَلَةُ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى تَرْتِيبِهِ: مِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ عَلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 المفعول الذي يعدى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى تَحْسِينِ اللَّفْظِ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَعَلَى نَظْمِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ حَرِيصًا عَلَى التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ قُدِّمَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْآلَةِ فَقَالَ: إِلَيَّ يَدَكَ وَلَمَّا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ حَرِيصٍ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ قَدَّمَ الْآلَةَ فَقَالَ: [يَدِيَ إِلَيْكَ] وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ عُبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالْفِعْلِ وَفِي الثَّانِي بِالِاسْمِ. وَيُؤَيِّدُ ذلك أيضا قوله فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أيديهم} ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَسَبَهُمْ لِلتَّعَدِّي الزَّائِدِ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَبْسُوطِ إِلَيْهِمْ عَلَى الْآلَةِ وَذَلِكَ الْجَوَابُ السَّابِقُ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى} ، مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّجْنِيسِ لِلِازْدِوَاجِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي عَجُزِهَا لَكِنْ مَنَعَهُ تَوَخِّي الْأَدَبِ وَالتَّهْذِيبِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي [يَجْزِيَ] عَائِدًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَ أَنْ يُعْدَلَ عَنْ لَفْظِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إِلَى رَدِيفِهِ حَتَّى لَا تُنْسَبَ السَّيِّئَةُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ فِي مَوْضِعِ السَّيِّئَةِ: بِمَا [عَمِلُوا] فَعُوِّضَ عَنْ تَجْنِيسِ الْمُزَاوَجَةِ بِالْإِرْدَافِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيئة مثلها} فَإِنَّ هَذَا الْمَحْذُورَ مِنْهُ مَفْقُودٌ فَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هو رب الشعرى} ، فإن سُبْحَانَهُ خَصَّ الشِّعْرَى بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ ظَهَرَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ عَبَدَ الشِّعْرَى وَدَعَا خَلْقًا إِلَى عِبَادَتِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تفقهون تسبيحهم} وَلَمْ يَقُلْ: [لَا تَعْلَمُونَ] لِمَا فِي الْفِقْهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعِلْمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وقوله حكاية عن إبراهيم: {يا أبت إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ أَبِيهِ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَاحِقٌ لَهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: {إِنِّي أخاف} فَذَكَّرَ الْخَوْفَ وَالْمَسَّ وَذَكَّرَ الْعَذَابَ وَنَكَّرَهُ وَلَمْ يَصِفْهُ بِأَنَّهُ يَقْصِدُ التَّهْوِيلَ بَلْ قَصَدَ اسْتِعْطَافَهُ وَلِهَذَا ذَكَرَ [الرَّحْمَنَ] وَلَمْ يَذْكُرِ [الْمُنْتَقِمَ] وَلَا [الْجَبَّارَ] عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: فَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ حَازِمٍ ... كَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ رَازِقِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانوا به يستهزئون} فإنه قد يقال: ما الحكمة في التعمير بِالسُّخْرِيَةِ دُونَ الِاسْتِهْزَاءِ؟ وَهَلَّا قِيلَ: [فَحَاقَ بِالَّذِينِ اسْتَهْزَءُوا بِهِمْ] لِيُطَابِقَ مَا قَبْلَهُ؟. وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ هُوَ إِسْمَاعُ الْإِسَاءَةِ وَالسُّخْرِيَةَ قَدْ تَكُونُ فِي النَّفْسِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: سَخِرْتُ مِنْهُ كَمَا يَقُولُونَ: عَجِبْتُ مِنْهُ وَلَا يُقَالُ: تُجُنِّبَ ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ الِاسْتِهْزَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ السُّخْرِيَةَ ثَلَاثًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ منكم كما تسخرون} ، وإنما لم يقل: [نستهزىء بِكُمْ] لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {نَسُوا الله فنسيهم} وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ وَأَمَّا الِاسْتِهْزَاءُ الَّذِينَ نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ حَقِيقَةً لَا يَرْضَى بِهِ إِلَّا جَاهِلٌ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سخروا منهم} ، أي حاق بهم من الله الوعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 لبالغ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَنَزَلَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مَنْزِلَتَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الحرام} وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَعْبَةَ لِأَنَّ الْبَعِيدَ يَكْفِيهِ مُرَاعَاةُ الْجِهَةِ فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِهَا حَرَجٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَرِيبِ وَلَمَّا خَصَّ الرَّسُولَ بِالْخِطَابِ تَعْظِيمًا وَإِيجَابًا لِشِرْعَتِهِ عَمَّمَ تَصْرِيحًا بِعُمُومِ الْحُكْمِ وَتَأْكِيدًا لِأَمْرِ الْقِبْلَةِ. قَاعِدَةٌ:. إِذَا اجْتَمَعَ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، بُدِئَ بِاللَّفْظِ ثُمَّ بِالْمَعْنَى، هَذَا هُوَ الْجَادَّةُ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ من يقول آمنا} أفرد أولا باعبتار اللَّفْظِ ثُمَّ جَمَعَ ثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَقَالَ: {وما هم بمؤمنين} فَعَادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار} فَعَادَ الضَّمِيرُ مِنْ [يُدْخِلْهُ] مُفْرَدًا عَلَى لَفْظِ [مَنْ] ثُمَّ قَالَ [خَالِدِينَ] وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قلوبهم} . وَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تفتني ألا في الفتنة سقطوا} . وَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فضله} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا به} . وَقَدْ يَجْرِي الْكَلَامُ عَلَى أَوَّلِهِ فِي الْإِفْرَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الْآيَتَيْنِ فَكَرَّرَ فِيهَا ثَمَانِيَةَ ضَمَائِرَ كُلُّهَا عَائِدٌ عَلَى لَفْظِ [مَنْ] وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مَعْنَاهَا مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْكَثْرَةِ. وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَعْنَاهَا فِي الْجَمِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} . وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْبَدَاءَةِ بِاللَّفْظِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ هُوَ الْكَثِيرُ قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: ولم يجيء فِي الْقُرْآنِ الْبَدَاءَةُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ومحرم على أزواجنا} فَأَنَّثَ [خَالِصَةٌ] حَمْلًا عَلَى مَعْنَى [مَا] ثُمَّ رَاعَى اللَّفْظَ فَذَكَّرَ وَقَالَ: {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} . وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَتِمُّ مَا قَالَهُ مِنَ الْبَدَاءَةِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى فِي ذلك إذا كان ان الضمير الذي في الصلة التي فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ يُقَدَّرُ مُؤَنَّثًا أَمَّا إِذَا قُدِّرَ مُذَكَّرًا فَالْبَدَاءَةُ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ التَّقْدِيرِيَّةِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَمْرَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي اللَّفْظِ وإذا كان كذلك صدق أنه إنما بدىء فِي الْآيَةِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى فَيَتِمُّ كَلَامُ الْعِرَاقِيِّ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عُصْفُورٍ: أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا بِفَاصِلٍ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْبَصْرِيُّونَ الْفَاصِلَ، قَالَ: وَلَمْ يَرِدِ السَّمَاعُ إِلَّا بِالْفَاصِلِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ. وَنَازَعَهُ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يدخل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، وقال: ألا تراه كيف جمع بين الجمليتن دُونَ فَصْلٍ! انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي شَرْحِ "الْمُقَرَّبِ": شَرَطَ الْكُوفِيُّونَ فِي جَوَازِ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْفَصْلَ فَيُجَوِّزُونَ: مَنْ يَقُومُونَ الْيَوْمَ وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا إِخْوَتُنَا وَلَا يُجَوِّزُونَ: مَنْ يَقُومُونَ وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا إِخْوَتُنَا لِعَدَمِ الْفَصْلِ وَإِنَّمَا وَرَدَ السَّمَاعُ بِالْفَصْلِ. انْتَهَى. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يَشْتَرِطُونَ الْفَصْلَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا أَنْ يُقَدَّمَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى وَيُؤَخَّرَ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} إِنَّمَا بُدِئَ فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِذَا حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ جَازَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى ضَعُفَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَقْوَى فَلَا يَبْعُدُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بَعْدَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَيَضْعُفُ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْقَوِيِّ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَضْعَفِ. وَهَذَا مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَكْثَرُ مِنِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَكَثْرَةُ مَوَارِدِهِ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ وَأَمَّا الْعَوْدُ إِلَى اللَّفْظِ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَقَدْ وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ كَمَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى بَعْدَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله ورسوله وتعمل صالحا} فَقَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ بِتَذْكِيرِ [يَقْنُتْ] حَمْلًا عَلَى لَفْظِ [من] في التذكير [وتعمل] بِالتَّأْنِيثِ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا لِأَنَّهَا لِلْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ [يَعْمَلْ] بِالتَّذْكِيرِ فِيهِمَا حَمْلًا عَلَى لفظها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 رِعَايَةً لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَتَوْجِيهُ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الثَّانِي صَرِيحُ التَّأْنِيثِ فِي [مِنْكُنَّ] حَسُنَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي "الْمُحْتَسِبِ": لَا يَجُوزُ مُرَاجَعَةُ اللَّفْظِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ يُورَدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} ثم قال: {حتى إذا جاءنا} فَقَدْ رَاجَعَ اللَّفْظَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي جَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْكَافِرِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ لَا إِلَى [مَنْ] . وَمِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ [أَسْقَى] وَ [سَقَى] بِغَيْرِ هَمْزٍ لِمَا لَا كُلْفَةَ مَعَهُ فِي السُّقْيَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ ربهم شرابا طهورا} فَأَخْبَرَ أَنَّ السُّقْيَا فِي الْآخِرَةِ لَا يَقَعُ فِيهَا كُلْفَةٌ بَلْ جَمِيعُ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمَلَاذِّ يَقَعُ فُرْصَةً وَعَفْوًا بِخِلَافِ [أَسْقَى] بِالْهَمْزَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} {لأسقيناهم ماء غدقا} لِأَنَّ الْإِسْقَاءَ فِي الدُّنْيَا لَا يَخْلُو مِنَ الْكُلْفَةِ أَبَدًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شيء موزون} ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّمَا خُصَّ الْمَوْزُونُ بِالذِّكْرِ دُونَ الْمَكِيلِ لِأَمْرَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَايَةَ الْمَكِيلِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَوْزُونِ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَكِيلَاتِ إِذَا صَارَتْ قِطَعًا دَخَلَتْ فِي بَابِ الْمَوْزُونِ وَخَرَجَتْ عَنِ الْمَكِيلِ فَكَانَ الْوَزْنُ أَعَمَّ مِنَ الْمَكِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمَكِيلِ لِأَنَّ الْوَزْنَ هُوَ طَلَبُ مُسَاوَاةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 وَمُقَايَسَتُهُ وَتَعْدِيلُهُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ فِي الْمَكِيلِ فَخُصَّ الْوَزْنُ بِالذِّكْرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الْمَكِيلِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي "الْغُرَرِ": هَذَا خِلَافُ الْمَقْصُودِ بَلِ الْمُرَادُ بِالْمَوْزُونِ الْقَدْرُ الْوَاقِعُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ نَاقِصًا عَنْهَا وَلَا زَائِدًا عَلَيْهَا زِيَادَةً مُضِرَّةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} ، فَذَكَرَ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ السَّنَةَ وَفِي الِانْفِصَالِ الْعَامِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَدَائِدَ فِي مُدَّتِهِ كُلِّهَا إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا قَدْ جَاءَهُ الْفَرَجُ وَالْغَوْثُ فَإِنَّ السَّنَةَ تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي مَوْضِعِ الْجَدْبِ وَلِهَذَا سَمُّوا شِدَّةَ الْقَحْطِ سَنَةً. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ أَلْفًا إِلَّا أَنَّ الْخَمْسِينَ مِنْهَا كَانَتْ أَعْوَامًا فَيَكُونُ عُمُرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يَنْقُصُ مِنْهَا مَا بَيْنَ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ وَالْقَمَرِيَّةِ فِي الْخَمْسِينَ خَاصَّةً لِأَنَّ الْخَمْسِينَ عَامًا بِحَسْبِ الْأَهِلَّةِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِينَ سنة شمسية بنحو عَامٍ وَنِصْفٍ. وَابْنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقوله: {ألف سنة مما تعدون} فَإِنَّهُ كَلَامٌ وَرَدَ فِي مَوْضِعِ التَّكْثِيرِ وَالتَّتْمِيمِ بِمُدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالسَّنَةُ أَطْوَلُ مِنَ الْعَامِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 النَّحْتُ. نَحْوَ الْحَوْقَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ، جَعَلَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ مِنْ1 نُظُومِ الْقُرْآنِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَكَفَى بِاللَّهِ شهيدا} ، قال: وكفى من كفتيه الشيء ولم يجيء للعرب كفتيه بِالشَّيْءِ فَجَعَلَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ الْفِعْلَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُتَعَدٍّ وَخَصَّ مِنَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ وَهُوَ اكْتَفَيْتُ بِهِ بِالْبَاءِ وَكَذَلِكَ انْتَصَبَ [شَهِيدًا] عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَفَى بِاللَّهِ فَاكْتَفِ بِهِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 الْإِبْدَالُ. مِنْ كَلَامِهِمْ إِبْدَالُ الْحُرُوفِ وَإِقَامَةُ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ يَقُولُونَ: مَدَحُهُ وَمَدَهَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ أَلَّفَ فِيهِ الْمُصَنِّفُونَ وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العظيم} ، فَقَالَ: فَالرَّاءُ وَاللَّامُ مُتَعَاقِبَانِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فَلَقُ الصُّبْحِ وَفَرَقُهُ. قَالَ: وَذُكِرَ عَنِ الْخَلِيلِ- وَلَمْ أَسْمَعْهُ سَمَاعًا - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فجاسوا خلال الديار} إِنَّمَا أَرَادَ فَحَاسُوا فَقَامَتِ الْجِيمُ مَقَامَ الْحَاءِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَمَا أَحْسَبُ الْخَلِيلَ قَالَ هَذَا وَلَا أَحُقُّهُ عَنْهُ. قُلْتُ: ذَكَرَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي "الْمُحْتَسِبِ": أَنَّهَا قِرَاءَةُ أَبُو السَّمَّالِ، وَقَالَ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ - أَوْ غَيْرُهُ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ [فَجَاسُوا] فَقَالَ: حَاسُوا وَجَاسُوا وَاحِدٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ يَتَخَيَّرُ بِلَا رِوَايَةٍ وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ. وَقَوْلُهُ:" إِنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ " لَا يُوجِبُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ الرِّوَايَةِ كَمَا ظَنَّهُ أَبُو الْفَتْحِ وَقَائِلُ ذَلِكَ والقارىء بِهِ هُوَ أَبُو السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ لَا أَبُو السَّمَّالِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ. كَذَلِكَ أَسْنَدَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْمَازِنِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا السَّوَّارِ الْغَنَوِيَّ، فَقَرَأَ: [فَحَاسُوا] بِالْحَاءِ غَيْرِ الْجِيمِ فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ [فَجَاسُوا] قَالَ: حَاسُوا وَجَاسُوا وَاحِدٌ، وَيَعْنِي أَنَّ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ تَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ وَالْغَرَضُ كَمَا جَازَتْ بِالْأُولَى فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ وَأَسَاءَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 وَزَعَمَ الْفَارِسِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أحببت حب الخير} ، أَنَّهُ بِمَعْنَى حُبِّ الْخَيْلِ وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْرًا لِمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْعِزِّ وَالْمَنَعَةِ كَمَا رُوِيَ:" الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ " وَحِينَئِذٍ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح} إِنَّ أَصْلَهُ مَلَاقِحَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَلْقَحَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ أَيْ جَمَعَتْهُ وَكُلُّ هَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ صَوْنُ الْقُرْآنِ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {إلا مكاء وتصدية} ، مَعْنَاهُ [تَصْدِدَةً] فَأَخْرَجَ الدَّالَ الثَّانِيَةَ يَاءً لِكَسْرِ الدَّالِ الْأُولَى كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ "التَّرْقِيصِ". وَحُكِيَ عن أبي رياش في قول امرىء الْقَيْسِ: فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسَلِي ... مَعْنَاهُ: [تَنْسَلِلْ] فَأَخْرَجَ اللَّامَ الثَّانِيَةَ [يَاءً] لِكَسْرَةِ اللَّامِ الْأُولَى وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَإِنِّي لَأَسْتَنْعِي وَمَا بِي نَعْسَةٌ ... لَعَلَّ خَيَالًا مِنْكِ يَلْقَى خَيَالِيَا أَرَادَ أَسْتَنْعِسُ، فَأَخْرَجَ السِّينَ يَاءً. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي "التَّذْكِرَةِ" قَرَأَ أَبُو الْحَسَنِ - أَوْ مَنْ قَرَأَ لَهُ - قَوْلَهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَى عَنْ يَعْقُوبَ فِي الْقَلْبِ وَالْإِبْدَالِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغ ولا عاد} ، [غير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 عَائِدٍ] ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَارِسِيُّ أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ كَمَا يَعُودُ فِي حَالِ السَّعَةِ مِنَ الْعَشَاءِ إِلَى الغذاء. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبنات} : إن خرقه واخترقه وخلقه واختلقه بمعنى هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَقَوْلُ قُرَيْشٍ فِي الْمَلَائِكَةِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَوْنَهُ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ أَيْ أَنَّهُمُ اشْتَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 الْمُحَاذَاةُ. ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُؤْتَى بِاللَّفْظِ عَلَى وَزْنِ الْآخَرِ لِأَجْلِ انْضِمَامِهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ لَوِ اسْتُعْمِلَ مُنْفَرِدًا كَقَوْلِهِمْ: أَتَيْتُهُ الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا فَقَالُوا: الْغَدَايَا لِانْضِمَامِهَا إِلَى الْعَشَايَا. قِيلَ: وَمِنْ هَذَا كتابة المصحف، كتبوا: {والليل إذا سجى} بِالْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ لَمَّا قُرِنَ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُكْتَبُ بِالْيَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لسلطهم} فَاللَّامُ الَّتِي فِي [لَسَلَّطَهُمْ] جَوَابُ [لَوْ] . ثُمَّ قَالَ: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فَهَذِهِ حُوذِيَتْ بِتِلْكَ اللَّامِ وَإِلَّا فَالْمَعْنَى: لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَقَاتَلُوكُمْ. وَمِثْلُهُ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شديدا} فهما لاما قسم - ثم قال: أو {أو ليأتيني} فليس ذا موضع قسم لأنه عذر5 للهدهد فَلَمْ يَكُنْ لِيُقْسِمَ عَلَى الْهُدْهُدِ أَنْ يَأْتِيَ بِعُذْرٍ لَكِنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِهِ عَلَى أَثَرِ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَسَمُ أَجْرَاهُ مَجْرَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 ومنه الجزاء عن الْفِعْلِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ نَحْوُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ. وقوله: {ومكروا ومكر الله} {فيسخرون منهم سخر الله منهم} . {وجزاء سيئة سيئة مثلها} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ. قَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْكَلَامِ جُمَلٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ وَنَذْكُرُ هَاهُنَا زِيَادَاتٍ. اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ قَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلصِّفَةِ دُونَ الذَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلذَّاتِ. وَانْتِفَاءُ النَّهْيِ عَنِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ قَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الذَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الصِّفَةِ دُونَ الذَّوَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحق} فَإِنَّهُ نَهَى عَنِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَقَالَ: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} . وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حرم} ، {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} ، أَيْ فَلَا يَكُونُ مَوْتُكُمْ إِلَّا عَلَى حَالِ كَوْنِكُمْ مَيِّتِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَالنَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا تُصَلِّ إِلَّا وَأَنْتَ خَاشِعٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا عَنِ الصَّلَاةِ بَلْ عَنْ تَرْكِ الْخُشُوعِ. وَقَوْلُهُ: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّفْيَ بِحَسْبِ مَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:. الْأَوَّلُ: بِنَفْيِ الْمُسْنَدِ نَحْوَ، مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ قَعَدَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فَالْمُرَادُ نَفْيُ السُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ الْإِلْحَافِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 الثَّانِي: أَنْ يُنْفَى الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، فَيَنْتَفِيَ الْمُسْنَدُ، نَحْوُ مَا قَامَ زَيْدٌ إِذَا كَانَ زَيْدٌ غَيْرَ مَوْجُودٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ زَيْدٍ نَفْيُ الْقِيَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} ، أَيْ لَا شَافِعِينَ لَهُمْ فَتَنْفَعُهُمْ شَفَاعَتُهُمْ. وَمِنْهُ قول الشاعر: *على لاحب لا يهتدي لمناره* أَيْ: عَلَى طَرِيقٍ لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنْ يُثْبِتَ الْمَنَارَ فَيَنْتَفِيَ الِاهْتِدَاءُ بِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُنْفَى الْمُتَعَلِّقُ دُونَ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ نَحْوُ مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا بَلْ عَمْرًا. الرَّابِعُ: أَنْ يُنْفَى قَيْدُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُتَعَلِّقِ نَحْوُ مَا جَاءَنِي رَجُلٌ كَاتِبٌ بَلْ شَاعِرٌ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَاتِبًا بَلْ شَاعِرًا، فَلَمَّا كَانَ النَّفْيُ قَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْمُسْنَدِ وَقَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْمُسْنَدِ إليه أو المعلق وَقَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْقَيْدِ احْتَمَلَ فِي قَوْلِنَا: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَاتِبًا أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْقَيْدَ فَيُفِيدُ الْكَلَامُ رُؤْيَةَ غَيْرِ الْكَاتِبِ وَهُوَ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ وَلَا يَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْمُسْنَدَ أَيِ الْفِعْلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ رُؤْيَةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى رَجُلٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي الْمَرْجُوحِيَّةِ كَالَّذِي قَبْلَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 نَفَيُ الشَّيْءِ رَأْسًا. لِأَنَّهُ عُدِمَ كَمَالُ وَصْفِهِ أَوْ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أهل النار: {لا يموت فيها ولا يحيى} فَنَفَى عَنْهُ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْتٍ صَرِيحٍ وَنَفَى عَنْهُ الْحَيَاةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ وَلَا نَافِعَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وما هم بسكارى} أَيْ مَا هُمْ بِسُكَارَى مَشْرُوبٍ وَلَكِنْ سُكَارَى فَزَعٍ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} وهم قد نطقوا بقولهم: {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا نَطَقُوا بِمَا لَمْ يَنْفَعْ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا. وَقَوْلِهِ: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بها} . وَقَوْلِهِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كنا في أصحاب السعير} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ النَّظَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبْصَارَ، وَلَا يَلْزَمُ من قوله: {إلى ربها ناظرة} إِبْصَارٌ. وَهَذَا وَهْمٌ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تُقَالُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحُسْبَانُ وَالثَّانِي الْعِلْمُ، وَالْآيَةُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ تَحْسَبُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ لِأَنَّ لَهُمْ أَعْيُنًا مَصْنُوعَةً بِأَجْفَانِهَا وَسَوَادِهَا يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِإِقْبَالِهَا عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ تُبْصِرُ شيئا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 وَمِنْهُ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لهم} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ القسمي ثم نفاه أخبر عَنْهُمْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ كَذَا قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ يُقَالُ: لَمْ يَتَوَارَدِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ أَوَّلًا نَفْسُ الْعِلْمِ وَالْمَنْفِيَّ إِجْرَاءُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ. وَيَحْتَمِلُ حَذْفُ الْمَفْعُولَيْنِ أَوِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الضَّمِيرَيْنِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى} . قُلْتُ: الْمَنْفِيُّ أَوَّلًا التَّأْثِيرُ وَالْمُثْبَتُ ثَانِيًا نَفْسُ الْفِعْلِ. وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِمُقْتَضَى مَا بَلَّغْتَ فَأَنْتَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ كَقَوْلِكَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ: إِنْ لَمْ تَعْمَلْ بِمَا عَلِمْتَ فَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ شَيْئًا أَيْ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ. وَمِنْهُ نَفْيُ الشَّيْءِ مُقَيَّدًا وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ يَقْصِدُونَ بِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ وَتَأْكِيدَهُ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا لَا يُرْجَى غَرَضُهُمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَمِنْهُ: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بغير حق} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ وَصَفَ الْقَتْلَ بِمَا لا بد أن يكون مِنَ الصِّفَةِ وَهِيَ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا برهان له به} إِنَّهَا وَصْفٌ لِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا أول كافر به} ، تَغْلِيظٌ وَتَأْكِيدٌ فِي تَحْذِيرِهِمُ الْكُفْرَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} ، لِأَنَّ كُلَّ ثَمَنٍ لَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا فَصَارَ نَفْيُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ نَفْيًا لِكُلِّ ثَمَنٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْحَقِيقَةُ نَفْيُ الْمَسْأَلَةِ الْبَتَّةَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ بِدَلِيلِ قوله: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} ، وَمَنْ لَا يَسْأَلُ لَا يُلْحِفُ قَطْعًا ضَرُورَةَ أَنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يطاع} ، لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الشَّفِيعِ بِقَيْدِ الطَّاعَةِ بَلْ نَفْيُهُ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ:. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَنْكِيلٌ بِالْكُفَّارِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِذَا شَفَعَ يُشَفَّعُ لَكِنَّ الشَّفَاعَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ نَفْيُ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِهِ لِأَضْدَادِهِمْ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يُنَاظِرُ شَخْصًا ذَا صَدِيقٍ نَافِعٍ لَقَدْ حَدَّثْتَ صَدِيقًا نَافِعًا وَإِنَّمَا تُرِيدُ التَّنْوِيهَ بِمَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ لَهُ صَدِيقًا وَلَمْ يَنْفَعْ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ اللَّازِمَ لِلْمَوْصُوفِ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ لِلتَّقْيِيدِ بَلْ يَدُلُّ لِأَغْرَاضٍ مِنْ تَحْسِينِهِ أَوْ تَقْبِيحِهِ نَحْوِ لَهُ مَالٌ يَتَمَتَّعُ بِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها} {ولهم عذاب أليم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ الشَّفِيعُ غَيْرَ مُطَاعٍ فِي بَعْضِ الشَّفَاعَاتِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ مَا يُوهِمُ صُورَةَ الشَّفَاعَةِ مِنْ غَيْرِ إِجَابَةٍ كَحَدِيثِ الْخَلِيلِ مَعَ وَالِدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى التَّلَازُمِ دَلِيلُ الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يكن له ولي من الذل} أَيْ مِنْ خَوْفِ الذُّلِّ فَنَفْيُ الْوَلِيِّ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الذُّلِّ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْوَلِيِّ فَرْعٌ عَنْ خوف الذل وسبب عنه. وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} ، نَفْيُ الْغَلَبَةِ وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَصْلِ النَّوْمِ وَالسِّنَةِ عَنْ ذَاتِهِ فَفِي الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ النَّوْمِ وُقُوعًا وَجَوَازًا أَمَّا وُقُوعًا فَبِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سنة ولا نوم} وَأَمَّا جَوَازًا فَبِقَوْلِهِ: {الْقَيُّومُ} وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ " وَقَوْلُهُ: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم} أَيْ بِمَا لَا وُجُودَ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ وجد لعلمه بوجود الوجوب تعلق علم الله بِكُلِّ مَعْلُومٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} ، عَلَى قَوْلِ مَنْ نَفَى الْقَبُولَ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ التَّوْبَةُ لَا يُوجَدُ تَوْبَةٌ فَيُوجَدُ قَبُولٌ. وعكسه: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} ، فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِوِجْدَانِ الْعَهْدِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بها من سلطان} ، أَيْ مِنْ حُجَّةٍ أَيْ لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا فَيَسْتَحِيلُ إِذَنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا حُجَّةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وَنَظِيرُهُ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدَّجَّالُ أَعْوَرُ وَاللَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ "، أَيْ بذي جوارح كوامل بتخيل جوارح له نَوَاقِصَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أن تنفد كلمات ربي} ليس المراد أن كلمات الله تنفذ بعد نفاذ البحر بل لا تنفذ أبدا لا قبل نفاذ البحر، ولا بعده وحاصل الكلام لنفذ البحر ولا تنفذ كَلِمَاتُ رَبِّي. وَوَقَعَ فِي شِعْرِ جَرِيرٍ قَوْلُهُ: فيالك يَوْمًا خَيْرُهُ قَبْلَ شَرِّهِ ... تَغَيَّبَ وَاشِيهِ وَأَقْصَرَ عَاذِلُهُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَنْشَدْتُهُ كَذَلِكَ لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ فقال: أصلحه: فيالك يَوْمًا خَيْرُهُ دُونَ شَرِّهِ ... فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ لِخَيْرٍ بَعْدَهُ شَرٌّ وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يُصْلِحُونَ أَشْعَارَ الْعَرَبِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَرْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا كَمَا أَوْصَيْتَنِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 نَقَلَ ابْنُ رَشِيقٍ هَذِهِ الْحِكَايَةَ فِي الْعُمْدَةِ وَصَوَّبَهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: وَوَقَعَ لِي أَنَّ الأصمعي وخلف الْأَحْمَرَ وَابْنَ رَشِيقٍ أَخْطَئُوا جَمِيعًا وَأَصَابَ جَرِيرٌ وحده لأنه لم يرد إلا [فيالك يَوْمُ خَيْرٍ لَا شَرَّ فِيهِ] وَأَطْلَقَ [قَبْلَ] لِلنَّفْيِ كَمَا قُلْنَاهَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنَفِدَ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عمد ترونها} وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لهم آذان يسمعون بها} ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْحَقِيقَةُ تُوجِبُ نَفْيَ الْآيَةِ عَمَّنْ يَكُونُ لَهُ فَضْلًا عَمَّنْ لَا يَكُونُ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علم} ، فَالْمُرَادُ لَا ذَاكَ وَلَا عِلْمَكَ بِهِ أَيْ كِلَاهُمَا غَيْرُ ثَابِتٍ. وَقَوْلُهُ: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لم ينزل به سلطانا} ، أَيْ شُرَكَاءَ لَا ثُبُوتَ لَهَا أَصْلًا وَلَا أنزل الله بإشراكها حجة وَإِنْزَالُ الْحُجَّةِ كِلَاهُمَا مُنْتَفٍ. وَقَوْلُهُ: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بما لا يعلم} ، أي ما لاثبوت لَهُ وَلَا عِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ نَفْيًا لِلْمَلْزُومِ وَهُوَ النِّيَابَةُ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِلْعَالِمِ بِالذَّاتِ لَوْ كَانَ لَهُ ثُبُوتٌ بِأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تقبل توبتهم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 أَصْلُهُ لَنْ يَتُوبُوا فَلَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَبُولُ تَوْبَةٍ فَأُوثِرَ الْإِلْحَاقُ ذَهَابًا إِلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَهُوَ قَبُولُ التَّوْبَةِ الْوَاجِبُ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على البغاء إن أردن تحصنا} ، معلوم أَنَّهُ لَا إِكْرَاهَ عَلَى الْفَاحِشَةِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ تَحَصُّنًا لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ. ونظيره: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} ، وَأَكْلُ الرِّبَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَلِيلًا وَكَثِيرًا لَكِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ مَقَامُ تَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ وَهُوَ بِالْكَثِيرِ أَلْيَقُ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} الْآيَةَ، الْمَعْنَى آمَنَّا بِاللَّهِ دُونَ الْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ دُونَهَا إِلَّا أَنَّهُمْ نَفَوُا الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِهَذَا إِنَّهُ لَمَّا رَدَّ بِقَوْلِهِ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} بَعْدَ إِثْبَاتِهِ إِيمَانَهُمْ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ أَوْجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِنَفْيِ أُمُورٍ يُرَاعَى فِيهَا الْحَصْرُ وَالتَّقْيِيدُ كَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فَإِنَّهُ لَمْ يُقَدِّمِ الْمَفْعُولَ فِي [آمَنَّا] حَيْثُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَرُكِّبَ تَرْكِيبًا يُوهِمُ إِفْرَادَ الْإِيمَانِ بِالرَّحْمَنِ عَنْ سَائِرِ مَا يَلْزَمُ من الإيمان. وقوله: {يتكبرون في الأرض بغير الحق} ، فَقِيلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَقِيلَ التَّكَبُّرُ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ وَهُوَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالدَّنَايَا وَالتَّبَاعُدُ مِنْ فِعْلِهَا. وَأَمَّا قوله: {والإثم والبغي بغير الحق} فَإِنْ أُرِيدَ بِالْبَغْيِ الظُّلْمُ كَانَ قَوْلُهُ {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تَأْكِيدًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الطَّلَبُ كَانَ قيدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 قَاعِدَةٌ. اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ وَثُبُوتَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَثُبُوتَ الْخَاصِّ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْعَامِّ وَلَا يَدُلُّ نَفْيُهُ عَلَى نَفْيِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَفْهُومِ مِنَ اللَّفْظِ تُوجِبُ الِالْتِذَاذَ بِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ نَفْيُ الْعَامِّ أَحْسَنَ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ وَإِثْبَاتُ الْخَاصِّ أَحْسَنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْعَامِّ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بنورهم} وَلَمْ يَقُلْ: [بِضَوْئِهِمْ] بَعْدَ قَوْلِهِ: [أَضَاءَتْ] لِأَنَّ النُّورَ أَعَمُّ مِنَ الضَّوْءِ إِذْ يُقَالُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ الضَّوْءُ عَلَى النُّورِ الْكَثِيرِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشمس ضياء والقمر نورا} فَفِي الضَّوْءِ دَلَالَةٌ عَلَى الزِّيَادَةِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النُّورِ وَعَدَمُهُ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الضَّوْءِ لِاسْتِلْزَامِ عَدَمِ الْعَامِّ عَدَمَ الْخَاصِّ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ وَالْغَرَضُ إِزَالَةُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا أَلَا تَرَى ذِكْرَهُ بَعْدَهُ. {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} . وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: {ذَهَبَ اللَّهُ بنورهم} وَلَمْ يَقُلْ: [أَذْهَبَ نُورَهُمْ] لِأَنَّ الْإِذْهَابَ بِالشَّيْءِ إِشْعَارٌ لَهُ بِمَنْعِ عَوْدَتِهِ بِخِلَافِ الذَّهَابِ إِذْ يُفْهَمُ مِنَ الْكَثِيرِ اسْتِصْحَابُهُ فِي الذَّهَابِ وَمُقْتَضَى منعه من الرجوع. ومنه قوله تعالى: {يا قوم ليس بي ضلالة} وَلَمْ يَقُلْ: [ضَلَالٌ] كَمَا قَالُوا:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 {إنا لنراك في ضلال} لِأَنَّ نَفْيَ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْجِنْسِ الْبَتَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الضَّلَالَةَ أَخَصُّ مِنَ الضَّلَالِ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي نَفْيِ الضَّلَالِ عَنْهُ، فكأنه قال: ليس به شَيْءٌ مِنَ الضَّلَالِ كَمَا لَوْ قِيلَ: [لَكَ] لك تمرة فَقُلْتَ: مَا لِي تَمْرَةٌ. وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ وَقَالَ: تَعْلِيلُهُ نَفْيَهَا أَبْلَغُ [مِنْ نَفْيِ الضَّلَالِ] لِأَنَّهَا أَخَصُّ [مِنْهُ] وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَإِنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ أَخَصُّ مَنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ وَنَفْيَ الْأَخَصِّ أَعَمُّ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ فَإِذَا قُلْتَ هَذَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَمْ يَلْزَمْ سَلْبُ الْحَيَوَانِيَّةِ عَنْهُ وَإِذَا قُلْتَ هَذَا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ الضَّلَالَةُ أَدْنَى من الضلال وأقل لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة8 مِنْهُ وَالضَّلَالُ يَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَنَفْيُ الْأَدْنَى أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْأَعْلَى لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَصَّ بَلْ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} ، وَلَمْ يَقُلْ [طُولُهَا] لِأَنَّ الْعَرْضَ أَخَصُّ إِذْ كُلُّ مَا لَهُ عَرْضٌ فَلَهُ طُولٌ وَلَا يَنْعَكِسُ. وَأَيْضًا إِذَا كَانَ لِلشَّيْءِ صِفَةٌ يُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ صِفَةٍ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهَا كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهَا لِأَنَّ ذِكْرَهَا كَالتَّكْرَارِ وَهُوَ مُمِلٌّ وَإِذَا ذُكِرَتْ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى لَا تَكُونَ الْمُؤَخَّرَةُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ آخَرُ كَمَا فِي قوله: {وكان رسولا نبيا} لِأَجْلِ السَّجْعِ وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ شَيْءٍ أَوْ نَفْيُهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ آخَرَ أَوْ نَفْيِهِ كَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ ذُكِرَتْ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الدَّالِّ. وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ لِمَقْصُودٍ آخَرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة إلا أحصاها} وَعَلَى قِيَاسِ مَا قُلْنَا يَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَى صَغِيرَةٍ وَإِنْ ذُكِرَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْهَا فَلْتُذْكَرْ أَوَّلًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولا تنهرهما} وَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ يَكْفِي [لَهُمَا أُفٍّ] أَوْ يَقُولُ [وَلَا تَنْهَرْهُمَا] [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ وَالْعِنَايَةِ بِالنَّهْيِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنْهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْمَفْهُومِ وَأُخْرَى بِالْمَنْطُوقِ. وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} فإن النوم غشية ثقيلة تقع علىالقلب تَمْنَعُهُ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ وَالسِّنَةُ مِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ النُّعَاسِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} دُونَ ذِكْرِ النَّوْمِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ السِّنَةَ إِنَّمَا لَمْ تَأْخُذْهُ لِضَعْفِهَا وَيُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّوْمَ قَدْ يَأْخُذُهُ لِقُوَّتِهِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ التَّوَهُّمَيْنِ أَوِ السِّنَةُ فِي الرَّأْسِ وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ والنوم في القلب تلخيصه وهو مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَتِّرَاتِ ثُمَّ أَكَّدَ نَفْيَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لِأَنَّهُ خَلَقَهُمَا بِمَا فِيهِمَا وَالْمُشَارَكَةُ إِنَّمَا تَقَعُ فِيمَا فِيهِمَا وَمَنْ يَكُنْ لَهُ مَا فِيهِمَا فَمُحَالٌ نَوْمُهُ وَمُشَارَكَتُهُ إِذْ لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَفَسَدَتَا بِمَا فِيهِمَا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يلزم من نفي النسة نَفْيُ النَّوْمِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَنَامُ وإنما قال: {لا تأخذه} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 يَعْنِي لَا تَغْلِبُهُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَا يَغْلِبُهُ الْقَلِيلُ وَلَا الْكَثِيرُ مِنَ النَّوْمِ وَالْأَخْذُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسِيرُ مَأْخُوذًا وَأَخِيذًا وَزِيدَتْ [لَا] فِي قَوْلِهِ: {وَلَا نَوْمٌ} لِنَفْيِهِمَا عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَوْلَاهَا لَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَإِذَا ذُكِرَتْ صِفَاتٌ فَإِنْ كَانَتْ لِلْمَدْحِ فَالْأَوْلَى الِانْتِقَالُ فِيهَا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى لِيَكُونَ الْمَدْحُ مُتَزَايِدًا بِتَزَايُدِ الْكَلَامِ فيقولون: فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض وَلَا يَعْكِسُونَ هَذَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ الْأَبْلَغُ لَكَانَ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ مَعْنًى وَلَا يُوصَفُ بِالْعَالِمِ بَعْدَ الْوَصْفِ بِالْعَلَّامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُدَبَاءُ فِي الْوَصْفِ بِالْفَاضِلِ وَالْكَامِلِ أَيُّهُمَا أَبْلَغُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:. ثَالِثُهُمَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ قَالَ الْأُقْلِيشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّكَ مَهْمَا نَظَرْتَ إِلَى شَخْصٍ فَوَجَدْتَهُ مَعَ شَرَفِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا مُعْتَدِلَ الْأَفْعَالِ وَصَفْتَهُ بِالْكَمَالِ وَإِنْ وَجَدْتَهُ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الرُّتَبِ بِالْكَسْبِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَإِمَاطَةِ الرَّذَائِلِ وَصَفْتَهُ بِالْفَضْلِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ فَلَا يُوصَفُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِهِمَا إِلَّا بِتَجَوُّزٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} إِنَّمَا قُدِّمَ الْغَيْبُ مَعَ أَنَّ عِلْمَ الْمُغَيَّبَاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ وَالتَّمَدُّحَ بِهِ أَعْظَمُ وَعِلْمُ الْبَيَانِ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْأَمْدَحِ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُشَاهَدَاتِ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الْغَائِبِ عَنَّا وَالْعِلْمُ يَشْرُفُ بِكَثْرَةِ مُتَعَلَّقَاتِهِ فَكَانَ تَأْخِيرُ الشَّهَادَةِ أَوْلَى. وَقَوْلُ الشَّيْخِ: إِنَّ الْمُشَاهَدَاتِ لَهُ أَكْثَرُ فِيهِ نَظَرٌ بل في غيبه ما لايحصى: {ويخلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 ما لا تعلمون} ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ الِانْتِقَالَ لِلْأَمْدَحِ تَرَقٍّ فَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ فِي عِلْمِهِ سَوَاءٌ فَنَزَلَ التَّرَقِّي فِي اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ تَرَقٍّ فِي الْمَعْنَى لِإِفَادَةِ اسْتِوَائِهِمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جهر به} فَصَرَّحَ بِالِاسْتِوَاءِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الصِّفَاتِ وَأَمَّا الْمَوْصُوفَاتُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَبْدَأُ بِالْأَفْضَلِ فَتَقُولُ: قَامَ الْأَمِيرُ وَنَائِبُهُ وَكَاتِبُهُ قَالَ تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} الْآيَةَ. فَقَدَّمَ الْخَيْلَ لِأَنَّهَا أَحْمَدُ وَأَفْضَلُ مِنَ الْبِغَالِ وَقَدَّمَ الْبِغَالَ عَلَى الْحَمِيرِ لِذَلِكَ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْتَ: قَاعِدَةُ الصِّفَاتِ مَنْقُوضَةٌ بِالْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ فِي كَلَامِهِمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَبَى دَهْرُنَا إِسْعَافَنَا فِي نُفُوسِنَا ... وَأَسْعَفَنَا فِيمَنْ نُحِبُّ وَنُكْرِمُ فَقُلْتُ لَهُ نُعْمَاكَ فِيهِمْ أَتِمَّهَا ... وَدَعْ أَمْرَنَا إِنَّ الْمُهِمَّ الْمُقَدَّمُ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ "فِيمَا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مَقْصُودَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَهَمُّ مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ وَأَمَّا تَأَخُّرُ الْأَمْدَحِ فِي الصِّفَاتِ فَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتَا صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَوْ أَخَّرْنَا الْأَمْدَحَ لَكَانَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ نَوْعًا مِنَ الْعَبَثِ. هَذَا كُلُّهُ فِي صِفَاتِ الْمَدْحِ فَإِنْ كَانَتْ لِلذَّمِّ فَقَدْ قَالُوا يَنْبَغِي الِابْتِدَاءُ بِالْأَشَدِّ ذَمًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} قَالَ ابْنُ النَّفِيسِ: فِي كِتَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 "طَرِيقِ الْفَصَاحَةِ": وَهُوَ عِنْدِي مُشْكِلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ تَوْجِيهَهُ. وَقَالَ حَازِمٌ فِي "مِنْهَاجِهِ": يُبْدَأُ فِي الْحَسَنِ بِمَا ظُهُورُ الْحُسْنِ فِيهِ أَوْضَحُ وَمَا النَّفْسُ بِتَقْدِيمِهِ أَعْنَى وَيُبْدَأُ فِي الذَّمِّ بِمَا ظُهُورُ الْقُبْحِ فِيهِ أَوْضَحُ وَالنَّفْسُ بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ أَعْنَى وَيُتَنَقَّلُ فِي الشَّيْءِ إِلَى مَا يَلِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَوِّرِ الذين يُصَوِّرُ أَوَّلًا مَا حَلَّ مِنْ رُسُومِ تَخْطِيطِ الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَدَقِّ فَالْأَدَقِّ. فَائِدَةٌ:. نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِامْتِنَاعِ أَوْ عَدَمُ إِمْكَانِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَعَ إِمْكَانِهِ نَحْوُ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُكَلِّمَنِي؟ بِمَعْنَى هَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ؟ وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الحواريين: {هل يستطيع ربك} عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ هَلْ يُجِيبُنَا إِلَيْهِ؟ أَوْ هَلْ يَفْعَلُ رَبُّكَ؟ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْإِنْزَالِ وَأَنَّ عِيسَى قَادِرٌ عَلَى السُّؤَالِ وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمُوا هَلْ هُنَا صَارِفٌ أو مانع؟. وقوله: {فلا يستطيعون توصية} {فلا يستطيعون ردها} {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بِمَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {لن تستطيع معي صبرا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 فَائِدَةٌ:. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} قَالُوا: الْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ لَا يُقَالُ لِلْأَسَدِ: لَيْسَ بِشُجَاعٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ هُنَا الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى الكفار قالوا رد عَلَيْهِ السَّلْبُ هُنَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا رَمَيْتَ خَلْقًا إِذْ رَمَيْتَ كَسْبًا أَوْ مَا رَمَيْتَ انْتِهَاءً إِذْ رَمَيْتَ ابْتِدَاءً وَمَا رَمَيْتَ مَجَازًا إِذْ رَمَيْتَ حَقِيقَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مُخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِضَرْبٍ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَحَسْمِ الْعِنَادِ. كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} وهو يعلم أنه على لهدى وَأَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالِ لَكِنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّكِّ تَقَاضِيًا وَمُسَامَحَةً وَلَا شَكَّ عِنْدَهُ وَلَا ارْتِيَابَ. وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العابدين} . وَنَحْوِهِ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} . أَوْرَدَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَعْنَى هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أُمُورَ النَّاسِ وَتَأَمَّرْتُمْ عَلَيْهِمْ لِمَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمَشَاهِدِ وَلَاحَ مِنْكُمْ فِي الْمَخَايِلِ: {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرحامكم} تَهَالُكًا عَلَى الدُّنْيَا؟. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ سَوْقِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ سِيَاقَ غَيْرِهِ لِيُؤَدِّيَهُمُ التَّأَمُّلُ فِي التَّوَقُّعِ عَمَّنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنْهُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَصَمَّهُمُ اللَّهُ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ فَيُلْزِمُهُمْ بِهِ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُفَاجِئَهُمْ بِهِ وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ تَفَادِيًا عَنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ يَخْرُجُ الْوَاجِبُ فِي صُورَةِ الْمُمْكِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ ربك مقاما محمودا} . {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ من عنده} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 و {عسى ربكم أن يرحمكم} . {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . وَقَدْ يَخْرُجُ الْإِطْلَاقُ فِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ كَقَوْلِهِ: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يشاء الله ربنا} فَالْمَعْنَى لَا يَكُونُ أَبَدًا مِنْ حَيْثُ عَلَّقَهُ بمشيئة الله لما كان معلوما أنه يَشَاؤُهُ إِذْ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكُلُّ أمر قد علق بما لايكون فَقَدْ نُفِيَ كَوْنُهُ عَلَى أَبْعَدِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الكفار لا من شعيب والمعنى: لنخرجنك يا شعيب وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لنا أن نعود فيها} عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَرْيَةِ لَا إِلَى اللَّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 الْإِعْرَاضُ عَنْ صَرِيحِ الْحُكْمِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله} ، أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ مِقْدَارِ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ وَذَكَرَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ تَفْخِيمًا لِمِقْدَارِ الْجَزَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْهَامِ الْمِقْدَارِ وَتَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ مَا هُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى بَيَانِهِ عَلَى حَدِّ [فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ] أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ إِلَى إِعَادَةِ الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ مَا يَنَالُ وَتَفْخِيمًا لِبَيَانِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْعَمَلِ فَصَارَ السُّكُوتُ عَنْ مَرْتَبَةِ الثَّوَابِ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أجر من أحسن عملا} وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ وَالْبَقَاءَ وَالْجَمْعَ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ رَجَعَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمُبْتَدَأَ الَّذِي هُوَ الَّذِينَ عَنْ ذِكْرِ خَبَرِهِ إِلَى الشُّرُوعِ فِي كَلَامٍ آخَرَ فَبَنَى مُبْتَدَأً عَلَى مُبْتَدَأٍ وجمع والمعنى قوله: {إنا لا نضيع} من خبر المبتدأ الأول وتقديره: إنا لانضيع أَجْرَهُمْ لِأَنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عملا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 الْهَدْمُ. وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْغَيْرُ بِكَلَامٍ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى فَتَأْتِيَ بِضِدِّهِ فَإِنَّكَ قَدْ هَدَمْتَ مَا بَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ الْأَوَّلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} هَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} وبقوله: {والله لا يحب الظالمين} وبقوله: {فلم يعذبكم بذنوبكم} ، تَقْدِيرُهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ. وَمِنْهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المسيح ابن الله} هدمه بقوله: {ذلك قولهم بأفواههم} وقوله: {ما اتخذ الله من ولد} . منه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله} هَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِي دَعْوَاهُمُ الشَّهَادَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 التَّوَسُّعُ. مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَلَكُوتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لقوم يعقلون} . ويكثر ذلك في تقديرات العقائد الإلهية: لتتمكن في النفوس، كقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ النُّطْفَةِ وَتَقَلُّبِهَا فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ وَتَطَوُّرَاتِ الْخِلْقَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركون} . وَمِنْهُ التَّوَسُّعُ فِي تَرَادُفِ الصِّفَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يكد يراها} ، فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ اخْتِصَارُهُ لَكَانَ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ في بحر لجي} مُظْلِمٍ. وَمِنْهُ التَّوَسُّعُ فِي الذَّمِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم} إلى قوله: {على الخرطوم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 التَّشْبِيهُ. اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى شَرَفِهِ فِي أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ فِي أَعْقَابِ الْمَعَانِي أَفَادَهَا كَمَالًا وَكَسَاهَا حُلَّةً وَجَمَالًا قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي "الْكَامِلِ": هُوَ جَارٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ. وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَبُو الْقَاسِمِ ابن البنداري البغدادي كتاب "الجمان في تشبهيات القرآن". مباحث التشبيه. وَفِيهِ مَبَاحِثُ:. الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ. وَهُوَ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِذِي وَصْفٍ فِي وَصْفِهِ. وَقِيلَ: أَنْ تُثْبِتَ لِلْمُشَبَّهِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَقِيلَ: الدَّلَالَةُ عَلَى اشْتِرَاكِ شَيْئَيْنِ فِي وَصْفٍ هو من أوصاف الشيء الواحد كَالطِّيبِ فِي الْمِسْكِ وَالضِّيَاءِ فِي الشَّمْسِ وَالنُّورِ فِي الْقَمَرِ. وَهُوَ حُكْمٌ إِضَافِيٌّ لَا يَرِدُ إِلَّا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِخِلَافِ الِاسْتِعَارَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 الثَّانِي: فِي الْغَرَضِ مِنْهُ. وَهُوَ تَأْنِيسُ النَّفْسِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ خَفِيٍّ إِلَى جَلِيٍّ وَإِدْنَائِهِ الْبَعِيدَ مِنَ الْقَرِيبِ لِيُفِيدَ بَيَانًا. وَقِيلَ: الْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مَعَ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ أَسَدٌ كَانَ الْغَرَضُ بَيَانَ حَالِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِقُوَّةِ الْبَطْشِ وَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِوَى جَعْلِنَا إِيَّاهُ شَبِيهًا بِالْأَسَدِ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مُخْتَصَّةً بِهِ فَصَارَ هَذَا أَبْيَنَ وَأَبْلَغَ مِنْ قَوْلِنَا زَيْدٌ شَهْمٌ شُجَاعٌ قَوِيُّ الْبَطْشِ وَنَحْوِهِ. الثَّالِثُ: فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ. وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ قَالَ الزِّنْجَانِيُّ فِي "الْمِعْيَارِ": التَّشْبِيهُ لَيْسَ بِمَجَازٍ لِأَنَّهُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَهُ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعًا فَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَوْطِئَةٌ لِمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ كَالْأَصْلِ لَهُمَا وَهُمَا كَالْفَرْعِ لَهُ. وَالَّذِي يَقَعُ مِنْهُ فِي حَيِّزِ الْمَجَازِ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ هُوَ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى حَدِّ الِاسْتِعَارَةِ. وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِحَرْفٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ بِحَذْفِهِ فَمَجَازٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَذْفَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 الرَّابِعُ: فِي أَدَوَاتِهِ. وَهِيَ أَسْمَاءٌ وَأَفْعَالٌ وَحُرُوفٌ. فَالْأَسْمَاءُ: مَثَلٌ وَشَبَهٌ وَنَحْوُهُمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ ريح فيها صر} {مثل الفريقين كالأعمى} {وأتوا به متشابها} {إن البقر تشابه علينا} . والأفعال: كقوله: {يحسبه الظمآن ماء} {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} . وَالْحُرُوفُ إِمَّا بَسِيطَةٌ كَالْكَافِ، نَحْوُ: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ به الريح} {كدأب آل فرعون} وإما مركبة، كقوله تعالى: {كأنه رؤوس الشياطين} . الْخَامِسُ: فِي أَقْسَامِهِ. وَهُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ:. الْأَوَّلُ: أنه إما أن يشبه بحرف أولا. وَتَشْبِيهُ الْحَرْفِ ضَرْبَانِ:. أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّشْبِيهِ فَقَطْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وقوله: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} . {خلق الأنسان من صلصال كالفخار} . {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون} . {وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} . وَثَانِيهَا: أَنْ يُضَافَ إِلَى حَرْفِ التَّشْبِيهِ حَرْفٌ مُؤَكِّدٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى قُوَّةِ التَّشْبِيهِ وتأكيده وكقوله تعالى: {كأنهن الياقوت والمرجان} . {كأنهن بيض مكنون} . {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} . {تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر} . {كأنهم أعجاز نخل خاوية} . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ اسْتَرْسَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هذا الذي رزقنا من قبل} وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ وَاحْتَرَزَتْ بِلْقِيسُ فقالت: {كأنه هو} وَلَمْ تَقُلْ: هُوَ هُوَ؟. قِيلَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ وَثِقُوا بِأَنَّ الْغَرَضَ مَفْهُومٌ وَأَنْ أَحَدًا لَا يَعْتَقِدُ فِي الْحَاضِرِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمُسْتَهْلَكِ الْمَاضِي وَأَمَّا بِلْقِيسُ فَالْتَبَسَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يشبهه،. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 لِأَنَّهَا بَنَتْ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ أَنَّ السَّرِيرَ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى آخَرَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ، فَيُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ تَنْزِيلًا لِلثَّانِي مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ تَجَوُّزًا، كقوله: {وأزواجه أمهاتهم} . وقوله: {وسراجا منيرا} . وقوله: {وجنة عرضها السماوات والأرض} . وكذلك: {تمر مر السحاب} . وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {قواريرا. قوارير من فضة} أَيْ كَأَنَّهَا فِي بَيَاضِهَا مِنْ فِضَّةٍ فَهُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ لَا عَلَى أَنَّ الْقَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ} ، فَقَوْلُهُ: [بَيْضَاءَ] مِثْلُ قَوْلِهِ: [مِنْ فِضَّةٍ] . تَنْبِيهَانِ:. الْأَوَّلُ: هَذَا الْقِسْمُ يُشْبِهُ الِاسْتِعَارَةَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا -كَمَا قَالَهُ حَازِمٌ وَغَيْرُهُ - أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ فَتَقْدِيرُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا وَالتَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَاجِبٌ فِيهِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} أَيْ تَبْصِرَةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ حَرْفِ التشبيه فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 وَقَدِ اخْتَلَفَ الْبَيَانِيُّونَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {صم بكم عمي} إِنَّهُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ -كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ - عَلَى الْأَوَّلِ قَالَ: لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ - وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ - أَيْ مَذْكُورٌ فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَالِاسْتِعَارَةُ لَا يُذْكَرُ فِيهَا الْمُسْتَعَارُ لَهُ وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خِلْوًا عَنْهُ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لأن يراد به المنقول عنه و [المنقول] إليه لولا لا قرينة وَمِنْ ثَمَّ تَرَى الْمُفْلِقِينَ السَّحَرَةَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَنَاسَوْنَ التَّشْبِيهَ وَيَضْرِبُونَ عَنْهُ صَفْحًا. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ إِمْكَانَ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَتَنَاسِي التَّشْبِيهِ وَزَيْدٌ أَسَدٌ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً. الثَّانِي: قَدْ يُتْرَكُ التَّشْبِيهُ لفظا ويراد معنى إذ لَمْ يُرَدْ مَعْنًى وَلَمْ يَكُنْ مَنْوِيًّا كَانَ اسْتِعَارَةً. مِثَالُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فَهَذَا تَشْبِيهٌ لَا اسْتِعَارَةٌ لِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْخَيْطِ الأسود وهو ما يمتد معه مِنْ غَسَقِ اللَّيْلِ شَبِيهًا بِخَيْطٍ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَبُيِّنَا بِقَوْلِهِ: {مِنَ الْفَجْرِ} وَالْفَجْرُ - وَإِنْ كَانَ بَيَانًا لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ - لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَحَدُهُمَا بَيَانًا لِلْآخَرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ اكْتُفِيَ بِهِ عَنْهُ وَلَوْلَا الْبَيَانُ كَانَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا أَنَّ قَوْلَكَ رَأَيْتُ أَسَدًا اسْتِعَارَةٌ فَإِذَا زِدْتَ مِنْ فُلَانٍ، صَارَ تَشْبِيهًا وَأَمَّا أَنَّهُ لِمَ زِيدَ [مِنَ الْفَجْرِ] حَتَّى صَارَ تَشْبِيهًا؟ وَهَلَّا اقتصر به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 عَلَى الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ فَلِأَنَّ شَرْطَ الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ [مِنَ الْفَجْرِ] لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْخَيْطَيْنِ مُسْتَعَارَانِ مِنْ [بَدَا الْفَجْرُ] فَصَارَ تَشْبِيهًا. التَّقْسِيمُ الثَّانِي. يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُمَا:. إِمَّا حِسِّيَّانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كالعرجون القديم} وقوله: {كأنهم أعجاز نخل منقعر} . أَوْ عَقْلِيَّانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قسوة} . وَإِمَّا تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كرماد اشتدت به الريح} ، وقوله: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} لِأَنَّ حَمْلَهُمُ التَّوْرَاةَ لَيْسَ كَالْحَمْلِ عَلَى الْعَاتِقِ إِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ بِمَا فِيهَا. أَمَّا عَكْسُهُ فَمَنَعَهُ الْإِمَامُ، لِأَنَّ الْعَقْلَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحِسِّ وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَنْ فَقَدَ حِسًّا فَقَدْ فَقَدَ علما وإذا كان ان الْمَحْسُوسُ أَصْلًا لِلْمَعْقُولِ فَتَشْبِيهُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْأَصْلِ فَرْعًا وَالْفَرْعَ أَصْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ: وَكَأَنَّ النُّجُومَ بَيْنَ دُجَاهُ ... سُنَنٌ لَاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِدَاعُ وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:. الْأَوَّلُ: قَدْ يُشَبَّهُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَاسَّةُ بِمَا لَا تَقَعُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ فَإِنَّ إِدْرَاكَهُمَا أَبْلَغُ من إدراك الحاسة كقوله تعالى: {كأنه رؤوس الشياطين} ، فَشَبَّهَ بِمَا لَا نَشُكُّ أَنَّهُ مُنْكَرٌ قَبِيحٌ لِمَا حَصَلَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ بَشَاعَةِ صُوَرِ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ لَمْ تَرَهَا عَيَانًا. الثَّانِي: عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} أَخْرَجَ مَا لَا يُحَسُّ - وَهُوَ الْإِيمَانُ - إِلَى مَا يُحَسُّ - وَهُوَ السَّرَابُ - وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بُطْلَانُ التَّوَهُّمِ بَيْنَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وَعِظَمِ الْفَاقَةِ. الثَّالِثُ: إخرج مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ، نَحْوَ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنه ظلة} ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِانْتِفَاعُ بِالصُّورَةِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {إِنَّمَا مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} وَالْجَامِعُ الْبَهْجَةُ وَالزِّينَةُ ثُمَّ الْهَلَاكُ وَفِيهِ الْعِبْرَةُ. الرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا لَا يُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ إِلَى مَا يُعْرَفُ بِهَا كَقَوْلِهِ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض} الْجَامِعُ الْعِظَمُ وَفَائِدَتُهُ التَّشْوِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ بِحُسْنِ الصفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 الْخَامِسُ: إِخْرَاجُ مَا لَا قُوَّةَ لَهُ فِي الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قُوَّةٌ فِيهَا كَقَوْلِهِ: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} وَالْجَامِعُ فِيهِمَا الْعِظَمُ وَالْفَائِدَةُ الْبَيَانُ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِيرِ الْأَجْسَامِ الْعِظَامِ فِي أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَاءِ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ تَجْرِي تَشْبِيهَاتُ الْقُرْآنِ. التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ. يَنْقَسِمُ إِلَى مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ:. وَالْمُرَكَّبُ: أَنْ يُنْزَعَ مِنْ أُمُورٍ مَجْمُوعٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يحمل أسفارا} فالتشبيه مركب من أحوال الحمار وذلك هو حَمْلَ الْأَسْفَارِ الَّتِي هِيَ أَوْعِيَةُ الْعِلْمِ وَخَزَائِنُ ثَمَرَةِ الْعُقُولِ ثُمَّ لَا يُحْسِنُ مَا فِيهَا وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَحْمَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ فَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يَحْمِلُ حَظٌّ سِوَى أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ وَيُتْعِبُهُ. وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا} . وَقَوْلِهِ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ من السماء} قَالَ بَعْضُهُمْ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَاءِ وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ فَوْقَ حَاجَتِكَ تَضَرَّرْتَ وَإِنْ أَخَذْتَ قَدَرَ الْحَاجَةِ انْتَفَعْتَ بِهِ فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَطْبَقْتَ كَفَّكَ عَلَيْهِ لِتَحْفَظَهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَهَا بالماء وحده بل المراد تشبيهه بهجةالدنيا فِي قِلَّةِ الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ بِأَنِيقِ النَّبَاتِ الَّذِي يَصِيرُ بَعْدَ تِلْكَ الْبَهْجَةِ وَالْغَضَاضَةِ وَالطَّرَاوَةِ إِلَى ما ذكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 وَمِنْ تَشْبِيهِ الْمُفْرَدِ بِالْمُرَكَّبِ قَوْلُهُ: {مَثَلُ نُورِهِ كمشكاة} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ نُورِهِ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ ثُمَّ مَثَّلَهُ بِمِصْبَاحٍ ثُمَّ لَمْ يَقْنَعْ بِكُلِّ مِصْبَاحٍ بَلْ بِمِصْبَاحٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْإِضَاءَةِ بِوَضْعِهِ فِي مِشْكَاةٍ وَهِيَ الطَّاقَةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ وَكَوْنُهَا لَا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ لِلتَّبَصُّرِ وَقَدْ جُعِلَ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي داخل زجاجة فيه الكوكب الدري في صفاتها وذهن الْمِصْبَاحِ مِنْ أَصْفَى الْأَدْهَانِ وَأَقْوَاهَا وَقُودًا لِأَنَّهُ مِنْ زَيْتِ شَجَرٍ فِي أَوْسَطِ الزُّجَاجِ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بَلْ تُصِيبُهَا أَعْدَلَ إِصَابَةٍ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ ثُمَّ ضَرَبَ للكافر مثلين: أحدهما: {كسراب بقيعة يحسبه} ، والثاني: {أو كظلمات في بحر لجي} شَبَّهَ فِي الْأَوَّلِ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَا يُقَدِّرُ الْإِيمَانَ الْمُعْتَبَرَ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْسَبُهَا بِقِيعَةٍ ثم يخيب أمله بسراب يراه الكافر بالساهرة وَقَدْ غَلَبَهُ عَطَشُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَجِيئُهُ فَلَا يَجِدُهُ مَاءً وَيَجِدُ زَبَانِيَةَ اللَّهِ عِنْدَهُ فَيَأْخُذُونَهُ فَيُلْقُونَهُ إِلَى جَهَنَّمَ. الْبَحْثُ السَّادِسُ. يَنْتَظِمُ قَوَاعِدَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّشْبِيهِ. الْأُولَى: قَدْ تُشَبَّهُ أَشْيَاءُ بِأَشْيَاءَ ثُمَّ تَارَةً يُصَرِّحُ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات ولا المسيء} وَتَارَةً لَا يُصَرِّحُ بِهِ بَلْ يَجِيءُ مَطْوِيًّا عَلَى سُنَنِ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أجاج} ، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ لا المفردة بيانه أَنَّ الْعَرَبَ تَأْخُذُ أَشْيَاءَ فُرَادَى [مَعْزُولًا بَعْضُهَا من بعض لم يأخذ هذا بحجزه ذاك] فَتُشَبِّهُهَا بِنَظَائِرِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَتُشَبِّهُ كَيْفِيَّةً حَاصِلَةً مِنْ مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ تَضَامَّتْ حَتَّى صَارَتْ شَيْئًا وَاحِدًا بِأُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التوراة} الْآيَةَ. وَنَظَائِرُهُ مِنْ حَيْثُ اجْتَمَعَتْ تَشْبِيهَاتٌ كَمَا فِي تَمْثِيلِ اللَّهِ حَالَ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَبْلَغُهُ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ وَلِذَلِكَ أُخِّرَ قَالَ وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. الثَّانِيَةُ: أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّشْبِيهِ فِي الْأَبْلَغِيَّةِ تَرْكُ وَجْهِ الشَّبَهِ وَأَدَاتِهِ نَحْوَ زَيْدٌ أَسَدٌ أَمَّا تَرْكُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ فَكَقَوْلِهِ زَيْدٌ كَالْأَسَدِ وَأَمَّا تَرْكُ أَدَاتِهِ وَحْدَهَا فَكَقَوْلِهِ: زَيْدٌ الْأَسَدُ شِدَّةً. وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ "الْمِفْتَاحِ" إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ وَجْهِ الشَّبَهِ أَبْلَغُ مِنْ تَرْكِ أَدَاتِهِ قَالَ: لِعُمُومِ وَجْهِ الشبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 وَخَالَفَهُ صَاحِبُ "ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ" لِأَنَّهُ إِذَا عَمَّ وَاحْتَمَلَ التَّعَدُّدَ وَلَمْ تَبْقَ دَلَالَتُهُ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ دَلَالَةَ مَنْطُوقٍ بَلْ دَلَالَةَ مَفْهُومٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ صِفَةَ ذَمٍّ لَا مَدْحٍ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي تَرْكِ الْأَدَاةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُ مِثْلُهُ مِنْ تَرْكِهَا لِأَنَّ قَرِينَةَ تَرْكِ الْأَدَاةِ تَصْرِفُ إِرَادَةَ الْمَدْحِ دُونَ الذَّمِّ. وَذِكْرُهُمَا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ شِدَّةً. الثَّالِثَةُ: قَدْ تَدْخُلُ الْأَدَاةُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَلَكِنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مريم} الآية. المراد: كونوا أنصار الله خَالِصِينَ فِي الِانْقِيَادِ كَشَأْنِ مُخَاطِبِي عِيسَى إِذْ قَالُوا. وَمِمَّا دَلَّ عَلَى السِّيَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْخَارِقِ بِالْمُعْتَادِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَتْ فَائِدَتُهُ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبَ الشَّبَهِ فِي فَهْمِ السَّامِعِ وَإِيضَاحَهُ لَهُ فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ أَتَمَّ وَالْقَصْدُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى مِثْلَ قِيَاسِ النَّحْوِيِّ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الدُّنُوُّ جِدًّا أَوِ الْعُلُوُّ جِدًّا وَعَلَيْهِ بَنَى الْمَعَرِّي قَوْلَهُ: ظَلَمْنَاكَ فِي تَشْبِيهِ صُدْغَيْكَ بِالْمِسْكِ ... وَقَاعِدَةُ التَّشْبِيهِ نُقْصَانُ مَا يُحْكَى وَقَوْلُ آخَرَ: كَالْبَحْرِ وَالْكَافِ أنى ضفت زائدة ... فيه فلا تظنها كاف تشبيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 وأما قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى لِكَوْنِهِ فِي الذِّهْنِ أَوْضَحَ إِذِ الْإِحَاطَةُ بِهِ أَتَمُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} فَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْغَرِيبِ بِالْأَغْرَبِ لِأَنَّ خَلْقَ آدم مِنْ خَلْقِ عِيسَى لِيَكُونَ أَقْطَعَ لِلْخَصْمِ وَأَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ وَهُوَ رَدُّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلٍ لِشَبَهٍ مَا لِأَنَّ عِيسَى رُدَّ إِلَى آدَمَ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا وَالْمَعْنَى أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ فَكَذَلِكَ خُلِقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مسندة} شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ لِأَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهَا وَبِالْمُسَنَّدَةِ لِأَنَّهُ لَا انْتِفَاعَ بِالْخَشَبِ فِي حَالِ تَسْنِيدِهِ. الْخَامِسَةُ: الْأَصْلُ دُخُولُ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْكَامِلُ كَقَوْلِكَ: لَيْسَ الْفِضَّةُ كَالذَّهَبِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ كَالْحُرِّ وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُشَبَّهِ لِأَسْبَابٍ:. مِنْهَا وُضُوحُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} فَإِنَّ الْأَصْلَ وَلَيْسَ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْأَصْلِ لِأَنَّ مَعْنَى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الَّذِي طَلَبَتْ {كَالْأُنْثَى} الَّتِي وُهِبَتْ لَهَا لِأَنَّ الْأُنْثَى أَفْضَلُ مِنْهُ وَقِيلَ: لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {إني وضعتها أنثى} . وَوَهِمَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ هَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْمَقْلُوبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ جَعْلُ الْفَرْعِ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فَرْعًا فِي التَّشْبِيهِ فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِمْ: الْقَمَرُ كَوَجْهِ زَيْدٍ والبحر ككفيه كان جعل الأصل فرعا والفرح أَصْلًا فِي كَمَالِهِ الَّذِي يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُشَابَهَةِ لَا نَفْيَ الْمُشَابَهَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ وَاقِعَةٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي أَعَمِّ الْأَوْصَافِ وَأَغْلَبِهَا وَلِهَذَا يُقَادُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَمِنْهَا قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ، فَيُقْلَبُ التَّشْبِيهُ وَيُجْعَلُ الْمُشَبَّهُ هُوَ الْأَصْلَ وَيُسَمَّى تَشْبِيهَ الْعَكْسِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَعْلِ الْمُشَبَّهِ مُشَبَّهًا بِهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مُشَبَّهًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مثل الربا} كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الرِّبَا لَا فِي الْبَيْعِ لَكِنْ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَجَرَّءُوا إِذْ جَعَلُوا الرِّبَا أَصْلًا مُلْحَقًا بِهِ الْبَيْعُ فِي الْجَوَازِ وَأَنَّهُ الْخَلِيقُ بِالْحِلِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلْزَامَ الْإِسْلَامِ فَيَحْرُمُ الْبَيْعُ قِيَاسًا عَلَى الرِّبَا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفَضْلِ طَرْدًا لِأَصْلِهِمْ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَقْضٌ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ اتِّبَاعُ أَحْكَامِ اللَّهِ وَاقْتِفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِجْرَائِهَا عَلَى قَانُونٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْأَسْرَارَ الْإِلَهِيَّةَ كَثِيرًا مَا تَخْفَى وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ فَيُسَلَّمُ لَهُ عِنَانُ الِانْقِيَادِ وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ إلزام الجدلي وجاء الْجَوَابِ بِفَكِّ الْمُلَازَمَةِ وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا وَفِيهِ إِبْطَالُ الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْعَكْسُ لِأَنَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 الخطاب لعبدة الأوثان وسموها آلهة تشبهيا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ جَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ فَخُولِفَ فِي خِطَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي عِبَادَتِهِمْ وَغَلَوْا حَتَّى صَارَتْ عِنْدَهُمْ أَصْلًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ فَرْعًا فَجَاءَ الْإِشْكَالُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَاسَوْا غَيْرَ الْخَالِقِ خُوطِبُوا بِأَشَدِّ الْإِلْزَامَيْنِ وَهُوَ تَنْقِيصُ الْمُقَدَّسِ لَا تَقْدِيسُ النَّاقِصِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِـ[مَنْ لَا يَخْلُقُ] الْحَيُّ الْقَادِرُ مِنَ الْخَلْقِ تَعْرِيضًا بِإِنْكَارِ تَشْبِيهِ الْأَصْنَامِ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} بَدَلَ [هَوَاهُ إِلَهَهُ] فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ ثانيا والثاني أولا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْهَوَى أَقْوَى وَأَوْثَقُ عِنْدَهُ من إلاهه. ومنه قوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} . وقوله: {أم نجعل المتقين كالفجار} ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَوْرَدَ أَنَّ أَصْلَ التَّشْبِيهِ يُشَبَّهُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى فَيُقَالُ: [أَفَتَجْعَلُ الْمُجْرِمِينَ كَالْمُسْلِمِينَ وَالْفُجَّارَ كَالْمُتَّقِينَ] فَلِمَ خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ!. وَيُقَالُ: فِيهِ وَجْهَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ نَسُودُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا نَسُودُ فِي الدُّنْيَا وَيَكُونُونَ أَتْبَاعًا لَنَا فَكَمَا أَعَزَّنَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ يُعِزُّنَا فِي الْآخِرَةِ فَجَاءَ الْجَوَابُ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَى وَغَيْرَهُمْ أَدْنَى. الثَّانِي: لَمَّا قِيلَ قَبْلَ الْآيَةِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 ظن الذين كفروا} أَيْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَمْرَ يُهْمَلُ وَأَنْ لَا حشر ولا نشر أم لم يَظُنُّوا ذَلِكَ وَلَكِنْ يَظُنُّونَ أَنَّا نَجْعَلُ الْمُؤْمِنِينَ كالمجرمين والمتقين كالفجار. السادسة: أن التشبيه فِي الذَّمِّ يُشَبَّهُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، لِأَنَّ الذَّمَّ مَقَامُ الْأَدْنَى وَالْأَعْلَى ظَاهِرٌ عَلَيْهِ فَيُشَبَّهُ بِهِ في السلب ومنه قوله: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} ، أَيْ فِي النُّزُولِ لَا فِي الْعُلُوِّ. وَمِنْهُ: {أم نجعل المتقين كالفجار} أَيْ فِي سُوءِ الْحَالِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَدْحِ يُشَبَّهُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى فَيُقَالُ: تُرَابٌ كَالْمِسْكِ وَحَصًى كَالْيَاقُوتِ وَفِي الذَّمِّ مِسْكٌ كَالتُّرَابِ وَيَاقُوتٌ كَالزُّجَاجِ. السَّابِعَةُ: قَدْ يَدْخُلُ التَّشْبِيهُ عَلَى لَفْظٍ وَهُوَ مَحْذُوفٌ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بما لا يسمع} . فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَثَلُ وَاعِظِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَالْمُشَبَّهُ الْوَاعِظُ وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ حَالِ الْوَاعِظِ مِنْهُمْ بِالنَّاعِقِ لِلْأَغْنَامِ وَهِيَ لَا تَعْقِلُ مَعْنَى دُعَائِهِ وَإِنَّمَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا تَفْهَمُ غَرَضَهُ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ عَلَى الْغَنَمِ الَّتِي يَنْعِقُ بِهَا الرَّاعِي ويمد صوته إليها وَفِيهِ وُجُوهٌ:. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الْغَنَمِ لَا تَفْهَمُ نِدَاءَ النَّاعِقِ فَأَضَافَ الْمَثَلَ إِلَى النَّاعِقِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى لِلْمَنْعُوقِ بِهِ عَلَى الْقَلْبِ. ثَانِيهَا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كفروا ومثلنا ومثل مثلك الَّذِي يَنْعِقُ أَيْ مَثَلُهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 وَمَثَلُنَا فِي الدُّعَاءِ وَالْإِرْشَادِ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ فَحَذَفَ الْمَثَلَ الثَّانِيَ اكْتِفَاءً بِالْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: {سَرَابِيلَ تقيكم الحر} . وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ وَهِيَ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَسْمَعُ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ وَعَلَى هَذَا فَالنِّدَاءُ وَالدُّعَاءُ مُنْتَصِبَانِ بِـ[يَنْعِقُ] وَ [لَا] تَوْكِيدٌ لِلْكَلَامِ وَمَعْنَاهَا الْإِلْغَاءُ. رَابِعُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ وَعِبَادَتِهِمْ لَهَا وَاسْتِرْزَاقِهِمْ إِيَّاهَا كَمِثَالِ الرَّاعِي الَّذِي ينعق بغنمه وَيُنَادِيهَا فَهِيَ تَسْمَعُ نِدَاءً وَلَا تَفْهَمُ مَعْنَى كَلَامِهِ فَيُشَبِّهُ مَنْ يَدْعُوهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِالْغَنَمِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْقِلُ الْخِطَابَ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي ضَرْبَ الْمَثَلِ بِمَا لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَالنِّدَاءَ جُمْلَةً وَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى غَيْرِ الْغَنَمِ وَهَذَا يَقْتَضِي ضَرْبَ الْمَثَلِ بِمَا لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَالنِّدَاءَ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْهُمَا وَالْأَصْنَامُ - مِنْ حَيْثُ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ الدُّعَاءَ جُمْلَةً - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيهَا وَنَادِيهَا أَسْوَأَ حَالًا مِنْ مُنَادِي الْغَنَمِ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي كِتَابِ "غُرَرِ الْفَوَائِدِ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صر..} الْآيَةَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ عَلَى الْحَرْثِ الَّذِي أهلكته الريح قِيلَ فِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ مَثَلُ إِهْلَاكِ مَا يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ إِهْلَاكِ رِيحٍ. قَالَ ثَعْلَبٌ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ كَمَثَلِ حَرْثِ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَصَابَتْهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ فَأَهْلَكَتْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: كَمَا يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ قَالَ: وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِتَقْدِيرِهِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَكِنْ مُحَافَظَةً عَلَى اللَّفْظِ فَلَا يُقَدَّرُ الْفَاعِلُ إِذِ الْفَاعِلُ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ فَضْلَةٌ فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ كَذَلِكَ فِي التَّقْدِيرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 الِاسْتِعَارَةُ. هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْتِعَارَةُ مَجَازٌ وَقَدْ سَبَقَ تَقْدِيرُهُ. وَمَنَعَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الِاسْتِعَارَةِ فِيهِ لِأَنَّ فِيهَا إِيهَامًا لِلْحَاجَةِ وَهَكَذَا كَمَا مَنَعَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَهُوَ لَا يُنْكِرُ وُقُوعَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ فِيهِ إِنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى إِذْنِ الشَّرْعِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلْإِطْلَاقِ شَرَطُوا عَدَمَ الْإِبْهَامِ وَقَدْ يَمْنَعُونَ الْإِبْهَامَ الْمَذْكُورَ لِأَنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسم لأعلى مراتب الفصاحة. وقال الطرطوسي: إِنْ أَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِعَارَةَ فِيهِ أَطْلَقْنَاهَا وَإِنِ امْتَنَعُوا امْتَنَعْنَا وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَقْلُ ثُمَّ لَا نَصِفُهُ بِهِ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ. انْتَهَى. وَالْمَشْهُورُ تجويز الإطلاق. مباحث الاستعارة. ثُمَّ فِيهَا مَبَاحِثُ:. الْأَوَّلُ: وَهِيَ "اسْتِفْعَالٌ"، مِنَ الْعَارِيَّةِ، ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّخْيِيلِ لقصد المبالغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 فِي التَّخْيِيلِ وَالتَّشْبِيهِ مَعَ الْإِيجَازِ نَحْوِ لَقِيتُ أَسَدًا وَتَعْنِي بِهِ الشُّجَاعَ. وَحَقِيقَتُهَا أَنْ تُسْتَعَارَ الكلمة من شيء معروف بها إل شَيْءٍ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْخَفِيِّ وَإِيضَاحُ الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِجَلِيٍّ أَوْ بِحُصُولِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلْمَجْمُوعِ. فَمِثَالُ إِظْهَارِ الْخَفِيِّ، قوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب} ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ [الْأُمِّ] لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَنْشَأُ مِنَ الْأُمِّ كَمَا تَنْشَأُ الْفُرُوعُ مِنَ الْأُصُولِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَمْثِيلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ حَتَّى يَصِيرَ مَرْئِيًّا فَيَنْتَقِلُ السَّامِعُ مِنْ حَدِّ السَّمَاعِ إِلَى حَدِّ الْعِيَانِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ. وَمِثَالُ إِيضَاحِ مَا لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِيَصِيرَ جَلِيًّا، قَوْلُهُ تعالى: {واخفض لهما جناح الذل} لِأَنَّ الْمُرَادَ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالذُّلِّ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً فَاسْتُعِيرَ لِلْوَلَدِ أَوَّلًا جَانِبَ ثُمَّ لِلْجَانِبِ جَنَاحَ وَتَقْدِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْقَرِيبَةِ: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ] أَيْ اخْفِضْ جَانِبَكَ ذُلًّا. وَحِكْمَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي هذاجعل مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ مَرْئِيًّا لِأَجْلِ حُسْنِ الْبَيَانِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ خَفْضَ جَانِبِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي الْوَلَدُ مِنَ الذُّلِّ لَهُمَا وَالِاسْتِكَانَةِ مَرْكَبًا احْتِيجَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى فَاسْتُعِيرَ الْجَنَاحُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَحْصُلُ مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ لِأَنَّ مَنْ مَيَّلَ جَانِبَهُ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ أَدْنَى مَيْلٍ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خفض جانبه المراد خَفْضٌ يُلْصِقُ الْجَنْبَ بِالْإِبِطِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِخَفْضِ الْجَنَاحِ كَالطَّائِرِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمُلَامِ فَإِنَّنِي ... صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَارُورَةً وَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ فَأَرْسَلَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 أَبُو تَمَّامٍ: أَنِ ابْعَثْ لِي رِيشَةً مِنْ جَنَاحِ الذُّلِّ أَبْعَثْ إِلَيْكَ مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّشْبِيهَيْنِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ الْجَنَاحِ لِلذُّلِّ كَجَعْلِ الْمَاءِ لِلْمُلَامِ فَإِنَّ الْجَنَاحَ لِلذُّلِّ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ الطَّائِرَ إِذَا وَهَى وَتَعِبَ بَسَطَ جَنَاحَهُ وَأَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلِلْإِنْسَانِ أَيْضًا جَنَاحٌ فَإِنَّ يَدَيْهِ جَنَاحَاهُ وَإِذَا خَضَعَ وَاسْتَكَانَ يطأطىء مِنْ رَأْسِهِ وَخَفَضَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَحَسُنَ عِنْدَ ذَلِكَ جَعْلُ الْجَنَاحِ لِلذُّلِّ وَصَارَ شَبَهًا مُنَاسِبًا وَأَمَّا مَاءُ الْمُلَامِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مُنَاسَبَةِ التَّشْبِيهِ فَلِذَلِكَ اسْتُهْجِنَ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إِنَّ الِاسْتِعَارَةَ التَّخْيِيلِيَّةَ فِيهِ تَابِعَةٌ لِلِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ فَإِنَّ تَشْبِيهَ الْمُلَامِ بِظَرْفِ الشَّرَابِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ الشَّارِبُ لِمَرَارَتِهِ ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمُلَامَ لَهُ كَمَائِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ يُشَبَّهُ بِالْمَاءِ فَالِاسْتِعَارَةُ فِي اسْمِ الْمَاءِ. الثَّانِي: فِي أَنَّهَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْمَجَازِ لِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: لَيْسَ بِمَجَازٍ لِعَدَمِ النَّقْلِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ هِيَ تَشْبِيهٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَلِهَذَا حَدَّهَا بَعْضُهُمْ بِادِّعَاءِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ فِي الشَّيْءِ مُبَالَغَةً فِي التَّشْبِيهِ. كَقَوْلِهِمْ: انْشَقَّتْ عَصَاهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا وَذَلِكَ لِلْعَصَا لَا لِلْقَوْمِ وَيَقُولُونَ: كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ. وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّشْبِيهَ إِذَا ذُكِرَتْ مَعَهُ الْأَدَاةُ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ وَإِنْ حُذِفَتْ فَهَذَا يَلْتَبِسُ بِالِاسْتِعَارَةِ فَإِذَا ذَكَرْتَ الْمُشَبَّهَ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ الْأَسَدُ فَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بكم عمي} ، إِنْ لَمْ يُذْكَرِ الْمُشَبَّهُ بِهِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ كَقَوْلِهِ: لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 فَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ نَقَلْتَ لَهَا وَصْفَ الشُّجَاعِ إِلَى عِبَارَةٍ صَالِحَةٍ لِلْأَسَدِ لَوْلَا قَرِينَةُ السِّلَاحِ لَشَكَكْتَ هَلْ أَرَادَ الرَّجُلَ الشُّجَاعَ أَوِ الْأَسَدَ الضَّارِيَ؟. الثَّالِثُ: لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أُصُولٍ: مُسْتَعَارٍ، وَمُسْتَعَارٍ مِنْهُ، وَهُوَ اللَّفْظُ، وَمُسْتَعَارٍ لَهُ وَهُوَ الْمَعْنَى، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرأس شيبا} المستعار الاشتعال، المستعار مِنْهُ النَّارُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ مُشَابَهَةُ ضَوْءِ النَّهَارِ لِبَيَاضِ الشَّيْبِ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ وَصْفُ مَا هُوَ أَخْفَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَظْهَرُ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَاشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ وَإِنَّمَا قَلَبَ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ عُمُومُ الشَّيْبِ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ وَلَوْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ الْعُمُومَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ كَثُرَ الشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَعْنَى يُعَارُ أَوَّلًا ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِ يُعَارُ اللَّفْظُ وَلَا تَحْسُنُ الِاسْتِعَارَةُ إِلَّا حَيْثُ كَانَ الشَّبَهُ مُقَرَّرًا بَيْنَهُمَا ظَاهِرًا وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالشَّبَهِ فَلَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ نَخْلَةً أَوْ خَامَةً وَأَنْتَ تُرِيدُ مُؤْمِنًا إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّخْلَةِ " أَوِ " الْخَامَةِ " لَكُنْتَ كَالْمُلْغِزِ. وَمِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والصبح إذا تنفس} وَحَقِيقَتُهُ [بَدَأَ انْتِشَارُهُ] وَ [تَنَفَّسَ] أَبْلَغُ فَإِنَّ ظُهُورَ الْأَنْوَارِ فِي الْمَشْرِقِ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ قَلِيلًا قَلِيلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْرَاجِ النَّفَسِ مُشَارَكَةٌ شديدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 وقوله: {الليل نسلخ منه النهار} ، لِأَنَّ انْسِلَاخَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَيَزُولَ عَنْهُ حَالًا فَحَالًا كَذَلِكَ انْفِصَالُ اللَّيْلِ عَنِ النَّهَارِ وَالِانْسِلَاخُ أَبْلَغُ مِنَ الِانْفِصَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ. وَقَوْلُهُ: {أَحَاطَ بهم سرادقها} . {سنسمه على الخرطوم} . وقوله: {كأنهم حمر مستنفرة} ، وَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ الْمَذْمُومِ: إِنَّمَا هُوَ حِمَارٌ. وَقَوْلُهُ: {والتفت الساق بالساق} . {أإنا لمردودون في الحافرة} ، أَيْ فِي الْخَلْقِ الْجَدِيدِ. {بَلْ رَانَ عَلَى قلوبهم} . {خلقنا الأنسان في كبد} . {لنسفعا بالناصية} . {وامرأته حمالة الحطب} . {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا منظرين} . {ويتخطف الناس من حولهم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} . {ألا إنما طائرهم عند الله} ، وَالْمُرَادُ حِفْظُهُمْ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أقم الصلاة} ، أَيْ أَتِمَّهَا كَمَا أُمِرْتَ. {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} ، أَيْ عَصَمَكَ مِنْهُمْ، رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي وجاء عن الحسن. {وإنه في أم الكتاب} . {وعنده مفاتح الغيب} . {ولما سكت عن موسى الغضب} . {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} . {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هو زاهق} ، فالدمغ والقذف مستعار. {فضربنا على آذانهم} ، يُرِيدُ لَا إِحْسَاسَ بِهَا مِنْ غَيْرِ صَمَمٍ. وقوله: {فاصدع بما تؤمر} ، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ بَلِّغْ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّدْعِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّبْلِيغِ فَقَدْ لَا يُؤَثِّرُ التَّبْلِيغُ وَالصَّدْعُ يُؤَثِّرُ جَزْمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 الرَّابِعُ: تَنْقَسِمُ إِلَى مُرَشَّحَةٍ. وَهِيَ أَحْسَنُهَا - وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَانِبِ الْمُسْتَعَارِ وَتُرَاعِيَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا ربحت تجارتهم} ، فَإِنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ الَّذِي هُوَ الشِّرَاءُ هُوَ الْمُرَاعَى هُنَا وَهُوَ الَّذِي رَشَّحَ لَفْظَتِيِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ لِلِاسْتِعَارَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُلَاءَمَةِ. وَإِلَى تَجْرِيدِيَّةٍ، وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَانِبِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، ثُمَّ تَأْتِيَ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَيُلَائِمُهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} ، فَالْمُسْتَعَارُ اللِّبَاسُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْجُوعُ فَمُجَرَّدُ الِاسْتِعَارَةِ بِذِكْرِ لَفْظِ الْأَدَاةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْمُسْتَعَارِ لَهُ وَهُوَ الْجُوعُ لَا الْمُسْتَعَارُ وَهُوَ اللِّبَاسُ وَلَوْ أَرَادَ تَرْشِيحَهَا لَقَالَ: وَكَسَاهَا لِبَاسَ الْجُوعِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَاعَاةُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ لِأَنَّ أَلَمَهُمَا يُذَاقُ وَلَا يلبس. وَقَدْ تَجِيءُ مُلَاحَظَةُ الْمُسْتَعَارِ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ، كقوله تعالى: {وامرأته حمالة الحطب} إِذَا حَمَلْنَا الْحَطَبَ عَلَى النَّمِيمَةِ فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ فَقَالَ: [حَمَّالَةَ] وَلَمْ يَقُلْ [رَاوِيَةَ] فَيُلَاحَظُ الْمَعْنَى. وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ بِالْكِنَايَةِ فَهِيَ أَلَّا يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْمُسْتَعَارِ، بَلْ تُذْكَرُ بَعْضُ لَوَازِمِهِ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: شُجَاعٌ يَفْتَرِسُ أَقْرَانَهُ وَعَالِمٌ يَغْتَرِفُ مِنْهُ النَّاسُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الشُّجَاعَ أَسَدٌ وَالْعَالِمَ بَحْرٌ. وَمِنْهُ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ كُلُّهُ عِنْدَ السكاكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 وَمِنْ أَقْسَامِهَا - وَهُوَ دَقِيقٌ - أَنْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِ الْمُسْتَعَارِ ثُمَّ يُومِي إِلَيْهِ بِذِكْرِ شَيْءٍ من توابعه وروادفه تنبيها عليه فيقول شُجَاعٌ يَفْتَرِسُ أَقْرَانَهُ فَنَبَّهْتَ بِالِافْتِرَاسِ عَلَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَعَرْتَ لَهُ الْأَسَدَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} ، فَنَبَّهَ بِالنَّقْضِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَبْلِ وَرَوَادِفِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدِ اسْتَعَارَ لِلْعَهْدِ الْحَبْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَابِ الْوَصْلَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاهِدِينَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ [عَمِلْنَا] لَكِنْ [قَدِمْنَا] أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ إِمْهَالِهِمُ السَّابِقِ عَامَلَهُمْ كَمَا يَفْعَلُ الْغَائِبُ عَنْهُمْ إِذَا قَدِمَ فَرَآهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالْإِمْهَالِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا لَمَّا طغا الماء حملناكم في الجارية} ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ [طَغَى] عَلَا وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ لِأَنَّ [طَغَى] عَلَا قَاهِرًا. وَكَذَلِكَ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ [عَاتِيَةٍ] شَدِيدَةٌ وَالْعُتُوُّ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ شِدَّةٌ فِيهَا تَمَرُّدٌ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ، الْآيَةَ وَحَقِيقَتُهُ: لَا تَمْنَعْ مَا تَمْلِكُ كُلَّ الْمَنْعِ وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَنْعَ النَّائِلِ بِمَنْزِلَةِ غَلِّ الْيَدَيْنِ إِلَى الْعُنُقِ وَحَالُ الْغُلُولِ أَظْهَرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ، قِيلَ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ. وَقِيلَ: يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى وَأَنَّهَا أَخْرَجَتْ مَوْتَاهَا فَسَمَّى الْمَوْتَى ثِقَلًا تشبيها بالحمل الذين يَكُونُ فِي الْبَطْنِ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُسَمَّى ثِقَلًا قال تعالى: {فلما أثقلت} . وَمِنْهَا جَعْلُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الِادِّعَاءِ وَالْإِحَاطَةِ بِهِ نَافِعَةٌ فِي آيَاتِ الصفات كقوله تعالى: {تجري بأعيننا} . وَقَوْلِهِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بيمينه} . وَيُسَمَّى التَّخْيِيلَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا تَجِدُ بَابًا فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَدَقُّ وَلَا أَعُونُ فِي تَعَاطِي الْمُشَبَّهَاتِ مِنْهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رؤوس الشياطين} قَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ طَلْعَهَا رُءُوسَ الشَّيَاطِينِ فِي الْقُبْحِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ شَيْطَانًا وَهُوَ ذُو الْقَرْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ شَوْكٌ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ يسمى رؤس الشَّيَاطِينِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ تَخْيِيلًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَشْبِيهًا مُخْتَصًّا. تَقْسِيمٌ آخَرُ. الِاسْتِعَارَةُ فَرْعُ التَّشْبِيهِ فَأَنْوَاعُهَا كَأَنْوَاعِهِ خَمْسَةٌ:. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 الأول: استعارة حسي لحسي بوجه لحسي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فَإِنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ هُوَ النَّارُ وَالْمُسْتَعَارَ لَهُ هُوَ الشَّيْبُ وَالْوَجْهُ هُوَ الِانْبِسَاطُ فَالطَّرَفَانِ حِسِّيَّانِ وَالْوَجْهُ أَيْضًا حِسِّيٌّ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ التَّشْبِيهَ وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ بِهِ مَعَ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الِاشْتِعَالُ. وَقَوْلِهِ: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} ، أَصْلُ الْمَوْجِ حَرَكَةُ الْمِيَاهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي حَرَكَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. الثَّانِي: حِسِّيٍّ لِحِسِّيٍّ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الرِّيحُ وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ وَهُمَا حِسِّيَّانِ وَالْوَجْهُ الْمَنْعُ مِنْ ظُهُورِ النَّتِيجَةِ وَالْأَثَرِ وَهُوَ عَقْلِيٌّ وَهُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ. قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَقِيمَ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ لَا اسْمٌ لَهَا وَلِهَذَا جُعِلَ صِفَةً لِلرِّيحِ لَا اسْمًا وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ مَا فِي الْمَرْأَةِ مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْحَبَلِ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ مَا فِي الرِّيحِ مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ إِنْشَاءِ مَطَرٍ وإلقاح شجر [والجامع لهما ما ذكر] . وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالْعِنَايَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالْعَقِيمِ ذكرها السكاكي بلفظ ما صدق عليه. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ منه النهار} ، الْمُسْتَعَارُ لَهُ ظُلْمَةُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ ظُهُورُ الْمَسْلُوخِ عِنْدَ جِلْدَتِهِ وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ وَهُوَ تَرَتُّبُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} ، أَصْلُ الْحَصِيدِ النَّبَاتُ وَالْجَامِعُ الْهَلَاكُ وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ. الثَّالِثُ: مَعْقُولٌ لِمَعْقُولٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ بعثنا من مرقدنا هذا} ، فَالرُّقَادُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَوْتِ وَهُمَا أَمْرَانِ مَعْقُولَانِ وَالْوَجْهُ عَدَمُ ظُهُورِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ عَقْلِيٌّ وَالِاسْتِعَارَةُ تَصْرِيحِيَّةٌ لِكَوْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَذْكُورًا. وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا سَكَتَ عن موسى الغضب} الْمُسْتَعَارُ السُّكُوتُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْغَضَبُ، وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّاكِتُ، وَهَذِهِ أَلْطَفُ الِاسْتِعَارَاتِ لِأَنَّهَا اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَعْقُولٍ لِمُشَارَكَتِهِ فِي أَمْرٍ مَعْقُولٍ. الرَّابِعُ: مَحْسُوسٌ لمعقول، كقوله تعالى: {مستهم البأساء والضراء} أَصْلُ التَّمَاسِّ فِي الْأَجْسَامِ فَاسْتُعِيرَ لِمُقَاسَاةِ الشِّدَّةِ وَكَوْنُ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ حِسِّيًّا وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ عَقْلِيًّا وَكَوْنُهَا تَصْرِيحِيَّةً ظَاهِرٌ وَالْوَجْهُ اللُّحُوقُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ. وَقَوْلِهِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} قالقذف وَالدَّمْغُ مُسْتَعَارَانِ. وَقَوْلِهِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ من الناس} وقوله: {فنبذوه وراء ظهورهم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فأعرض عنهم} وَكُلُّ خَوْضٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَلَفْظُهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْمَاءِ. وَقَوْلِهِ: {فَاصْدَعْ بما تؤمر} اسْتِعَارَةٌ لِبَيَانِهِ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَظُهُورِ مَاءٍ فِي الزُّجَاجَةِ عِنْدَ انْصِدَاعِهَا. وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بنيانه} ، الْبُنْيَانُ مُسْتَعَارٌ وَأَصْلُهُ لِلْحِيطَانِ. وَقَوْلِهِ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} الْعِوَجُ مُسْتَعَارٌ. وَقَوْلِهِ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور} وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ مستعار. وقوله: {فجعلناه هباء منثورا} . {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} الْوَادِي مُسْتَعَارٌ وَكَذَلِكَ الْهَيَمَانُ وَهُوَ عَلَى غَايَةِ الْإِيضَاحِ. {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} . الخامس: استعارة معقول لمحسوس: {إنا لما طغا الماء} الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ التَّكَبُّرُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْمَاءُ وَالْجَامِعُ الِاسْتِعْلَاءُ الْمُفْرِطُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرصر عاتية} الْعُتُوُّ هَاهُنَا مُسْتَعَارٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 وقوله: {تكاد تميز من الغيظ} فَلَفْظُ الْغَيْظِ مُسْتَعَارٌ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مبصرة} فَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ مُضِيئَةٍ. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أوزارها} . وَمِنْهَا الِاسْتِعَارَةُ بِلَفْظَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوَارِيرَ مِنْ فضة} يَعْنِي تِلْكَ الْأَوَانِي لَيْسَ مِنَ الزُّجَاجِ وَلَا مِنَ الْفِضَّةِ بَلْ فِي صَفَاءِ الْقَارُورَةِ وَبَيَاضِ الْفِضَّةِ وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْفَارِسِيِّ جَعْلُهُ مِنَ التَّشْبِيهِ. وَمِثْلُهُ: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، يُنْبِي عَنِ الدَّوَامِ وَالسَّوْطُ يُنْبِي عَنِ الْإِيلَامِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَعْذِيبَهُمْ عَذَابًا دَائِمًا مؤلما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 التَّوْرِيَةُ. وَتُسَمَّى الْإِيهَامُ وَالتَّخْيِيلُ وَالْمُغَالَطَةُ وَالتَّوْجِيهُ، وَهِيَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ: قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ وَيُرِيدُ الْمَعْنَى الْبَعِيدَ يُوهِمُ السَّامِعَ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَرِيبَ مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمُ والشجر يسجدان} ، أَرَادَ بِالنَّجْمِ النَّبَاتَ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْكَوْكَبَ لَا سِيَّمَا مَعَ تَأْكِيدِ الْإِيهَامِ بِذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَوْلُهُ: {وهو قائم يصلي في المحراب} والمراد المعرفة. وقوله: {وجوه يومئذ ناعمة} أَرَادَ بِهَا فِي نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ النُّعُومَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بأيد} أَرَادَ بِالْأَيْدِ الْقُوَّةَ الْخَارِجَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مخلدون} ، أَيْ مُقَرَّطُونَ تُجْعَلُ فِي آذَانِهِمِ الْقِرَطَةُ وَالْحَلَقُ الَّذِي فِي الْأُذُنِ يُسَمَّى قُرْطًا وَخَلَدَةً وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنَ الْخُلُودِ. وَقَوْلُهُ: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عرفها لهم} أَيْ عَلَّمَهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِيهَا أَوْ يُوهِمُ إِرَادَةَ الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ من الجوارح مكلبين} . وَقَوْلُهُ: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} فَذَكَرَ [رِضْوَانٍ] مَعَ [الْجَنَّاتِ] مِمَّا يُوهِمُ إِرَادَةَ خازن الجنات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 وكان الأنصار يقولون: {راعنا} أي أرعنا سمعنا وَانْظُرْ إِلَيْنَا وَالْكُفَّارُ يَقُولُونَهَا [فَاعِلٌ] مِنَ الرُّعُونَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هِيَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَلَمَّا عُوتِبُوا قَالُوا: إِنَّمَا نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وهو الولي الحميد} فقوله: [الولي] هو من أسماء الله وَمَعْنَاهُ الْوَلِيُّ لِعِبَادِهِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَقَوْلُهُ: [الْحَمِيدُ] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ [حَامِدٍ] لِعِبَادِهِ الْمُطِيعِينَ أَوْ [مَحْمُودٍ] فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ وَهُوَ مَطَرُ الرَّبِيعِ وَالْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْغَيْثِ. وَقَوْلُهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فأنساه الشيطان ذكر ربه} ، فَإِنَّ لَفْظَةَ [رَبِّكَ] رَشَّحَتْ لَفْظَةَ [رَبِّهِ] لِأَنْ يكون تَوْرِيَةً إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْإِلَهَ سُبْحَانَهُ وَالْمَلِكَ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذكر ربه} ولم تَدُلَّ لَفْظَةُ رَبِّهِ إِلَّا عَلَى الْإِلَهِ فَلَمَّا تقدمت لفظة [ربك] احتمل المعنيين. تنبيه:. [في الفرق بين التورية والاستخدام] . كثيرا ما تلتبس التورية بالاستخدام والفراق بينهما أن التورية استعمال الْمَعْنَيَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَإِهْمَالُ الْآخَرِ وَفِي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِعْمَالُهُمَا مَعًا بِقَرِينَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ إِنِ اسْتُعْمِلَ فِي مَفْهُومَيْنِ معا فهو والاستخدام وَإِنْ أُرِيدَ أَحَدُهُمَا مَعَ لَمْحِ الْآخَرِ بَاطِنًا فَهُوَ التَّوْرِيَةُ. وَمِثَالُ الِاسْتِخْدَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فَإِنَّ لَفْظَةَ [كِتَابٌ] يُرَادُ بِهَا الْأَمَدُ الْمَحْتُومُ وَالْمَكْتُوبُ وَقَدْ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ لَفْظَتَيْنِ فَاسْتَخْدَمَتْ أَحَدَ مَفْهُومَيْهَا وَهُوَ الْأَمَدُ وَاسْتَخْدَمَتْ [يَمْحُو] الْمَفْهُومَ الْآخَرَ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جنبا إلا عابري سبيل} فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَمِلُ إِرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ، وَتَحْتَمِلُ إرادة موضعها فقوله {حتى تعلموا} اسْتَخْدَمَتْ إِرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا عَابِرِي سبيل} ، اسْتَخْدَمَتْ إِرَادَةَ مَوْضِعِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 التَّجْرِيدُ. وَهُوَ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ فِي الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ مَعْنًى آخَرَ كَأَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ فَتُخْرِجَ ذَلِكَ إِلَى أَلْفَاظِهِ بِمَا اعْتَقَدْتَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ لَئِنْ لَقِيتَ زَيْدًا لَتَلْقَيَنَّ مَعَهُ الْأَسَدَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُ لَتَسْأَلَنَّ مِنْهُ الْبَحْرَ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ أَسَدًا وَبَحْرًا وَهُوَ عَيْنُهُ هُوَ الْأَسَدُ وَالْبَحْرُ لَا أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأولي الألباب} ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِي الْعَالَمِ مِنْ نَفْسِهِ آيَاتٍ وَهُوَ عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ تِلْكَ الْآيَاتُ. وَكَقَوْلِهِ تعالى: {واعلم أن الله عزيز حكيم} ، وَإِنَّمَا هَذَا نَابَ عَنْ قَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنِّي عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذلك لذكرى لمن كان له قلب} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أسوة حسنة} . وقوله: {لهم فيها دار الخلد} ، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا دَارُ خُلْدٍ وَغَيْرُ دَارِ خُلْدٍ بَلْ كُلُّهَا دَارُ خُلْدٍ فَكَأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ: فِي الْجَنَّةِ دَارُ الْخُلْدِ اعْتَقَدْتَ أَنَّ الْجَنَّةَ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى دَارِ نَعِيمٍ وَدَارِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَخُلْدٍ فَجَرَّدْتَ مِنْهَا هَذَا الْوَاحِدَ كَقَوْلِهِ: وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ تُنْصِفُوا حُكْمٌ عَدْلُ وَقَوْلُهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الحي} ، على أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " هِيَ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ مَيِّتَةً وَهُوَ حَيٌّ وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ " قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ لَفْظَةَ الْإِخْرَاجِ فِي تَنَقُّلِ النُّطْفَةِ حَتَّى تَكُونَ رَجُلًا إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَغْيِيرِ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ فِي صَبِيٍّ جَيِّدِ الْبِنْيَةِ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا رَجُلٌ قَوِيٌّ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {ومخرج الميت من الحي} أَيِ الْحَيَوَانُ كُلُّهِ مَيِّتَةٌ ثُمَّ يُحْيِيهِ قَالَ وَهُوَ مَعْنَى التَّجْرِيدِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ قَرَأَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَتْ وردة كالدهان} بالرفع بمعنى حصلت منها [سماء] وردة قال وهو من التجريد. و. قرأ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {يَرِثُنِي ويرث من آل يعقوب} ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي مِنْهُ وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَهُوَ الْوَارِثُ نَفْسُهُ فَكَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنْهُ وَارِثًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 التَّجْنِيسُ. وَهُوَ إِمَّا بِأَنْ تَتَسَاوَى حُرُوفُ الْكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لبثوا غير ساعة} {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المنذرين} وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَيْسَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُ الْآيَةِ الْأُولَى. وَإِمَّا بِزِيَادَةٍ فِي إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْتَفَّتِ الساق بالساق. إلى ربك يومئذ المساق} . وَإِمَّا لَاحِقٌ بِأَنْ يَخْتَلِفَ أَحَدُ الْحَرْفَيْنِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لشديد} . {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} . {وهم ينهون عنه وينأون عنه} . {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وبما كنتم تمرحون} . وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الخوف} . وَإِمَّا فِي الْخَطِّ وَهُوَ أَنْ تَشْتَبِهَا فِي الْخَطِّ لَا اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنهم يحسنون صنعا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فهو يشفين} . وَإِمَّا فِي السَّمْعِ لِقُرْبِ أَحَدِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . تَنْبِيهَاتٌ:. الْأَوَّلُ: نَازَعَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَقَالَ: عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ بِتَجْنِيسٍ أَصْلًا وَأَنَّ السَّاعَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالتَّجْنِيسُ أَنْ يَتَّفِقَ اللَّفْظُ وَيَخْتَلِفَ الْمَعْنَى وَأَلَّا تَكُونَ إِحْدَاهُمَا حَقِيقَةً وَالْأُخْرَى مَجَازًا بَلْ تَكُونَا حَقِيقَتَيْنِ وَإِنَّ زَمَانَ الْقِيَامَةِ - وَإِنْ طَالَ - لَكِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُكْمِ السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ لَا يُعْجِزُهَا أَمْرٌ وَلَا يَطُولُ عِنْدَهَا زَمَانٌ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ لَفْظَةِ [السَّاعَةِ] عَلَى أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْآخَرِ مَجَازًا وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنَ التَّجْنِيسِ كَمَا لَوْ قُلْتَ: رَكِبْتُ حِمَارًا وَلَقِيتُ حِمَارًا وَأَرَدْتَ بِالثَّانِي الْبَلِيدَ. وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ السَّاعَةَ الْأُولَى خَاصَّةً وَزَمَانَ الْبَعْثِ فَيَكُونُ لَفْظُ السَّاعَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيَخْرُجُ عَنِ التَّجْنِيسِ. الثَّانِي: يَقْرُبُ مِنْهُ الِاقْتِضَابُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القيم} . وقوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} وقوله: {وح وريحان} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} . {قال إني لعملكم من القالين} . {وجنى الجنتين دان} . {اأسفى على يوسف} . {تقلب فيه القلوب والأبصار} . {إني وجهت وجهي} . {اثاقلتم إلى الأرض} . الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَاسَ مِنَ الْمَحَاسِنِ اللَّفْظِيَّةِ لَا الْمَعْنَوِيَّةِ وَلِهَذَا تَرَكُوهُ عِنْدَ قُوَّةِ الْمَعْنَى بِتَرْكِهِ وَلِذَلِكَ مِثَالَانِ:. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وتذرون أحسن الخالقين} فَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْكَاتِبَ الْمُلَقَّبَ بالرشيدي قَالَ: لَوْ قِيلَ: [أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَدَعُونَ أَحْسَنَ الخالقين] [أوهم أنه أحسن لأنه كان] تَحْصُلُ بِهِ رِعَايَةُ مَعْنَى التَّجْنِيسِ أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ مُوَازِنًا لِـ[تَذَرُونَ] . وَأَجَابَ الرَّازِيُّ: بِأَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ بَلْ لِأَجْلِ قُوَّةِ الْمَعَانِي وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُرَاعَاةُ الْمَعَانِي أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ فَلَوْ كَانَ [أَتَدْعُونَ] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 [وَتَدَعُونَ] كَمَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ لَوَقَعَ الْإِلْبَاسُ على القارىء فَيَجْعَلُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ تَصْحِيفًا مِنْهُ وَحِينَئِذٍ فَيَنْخَرِمُ اللَّفْظُ إِذَا قَرَأَ وَتَدْعُونَ الثَّانِيَةَ بِسُكُونِ الدَّالِ لَا سِيَّمَا وَخَطُّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ لَا ضَبْطَ [فِيهِ] وَلَا نَقْطَ. قَالَ: وَمِمَّا صُحِّفَ مِنَ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِقِرَاءَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قال عذابي أصيب به من أشاء} بالسين المهملة. وقوله: {عن موعدة وعدها إياه} بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَوْلُهُ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأن يغنيه} بالعين المهملة. وقرأ ابن عباس" من فرعون " عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. قُلْتُ: وَأَجَابَ الْجُوَيْنِيُّ عَنْ هَذَا بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ: أَنَّ [يَذَرُ] أَخَصُّ مِنْ [يَدَعُ] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَعْنَى تَرَكَ الشَّيْءِ اعْتِنَاءً بِشَهَادَةِ الِاشْتِقَاقِ نَحْوَ الْإِيدَاعِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْوَدِيعَةِ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِحَالِهَا وَلِهَذَا يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا وَمِنْ ذَلِكَ الدَّعَةُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَأَمَّا تذر فمعناها الترك مطلقا والترك مَعَ الْإِعْرَاضِ وَالرَّفْضِ الْكُلِّيِّ وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا يُنَاسِبُ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فَأُرِيدَ هُنَا تَبْشِيعُ حَالِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي الْإِعْرَاضِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قول الراغب: يقال فلا يَذَرُ الشَّيْءَ أَيْ يَقْذِفُهُ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ. والوزرة قطعة من اللحم [وتسميتها بذلك] لقلة الاعتداد به نحو قولهم [فيم لا يعتد به] هُوَ: لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ قَالَ تَعَالَى: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آباؤنا} وقال تعالى: {ويذرك وآلهتك} {فذرهم وما يفترون} {ذروا ما بقي من الربا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 وإنما قال: {يذرون} ولم يقل: يتركون، ويخلفون لِذَلِكَ. انْتَهَى. وَعَنِ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ التَّجْنِيسَ تَحْسِينٌ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ وَالْإِحْسَانِ وَهَذَا مَقَامُ تَهْوِيلٍ وَالْقَصْدُ فِيهِ الْمَعْنَى فَلَمْ يَكُنْ لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظَةِ فَائِدَةٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} . الْمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كنا صادقين} قَالَ: مَعْنَاهُ: وَمَا أَنْتَ مُصَدِّقٌ لَنَا فَيُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِنَاسِ وَهَلَّا قِيلَ: [وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ] فَإِنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَى الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِعَايَةِ التَّجْنِيسِ اللَّفْظِيِّ؟. وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي [مُؤْمِنٍ لَنَا] مِنَ الْمَعْنَى مَا لَيْسَ فِي [مُصَدِّقٍ] وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مُصَدِّقٌ لِي، فَمَعْنَاهُ: قَالَ لِي: صَدَقْتَ وَأَمَّا [مُؤْمِنٌ] فَمَعْنَاهُ مَعَ التَّصْدِيقِ إِعْطَاءُ الْأَمْنِ وَمَقْصُودُهُمُ التَّصْدِيقُ وَزِيَادَةٌ وَهُوَ طلب الأمن فلهذا عدل إليه. فتأمل هذا اللَّطَائِفَ الْغَرِيبَةَ وَالْأَسْرَارَ الْعَجِيبَةَ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِعْجَازِ!. فَائِدَةٌ. قَالَ الْخَفَاجِيُّ: إِذَا دَخَلَ التَّجْنِيسَ نَفْيٌ عُدَّ طِبَاقًا كَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ، لأن [الذين لايعلمون] هم الجاهلون قال: وفي هذا يختلط التجينس بالطباق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 الطِّبَاقُ. هُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّقَابُلِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وليبكوا كثيرا} طَابَقَ بَيْنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَمِثْلُهُ: {لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم} . {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأحيا} {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود} . {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تشاء..} الْآيَةَ. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يستوي الأحياء ولا الأموات} . ثُمَّ إِذَا شُرِطَ فِيهِمَا شَرْطٌ وَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي ضِدَّيْهِمَا ضِدُّ ذَلِكَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى..} الْآيَةَ، لَمَّا جَعَلَ التَّيْسِيرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 مشتركا بين الإعطاء والتقى والتصديق وجعل ضِدَّهُ وَهُوَ التَّعْسِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَضْدَادِ تِلْكَ الْأُمُورِ وَهِيَ الْمَنْعُ وَالِاسْتِغْنَاءُ وَالتَّكْذِيبُ. وَمِنْهُ: {فِي جنة عالية قطوفها دانية} قَابَلَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالدُّنُوِّ. وَقَوْلُهُ: {فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة وأكواب موضوعة} . وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} ، فَذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَهُمَا ضِدَّانِ ثُمَّ قَابَلَهُمَا بِضِدَّيْنِ وَهُمَا الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ ثُمَّ عَبَّرَ عَنِ الْحَرَكَةِ بِلَفْظِ [الْإِرْدَافِ] فَاسْتَلْزَمَ الْكَلَامُ ضربا من المحاسن زائدة عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْحَرَكَةِ إِلَى لَفْظِ [ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ] لِكَوْنِ الْحَرَكَةِ تَكُونُ لِلْمَصْلَحَةِ دُونَ الْمَفْسَدَةِ وَهِيَ تَسِيرُ إِلَى الْإِعَانَةِ بِالْقُوَّةِ لكون الحركة وَحُسْنِ الِاخْتِيَارِ الدَّالِّ عَلَى رَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَسَلَامَةِ الْحِسِّ وَإِضَافَةِ الظَّرْفِ إِلَى تِلْكَ الْحَرَكَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَاقِعَةٌ فِيهِ لِيَهْتَدِيَ الْمُتَحَرِّكُ إِلَى بُلُوغِ الْمَأْرَبِ. وَمِنَ الطِّبَاقِ الْمَعْنَوِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لمرسلون} مَعْنَاهُ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا لَصَادِقُونَ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء} ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي [الْحُجَّةِ] : لَمَّا كَانَ الْبِنَاءُ رَفْعًا لِلْمَبْنِيِّ قُوبِلَ بِالْفِرَاشِ الَّذِي هُوَ عَلَى خِلَافِ الْبِنَاءِ وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الْبِنَاءُ عَلَى مَا فِيهِ ارْتِفَاعٌ فِي نَصِيبِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدَرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الطِّبَاقُ الْخَفِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} لِأَنَّ الْغَرَقَ مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ فِي النَّارِ وَالنَّارِ قَالَ ابْنُ مُنْقِذٍ: وَهِيَ أَخْفَى مُطَابَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَخْضَرِ وَالْأَحْمَرِ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ تَدْبِيجٌ بَدِيعِيٌّ. وَمِنْهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة} لِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ الْقَتْلُ فَصَارَ الْقَتْلُ سَبَبَ الْحَيَاةِ. قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: وَهَذَا مِنْ أَمْلَحِ الطِّبَاقِ وَأَخْفَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الزُّخْرُفِ: {ظَلَّ وجهه مسودا} لِأَنَّ ظَلَّ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا نَهَارًا فَإِذَا لَمَّحَ مَعَ ذِكْرِ السَّوَادِ كَأَنَّهُ طِبَاقٌ يُذْكَرِ الْبَيَاضُ مَعَ السَّوَادِ. وَقَوْلُهُ: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 المقابلة. [مباحث الْمُقَابَلَةُ] . وَفِيهَا مَبَاحِثُ:. الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَتِهَا. وَهِيَ ذِكْرُ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُوَازِيهِ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِ وَيُخَالِفُهُ فِي بَعْضِهَا وَهِيَ مِنْ بَابِ [الْمُفَاعَلَةِ] كَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الطِّبَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:. الْأَوَّلُ: أَنَّ الطِّبَاقَ لايكون إِلَّا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ غَالِبًا وَالْمُقَابَلَةَ تَكُونُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ غَالِبًا. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ الطِّبَاقُ إِلَّا بِالْأَضْدَادِ وَالْمُقَابَلَةُ بِالْأَضْدَادِ وَغَيْرِهَا وَلِهَذَا جَعَلَ ابْنُ الْأَثِيرِ الطِّبَاقَ أَحَدَ أَنْوَاعِ الْمُقَابَلَةِ. الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِهَا. وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: نَظِيرِيٌّ، وَنَقِيضِيٌّ، وَخِلَافِيٌّ. وَالْخِلَافِيُّ أَتَمُّهَا فِي التَّشْكِيكِ وَأَلْزَمُهَا بِالتَّأْوِيلِ وَالنَّقِيضِيُّ ثَانِيهَا وَالنَّظِيرِيُّ ثَالِثُهَا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلَ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّحْوِيُّ الْقَلْعِيُّ: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَارِدٌ عَلَيْهَا بِظُهُورِ نُكَتِهِ الْحِكْمِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ مِنَ الْكَائِنَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ وَالْوَسَائِطِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْأَوَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ حَيْثُ اتَّحَدَتْ مِنْ حَيْثُ تَعَدَّدَتْ وَاتَّصَلَتْ مِنْ حَيْثُ انْفَصَلَتْ وَأَنَّهَا قَدْ تَرِدُ عَلَى شَكْلِ الْمُرَبَّعِ تَارَةً وَشَكْلِ الْمُسَدَّسِ أُخْرَى، وَعَلَى شَكْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 الْمُثَلَّثِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّشْكِيلَاتِ الْعَجِيبَةِ والترتيبات البديعة ثم أورد أمثل مِنْ ذَلِكَ. مِثَالُ مُقَابَلَةِ النَّظِيرَيْنِ مُقَابَلَةُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوم} لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ بَابِ الرُّقَادِ الْمُقَابَلِ بِالْيَقَظَةِ. وقوله: {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود} ، وَهَذِهِ هِيَ مُقَابَلَةُ النَّقِيضَيْنِ أَيْضًا ثُمَّ السِّنَةُ وَالنَّوْمُ بِانْفِرَادِهِمَا مُتَقَابِلَانِ فِي بَابِ النَّظِيرَيْنِ وَمَجْمُوعِهِمَا يقابلان النَّقِيضَ الَّذِي هُوَ الْيَقَظَةُ. وَمِثَالُ مُقَابَلَةِ الْخِلَافَيْنِ مُقَابَلَةُ الشَّرِّ بِالرَّشَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أم أراد بهم ربهم رشدا} ، فَقَابَلَ الشَّرَّ بِالرَّشَدِ وَهُمَا خِلَافِيَّانِ وَضِدُّ الرَّشَدِ الْغَيُّ وَضِدُّ الشَّرِّ الْخَيْرُ وَالْخَيْرُ الَّذِي يُخْرِجُهُ لَفْظُ الشَّرِّ ضِمْنًا نَظِيرُ الرَّشَدِ قَطْعًا وَالْغَيُّ الَّذِي يُخْرِجُهُ لَفْظُ الرَّشَدِ ضِمْنًا نَظِيرُ الشَّرِّ قطعا حَصَلَ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ نُطْقَانِ وَضِمْنَانِ فَكَانَ بِهِمَا رُبَاعِيَّانِ. وَهَذَا الشَّكْلُ الرُّبَاعِيُّ يقع في تفسيره علىوجوه فَقَدْ يَرِدُ وَبَعْضُهُ مُفَسَّرٌ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ يَرِدُ وَكُلُّهُ مُفَسَّرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى} فقابل {صدق} بـ[كذب] و {صلى} الَّذِي هُوَ أَقْبَلَ بِـ {تَوَلَّى} . قَوْلُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سلاما سلاما} ، اللغو في الحثيثة الْمُنْكَرَةِ وَالتَّأْثِيمُ فِي الْحَيْثِيَّةِ النَّاكِرَةِ وَاللَّغْوُ مَنْشَأُ الْمُنْكَرِ وَمَبْدَأُ دَرَجَاتِهِ وَالتَّأْثِيمُ مَنْشَأُ التَّكَبُّرِ وَمَبْدَأُ دَرَجَاتِهِ فَلَا نَكِيرَ إِلَّا بَعْدَ مُنْكَرٍ وَلَا اعْتِقَادَ إِنْكَارٍ إِلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ تَأْثِيمٍ وَمَنْشَأُ اللَّغْوِ فِي أَوَّلِ طَرَفِ الْمَكْرُوهَاتِ وَآخِرُهُ فِي طَرَفِ الْمَحْظُورَاتِ وَمَبْدَأِ التَّأْثِيمِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فَقَابَلَ الْإِفْسَادَ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ بِالتَّقْدِيسِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 فَالتَّسْبِيحُ بِالْحَمْدِ إِذَنْ يَنْفِي الْفَسَادَ وَالتَّقْدِيسُ يَنْفِي سَفْكَ الدِّمَاءِ وَالتَّسْبِيحُ شَرِيعَةٌ لِلْإِصْلَاحِ وَالتَّقْدِيسُ شَرِيعَةُ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَشَرِيعَةُ التَّقْدِيسِ أَشْرَفُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّسْبِيحِ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ بِالْحَمْدِ لِلْإِصْلَاحِ لَا لِلْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ لِلتَّسْبِيحِ لَا لِلتَّقْدِيسِ وَهَذَا شَكْلٌ مُرَبَّعٌ مِنْ أَرْضِيٍّ وَهُوَ الْإِفْسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ وَسَمَائِيٍّ وَهُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ وَالْأَرْضِيُّ ذُو فَصْلَيْنِ وَالسَّمَائِيُّ ذُو فَصْلَيْنِ وَوَقْعُ النَّفْسِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَوَسِّطَيْنِ فَالطَّرَفَانِ الْإِفْسَادُ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ وَالتَّقْدِيسُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَالْوَسَطَانِ آخِرُ الْأَرْضِ وَأَوَّلُ السَّمَاءِ فَالْأَوَّلُ مُتَشَرِّفٌ عَلَى الْآتِي وَالْآخِرُ مُلْفِتٌ إِلَى الْمَاضِي. وَكَمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ كُلِّ مُوجَزٍ ... يَدُورُ عَلَى الْمَعْنَى وَعَنْهُ يُمَاصِعُ لَقَدْ جَمَعَ الِاسْمُ الْمَحَامِدَ كُلَّهَا ... مَقَاسِيمُهَا مَجْمُوعَةٌ وَالْمَشَايِعُ وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْحَبْرُ مَرْمًى عَظِيمٌ يُوَصِّلُ إِلَى أُمُورٍ غَيْرِ مُتَجَاسَرٍ عَلَيْهَا كَمَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَغَيْرِهَا. وَقَسَّمَ بَعْضُهُمُ الْمُقَابَلَةَ إِلَى أَرْبَعٍ:. أَحَدُهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقَدَّمَاتِ مَعَ قَرِينَةٍ مِنَ الثَّوَانِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النهار معاشا} . والثانية: أن يأتي بجميع الثَّوَانِي مُرَتَّبَةً مِنْ أَوَّلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فيه ولتبتغوا من فضله} . وَكَذَلِكَ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 الثَّالِثُ: أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ الْمُقَدَّمَاتِ ثُمَّ بِجَمِيعِ الثَّوَانِي مُرَتَّبَةً مِنْ آخِرِهَا، وَيُسَمَّى رَدَّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فيها خالدون} . الرَّابِعُ: أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ الْمُقَدَّمَاتِ ثُمَّ بِجَمِيعِ الثَّوَانِي مُخْتَلِطَةً غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ، وَيُسَمَّى اللَّفَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قريب} فنسبة قوله: {متى نصر الله} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {يَقُولُ الرَّسُولُ} إِلَى {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ يَصْدُرَانِ عَنْ مُتَبَايِنَيْنِ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} فَنِسْبَةُ قَوْلِهِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يريدون وجهه} إلى قوله: {فتكون من الظالمين} كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شيء وما من حسابك عليهم} إلى قوله: {فتطردهم} فَجَمَعَ الْمُقَدَّمَيْنِ التَّالِيَيْنِ بِالِالْتِفَاتِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَقْسَامِ التَّقَابُلِ مُقَابَلَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:. مُقَابِلٌ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 وَمُقَابِلٌ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ ربي} فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقَابُلُ هُنَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لَكَانَ التَّقْدِيرُ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَإِنَّمَا اهْتَدَيْتُ لَهَا. وَبَيَانُ تَقَابُلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ النَّفْسَ كُلُّ مَا هُوَ عَلَيْهَا لَهَا، فَهُوَ أَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهَا وَصَارَ لَهَا فَهُوَ بِسَبَبِهَا وَمِنْهَا لِأَنَّهَا أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَكُلُّ مَا هُوَ مِمَّا ينفعها فبهداية ربهاوتوفيقه إياها وهذا حكم لكل مكلف وإنا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُسْنِدَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ تَحْتَهُ مَعَ عُلُوِّ مَحَلِّهِ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فَإِنَّهُ لَمْ يَدَعِ التَّقَابُلَ فِي قَوْلِهِ: {لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ [وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ] ، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَاعًى مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّ مَعْنَى [مُبْصِرًا] تُبْصِرُونَ فِيهِ طُرُقَ التَّقَلُّبِ فِي الْحَاجَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَقَابُلِ الْمَعَانِي بَابًا عَظِيمًا يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ وَهُوَ يَتَّصِلُ غَالِبًا بِالْفَوَاصِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نَحْنُ مصلحون} إلى قوله: {لا يشعرون} . وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ الناس} إلى قوله: {لا يعلمون} . فَانْظُرْ فَاصِلَةَ الثَّانِيَةِ {يَعْلَمُونَ} وَالَّتِي قَبْلَهَا {يَشْعُرُونَ} لِأَنَّ أَمْرَ الدِّيَانَةِ وَالْوُقُوفَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ: يجتمعون ومطيعون يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ حَتَّى يَكْسِبَ النَّاظِرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 الْمَعْرِفَةَ وَالْعِلْمَ وَإِنَّمَا النِّفَاقُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَاتِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ [يَعْلَمُونَ] . وأيضا فإنه لما ذكر السفهفي الْآيَةِ الْأُخْرَى - وَهُوَ جَهْلٌ - كَانَ ذِكْرُ الْعِلْمِ طِبَاقًا وَعَلَى هَذَا تَجِيءُ فَوَاصِلُ الْقُرْآنِ وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِهِ. وَمِنَ الْمُقَابَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مغفرة منه وفضلا} ، فَتَقَدَّمَ اقْتِرَانُ الْوَعْدِ بِالْفَقْرِ وَالْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ ثُمَّ قُوبِلَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْوَعْدُ فَأَوْهَمَ الْإِخْلَالَ بِالثَّانِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمَّا كَانَ الْفَضْلُ مُقَابِلًا لِلْفَقْرِ وَالْمَغْفِرَةُ مُقَابِلَةٌ لِلْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ لِأَنَّ الْفَحْشَاءَ تُوجِبُ الْعُقُوبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ تُقَابِلُ الْعُقُوبَةَ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ الْمُقَابِلِ عَنْ ذِكْرِ مُقَابَلِهِ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا مَلْزُومُ ذِكْرِ الْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 تَقْسِيمٌ. مِنْ مُقَابَلَةِ اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وليبكوا كثيرا} . وَمِنْ مُقَابَلَةِ أَرْبَعَةٍ بِأَرْبَعَةٍ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى} الْآيَةَ. وَمِنْ مُقَابَلَةِ خَمْسٍ بِخَمْسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بعوضة فما فوقها} ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَهُوَ مِنَ الطِّبَاقِ الْخَفِيِّ الثَّانِي: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} {وَأَمَّا الَّذِينَ كفروا} الثالث [يضل] و [يهدي] به، وَالرَّابِعُ {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الْخَامِسُ [يَقْطَعُونَ] وَ [أَنْ يُوصَلَ] . وَمِنْ مُقَابَلَةِ سِتٍّ بِسِتٍّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ متاع الحياة الدنيا} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 ورضوان من الله} ، قَابَلَ الْجَنَّاتِ وَالْأَنْهَارَ وَالْخُلْدَ وَالْأَزْوَاجَ وَالتَّطْهِيرَ وَالرِّضْوَانَ بإزاء النِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا وَخَتَمَ بِالْحَرْثِ وَهُمَا طَرَفَانِ مُتَشَابِهَانِ وَفِيهِمَا الشَّهْوَةُ وَالْمَعَاشُ الدُّنْيَاوِيُّ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْأَزْوَاجِ كَمَا يَجِبُ فِي التَّرْتِيبِ الْأُخْرَوِيِّ وَخَتَمَ بِالرِّضْوَانِ. فَائِدَةٌ. قَدْ يَجِيءُ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْمُقَابَلَةِ فِي الظَّاهِرِ وَإِذَا تُؤُمِّلَ كَانَ مِنْ أَكْمَلِ الْمُقَابَلَاتِ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:. مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تضحى} فَقَابَلَ الْجُوعَ بِالْعُرْيِ وَالظَّمَأَ بِالضَّحَى وَالْوَاقِفُ مَعَ الظَّاهِرِ رُبَّمَا يُحِيلُ أَنَّ الْجُوعَ يُقَابَلُ بِالظَّمَأِ وَالْعُرْيَ بِالضَّحَى. وَالْمُدَقِّقُ يَرَى هَذَا الْكَلَامَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّ الْجُوعَ أَلَمُ الْبَاطِنِ وَالضَّحَى مُوجِبٌ لِحَرَارَةِ الظَّاهِرِ فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ جَمِيعَ نَفْيِ الْآفَاتِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَقَابَلَ الْخُلُوَّ بِالْخُلُوِّ وَالِاحْتِرَاقَ بِالِاحْتِرَاقِ. وَهَاهُنَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْمُتَنَبِّي وَسَيْفِ الدَّوْلَةِ لَمَّا أَنْشَدَهُ: وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ والبصير والسميع} ، فإنه يَتَبَادَرُ فِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا قِيلَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ لِتَكُونَ الْمُقَابَلَةُ فِي لَفْظِ الْأَعْمَى وَضِدِّهِ بِالْبَصِيرِ وفي لفظ الأصم وضده السميع. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ انْسِدَادَ الْعَيْنِ أَتْبَعَهُ بِانْسِدَادِ السَّمْعِ وَبِضِدِّ ذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ انْفِتَاحَ الْبَصَرِ أَعْقَبَهُ بِانْفِتَاحِ السَّمْعِ فَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هُوَ الْأَنْسَبُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْأَتَمُّ في الإعجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ وَعَكْسُهُ. {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تستعجلون} . {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} . الْعَكْسُ. وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ جُزْءٌ ثُمَّ يُؤَخَّرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلون لهن} وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ لَا حِلَّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُشْرِكِ وَالْآيَةُ صَرَّحَتْ بِنَفْيِ الْحِلِّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ قَالَ إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أَيْ ذَبَائِحُكُمْ وَهَذِهِ رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 إِلْجَامُ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ. وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِحُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ تَقْطَعُ الْمُعَانِدَ لَهُ فِيهِ. وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ فِي بَدِيعِهِ حَيْثُ أَنْكَرَ وُجُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِهِ. وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لفسدتا} ثُمَّ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الثَّانِيَ امْتَنَعَ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْأَوَّلِ وَخَالَفَهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَالَ: الْمُمْتَنِعُ الْأَوَّلُ لِأَجَلِ الثَّانِي فَالتَّعَدُّدُ مُنْتَفٍ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْفَسَادِ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مرة} . وَقَوْلُهُ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يخلق مثلهم} وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الْخَلِيلِ: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} . وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهون عليه} ، الْمَعْنَى أَنَّ الْأَهْوَنَ أَدْخَلُ فِي الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ أَمْكَنَ هُوَ فَالْإِعَادَةُ أَدْخَلُ فِي الْإِمْكَانِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خلق} الْآيَةَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ تَقْدِيرُهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقَانِ لَاسْتَبَدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِخَلْقِهِ فَكَانَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآخَرُ وَيُؤَدِّي إِلَى تَنَاهِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 مَقْدُورَاتِهِمَا وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْإِلَهِيَّةَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ وَاحِدًا ثُمَّ زَادَ فِي الْحِجَاجِ فَقَالَ: {ولعلا بعضهم على بعض} ، أَيْ وَلَغَلَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمُرَادِ وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَ جِسْمٍ وَالْآخِرُ إِمَاتَتَهُ لَمْ يَصِحَّ ارْتِفَاعُ مُرَادِهِمَا لِأَنَّ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ مُحَالٌ وَلَا وُقُوعُهُمَا لِلتَّضَادِّ فَنَفَى وُقُوعَ أَحَدِهَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَغْلُوبُ وَهَذِهِ تُسَمَّى دَلَالَةَ التَّمَانُعِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} . وقوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} . وَقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نحن الخالقون} فَبَيَّنَ أَنَّا لَمْ نَخْلُقِ الْمَنِيَّ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ غَيْرَنَا. وَمِنْهُ نَوْعٌ مَنْطِقِيٌّ وَهُوَ اسْتِنْتَاجُ النَّتِيجَةِ مِنْ مُقَدَّمَتَيْنِ وَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ الله يبعث من في القبور} ، فَنَطَقَ عَلَى خَمْسِ نَتَائِجَ مِنْ عَشْرِ مُقَدَّمَاتٍ فالمقدمات من أول السورة: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} وَالنَّتَائِجُ مِنْ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحق} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القبور} . وَتَفْصِيلُ تَرْتِيبِ الْمُقَدَّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وَخَبَرُهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَنْ أَخْبَرَ عَنِ الْغَيْبِ بِالْحَقِّ فَهُوَ حَقٌّ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يَأْتِي بالساعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَا يُعْلَمُ صِدْقُ الْخَبَرِ إِلَّا بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيُدْرِكُوا ذَلِكَ وَمَنْ يَأْتِي بِالسَّاعَةِ يُحْيِي الْمَوْتَى فَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجْعَلُ النَّاسَ مِنْ هَوْلِ السَّاعَةِ سُكَارَى لِشِدَّةِ الْعَذَابِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ إِلَّا مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شيء قدير فإنه علىكل شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّاعَةَ يُجَازَى فِيهَا مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بُدَّ مِنْ مُجَازَاتِهِ وَلَا يُجَازَى حَتَّى تَكُونَ السَّاعَةُ آتِيَةً وَلَا تَأْتِي السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ مَنْ فِي الْقُبُورِ فَهُوَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَاللَّهُ يُنَزِّلُ الْمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ فَتُنْبِتُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وَالْقَادِرُ عَلَى إحياء الأرض بعد موتها يبعث من الْقُبُورِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عن سبيل الله لهم عذاب شديد} مُقَدَّمَتَانِ وَنَتِيجَةٌ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُوجِبُ الضَّلَالَ وَالضَّلَالَ يُوجِبُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَأَنْتَجَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُوجِبُ سُوءَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَفَلَ قال لا أحب الآفلين} أي القمر أفل وربي فليس بِآفِلٍ فَالْقَمَرُ لَيْسَ بِرَبِّي أَثْبَتَهُ بِقِيَاسٍ اقْتِرَانِيٍّ جَلِيٍّ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي وَاحْتَجَّ بِالتَّعْبِيرِ عَلَى الْحُدُوثِ وَالْحُدُوثِ عَلَى الْمُحْدِثِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 التَّقْسِيمُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمَةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْمُتَكَلِّمُ لِأَنَّهَا قَدْ تَقْتَضِي أَشْيَاءَ مُسْتَحِيلَةً كَقَوْلِهِمْ الْجَوَاهِرُ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تكون مجتمعة أو متفرق أَوْ لَا مُفْتَرِقَةً وَلَا مُجْتَمِعَةً أَوْ مُجْتَمِعَةً وَمُفْتَرِقَةً مَعًا أَوْ بَعْضُهَا مُجْتَمِعٌ وَبَعْضُهَا مُفْتَرِقٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ صَحِيحَةٌ عَقْلًا لَكِنَّ بَعْضَهَا يستحيل وُجُودُهُ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْمُتَكَلِّمِ أَقْسَامَ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا وَهُوَ آلَةُ الْحَصْرِ وَمَظِنَّةُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْعَالَمُ جَمِيعًا مِنْ هَذِهِ الأقسام الثلاثة إما ظَالِمٌ نَفْسَهُ وَإِمَّا سَابِقٌ مُبَادِرٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَإِمَّا مُقْتَصِدٌ فِيهَا وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ التَّقْسِيمَاتِ وَأَكْمَلِهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أصحاب المشأمة والسابقون السابقون} ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُمَاثِلَةٌ فِي الْمَعْنَى لِلَّتِي قَبْلَهَا وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الْمُقْتَصِدُونَ وَالسَّابِقُونَ هُمُ السَّابِقُونَ بِالْخَيْرَاتِ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خلفنا} الْآيَةَ فَاسْتَوْفَى أَقْسَامَ الزَّمَانِ وَلَا رَابِعَ لَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ من يمشي على بطنه} إلى قوله: {ما يشاء} ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَخُصُوصًا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البرق خوفا وطمعا} ، وَلَيْسَ فِي رُؤْيَةِ الْبَرْقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 وَقَوْلُهُ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تظهرون} ، فَاسْتَوْفَتْ أَقْسَامَ الْأَوْقَاتِ مِنْ طَرَفَيْ كُلِّ يَوْمٍ وَوَسَطِهِ مَعَ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} فَلَمْ يَتْرُكْ سُبْحَانَهُ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ الْهَيْئَاتِ. وَمِثْلُهُ آيَةُ يُونُسَ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعدا أو قائما} . لَكِنْ وَقَعَ بَيْنَ تَرْتِيبِ الْآيَتَيْنِ مُغَايِرَةٌ أَوْجَبَتْهَا الْمُبَالَغَةُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ فِي الْأُولَى الصلاة فيجب فيها تَقْدِيمُ الِاضْطِجَاعِ وَإِذَا زَالَ بَعْضُ الضُّرِّ قَعَدَ المضجع وَإِذَا زَالَ كُلُّ الضُّرِّ قَامَ الْقَاعِدُ فَدَعَا لِتَتِمَّ الصِّحَّةُ وَتَكْمُلَ الْقُوَّةُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً فَإِنَّهَا تُحَصِّلُ فِي الْكَلَامِ حُسْنَ اتِّسَاقٍ وَائْتِلَافَ الْأَلْفَاظِ مَعَ الْمَعَانِي وَقَدْ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى [أَوْ] الَّتِي سَقَطَ مَعَهَا ذَلِكَ. قُلْتُ: يَأْتِي التَّضَرُّعُ عَلَى أَقْسَامٍ فَإِنَّ مِنْهُ مَا يَتَضَرَّعُ الْمَضْرُورُ عِنْدَ وُرُودِهِ وَمِنْهُ مَا يُقْعِدُهُ ومنه ما يأتي صاحبه قَائِمٌ لَا يَبْلُغُ بِهِ شَيْئًا وَالدُّعَاءُ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنَ التَّضَرُّعِ فَإِنَّ الصَّبْرَ وَالْجَزَعَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنِ الْوَاوِ لِتَوَخِّي الصدق في الخبر والكلام بِالِائْتِلَافِ وَيَحْصُلُ النَّسَقُ وَالْخَبَرُ بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَبِالثَّانِي عَنْ أَشْخَاصٍ فَغَلَّبَ الكثرة فوجب الإتيان بـ[أو] وابتدى بِالشَّخْصِ الَّذِي تَضَرَّعَ لِأَنَّ خَبَرَهُ أَشَدُّ فَهُوَ أَشَدُّ تَضَرُّعًا فَوَجَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِهِ ثُمَّ الْقَاعِدُ ثُمَّ الْقَائِمُ فَحَصَلَ حُسْنُ التَّرْتِيبِ وَائْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ ومعانيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ من يشاء عقيما} ، قَسَّمَ سُبْحَانَهُ حَالَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوُجُودُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ يُفْرِدَ الْعَبْدَ بِهِبَةِ الْإِنَاثِ أَوْ بِهِبَةِ الذُّكُورِ أَوْ يَجْمَعُهُمَا لَهُ أَوْ لَا يَهَبُ شَيْئًا. وَقَدْ جَاءَتِ الْأَقْسَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى أَعْلَى مِنْهَا وَهِيَ هِبَةُ الذُّكُورِ فِيهِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا وَهِيَ وهبتهما جَمِيعًا وَجَاءَتْ كُلُّ أَقْسَامِ الْعَطِيَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَأَفْرَدَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ بِالتَّأْخِيرِ، وَقَالَ فِيهِ [يَجْعَلُ] فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْهِبَةِ لِلتَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعَانِي كقوله: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لجعلناه حطاما} ، فذكر امتداد وإنمائه بِلَفْظِ الزَّرْعِ وَمَعْنَى الْحِرْمَانِ بِلَفْظِ الْجَعْلِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا بَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْإِنَاثِ لِوُجُوهٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ. أَحَدُهَا: جَبْرًا لَهُنَّ لِأَجْلِ اسْتِثْقَالِ الْأَبَوَيْنِ لِمَكَانِهِنَّ. الثَّانِي: أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ أَنَّهُ فَاعِلٌ لِمَا يَشَاءُ لَا مَا يَشَاءُ الْأَبَوَانِ فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ لَا يُرِيدَانِ إِلَّا الذُّكُورَ غَالِبًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فَبَدَأَ بِذِكْرِ الصِّنْفِ الَّذِي يَشَاؤُهُ وَلَا يُرِيدُهُ الْأَبَوَانِ غَالِبًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُوهُنَّ أَيْ هَذَا النَّوْعُ الْحَقِيرُ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ. الرَّابِعُ: قَدَّمَهُنَّ لِضَعْفِهِنَّ وَعِنْدَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ تَكُونُ الْعِنَايَةُ أَتَمَّ. وَقِيلَ: لينقل مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَجِ. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَرَّفَ سُبْحَانَهُ الذُّكُورَ بَعْدَ تَنْكِيرٍ فَجَبَرَ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ بِالتَّقْدِيمِ، وَجَبَرَ نَقْصَ الْمُتَأَخِّرِ بِالتَّعْرِيفِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ تنويه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ عَرَّفَ الذكور لأجله الْفَاصِلَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الصِّنْفَيْنِ مَعًا قَدَّمَ الذُّكُورَ فَأَعْطَى لِكُلٍّ مِنَ الْجِنْسَيْنِ حَقَّهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ. بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَ وَالرَّابِعَ بِالْوَاوِ وَالثَّالِثَ بِـ[أَوْ] ، وَلَعَلَّهُ لِأَنَّ هِبَةَ كُلٍّ مِنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا فَكَأَنَّهُ وَهَبَ لِهَذَا الصِّنْفِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَتْ [أَوْ] . فَتَأَمَّلْ لَطَائِفَ الْقُرْآنِ وَبَدَائِعَهُ!. وَمِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْخُنْثَى لَا وُجُودَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ مَقَامُ امْتِنَانٍ، وَالْمِنَّةُ بِغَيْرِ الْخُنْثَى أَحْسَنُ وَأَعْظَمُ. أَوْ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالْخُنْثَى لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِهِمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 التَّعْدِيدُ. هِيَ إِيقَاعُ الْأَلْفَاظِ الْمُبَدَّدَةِ عَلَى سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُؤْخَذُ فِي الصِّفَاتِ وَمُقْتَضَاهَا أَلَّا يُعْطَفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِاتِّحَادِ مَحَلِّهَا، ويجريها مَجْرَى الْوَصْفِ فِي الصِّدْقِ عَلَى مَا صَدَقَ، ولذلك يقل عطف بعض صفات الله عَلَى بَعْضٍ فِي التَّنْزِيلِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وقوله: {هو الله الخالق البارئ} . وَقَوْلِهِ: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجبار} . وَإِنَّمَا عُطِفَ قَوْلُهُ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ والباطن} ، لأنها أسماء متضادة المعاني في موضوعها، فوقع الْوَهْمَ بِالْعَطْفِ عَمَّنْ يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ ظَاهِرًا باطنا من وجه، وَكَانَ الْعَطْفُ فِيهِ أَحْسَنَ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ [النَّاهُونَ] على [الآمرون] ، [وأبكارا] عَلَى [ثَيِّبَاتٍ] مِنْ قَوْلِهِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المنكر والحافظون لحدود الله} . وَقَوْلِهِ: {أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} ، فَجَاءَ الْعَطْفُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} ، إنما عطف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 فِيهِ بَعْضًا وَلَمْ يَعْطِفْ بَعْضًا، لِأَنَّ [غَافِرًا] و [قابلا] يُشْعِرَانِ بِحُدُوثِ الْمَغْفِرَةِ وَالْقَبُولِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَفِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ لَا فِي نَفْسِهِ، فَدَخَلَ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ لِتَنَزُّلِهِمَا مَنْزِلَةَ الْجُمْلَتَيْنِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ هَذَا وَيَفْعَلُ هَذَا. وَأَمَّا شَدِيدُ الْعِقَابِ فَصِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِالدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَتَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ صفات الذات. وقوله: {ذي الطول} ، الْمُرَادُ بِهِ ذَاتُهُ، فَتَرَكَ الْعَطْفَ لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَقَدْ جَاءَ قَلِيلًا فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ... } الْآيَةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَطْفُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} ، فِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، إِذَا اشْتَرَكَا فِي حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَوْسِيطِ الْعَاطِفِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا الْعَطْفُ الثَّانِي فَمِنْ عِطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ بِحِرَفِ الْجَمْعِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْجَامِعِينَ وَالْجَامِعَاتِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعَدَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصِّفَاتُ الْمُتَعَاطِفَةُ إِنْ عُلِمَ أَنَّ مَوْصُوفَهَا وَاحِدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كقوله: {غافر الذنب وقابل التوب} ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ [اللَّهُ] وَإِمَّا فِي النَّوْعِ كَقَوْلِهِ: {ثيبات وأبكارا} ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ الْأَزْوَاجُ، وَقَوْلِهِ: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عن المنكر} ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ النَّوْعُ الْجَامِعُ لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ مَوْصُوفَهَا وَاحِدٌ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ اللَّفْظِ. فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ اتُّبِعَ كَهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْدَادَ لِمَنْ جَمَعَ الطَّاعَاتِ الْعَشْرَ، لَا لِمَنِ انْفَرَدَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، إِذِ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْطُهُ فِي الْآخَرِ، وَكِلَاهُمَا شَرْطٌ فِي حُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى الْبَوَاقِي، وَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَلَهُ أَجْرُهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 الْكَرِيمَةِ، وَقَرَنَ بِهِ إِعْدَادَ الْمَغْفِرَةِ زَائِدًا عَلَى الْمَغْفِرَةِ، فَلِخُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَاحْتَمَلَ تَقْدِيرَ مَوْصُوفٍ مَعَ كُلِّ صِفَةٍ وَعَدَمِهِ حُمِلَ عَلَى التَّقْدِيرِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ. وَلَا يُقَالُ: الْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُقَدَّمُ عَلَى رِعَايَةِ ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } الْآيَةَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لَمْ يستحق الصدقة إلا من جميع الصفات الثمان، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالنُّحَاةِ وَالْفُقَرَاءِ استحق من فيه إحدى الصفات. تم بعون الله وجميل توفيقه الجزء الثالث من كتاب البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين الزركشي ويليه الجزء الرابع وأوله: مقابلة الجمع بالجمع، وهو أحد أساليب القرآن المندرجة تحت النوع السادس والأربعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 المجلد الرابع تابع النوع السادس والأربعون ... بسم الله الرحمن الرحيم مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَارَةً يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا كقوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} {حافظوا على الصلوات} فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَقْتَضِي اللَّفْظُ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ بِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَبِالِاسْتِبَاقِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ كَمَا يُقَالُ لَبِسَ الْقَوْمُ ثِيَابَهُمْ وَرَكِبُوا دَوَابَّهُمْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأعتدت لهن متكأ} أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَذَكَّرَ جَمِيعُ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي مُدَّةٍ وَعُمْرٍ وَاحِدٍ وَقَوْلِهِ: {إنها ترمي بشرر كالقصر} أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْقَصْرِ وَالْقَصْرُ الْبَيْتُ مِنْ أَدَمٍ كَانَ يُضْرَبُ عَلَى الْمَاءِ إِذَا نَزَلُوا بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرَرُ كُلُّهُ كَقَصْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْوَعِيدِ فَإِنَّ الْمَعْنَى تَعْظِيمُ الشَّرَرِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْقَصْرِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ بعده {كأنه جمالت صفر} فَشُبِّهَ بِالْجَمَاعَةِ أَيْ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْجَمَلِ فَجَمَاعَتِهِ إِذِ الْجِمَالَاتُ الصُّفْرُ كَذَلِكَ الْأَوَّلُ كُلُّ شَرَرَةٍ مِنْهُ كَالْقَصْرِ قَالَهُ ابْنُ جني وقوله: {واستغشوا ثيابهم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 وَقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ورسله} فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عليكم أمهاتكم} الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ جَمِيعَ أُمَّهَاتِ الْمُخَاطَبِينَ وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمَّهُ وَبِنْتَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} فَإِنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ الْأَزْوَاجِ نِصْفُ مَا تَرَكَ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ زَوْجُهُ فَقَطْ وَكَذَا قَوْلُهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أولادكم} وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذريتهم} إِنَّمَا مَعْنَاهُ اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ ذُرِّيَّتُهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الذُّرِّيَّةِ اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْآبَاءِ وَقَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادهن} أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فاقتلوا المشركين} فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ أَفَادَتِ الْمُكْنَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ مَنْ وَجَدَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فذكر المرافق بلفظ الجمع والكعبين بلفظ التثنية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 لأن مقابلة الجمع تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ وَلِكُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ فَصَحَّتِ الْمُقَابَلَةُ وَلَوْ قِيلَ إِلَى الْكِعَابِ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فَإِنَّ لِكُلِّ رِجْلٍ كَعْبًا وَاحِدًا فَذَكَرَ الْكَعْبَيْنِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِيَتَنَاوَلَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ كُلِّ رِجْلٍ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَلَّا يَجِبَ إِلَّا غَسْلُ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ؟ قُلْنَا: صَدَّنَا عَنْهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِجْمَاعُ وَتَارَةً يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ ثُبُوتِ الْجَمْعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدة} وَجَعَلَ مِنْهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي من تحتها الأنهار} وَتَارَةً يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَيَفْتَقِرُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ أَحَدَهُمَا أَمَّا مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْمُفْرَدِ وَقَدْ يَقْتَضِيهِ بِحَسَبِ عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُقَابِلِ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مسكين} الْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} إِنَّمَا هُوَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 قَاعِدَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا وَمُفْرَدًا وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُ أَنَّهُ حَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا مُفْرَدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وَحِكْمَتُهُ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ السُّفْلِ وَالتَّحْتِ وَلَكِنْ وُصِفَ بِهَا هَذَا الْمَكَانُ الْمَحْسُوسُ فَجَرَتْ مَجْرَى امْرَأَةِ زَوْرٍ وَضَيْفٍ فَلَا مَعْنَى لِجَمْعِهِمَا كَمَا لَا يُجْمَعُ الْفَوْقُ وَالتَّحْتُ وَالْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَإِنْ قَصَدَ الْمُخْبِرُ إِلَى جُزْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَيَّنَ قِطْعَةً مَحْدُودَةً مِنْهَا خَرَجَتْ عَنْ مَعْنَى السُّفْلِ الَّذِي هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْعُلُوِّ فَجَازَ أَنْ تُثَنَّى إِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا جُزْءًا آخَرَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ فَجَمَعَهَا لَمَّا اعْتَمَدَ الْكَلَامُ عَلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَأَثْبَتَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ لِآحَادِهَا دُونَ الْوَصْفِ بِكَوْنِهَا تَحْتُ أَوْ سُفْلُ في مقابلة علو وأما جمع السموات فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا ذَاتُهَا دُونَ مَعْنَى الْوَصْفِ فَلِهَذَا جُمِعَتْ جَمْعَ سَلَامَةٍ لِأَنَّ الْعَدَدَ قَلِيلٌ وَجَمْعُ الْقَلِيلِ أَوْلَى بِهِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَعْنَى التَّحْتِ وَالسُّفْلِ دُونَ الذَّاتِ وَالْعَدَدِ وَحَيْثُ أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ وَالْعَدَدُ أُتِيَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الأرض مثلهن} وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا نِسْبَةَ إِلَيْهَا إِلَى السموات وَسَعَتِهَا بَلْ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَحَصَاةٍ فِي صَحْرَاءَ فَهِيَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ كَالْوَاحِدِ الْقَلِيلِ فَاخْتِيرَ لَهَا اسْمُ الْجِنْسِ وَأَيْضًا فَالْأَرْضُ هِيَ دَارُ الدُّنْيَا الَّتِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَمَا يُدْخِلُ الْإِنْسَانُ إِصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ فَمَا يُعَلَّقُ بِهَا هُوَ مِثَالُ الدُّنْيَا وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الدنيا إلا مقللا لها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 وأما السموات فَلَيْسَتْ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا أريد الوصف الشامل للسموات وَهُوَ مَعْنَى الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِ أَفْرَدْتَهُ كَالْأَرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يخسف بكم الأرض} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عليكم حاصبا} فَأُفْرِدَ هُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْوَصْفَ الشَّامِلَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَمَاءً مُعَيَّنَةً وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض ولا في السماء} بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سَبَأٍ {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا في الأرض} فَإِنَّ قَبْلَهَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَعَةَ عِلْمِهِ وأن له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَاقْتَضَى السِّيَاقُ أَنْ يَذْكُرَ سعة علمه وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السموات كُلُّهَا وَالْأَرْضُ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي سُورَةِ يُونُسَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَفْرَدَهَا إِرَادَةً لِلْجِنْسِ وَقَالَ: السُّهَيْلِيُّ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِفْرَادِ مُقِرُّونَ بِأَنَّ الرِّزْقَ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ وَهُوَ سَمَاءٌ وَلِهَذَا قال في آخر الآية {فسيقولون الله} وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِمَا نَزَلَ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّحْمَنِ وَغَيْرِهَا وَلِهَذَا قَالَ في آية سبأ {قل الله} أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْقَوْلِ لِيَعْلَمَ بِحَقِيقَتِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 فَإِنَّهَا جَاءَتْ مَجْمُوعَةً لِتَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِمَا فِي اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ فَالْمَعْنَى هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ من السموات فَذِكْرُ الْجَمْعِ هُنَا أَحْسَنُ وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى بَعْضِ الْمُجَسِّمَةِ قَالَ بِالْوَقْفِ عَلَى قوله {في السماوات} ثم يبتدئ بقوله {وفي الأرض} وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَتْ مُفْرَدَةً فِي قَوْلِهِ {فَوَرَبِّ السماء والأرض إنه لحق} أَرَادَ لِهَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ أَيْ رَبِّ كُلِّ مَا عَلَا وَسَفَلَ وَجَاءَتْ مَجْمُوعَةً فِي قَوْلِهِ {سَبَّحَ لله ما في السماوات والأرض} فِي جَمِيعِ السُّوَرِ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ عَنْ تَسْبِيحِ سُكَّانِهَا عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَبَايُنِ مَرَاتِبِهِمْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ جَمْعِ مَحَلِّهِمْ وَنَظِيرُ هَذَا جَمْعُهَا فِي قَوْلِهِ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبادته ولا يستحسرون} وقوله {تسبح له السماوات السبع} أَيْ تُسَبِّحُ بِذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا عَلَى اخْتِلَافِ عَدَدِهَا وَلِهَذَا صَرَّحَ بِالْعَدَدِ بِقَوْلِهِ {السَّبْعُ} وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَتْ مُفْرَدَةً فِي قَوْلِهِ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وما توعدون} فـ "الرزق" المطر وما توعدون الجنة وكلاهما في هذه الجهة لأنها في كل واحدة واحدة من السموات فَكَانَ لَفْظُ الْإِفْرَادِ أَلْيَقَ وَجَاءَتْ مَجْمُوعَةً فِي قَوْلِهِ {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله} لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْ كُلِّ مَنْ هُوَ فِي وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السموات أَتَى بِهَا مَجْمُوعَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 وَلَمْ يَجِئْ فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ بِنُزُولِ الْمَاءِ مِنْهَا إِلَّا مُفْرَدَةٌ حَيْثُ وَقَعَتْ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ نُزُولَهُ مِنْ ذَاتِهَا بَلِ الْمُرَادُ الْوَصْفُ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ {قُلْ مَنْ يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ {قُلْ مَنْ يرزقكم من السماوات والأرض قل الله} ؟ قِيلَ: السِّيَاقُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُرْشِدٌ إِلَى الْفَرْقِ فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِي يُونُسَ سِيقَتْ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهُمْ وَمَالِكُ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ بِأَنْ يُخْرِجَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فَلَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِهَذَا كُلِّهِ حَسُنَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ فَاعِلُ هَذَا هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {فسيقولون الله} أَيْ هُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَلَا يَجْحَدُونَهُ وَالْمُخَاطَبُونَ الْمُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُزُولِ الرِّزْقِ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ السَّمَاءِ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا وَلَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ وَلَا عَالِمِينَ بِنُزُولِ الرِّزْقِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَيْهِمْ فَأُفْرِدَتْ لَفْظَةُ السَّمَاءِ هُنَا لِذَلِكَ وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي سَبَأٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَظِمْ لَهَا ذِكْرُ إِقْرَارِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ولهذا أمر رسوله بأن يجيب وأن يَذْكُرْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُجِيبُونَ فَقَالَ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} وَلَمْ يَقُلْ {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي يُنْزِلُ رِزْقَهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَمَنَافِعِهِ من السموات وَمِنْهَا ذِكْرُ الرِّيَاحِ فِي الْقُرْآنِ جَمْعًا وَمُفْرَدَةً فَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الرَّحْمَةِ جَاءَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 مَجْمُوعَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فتثير سحابا} {وأرسلنا الرياح لواقح} {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} وَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الْعَذَابِ أَتَتْ مُفْرَدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أيام نحسات} {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ به الريح} {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا" وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ رِيَاحَ الرَّحْمَةِ مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ وَالْمَاهِيَّاتِ وَالْمَنَافِعِ وَإِذَا هَاجَتْ مِنْهَا رِيحٌ أُثِيرَ لَهَا مِنْ مُقَابِلِهَا مَا يَكْسِرُ سَوْرَتَهَا فَيَنْشَأُ مِنْ بَيْنِهِمَا رِيحٌ لَطِيفَةٌ تَنْفَعُ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ وَكَانَتْ فِي الرَّحْمَةِ رِيَاحًا وَأَمَّا فِي الْعَذَابِ فَإِنَّهَا تَأْتِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَا مُعَارِضَ وَلَا دَافِعَ وَلِهَذَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِالْعَقِيمِ فَقَالَ {وَفِي عَادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} أَيْ تَعْقِمُ مَا مَرَّتْ بِهِ وَقَدِ اطَّرَدَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ لِحِكْمَةٍ فَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف} فَذَكَرَ رِيحَ الرَّحْمَةِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَفْظِيٌّ وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا يُقَابِلُهَا رِيحَ الْعَذَابِ وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلَّا مُفْرَدَةً وَرُبَّ شَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَلَا يَجُوزُ استقلالا نحو {ومكروا ومكر الله} الثَّانِي: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ تَمَامَ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَحْدَةِ الرِّيحِ لَا بِاخْتِلَافِهَا فَإِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَسِيرُ إِلَّا بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهَا الرِّيَاحُ وَتَصَادَمَتْ كَانَ سَبَبُ الْهَلَاكِ وَالْغَرَقِ فَالْمَطْلُوبُ هُنَاكَ رِيحٌ وَاحِدَةٌ وَلِهَذَا أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فَوَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ عَاصِفَةً بَلْ هِيَ رِيحٌ يُفْرَحُ بِطِيبِهَا وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} وَهَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ الرِّيحُ رَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ وَسُكُونُهَا شِدَّةٌ عَلَى أَصْحَابِ السُّفُنِ قَالَ: الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ وَكَذَا جَاءَ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ {وَاللَّهُ الذي أرسل الريح} {وهو الذي يرسل الريح} وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يَنْشُرُ السَّحَابَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَمِنْ ذَلِكَ جَمْعُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظلمات} وَلِذَلِكَ جَمَعَ سَبِيلَ الْبَاطِلِ وَأَفْرَدَ سَبِيلَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَطُرُقُهُ مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَمَّا كَانَتِ الظُّلَمُ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقِ الْبَاطِلِ وَالنُّورُ بِمَنْزِلَةِ طريق الجنة بَلْ هُمَا هُمَا أَفْرَدَ النُّورَ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ وَلِهَذَا وَحَّدَ الْوَلِيَّ فَقَالَ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمنوا} لِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ وَجَمَعَ أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ لِتَعَدُّدِهِمْ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ وَهِيَ طُرُقُ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا وَوَحَّدَ النُّورَ وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَمِنْ ذلك أفرد الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ فِي قَوْلِهِ {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشمال عزين} وَجَمَعَهَا فِي قَوْلِهِ {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} وَلَا سُؤَالَ فِيهِ إِنَّمَا السُّؤَالُ فِي جَمْعِ أَحَدِهِمَا وَإِفْرَادِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ إِذَا وَحَّدَ ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الظُّلْمَةِ وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْيَمِينِ بِالْإِفْرَادِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْيَمِينُ جِهَةَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَأَهْلُهَا هُمُ النَّاجُونَ أُفْرِدَتْ وَلَمَّا كَانَتِ الشِّمَالُ جِهَةَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 وفيه وجوه أخر: أحدهما: أَنَّ الْيَمِينَ مَقْصُودٌ بِهِ الْجَمْعُ أَيْضًا فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ فَقَامَ الْعُمُومُ مَقَامَ الْجَمْعِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ فعيل، وهو مخصوص بالمبالغة فسدت مبالغته جَمْعِهِ كَمَا سَدَّ مَسَدَّ الشَّبَهِ قَوْلُهُ {عَنِ اليمين وعن الشمال قعيد} قَالَهُ ابْنُ بَابْشَاذَ الثَّالِثُ: أَنَّ الظِّلَّ حِينَ يَنْشَأُ أَوَّلَ النَّهَارِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الطُّولِ ثُمَّ يَبْدُو كَذَلِكَ ظِلًّا وَاحِدًا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ وَإِذَا أَخَذَ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ فَإِنَّهُ يَتَزَايَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَالثَّانِي فِيهِ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَكُلَّمَا زَادَ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ قَبْلَهُ فَصَارَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ظِلًّا فَحَسُنَ جَمْعُ الشَّمَائِلِ فِي مُقَابَلَةِ تَعَدُّدِ الظِّلَالِ قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ: ابْنُ بَابْشَاذَ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إِذَا كَانَا مُتَوَجِّهَيْنِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ الرَّابِعُ: إِنَّ الْيَمِينَ يُجْمَعُ عَلَى أَيْمُنٍ وَأَيْمَانٍ فَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ غَالِبًا وَالشِّمَالَ يُجْمَعُ عَلَى شَمَائِلَ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَالْمَوْطِنُ مَوْطِنُ تَكْثِيرٍ وَمُبَالَغَةٍ فَعَدَلَ عَنْ جَمْعِ الْيَمِينِ إِلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى قَصْدِ التَّكْثِيرِ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَأَمَّا إِفْرَادُهَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشمال} فَلِأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ هَذِهِ الْجِهَةِ وَمَصِيرُهُمْ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ جِهَةُ أَهْلِ الشِّمَالِ مُسْتَقَرُّ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهَا مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الشِّمَالِ فَلَا يَحْسُنُ مَجِيئُهَا مَجْمُوعَةً وَأَمَّا إِفْرَادُهُمَا فِي قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} فَإِنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ قَعِيدًا وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ شِمَالَهُ يُحْصِيَانِ عَلَيْهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ إِبْلِيسَ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وعن أيمانهم وعن شمائلهم} فَإِنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ مِمَّا يُرِيدُ إغوائهم فَجُمِعَ لِمُقَابَلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ الْمُقْتَضِي لِتَوْزِيعِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَمِنْهَا: حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهَا تَجِيءُ تَارَةً مَجْمُوعَةً وَتَارَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ وَالنَّارُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا مُفْرَدَةً وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَتِ الْجَنَّاتُ مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ حَسُنَ جَمْعُهَا وَإِفْرَادُهَا وَلَمَّا كَانَتِ النَّارُ وَاحِدَةً أُفْرِدَتْ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى {بأكواب وأباريق وكأس من معين} ولم يقل وكؤوس لِمَا سَنَذْكُرُهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّارُ تَعْذِيبًا وَالْجَنَّةُ رَحْمَةً نَاسَبَ جَمْعُ الرَّحْمَةِ وَإِفْرَادُ الْعَذَابِ نَظِيرَ جَمْعِ الرِّيحِ فِي الرَّحْمَةِ وَإِفْرَادِهَا فِي الْعَذَابِ وَأَيْضًا فَالنَّارُ دَارُ حَبْسٍ وَالْغَاضِبُ يَجْمَعُ جَمَاعَةً مِنَ الْمَحْبُوسِينَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أنكد لعيشهم والكريم لا يترك ضيفه ولاسيما إِذَا كَانَ لِلدَّوَامِ إِلَّا فِي دَارٍ مُفْرَدَةٍ مُهَيَّأَةٍ لَهُ وَحْدَهُ فَالنَّارُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ وَلِكُلِّ مطيع الجنة فَجَمَعَ الْجِنَانَ وَلَمْ يَجْمَعِ النَّارَ وَمِنْهَا: جَمْعُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعٍ وَإِفْرَادُهَا فِي آخَرَ فَحَيْثُ جُمِعَتْ فَلِجَمْعِ الدَّلَائِلِ وَحَيْثُ وُحِّدَتْ فَلِوَحْدَانِيَّةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ لِمَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحِجْرِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ثُمَّ قَالَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} فَلَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَحَّدَ الْآيَةَ وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ إِلَّا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ في ذلك لآية} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وَمِنْهَا مَجِيءُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً بِالْجَمْعِ وَأُخْرَى بِالتَّثْنِيَةِ وَأُخْرَى بِالْإِفْرَادِ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ برب المشارق والمغارب} والثاني: كقوله: {رب المشرقين ورب المغربين} وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إلا هو} فحيث جمع كان المراد نفي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَحَيْثُ ثُنِّيَا كَانَ الْمُرَادُ مَشْرِقَيْ صُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا فَإِنَّهَا تَبْتَدِئُ صَاعِدَةً حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى غَايَةِ أَوْجِهَا وَارْتِفَاعِهَا فَهَذَا مَشْرِقُ صُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَيَنْشَأُ مِنْهُ فَصْلَا الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ فَجَعَلَ مَشْرِقَ صُعُودِهَا بِجُمْلَتِهِ مَشْرِقًا وَاحِدًا وَمَشْرِقَ هُبُوطِهَا بِجُمْلَتِهِ مَشْرِقًا وَاحِدًا وَمُقَابِلَهُمَا مَغْرِبًا وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ مُتَحَرِّكَةٍ بِحَرَكَاتٍ مُتَدَارِكَةٍ لَا تَنْضَبِطُ لِخُطَّةٍ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ قِيَاسٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَرَكَةِ انْتِقَالُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَفْلَاكِ قَالَ تَعَالَى {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} الْآيَةَ فَهَذَا وَجْهُ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ مَطْلَعٍ غَيْرِ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ بِالْأَمْسِ وَكَذَلِكَ الْغُرُوبُ فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ فِي تِلْكَ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ وَمَغْرِبِهِ عِنْدَ أَوَّلِ فَصْلِ الْخَرِيفِ ثُمَّ تَأْخُذُ جَنُوبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي مَطْلَعٍ وَمَغْرِبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى آخَرَ مِثْلِهَا الَّذِي يُقَدِّرُ اللَّهُ لَهَا عِنْدَ أَوَّلِ فَصْلِ الشِّتَاءِ ثُمَّ تَرْجِعُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ وَمَغْرِبِهِ وَهَكَذَا أَبَدًا فَحَيْثُ أَفْرَدَ اللَّهُ لَهُ لَفْظَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أَرَادَ بِهِ الْجِهَةَ نَفْسَهَا الَّتِي تَشْتَمِلُ الْوَاحِدَةُ عَلَى تِلْكَ الْمَطَالِعِ جَمِيعِهَا وَالْأُخْرَى عَلَى تِلْكَ الْمَغَارِبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَعَدُّدِهَا وَحَيْثُ جِيءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُرَادِ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَدُّدِ تِلْكَ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ وَهِيَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا وَحَيْثُ كَانَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَالْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْجِهَةُ الَّتِي تَأْخُذُ مِنْهَا الشَّمْسُ مِنْ مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ إِلَى آخِرِ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ الْجَنُوبِيَّةِ وبهذا الِاعْتِبَارِ مَشْرِقَانِ وَمَغْرِبَانِ وَأَمَّا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ فَأَبْدَى فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَانِيَ لَطِيفَةً فَقَالَ: أَمَّا مَا وَرَدَ مُثَنًّى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فَلِأَنَّ سِيَاقَ السُّورَةِ سِيَاقُ الْمُزْدَوِجَيْنِ: الثَّانِي: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا ذَكَرَ نَوْعَيِ الْإِيجَادِ وَهُمَا الْخَلْقُ وَالتَّعْلِيمُ ثُمَّ ذَكَرَ سِرَاجَيِ الْعَالَمِ وَمَظْهَرَ نُورِهِ وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ النَّبَاتِ فَإِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى سَاقٍ وَمِنْهُ مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُمَا النَّجْمُ وَالشَّجَرُ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ السَّمَاءِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَفَعَ هَذِهِ وَوَضَعَ هَذِهِ وَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذِكْرَ الْمِيزَانِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَدْلَ وَالظُّلْمَ فِي الْمِيزَانِ فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمَا الْجَنُوبُ ثُمَّ ذكر نوعي المكلفين وهما نوع إلا لإنسان وَالْجَانِّ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَحْرَ مِنَ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ فَلِهَذَا حَسُنَ تَثْنِيَةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا أُفْرِدَا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَهُ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَمَّمَهُ بِذِكْرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَظْهَرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَكَانَ وُرُودُهُمَا منفردين فِي هَذَا السِّيَاقِ أَحْسَنَ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّ ظُهُورَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَا فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ فِي قَوْلِهِ {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وما نحن بمسبوقين} لأنه لما كان هذا القسم سَعَةِ مَشَارِقِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِحَاطَةِ قُدْرَتِهِ وَالْمُقْسَمَ عَلَيْهِ إِذْهَابُ هَؤُلَاءِ وَالْإِتْيَانُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ ذَكَرَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ لِتَضَمُّنِهَا انْتِقَالَ الشَّمْسِ الَّتِي فِي أَحَدِ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ وَنَقْلَهُ سُبْحَانَهُ لَهَا وَتَصْرِيفَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا كَيْفَ يُعْجِزُهُ أَنْ يُبَدِّلَ هَؤُلَاءِ وَيَنْقُلَ إِلَى أَمْكِنَتِهِمْ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْثِيرَ مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ سَبَبًا لِتَبَدُّلِ أَجْسَامِ النَّبَاتِ وَأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَانْتِقَالِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ بَرْدٍ إِلَى حَرٍّ وَصَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَكَيْفَ لَا يَقْدِرُ مَعَ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَبْدِيلِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ {وَمَا نَحْنُ بمسبوقين} فَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ سِوَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَأَمَّا جَمْعُهُمَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ {ورب المشارق} لَمَّا جَاءَتْ مَعَ جُمْلَةِ الْمَرْبُوبَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَهِيَ السموات وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْأَحْسَنُ مَجِيئَهَا مَجْمُوعَةً لِتَنْتَظِمَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّعَدُّدِ ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَشَارِقِ دُونَ الْمَغَارِبِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَشَارِقَ مَظْهَرُ الْأَنْوَارِ وَأَسْبَابٌ لِانْتِشَارِ الْحَيَوَانِ وَحَيَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي مَعَاشِهِ وَانْبِسَاطِهِ فَهُوَ إِنْشَاءُ شُهُودٍ فَقَدَّمَهُ بَيْنَ يدي ..... عَلَى مَبْدَأِ الْبَعْثِ فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ المشارق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 ها هنا فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْكَامِلَةَ وَالْآيَاتِ الْفَاضِلَةَ الَّتِي تَرْقُصُ الْقُلُوبُ لَهَا طَرَبًا وَتَسِيلُ الْأَفْهَامُ مِنْهَا رَهَبًا! وَحَيْثُ وَرَدَ الْبَارُّ مَجْمُوعًا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ قِيلَ أبرار كقوله {إن الأبرار لفي نعيم} وقال في صفة الملائكة {بررة} قَالَ الرَّاغِبُ فَخَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ أَبْرَارٍ جَمْعِ بَرٍّ وَأَبْرَارٍ جَمْعِ بَارٍّ وَبَرٌّ أَبْلَغُ مَنْ بَارٍّ كَمَا إِنَّ عَدْلًا أَبْلَغُ مِنْ عَادِلٍ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخَ يُطْلَقُ عَلَى أَخِي النَّسَبِ وَأَخِي الصَّدَاقَةِ وَالدِّينِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْجَمْعِ فَيُقَالُ فِي النَّسَبِ إِخْوَةٌ وَفِي الصَّدَاقَةِ إِخْوَانٌ كَمَا قيل {إخوانا على سرر متقابلين} وَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} قال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمُ ابْنُ فَارِسٍ وَحَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَصْدِقَاءِ وَالنَّسَبِ إِخْوَةٌ وَإِخْوَانٌ قال تعالى {إنما المؤمنون إخوة} لَمْ يَعْنِ النَّسَبَ وَقَالَ {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} وَهَذَا فِي النَّسَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ {وَلَا يُبْدِينَ زينتهن إلا لبعولتهن} إلى قوله {أو بني أخواتهن} وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَاشْتِقَاقُ اللَّفْظَيْنِ مِنْ تَآخَيْتُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 الشَّيْءَ فَسَمَّى الْأَخَوَانِ أَخَوَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَأَخَّى مَا تَأَخَّاهُ الْآخَرُ أَيْ يَقْصِدُهُ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَيُقَالُ أُخُوَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَمِنْهَا إِفْرَادُ الْعَمِّ وَالْخَالِ وَمِنْهَا إِفْرَادُ السَّمْعِ وَجَمْعُ الْبَصَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم} لِأَنَّ السَّمْعَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرِيَّةُ فَأُفْرِدَ بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الْجَارِحَةِ وَإِذَا أَرَدْتَ الْمَصْدَرَ قُلْتَ أَبْصَرَ إِبْصَارًا وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَعْمَلَ الْحَاسَّةَ جَمَعَهُ بِقَوْلِهِ {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وقال {وفي آذاننا وقر} وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ أَيْ عَلَى حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ وَقِيلَ: لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ السَّمْعِ الْأَصْوَاتُ وَهِيَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَمُتَعَلِّقَ الْبَصَرِ الْأَلْوَانُ وَالْأَكْوَانُ وَهِيَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ فَأَشَارَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مُتَعَلِّقِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَصَرُ الَّذِي هُوَ نُورُ الْعَيْنِ مَعْنًى يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُقْلَتَيْنِ وَلَا كَذَلِكَ السَّمْعُ فَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَلِهَذَا إِذَا غَطَّيْتَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ يَنْتَقِلُ نُورُهَا إِلَى الْأُخْرَى بِخِلَافِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ بِنُقْصَانِ أَحَدِهِمَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ ورعد وبرق} أَجْرَى الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ عَلَى أَصْلِهِمَا مَصْدَرَيْنِ فَأَفْرَدَهُمَا دُونَ الظُّلُمَاتِ يُقَالُ: رَعَدَتِ السَّمَاءُ رَعْدًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وَبَرَقَتْ بَرْقًا وَالْحَقُّ إِنَّ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ مَصْدَرَانِ فَأَفْرَدَهُمَا أَوْ هُمَا مُسَبَّبَانِ عَنْ سَبَبٍ لَا يَخْتَلِفُ بِخِلَافِ الظُّلْمَةِ فَإِنَّ أَسْبَابَهَا مُتَعَدِّدَةٌ وَمِنْهَا حَيْثُ ذِكْرُ الْكَأْسِ فِي الْقُرْآنِ كَانَ مُفْرَدًا وَلَمْ يُجْمَعْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وكأس} ولم يقل وكؤوس لِأَنَّ الْكَأْسَ إِنَاءٌ فِيهِ شَرَابٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرَابٌ فَلَيْسَ بِكَأْسٍ بَلْ قَدَحٌ وَالْقَدَحُ إِذَا جُعِلَ فِيهِ الشَّرَابُ فَالِاعْتِبَارُ لِلشَّرَابِ لَا لِإِنَائِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَشْرُوبُ وَالظَّرْفُ اتُّخِذَ لِلْآلَةِ وَلَوْلَا الشَّرَابُ وَالْحَاجَةُ إِلَى شُرْبِهِ لما اتخذا والقدح مصنوع والشراب جنس فلو قال كؤوس لَكَانَ اعْتَبَرَ حَالَ الْقَدَحِ وَالْقَدَحُ تَبَعٌ وَلَمَّا لَمْ يَجْمَعِ اعْتَبَرَ حَالَ الشَّرَابِ وَهُوَ أَصْلٌ وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى فَانْظُرْ كَيْفَ اخْتَارَ الْأَحْسَنَ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُصَحَاءِ قَالُوا: دَارَتِ الكؤوس ومال الرؤوس فَدَعَاهُمُ السَّجْعُ إِلَى اخْتِيَارِ غَيْرِ الْأَحْسَنِ فَلَمْ يَدْخُلْ كَلَامُهُمْ فِي حَدِّ الْفَصَاحَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْكَأْسَ وَاعْتَبَرَ الْأَصْلَ قَالَ {وَكَأْسٍ مِنْ معين} فَذَكَرَ الشَّرَابَ وَحَيْثُ ذَكَرَ الْمَصْنُوعَ وَلَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى الشَّرَابِ جَمَعَ فَقَالَ {وأكواب وأباريق} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ فَقَالَ {مِنْ فضة} وَمِنْهَا إِفْرَادُ الصَّدِيقِ وَجَمْعُ الشَّافِعِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حميم} وَحِكْمَتُهُ كَثْرَةُ الشُّفَعَاءِ فِي الْعَادَةِ وَقِلَّةُ الصَّدِيقِ قال الزمخشري: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا امْتُحِنَ بِإِرْهَاقِ ظَالِمٍ نَهَضَتْ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ بِشَفَاعَتِهِ رَحْمَةً لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ بِأَكْثَرِهِمْ مَعْرِفَةٌ وَأَمَّا الصَّدِيقُ فَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّدِيقِ فَقَالَ اسْمٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالصَّدِيقِ الْجَمْعَ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ إِذَا قُلْتَ عَبِيدٌ وَنَخِيلٌ فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ قال الله تعالى: {وزرع ونخيل} وقال {وما ربك بظلام للعبيد} وحين ذكر المخاطبين منهم قال العباد ولذلك قَالَ حِينَ ذَكَرَ التَّمْرَ مِنَ النَّخِيلِ {وَالنَّخْلَ باسقات} و {أعجاز نخل منقعر} فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَاخْتِيَارِ الْكَلَامِ! وَأَمَّا فِي مَذْهَبِ اللُّغَةِ فَلَمْ يُفَرِّقُوا هَذَا التَّفْرِيقَ وَلَا نَبَّهُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الدَّقِيقِ وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْجَمْعَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قوله: {وله ذرية ضعفاء} وَقَالَ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضعافا} فَأَمَّا وَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَمْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 فَخَالَفَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي الْأَبْنَاءِ وَفِي سُورَةِ الأحزاب {ولا أبناء إخوانهن} ومنه قوله تعالى: {أنبتت سبع سنابل} وفي موضع آخر {وسبع سنبلات} فَالْمَعْدُودُ وَاحِدٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ تَفْسِيرُهُ فَالْأَوَّلُ جَاءَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَالثَّانِي بِجَمْعِ الْقِلَّةِ وَقَدْ قيلفي تَوْجِيهِهِ: إِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ سِيقَتْ فِي بَيَانِ الْمُضَاعَفَةِ وَالزِّيَادَةِ فَنَاسَبَ صِيغَةَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَآيَةَ يوسف لحظ فيها وَهُوَ قَلِيلٌ فَأَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ لِيُصَدِّقَ اللَّفْظُ الْمَعْنَى تَنْبِيهٌ جَمْعُ التَّكْسِيرِ يَشْمَلُ أُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ وَجَمْعُ السَّلَامَةِ يَخْتَصُّ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ بأولى الْعِلْمِ وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِهِمْ فَبِحُكْمِ الْإِلْحَاقِ وَالتَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} ،وَعَلَى هَذَا فَأَشْرَفُ الْجَمْعَيْنِ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَمَا يُجْمَعُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مِنْ مُذَكَّرِ غَيْرِ الْعَاقِلِ قَدْ يُتْبَعُ بِالصِّفَةِ الْمُفْرَدَةِ مُؤَنَّثَةً بِالتَّاءِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْخَبَرِ تَقُولُ: حُقُوقٌ مَعْقُودَةٌ وَأَعْمَالٌ مَحْسُوبَةٌ قَالَ تَعَالَى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مبثوثة} وقال: {أياما معدودة} وَقَدْ يُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي غَيْرِ الْمُفْرَدِ وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ إِلَّا أَنَّهُ فَصِيحٌ وَمِنْهُ {واذكروا الله في أيام معدودات} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 قَاعِدَةٌ نَحْوِيَّةٌ نُونُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي جَمْعِ العلاقات سَوَاءٌ الْقِلَّةُ كَالْهِنْدَاتِ أَوِ الْكَثْرَةُ كَالْهُنُودِ فَتَقُولُ الْهِنْدَاتُ يَقُمْنَ وَالْهُنُودُ يَقُمْنَ قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يرضعن} : {والمطلقات يتربصن} هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بالإفراد قال تعالى: {وأزواج مطهرة} وَلَمْ يَقُلْ مُطَهَّرَاتٌ وَأَمَّا جَمْعُ غَيْرِ الْعَاقِلِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ إِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ أَتَيْتَ بِضَمِيرِهِ مفردا فقلت الجذوع انكسرت وإن كان القلة أتيت جَمْعًا وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتاب الله} إلى أن قال {منها أربعة حرم} فَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا يَعُودُ إِلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُنَّ ثُمَّ قال سبحانه {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} فَهَذَا عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السِّرُّ فِي هَذَا حَيْثُ كَانَ يُؤْتَى مَعَ الْكَثْرَةِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ وَمَعَ الْقِلَّةِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَهَلَّا عَكَسَ قُلْنَا ذَكَرَ الْفَرَّاءُ لَهُ سِرًّا لَطِيفًا فَقَالَ لَمَّا كَانَ الْمُمَيَّزُ مَعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَاحِدًا وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَصِيرُ مُمَيَّزُهُ وَاحِدًا وهو أندرهم وَأَمَّا جَمْعُ الْقِلَّةِ فَمُمَيَّزُهُ جَمْعٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ ثلاثة دراهم أربعة دراهم وهكذا إلى العشر تَمْيِيزُهُ جَمْعٌ فَلِهَذَا أَعَادَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمُمَيَّزِ جَمْعًا وَإِفْرَادًا وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {سَبْعَةُ أبحر} فَأَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ وَلَمْ يَقُلْ بُحُورٌ لِتُنَاسِبَ نَظْمَ الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ فِي إِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَأَضَافَ الثَّلَاثَةَ إِلَى الْقُرُوءِ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ قَالَ الْحَرِيرِيُّ الْمَعْنَى لِتَتَرَبَّصَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فَلَمَّا أَسْنَدَ إِلَى جَمَاعَتِهِنَّ وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةٌ أَتَى بِلَفْظِ قُرُوءٍ لِتَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُرَادَةِ وَالْمَعْنَى الْمَلْمُوحِ قَاعِدَةٌ فِي الضَّمَائِرِ وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي بَيَانِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُجَلَّدَيْنِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: لِلْعُدُولِ إِلَى الضَّمَائِرِ أَسْبَابٌ: مِنْهَا وَهُوَ أَصْلُ وَصْفِهَا لِلِاخْتِصَارِ وَلِهَذَا قَامَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وأجرا عظيما} مقام خمسة وعشرين لَوْ أَتَى بِهَا مُظْهَرَةً وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيٍّ أَنَّهُ لَيْسَ في كتاب آيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمَائِرَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا وَقَدْ قِيلَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا مَا بَيْنَ ضَمِيرٍ وَظَاهِرٍ وَمِنْهَا الْفَخَامَةُ بِشَأْنِ صَاحِبِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ لِفَرْطِ شُهْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتَفِي عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة الْقَدْرِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَوْلِهِ {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قلبك} وَمِنْهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وَمِنْهَا: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مبين} يَعْنِي الشَّيْطَانَ وَقَوْلِهِ {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ من حيث لا ترونهم} {إنه ظن أن لن يحور} الثَّانِي: الْأَصْلُ أَنْ يُقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، بِدَلِيلِ الْأَكْثَرِيَّةِ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بعضهم} فَأَخَرَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ وَقَدْ قَسَّمَ النَّحْوِيُّونَ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ إِلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصْلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي اللَّفْظِ بِالْمُطَابَقَةِ نَحْوُ {وعصى آدم ربه فغوى} {ونادى نوح ابنه} {إذا أخرج يده لم يكد يراها} وقوله {يستمعون القرآن فلما حضروه} الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مُؤَخَّرٍ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٍ فِي النِّيَّةِ كقوله تعالى {فأوجس في نفسه خيفة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وقوله: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} وَقَوْلِهِ {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جان} الثَّالِثُ: أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالتَّضَمُّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَدْلِ الْمَفْهُومِ مِنِ اعْدِلُوا وَقَوْلِهِ {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عليه وإنه لفسق} فَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ لِلْأَكْلِ لِدَلَالَةِ تَأْكُلُوا وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حضر القسمة} إلى قوله {فارزقوهم منه} أَيِ الْمَقْسُومُ لِدَلَالَةِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا الرَّابِعُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ كَإِضْمَارِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فلولا إذا بلغت الحلقوم} {كلا إذا بلغت التراقي} أَضْمَرَ النَّفْسَ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْحُلْقُومِ وَالتَّرَاقِي عَلَيْهَا وقوله {حتى توارت بالحجاب} يَعْنِي الشَّمْسَ وَقِيلَ: بَلْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَهُوَ الْعَشِيُّ لِأَنَّ الْعَشِيَّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَالْمَعْنَى إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ وَقِيلَ: فَاعِلُ تَوَارَتْ ضَمِيرُ الصَّافِنَاتِ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْفُتُوحَاتِ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ اتِّفَاقَ الضَّمَائِرِ أَوْلَى مِنْ تَخَالُفِهَا وَسَنَذْكُرُهُ فِي الثامن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جمعا} قِيلَ الضَّمِيرُ لِمَكَانِ الْإِغَارَةِ بِدَلَالَةِ وَالْعَادِيَاتِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَكَانٍ وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أنزلناه في ليلة الْقَدْرِ} أُضْمِرَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان} فَـ" عُفِيَ" يَسْتَلْزِمُ عَافِيًا إِذْ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ وَأُعِيدَ الْهَاءُ مِنْ {إِلَيْهِ} عَلَيْهِ الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَيُضْمَرُ ثِقَةً بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله {ما ترك على ظهرها من دابة} وقوله {كل من عليها فان} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ الضَّمِيرَ لِلدُّنْيَا وَقَالَ وَإِنْ لم يقدم لَهَا ذِكْرٌ لَكِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا وَالْبَعْضُ يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تهجرون} يَعْنِي الْقُرْآنَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَوْلُهُ قَالَ {هي راودتني عن نفسي} {يا أبت استأجره} {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُوصِيكُمُ الله في أولادكم عُلِمَ أَنَّ ثَمَّ مَيِّتًا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وقوله: {وإذا حضر القسمة} ثم قال {فارزقوهم منه} أَيْ مِنَ الْمَوْرُوثِ وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ ما سبق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 وَقَوْلُهُ {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا} وَلَمْ يَقُلْ اتَّخَذَهُ رَدًّا لِلضَّمِيرِ إِلَى شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بَلْ كَانَ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ آيَاتِ اللَّهِ اسْتَهْزَأَ بِجَمِيعِهَا وَقِيلَ شَيْئًا بِمَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ آيَةٌ وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الصَّاحِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِاسْتِحْضَارِهِ بِالْمَذْكُورِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْأَيْدِي لِأَنَّهَا تُصَاحِبُ الْأَعْنَاقَ فِي الْأَغْلَالِ وَأَغْنَى ذِكْرُ الْأَغْلَالِ عَنْ ذِكْرِهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا ينقص من عمره} أَيْ مِنْ عُمُرِ غَيْرِ الْمُعَمَّرِ فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ الْمُعَمَّرِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُعَمَّرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِتَقَابُلِهِمَا فَكَانَ يُصَاحِبُهُ الِاسْتِحْضَارُ الذِّهْنِيُّ وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ لَهُ كقوله تعالى {فإن كن نساء} بعد قوله {يوصيكم الله في أولادكم} وقوله {وبعولتهن أحق بردهن} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ مَعَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرُّجْعَى وَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ فِيهِ خِلَافٌ أُصُولِيٌّ وَقَوْلِهِ {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} فَإِنَّ الْفِضَّةَ بَعْضُ الْمَذْكُورِ فَأَغْنَى ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْجَمِيعِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} أَصْنَافُ مَا يُكْنَزُ وَقَدْ يَعُودُ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ دُونَ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُعَمَّرُ من معمر ولا ينقص من عمره} وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ في مرية من لقائه} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَمِمَّا يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ {وَبُعُولَتُهُنَّ أحق بردهن} وَيُسْتَرَاحُ مِنْ إِلْزَامِ تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ {فَإِنْ كانتا اثنتين} وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظٌ مُثَنًّى يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ كَانَتَا قَالَ الْأَخْفَشُ إِنَّمَا يُثَنَّى لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَثَنَّى الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَيْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا فِي مَنْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِنَّمَا جَازَتْ مِنْ حَيْثُ كَانَ يُفِيدُ الْعَدَدُ مُجَرَّدًا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ السَّادِسُ أَلَّا يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ وَلَا مَعْلُومٍ بِالسِّيَاقِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْهُولُ الذي يلزمه بالتفسير بِجُمْلَةٍ أَوْ مُفْرَدٍ فَالْمُفْرَدُ فِي نِعْمَ وَبِئْسَ وَالْجُمْلَةُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ نَحْوُ هُوَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَيِ الشَّأْنُ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَوْلِهِ {لَكِنَّا هُوَ الله ربي} وقوله {أنا الله} وقوله {فإنها لا تعمى الأبصار} وَقَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا إِذَا كَانَ عَائِدُهُ مُؤَنَّثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مجرما فإن له جهنم} فذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 الضَّمِيرَ مَعَ اشْتِمَالِ الْجُمْلَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ مؤنثة لأنها في حكم الفضلة إذا المعنى من يأت ربه مجرما يجز جَهَنَّمَ تَنْبِيهٌ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْفَصْلَ يَكُونُ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ وَالْمُتَكَلِّمِ والمخاطب قال تعالى {هذا هو الحق} {كنت أنت الرقيب} {إن ترن أنا أقل منك مالا} وَيَكُونُ لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ يَكُونُ إِلَّا غَائِبًا وَيَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ وَمَنْصُوبَهُ قال تعالى: {قل هو الله أحد} {وأنه لما قام عبد الله} الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تعالى {وأتوا به متشابها} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنَظِيرُهُ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أَيْ بِجِنْسِ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} عَلَى الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْمُتَكَلَّمِ بِهِ لَوَحَّدَهُ الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَدْ يُذْكَرُ شَيْئَانِ وَيُعَادُ الضَّمِيرُ عَلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ الْغَالِبُ كَوْنُهُ لِلثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وإنها لكبيرة} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 وَقَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نورا وقدره منازل} وَالْأَصْلُ: قَدَّرَهُمَا لَكِنِ اكْتَفَى بِرُجُوعِ الضَّمِيرِ لِلْقَمَرِ لِوَجْهَيْنِ قُرْبِهِ مِنَ الضَّمِيرِ وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الشُّهُورُ وَيَكُونُ بِهِ حِسَابُهَا وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْفِضَّةِ لِقُرْبِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمَكْنُوزِ وَهُوَ يَشْمَلُهَا. وَقَوْلِهِ {وَاللَّهُ ورسوله أحق أن يرضوه} أَرَادَ يُرْضُوهُمَا فَخَصَّ الرَّسُولَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهُ هُوَ دَاعِي الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَالْمُخَاطِبُ لَهُمْ شِفَاهًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَذُكِرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ تَعْظِيمًا وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ الرَّسُولِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله ورسوله ليحكم بينهم} فَذُكِرَ اللَّهُ تَعْظِيمًا وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ رَسُولِهِ ومثله قوله تعالى {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عنه} وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو إثما ثم يرم به بريئا} أَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْإِثْمِ لِقُرْبِهِ وَيَجُوزُ رُجُوعُهُ إِلَى الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ عَلَى لَفْظِهَا بِتَأْوِيلِ وَمَنْ يَكْسِبُ إثما ثم يرم به. وقال الْأَنْبَارِيِّ: وَلَمْ يُؤْثَرُ الْأَوَّلُ بِالْعَائِدِ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} معناه إِلَيْهِمَا فَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ الِانْفِضَاضِ عَنْهُ وَهُوَ يَخْطُبُ قَالَ فَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَإِنَّهَا تَارَةً تُؤْثِرُ الثَّانِيَ بِالْعَائِدِ وَتَارَةً الْأَوَّلَ فَتَقُولُ إِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلَةٌ وَإِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 قُلْتُ: لَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَقَوْلُهُ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يرم به بريئا} لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَحَدِهِمَا لِوُجُودِ لَفْظِهِ أَوْ هِيَ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فَمَنْ جَعَلَهُ نَظِيرَ هَذَا فَلَمْ يُصِبْ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ وَمُؤَنَّثَةً لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِقُلُوبِ الْعِبَادِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا أَكْثَرُ مِنَ اللَّهْوِ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لِقُدُومِهَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَأَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْإِثْمِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذَكُّرِ الْخَامِسُ: قَدْ يَذْكُرُ شَيْئَانِ وَيَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ فِي المعنى كقوله تعالى {وكنا لحكمهم شاهدين} يعني حكم سليمان وداود وقوله {أولئك مبرأون مما يقولون} فَأَوْقَعَ أُولَئِكَ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ الْبَحْثُ السَّادِسُ: قَدْ يُثَنَّى الضَّمِيرُ ويعود عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللؤلؤ والمرجان} قَالُوا: وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَقَوْلِهِ {نَسِيَا حوتهما} وَإِنَّمَا نَسِيَهُ الْفَتَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 السَّابِعُ: قَدْ يَجِيءُ الضَّمِيرُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَهُوَ لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي آدَمَ ثُمَّ قَالَ {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فَهَذَا لِوَلَدِهِ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء إن تبد لكم تسؤكم} قِيلَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ حُذَافَةَ حِينَ قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَبِي؟: قَالَ: حُذَافَةُ " فَكَانَ نَسَبُهُ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ {لا تسألوا عن أشياء} وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَجِّ حِينَ قَالُوا أَفِي كل مرة ثم قال وإن تسألوا عنها يُرِيدُ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ دِينِكُمْ بِكُمْ إِلَى عِلْمِهَا حَاجَةٌ تَبْدُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ طَلَبَهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا طَلَبٌ فَلَيْسَتِ الْهَاءُ رَاجِعَةً لِأَشْيَاءَ مُتَقَدِّمَةٍ بَلْ لِأَشْيَاءَ أُخَرَ مَفْهُومَةٍ من قوله {لا تسألوا عن أشياء} وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى أَشْيَاءَ مَذْكُورَةٍ لَتَعَدَّى إِلَيْهَا بِـ "عَنْ" لَا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَا مَفْعُولٌ بِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين من قبل} يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ هو عائد لإبراهيم لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {وَفِي هَذَا} رَاجِعٌ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا هُوَ قَالَهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَعْنِي {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قبل} يَعْنِي فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْمَعْنَى جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَهُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ لِتَكُونُوا أَيْ سَمَّاكُمْ وَجَعَلَكُمْ مُسْلِمِينَ لِتَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَوْلُهُ {ملة أبيكم إبراهيم} منصوب بتقدير اتبعوا لأن هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 لناصب نَصَبَهُ قَوْلُهُ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي سُورَةِ يس مَوْضِعَانِ تَوَهَّمَ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هم مظلمون} فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُمْ رَاجِعٌ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهَارَ لَيْسَ مُظْلِمًا وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَانِ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ إِنَّمَا الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ وَ {مظلمون} داخلو الظلام كقولك مصبحون وممسون إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ العليم} يظن بعضهم أن معناه مثل السموات والأرض وهو فاسد لوجهين أحدهما أنهم ما أنكروا إعادة السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِعَادَتَهُمَا بِابْتِدَائِهِمَا وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا إِعَادَةَ أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ لِيَتَحَقَّقَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ الثَّانِي لِتَبَيُّنِ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ {وَلَمْ يَعْيَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى} فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَثْبَتَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ مِثْلِهِمْ لَا عَلَى إِعَادَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِمْ قُلْنَا الْمُرَادُ بِمِثْلِهِمْ هُمْ كَمَا في قوله {ليس كمثله شيء} وَقَوْلِهِمْ مِثْلِي لَا يَفْعَلُ كَذَا أَيْ أَنَا وَبِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَوْلُهُ {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قَدْ يُتَوَهَّمُ عَوْدُهُ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وَإِلَّا لَنُصِبَ الْعَمَلُ كَمَا تَقُولُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرًا يَضْرِبُهُ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالْهَاءُ لِلْكَلِمِ قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي التذكرة الْمَنْصُوبُ فِي يَرْفَعُهُ عَائِدٌ لِلْكَلِمِ لِأَنَّ الْكَلِمَ جَمْعُ كَلِمَةٍ قَالَ كَلِمٌ كَالشَّجَرِ فِي أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِالْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ {مِنَ الشَّجَرِ الأخضر} وَكَذَلِكَ وُصِفَ الْكَلِمُ بِالطَّيِّبِ وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدًا إِلَى الْعَمَلِ لَكَانَ مَنْصُوبًا فِي هَذَا الْوَجْهِ وَمَا جَاءَ التَّنْزِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أليما} وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى قَوْلِهِ {يَصْعَدُ} وَيُضْمَرُ لَهُ فِعْلٌ نَاصِبٌ كَمَا أُضْمِرَتْ لِقَوْلِهِ {وَالظَّالِمِينَ} وَالْمَعْنَى يَرْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ وَمَعْنَى يُرْفَعُ الْعَمَلُ أَنَّهُ لَا يُحْبَطُ ثَوَابُهُ فَيُرْفَعُ لِصَاحِبِهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْعَمَلِ السيء الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ الْإِحْبَاطُ فَلَا يُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ الثَّامِنُ: إِذَا اجْتَمَعَ ضَمَائِرُ فَحَيْثُ أَمْكَنَ عَوْدُهَا لِوَاحِدٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهَا لِمُخْتَلِفٍ وَلِهَذَا لَمَّا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} إِلَخْ أَنَّ الضمير في {فاقذفيه في اليم} ل لتابوت وَمَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ لِمُوسَى عَابَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَعَلَهُ تَنَافُرًا وَمُخْرِجًا لِلْقُرْآنِ عَنْ إِعْجَازِهِ فَقَالَ وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ لِمَا يؤدي إليه من تنافر النظر فَإِنْ قُلْتَ: الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 قُلْتُ: مَا ضَرَّكَ لَوْ جَعَلْتَ الْمَقْذُوفَ وَالْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ هُوَ مُوسَى فِي جَوْفِ التَّابُوتِ حَتَّى لَا تُفَرِّقَ الضَّمَائِرَ فَيَتَنَافَرَ عَلَيْكَ النَّظْمُ الذي هو قوام إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ انْتَهَى وَلَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِهِ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} الضَّمَائِرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُرَادُ بِتَعْزِيزِ اللَّهِ تَعْزِيزُ دِينِهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ فَرَّقَ الضَّمَائِرَ فَقَدْ أَبْعَدَ أَيْ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا لِلرَّسُولِ إِلَّا الْأَخِيرَ لَكِنْ قَدْ يَقْتَضِي الْمَعْنَى التَّخَالُفَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أحدا} الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي فِيهِمْ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي مِنْهُمْ لِلْيَهُودِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} بعد قوله {إنما سلطانه} وقوله {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} وقوله {وعمروها أكثر مما عمروها} أَيْ عَمَرُوا الْأَرْضَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ قُرَيْشٍ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَتْهَا قُرَيْشٌ وَقَوْلِهِ {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فقد نصره الله} الْآيَةُ فِيهَا اثْنَا عَشَرَ ضَمِيرًا، خَمْسَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ وَالثَّالِثُ ضَمِيرٌ فِي {الْغَارِ} لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَارٍ مَحْذُوفٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 فَيَحْتَمِلُ ضَمِيرًا وَالرَّابِعُ: {صَاحِبُهُ} وَالْخَامِسُ: {لَا تَحْزَنْ} وَالسَّادِسُ: {مَعَنَا} وَالسَّابِعُ فِي {عَلَيْهِ} عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ لِأَنَّ السَّكِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ إذا كَانَ خُرُوجُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ أنزل الله سكينته على رسوله} فَالسَّكِينَةُ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَخْفَ عَلَى نَفْسِهِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا مِنْ أَجْلِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} قيل الضميران عائدان على يُوسُفَ قَالَ لِلنَّاجِي ذَكِّرِ الْمَلِكَ بِأَمْرِي وَرَجَّحَ ابْنُ السِّيدِ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِي نجا منهما وادكر بعد أمة} أَيْ بَعْدَ حِينٍ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ بَعْدَ "أَمَهٍ" بِالتَّخْفِيفِ أَيْ نِسْيَانٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِيَذْكُرَ تَذَكُّرَ الْفَتَى بَعْدَ النِّسْيَانِ وَالذِّكْرُ عَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ وَيَكُونَ مَصْدَرَ ذَكَرْتُهُ ذِكْرًا فَالتَّقْدِيرُ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فَأَضَافَ الذِّكْرَ إِلَى الرَّبِّ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ يُوسُفَ وَجَازَ ذَلِكَ لِمُلَاءَمَتِهِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يُخَالَفُ بَيْنَ الضَّمَائِرِ حَذَرًا مِنَ التَّنَافُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {منها أربعة حرم} كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ قال {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} لما أعاد عَلَى أَرْبَعَةٍ وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ عَوْدَهُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا بَلْ هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَيُبِيحَ الظُّلْمَ فِي الثَّمَانِيَةِ بَلْ تَرْكُ الظُّلْمِ فِي الْكُلِّ وَاجِبٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 قُلْتُ: لَكِنْ يَجُوزُ التَّنْصِيصُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْحُرُمِ فَإِنَّ الظُّلْمَ قَبِيحٌ مُطْلَقًا وَفِيهِنَّ أَقْبَحُ فَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ التَّاسِعُ: قَدْ يَسُدُّ مَسَدَّ الضَّمِيرِ أُمُورٌ: مِنْهَا الْإِشَارَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولا} وَمِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وقوله {نجب دعوتك ونتبع الرسل} أَيْ رُسُلَكَ وَقَوْلِهِ {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أَصْلُ الْكَلَامِ أَجْرَهُ وَصَبْرَهُ وَلَمَّا كَانَ الْمُحْسِنُونَ جنسا ومن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ وَاحِدٌ تَحْتَهُ أَغْنَى عُمُومُهُ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ. قَالَ: ابْنُ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} وزعم الزمخشري أَنَّ الْأَبْوَابَ بَدَلٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِي مُفَتَّحَةً وَهَذَا تَكَلُّفٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَبْوَابُ مُرْتَفِعَةً بمفتحة الْمَذْكُورِ أَوْ بِمِثْلِهِ مُقَدَّرًا وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مُفَتَّحَةً صَالِحٌ لِلْعَمَلِ فِي الْأَبْوَابِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِبْدَالٍ أَيْضًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وَمِنْهَا الِاسْمُ الظَّاهِرُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِضْمَارَ فَيُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ التَّأْكِيدِ الْعَاشِرُ: الْأَصْلُ فِي الضَّمِيرِ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَلَنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ وَذُكِرَ بَعْدَهُمَا ضَمِيرٌ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَحْوَ لَقِيتُ غُلَامَ زَيْدٍ فَأَكْرَمْتُهُ فَالضَّمِيرُ لِلْغُلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} وَعِنْدَ التَّعَارُضِ رَاعَى ابْنُ حَزْمٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ فَقَالَا إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {أَوْ لحم خنزير فإنه رجس} يَعُودُ عَلَى الْخِنْزِيرِ دُونَ لَحْمِهِ لِقُرْبِهِ وَقَوَّاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ مُطَّرِدٍ فَقَدْ يَعُودُ إِلَى المضاف إليه كقوله تعالى {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون} وَكَذَا الصِّفَةُ فَإِنَّهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إني أرى سبع بقرات سمان} وَلِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا: وَكَذَا عَوْدُهُ لِلْأَقْرَبِ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَقَدْ يَخْرُجُ عَنِ الْأَصْلِ لِدَلِيلٍ وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلَانِ تَسَاقَطَا وَنُظِرَ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ بَلْ قَدْ يُقَالُ عَوْدُهُ إِلَى مَا فِيهِ الْعَمَلُ بِهِمَا أَوْلَى كَمَا يَقُولُهُ الْمَاوَرْدِيُّ إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَوْجُودٌ فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لها خاضعين} فأخبر خَاضِعِينَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَلَوْ أَخْبَرَ عَنِ المضاف لقال خاضعة وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فقد عاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 الضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُوسَى وَالظَّنُّ بِفِرْعَوْنَ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى نَفْسَهُ قَدْ غَلِطَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ {إِلَهِ مُوسَى} اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا عُطِفَ بِـ "أَوْ" وَجَبَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ نَحْوَ إِنْ جَاءَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَأَكْرِمْهُ لِأَنَّ "أَوْ" لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أولى بهما} فَقِيلَ إِنَّ "أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ بَلِ الْمَعْنَى إِنْ يَكُنِ الْخَصْمَانِ فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْنَى وَقِيلَ: لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلْعَطْفِ وَعَكْسُ هَذَا إِذَا عُطِفَ بِالْوَاوِ وَجَبَ تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ قَوْلُهُ {إِلَّا عشية أو ضحاها} أي ضحى يَوْمِهَا فَدَلَّ بِالْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: وَإِنَّمَا أَضَافَ الضُّحَى إِلَى نَهَارِ الْعَشِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ لَمْ يَحْسُنِ التَّرْدِيدُ بِـ "أَوْ" لِأَنَّ عَشِيَّةَ كُلِّ نَهَارٍ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْغُرُوبِ وَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ وَضُحَاهَا مِقْدَارُ رُبْعِهِ مَثَلًا وَهُوَ مِقْدَارُ نِصْفِ الْعَشِيَّةِ فَلَمَّا أَضَافَهُ إِلَى نَهَارِهَا عُلِمَ تَقَارُبُهُمَا فَحَسُنَ التَّرْدِيدُ لِإِفَادَتِهِ التَّرْدِيدَ بَيْنَ اللُّبْثِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَلَوْ أَطْلَقَهُ لَجَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَشِيَّةُ نَهَارٍ قَصِيرٍ وَضُحَى يَوْمٍ طَوِيلٍ فَتَسَاوَى ذَلِكَ الضُّحَى بِالْعَشِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ التَّرْدِيدُ بينهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فَإِنْ قِيلَ"كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ {لَمْ يلبثوا إلا ساعة من نهار} وَهُوَ الْجُزْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الزَّمَانِ وَبَيْنَ الضُّحَى وَالْعَشِيَّةِ؟ وَكَيْفَ حَسُنَ التَّرْدِيدِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْحِسَابَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ طويلا ومنهم من يحسبه قصيرا قال تَعَالَى {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} ثُمَّ قَالَ {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لبثتم إلا يوما} وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَخِفَّتِهِ وَلَبِثْتُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَرْزَخِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَائِدَةٌ وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ {أَهَذَا الذي بعث الله رسولا} أَيْ بَعَثَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يتوفون منكم} إِلَى قَوْلِهِ {يَتَرَبَّصْنَ} إِذَا جَعَلْنَاهُ الْخَبَرَ فَالْأَصْلُ يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فَوَضَعَ الضَّمِيرَ مَوْضِعَ الْأَزْوَاجِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِنَّ فَأَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ فَائِدَةٌ الْمُضْمَرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الظَّاهِرِ لَفْظًا أَوْ مَرْتَبَةً أَوْ لَفْظًا وَمَرْتَبَةً وَلَا يَكُونُ قَبْلَ الظَّاهِرِ لَفْظًا وَمَرْتَبَةً إِلَّا فِي أَبْوَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ كَمَا سَبَقَ وَبَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ كَقَوْلِهِ تعالى {فنعما هي} و {ساء مثلا} وَالضَّمِيرِ فِي رُبَّهُ رَجُلًا وَبَابِ الْإِعْمَالِ إِذَا أعملت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 الثَّانِيَ وَالْأَوَّلُ يَطْلُبُ عُمْدَةً فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّكَ تُضْمِرُ فِي الْأَوَّلِ فَتَقُولُ ضَرَبُونِي وَضَرَبْتُ الزَّيْدَيْنِ فَائِدَةٌ الضَّمِيرُ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَى مُشَاهَدٍ مَحْسُوسٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَابِقًا فِي عِلْمِ اللَّهِ كَوْنُهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدِ الْمَوْجُودِ فَصَحَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ وَقِيلَ: بَلْ يَرْجِعُ لِلْقَضَاءِ لِدَلَالَةِ قَضَى عَلَيْهِ وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّهُ لحب الخير لشديد} أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ قَاعِدَةٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ إِذَا كَانَ السُّؤَالُ مُتَوَجِّهًا وَقَدْ يُعْدَلُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا يَقْتَضِيهِ السُّؤَالُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَيُسَمِّيهِ السَّكَّاكِيُّ الْأُسْلُوبُ الْحَكِيمُ وَقَدْ يَجِيءُ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السُّؤَالِ وَأَغْفَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ وَقَدْ يَجِيءُ أَنْقَصَ لضرورة الحال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 مِثَالُ: مَا عُدِلَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فَعَدَلَ عَنِ الْجَوَابِ لَمَّا قَالُوا مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَمْتَلِئَ وَيَسْتَوِيَ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ فَأُجِيبُوا بما أجيبوا به لينتهوا عَلَى أَنَّ الْأَهَمَّ مَا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَنْهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابن السبيل} سَأَلُوا عَمَّا يُنْفِقُونَ فَأُجِيبُوا بِبَيَانِ الْمَصْرِفِ تَنْزِيلًا لِسُؤَالِهِمْ مَنْزِلَةَ سُؤَالِ غَيْرِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ {قُلْ مَا أنفقتم من خير} بَيَانَ مَا يُنْفِقُونَهُ وَهُوَ خَيْرٌ ثُمَّ زِيدُوا عَلَى الْجَوَابِ بَيَانَ الْمَصْرِفِ وَنَظِيرُهُ {وَمَا تِلْكَ بيمينك يا موسى} فَيَكُونُ طَابَقَ وَزَادَ نَعَمْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَهُ مَالٌ عَظِيمٌ فَقَالَ مَاذَا أُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا؟ وَأَيْنَ نَضَعُهَا؟ فَنَزَلَتْ فَعَلَى هَذَا لَيْسَتِ الْآيَةُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِغَيْرِ مَا يَطْلُبُ بَلْ أُجِيبَ بِبَعْضِ مَا سَأَلَ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ كَانَ سُؤَالًا عَنِ النَّفَقَةِ إِلَى مَنْ تُصْرَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ وَالْجَوَابُ يَخْرُجُ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ وَأَمَّا هَذَا السُّؤَالُ الثَّانِي فَعَنْ قَدْرِ الْإِنْفَاقِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ أَيْضًا وَمِنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ فِرْعَوْنُ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لِأَنَّ "مَا" سُؤَالٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ أَوْ عَنِ الْجِنْسِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ خَطَأً لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ لَيْسَ تُرَى مَاهِيَّتُهُ فَتُبَيَّنُ وَلَا جنس له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 فَيُذْكَرُ عَدَلَ الْكَلِيمُ عَنْ مَقْصُودِ السَّائِلِ إِلَى الجواب بما يعرف الصواب عِنْدَ كَيْفِيَّةِ الْخِطَابِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَرَيَانَ مَعَهُ فَأَجَابَهُ بِالْوَصْفِ الْمُنَبِّهِ عَنِ الظَّنِّ الْمُؤَدِّي لِمَعْرِفَتِهِ لكنه لما لم يطابق السؤال عنه فِرْعَوْنَ لِجَهْلِهِ وَاعْتَقَدَ الْجَوَابَ خَطَأً {قَالَ لِمَنْ حوله ألا تستمعون} فَأَجَابَهُ الْكَلِيمُ بِجَوَابٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ وَيَتَضَمَّنُ الْإِبْطَالَ لِعَيْنِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ بقوله {ربكم ورب آبائكم الأولين} فَأَجَابَ بِالْأَغْلَظِ وَهُوَ ذِكْرُ الرُّبُوبِيَّةِ لِكُلِّ مَا هو من عالمهم نصا وَلَمَّا لَمْ يَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفَطَّنُوا غَلُظَ عَلَيْهِمْ فِي الثَّالِثَةِ، بِقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ تعقلون} فَكَأَنَّهُ شَكَّ فِي حُصُولِ عَقْلِهِمْ فَإِنْ قِيلَ: قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام} وَلَمْ يَقُلْ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْقِتَالِ فِيهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى! وَقِيلَ: لَمْ يَقَعِ السؤال إلا بعد القتال فَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِالسُّؤَالِ عَنْ هَذَا الشَّهْرِ هَلْ أُبِيحَ فِيهِ الْقِتَالُ وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ وَلَمْ يقل هو كبير ليعلم حكم قِتَالٍ وَقَعَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَقَدْ يُعْدَلُ عَنِ الْجَوَابِ إِذَا كَانَ السَّائِلُ قَصْدُهُ التَّعَنُّتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ من أمر ربي} فَذَكَرَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا سَأَلُوا تَعْجِيزًا وَتَغْلِيظًا إِذَا كَانَ الرُّوحُ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَجِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ الرُّوحُ وَصِنْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى فَقَصَدَ الْيَهُودُ أَنْ يَسْأَلُوهُ فَبِأَيٍّ يُسَمَّى أَجَابَهُمْ قَالُوا لَيْسَ هُوَ فَجَاءَهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا فَكَانَ هَذَا الْإِجْمَالُ كَيْدًا يُرْسِلُ به كيدهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ: هَلْ هِيَ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ أَمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؟ فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ جَوَابٌ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ ذَلِكَ أَوْ يَقُولَ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ فِعْلِهِ وَخَلْقِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَحِينَئِذٍ فَوَقَعَ الْجَوَابُ مَوْقِعَهُ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ الرُّوحُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ يَجْعَلُهُ دَلَالَةً وَعِلْمًا عَلَى صِدْقِهِ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِمْ وَحَكَاهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي الْغُرَرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} فكأنه قال تعالى إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَلَوْ شَاءَ لَرَفَعَهُ وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وما تلك بيمينك يا موسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ أَنَّ السُّؤَالَ يَعْقُبُهُ أمر عظيم يحدثه الله فِي الْعَصَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّهَ لِصِفَاتِهَا حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَكَذَا قَوْلُهُ {وما تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} وَحَسَّنَهُ إِظْهَارُ الِابْتِهَاجِ بِعِبَادَتِهَا وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى مُوَاظَبَتِهَا لِيَزْدَادَ غَيْظُ السَّائِلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ منها ومن كل كرب} بَعْدَ قَوْلِهِ {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البر والبحر تدعونه تضرعا} الْآيَةَ وَلَوْلَا قَصْدُ بَسْطِ الْكَلَامِ لِيُشَاكِلَ مَا تَقَدَّمَ لَقَالَ: "يُنَجِّيكُمُ اللَّهُ" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 وَمِثَالُ النُّقْصَانِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أن أبدله من تلقاء نفسي} أَيِ ائْتِ بِقُرْآنٍ لَيْسَ فِيهِ سَبُّ آلِهَتِنَا أو بدله بأن تجعل مكان آية العذاب آية الرحمة وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ آلِهَتِنَا فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ وَطَوَى الْجَوَابَ عَنِ الِاخْتِرَاعِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِي إِمْكَانِ الْبَشَرِ بِخِلَافِ الِاخْتِرَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَقْدُورِ فَطَوَى ذِكْرَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ مُحَالٌ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّبْدِيلَ قَرِيبٌ مِنَ الِاخْتِرَاعِ فَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى جَوَابٍ وَاحِدٍ لَهُمَا وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّبْدِيلُ أَسْهَلَ مِنَ الِاخْتِرَاعِ وَقَدْ نَفَى إِمْكَانَ التَّبْدِيلِ كَانَ الِاخْتِرَاعُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى فَائِدَةٌ قِيلَ أَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُعَادَ فِي نَفْسِ سُؤَالِ السَّائِلِ لِيَكُونَ وَفْقَ السَّائِلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أإنك لأنت يوسف قال أنا يُوسُفَ} وَأَنَا فِي جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أنت في سؤالهم قال {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} فَهَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا عِوَضَ ذَلِكَ مَحْذُوفَ الْجَوَابِ اخْتِصَارًا وَتَرْكًا لِلتَّكْرَارِ وَقَدْ يُحْذَفُ السُّؤَالُ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ بِتَقْدِيرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هَلْ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يبدأ الخلق ثم يعيده} فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ {قُلِ اللَّهُ} جَوَابَ سُؤَالٍ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا لَمَّا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ {من يبدأ الخلق ثم يعيده} فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فَتَرَكَ ذِكْرَ السُّؤَالِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قل الله يهدي للحق} قَاعِدَةٌ الْأَصْلُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُشَاكِلًا لِلسُّؤَالِ فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قَوْلِكَ مَنْ قَرَأَ فَتَقُولُ زَيْدٌ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْفِعْلِ عَلَى جَعْلِ الْجَوَابِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً قَالَ وَإِنَّمَا قَدَّرْتُهُ كَذَلِكَ لَا مُبْتَدَأً مَعَ احْتِمَالِهِ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْأَجْوِبَةِ إِذَا قَصَدُوا تَمَامَهَا قَالَ تَعَالَى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أنشأها} ومثله {خلقهن العزيز العليم} {قل أحل لكم الطيبات} فَلَمَّا أَتَى بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ مَعَ فَوَاتِ مُشَاكَلَةِ السُّؤَالِ عُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْفِعْلِ أَوَّلًا أَوْلَى انْتَهَى وَمِمَّا رُجِّحَ بِهِ أَيْضًا تَقْدِيرُ الْفِعْلِ أَنَّهُ حَيْثُ صَرَّحَ بِالْجُزْءِ الْأَخِيرِ صَرَّحَ بِالْفِعْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 وَالتَّشَاكُلُ لَيْسَ وَاجِبًا بَلِ اللَّائِقُ كَوْنُ زَيْدٍ فَاعِلًا أَيْ قَرَأَ زَيْدٌ أَوْ خَبَرًا أَيِ الْقَارِئُ زَيْدٌ لَا مُبْتَدَأَ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأُولَى: التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَوْ حَذْفُهُ؟ وَهَلْ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ يَعِيشَ التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَجْوَدُ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلِ الْأَكْثَرُ الْحَذْفُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى {قل أحل لكم الطيبات} {ليقولن خلقهن العزيز العليم} {قل يحييها الذي أنشأها} فَكَانَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمُرَحِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا لِنُكْتَةٍ وَفِيهِ نَظَرٌ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ مَنْ جَاءَ فَقُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً وَلَوْ قُلْتَ زَيْدٌ كَانَ نَصًّا فِي أَنَّهُ جَوَابٌ وَفِي الْعُمُومِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مَنْ وَكَأَنَّكَ قُلْتَ الَّذِي جَاءَ زَيْدٌ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ وَهَاتَانِ الْفَائِدَتَانِ إِنَّمَا حَصَلَتَا مِنَ الْحَذْفِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِمَنِ الملك اليوم لله الواحد القهار} إِذِ التَّقْدِيرُ الْمُلْكُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ مِنَ الْجَوَابِ إِذِ الْمَعْنَى لَا مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِمَنِ الْأَرْضُ ومن فيها} {لمن ما في السماوات والأرض} {قل من يرزقكم من السماوات والأرض} وَمِنَ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وَلَعَلَّهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ {قُلْ من رب السماوات السبع} وقوله {خلقهن العزيز العليم} لِأَنَّ ظَاهِرَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَطِّلَةً وَدَهْرِيَّةً فَأُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَقَوْلُهُ: {نبأني العليم الخبير} لِأَنَّهَا اسْتَغْرَبَتْ حُصُولَ النَّبَأِ الَّذِي أَسَرَّتْهُ وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ أَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ زَيْدًا فَاعِلٌ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي جواب مَنْ قَامَ عَلَى تَقْدِيرِ قَامَ زَيْدٌ وَالَّذِي يُوجِبُهُ جَمَاعَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ لِوَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْجُمْلَةِ الْمَسْئُولِ بِهَا فِي الِاسْمِيَّةِ كَمَا وَقَعَ التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} في الجملة الفعلية وإنما لم يقطع التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا أساطير الأولين} لأنهم لو طبقوا لَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِنْزَالِ وَهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ بِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ الثَّانِي: أَنَّ اللَّبْسَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ السَّائِلِ إِلَّا فِيمَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَرَضِ السَّائِلِ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ فَحَرِيٌّ أَنْ يَقَعَ فِي الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْمِلَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وكذلك: أَزَيْدٌ قَامَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَالْوَجْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ قَامَ أَوْ عَمْرٌو قَامَ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوَابِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا} فَإِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْفَاعِلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَ الْجَوَابُ بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوا عَنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ بَلْ كَانَ عَنِ الشَّخْصِ الْكَاسِرِ لَهَا وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا بَعْدَ بَلْ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِلْهَمْزَةِ فَإِنَّ بل لا يصلح أَنْ يُصَدَّرَ بِهَا الْكَلَامُ وَلِأَنَّ جَوَابَ الْهَمْزَةِ بنعم أو بلى فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَقَالَ مَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا تَقْدِيرَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنْ يَكُونَ الْخُلْفُ وَاقِعًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا الْمُقَدَّرَةِ وَالْمَعْطُوفَةِ الْمَلْفُوظِ بِهَا بَعْدَ بَلْ قُلْتُ: وَإِنَّهُ لَازِمٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا أَنَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا مَعَ زِيَادَتِهِ بِالْخُلْفِ عَمَّا أفادته الجملة الأولى من التعريض إذا مَنْطُوقُهَا نَفْيُ الْفِعْلِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَفْهُومُهَا إِثْبَاتُ حُصُولِ التَّكْسِيرِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قلت: ولابد مِنْ ذِكْرِ مَا يَكُونُ مَخْلَصًا عَنِ الْخُلْفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي التَّعْرِيضِ مَخْلَصًا عَنِ الْكَذِبِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْسِبَ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ إِلَى الصَّنَمِ حَقِيقَةً بَلْ قَصْدُهُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ لِيَحْصُلَ غَرَضُهُ مِنَ التَّبْكِيتِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُثْبِتٌ مُعْتَرِفٌ لِنَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ وَالثَّانِي: إِنَّهُ غَضِبَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ غَيْرَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمَّا كَانُوا لِأَكْبَرِهَا أَشَدَّ تَعْظِيمًا كَانَ مِنْهُ أَشَدَّ غَضَبًا فَحَمَلَهُ ذلك على تكسيرها وذلك كله حامل لِلْقَوْمِ عَلَى الْأَنَفَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 أَنْ يَعْبُدُوهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخُصُّوهُ بِزِيَادَةِ التعظيم ومنبه لَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَسِّرَةَ مُتَمَكِّنٌ فِيهَا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ مُنَادًى عَلَيْهَا بِالْفَنَاءِ مُنْسَلِخَةٌ عَنْ رِبْقَةِ الدَّفْعِ فَضْلًا عَنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ حَقِيقٌ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ لَا التَّوْقِيرِ وَالْفِعْلُ يُنْسَبُ إِلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالسَّبَبِ إِذْ لِلْفِعْلِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ تَعَلُّقَاتٌ وَمُلَابَسَاتٌ يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ بَادِرَةَ تَعْظِيمِ الْأَكْبَرِ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ مِنْ بَاقِي الْأَصْنَامِ وَعَلِمَ أَنَّ مَا هَذَا شَأْنَهُ يُصَانُ أَنْ يَشْتَرِكَ مَعَهُ مِنْ دُونِهِ فِي التَّبْجِيلِ وَالتَّكْبِيرِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى تَكْسِيرِهَا مُنَبِّهًا لهم على أن الله أَغْيَرُ وَعَلَى تَمْحِيقِ الْأَكْبَرِ أَقْدَرُ وَحَرِيٌّ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ فَلَمَّا كَانَ الْكَبِيرُ هُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَكْسِيرِ الصَّغِيرِ صَحَّتِ النِّسْبَةُ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَلَفَ وَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إِذْ وَضَعْتُمُ الْعِبَادَةَ بِغَيْرِ مَوْضِعِهَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ فَالْأَكْثَرُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْجَوَابِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْمِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُضْمَرًا فَوَجَبَ التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ لِضَعْفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يُلْفَظَ بِهِ وَهُوَ مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال رجال} فِيمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُسَبِّحُهُ فَقِيلَ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ وَنَظِيرُهُ ضُرِبَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَى بِنَاءِ ضُرِبَ لِلْمَفْعُولِ نَعَمُ الْأَوْلَى ذِكْرُ الْفِعْلِ لِمَا ذُكِرَ وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظٍ قَالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ نَحْوُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فقالوا سلاما قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 سلام} كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ لَهُمْ؟ {قَالَ أَلَا تأكلون} وَلِذَلِكَ قَالُوا لَا تَخَفْ وَعَلَى هَذِهِ السِّيَاقَةِ تَخْرُجُ قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السماوات والأرض} إلى قوله {إن كنت من الصادقين} وَعَلَى هَذَا كُلُّ كَلَامٍ جَاءَ فِيهِ لَفْظَةُ قَالَ هَذَا الْمَجِيءَ غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْضَحُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قوم} فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ {فَمَا خطبكم أيها المرسلون} وَمِثْلُهُ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءها المرسلون} إِلَى قَوْلِهِ {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} فائدة في أن أقل الأمم سؤالا أمة محمد عليه السلام نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا فَأُجِيبُوا قَالَ الْإِمَامُ: ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ {وَإِذَا سَأَلَكَ عبادي عني} {يسألونك عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 الأهلة} وَالْبَاقِي سِتَّةٌ فِيهَا وَالتَّاسِعَةُ {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم} في المائدة والعاشرة: {يسألونك عن الْأَنْفَالِ} الْحَادِي عَشَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عن الروح} الثَّانِي عَشَرَ فِي الْكَهْفِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القرنين} الثَّالِثَ عَشَرَ فِي طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} الرَّابِعَ عَشَرَ فِي النَّازِعَاتِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبٌ: اثْنَانِ مِنْهَا فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} فإنه سؤال عن الذات وقوله {عن الأهلة} سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ وَاثْنَانِ فِي الْآخَرِ فِي شرح المعاد وقوله: {ويسألونك عن الجبال} وقوله: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أولهما {يا أيها الناس} في النصف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 الْأَوَّلِ وَهُوَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ سُورَةُ النِّسَاءِ وَالثَّانِيَةُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَهِيَ سُورَةُ الْحَجِّ ثُمَّ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الَّذِي فِي الْأَوَّلِ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ وَالَّذِي فِي الثَّانِي يشتمل على شرح حال فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {يَسْأَلُونَكَ} ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بغير واو {يسألونك عن الأهلة} {يسألونك عن الشهر الحرام} {يسألونك عن الخمر والميسر} ثُمَّ جَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالْوَاوِ {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا ينفقون} {ويسألونك عن اليتامى} {ويسألونك عن المحيض} ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْحَوَادِثِ الْأَوَّلُ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا عَنِ الْحَوَادِثِ وَالْآخَرُ وَقَعَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عني فإني قريب} وَعَادَةُ السُّؤَالِ يَجِيءُ جَوَابُهُ فِي الْقُرْآنِ بِـ "قُلْ" نَحْوَ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وَنَظَائِرِهِ؟ قِيلَ: حُذِفَتْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَاسِطَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاعِي وَاسِطَةً وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الدُّعَاءِ تَجِيءُ الْوَاسِطَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ دُونَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَيْنَ شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} وَقَعَتْ إِضَافَةُ الشَّرِيكِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ لِأَنَّ الْقَدِيمَ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَهُ وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أندادا} وقوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} وقوله: {لأنت الحليم الرشيد} أي بزعمك واعتقادك وقوله: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وقوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أو هو أقرب} أَيْ أَنَّكُمْ لَوْ عَلِمْتُمْ قَسَاوَةَ قُلُوبِكُمْ لَقُلْتُمْ إِنَّهَا كَالْحِجَارَةِ أَوْ إِنَّهَا فَوْقَهَا فِي الْقَسْوَةِ وَلَوْ عَلِمْتُمْ سُرْعَةَ السَّاعَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ فِي سُرْعَةِ الْوُقُوعِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ عِنْدَكُمْ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى قَوْمٍ هُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَشَكَكْتُمْ وَقُلْتُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إن قومي كذبون} ونحوه مِمَّا كَانَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خِلَافَهُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى طَمَعٍ أَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَعْتَادُهُ الْمَخْلُوقُونَ فِي أَنَّ الْإِعَادَةَ عِنْدَهُمْ أَهْوَنُ مِنَ الْبُدَاءَةِ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَيَكُونُ الْبَعْثُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْإِنْشَاءِ وَحَكَى الْإِمَامُ الرَّازِّيُّ فِي مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ قَالَ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْعِبْرَةِ عِنْدَكُمْ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلْعَدَمِ" كُنْ" فَخَرَجَ تَامًّا كَامِلًا بِعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمَفَاصِلِهِ فَهَذَا فِي الْعِبْرَةِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِشَيْءٍ قَدْ كَانَ عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِبْرَتِكُمْ لَا أَنَّ شَيْئًا يَكُونُ عَلَى اللَّهِ أَهْوَنَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي {عَلَيْهِ} يَعُودُ لِلْخَلْقِ لِأَنَّهُ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ فَيَقُومُونَ وَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا نُطَفًا ثُمَّ عَلَقًا ثُمَّ مُضَغًا إِلَى أن يصيروا رجالا ونساء وقوله {يا أيها الساحر} أي يأيها الْعَالِمُ الْكَامِلُ وَإِنَّمَا قَالُوا هَذِهِ تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا مِنْهُمْ لَهُ لِأَنَّ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ عَظِيمًا وصنعة ممدوحة وقيل: معناه يأيها الَّذِي غَلَبَنَا بِسِحْرِهِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ خَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْخُصُومَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَعْيِيبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسِّحْرِ وَلَمْ يُنَافِسْهُمْ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِهِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} جيء بـ" إن" الَّتِي لِلشَّكِّ وَهُوَ وَاجِبٌ دُونَ إِذِ الَّتِي لِلْوُجُوبِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ عَلَى حَسَبِ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 مُعَارَضَتَهُ فِيهَا لِلتَّهَكُّمِ كَمَا يَقُولُهُ الْوَاثِقُ بِغَلَبَتِهِ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ إِنْ غَلَبْتُكَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبُهُ تَهَكُّمًا بِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يخلق كمن لا يخلق} وَالْمُرَادُ بِـ" مَنْ لَا يَخْلُقُ" الْأَصْنَامُ وَكَانَ أَصْلُهُ كَمَا لَا يَخْلَقُ لِأَنَّ" مَا" لِمَنْ لَا يَعْقِلُ بِخِلَافِ "مَنْ" لَكِنْ خَاطَبَهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً وَعَبَدُوهَا فَأَجْرَوْهَا مَجْرَى أُولِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ لِلْأَصْنَامِ {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بها أم لهم أيد} الْآيَةَ أَجْرَى عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ أُولِي الْعَقْلِ كَذَا قِيلَ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُمْ خطأ وضلالة فالحكم يقتضي ألا يَنْزِعُوا عَنْهُ وَيُقْلِعُوا لَا أَنْ يُبْقُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْغَرَضُ مِنَ الْخِطَابِ الْإِيهَامُ وَلَوْ خَاطَبَهُمْ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِمْ فَقَالَ: كَمَا لَا يَخْلُقُ لَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْأَصْنَامِ مِنَ الْجَمَادِ وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ بِعَسَى وَلَعَلَّ فَإِنَّهَا عَلَى بَابِهَا فِي التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَقُولَا لَهُ قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} اذْهَبَا إِلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ عِنْدَكُمَا فَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَالِمٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ وما يؤول إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ إِنَّهَا تَعْلِيْلَةٌ أي يَتَذَكَّرَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَمِنْهُ التَّعَجُّبُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ نحو فما أصبرهم على النار أَيْ هُمْ أَهْلٌ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَمِنْ طول تمكنهم في النار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 ونحوه {قتل الأنسان ما أكفره} و {أبصر به وأسمع} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَعِيْمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشَقَاءِ أَهْلِ النَّارِ {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَزُولَانِ لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَصَدُوا الدَّوَامَ أَنْ يُعَلِّقُوا بِهِمَا فَجَاءَ الْخِطَابُ عَلَى ذَلِكَ تنبيه في التهكم يَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّهَكُّمُ وَهُوَ إِخْرَاجُ الْكَلَامِ عَلَى ضِدِّ مُقْتَضَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمر الله} مع العلم بأنه لا يحفظ من أمره الله شيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ بِإِضَافَةِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ وإن الكل بيده كقوله تعالى: {أنعمت عليهم} ثم قال: {غير المغضوب عليهم} وَلَمْ يَقُلْ غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِهِ {بيدك الخير} ولم يقل والشر وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا بِيَدِهِ لَكِنَّ الْخَيْرَ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَةَ مَحَبَّةٍ وَرِضًا وَالشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَّا إِلَى مَفْعُولَاتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَى صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ بَلْ كلها كمال لَا نَقْصَ فِيهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَهُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {فصرف عنه كيدهن} فَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ صَرَفَهُ وَلَمَّا ذَكَرَ السِّجْنَ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي سَبَّبَ السَّجْنَ لَهُ وَأَضَافَ مَا مِنْهُ الرَّحْمَةُ إِلَيْهِ وَمَا مِنْهُ الشِّدَّةُ إِلَيْهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يشفين} وَلَمْ يَقُلْ أَمْرَضَنِي وَتَأَمَّلْ جَوَابَ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا فَعَلَهُ حَيْثُ قَالَ فِي إِعَابِةِ السفينة {فأردت} وقال في الغلام {فأردنا} وفي إقامة الجدار {فأراد ربك} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْمَنْصُورِ فِي كِتَابِ فَكُّ الْأَزْرَارِ عَنْ عُنُقِ الْأَسْرَارِ لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ الْعَيْبِ لِلسَّفِينَةِ نَسَبَهُ لِنَفْسِهِ أَدَبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ فَقَالَ فَأَرَدْتُ وَلَمَّا كَانَ قَتْلُ الْغُلَامِ مُشْتَرَكَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ اسْتَتْبَعَ نَفْسَهُ مَعَ الْحَقِّ فَقَالَ فِي الْإِخْبَارِ بِنُونِ الِاسْتِتْبَاعِ لِيَكُونَ الْمَحْمُودُ مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ رَاحَةُ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ مِنْ كُفْرِهِ عَائِدًا عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَالْمَذْمُومُ ظَاهِرًا وَهُوَ قَتْلُ الْغُلَامِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَائِدًا عَلَيْهِ وَفِي إِقَامَةِ الْجِدَارِ كَانَ خَيْرًا مَحْضًا فَنَسَبَهُ لِلْحَقِّ فَقَالَ {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ التَّوْحِيدِيِّ مِنَ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ {وَمَا فَعَلْتُهُ عن أمري} وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا أَفْرَدَ أَوَّلًا فِي الْإِرَادَةِ لِأَنَّهَا لَفْظُ غَيْبٍ وَتَأَدَّبَ بِأَنْ لَمْ يُسْنِدِ الْإِرَادَةَ فِيهَا إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا تَأَدَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ {وَإِذَا مرضت فهو يشفين} فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ قَبْلُ وَبَعْدُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ إِذْ هُوَ مَعْنَى نَقْصٍ وَمَعَابَةٍ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهَذَا النَّوْعُ مُطَّرِدٌ فِي فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ كَثِيرًا أَلَا تَرَى إِلَى تَقْدِيمِ فِعْلِ الْبَشَرِ فِي قَوْلِهِ تعالى {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ! وَتَقْدِيمِ فِعْلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ تاب عليهم ليتوبوا} وَإِنَّمَا قَالَ: الْخَضِرُ فِي الثَّانِيَةِ {فَأَرَدْنَا} لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ الصَّالِحُونَ وَتَكَلَّمَ فِيهِ فِي مَعْنَى الْخَشْيَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَتَمَنَّى التَّبْدِيلَ لَهُمَا وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ فِي الثَّالِثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ غَيْبٌ مِنَ الْغُيُوبِ فَحَسُنَ إِفْرَادُ هَذَا الْمَوْضِعِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الأرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 أم أراد بهم ربهم رشدا} فَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي إِرَادَةِ الشَّرِّ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ وَأَضَافُوا إِرَادَةَ الرُّشْدِ إِلَيْهِ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خِطَابِهِ لَمَّا اجْتَمَعَ أَبُوهُ وَإِخْوَتُهُ {إذ أخرجني من السجن} وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْجُبِّ مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ أَعْظَمُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ السَّجْنِ لِوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي ذِكْرِ الْجُبِّ تَجْدِيدَ فِعْلِ إخوته وتقريعهم بذلك وتجديد تلك الغوائل وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجُبِّ إِلَى الرِّقِّ وَمِنَ السِّجْنِ إِلَى الْمُلْكِ وَالنِّعْمَةُ هُنَا أَوْضَحُ انْتَهَى وَأَيْضًا وَلِأَنَّ بَيْنَ الْحَالَيْنِ بَوْنًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قِصَرُ الْمُدَّةِ فِي الْجُبِّ وَطُولُهَا فِي السِّجْنِ وَأَنَّ الْجُبَّ كَانَ فِي حَالِ صِغَرِهِ وَلَا يَعْقِلُ فِيهَا الْمُصِيبَةَ وَلَا تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ كَتَأْثِيرِهَا فِي حَالِ الْكِبَرِ وَالثَّالِثُ أَنَّ أَمْرَ الْجُبِّ كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَأَمْرُ السِّجْنِ كَانَ لِعُقُوبَةِ أَمْرٍ دِينِيٍّ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَكَانَ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرفث إلى نسائكم} وَقَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تبتغوا بأموالكم} فَحَذَفَ الْفَاعِلَ عِنْدَ ذِكْرِ الرَّفَثِ وَهُوَ الْجِمَاعُ وَصَرَّحَ بِهِ عِنْدَ إِحْلَالِ الْعَقْدِ وَقَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله به} فَحَذَفَ الْفَاعِلَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 وَقَالَ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وقال: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ الْإِعْلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطور الأيمن} وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمر} ،وَالْمَكَانُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ قَالَ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ أَنَّ الْأَيْمَنَ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْمَادَّةِ فَلَمَّا حَكَاهُ عَنْ مُوسَى فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ أَتَى بِلَفْظِهِ وَلَمَّا خَاطَبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الْغَرْبِيِّ لِئَلَّا يُخَاطِبَهُ فَيَسْلُبَ عَنْهُ فِيهِ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنَ الْيُمْنِ أَوْ مُشَارِكًا فِي الْمَادَّةِ رِفْقًا بِهِمْ فِي الْخِطَابِ وَإِكْرَامًا لهما هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضح وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ وَقَالَ: أَيْضًا فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا ....... } الْآيَةَ أَضَافَهُ هُنَا إِلَى النُّونِ وَهُوَ الْحُوتُ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحوت} وَسَمَّاهُ هُنَا ذَا النُّونِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَلَكِنْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتٌ كَبِيرٌ فِي حُسْنِ الْإِشَارَةِ إلى الحالين وتنزيل الكلام في الموضوعين فَإِنَّهُ حِينَ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَالَ ذَا النُّونِ وَلَمْ يَقُلْ صَاحِبُ الْحُوتِ وَلَفْظُ النُّونِ أَشْرَفُ لِوُجُودِ هَذَا الِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ نَحْوُ {ن والقلم} وقد قيل إن هذا قسم بالنون والقلم وإن لم يكن قسما فقد عظمه بعطف المقسم به عليه وهو القلم وهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 الاشتراك يشرف هذا الاسم وليس في الاسم وليس في اللفظ الآخر وهو الحوت مَا يُشَرِّفُهُ فَالْتَفِتْ إِلَى تَنْزِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَتَيْنِ يَلُحْ لَكَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي هَذَا فَإِنَّ التَّدَبُّرَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ مُفْتَرَضٌ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} خَاطَبَهُ بِمُقَدِّمَةِ الصِّدْقِ مُوَاجَهَةً وَلَمْ يُقَدِّمِ الْكَذِبَ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى الصِّدْقِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ وَمَتَى كَانَ يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ قُدِّمَ الصِّدْقُ ثُمَّ لَمْ يُوَاجِهْهُ بِالْكَذِبِ بَلْ أَدْمَجَهُ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ أَدَبًا فِي الْخِطَابِ وَمِثْلُهُ: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وَهَذَانِ الْمِثَالَانِ مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لِلْخَصْمِ ليدخل في المقصود بألطف موعود قاعدة في ذكر الرحمة والعذاب في القرآن مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ حَيْثُ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ وَالْعَذَابَ أَنْ يَبْدَأَ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ كَقَوْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 تَعَالَى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي" وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَوَاضِعُ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ فِيهَا تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعَذَابِ تَرْهِيبًا وَزَجْرًا مِنْهَا: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يشاء والله على كل شيء قدير} لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالسُّرَّاقِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعَذَابِ لِهَذَا خَتَمَ آيَةَ السَّرِقَةِ بِـ "عَزِيزٌ حَكِيمٌ" وَفِيهِ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ وَخَتَمَهَا بِالْقُدْرَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّرْهِيبِ لِأَنَّ مَنْ تَوَعَّدَهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ كَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ حِكَايَةِ إِنْذَارِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ وَمِثْلُهَا {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 قل سيروا} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} وَبَعْدَهَا {بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير} وَمِنْهَا فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن سورة الأنعام كلها مناظرة للكفار ووعيد لهم خُصُوصًا وَفِي آخِرِهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِيَسِيرٍ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الْآيَةَ وَهُوَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ إِلَى قَوْلِهِ {قُلْ أغير الله أبغي ربا} الْآيَةَ وَهُوَ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ وَإِفْسَادٌ لِدِينِهِمْ إِلَى قوله {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} ،فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعِقَابِ تَرْهِيبًا لِلْكُفَّارِ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّفَرُّقِ وَزَجْرًا لِلْخَلَائِقِ عَنِ الْجَوْرِ فِي الْأَحْكَامِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لغفور رحيم} لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ ذِكْرِ مَعْصِيَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ وَتَعْذِيبِهِ إِيَّاهُمْ فَتَقْدِيمُ الْعَذَابِ مُنَاسِبٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَنْعَامِ حَيْثُ أَتَى هُنَا باللام فقال {لسريع العقاب} دون هناك أن اللَّامَ تُفِيدُ التَّوْكِيدَ فَأَفَادَتْ هُنَا تَأْكِيدَ سُرْعَةِ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْعِقَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا عِقَابٌ عَاجِلٌ وَهُوَ عِقَابُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذُّلِّ وَالنِّقْمَةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْمَسْخِ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القيامة من يسومهم سوء العذاب} ،فَتَأْكِيدُ السُّرْعَةِ أَفَادَ بَيَانَ التَّعْجِيلِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ بِخِلَافِ الْعِقَابِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهُ آجِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فَاكْتَفَى فِيهِ بِتَأْكِيدِ إِنَّ وَلَمَّا اخْتَصَّتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ بِزِيَادَةِ الْعَذَابِ عَاجِلًا اخْتَصَّتْ بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ لَفْظًا بِـ "إِنَّ" وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ يُنَاسِبُهُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَعَلَيْهِ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا تَفْصِيلِيٌّ وَهُوَ الِاسْتِقْرَاءُ فَانْظُرْ أَيَّ آية شئت تَجِدْ فِيهَا مُنَاسِبًا لِذَلِكَ وَالثَّانِي إِجْمَالِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ وَهَذَانِ دَلِيلَانِ عَامَّانِ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رحمة واسعة} وَلَمْ يَقُلْ: ذُو عُقُوبَةٍ شَدِيدَةٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ نَفْيًا لِلِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ مَعْنَاهُ لَا تَغْتَرُّوا بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَذَابُهُ وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {يا أبت إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} وَقَدْ سَبَقَتْ فَائِدَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْخِطَابِ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ وَالِاسْمَ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَالثُّبُوتِ وَلَا يَحْسُنُ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} لو قِيلَ يَبْسُطُ لَمْ يُؤَدِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 الْغَرَضَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِمُزَاوَلَةِ الْكَلْبِ الْبَسْطَ وأنه يتجدد له شيء بعد شيء فـ "باسط" أَشْعَرُ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غير الله يرزقكم} لَوْ قِيلَ رَازِقُكُمْ لَفَاتَ مَا أَفَادَهُ الْفِعْلُ مِنْ تَجَدُّدِ الرِّزْقِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَلِهَذَا جَاءَتِ الْحَالُ فِي صُورَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي يُفِيدُهُ مَاضٍ كَقَوْلِكَ جَاءَ زَيْدٌ يَضْرِبُ وَفِي التَّنْزِيلِ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} إِذِ الْمُرَادُ أَنْ يُرِيدَ صُورَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ وَأَنَّهُمْ آخِذُونَ فِي الْبُكَاءِ يُجَدِّدُونَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَى صَرِيحِ الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ لِمَ قِيلَ {الذين ينفقون} وَلَمْ يَقُلِ الْمُنْفِقِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقِيلَ كَثِيرًا الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُتَّقُونَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّفَقَةِ أَمْرٌ فِعْلِيٌّ شَأْنُهُ الِانْقِطَاعُ وَالتَّجَدُّدُ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ لَهُ حَقِيقَةً تَقُومُ بِالْقَلْبِ يَدُومُ مُقْتَضَاهَا وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا كَذَلِكَ التَّقْوَى وَالْإِسْلَامُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ وَالْعَمَى وَالْبَصَرُ فَمَعْنَاهَا أَوْ مَعْنَى وَصْفِ الْجَارِحَةِ كُلُّ هَذِهِ لَهَا مُسَمَّيَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ مَجَازِيَّةٌ تَسْتَمِرُّ وَآثَارٌ تَتَجَدَّدُ وَتَنْقَطِعُ فَجَاءَتْ بِالِاسْتِعْمَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ لِكُلِّ مَحَلٍّ مَا يَلِيقُ بِهِ فَحَيْثُ يُرَادُ تُجَدُّدُ حَقَائِقِهَا أَوْ آثَارِهَا فَالْأَفْعَالُ وَحَيْثُ يُرَادُ ثُبُوتُ الِاتِّصَافِ بِهَا فَالْأَسْمَاءُ وَرُبَّمَا بُولِغَ فِي الْفِعْلِ فَجَاءَ تَارَةً بِالصِّيغَةِ الِاسْمِيَّةِ كَالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لِلشَّأْنِ وَالصِّفَةِ هَذَا مَعَ أَنَّ لَهَا فِي الْقُلُوبِ أُصُولًا وَلَهُ بِبَعْضِ مَعَانِيهَا الْتِصَاقٌ قَوَّى هَذَا التَّرْكِيبَ إذ القلب فيه جهاد الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ وَعَقْدٌ عَلَى فِعْلِ الْمُهَاجَرَةِ كَمَا فِيهِ عَقْدٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَحَيْثُ يَسْتَمِرُّ الْمُعَاهَدُ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وَانْظُرْ هُنَا إِلَى لَطِيفَةٍ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَفْعَلَ إِلَّا مُجَازَاةً وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذْكُرَ الِاتِّصَافَ بِهِ لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِي تَرَاكِيبِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ تعالى {ويضل الله الظالمين} وقال {وإن الله لهاد الذين آمنوا ولكل قوم هاد} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فَإِنَّ الْإِهْلَاكَ نَوْعُ اقْتِدَارٍ بَيِّنٍ مَعَ أَنَّ جنسه مقتضي بِهِ عَلَى الْكُلِّ عَالِينَ وَسَافِلِينَ لَا كَالضَّلَالِ الَّذِي جَرَى مَجْرَى الْعِصْيَانِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {تذكروا فإذا هم مبصرون} لِأَنَّ الْبَصَرَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْمُتَّقِي وَعَيْنُ الشَّيْطَانِ رُبَّمَا حُجِبَتْ فَإِذَا تَذَكَّرَ رَأَى الْمَذْكُورَ وَلَوْ قِيلَ يُبْصِرُونَ لَأَنْبَأَ عَنْ تَجَدُّدِ وَاكْتِسَابِ فِعْلٍ لَا عَوْدِ صِفَةٍ وَقَوْلُهُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يهدين} أَتَى بِالْمَاضِي فِي خَلَقَ لِأَنَّ خَلْقَهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ وَأَتَى بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّهُ كَالْجَوَابِ إِذْ مَنْ صَوَّرَ الْمَنِيَّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُصَيِّرَهُ ذَا هُدًى وَهُوَ لِلْحَصْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَهْدِيهِمْ ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِي هو يطعمني ويسقين} فَأَتَى بِالْمُضَارِعِ لِبَيَانِ تَجَدُّدِ الْإِطْعَامِ وَالسُّقْيَا وَجَاءَتِ الْوَاوُ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُطْعِمِ وَالسَّاقِي وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ إِلَهٍ وأتى به هُوَ لِرَفْعِ ذَلِكَ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي {فَهُوَ يشفين} لِأَنَّهُ جَوَابٌ وَلَمْ يَقُلْ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ إِذْ يَفُوتُ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 التَّعْقِيبِ، وَيَذْهَبُ الضَّمِيرُ الْمُعْطِي مَعْنَى الْحَصْرِ وَلَمْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ الْمَوْتَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَدَخَلَتْ ثُمَّ لِتَرَاخِي مَا بَيْنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ يَحْتَمِلُ هَذَا الْحُكْمَ دَائِمًا وَوَقْتًا دُونَ وَقْتٍ فَلَمَّا قَالَ {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أَيْ سُكُوتُكُمْ عَنْهُمْ أَبَدًا وَدُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ واحد لأن {صَامِتُونَ} فِيهِ مُرَاعَاةٌ لِلْفَوَاصِلِ فَهُوَ أَفْصَحُ وَلِلتَّمْكِينِ مِنْ تَطْرِيفِهِ بِحَرْفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ وَهُوَ لِلطَّبْعِ أَنْسَبُ مِنْ صَمْتِهِمْ وَصْلًا وَوَقْفًا وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ مُوَازِنٌ لِلْآخَرِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنْتُمْ دَاعُونَ لَهُمْ دَائِمًا أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَعْكِسُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ الْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ لَا الْمَاضِي لِأَنَّ قَبْلَهُ {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لا يتبعوكم} وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ فَالْحُكْمُ بِهِ قَدْ يُرَجَّحُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ،وَلَمْ يَقُلْ: أَمْ لَعِبْتَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْعَبَ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرًا وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ أَحَدَ رَجُلَيْنِ إِمَّا مُحِقٌّ وَإِمَّا مُسْتَمِرٌّ عَلَى لَهْوِ الصِّبَا وَغَيِّ الشَّبَابِ فَيَكُونُ اللَّعِبُ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَصْدُرَ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ أَمْ لَعِبْتَ لَمْ يُعْطِ هَذَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يريدون أحدثنا الإيمان وأعرضنا عن الكفر ليروح ذَلِكَ خِلَافًا مِنْهُمْ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ في قوله {يخادعون الله والذين آمنوا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وَجَاءَتِ الِاسْمِيَّةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ {وَمَا هم بمؤمنين} لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ إِذْ يَقْتَضِي إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْطَوِي تَحْتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ نَفْيٌ بِمَا أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النار وما هم بخارجين منها} مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِمْ وَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِالْبَاءِ وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا كَمَا قِيلَ خَلِيٌّ مِنَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ مُفَرْقَعُ وَإِذَا قِيلَ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَبْلَغُ مَنْ آمَنَ وَنَفْيُ الْأَبْلَغِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا دُونَهُ وَمَا حَقِيقَةُ إِخْرَاجِ ذَوَاتِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْبَيَانِ إِلَّا عَلَى عَيٍّ أَوْ تَرْوِيجٍ وَلَكِنْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى طَائِفَةً تَقُولُ آمَنَّا وَهِيَ حَالَةَ الْقَوْلِ لَيْسَتْ بِمُؤْمِنَةٍ بَيَانًا لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا صَدَرَ عَنْهَا ادِّعَاءً بِحُضُورِ الْإِيمَانِ حَالَةَ الْقَوْلِ وَالِانْتِظَامِ بِذَلِكَ فِي سِلْكِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فَإِذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ شَمِلَ الذَّمُّ أَنْ يَكُونُوا آمَنُوا يَوْمًا ثُمَّ تَخَلَّوْا وَأَنْ يَكُونُوا مَا آمَنُوا قَطُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالتَّعْمِيمِ فَقَطْ وَأَعْلَمُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَنِ ادَّعَى هَذَا الدَّعْوَى عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَبَيْنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا قَصَدُوا بِهِ التَّمْوِيهَ بِقَوْلِهِ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وَلَوْ قَالَ وَمَا آمَنُوا لَمْ يَفِدْ إِلَّا نَفْيَهُ عَنْهُمْ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَفِدْ ذَمَّهُمْ إِنْ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَهَذَا أَفَادَ نَفْيَهُ فِي الْحَالِ وَذَمَّهُمْ بِكُلِّ حَالٍ وَلِأَنَّ مَا فِيهِ مُؤْمِنِينَ أَحْسَنُ مِنْ آمَنُوا لِوُجُودِ التَّمْكِينِ بِالْمَدِّ وَالْوَقْفَ عَقِبَهُ عَلَى حَرْفٍ لَهُ مَوْقِفٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا هُمْ مِنْهَا بمخرجين} دُونَ يَخْرُجُونَ فَقِيلَ مَا سَبَقَ وَقِيلَ اسْتَوَى هُنَا يَخْرُجُونَ وَخَارِجِينَ فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَى وَاخْتِيرَ الِاسْمُ لِخِفَّتِهِ وَأَصَالَتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شَيَاطِينِهِمْ} يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الميت ويخرج الميت من الحي} قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِشَأْنِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ لَمَّا كَانَ أَشَدَّ أَتَى بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ كَمَا في قوله تعالى {الله يستهزئ بهم} تَنْبِيهٌ مُضْمَرُ الْفِعْلِ كَمُظْهَرِهِ فِي إِفَادَةِ الْحُدُوثِ وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَالُوا إِنَّ سَلَامَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قال {قالوا سلاما قال سلام} فَإِنَّ نَصْبَ سَلَامًا إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ أَيْ سَلَّمْنَا سَلَامًا وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُؤْذِنَةٌ بِحُدُوثِ التَّسْلِيمِ مِنْهُمْ إِذِ الْفِعْلُ تَأَخَّرَ عَنْ وُجُودِ الْفَاعِلِ بِخِلَافِ سَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ فَاقْتَضَى الثُّبُوتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَوْلَى بِمَا يَعْرِضُ لَهُ الثُّبُوتُ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ بِأَحْسَنَ مِمَّا حَيَّوْهُ بِهِ اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو ردوها} وَذَكَرُوا فِيهِ أَوْجُهًا أُخْرَى تَلِيقُ بِقَاعِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَكَمَالُ الْبَشَرِ تَدْرِيجِيٌّ فَنَاسَبَ الْفِعْلَ وَكَمَالُ الْمَلَائِكَةَ مُقَارِنٌ لِوُجُودِهَا عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ قِيلَ: وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُنْشَأَ هُوَ تَسْلِيمُهُمْ أَمَّا السَّلَامُ الْمَدْعُوُّ بِهِ فَلَيْسَ فِي مَوْضُوعِهِ تَعَرُّضٌ لِتَدَرُّجٍ وَسَلَامُهُ أَيْضًا مَنْشَأُ فِعْلٍ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّدْرِيجِ غَيْرَ أَنَّ سَلَامَهُ لَمْ يَدُلَّ بِوَضْعِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 اللُّغَوِيِّ وُقُوعَ إِنْشَائِهِ ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا لَشُرِعَ السَّلَامُ بَيْنَنَا بِالنَّصْبِ دُونَ الرَّفْعِ تَنْبِيهٌ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ وَأَنْكَرَ أَبُو الْمُطَرِّفِ بْنُ عَمِيرَةَ فِي كِتَابِ التَّمْوِيهَاتِ عَلَى كِتَابِ التِّبْيَانِ لِابْنِ الزَّمَلْكَانِيِّ قَالَ هَذَا الرَّأْيُ غَرِيبٌ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ نَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ فِي مَقُولِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّجَدُّدِ فَظَنَّ أَنَّهُ الْفِعْلُ الْقَسِيمُ لِلْأَسْمَاءِ فَغَلِطَ ثُمَّ قَوْلُهُ الِاسْمُ يُثْبِتُ الْمَعْنَى لِلشَّيْءِ عَجِيبٌ وَأَكْثَرُ الْأَسْمَاءِ دَلَالَتُهَا عَلَى مَعَانِيهَا فَقَطْ وَإِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يَفْعَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يوم القيامة تبعثون} وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِعَيْنِهَا {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بآيات ربهم يؤمنون} وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ طَرِيقَةُ الْعَرَبِ تَدْبِيجُ الْكَلَامِ وَتَلْوِينُهُ وَمَجِيءُ الْفِعْلِيَّةِ تَارَةً وَالِاسْمِيَّةِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِمَا ذَكَرُوهُ وَقَدْ رَأَيْنَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ تَصْدُرُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْخُلَّصِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَاصِلُ بِدُونِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ربنا آمنا} ولا شيء بعد {آمن الرسول} وَقَدْ جَاءَ التَّأْكِيدُ فِي كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ {إنما نحن مصلحون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 قاعدة في قوله تعالى: {من في السماوات والأرض} ونحوها جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَوْضِعٍ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَفِي مَوْضِعٍ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وَالْأَوَّلُ: جَاءَ فِي تِسْعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي الرَّحْمَنِ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السماوات والأرض} وَالثَّانِي: فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا فِي يُونُسَ {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأرض} وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا أَوَّلُهَا فِي الْبَقَرَةِ {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كل له قانتون} وَجَاءَ قَوْلُهُ {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا أَوَّلُهَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ قَالَ بَعْضُهُمْ وَتَأَمَّلْتُ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ فَوَجَدْتُ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ التَّنْصِيصَ عَلَى الْإِفْرَادِ ذَكَرَ الْمَوْصُولَ وَالظَّرْفَ أَلَا تَرَى إِلَى الْمَقْصُودِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنْ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَى الْمَقْصُودِ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ فِي إِحَاطَةِ الْمُلْكِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وَحَيْثُ قُصِدَ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُولَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً إِشَارَةً إِلَى قَصْدِ الْجِنْسِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ أَلَا تَرَى إِلَى سُورَةِ الرَّحْمَنِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا علو قدرة الله وعلمه وشأنه وكونه سئولا وَلَمْ يَقْصِدْ إِفْرَادَ السَّائِلِينَ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ قاعدة في قوله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} ونحوها قَدْ يَكُونُ نَحْوَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كذبا} {فمن أظلم ممن كذب على الله} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعرض عنها} {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ فَحِينَئِذٍ فَهُوَ خَبَرٌ وَإِذَا كان خبر أفتوهم بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا أُخِذَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ولا أحد أظلم ممن افترى عل اللَّهِ كَذِبًا وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى طُرُقٍ: أَحَدُهَا: تَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى صِلَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 كَذِبًا وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا وَإِذَا تَخَصَّصَ بِالصِّلَاتِ زَالَ عَنْهُ التَّنَاقُضُ الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّبْقِ لَمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدٌ إِلَى مِثْلِهِ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ سَالِكًا طَرِيقَتَهُمْ وَهَذَا يَئُولُ مَعْنَاهُ إِلَى السَّبْقِ فِي الْمَانِعِيَّةِ وَالِافْتِرَائِيَّةِ الثَّالِثُ: وَادَّعَى الشَّيْخُ أَبُو حيان الصواب ونفى الْأَظْلَمِيَّةِ لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الْظَالِمِيَّةِ لِأَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُطْلَقِ فَلَوْ قُلْتَ مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ ظَرِيفٌ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ رَجُلٍ وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الظَّالِمِيَّةِ لَمْ يَلْزَمِ التَّنَاقُضُ لِأَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ التَّسْوِيَةِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَإِذَا ثَبَتَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ وُصِفَ بِذَلِكَ يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْأَظْلَمِيِّةِ وَصَارَ الْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى وَمِمَّنْ كَذَّبَ وَنَحْوَهَا وَلَا إِشْكَالَ فِي تَسَاوِي هَؤُلَاءِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ أَظْلَمُ مِنَ الْآخَرِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أَحَدَ أَفْقَهُ مِنْ زَيْدٍ وَعُمَرَ وَخَالِدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمْ أَفْقَهُ مِنَ الْآخَرِ بل نفى أن يكون أحدهم أَفْقَهَ مِنْهُمْ لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا وَلَمْ يَفْتَرِ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَقَلُّ ظُلْمًا مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْأَظْلَمِيَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْكُفَّارِ فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْأَظْلَمِيَّةِ فَهِيَ كُلُّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْكُفْرِ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِإِفْرَادِ مَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 اتَّصَفَ بِهِ وَإِنَّمَا تُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِي الظُّلْمِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ وَلِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكُوا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَتَقُولُ الْكَافِرُ أَظْلَمُ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَنَقُولُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ ظُلْمَ الْكَافِرِ يَزِيدُ عَلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ انْتَهَى وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَمْ يَدَّعِ الْقَائِلُ نَفْيَ الظَّالِمِيَّةِ فَيُقِيمَ الشَّيْخُ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهَا وَإِنَّمَا دَعْوَاهُ أَنَّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَثَلًا وَالْغَرَضُ أَنَّ الْأَظْلَمِيَّةَ ثَابِتَةٌ لِغَيْرِ مَا اتَّصَفَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حصل التعارض ولابد مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَطَرِيقُهُ التَّخْصِيصُ فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ وَقَوْلُ الشَّيْخِ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الْأَفْرَادَ الْمَنْفِيَّ عَنْهَا الْأَظْلَمِيَّةُ فِي آيَةٍ وأثبتت لِبَعْضِهَا الْأَظْلَمِيَّةُ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْآيَاتِ الْوَارِدِ فِيهَا ذَلِكَ وَكَلَامُ الشَّيْخِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ اسْتُفِيدَ لَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ بَلْ بِطَرِيقِ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةَ لهذا الحكم في آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ خُصَّتْ بِأُخْرَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ بِالصِّلَاتِ وَلَا بِالسَّبْقِ الرَّابِعُ: طَرِيقَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ مَتَى قَدَّرْنَا لَا أَحَدَ أَظْلَمُ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا اسْتِوَاءُ الْكُلِّ في الظلم وأن المقصود نفي الأظلمية من غَيْرِ الْمَذْكُورِ لَا إِثْبَاتَ الْأَظْلَمِيَّةِ لَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ وَإِمَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَظْلَمُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا لَزِمَ مِنْ جَعْلِ مَدْلُولِهَا إِثْبَاتَ الْأَظْلَمِيَّةِ للمذكور حقيقة أو نفيها من غَيْرِهِ وَهُنَا مَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى وَسَالِمٌ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَهُوَ الْوُقُوفُ مَعَ مدلول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 اللَّفْظِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَظِيمٌ فَظِيعٌ قَصَدْنَا بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ تَخْيِيلَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فَوْقَهُ لِامْتِلَاءِ قَلْبِ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ بِعَظَمَتِهِ امْتِلَاءً يَمْنَعُهُ مِنْ تَرْجِيحِ غَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَقُولَ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ وَتَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعَارَةً لَا حَقِيقَةً فَلَا يَرِدُ كَوْنُ غَيْرِهِ أَظْلَمَ مِنْهُ إِنْ فُرِضَ وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّهْوِيلُ فَيُقَالُ أَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا إِذَا قُصِدَ إِفْرَاطُ عَظَمَتِهِ وَلَوْ قِيلَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ أَنْتَ قُلْتَ إِنَّهُ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ لَأَبَى ذَلِكَ فَلْيَفْهَمْ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْكَلَامَ يَنْتَظِمُ مَعَهُ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ قاعدة في الجحد بين الكلامين قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطعام} قَالَ صَاحِبُ الْيَاقُوتَةِ قَالَ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ جَمِيعًا الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِجَحْدَيْنِ كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا فَمَعْنَاهُ إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمِثْلُهُ مَا سَمِعْتُ مِنْكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ مَالًا وَإِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدٌ كَانَ الْكَلَامُ مَجْحُودًا جَحْدًا حَقِيقِيًّا نَحْوَ مَا زَيْدٌ بِخَارِجٍ فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ جَحْدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ أَحَدُهُمَا زَائِدًا كَقَوْلِهِ مَا مَا قُمْتُ يُرِيدُ مَا قُمْتُ وَمِثْلُهُ مَا إِنْ قُمْتُ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فيما إن مكناكم فيه} فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 قَاعِدَةٌ فِي أَلْفَاظٍ يُظَنُّ بِهَا التَّرَادُفُ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَلِهَذَا وُزِّعَتْ بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ فَلَا يَقُومُ مُرَادِفُهَا فِيمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مَقَامَ الْآخَرِ فَعَلَى المفسر مراعاة الِاسْتِعْمَالَاتِ وَالْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّرَادُفِ مَا أَمْكَنَ فَإِنَّ لِلتَّرْكِيبِ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْإِفْرَادِ وَلِهَذَا مَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وُقُوعَ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ فِي التَّرْكِيبِ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي الْإِفْرَادِ فَمِنْ ذَلِكَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَشْيَةَ أَعْلَى مِنَ الْخَوْفِ وَهِيَ أَشَدُّ الْخَوْفِ فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ شَجَرَةٌ خَشِيَّةٌ إِذَا كَانَتْ يَابِسَةً وَذَلِكَ فَوَاتٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخَوْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ نَاقَةٌ خَوْفَاءُ إِذَا كَانَ بِهَا دَاءٌ وَذَلِكَ نَقْصٌ وَلَيْسَ بِفَوَاتٍ وَمِنْ ثَمَّةَ خُصَّتِ الْخَشْيَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَيَخْشَوْنَ ربهم ويخافون سوء الحساب} وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الْخَشْيَةَ تَكُونُ مِنْ عِظَمِ الْمَخْشِيِّ وَإِنْ كَانَ الْخَاشِي قَوِيًّا وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ الْخَائِفِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَوِّفُ أَمْرًا يَسِيرًا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَاءَ وَالشِّينَ وَالْيَاءَ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ قَالُوا شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ الْكَبِيرِ وَالْخَيْشُ لِمَا عَظُمَ مِنَ الْكَتَّانِ وَالْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ وَانْظُرْ إِلَى الْخَوْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَّةِ وَقَالَ تَعَالَى {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} فَإِنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ يَخْشَاهُ كُلُّ أَحَدٍ كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ وَسُوءُ الْحِسَابِ رُبَّمَا لَا يَخَافُهُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحِسَابِ وَحَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يحاسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وقال لموسى {لا تخف} أَيْ لَا يَكُونُ عِنْدَكَ مِنْ ضَعْفِ نَفْسِكِ ما تخاف منه من فِرْعَوْنَ فَإِنْ قِيلَ: وَرَدَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} ؟ قِيلَ: الْخَاشِي مِنَ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ ضَعِيفٌ فَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ يَخْشَى رَبَّهُ لِعَظَمَتِهِ وَيَخَافُ رَبَّهُ أَيْ لِضَعْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ أَقْوِيَاءُ ذَكَرَ صِفَتَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ويفعلون ما يؤمرون} فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ضُعَفَاءُ وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ ضُعَفَاءُ لَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ ضَعْفِهِمْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وَلَمَّا ذَكَرَ ضَعْفَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَالْمُرَادُ فَوْقِيَّةٌ بِالْعَظَمَةِ وَمِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ وَالشُّحُّ هُوَ الْبُخْلُ الشَّدِيدُ وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالضَّنِّ بِأَنَّ الضَّنِّ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَوَارِيِّ وَالْبُخْلُ بالهيئات وَلِهَذَا يُقَالُ هُوَ ضَنِينٌ بِعِلْمِهِ وَلَا يُقَالُ: هُوَ بَخِيلٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْبَهُ بِالْعَارِيَّةِ مِنْهُ بالهيئة لِأَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا وَهَبَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ مُلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا هو على الغيب بضنين} وَلَمْ يَقُلْ بِـ "بَخِيلٍ" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 وَمِنْ ذَلِكَ الْغِبْطَةُ وَالْمُنَافَسَةُ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ قَالَ تعالى {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ" وَأَرَادَ الْغِبْطَةَ وَهِيَ تَمَنِّي مثل ماله مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْتَمَّ لِنَيْلِ غَيْرِهِ فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجِدُّ وَالتَّشْمِيرُ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فَهُوَ مُنَافَسَةٌ وَقَرِيبٌ مِنْهَا الْحَسَدُ وَالْحِقْدُ فَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّهَا وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ سَعْيٍ فِي إِزَالَتِهَا كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْقَيْدَ أَعْنِي الِاسْتِحْقَاقَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَمَنِّيَ زَوَالِهَا عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لَا يَكُونُ حَسَدًا وَمِنْ ذَلِكَ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ السَّبِيلِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى إِنَّهُ وَقَعَ فِي الرُّبْعِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} ولم يقع ذكر الطريق مرادا بِهِ الْخَيْرُ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِوَصْفٍ أَوْ بِإِضَافَةٍ مِمَّا يُخَلِّصُهُ لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَى الْحَقِّ وإلى طريق مستقيم} ومن ذلك جاء وأتى يستويان في الماضي ويأتي أَخَفُّ مِنْ يَجِيءُ وَكَذَا فِي الْأَمْرِ جِيْئُوا بِمِثْلِهِ أَثْقَلُ مِنْ فَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ إِلَّا يَأْتِي وَيَأْتُونَ وَفِي الْأَمْرِ فَأْتِ فَأْتِنَا فَأْتُوا لِأَنَّ إِسْكَانَ الْهَمْزَةِ ثَقِيلٌ لِتَحْرِيكِ حروف المد واللين تقول جيء أَثْقَلُ مِنِ ائْتِ وَأَمَّا فِي الْمَاضِي فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ جَاءَ يُقَالُ فِي الْجَوَاهِرِ والأعيان وأتى في المعاني والأزمان وفي مقابلتها ذهب ومضى يُقَالُ ذَهَبَ فِي الْأَعْيَانِ وَمَضَى فِي الْأَزْمَانِ وَلِهَذَا يُقَالُ حُكْمُ فُلَانٍ مَاضٍ وَلَا يُقَالُ ذَاهِبٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مِنَ الْأَعْيَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 وقال {ذهب الله بنورهم} وَلَمْ يَقُلْ مَضَى لِأَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِالْمَعَانِي الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى الْحَالِ وَيُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بالأعيان القائمة بأنفسها فذكر الله جَاءَ فِي مَوْضِعِ الْأَعْيَانِ فِي الْمَاضِي وَأَتَى فِي مَوْضِعِ الْمَعَانِي وَالْأَزْمَانِ وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى {ولمن جاء به حمل بعير} لأن الصواع عين {ولما جاءهم كتاب} لأنه عين وقال {وجيء يومئذ بجهنم} لِأَنَّهَا عَيْنٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَ أجلهم} فَلِأَنَّ الْأَجَلَ كَالْمُشَاهَدِ وَلِهَذَا يُقَالُ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ وَقَالَ تَعَالَى {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كانوا فيه يمترون} أَيِ الْعَذَابِ لِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ يُشَاهِدُونَهُ وَقَالَ {وَأَتَيْنَاكَ بالحق وإنا لصادقون} حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مَرْئِيًّا فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نهارا} وقال {ولما جاء أمرنا} فَجُعِلَ الْأَمْرُ آتِيًا وَجَائِيًا قُلْنَا: هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ {جَاءَ} وَهُمْ مِمَّنْ يَرَى الْأَشْيَاءَ قَالَ {جَاءَ} أَيْ عِيَانًا ولما كان الزرع لا يبصر ولا يرى قال {جاء} وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ جَاءَ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَيُقَالُ أَجَاءَهُ قَالَ تَعَالَى {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النخلة} وَلَمْ يَرِدْ أَتَاهُ بِمَعْنَى ائْتِ مِنَ الْإِتْيَانِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفْسِهِ وَمِنْ ذَلِكَ الْخَطْفُ وَالتَّخَطُّفُ لَا يُفَرِّقُ الْأَدِيبُ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 بَيْنَهُمَا فَتَقُولُ: {خَطِفَ} بِالْكَسْرِ لِمَا تَكَرَّرَ وَيَكُونُ من شأن الخاطف الخطف وخطف بِالْفَتْحِ حَيْثُ يَقَعُ الْخَطْفُ مِنْ غَيْرِ مَنْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ الْخَطْفُ بِكُلْفَةٍ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ خَطَفَ بِالْفَتْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ عَلَى تَكَلُّفٍ وَلَمْ يَكُنْ مُتَوَقَّعًا مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فَعِلَ بِالْكَسْرِ لَا يَتَكَرَّرُ كعلم وسمع وفعل لا يشترط فيه ذلك كقتل وَضَرَبَ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فَإِنَّ شُغْلَ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ وَقَالَ {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ وَقَالَ: {تَخَافُونَ أَنْ يتخطفكم الناس} فَإِنَّ النَّاسَ لَا تَخْطِفُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى تكلف وقال {ويتخطف الناس من حولهم} وقال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} لِأَنَّ الْبَرْقَ يُخَافُ مِنْهُ خَطْفُ الْبَصَرِ إِذَا قوي ومن ذلك مد وأمد قَالَ الرَّاغِبُ أَكْثَرُ مَا جَاءَ الْإِمْدَادُ فِي المحبوب {وأمددناهم بفاكهة} {وظل ممدود} وَالْمَدُّ فِي الْمَكْرُوهِ {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مدا} ومن ذلك سقى وأسقى وقد سبق ومن ذلك عمل وفعل والفرق بينهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 أَنَّ الْعَمَلَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ كُلُّ عَمَلٍ فعل ولا ينعكس، ولهذا جعل النجاة الْفِعْلَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْمِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَالْعَمَلُ مِنَ الْفِعْلِ مَا كَانَ مَعَ امْتِدَادٍ لِأَنَّهُ فَعِلَ وَبَابُ فَعِلَ لِمَا تَكَرَّرَ وَقَدِ اعْتَبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} حَيْثُ كَانَ فِعْلُهُمْ بِزَمَانٍ وَقَالَ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون} حَيْثُ يَأْتُونَ بِمَا يُؤْمَرُونَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ فَيَنْقُلُونَ الْمُدُنَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ يَقُومَ الْقَائِمُ مِنْ مَكَانِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، {وما عملته أيديهم} فَإِنَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ وَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِامْتِدَادٍ، وَقَالَ {كيف فعل ربك بأصحاب الْفِيلِ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وتبين لكم كيف فعلنا بهم فَإِنَّهَا إِهْلَاكَاتٌ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ وَقَالَ: {وعملوا الصالحات} حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُثَابَرَةَ عَلَيْهَا لَا الْإِتْيَانَ بها مرة وقال {وافعلوا الخير} بمعنى سارعوا كما قال: {فاستبقوا الخيرات} وقال: {والذين هم للزكاة فاعلون} أَيْ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ فَهَذَا هُوَ الْفَصَاحَةُ فِي اخْتِيَارِ الْأَحْسَنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ومن ذلك القعود والجلوس إِنَّ الْقُعُودَ لَا يَكُونُ مَعَهُ لُبْثَةٌ وَالْجُلُوسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ذَلِكَ وَلِهَذَا تَقُولُ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ وَلَا تَقُولُ جَوَالِسُهُ لِأَنَّ مَقْصُودَكَ مَا فِيهِ ثَبَاتٌ وَالْقَافُ وَالْعَيْنُ وَالدَّالُ كَيْفَ تَقَلَّبَتْ دَلَّتْ عَلَى اللُّبْثِ وَالْقَعْدَةُ بَقَاءٌ عَلَى حَالَةٍ وَالدَّقْعَاءُ لِلتُّرَابِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْقَى فِي مَسِيلِ الْمَاءِ وَلَهُ لُبْثٌ طَوِيلٌ وَأَمَّا الْجِيمُ وَاللَّامُ وَالسِّينُ فَهِيَ لِلْحَرَكَةِ مِنْهُ السِّجِلُّ لِلْكِتَابِ يُطْوَى لَهُ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَعَدَ يَقْعُدُ بِضَمِّ الْوَسَطِ وَقَالُوا جَلَسَ يَجْلِسُ بِكَسْرِهِ فَاخْتَارُوا الثَّقِيلَ لِمَا هُوَ أَثْبَتُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَقَاعِدَ للقتال} فَإِنَّ الثَّبَاتَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَالَ: {اقْعُدُوا مَعَ القاعدين} أَيْ لَا زَوَالَ لَكُمْ وَلَا حَرَكَةَ عَلَيْكُمْ بعد هذا وقال: {في مقعد صدق} وَلَمْ يَقُلْ مَجْلِسٌ إِذْ لَا زَوَالَ عَنْهُ وَقَالَ: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُجْلَسُ فِيهِ زَمَانًا يَسِيرًا لَيْسَ بِمَقْعَدٍ فَإِذَا طُلِبَ مِنْكُمُ التَّفَسُّحُ فَافْسَحُوا لِأَنَّهُ لَا كُلْفَةَ فِيهِ لِقِصَرِهِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ قَعِيدُ الْمُلُوكِ وَإِنَّمَا يُقَالُ جَلِيسُهُمْ لِأَنَّ مجالسة الملوك يستحب فيها التخفيف والقعيدة لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تَلْبَثُ فِي مَكَانِهَا وَمِنْ ذَلِكَ التَّمَامُ وَالْكَمَالُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فَقِيلَ الْإِتْمَامُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْأَصْلِ وَالْإِكْمَالُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْعَوَارِضِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَصْلِ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كاملة} أَحْسَنُ مِنْ تَامَّةٌ فَإِنَّ التَّمَامَ مِنَ الْعَدَدِ قَدْ عُلِمَ وَإِنَّمَا بَقِيَ احْتِمَالُ نَقْصٍ فِي صفاتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وَقِيلَ تَمَّ يُشْعِرُ بِحُصُولِ نَقْصٍ قَبْلَهُ وَكَمُلَ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ رَجُلٌ كَامِلٌ إِذَا جَمَعَ خِصَالَ الْخَيْرِ وَرَجُلٌ تَامٌّ إِذَا كَانَ غَيْرَ نَاقِصِ الطُّولِ وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ الْكَمَالُ اسْمٌ لِاجْتِمَاعِ أَبْعَاضِ الْمَوْصُوفِ بِهِ وَالتَّمَامُ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَوْصُوفُ وَلِهَذَا يَقُولُونَ الْقَافِيَةُ تَمَامُ الْبَيْتِ وَلَا يَقُولُونَ كَمَالُهُ وَيَقُولُونَ الْبَيْتُ بِكَمَالِهِ وَمِنْ ذَلِكَ الضِّيَاءُ وَالنُّورُ فائدة عن الجويني في الفرق بين الإتيان والإعطاء قَالَ: الْجُوَيْنِيُّ لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْإِتْيَانِ وَظَهَرَ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ انْبَنَى عَلَيْهِ بَلَاغَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَهُ مُطَاوِعٌ يُقَالُ: أَعْطَانِي فَعَطَوْتُ ولا يقال في الإتيان أَتَانِي فَأَتَيْتُ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آتَانِي فَأَخَذْتُ وَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مُطَاوِعٌ أَضْعَفُ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ مِنَ الَّذِي لَا مُطَاوِعَ لَهُ لِأَنَّكَ تَقُولُ قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمَحَلِّ لَوْلَاهُ لَمَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ وَلِهَذَا يَصِحُّ قَطَعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا مُطَاوِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبْتُهُ فَانْضَرَبَ أَوْ مَا انْضَرَبَ وَلَا قَتَلْتُهُ فَانْقَتَلَ أَوْ مَا انْقَتَلَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْفَاعِلِ ثَبَتَ لَهَا الْمَفْعُولُ فِي الْمَحَلِّ وَالْفَاعِلُ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا مُطَاوِعَ لَهَا فَالْإِيتَاءُ إِذَنْ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 قَالَ: وَقَدْ تَفَكَّرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مُرَاعًى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الملك {تؤتي الملك من تشاء} لِأَنَّ الْمُلْكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُلْكِ أَثْبَتُ مِنَ الْمِلْكِ فِي الْمَالِكِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَخْرُجُ الْمُلْكُ مِنْ يَدِهِ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَيُخْرِجُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِذَا ثَبَتَتْ فِي الْمَحَلِّ دَامَتْ وقال: {آتيناك سبعا من المثاني} لِعِظَمِ الْقُرْآنِ وَشَأْنِهِ وَقَالَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ يَرِدُونَ عَلَى الْحَوْضِ وُرُودَ النَّازِلِ عَلَى الْمَاءِ وَيَرْتَحِلُونَ إِلَى مَنَازِلِ الْعِزِّ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ فِي الْجِنَانِ وَالْحَوْضُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ عِنْدَ عَطَشِ الْأَكْبَادِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ فَقَالَ فِيهِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لِأَنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ وَيَنْتَقِلُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَقَالَ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خلقه} لأن من الأشياء ماله وُجُودٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ وَقَالَ {لسوف يعطيك ربك فترضى} لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا يُرْضِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُهُ وَيَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ كُلِّ الرِّضَا إِلَى أَعْظَمِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُ لَا بَلْ حَالُ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} فِيهِ بِشَارَةٌ وَقَالَ: {حَتَّى يُعْطُوا الجزية عن يد} لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولٍ مِنَّا وَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 لَا يُؤْتُونَ إِيتَاءً عَنْ طِيبِ قَلْبٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ كُرْهٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِعْطَاؤُهُ لِلزَّكَاةِ بِقُوَّةٍ لَا يَكُونُ كَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ اللَّطِيفَةِ الْمُوقِفَةِ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ قَاعِدَةٌ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامًا لَا يَلِيقُ بِالْآخَرِ فَأَمَّا التَّعْرِيفُ فَلَهُ أَسْبَابٌ: الْأَوَّلُ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْهُودٍ خَارِجِيٍّ كقوله تعالى: {بكل ساحر عليم فجمع السحرة} ،عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ فَإِنَّهُ أُشِيرَ بِالسَّحَرَةِ إِلَى سَاحِرٍ مَذْكُورٍ وَقَوْلُهُ {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا فعصى فرعون الرسول} وَأَغْرَبَ ابْنُ الْخَشَّابِ فَجَعَلَهَا لِلْجِنْسِ فَقَالَ: لِأَنَّ مَنْ عَصَى رَسُولًا فَقَدْ عَصَى سَائِرَ الرُّسُلِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ آمَنُوا سفهاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 وقوله {وليس الذكر كالأنثى} أَيِ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْهُ كَالْأُنْثَى الَّتِي وُهِبَتْ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا لِلْخَارِجِيِّ لِمَعْنَى الذَّكَرِ فِي قَوْلِهِا: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بطني محررا} وَمَعْنَى الْأُنْثَى فِي قَوْلِهِا {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} الثَّانِي: لِمَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ أَيْ فِي ذِهْنِ مُخَاطِبِكَ كقوله تعالى {إذ هما في الغار} {إذ يبايعونك تحت الشجرة} وَإِمَّا حُضُورِيٍّ نَحْوُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ الثَّالِثُ: الْجِنْسُ وَهِيَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْخَبَرِ فَيُقْصَرَ جِنْسُ الْمَعْنَى عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ نَحْوُ زَيْدٌ الرَّجُلُ أَيِ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا مِنْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَقْصُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ لَا الْمُبَالَغَةِ وَيُسَمَّى تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ نَحْوُ {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} وَقَوْلِهِ {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَيْ جَعَلْنَا مُبْتَدَأَ كُلِّ حَيٍّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ ثُبُوتُ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ لَا الشَّامِلَةِ لِأَفْرَادِ الْجِنْسِ نَحْوُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ لَا يُرِيدُونَ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هَذَا الْجِنْسُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ بِسَبَبِ عَوَارِضَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ بَابْشَاذَ: إِنَّ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَعْيَانِ وَتَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَذْهَانِ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْجِنْسِ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ فِي الذِّهْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّفْضِيلِ فِي الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ وإنما أضاف إلى الذهن لأن تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ لِاشْتِمَالِ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا مُطَابَقَةٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تُسَمَّى الْكُلِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ الرَّابِعُ: أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا الَّتِي إِذَا نُزِعَتْ حَسُنَ أَنْ يَخْلُفَهَا كُلٌّ وَتُفِيدُ مَعْنَاهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ حَقِيقَةً وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى شُمُولِ الْأَفْرَادِ وَهِيَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْفَرْدِ نَحْوُ {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وَفِي صِحَّةِ وَصْفِهِ بِالْجَمْعِ نَحْوُ {أَوِ الطِّفْلِ الذين لم يظهروا} قال صاحب ضوء المصباح: سواء أَكَانَ الشُّمُولُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ فَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ بِزَوَالِ الْفِعْلِ فَهِيَ لِلنَّوْعِ وَمَا دخلت عليه من وَصْفِهِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ أَبَدًا هَذَا كُلُّهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُفْرَدٍ نَحْوُ {إِلَى عالم الغيب والشهادة} {وخلق الإنسان ضعيفا} {إن الأنسان لفي خسر} خِلَافًا لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يَعُمُّ وَلَنَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} دَلَالَةٌ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا زَعَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنِ السَّارِقُ عَامًّا فَبِمَاذَا تُقْطَعُ يَدُ كُلِّ سَارِقٍ مِنْ لَدُنْ سُرِقَ رِدَاءُ صَفْوَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 قِيلَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِنْسُ أَيْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِصِفَةِ السَّرِقَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ كَمَا تُوجَدُ مَعَ الْوَاحِدِ تُوجَدُ مَعَ الْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ سَلَبَتْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَيَصِيرُ لِلْجِنْسِ وَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَى الْكَلِمَةِ عُمُومَانِ أَوْ مَعْنَى الْجَمْعِ بَاقٍ معها؟ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْأَوَّلِ وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا الثَّانِي وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا الْعَامِلِينَ وَيُلْزِمُ الْحَنَفِيَّةُ أَلَّا يَصِحَّ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يُخَصِّصَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وقال {فاقتلوا المشركين} إلى قوله {حتى يعطوا الجزية} وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي بَابِ الْعُمُومِ مِنْ بَحْرِ الْأُصُولِ ثُمَّ الْأَكْثَرُ فِي نَعْتِهَا وَغَيْرِهَا مُوَافَقَةُ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب} وَقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} وَتَجِيءُ مُوَافِقَةَ مَعْنَى لَا لَفْظًا عَلَى قِلَّةٍ كَقَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء} وَأَمَّا التَّنْكِيرُ فَلَهُ أَسْبَابٌ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 الْأَوَّلُ: إِرَادَةُ الْوَحْدَةِ نَحْوُ {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أقصى المدينة يسعى} الثَّانِي: إِرَادَةُ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ للمتقين لحسن مآب} أَيْ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ،وَهِيَ التَّعَامِي عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الظَّاهِرَةِ لِكُلِّ مبصر ويجوز أن يكون للتعظيم وجريا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ من ماء} {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْرِصُوا عَلَى أَصْلِ الْحَيَاةِ حَتَّى تُعْرَفَ بَلْ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ نَوْعٍ وَإِنْ كَانَ الزَّائِدُ أَقَلَّ شَيْءٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَيَاةِ الثَّالِثُ: التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من الله ورسوله} أَيْ بِحَرْبٍ وَأَيُّ حَرْبٍ وَكَقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أليم بما كانوا يكذبون} أَيْ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عذاب من الرحمن} وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ خِلَافُهُ وَهَذَا لَمْ يصرح بأن العذاب لا حق بِهِ بَلْ قَالَ: {يَمَسَّكَ} وَذَكَرَ الْخَوْفَ وَذَكَرَ اسْمَ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَقُلِ الْمُنْتَقِمُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ التَّعْظِيمَ وَقَوْلَهُ: {أَنَّ لهم جنات} فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَمْ يُنْكِرِ الْأَنْهَارَ فِي قَوْلِهِ {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 قُلْتُ: لَا غَرَضَ فِي عِظَمِ الْأَنْهَارِ وَسَعَتِهَا بخلاف الجنات ومنه {سلام على إبراهيم} {وسلام عليه يوم ولد} وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ سَلَامَ عِيسَى فِي قَوْلِهِ {والسلام علي يوم ولدت} فإنه في قصة دعائه الرَّمْزُ إِلَى مَا اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّلَامُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ وَكُلُّ اسْمٍ نَادَيْتَهُ بِهِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ ذَلِكَ الِاسْمُ نَحْوُ يَا غَفُورُ يَا رَحِيمُ الرَّابِعُ: التَّكْثِيرُ نَحْوُ إِنَّ لَهُ لَإِبِلًا وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّ لنا لأجرا} أَيْ أَجْرًا وَافِرًا جَزِيلًا لِيُقَابِلَ الْمَأْجُورَ عَنْهُ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَى مِثْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا يُقَابِلُ الْغَلَبَةَ عَلَيْهِ بِأَجْرٍ إِلَّا وَهُوَ عَدِيمُ النَّظِيرِ فِي الْكَثْرَةِ وَقَدْ أَفَادَ التَّكْثِيرَ وَالتَّعْظِيمَ مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فقد كذبت رسل} أَيْ رُسُلٌ عِظَامٌ ذَوُو عَدَدٍ كَثِيرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِوَضًا عَنْ قَوْلِهِ فَلَا تَحْزَنَ وَتَصَبَّرْ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ وَتَكَاثُرِ الْعَدَدِ الْخَامِسُ: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَيِّ شيء خلقه} قالالزمخشري: أَيْ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ مَهِينٍ ثُمَّ بَيَّنَهُ بقوله {من نطفة خلقه} وكقوله تعالى: {إن نظن إلا ظنا} أَيْ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَإِلَّا لَاتَّبَعُوهُ لِأَنَّ ذلك دينهم {إن يتبعون إلا الظن} السَّادِسُ: التَّقْلِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أكبر} أي رضوان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 قَلِيلٌ مِنْ بِحَارِ رِضْوَانِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ رِضَا الْمَوْلَى رَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ للناس} إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ أَصْلُ الشِّفَاءَ فِي جُمْلَةِ صُوَرٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ وَعَدَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْهُ {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} أَيْ بَعْضَ اللَّيْلِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّقْلِيلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيلِ الْجِنْسِ إِلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَا بِبَعْضِ فَرْدٍ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ تَنْبِيهٌ هَذِهِ الْأُمُورُ إِنَّمَا تُعْلَمُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالسِّيَاقِ كَمَا فُهِمَ التَّعْظِيمُ فِي قَوْلِهِ تعالى {لأي يوم أجلت} مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدَهُ {لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ ما يوم الفصل} وَكَمَا فُهِمَ التَّحْقِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: {مِنْ أَيِّ شيء خلقه} من قوله بعده {من نطفة خلقه} قاعدة فِيمَا إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ أَوْ نَكِرَتَيْنِ أَوِ الثَّانِي مَعْرِفَةٌ وَالْأَوَّلُ نَكِرَةٌ أَوْ عَكْسَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ وَالثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هو الأصل في اللام أو الإضافة كـ "العسر" فِي قَوْلِهِ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} وَلِذَلِكَ وَرَدَ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ قَالَ التَّنُوخِيُّ إِنَّمَا كَانَ مَعَ الْعُسْرِ وَاحِدًا لِأَنَّ اللام طبيعة لَا ثَانِيَ لَهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْجِنْسَ هِيَ وَالْكُلِّيُّ لَا يُوصَفُ بِوَحْدَةٍ وَلَا تَعَدُّدٍ وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إنهم لمحضرون} وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وَقَوْلُهُ: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تق السيئات} وَقَوْلُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظلم اليوم} وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين} وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً وَهِيَ مَنْقُوضَةٌ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الإحسان} فَإِنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَهُمَا غَيْرَانِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَمَلُ وَالثَّانِي الثَّوَابُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وقوله تعالى: {أن النفس بالنفس} أي القاتلة والمقتولة وقوله: {الحر بالحر} وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} وقوله: {إنا خلقنا الْإِنْسَانِ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لما بين يديه} وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكتاب يؤمنون به} وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تشاء} فَالْمُلْكُ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللَّهُ لِلْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ مُلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَا وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ لَكِنْ يَصْدُقُ أَنَّهُ إِيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ كَمَا صَرَّحَ بِنَحْوِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ من يشاء} فَقَدْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي الْمُنْفَصِلِ الْمُسْتَغْرَقِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْفَضْلِ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض} فَالْأَوَّلُ عَامٌّ وَالثَّانِي خَاصٌّ وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناس لا يعلمون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون} وقوله: {قال فالحق والحق أقول} فَالْأَوَّلُ نُصِبَ عَلَى الْقَسَمِ وَالثَّانِي نُصِبَ بِـ "أَقُولُ" وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزل} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فالأولى مُعَرَّفَةٌ بِالضَّمِيرِ وَالثَّانِيَةُ عَامَّةٌ وَالْأُولَى خَاصَّةٌ فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي وَكَذَا قَوْلُهُ: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله: {رب العالمين رب موسى وهارون} وقوله: {أبلغ الأسباب أسباب السماوات} وَقَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} وَقَوْلُهُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ،ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ،فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا يَكُونُ الْأَوَّلُ خَاصًّا وَالثَّانِي عَامًّا مُتَّفِقَانِ بِالْجِنْسِ وَكَذَلِكَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئا} ولذلك استبدل بِهَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ إِلْغَاءُ الظَّنِّ مُطْلَقًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء} بعد قوله: {قالت إحداهما} فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى هِيَ الثَّانِيَةُ وَأَلَّا تَكُونَ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فتذكر إحداهما الأخرى} فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا الثَّانِيَةُ مَفْعُولًا فَالِاسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمَعْرِفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ فَاعِلًا فَهُمَا وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ الْإِعْرَابَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ تَعَيَّنَ كَوْنُ الْأَوَّلِ فَاعِلًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فما زالت تلك دعواهم} وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} ،فَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ مَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ كَرَّرَهُ بقوله: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} وَالْكِتَابُ الثَّانِي التَّوْرَاةُ وَالثَّالِثُ جِنْسُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مَا هُوَ مِنْ شَيْءٍ فِي كتب الله تعالى وكلامه قاله الرَّاغِبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَكِرَتَيْنِ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا قَالُوا وَالْمَعْنَى فِي هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ النَّكِرَةَ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ وَالْمَعْرِفَةَ تَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ وَالْمَشْهُورُ فِي تَمْثِيلِ هَذَا الْقِسْمِ الْيُسْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَنْكِيرَ يُسْرًا لِلتَّعْمِيمِ وَتَعْرِيفَ اليسر للعهد الذي كان عَلَيْهِ يُؤَكِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ أَوِ الْجِنْسُ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ لِيَكُونَ الْيُسْرُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْعُسْرِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ هُنَا تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى لِتَقْدِيرِهَا فِي النَّفْسِ وَتَمْكِينِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَلِأَنَّهَا تَكْرِيرٌ صَرِيحٌ لَهَا وَلَا تَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْيُسْرِ كَمَا لَا يَدُلُّ قَوْلُنَا وَإِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا إِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا عَلَى أَنَّ مَعَهُ كِتَابَيْنِ فَالْأَفْصَحُ أَنَّ هَذَا تَأْكِيدٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي خلقكم من ضعف} الْآيَةَ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورِ غَيْرُ الْآخَرِ فَالضَّعْفُ الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ وَالثَّانِي الضَّعْفُ الْمَوْجُودُ فِي الطِّفْلِ وَالْجَنِينِ وَالثَّالِثُ فِي الشَّيْخُوخَةِ وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ حَرَكَةً وَهِدَايَةً لِاسْتِدْعَاءِ اللَّبَنِ وَالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبُكَاءِ وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي قَوْلِهِ تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} : الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ شَهْرٍ الْإِعْلَامُ بِمِقْدَارِ زَمَنِ الْغُدُوِّ وَزَمَنِ الرَّوَاحِ وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِلْمَقَادِيرِ لَا يَحْسُنُ فِيهَا الْإِضْمَارُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَأْتِيَ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ فِي نَحْوِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ هَلْ يَكُونُ أَمْرَيْنِ بِمَأْمُورَيْنِ وَالثَّانِي تَأْسِيسٌ أولا وَفِيهِ قَوْلَانِ وَقَدْ نَقَضُوا هَذَا الْقِسْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرض إله} فَإِنَّ فِيهِ نَكِرَتَيْنِ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ وَإِنَاطَةِ أَمْرٍ زائد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُقْصَدِ التَّكْرِيرُ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَصْدِ التَّكْرِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ ذِكْرِ الرَّبِّ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {سبحان رب السماوات والأرض رب العرش} وأجاب غيره بأن إله بِمَعْنَى مَعْبُودٍ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الصِّفَةِ فَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ زَيْدٌ ضَارِبُ عَمْرٍو ضَارِبُ بَكْرٍ لَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ وَإِنْ أَخْبَرَ بِهِمَا عَنْ ذَاتٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ الْمَضْرُوبَانِ لَا الضَّارِبَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُخْتَلِفَانِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبير} الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَأُجِيبُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَحْكِيٌّ مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ وَالثَّانِي مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُقُوعِهِمَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فباءوا بغضب على غضب} وَمِنْهَا: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جاءنا نذير} وَمِنْهَا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ ينزل آية} الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً فَهُوَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا فعصى فرعون الرسول} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وَقَوْلِهِ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كأنها كوكب دري} وَقَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عليهم من سبيل إنما السبيل} وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} وَهَذَا مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِهِ: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فابتغوا عند الله الرزق} وَقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صلحا والصلح خير} فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى اسْتِحْبَابِ كُلِّ صُلْحٍ فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي وَلَيْسَ بِجِنْسِهِ وَكَذَلِكَ {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يغني من الحق شيئا} وقوله: {ويؤت كل ذي فضل فضله} الْفَضْلُ الْأَوَّلُ الْعَمَلُ وَالثَّانِي الثَّوَابُ وَكَذَلِكَ {وَيَزِدْكُمْ قوة إلى قوتكم} وكذلك {يزدادوا إيمانا مع إيمانهم} وكذلك {زدناهم عذابا فوق العذاب} تَعْرِيفُهُ أَنَّ الْمَزِيدَ غَيْرُ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ {كتاب أنزلناه إليك} وقوله: {وتقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب} الرَّابِعُ: عَكْسُهُ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرَائِنِ فَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى التغاير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لبثوا غير ساعة} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عليهم كتابا} وَقَوْلُهُ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسرائيل الكتاب هدى} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْهُدَى جَمِيعُ مَا آتَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالشَّرَائِعِ وَالْهُدَى وَالْإِرْشَادِ وَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى الِاتِّحَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن} إلى قوله {إنا سمعنا كتابا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {بِالْمَعْرُوفِ} وقوله أيضا: {من معروف} فَهُوَ مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ مُعْرِفَةً لِأَنَّ {مِنْ مَعْرُوفٍ} وَإِنْ كَانَ فِي التِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ {بِالْمَعْرُوفِ} فَهُوَ فِي الْإِنْزَالِ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ قَوَاعِدُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَطْفِ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ إِلَى عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى مِثْلِهِ وَعَطْفِ الْجُمَلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 فَأَمَّا عَطْفُ الْمُفْرَدِ فَفَائِدَتُهُ تَحْصِيلُ مُشَارَكَةِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ فِي الْإِعْرَابِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي فَاعِلِيَّتِهِ أَوْ مَفْعُولِيَّتِهِ لِيَتَّصِلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَوْ حُكْمٌ خَاصٌّ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا في قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْوُجُوهِ كَانَتِ الْأَرْجُلُ مَغْسُولَةً وَمَنْ قَرَأَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الرُّءُوسِ كَانَتْ مَمْسُوحَةً لَكِنْ خُولِفَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ يُرَجِّحُ وَلَا بُدَّ فِي هَذَا مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فَتَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لِأَنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَلَوْ قُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ وَرَجُلٌ لَمْ يَسْتَقِمْ لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ نَكِرَةً نَعَمْ إِنْ تَخَصَّصَ فَقُلْتَ وَرَجُلٌ آخَرُ جَازَ وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى مِنَ النَّحْوِيِّينَ: وَأَمَّا عَطْفُ الْجُمْلَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَكَمَا سَبَقَ لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَحَلَّ الْمُفْرَدِ نَحْوُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ خُلُقُهُ حَسَنٌ وَخُلُقُهُ قَبِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَا مَحَلَّ لَهَا نَحْوُ زَيْدٌ أَخُوكَ وَعَمْرٌو صَاحِبُكَ فَفَائِدَةُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ فِي مُقْتَضَى الْحَرْفِ الْعَاطِفِ فَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِغَيْرِ الْوَاوِ ظَهَرَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنَ التَّعْقِيبِ كَالْفَاءِ أَوِ التَّرْتِيبِ كَـ "ثُمَّ" أَوْ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الْبَاقِي كَـ "لَا" وَأَمَّا الْوَاوُ فَلَا تُفِيدُ شَيْئًا هُنَا غَيْرَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْإِعْرَابِ وَقِيلَ: بَلْ تُفِيدُ أَنَّهُمَا كَالنَّظِيرَيْنِ وَالشَّرِيكَيْنِ بِحَيْثُ إِذَا عَلِمَ السَّامِعُ حَالَ الْأَوَّلِ عَسَاهُ أَنْ يَعْرِفَ حَالَ الثَّانِي وَمِنْ ثَمَّةَ صَارَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ فِي اللَّفْظِ يُوجِبُ القران في الحكم ومن ها هُنَا شَرَطَ الْبَيَانِيُّونَ التَّنَاسُبَ بَيْنَ الْجُمَلِ لِتَظْهَرَ الْفَائِدَةُ حَتَّى إِنَّهُمْ مَنَعُوا عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَعَكْسَهُ وَنَقَلَهُ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ يَقْبُحُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا الْكَلَامَ الْوَاجِبَ فِي مَوْضِعِ الْمَنْفِيِّ فَيَصِيرُوا قَدْ ضَمُّوا إِلَى الْأَوَّلِ مَا لَيْسَ بِمَعْنَاهُ انْتَهَى وَلِهَذَا مَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْوَاوِ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْأُولَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 خَبَرِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ طَلَبِيَّةٌ وَجَوَّزَهُ ابْنُ الطَّرَاوَةِ لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي التَّبَرُّكِ وَخَالَفَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ كَابْنِ خَرُوفٍ وَالصَّفَّارِ وَابْنِ عَمْرٍو وَقَالُوا يُعْطَفُ الْأَمْرُ عَلَى الْخَبَرِ وَالنَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ قال تعالى {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يعصمك من الناس} ،فَعَطَفَ خَبَرًا عَلَى جُمْلَةِ شَرْطٍ وَجُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى الْأَمْرِ وَقَالَ تَعَالَى {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ من المسلمين} {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ من المشركين} فعطف نهيا على خبر ومثله {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} قَالُوا: وَتُعْطَفُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا اشْتِرَاكَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والراسخون في العلم} عَلَى قَوْلِنَا بِالْوَقْفِ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اختص به وقال: {وأولئك هم الفاسقون} فَإِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ بِخَبَرِهَا فَلَا يُوجِبُ الْعَطْفُ الْمُشَارَكَةَ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ الْجُمْلَتَانِ الْأُولَيَانِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المحصنات ثم لم يأتوا} كَقَوْلِكَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ طَلَاقُ الثَّانِيَةِ بِالشَّرْطِ وَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ لِمَا تَقَدَّمَهُ وَيَبْقَى الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قلبك ويمح الله الباطل} فإنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 عِلَّةٌ تَامَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الشَّرْطِ وَلَوْ دَخَلَتْ كَانَ خَتْمُ الْقَلْبِ وَمَحْوُ الْبَاطِلِ مُتَعَلِّقَيْنِ بِالشَّرْطِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وَقَدْ عُدِمَ خَتْمُ الْقَلْبِ وَوُجِدَ مَحْوُ الْبَاطِلِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا سَقَطَتِ الْوَاوُ فِي الْخَطِّ وَاللَّفْظُ لَيْسَ لِلْجَزْمِ بَلْ سُقُوطُهُ مِنَ اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَفِي الْخَطِّ اتِّبَاعًا لِلَّفْظِ كَسُقُوطِهِ فِي قوله تعالى {ويدع الأنسان} وقوله {سندع الزبانية} وَلِهَذَا وَقَفَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ بِالْوَاوِ نَظَرًا لِلْأَصْلِ وَإِنْ وَقَفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ وَاوٍ اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَاءُ إِعَادَةِ الِاسْمِ في قوله {ويمح الله} وَلَوْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا لَقِيلَ وَيَمْحُ الْبَاطِلَ وَمِثْلُهُ {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام ما نشاء} وَقَوْلُهُ: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى من يشاء} وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ولباس التقوى} وَغَيْرُ ذَلِكَ قُلْتُ: وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَأَمَّا {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} وَمَا بَعْدَهُ فَهِيَ لِلِاسْتِئْنَافِ إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعَطْفِ لَانْتَصَبَ "نُقِرُّ" وجزم"ويتوب" وكذلك فِي {وَالرَّاسِخُونَ} لِلِاسْتِئْنَافِ {وَيَمْحُ اللَّهُ} وَقَالَ: الْبَيَانِيُّونَ لِلْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ مِنَ الْمَوْصُوفِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ الْمُؤَكَّدِ فَلَا يَدْخُلُهَا عَطْفٌ لِشِدَّةِ الِامْتِزَاجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وقوله {ختم الله على قلوبهم} مع قوله {لا يؤمنون} وكذلك: {يخادعون الله} مع قوله: {وما هم بمؤمنين} فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَ قَوْلِهِمْ {آمَنَّا} مِنْ غَيْرِ اتِّصَافِهِمْ وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ {إِنَّا مَعَكُمْ} أَنَّا لَمْ نُؤْمِنْ وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} خَبَرٌ لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أذنيه وقرا} وَقَوْلِهِ: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا ملك كريم} فَإِنَّ كَوْنَهُ مَلِكًا يَنْفِي كَوْنَهُ بَشَرًا فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى وَقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مبين} وَقَوْلِهِ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وحي يوحى} وقوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} فإنها مؤكدة لقوله: {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم} فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وقوله: {إن المتقين في مقام أمين} بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تمترون} وقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} إِذَا جُعِلَتْ {إِنَّا لَا نُضِيعُ} خَبَرًا إِذِ الْخَبَرُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} بَعْدَ قَوْلِهِ {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يسمعون} وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُغَايِرَ مَا قَبْلَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نوع من الارتباط بِوَجْهٍ فَلَا عَطْفَ أَيْضًا إِذْ شَرْطُ الْعَطْفِ الْمُشَاكَلَةُ وَهُوَ مَفْقُودٌ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الذين كفروا سواء عليهم} بعد قوله {وأولئك هم المفلحون} فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَاحِدًا أَدَّى إِلَى الْإِلْبَاسِ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْطِفِ الْتَبَسَ حَالَةُ الْمُطَابَقَةِ بِحَالَةِ المغايرة وهلا عطفت الحالة الأولى بِالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ يُوهِمُ الْمُطَابَقَةَ والعطف يوهم عدمها فلما اخْتِيرَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ عَنْ إِلْبَاسٍ؟ قِيلَ: الْعَاطِفُ يُوهِمُ الْمُلَابَسَةَ بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ بِخِلَافِ سُقُوطِ الْعَاطِفِ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَوْهَمَ الْمُطَابَقَةَ إِلَّا أَنَّ أَمْرَهُ وَاضِحٌ فَبِأَدْنَى نَظَرٍ يُعْلَمُ فَزَالَ الْإِلْبَاسُ الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُغَايِرَ مَا قَبْلَهَا لَكِنْ بَيْنَهُمَا نوع ارتباط وهذه هي الَّتِي يَتَوَسَّطُهَا الْعَاطِفُ كَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خالدون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سَقَطَ الْعَطْفُ مِنْ {أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضل} وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْغَفْلَةَ شَأْنُ الْأَنْعَامِ فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كَأَنَّهَا هِيَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فَإِنْ قُلْتَ لِمَ سَقَطَ في قوله {الله يستهزئ بهم} ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَالْمَسْئُولِ عَنْهَا فَنُزِّلَ تَقْدِيرُ السُّؤَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِهِ الْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لِمَ كَانَ كذا فقيل كذا فهاهنا لَا عَطْفَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عشاء يبكون قالوا يا أبانا} وقوله: {فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا} التَّقْدِيرُ فَمَا قَالُوا أَوْ فَعَلُوا فَأُجِيبَ هَذَا التَّقْدِيرُ بِقَوْلِهِ قَالُوا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى مِثْلِهِ وَالْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ إِلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: عَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَشَرَطَ ابْنُ عَمْرُونٍ وَصَاحِبُهُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ أَنْ يَصِحَّ أَنْ يُسْنَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى مَا أُسْنِدَ إِلَى الْآخَرِ وَلِهَذَا مَنَعَ أَنْ يَكُونَ {وزوجك} في {اسكن أنت وزوجك} معطوفا على المستكن في أنت وَجَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سوى} لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ حُلُولَهُ مَحَلَّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ حُلُولُ زَوْجِكَ مَحَلَّ الضَّمِيرِ لأن فاعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 فِعْلِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ الْمُذَكِّرِ نَحْوَ قُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا فَكَيْفَ يَصِحُّ وُقُوعُ الظَّاهِرِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي قَبْلَهُ! وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ تَقُومُ هِنْدٌ وَزَيْدٌ وَلَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ زَيْدٍ لِـ "تَقُومُ" لِتَأْنِيثِهِ الثَّانِي: عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّفَاقُ زَمَانِهِمَا فَإِنْ خَالَفَ رد إلى الاتفاق بالتأويل لاسيما إِذَا كَانَ لَا يُلْبِسُ وَكَانَتْ مُغَايَرَةُ الصِّيَغِ اتِّسَاعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وأقاموا الصلاة} عطف الْمَاضِيَ عَلَى الْمُضَارِعِ لِأَنَّهَا مِنْ صِلَةِ الَّذِينَ وَهُوَ يُضَارِعُ الشَّرْطَ لِإِيهَامِهِ وَالْمَاضِي فِي الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ تَغَايَرَتِ الصِّيَغُ فِي هَذَا كَمَا تَرَى وَاللَّبْسُ مَأْمُونٌ وَلَا نَظَرَ فِي الْجُمَلِ إِلَى اتِّفَاقِ الْمَعَانِي لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا انْتَهَى وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} ثم قال {ويجعل لك قصورا} وقوله: {ويوم نسير الجبال} ثُمَّ قَالَ {وَحَشَرْنَاهُمْ} وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: لَا يَتَمَشَّى عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا فِي الْمُضَارِعِ مَنْصُوبًا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا} أَوْ مَجْزُومًا كَقَوْلِهِ {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ويؤخركم إلى أجل مسمى} فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَكَمْتُمْ بِأَنَّ الْعَاطِفَ مُخْتَصٌّ بِالْمُضَارِعِ وَهُمْ يَقُولُونَ قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 بَكْرٌ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} فِيهِ عَطْفُ الْمَاضِي عَلَى الْمَاضِي وَعَطْفُ الدُّعَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ! فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَطْفِ هُنَا أَنْ تَكُونَ لَفْظَتَانِ تَتْبَعُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا الْأُولَى فِي إِعْرَابِهَا وَإِذَا كَانَتِ اللَّفْظَةُ غَيْرَ مُعَرَّبَةٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ فِيهَا التَّبَعِيَّةُ فَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا الْعَطْفَ الَّذِي نَقْصِدُهُ الْآنَ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ مَعْطُوفَةٌ الْعَطْفَ الَّذِي لَيْسَ لِلْإِتْبَاعِ بَلْ يَكُونُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هُمَا جُمْلَتَانِ وَالْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْإِعْرَابِ إِلَّا أَنْ تَحِلَّ مَحَلَّ الْفَرْدِ وَظَهَرَ أَنَّهُ يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَطْفِ عَلَيْهِ وَعَدَمُهُ بِاعْتَبَارَيْنِ الثَّالِثُ: عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ وَالِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صافات ويقبضن} وقوله: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله} وَاحْتَجَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْمُصَّدِّقِينَ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ: وَيَدُلُّ لِعَطْفِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 من بينهم فويل للذين كفروا} فعطف {فويل للذين كفروا} وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عَلَى {فَاخْتَلَفَ} وَهِيَ فِعْلِيَّةٌ بِالْفَاءِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يفقهون} وَقَالَ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خافية فأما من أوتي كتابه بيمينه} قال وأذن جَازَ عَطْفُ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ بِـ" أَمْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أنتم صامتون} إذا لوضع لِلْمُعَادَلَةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوْقَعَ الِاسْمِيَّةَ مَوْقِعَ الْفِعْلِيَّةِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى "أَصَمَتُّمْ" فَمَا الْمَانِعُ هُنَا وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ من الحي} عَطْفًا عَلَى {يُخْرِجُ} لِأَنَّ الِاسْمَ فِي تَأْوِيلِ الفعل والتحقق مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهُ عَطَفَ عَلَى: {فَالِقُ الحب والنوى} ، ولا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى {يُخْرِجُ} لِأَنَّهُ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ {فَالِقُ الْحَبِّ} فَيُعْطَفُ عَلَى تَفْسِيرِهِ بَلْ هُوَ قَسِيمٌ لَهُ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ إِلَى أَقْسَامٍ عَطْفٍ عَلَى اللَّفْظِ وَعَطْفٍ عَلَى الْمَوْضِعِ وَعَطْفٍ عَلَى التَّوَهُّمِ فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ مَوْجُودٍ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى اللَّفْظِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا ذَاهِبٍ وَهُوَ الْأَصْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ لَمْ يُوجَدْ في المعطوف إلا أنه مقدر الْوُجُودِ لِوُجُودِ طَالِبِهِ فَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَوْضِعِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا ذَاهِبًا بِنَصْبِ ذَاهِبًا عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ قَائِمٍ لِأَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة} بِأَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ هذه ذكره الفارسي وقوله: {ومن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طغيانهم يعمهون} فِي قِرَاءَةِ الْجَزْمِ إِنَّهُ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ {فَلَا هَادِيَ لَهُ} وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى} إِنَّ بُشْرَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ لِيُنْذِرَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَغَلَطَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَالْمَحَلُّ لَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَرُّ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ وَإِنَّمَا النَّصْبُ نَاشِئٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سكنا والشمس} كَوْنَ الشَّمْسِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ اللَّيْلِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ لَمْ يُوجَدْ هُوَ وَلَا طَالِبُهُ هُوَ الْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا وَلَا ذَاهِبٍ بِجَرِّ ذَاهِبٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ الْمَنْصُوبِ بِاعْتِبَارِ جره بالباء ولو دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَالْجَرُّ عَلَى مَفْقُودٍ وَعَامِلِهِ وَهُوَ الْبَاءُ مَفْقُودٌ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ مُتَوَهَّمُ الْوُجُودِ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِ فِي خَبَرِ لَيْسَ فَلَمَّا تُوُهِّمَ وجوده صح اعتبار مثله وهذا قليل من كَلَامِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَلَكِنْ جَوَّزَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وعليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 خَرَّجَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} كَأَنَّهُ قِيلَ أَصْدُقَ وَأَكُنْ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ أَيْ مَحَلِّ "أَصَّدَّقَ" وَالتَّحْقِيقُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: هُوَ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْفَاءَ لَمْ يُنْطَقْ بِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ شَنَّعَ الْقَوْلَ بِهَذَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى النَّحْوِيِّينَ وَقَالَ كَيْفَ يَجُوزُ التَّوَهُّمُ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ بِمُرَادِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّوَهُّمِ الْغَلَطَ بَلْ تَنْزِيلَ الْمَوْجُودِ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصَّدَّقَ} لِيُبْنَى عَلَى ذَلِكَ مَا يُقْصَدُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فيمن فَتَحَ الْبَاءَ كَأَنَّهُ قِيلَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة: مشأيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها وقد يجيء اسم آخَرُ وَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ربه} ثم قال {أو كالذي} عَطْفُ الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِ" إِلَى" حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَى الَّذِي فِي مَعْنَى أَرَأَيْتَ كَالَّذِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قوله تعالى {وحفظا من كل شيطان} أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 {إنا زينا السماء الدنيا} وَهُوَ إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ: إِنَّهُ عَطْفُ مَعْنَى {لَعَلِّي أَبْلُغُ} وَهُوَ لَعَلِّي أَنْ أَبْلُغَ فَإِنَّ خَبَرَ لَعَلَّ يَقْتَرِنُ بِـ" أَنْ" كَثِيرًا الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ وَقَدْ يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ وَقَدْ سَبَقَ إِفْرَادُهُ بِنَوْعٍ فِي فُصُولِ التَّأْكِيدِ الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ يَجُوزُ فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْمُخَاطَبَيْنِ إِذَا طَالَتْ قَالَ زَيْدٌ قَالَ عَمْرٌو مِنْ غَيْرِ أَنْ تَأْتِيَ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا من المغرب} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قال رب السماوات والأرض} وَنَظَائِرُهَا وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 يَسْتَدْعِي التَّأَخُّرَ مِنْهُمَا فَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ مَبْنِيًّا عَلَى الِانْفِصَالِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُسْتَأْنَفًا ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ الذِّهْنُ يُلَائِمُ بَيْنَهُمَا الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ الْعَطْفُ عَلَى الْمُضْمَرِ إِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا مَرْفُوعًا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ فَاصِلِ تَأْكِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ يراكم هو وقبيله} {فاذهب أنت وربك فقاتلا} {اسكن أنت وزوجك الجنة} عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ فِي جَعْلِهِ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِتَقْدِيرِ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ وَقَوْلِهِ: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} {يدخلونها ومن صلح} {فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} وجعل الزمخشري منه {إنا لمبعوثون أو آباؤنا} فِيمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَجَعَلَ الْفَصْلَ بِالْهَمْزَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} وَأَعْرَبَ ابْنُ الدَّهَّانِ {وَلَا آبَاؤُنَا} مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ {أشركوا} مقدرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْعَطْفَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ كَقَوْلِهِ تعالى {والذين هادوا والصابئون} فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} فَقَالَ الْفَارِسِيُّ {وَهُوَ} مُبْتَدَأٌ وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى ضَمِيرٍ {فَاسْتَوَى} وَإِنْ كَانَ مَجْرُورًا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ الْجَارِّ فِيهِ نَحْوُ مَرَرْتُ بِهِ وَبِزَيْدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تحملون} {فقال لها وللأرض} {جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ومنك ومن نوح} فَإِنْ جَعَلْنَا {وَمِنْ نُوحٍ} مَعْطُوفًا عَلَى {مِنْكَ} فَالْإِعَادَةُ لَازِمَةٌ وَإِنْ جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى {النَّبِيِّينَ} فَجَائِزَةٌ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا تَلْزَمُ الْإِعَادَةُ مُحْتَجِّينَ بِآيَاتٍ: الْأُولَى: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءلون به والأرحام} بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي {بِهِ} فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْخَفْضُ عَلَى الْعَطْفِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رقيبا} قُلْنَا: رَدَّهُ الزَّجَّاجُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ الثانية: قوله تعالى: {فيها معايش ومن لستم له برازقين} {ومن لستم} أو لها الْمَانِعُونَ كَابْنِ الدَّهَّانِ بِتَقْدِيرِ وَيَرْزُقُ مَنْ لَسْتُمْ وَالزَّجَّاجُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي مَنْ لَسْتُمْ قَالَ أَبُو البقاء لأن المعنى أغناكم وأغنى مَنْ لَسْتُمْ وَقَدَّمَ أَنَّهَا نَصْبٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 بِـ {جَعَلْنَا} قَالَ وَالْمُرَادُ بِـ "مَنْ" الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ وَالْبَهَائِمُ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِهَا الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تعالى {وكفر به والمسجد الحرام} وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ {الْمَسْجِدَ} مَعْطُوفٌ عَلَى {سَبِيلِ اللَّهِ} فِي قَوْلِهِ {وَصَدٌّ عَنْ سبيل الله} ويدل لذلك أنه صَرَّحَ بِنِسْبَةِ الصَّدِّ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِ {أن صدوكم عن المسجد الحرام} وَهَذَا الْوَجْهُ حَسَنٌ لَوْلَا مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الفصل بين {صد} و {المسجد} بقوله {وكفر} وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ معطوف على {الشهر} لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ وَلَا عَلَى {سَبِيلِ} لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَصْدَرِ وَلَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَصْدَرِ قَبْلَ تَمَامِهِ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك} قَالُوا الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِـ "مَنْ" عَلَى الْكَافِ الْمَجْرُورَةِ وَالتَّقْدِيرُ حَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ وَرُدَّ بِأَنَّ الواو للمصاحبة ومن في محل نصب عطف عَلَى الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ *فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ* الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذكرا} كَمَا تَقُولُ كَذِكْرِ قُرَيْشٍ آبَاءَهُمْ أَوْ قَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُمْ ذِكْرًا لَكِنَّ هَذَا عُطِفٌ عَلَى الضمير المخفوض وذلك لا يجوز عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَجَعَلُوهُ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى {ذِكْرِكُمْ} الْمَجْرُورِ بِكَافِ التَّشْبِيهِ تَقْدِيرُهُ أَوْ كَذِكْرِكُمْ أَشَدَّ فَجَعَلَ لِلذِّكْرِ ذِكْرًا مَجَازًا وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَتَابَعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُمَا وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ الْعَطْفُ عَلَى عَامِلَيْنِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا قَاعِدٍ عَمْرٌو عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَا قَاعِدٍ مَعْطُوفًا عَلَى قَائِمٍ وَعَمْرٌو عَلَى زَيْدٍ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَأَجَازَهُ الْأَخْفَشُ محتجا بقوله تعالى {واختلاف الليل والنهار} 2 ثُمَّ قَالَ {آيَاتٍ} بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ {لَآيَاتٍ} الْمَنْصُوبِ بِ إِنَّ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَ {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى {السماوات} 4 الْمَجْرُورِ بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ فِي فَقَدْ وُجِدَ الْعَطْفُ عَلَى عَامِلَيْنِ وَأُجِيبُ بِجَعْلِ {آيَاتٍ} تأكيد لِ آيَاتٍ الْأُولَى قَوَاعِدُ فِي الْعَدَدِ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْعَدَدِ لَهُ اسْتِعْمَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَهَذَا يُضَافُ لِلْعَدَدِ الْمُوَافِقِ لَهُ نَحْوُ رَابِعِ أَرْبَعَةٍ وَخَامِسِ خَمْسَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِضَافَةُ خِلَافًا لِثَعْلَبٍ فَإِنَّهُ أَجَازَ ثَالِثٌ ثَلَاثَةٍ بِالتَّنْوِينِ قَالَ تَعَالَى {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وهذا لايجوز إِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة} الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَهَذَا يُضَافُ إِلَى الْعَدَدِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي اللَّفْظِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْهُ بِوَاحِدٍ كَقَوْلِكَ ثَالِثُ اثْنَيْنِ وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ وَخَامِسُ أَرْبَعَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} أَيْ يُصَيِّرُهُمْ بِعِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ أَرْبَعَةً وَخَمْسَةً فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ بَدَأَ بِالثَّلَاثِ وَهَلَّا جَاءَ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ ثَانِيهِ وَلَا اثْنَيْنِ إِلَّا هُوَ ثَالِثُهُمْ قِيلَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ عِبَادِهِ كَفَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَادَّعَى أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَلَوْ قَالَ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ ثَانِيهِ لَثَارَتْ ضَلَالَةٌ مِنْ كُفْرٍ بِاللَّهِ وَجَعْلِهِ ثَانِيًا وَقَالَ وَهَذَا قَوْلُ اللَّهِ هَكَذَا وَلَوْ قَالَ وَلَا اثْنَيْنِ إِلَّا هُوَ ثَالِثُهُمْ لَتَمَسَّكَ بِهِ الْكُفَّارُ فَعَدَلَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذلك ولا أكثر} فَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِالتَّلْوِيحِ لَا بِالتَّصْرِيحِ فَدَخَلَ تَحْتَهُ مَالَا يَتَنَاهَى وَهَذَا مِنْ بَعْضِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ حَقُّ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْعَدَدُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ أَوِ اسْمَ جَمْعٍ وَحِينَئِذٍ فَيُجَرُّ بِـ "مَنْ" نَحْوُ {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} ويجوز إضافته نحو {تسعة رهط} وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْجُمُوعِ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ عَلَى مِثَالِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنَ التَّكْسِيرِ وَعِلَّتُهُ أَنَّ الْمُضَافَ مَوْضُوعٌ لِلْقِلَّةِ فَتَلْزَمُ إِضَافَتُهُ إِلَى جَمْعِ قِلَّةٍ طَلَبًا لِمُنَاسَبَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 الْمُضَافَ فِي الْقِلَّةِ لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ عَلَى حَسَبِ الْمُفَسَّرِ فَتَقُولُ ثَلَاثَةُ أَفْلُسٍ وَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ قَالَ تعالى {من بعده سبعة أبحر} وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} فَإِنَّ قُرُوءَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى الثَّلَاثَةِ وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْقَاعِدَةِ لَقَالَ أَقْرَاءٌ وَالْجَوَابُ: مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أُوثِرَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ هُنَا لِأَنَّ بِنَاءَ الْقِلَّةِ شَاذٌّ فَإِنَّهُ جَمْعُ قَرْءٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَجَمْعُ فَعْلٍ عَلَى أفعال شاذ فَجَمَعُوهُ عَلَى فُعُولٍ إِيثَارًا لِلْفَصِيحِ فَأَشْبَهَ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا جَمْعَ كَثْرَةٍ فَإِنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ كَثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَالثَّانِي: أن القلة بالنسبة إلى كل واحد مِنَ الْمُطْلَقَاتِ وَإِنَّمَا أَضَافَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ نَظَرًا إِلَى كَثْرَةِ الْمُتَرَبِّصَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةً حَكَاهُ فِي الْبَسِيطِ عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قُرُوءٌ الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِضَافَةَ نَعْتٌ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ أَيْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ كَمَا أَجَازَ الْمُبَرِّدُ ثَلَاثَةَ حَمِيرٍ وَثَلَاثَةَ كِلَابٍ عَلَى إِرَادَةِ "مِنْ" أَيْ مِنْ حَمِيرٍ وَمِنْ كِلَابٍ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصٌ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْمَجَازِ فِي إِطْلَاقِ الْكُلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْعَدَدِ وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٍ شَرِيفَةً الْأُولَى: قَوْلُهُ تعالى: {تلك عشرة كاملة} وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّأْكِيدَ هُنَا لَيْسَ لِدَفْعِ نُقْصَانِ أَصْلِ الْعَدَدِ بَلْ لِدَفْعِ نُقْصَانِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْفَاقِدَ لِلْهُدَى لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما} وَلَوْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصًا لَمَا دَخَلَهَا الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَامًّا وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّجَوُّزَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَلْفِ فَإِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْمُبَالَغَةِ لِلتَّكْثِيرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ رَفَعَ ذَلِكَ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثنين} وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ التَّأْكِيدِ الْجَوَابُ عَنْهُ الرَّابِعَةُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وقوله {سبعون ذراعا} قَالُوا الْمُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ وَخُصُوصُ السَّبْعِينَ لَيْسَ مُرَادًا وَهَذَا مَجَازٌ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {ثُمَّ ارجع البصر كرتين} قِيلَ الْمُرَادُ الْمُرَاجَعَةُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَجِيءَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصْلِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ مجاز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 أحكام الألفاظ يكثر دورانها في القرآن لفظ "فعل" من ذَلِكَ لَفْظُ "فَعَلَ" كَثِيرًا مَا يَجِيءُ كِنَايَةً عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَفَائِدَتُهُ الِاخْتِصَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لبئس ما كانوا يفعلون} {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} وقوله: {فإن لم تفعلوا} أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَحَيْثُ أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} لفظ كَانَ وَمِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ أو صفاته بِـ" كَانَ" وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُفِيدُ الِانْقِطَاعَ لِأَنَّهَا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وَالثَّانِي: لَا تُفِيدُهُ بَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ مُعْطٍ فِي أَلْفِيَّتِهِ حَيْثُ قَالَ *وَكَانَ لِلْمَاضِي الَّذِي مَا انْقَطَعَا* وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كفورا} نَبَّهَ بِقَوْلِهِ كَانَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُنْذُ أُوْجِدَ مُنْطَوِيًا عَلَى الْكُفْرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ سَابِقٍ وَلَا عَلَى انْقِطَاعِ طَارِئٍ وَمِنْهُ قوله تعالى {وكان الله غفورا رحيما} قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أخرجت للناس} وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّهَا حيث وقعت في صفات الله فَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مَقَالَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَأَنَّهَا تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِالزَّمَنِ الْمَاضِي لَا غَيْرَ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا نَفْسِهَا عَلَى انْقِطَاعِ ذلك المعنى ولا بقائه بل إن أفاد الْكَلَامِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لِدَلِيلٍ آخَرَ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَدَ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ كَانَ كَثِيرًا نَحْوُ {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عليما} {واسعا حكيما} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 {غفورا رحيما} {توابا رحيما} {وكنا بكل شيء عالمين} {وكنا لحكمهم شاهدين} فحيث وقع الإخبار بـ "كان" عَنْ صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِهَا وَأَنَّهَا لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهُ وَلِهَذَا يُقَرِّرُهَا بَعْضُهُمْ بما زَالَ فِرَارًا مِمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ إِنْ كَانَ يُفِيدُ انْقِطَاعَ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ الْوُجُودِ لِقَوْلِهِمْ دَخَلَ فِي خَبَرِ كَانَ قَالُوا فَكَانَ وَمَا زَالَ مَجَازَانِ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ مَجَازًا بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَزَلِيَّةِ الصِّفَةِ ثُمَّ تَسْتَفِيدُ بَقَاءَهَا فِي الْحَالِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَكَيْفَ تَدُلُّ كَانَ الزَّمَانِيَّةُ عَلَى أَزَلِيَّةِ صِفَاتِهِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ؟ وَثَانِيهُمَا: مَدْلُولُ كَانَ اقْتِرَانُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ اقْتِرَانًا مُطْلَقًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِغْرَاقِهِ الزَّمَانَ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّمَانَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَهُوَ مُرُورُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَوْ مِقْدَارُ حَرَكَةِ الْفَلَكِ عَلَى مَا قِيلَ فِيهِ وَتَقْدِيرِيٌّ وَهُوَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بكرة وعشيا} ولا بكرة هنا وَلَا عَشِيًّا وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانٌ تَقْدِيرِيٌّ فَرْضِيٌّ وكذلك قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيام} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 مَعَ أَنَّ الْأَيَّامَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بوجود السموات وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَيَّامٍ تَقْدِيرِيَّةٍ وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ كَانَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَفْرَادِ الْأَزْمِنَةِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ فَإِمَّا أَلَّا يَتَعَلَّقَ مَضْمُونُهَا بِزَمَانٍ فَيُعَطَّلَ أَوْ يُعَلَّقَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ زَمَانٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَحَيْثُ وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ فَالْمُرَادُ تَارَةً الْإِخْبَارُ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْأَزَلِ نَحْوَ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا وَرَازِقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا وَتَارَةً تَحْقِيقُ نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ نَحْوَ: {وَكُنَّا فاعلين} وَتَارَةً ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ وَإِنْشَاؤُهُ نَحْوَ {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} فَإِنَّ الْإِرْثَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ فَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا فِيهِمْ غَرِيزَةٌ وَطَبِيعَةٌ مَرْكُوزَةٌ فِي نَفْسِهِ نَحْوُ {وكان الأنسان عجولا} {إنه كان ظلوما جهولا} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} أي خلق على هذه الصفة وهي مُقَدَّرَةٌ أَوْ بِالْقُوَّةِ ثُمَّ تَخَرَّجَ إِلَى الْفِعْلِ وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ أَفْعَالِهِمْ دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ نَحْوَ {إِنَّهُمْ كَانُوا يسارعون في الخيرات} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحِكَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم بلفظ كان يصوم وكنا نَفْعَلُ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يُفِيدُ الدَّوَامَ فَإِنْ عَارَضَهُ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّوَامِ مِثْلَ أَنْ يُرْوَى كَانَ يَمْسَحُ مَرَّةً ثُمَّ نُقِلَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا فَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَإِنْ رُوِيَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ تَعَارَضَا وَقَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: إِذَا اسْتُعْمِلَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاضِي فَهَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاتِّصَالَ أو لَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا فَهَلْ هُوَ الْآنَ قَائِمٌ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ ضَرُورَةً وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جَعْلِهَا لِلدَّوَامِ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غفورا رحيما} وقوله {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} وَهَذَا عِنْدَنَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ هَلْ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَالْمَعْنَى أَيْ قَدْ كَانَ عِنْدَكُمْ فَاحِشَةً وَكُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ فِيهِ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: فِي أَمَالِيهِ اخْتُلِفَ فِي كَانَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ {وَكَانَ اللَّهُ عزيزا حكيما} عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى لَمْ يَزَلْ كَأَنَّ الْقَوْمَ شَاهَدُوا عِزًّا وَحِكْمَةً وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فَقِيلَ لَهُمْ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ كَذَلِكَ قَالَ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ فَإِذَا كَانَ فِعْلًا مُتَطَاوِلًا لَمْ يَدُلَّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّهُ زَالَ وَانْقَطَعَ كَقَوْلِكَ كَانَ فُلَانٌ صَدِيقِي لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ صَدَاقَتَهُ قَدْ زَالَتْ بَلْ يَجُوزُ بَقَاؤُهَا وَيَجُوزُ زَوَالُهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لكم عدوا مبينا} لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ بَاقِيَةٌ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَأَمَّا فِي الزَّمَنِ الْحَاضِرِ فَقَدْ يَكُونُ بَاقِيًا مُسْتَمِرًّا وَقَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رحيما} وَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ قَالَ السِّيرَافِيُّ: قَدْ يَرْجِعُ الِانْقِطَاعُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَغْفُورِ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُغْفَرُ لَهُ وَلَا مَنْ يُرْحَمُ فَتَنْقَطِعَ الْمَغْفِرَةُ والرحمة وكذا: {وكان الله عليما حكيما} وَمَعْنَاهُ الِانْقِطَاعُ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ لَا نَفْسَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ مَا مَعْنَاهُ إِنَّ" كَانَ" تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصْفِ وَقِدَمِهِ وَمَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ فَلَاحٍ الْيَمَنِيُّ فِي كِتَابِ الْكَافِي: قَدْ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ كَقَوْلِهِ {وَكَانَ الله غفورا رحيما} {وكان الله سميعا بصيرا} {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} دَلَّتْ عَلَى الدَّوَامِ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَدَوَامِ التَّعَبُّدِ بِالصِّفَاتِ وَقَدْ تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ نَحْوَ كَانَ هَذَا الْفَقِيرُ غَنِيًّا وَكَانَ لِي مَالٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ كَانَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: بِمَعْنَى الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وكان الله عليما حكيما} وَبِمَعْنَى الْمُضِيِّ الْمُنْقَطِعِ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تسعة رهط} وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مَعَانِي كَانَ كَمَا تَقُولُ كَانَ زَيْدٌ صَالِحًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُ وَبِمَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خير أمة} وَقَوْلِهِ {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا موقوتا} وَبِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شره مستطيرا} وبمعنى صار كقوله: {وكان من الكافرين} مسألة في حكم "كان" إذا وقعت بعد "إن" كَانَ فِعْلٌ مَاضٍ وَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ إِنْ كَانَتْ فِي الْمَعْنَى لِلِاسْتِقْبَالِ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ تَبْقَى عَلَى الْمُضِيِّ لِتَجَرُّدِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ فَلَا يُغَيِّرُهَا أَدَاةُ الشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قلته} {إن كان قميصه} وَهَذَا ضَعِيفٌ لِبِنَائِهِ عَلَى أَنَّهَا لِلزَّمَانِ وَحْدَهُ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ مَعَ إِنْ للاستقبال قال تعالى {إن كنتم صادقين} وأما {إن كنت قلته} فَتَأَوَّلَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ أَكُنْ قُلْتُهُ وَكَذَا {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إِنْ يَكُنْ قميصه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 مسألة في نفي كان وأخواتها إِذَا نُفِيَتْ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَزَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا إِذَا نُفِيَتْ كَانَ اسْمُهَا مُثْبَتًا وَالْخَبَرُ مَنْفِيًّا قَالَ لِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ما كان حجتهم إلا أن قالوا} فَالْقَوْلُ مُثَبَتٌ وَالْحُجَّةُ هِيَ الْمَنْفِيَّةُ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ لَازِمٍ إِذْ قَدْ قُرِئَ مَا كَانَ حُجَّتُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ وَلَكِنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ كَانَ مُلْغَاةٌ أَيْ زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ مَا حُجَّتُهُمْ إِلَّا وَهَذَا إِنْ ساغ له هاهنا فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} فَإِنَّهُ قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هنا ملغاة لفظ جَعَلَ وَمِنْ ذَلِكَ جَعَلَ وَهِيَ أَحَدُ الْأَفْعَالِ المشتركة التي هي أمهات أحداث وهي فعل وعمل وجعل وطفق وأنشأ وأقبل وَأَعَمُّهَا فَعَلَ يَقَعُ عَلَى الْقَوْلِ وَالْهَمِّ وَغَيْرِهِمَا {ويفعلون ما يؤمرون} ودونه عمل لأنه يعم النِّيَّةَ وَالْهَمَّ وَالْعَزْمَ وَالْقَوْلَ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عملوا من عمل} أي من صلاة وصدقة وجهاد ولجعل أحوال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 أَحَدُهَا: بِمَعْنَى سَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عضين} أَيْ سَمَّوْهُ كَذِبًا وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هم عباد الرحمن إناثا} عَلَى قَوْلٍ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثى} الثاني: بمعنى المقاربة مثل كاد وطفق لَكِنَّهَا تُفِيدُ مُلَابَسَةَ الْفِعْلِ وَالشُّرُوعَ فِيهِ تَقُولُ جَعَلَ يَقُولُ وَجَعَلَ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا شَرَعَ فِيهِ الثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ فَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ كقوله تعالى {وجعل الظلمات والنور} أَيْ خَلَقَهُمَا فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَعْلِ وَالْخَلْقِ؟ قِيلَ: إِنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ وَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمَخْلُوقُ وَأَيْضًا، فَالْخَلْقُ يَكُونُ عَنْ عَدَمٍ سَابِقٍ حَيْثُ لَا يتقدم مادة لا سَبَبٌ مَحْسُوسٌ وَالْجَعْلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْجُودٍ مُغَايِرٍ لِلْمَجْعُولِ يَكُونُ مِنْهُ الْمَجْعُولُ أَوْ عَنْهُ كَالْمَادَّةِ وَالسَّبَبِ وَلَا يَرِدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ جَعَلَ فِي الْأَكْثَرِ مُرَادًا بِهِ الْخَلْقُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ قَبْلَهُ مَا يَكُونُ عَنْهُ أَوْ منه أو شيئا فيه محسوسا عنه يكون ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ الثَّانِيَ بِخِلَافِ خَلَقَ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَقَعُ كَثِيرًا بِهِ عَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُودَهُ وُجُودٌ مُغَايِرٌ يَكُونُ عَنْهُ هَذَا الثَّانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وجعل الظلمات والنور} وَإِنَّمَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ عَنْ أَجْرَامٍ تُوجَدُ بِوُجُودِهَا وَتُعْدَمُ بِعَدَمِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وجعل فيها رواسي} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وَقَالَ {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تركبون} وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {وَجَعَلَ مِنْهَا زوجها} وفي سورة النساء: {وخلق منها زوجها} فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ الْمُتَرَادِفَيْنِ الرَّابِعُ: بِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالتَّصْيِيرِ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِمَّا حِسًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} {والله جعل لكم الأرض بساطا} {فجعلهم جذاذا} {وجعلناهم أئمة} {وجعلناكم أكثر نفيرا} وَإِمَّا عَقْلًا مِثْلَ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} {جاعل الملائكة رسلا} ونحو قوله {اجعل هذا البلد آمنا} وقوله {وجعلنا الليل لباسا} لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَيْئَيْنِ الْمَنْقُولِ وَهُوَ اللَّيْلُ وَالْمَنْقُولِ إِلَيْهِ وَهُوَ اللِّبَاسُ وَأَبْيَنُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} {جعلنا عاليها سافلها} {وجعلنا نومكم سباتا} والمعاش في قوله: {وجعلنا النهار معاشا} اسْمُ زَمَانٍ لِكَوْنِ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَيَجُوزُ أن يكون مصدر لِمَعْنَى الْمَعِيشِ {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وَمَعْنَاهُ صَيَّرْنَاهُ لِأَنَّ مَرْيَمَ إِنَّمَا صَارَتْ مَعَ وَلَدِهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خُلِقَ مِنْ جَسَدِهَا لا من أب فصار عِنْدَ ذَلِكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَمُحَالٌ أَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 يُرِيدُ خَلَقْنَاهُمَا لِأَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تُخْلَقْ فِي حِينِ خَلْقِ وَلَدِهَا بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَمُحَالٌ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودًا فِي حَالِ بَقَائِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عربيا} ،فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ أَيْ صَيَّرْنَاهُ يُقْرَأُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ لِأَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ عِبْرِيٌّ وَسُرْيَانِيٌّ وَلِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وإنه لفي زبر الأولين} {إن هذا لفي الصحف الأولى} وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْمَعْنَى وَالْفَارِسِيَّةُ تُؤَدِّي الْمَعْنَى وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَكَأَنَّهُ نَقَلَ الْمَعْنَى مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَصَيَّرَهُ عَرَبِيًّا وَأَخْطَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ جَعَلَهُ بِالْخَلْقِ وَهُوَ مَرْدُودٌ صِنَاعَةً وَمَعْنًى أَمَّا الصِّنَاعَةُ فَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ وَتَعْدِيَتُهُ لِمَفْعُولَيْنِ وَإِنِ احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى لَكِنْ بِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ أَوِ التَّصْيِيرِ عَلَى مَا سَبَقَ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقْنَا التِّلَاوَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي حُدُوثِ مَا يَقُومُ بِأَلْسِنَتِنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ وَقَالَتِ: الْقَدَرِيَّةُ إِنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ أَوْجَدَهُ بَعْدَ عَدَمِهِ وَأَحْدَثَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ عِنْدَ حُدُوثِهِ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى تأويله ليس فيها تضمن لِعَقِيدَتِهِ الْبَاطِلَةِ وَقَالَ: الْآمِدِيُّ فِي أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ الْجَعْلُ فِيهِ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جعلوا القرآن عضين} أَيْ يُسَمُّونَهُ كَذِبًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْجَعْلَ عَلَى بَابِهِ وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ دُونَ مَدْلُولِهَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ إِذْنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى فِي الْقُرْآنِ" أَيْ بِالْقِرَاءَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاعِدَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ وَتَارَةً يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فَإِنْ تَعَدَّى لِوَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَأَمَّا إذا تعدى لاثنين فيجيء بمعنى الخلق كقوله تعالى {وجعلنا الليل والنهار آيتين} وَبِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} {الذين جعلوا القرآن عضين} وَيَجِيءُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مريم وأمه آية} أي صيرناهما إذا علمت هذا فإذن ثَبَتَ أَنَّ الْجَعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لِاثْنَيْنِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْخَلْقِ بَلْ يَحْتَمِلُ الْخَلْقَ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ تَعَلُّقٌ لِلْقَدَرِيَّةِ عَلَى خَلْقِ القرآن لأن الدليل لابد أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ عَلَى مَعْنَى جَعَلْنَا التِّلَاوَةَ عَرَبِيَّةً قُلْتُ: وَهَذَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَهُ وَإِنْ جَوَّزْنَا حُدُوثَ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ عَنِ السَّلَفِ بَلْ نَقُولُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْخَامِسُ: بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لله شركاء الجن} {ويجعلون لله ما يكرهون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عباد الرحمن إناثا} أَيِ اعْتَقَدُوهُمْ إِنَاثًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَبْلَهُ وَوَجْهُ النَّقْلِ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسُوا إِنَاثًا فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ نَقَلُوهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ فَصَيَّرُوهُمْ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ إِنَاثًا وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فلا تجعلوا لله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَلَا تَعْتَقِدُوهَا لِأَنَّهُمْ مَا سَمَّوْهَا حَتَّى اعْتَقَدُوهَا وَكَذَلِكَ: {الذين جعلوا القرآن عضين} أي سموه وجزؤوه أَجْزَاءً فَجَعَلُوا بَعْضَهُ شِعْرًا وَبَعْضَهُ سِحْرًا وَبَعْضَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ} إنها بمعنى ....... وقوله: {أجعلتم سقاية الحاج} أَيِ اعْتَقَدْتُمْ هَذَا مِثْلَ هَذَا فَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأرض} ،فَالنَّقْلُ وَالتَّصْيِيرُ رَاجِعَانِ إِلَى الْحَالِ أَيْ لَا تَجْعَلْ حَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ حَالِ هَؤُلَاءِ وَلَا تَنْقِلْهَا إِلَيْهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شركاء خلقوا كخلقه} أَيِ اعْتَقَدُوا لَهُ شُرَكَاءَ السَّادِسُ: بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَالْحَقُّ كَقَوْلِهِ {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 وَالْبَاطِلُ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث} الْآيَةَ وَبِمَعْنَى أَوْجَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كنت عليها} أَيْ أَوْجَبْنَا الِاسْتِقْبَالَ إِلَيْهَا وَكَقَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ الله من بحيرة} ، {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} وَمَعْنَى كُنْتُ عَلَيْهَا أَيْ أَنْتَ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ {كنتم خير أمة أخرجت للناس} أي أأنتم السَّابِعُ: ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ بِمَعْنَى أَلْقَى فَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا فِي قَوْلِكِ جَعَلْتَ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَمِثْلُهُ قوله: {وجعل فيها رواسي} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بعض} وبعضه بَدَلٌ مِنَ الْخَبِيثِ وَقَوْلُهُ عَلَى بَعْضٍ أَيْ فَوْقَ بَعْضٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أَيْ أَلْقَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَّلَ فِيهَا الْمُرَادَ بِخَلْقِ الْجِبَالِ وَأَبَانَ إِنْعَامَهُ فَقَالَ {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تميد بكم} فَائِدَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} قِيلَ كَيْفَ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْجَعْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 هُنَا مَعَ أَنَّ الْمَجْعُولَ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ قَبْلَ الْجَعْلِ مَعَ صِفَةِ الْمَجْعُولِ كَقَوْلِكَ جَعَلْتُ زَيْدًا قَائِمًا فَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ الْقِيَامِ وَهُنَا لَمْ يُوجَدِ الْجَعْلُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْجَعْلِ فِيهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّيْلَ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ السَّوَادُ وَالنَّهَارُ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ النُّورُ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ جِسْمٌ قَامَ بِهِ ضَوْءٌ وَالْأَجْسَامُ وَالْجَوَاهِرُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالذَّاتِ وَالْعَرَبُ تُرَاعِي مِثْلَ هَذَا نَقَلَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُمْ قَالُوا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَكَسَوْتُكَ فَجَعَلُوا الْإِحْسَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ بِدَلِيلِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَقَدُّمٌ ذَاتِيٌّ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ فِي الْخَارِجِ هُوَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْسَانَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ بَلْ مَعْنًى يَقُومُ بِالنَّفْسِ ينشأ عَنْهُ الْكِسْوَةُ حَسِبَ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَحَيْثُ جَاءَ بعدها أن الفعل كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} {أم حسبتم أن تتركوا} وَنَظَائِرُهُ فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَالثَّانِي عِنْدَهُ مُقَدَّرٌ وَيَشْهَدُ لِسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ كَلَامِهِمْ نُطْقٌ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ لَنَطَقُوا بِهِ وَلَوْ مَرَّةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 كَادَ وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِثْبَاتَهَا إِثْبَاتٌ وَنَفْيَهَا نَفْيٌ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُفِيدُ الدَّلَالَةَ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ بِعُسْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ جِنِّي وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِثْبَاتَهَا نَفْيٌ وَنَفْيَهَا إِثْبَاتٌ فَإِذَا قِيلَ كَادَ يَفْعَلُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وإن كادوا ليفتنونك} وَإِذَا قِيلَ لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فعله بدليل قوله {وما كادوا يفعلون} وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ فِي النَّفْيِ بَيْنَ الْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي فَنَفْيُ الْمُضَارِعِ نَفْيٌ وَنَفْيُ الْمَاضِي إِثْبَاتٌ بِدَلِيلٍ {فذبحوها وما كادوا يفعلون} وقوله {لم يكد يراها} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ وَقَالَ إِنَّهُ الصَّحِيحُ وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْمُقَارَبَةُ فَمَعْنَى كَادَ يَفْعَلُ قَارَبَ الْفِعْلَ وَمَعْنَى مَا كَادَ يَفْعَلُ لَمْ يُقَارِبْهُ فَخَبَرُهَا مَنْفِيٌّ دَائِمًا أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً فَوَاضِحٌ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَتْ مُقَارَبَةُ الْفِعْلِ اقْتَضَى عَقْلًا عَدَمَ حُصُولِهِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا أخرج يده لم يكد يراها} وَلِهَذَا كَانَ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَرَهَا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرَ قَدْ يُقَارِبُ الرُّؤْيَةَ وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُقَارَبَةُ مَنْفِيَّةً فَلِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِقُرْبِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي عُرْفًا عَدَمَ حُصُولِهِ وَإِلَّا لَمْ يَتَّجِهِ الْإِخْبَارُ بِقُرْبِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فذبحوها وما كادوا يفعلون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 فَإِنَّهَا مَنْفِيَّةٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْفِعْلِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ {فَذَبَحُوهَا} وَوَجْهُهُ أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا بُعَدَاءَ مِنْ ذَبْحِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَنُّتِهِمْ وَحُصُولُ الْفِعْلِ إِنَّمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ {فَذَبَحُوهَا} وَالْأَقْرَبُ أَنْ يقال: إن النفي وارد على الإثبات وَالْمَعْنَى هُنَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ الذَّبْحَ قَبْلَ ذلك لأنهم قالوا {أتتخذنا هزوا} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئا قليلا} فَالْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَوْلَا الِامْتَنَاعِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مُقَارَبَةُ الرُّكُونِ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ وُجُودِ التَّثْبِيتِ لِيَنْتَفِيَ الْكَثِيرُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ كَادَ الْمُقْتَضِيَةُ الْمُقَارَبَةَ لِلْفِعْلِ بقدر الظاهرة للتقليل كُلُّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَكَادُ يَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قليلا للتثبيت مع ما جبلت عليه وهكذا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَغَيْرِهِ فَهُمْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ بِمَعْزِلٍ وَحَكَى الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرَرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَكَدْ يراها} الْأَوَّلُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِعُسْرٍ أَيْ رَأَهَا بَعْدَ عُسْرٍ وَبُطْءٍ لِتَكَاثُفِ الظُّلَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وَالثَّانِي: أَنَّهَا زَائِدَةٌ وَالْكَلَامُ عَلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَيْ لَمْ يَرَهَا أصلا لأن الله تعالى قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بعضها فوق بعض} كان مقتضى هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَحُولُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ النَّظَرِ إِلَى الْبَدَنِ وَسَائِرِ الْمَنَاظِرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى أراد من قوله {كدنا ليوسف} أَيْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرَاهَا وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} مُمْتَحِنًا لِبَصَرِهِ لم يكد يخرجها ويراها صِفَةٌ لِلظُّلُمَاتِ تَقْدِيرُهُ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ يَرَاهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أكاد أخفيها لتجزى} فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى أُرِيدُ أُخْفِيهَا لِكَيْ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِسَعْيِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {آتِيَةٌ أَكَادُ} وَالْمَعْنَى أَكَادُ آتِي بِهَا ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى} وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَكَادُ أَخْفِيهَا بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا يُقَالُ أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ وَإِذَا أَظْهَرْتُهُ وَقِرَاءَةُ الضَّمِّ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَقِرَاءَةُ الْفَتْحِ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِظْهَارِ وَمَعْنَى سَتَرْتُهَا لِأَجْلِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا أَخْفَى وَقْتَهَا قَوِيَتِ الدَّوَاعِي عَلَى التَّأَهُّبِ لَهَا خَوْفَ الْمَجِيءِ بَغْتَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وأما قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء} فَلَمْ يُثْبِتْ لِلزَّيْتِ الضَّوْءَ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الْمُقَارَبَةَ مِنَ الضَّوْءِ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ ثُمَّ أَثْبَتَ النُّورَ بِقَوْلِهِ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النُّورَ دُونَ الضَّوْءِ لَا نَفْسُهُ فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكَادُ يُضِيءُ مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ فَيُعْطِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ مِسَاسَ النَّارِ لَا يُضِيءُ وَلَكِنْ يُقَارِبُ الْإِضَاءَةَ لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْمِسَاسِ يُضِيءُ قَطْعًا أُجِيبُ بِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَالِ أَيْ يَكَادُ يُضِيءُ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَوْ مَسَّتْهُ لَأَضَاءَ قَطْعًا قَاعِدَةٌ في مجيء كاد بمعنى أراد تجيء كَادَ بِمَعْنَى أَرَادَ وَمِنْهُ {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} {أكاد أخفيها} وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي يكاد قاعدة فعل المطاوعة فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ هُوَ الْوَاقِعُ مُسَبَّبًا عَنْ سَبَبٍ اقْتَضَاهُ نَحْوَ كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْخُلَاصَةِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى قَبُولِ مَفْعُولٍ لِأَثَرِ الْفَاعِلِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُطَاوِعَ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ لِقَوْلِكِ كَسَرْتُ الشَّيْءَ يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ مُعَالَجَتِكِ فِي إِيْصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَإِذَا قُلْتَ فَانْكَسَرَ عُلِمَ أَنَّهُ قَبِلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 الفعل وإذا قلت لم ينكسر على أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَأَمَّا الْمُطَاوَعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَيَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ الْفَاعِلِ فِي إِيصَالِ فِعْلِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ قَبِلَ الْفِعْلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره أن المطاوع والمطاوع لابد وأن يشتركا في أصل المعنى والفرق بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ التَّأَثُّرِ وَالتَّأْثِيرِ كَالْكَسْرِ وَالِانْكِسَارِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْمُطَاوَعَةِ إِلَّا حُصُولُ فِعْلٍ عَنْ فِعْلٍ فَالثَّانِي مُطَاوِعٌ لِأَنَّهُ طَاوَعَ الْأَوَّلَ وَالْأَوَّلُ مُطَاوَعٌ لِأَنَّهُ طَاوَعَهُ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمُطَاوَعُ لَازِمًا لِلْمُطَاوِعِ وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى على الهدى} فَأَثْبَتَ الْهُدَى بِدُونِ الِاهْتِدَاءِ وَقَوْلُهُ: أَمَرْتُهُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ فَأَثْبَتَ الْأَمْرَ بِدُونِ الِائْتِمَارِ وَأَيْضًا فَاشْتِرَاطُ الْمُوَافَقَةِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ أَمَرْتُهُ فَأْتَمَرَ أَيِ امْتَثَلَ فَإِنَّ الِامْتِثَالَ خِلَافُ الطَّلَبِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِـ {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} الْهَدْيَ الْحَقِيقِيَّ بَلْ أَوْصَلْنَا إِلَيْهِمْ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ مِنْ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الِاهْتِدَاءِ وَأَمَّا الْأَمْرُ فَيَقْتَضِيهِ لُغَةً أَلَّا يَثْبُتَ إِلَّا بِالِامْتِثَالِ وَالِائْتِمَارِ وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: الِائْتِمَارُ مِنَ الْأَضْدَادِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي الْأَسَاسِ يُقَالُ أَمَرْتُهُ فَائْتَمَرَ وَأَبَى أَنْ يَأْتَمِرَ أَيْ أَمَرْتُهُ فَاسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْتَمِرِ الْمُمْتَثِلُ وَيُقَالُ عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ فِعْلٌ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْعِلْمِ لِإِيجَادِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ لَمَا صَحَّ عَلَّمْتُهُ فَعَلِمَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعْلِيمُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْعِلْمِ وَهُوَ عِلَّةٌ فِيهِ فَمَعْلُولُهُ وَهُوَ التَّعَلُّمُ يُوجَدُ مَعَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِنَا فَتَعَلَّمَ تَقْتَضِي تَعَقُّبَ الْعِلْمِ وَإِنْ قُلْنَا الْمَعْلُولُ يَتَأَخَّرُ فَلَا فَائِدَةَ فِي فَتَعَلَّمَ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ قَدْ فُهِمَ مِنْ عَلَّمْتُهُ فَوَضَحَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ لَكَانَ إِمَّا أَلَّا يَصِحَّ عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ أَوْ لا تكون فِي قَوْلِنَا فَتَعَلَّمَ فَائِدَةٌ بِتَأَخُّرِ الْمَعْلُولِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ مَنَعُوا كَسَرْتُهُ فَمَا انْكَسَرَ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ قَوْلِهِمْ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ؟ قِيلَ: فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْقَلْبِ مِنَ اللَّهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْمُعَلِّمِ وَمِنَ الْمُتَعَلِّمِ وَكَانَ عِلْمُهُ مَوْضُوعًا لِلْجَزَاءِ الَّذِي مِنَ الْمُعَلِّمِ فَقَطْ لِعَدَمِ إِمْكَانِ فِعْلٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ وَلَا بُدَّ بِخِلَافِ الْكَسْرِ فَإِنْ آثَرَهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْكِسَارِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْمُطَاوَعَةُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ تَقُولُ دَعَوْتُهُ فَأَجَابَ وَأَعْطَيْتُهُ فَأَخَذَ وَلَا تَقُولُهَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْمُرَادَ إِفَادَةُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المهتدي} وَيَجُوزُ عَطْفُهُ بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} وكقوله: {فاستجبنا له ونجيناه} وفي موضع آخر: {فاستجبنا له فنجيناه} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ إِلَّا بِالْفَاءِ وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قلبه عن ذكرنا} ،بِأَنَّ أَغْفَلَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى وَجَدْنَاهُ غَافِلًا لَا جَعَلْنَاهُ يَغْفُلُ وَإِلَّا لَقِيلَ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَاوِعًا وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ اتِّبَاعُ الْهَوَى مُطَاوِعًا لِـ "أَغْفَلْنَا" بَلِ الْمُطَاوِعُ لِـ "أَغْفَلْنَا" غَفَلَ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْغَفْلَةِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالْمُسَبَّبُ عَنِ السَّبَبِ سَبَبٌ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُسَبَّبٌ عَنِ الْغَفْلَةِ بَلْ قَدْ يُغْفَلُ عَنِ الذِّكْرِ وَلَا يُتَّبَعُ الْهَوَى وَيَكُونُ الْمَانِعُ لَهُ مِنْهُ غَفْلَةً أُخْرَى عَنْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي الْفَتْحِ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ اعْتِقَادُهُ الِاعْتِزَالِيُّ أَنَّ مَعْصِيَةَ الْعَبْدِ لَا تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا مُسَبَّبَةٌ لَهُ فَلِهَذَا جَعَلَ أَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى وَجَدَ لَا بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ كَلَامِهِ وَأَنَّ الْمُطَاوِعَ لَا يَجِبْ عَطْفُهُ بِالْفَاءِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسليمان علما وقالا الحمد لله} هَذَا مَوْضِعُ الْفَاءِ كَمَا يُقَالُ أَعْطَيْتُهُ فَشَكَرَ وَمَنَعْتُهُ فَصَبَرَ وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا قَالَاهُ بَعْضُ مَا أَحْدَثَ فِيهِمَا إِيتَاءُ الْعِلْمِ فَأَضْمَرَ ذَلِكَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالتَّحْمِيدِ كَأَنَّهُ قَالَ فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ وَعَرَفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةِ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا صَنَعَ بِهِمَا وَعَمَّا قَالَا كَأَنَّهُ قَالَ نَحْنُ فَعَلْنَا إِيتَاءَ الْعِلْمِ وَهُمَا فَعَلَا الْحَمْدَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَقَوْلِكَ قُمْ يَدْعُوكَ بَدَلَ قُمْ فَإِنَّهُ يدعوك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ التَّعْلِيمِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْبُطِ الْفِعْلَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يقل واتقوا الله يعلمكم وَلَا قَالَ فَيُعَلِّمْكُمُ اللَّهُ وَإِنَّمَا أَتَى بِوَاوِ الْعَطْفِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِلثَّانِي وَإِنَّمَا غَايَتُهُ الِاقْتِرَانُ وَالتَّلَازُمُ كَمَا يُقَالُ زُرْنِي وَأَزُورُكَ وَسَلِّمْ عَلَيْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَقْتَضِي اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ وَالتَّعَارُضَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدٌ لِسَيِّدِهِ أَعْتِقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طلقني ولك أَلْفٌ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَتَّى عَلَّمَ اللَّهُ الْعِلْمَ النَّافِعَ اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِحَسَبِ ذَلِكَ وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلُهُ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ الله تواب رحيم} وَوَجْهُ هَذَا الْخِتَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الاغتياب وهو من الظلم وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ هَلْ يَسْتَدْعِي مُطَاوَعَةً أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يهد الله فهو المهتدي} فَأَخْبَرَ عَنْ كُلِّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يهتدي وأما قوله {وأما ثمود فهديناهم} فَلَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ فِيهِ الدَّعْوَةُ بدليل {فاستحبوا العمى على الهدى} وَالثَّانِي: لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} وَقَوْلِهِ {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} لِأَنَّ التَّخْوِيفَ حَصَلَ وَلَمْ يَحْصُلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 لِلْكُفَّارِ خَوْفٌ نَافِعٌ يَصْرِفُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ الْمُطَاوِعُ لِلتَّخْوِيفِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فِي الزَّمَانِ وَيَكُونُ أَخْرَجْتُهُ فما خرج حقيقة فائدة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يخشاها} قالوا في قوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} إِنَّ التَّقْدِيرَ مُنْذِرُ إِنْذَارًا نَافِعًا مَنْ يَخْشَاهَا قال الشيخ عز الدين ولا حاجة إِلَى هَذَا لِأَنَّ فَعَلَ وَأَفْعَلَ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُطَاوَعَةٌ كَخَوْفٍ وَعِلْمٍ وَشِبْهِهِ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً لِأَنَّ خَوْفٌ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الخوف وعلم إذا لم يحصل العلم كان مجازا ومنذر مَنْ يَخْشَاهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَهُوَ الْخَشْيَةُ فيكون حقيقة لمن يخشاها فإذا لَيْسَ مُنْذِرًا مَنْ لَمْ يَخْشَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرٌ فَعَلَى هَذَا {إِنَّمَا أَنْتَ منذر} فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَخْشَى دُونَ مَنْ لَمْ يَخْشَ احْتِمَالُ الْفِعْلِ لِلْجَزْمِ وَالنَّصْبِ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظالمين} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ مَجْزُومًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَإِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَانَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ فَيَكُونُ قَدْ نَهَى عَنِ الظُّلْمِ كَمَا نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ فكأنه قال {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْتُمُوا مَجْزُومًا فَهُوَ مُشْتَرِكٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَرْفِ النَّهْيِ وَالتَّقْدِيرُ لَا تَلْبِسُوا وَلَا تَكْتُمُوا أَيْ لَا تَفْعَلُوا هَذَا كَمَا فِي قَوْلِكَ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ بِالْجَزْمِ أَيْ لَا تَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَالتَّقْدِيرُ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ وَيَكُونُ مِثْلَ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ وَالْمَعْنَى لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ لَقِيتَهُ أَمَا كَفَاكَ أَحَدُهُمَا حَتَّى جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ فِي هَذَا إِبَاحَةُ أَحَدِهِمَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَقَوْلُهُ {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فريضة} ،أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمَسُّ أو الفرض الْمُسْتَلْزِمُ لِعَدَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْكُمُ الْجُنَاحُ وهو المهر أو نصف المفروض وتفرضوا مجزوم عطفا على تمسوهن وقيل: نصب وأو بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ لَمْ بَعْدَ أَوْ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِذْ يُؤَوَّلُ إِلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَسِّ مَعَ الْفَرْضِ وَعَدَمِهِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْفَرْضِ مَعَ الْمَسِّ وَعَدَمِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا يُقَدَّرُ فِيمَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا لِلُزُومِ نَفْيِ الْجُنَاحِ عِنْدَ نَفْيِ أَحَدِهِمَا وَوُجُودِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ وَانْسِحَابِ حُكْمِ لَمْ عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كفورا} وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحكام} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} وَالْوَجْهُ الْجَزْمُ وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ به الله} الآية وقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النساء كرها ولا تعضلوهن} وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فتنقلبوا خاسرين} وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فتكونا من الظالمين} وقوله في الأنفال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا} وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يروا العذاب الأليم} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى {لِيُضِلُّوا عَنْ سبيلك} فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ وَأَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وتكونوا من بعده} وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كان عاقبة الذين من قبلهم} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ: {ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لدن حكيم خبير ألا تعبدوا} أي بأن لا تعبدوا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَيَجُوزُ جَزْمُهُ لِأَنَّهُ نَهْيٌ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بما صددتم} يجوز عطف {وتذوقوا} على {تخذوا} أَوْ {فَتَزِلَّ} قَبْلَ دُخُولِ الْفَاءِ فَيَكُونُ مَجْزُومًا وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تعبدوا إلا إياه} أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا أَوْ عَلَى نَهْيٍ وَفِيهَا {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحق} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم} وَقَوْلُهُ فِي الْحَجِّ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسم الله} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ وَفَائِدَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} فِيمَنْ كَسَرَ اللَّامَاتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وَقَوْلُهُ فِي النَّمْلِ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مسلمين} أَيْ بِإِنْ أَوْ نَهْيٌ وَقَوْلُهُ فِي الْعَنْكَبُوتِ {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا} وَفِي فَاطِرٍ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} وفي يس {ليأكلوا من ثمره} هَلْ هِيَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ وَفِي الْمُؤْمِنِ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} وَفِي فُصِّلَتْ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} وفي الأحقاف {ألا تعبدوا إلا الله} وَفِي الْقِتَالِ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّصْبِ ظُهُورُهُ فِي مِثْلِهِ {فتكون لهم قلوب} وقوله {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} وقوله {ألا تطغوا في الميزان} أَيْ لِئَلَّا أَوْ مَجْزُومٌ وَقَوْلُهُ {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يكونوا لكم أعداء} وقوله {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} فَإِنَّ {يَعْتَذِرُونَ} دَاخِلٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي النَّفْيِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} فَإِنْ كَانَ النُّطْقُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالِاعْتِذَارُ نُطْقٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 {ولا يؤذن لهم} وَلَوْ حُمِلَ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ أَيْ فَهُمْ يَعْتَذِرُونَ لَجَازَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي لَا يَنْطِقُونَ أَنَّهُمْ وَإِنْ نَطَقُوا فَمَنْطِقُهُمْ كَلَا نُطْقٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الَّذِي أَرَادُوهُ كَقَوْلِهِمْ تَكَلَّمْتَ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ وَقَوْلُهُ {فَلَوْ أَنَّ لنا كرة} وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا قَوْلًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبي} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامَ كَيْ وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ أَوْ لَامَ الْأَمْرِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ وَقَوْلُهُ {أَتَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَمَنْ نَصَبَ {وَيَذَرَكَ} عَطَفَهُ عَلَى {لِيُفْسِدُوا} رَأَى إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ أَوْ عِلْمِيَّةً تَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ وَحَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَصْرِيَّةِ مَنْصُوبًا كَانَ الْأَوَّلُ مَفْعُولَهَا وَالثَّانِي حَالًا وَمِمَّا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سكارى وما هم بسكارى} ،فَإِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً كَانَ النَّاسُ مَفْعُولًا وَسُكَارَى حَالًا وَإِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً فَهُمَا مَفْعُولَاهَا وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية} وقوله {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وجوههم مسودة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 فهذه الجملة أعني قوله {وجوههم مسودة} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ كَانَتْ قَلْبِيَّةً وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ: {ألم يروا كم أهلكنا} ،فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا فِي الْأَنْعَامِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَاءِ {أفلم يروا} وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَّصِلَ بِمَا كَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فَيُذْكَرُ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَلِتَدُلَّ الْأَلْفُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ عَلَى عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلِهَا وَكَذَلِكَ الْفَاءُ لَكِنَّهَا أَشَدُّ اتِّصَالًا مِمَّا قَبْلَهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّصِلَ بِمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَلِفِ دُونَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ لِيَجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِئْنَافِ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ فِي النحل {ألم يروا إلى الطير} لِاتِّصَالِهَا بِقَوْلِهِ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وَسَبِيلُهَا الِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَبُنِيَ عَلَيْهِ {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} وَأَمَّا أَرَأَيْتَ فَبِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا إِلَّا الشَّرْطُ وَبَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أخذ الله سمعكم} الْآيَةَ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 وقوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين} وَأَمَّا رَأَيْتَ الْوَاقِعَةُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فَهِيَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يَلْجَئُونَ فِيهَا وَجَوَابُهَا أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا كَيْفَ يَكُونُ كَذَا بِمَعْنَى عَدَمِ الشَّرْطِ ثُمَّ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ عَلَى نَمَطِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ،فَدَخَلَهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَلَمْ تَعْجَبْ إلى كذا فتعدت بـ "إلى" كَأَنَّهُ أَلَمْ تَنْظُرْ وَدَخَلَتْ"إِلَى" بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَعُلِّقَ الْفِعْلُ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَيْسَتْ بِبَدَلٍ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُعَلَّقُ وَأَمَّا أَرَأَيْتُكَ فَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ لَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ عَلَامَتَيْ خِطَابٍ وَهُمَا التَّاءُ وَالْكَافُ وَالتَّاءُ اسْمٌ بِخِلَافِ الْكَافِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ حَرْفٌ يُفِيدُ الْخِطَابَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى مَبْنَاهَا عَلَيْهِ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَهُوَ ذِكْرُ الِاسْتِبْعَادِ بِالْهَلَاكِ وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِخِطَابٍ وَاحِدٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْإِتْيَانُ بِأَدَاةِ الْخِطَابِ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُفِيدِ لِذَلِكَ تَأْكِيدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 بِاسْتِحْكَامِ غَفْلَتِهِ كَمَا تَحَرَّكَ النَّائِمُ بِالْيَدِ وَالْمُفْرِطُ الْغَفْلَةِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَلِهَذَا حُذِفَتِ الْكَافُ فِي آيَةِ يُونُسَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهَا ذِكْرُ صَمَمٍ وَلَا بَكَمٍ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْخِطَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا قَوْلُهُ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} إِلَى مَا بَعْدَهُنَّ فَحَصَلَ تَحْرِيكُهُمْ وَتَنْبِيهُهُمْ بِمَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إِلَّا التَّذْكِيرُ بِعَذَابِهِمْ انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كرمت علي} قال البصريون هذه الكاف زائدة زيدت لمعنى المخاطبة قال محمد بن يزيد وكذلك رويدك زيدا قال والدليل على ذلك أنك إذا قلت أرأيتك زيدا فإنما هي أرأيت زيدا لأن الْكَافُ لَوْ كَانَتِ اسْمًا اسْتَحَالَ أَنْ تُعَدَّى أرأيت إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ يُرِيدُ قَوْلَهُمْ أرأيت زيدا قائما لا يعدي رأيت إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ هُوَ زَيْدٌ وَمَفْعُولٍ آخَرَ هُوَ قَائِمٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ جَعَلَ الْأَدَاةَ الْمُؤَكَّدَ بِهَا الْخِطَابُ فِي أرأيتكم ضمير لَمْ يَلْزَمْهُ اعْتِرَاضٌ بِتَعَدِّي فِعْلِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي بَابِ الظَّنِّ وَفِي فِعْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَابِ ظننت وهما فقدت وعدمت وَكَذَلِكَ تَعَدِّي فِعْلِ الظَّاهِرِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ جَائِزٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ بَابِ الظَّنِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ "رَأَيْتُ" رُؤْيَةَ الْقَلْبِ فَهِيَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ مُطْلَقًا تعدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 فِعْلِ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى ظَاهِرِهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِي مَنْعِ هَذَا مِنْ كُلِّ الْأَفْعَالِ وَأَمَّا مَنْ جَرَّدَ أَدَاةَ الْخِطَابِ الْمُؤَكَّدِ بِهَا لِلْحَرْفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْكَافِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَقْوَالٍ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا مَوْضِعَ لها وقال السكاكي: موضعها نصب وقال الفراء: رفع إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَهَا مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى اسم مفرد أو جملة شرط كقوله {أرأيت إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} الْآيَةَ وَلَا يَقَعُ الشَّرْطُ إِلَّا مَاضِيًا لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِـ" أَرَأَيْتُكَ" وَجَوَابُ الشَّرْطِ إِمَّا مَحْذُوفٌ للعلم به وإما للاستفهام مع عامله وَإِذَا ثُنِّيَ هَذَا أَوْ جُمِعَ لَحِقَتْ بِالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ الْكَافُ وَكَانَتِ التَّاءُ مُفْرَدَةً بِكُلِّ حَالٍ قَالَ السِّيرَافِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُهُمْ لِلتَّاءِ اسْتِغْنَاءً بِتَثْنِيَةِ الْكَافِ وَجَمْعِهَا لِأَنَّهَا لِلْخِطَابِ وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَغَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمْتُ وَالثَّانِي: تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى انْتَبِهْ كَقَوْلِكَ أَرَأَيْتَ زَيْدًا فَإِنِّي أُحِبُّهُ أَيِ انْتَبِهْ لَهُ فَإِنِّي أُحِبُّهُ وَلَا يلزمه الاستفهام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وَقَدْ يُحْذَفُ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ لِلْعِلْمِ به فلا يذكر كقوله تعالى {قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بالله} فَلَمْ يَأْتِ بِجَوَابٍ وَأَتَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْجَوَابِ وَلَمْ يَأْتِ بِالشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة فمن يهديه} فَـ" مَنْ" الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ "الَّذِي" تَنْبِيهٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ أَرَأَيْتَ كَمَا يُلْغَى: عَلِمْتُ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي أَرَأَيْتَ وَلَا بُدَّ مِنَ النَّصْبِ إذا قلت أرأيت زيد أَبُو مَنْ هُوَ؟ قَالَ: لِأَنَّ دُخُولَ مَعْنَى أَخْبِرْنِي فِيهَا لَا يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَخْبِرْنِي فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي خِلَافَ قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ مُلْغَاةٌ لأن الاستفهام مطلوبها وعليه وقع فِي قَوْلِهِ {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يعلم} فَقَوْلُهُ {أَلَمْ يَعْلَمْ} اسْتِفْهَامٌ وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ أَرَأَيْتَ وكذلك أرأيتم وأرأيتكم فِي الْأَنْعَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ وَاقِعٌ بَعْدَهَا نَحْوَ {هَلْ يهلك إلا القوم الظالمون} و {الفاسقون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَ سِيبَوَيْهِ فِي أَرَأَيْتَ وأرأيتك وَلَا يُقَالُ أَرَأَيْتَكَ أَبُو مَنْ أَنْتَ قَالَ لكن الذي قال سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ لَكِنْ إِذَا وَلِيَ الِاسْتِفْهَامُ أَرَأَيْتَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَفْعُولٌ سِوَى الْجُمْلَةِ وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي التَّنْزِيلِ فَلَيْسَتِ الجملة المستفهم عنها هي مفعول أرأيت ولم يكن لها مفعول مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ وَلَا بُدَّ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا كَمَا تَقُولُ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتَ الْعَدُوَّ أَتُقَاتِلُ أَمْ لَا تَقْدِيرُهُ أَرَأَيْتَ رَأْيَكَ وَصُنْعَكَ إِنْ لَقِيتَ العدو فحذف الشَّرْطِ وَهُوَ إِنَّ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ وَمُرْتَبِطٌ بِهِ وَالْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُنْقَطِعٌ إِلَّا أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَلَوْ زَالَ الشَّرْطُ وَوَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ لقبح كما قال سيبويه وغيره فِي عَلِمْتَ وَهَلْ عَلِمْتَ وَهَلْ رَأَيْتَ وَإِنَّمَا يتجه مَعَ أَرَأَيْتَ خَاصَّةً وَهِيَ الَّتِي دَخَلَهَا مَعْنَى أَخْبِرْنِي عَلِمَ الْعَرَفَانِيَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَعَانِي نحو: {لا تعلمون شيئا} فَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نعلمهم} وَقَوْلِهِ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فَالتَّقْدِيرُ لَا تَعْلَمُ خَبَرَهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُ خَبَرَهُمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ صِدْقَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ نِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْيَقِينِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الظَّنِّ أَيْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} وله أن يقول: العلم على حقيقته. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ اللِّسَانِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 ظَنَّ أَصْلُهَا لِلِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ ظنا أن يقيما} وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لِأَنَّ الظَّنَّ فِيهِ طَرَفٌ مِنَ الْيَقِينِ لَوْلَاهُ كَانَ جَهْلًا كَقَوْلِهِ تعالى {يظنون أنهم ملاقو ربهم} {إني ظننت أني ملاق} {وظن أنه الفراق} {ألا يظن أولئك} وَلِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ ضَابِطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ فَهُوَ الشَّكُّ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بَعْدَهُ "أَنْ" الْخَفِيفَةُ فَهُوَ شَكٌّ كَقَوْلِهِ {إِنْ ظنا أن يقيما حدود الله} وَقَوْلِهِ {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ} وَكُلُّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حسابيه} {وظن أنه الفراق} وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةَ لِلتَّأْكِيدِ فَدَخَلَتْ عَلَى الْيَقِينِ وَأَنَّ الْخَفِيفَةَ بِخِلَافِهَا فَدَخَلَتْ فِي الشَّكِّ مِثَالُ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضعفا} ذكر بِـ" أَنَّ" وَقَوْلُهُ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الله} ومثال الثاني: {وحسبوا ألا تكون فتنة} وَالْحُسْبَانُ الشَّكُّ فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ من الله إلا إليه} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 قيل: لأنها اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ فَتَمَسَّكْ بِهَذَا الضَّابِطِ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ ثُمَّ رَأَيْتُ الرَّاغِبَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الظَّنُّ أَعَمُّ أَلْفَاظِ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا حَصَلَ عَنْ أَمَارَةٍ فَمَتَى قَوِيَتْ أَدَّتْ إِلَى الْعِلْمِ وَمَتَى ضَعُفَتْ جِدًّا لَمْ تَتَجَاوَزْ حَدَّ الْوَهْمِ وَأَنَّهُ مَتَى قوي استعمل فيه أن المشددة وأن الْمُخَفَّفَةُ مِنْهَا وَمَتَى ضَعُفَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ إِنْ المختصة بالمعدومين من الفعل نَحْوُ ظَنَنْتُ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْ يَخْرُجَ فَالظَّنُّ إِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَحْمُودٌ وَإِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَمَذْمُومٌ فَمِنَ الْأَوَّلِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنهم ملاقو ربهم} ومن الثاني: {إن هم إلا يظنون} وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئا} فَائِدَةٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِي بَابِ ظَنَّ عَلَى أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بضنين} قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالظَّاءِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالضَّمِيرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالضَّادِ وَهُوَ بِمَعْنَى فاعل وفيه ضمير هو فاعله والمعنى بخيل عَلَى الْغَيْبِ فَلَا يَمْنَعُهُ كَمَا تَفْعَلُهُ الْكُهَّانُ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ عَلَى الْغَيْبِ لِأَنَّهُ الصَّادِقُ وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظنونا} فإنها بمنزلتها في قولك نزلت بزيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 شَعَرَ وَمِنْهُ شَعَرَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَمَصْدَرُهُ شِعْرَةٌ بِكَسْرِ الشِّينِ كَالْفِطْنَةِ وَقَالُوا لَيْتَ شِعْرِي فَحَذَفُوا التَّاءَ مَعَ الْإِضَافَةِ لِلْكَثْرَةِ قَالَ الْفَارِسِيُّ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّعَارِ وَهُوَ مَا يَلِي الْجَسَدَ فَكَأَنَّ شَعَرْتُ بِهِ عَلِمْتُهُ عِلْمَ حِسٍّ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: {وَهُمْ لا يشعرون} أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِلْبُعْدِ عَنِ الْفَهْمِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ قَدْ تَشْعُرُ بِحَيْثُ كَانَتْ تُحِسُّ فَكَأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِنِهَايَةِ الذَّهَابِ عَنِ الْفَهْمِ وَعَلَى هَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} إلى قوله {ولكن لا تشعرون} وَلَمْ يَقُلْ لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عَلِمُوا أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ {لَا تَشْعُرُونَ} لِأَنَّهُ ليس كل ما علموه يشعرون به كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمُوهُ يُحِسُّونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ فَلَمَّا كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ بِحَوَاسِّهِمْ حَيَاتَهُمْ وأنهم علموها بإخبار الله وَجَبَ أَنْ يُقَالَ {لَا تَشْعُرُونَ} دُونَ لَا تَعْلَمُونَ عَسَى وَلَعَلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا رَجَاءً وَطَمَعًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ لأن الخلق هم الذين يعرض لَهَمُ الشُّكُوكُ وَالظُّنُونُ وَالْبَارِئُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُمْكِنَةَ لِمَا كَانَ الْخَلْقُ يَشُكُّونَ فِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 وَلَا يَقْطَعُونَ عَلَى الْكَائِنِ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْكَائِنَ مِنْهَا عَلَى الصِّحَّةِ صَارَتْ لَهَا نِسْبَتَانِ: نِسْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تُسَمَّى نِسْبَةَ قَطْعٍ وَيَقِينٍ وَنِسْبَةٌ إِلَى الْمَخْلُوقِ وَتُسَمَّى نِسْبَةَ شَكٍّ وَظَنٍّ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِذَلِكَ تَرِدُ تَارَةً بِلَفْظِ الْقَطْعِ بِحَسَبِ مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يحبهم ويحبونه} وَتَارَةً بِلَفْظِ الشَّكِّ بِحَسَبِ مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ كَقَوْلِهِ {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بالفتح أو أمر من عنده} {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وَقَوْلِهِ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يخشى} وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَرْسَلَهُمَا مَا يُفْضِي إِلَيْهِ حَالُ فِرْعَوْنَ لَكِنْ وَرَدَ اللَّفْظُ بِصُورَةِ مَا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ انْهَضَا إِلَيْهِ وَقُولَا فِي نُفُوسِكُمَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ جَاءَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَالْعَرَبُ قَدْ تُخْرِجُ الْكَلَامَ الْمُتَيَقَّنَ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ لِأَغْرَاضَ فَتَقُولُ لَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يُسْخِطُنِي فَلَعَلَّكَ إِنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ سَتَنْدَمُ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ يَنْدَمُ لَا محالة ولكنه أخرجه مخرج الشك تحرير لِلْمَعْنَى وَمُبَالَغَةً فِيهِ أَيْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لَهُ فَكَيْفَ وَهُوَ كَائِنٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَبِنَحْوٍ مِنْ هَذَا فَسَّرَ الزَّجَّاجُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مسلمين} وأما قوله: {لعلي أبلغ الأسباب} ،فَاطِّلَاعُهُ إِلَى الْإِلَهِ مُسْتَحِيلٌ فَبِجَهْلِهِ اعْتَقَدَ فِي الْمُسْتَحِيلِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ الْجِسْمِيَّةَ والمكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 ونص ابن الدهان في لعل جواز استعماله فِي الْمُسْتَحِيلِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ لَعَلَّ زَمَانًا تَوَلَّى يَعُودُ وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَسَى فَاعِلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَهِيَ وَاجِبَةٌ وَقَالَ قَوْمٌ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ قَالَ تعالى {عسى ربه إن طلقكن} وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ وَلَمْ يُبَدِّلْ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ: {عَسَى ربكم أن يرحمكم} وَهَذِهِ فِي بَنَى النَّضِيرِ وَقَدْ سَبَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَتَلَهُمْ وَأَبَادَهُمْ وَقَالَ أَيْضًا: وَهَذَا عِنْدِي مُتَأَوَّلٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَقْدِيرُهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ يُبْدِلْهُ وَمَا فَعَلَ فَهَذَا شَرْطٌ يَقَعُ فِيهِ الْجَزَاءُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَالثَّانِي تَقْدِيرُهُ إِنْ عُدْتُمْ رَحِمَكُمْ وَهُمْ أَصَرُّوا وَعَسَى عَلَى بَابِهَا قَالَ: وَعَسَى مَاضِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ طمع وذلك حصل فِي شَيْءٍ مُسْتَقْبَلٍ وَقَالَ: قَوْمٌ مَاضِي اللَّفْظِ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَمَعٍ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ وَاعْلَمْ أَنَّ عَسَى تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْفَعُ اسْمًا صَرِيحًا وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِخَبَرٍ وَيَلْزَمُ كَوْنُهُ فِعْلًا مُضَارِعًا نَحْوُ عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ فَلَا يَجُوزُ قَائِمًا لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَعَسَى الله أن يأتي بالفتح} فيكون أن والفعل في موضع نصب بـ" عسى" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَرْفُوعُ بِهَا أَنْ وَالْفِعْلُ وَهُوَ عَسَى أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ فَلَا يَفْتَقِرُ هنا إلى منصوب ونظيره: {وحسبوا ألا تكون فتنة} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاما محمودا} لَا يَجُوزُ رَفْعُ رَبِّكِ بِـ "عَسَى" لِئَلَّا يَلْزَمَ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ رَبُّكَ لِأَنَّ مَقَامًا مَحْمُودًا مَنْصُوبٌ بِـ" يَبْعَثَكَ" وَكَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خير لكم} لِأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُتَّصِلَانِ بِـ" تَكْرَهُوا" وَ"تُحِبُّوا" فلا يكون في عسى ضمير اتخذ قال تعالى: {لو شئت لتخذت عليه أجرا} قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ تَخِذْتُ يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ وَقِيلَ: أَصْلُ اتَّخَذْتُ تَخِذْتُ فَأَمَّا اتخذت فعلى ثلاثة أضرب: أحدهما: ما يتعدى به إلى مفعول واحد كقوله تعالى: {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} {أم اتخذ مما يخلق بنات} {واتخذوا من دونه آلهة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا} {كمثل العنكبوت اتخذت بيتا} وَالثَّانِي: مَا يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ وَالثَّانِي مِنْهُمَا الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى وَهُمَا إِمَّا مَذْكُورَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتخذوا أيمانهم جنة} وقال: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} {فاتخذتموهم سخريا} وَإِمَّا مَعَ حَذْفِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} ،فَمَفْعُولُ اتَّخَذُوا الْأَوَّلُ، الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الرَّاجِعُ إِلَى الذين الثاني آلهة وقربانا عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْكَوَاشِيُّ وَلَوْ نُصِبَ قُرْبَانًا مفعولا ثانيا وآلهته بَدَلًا مِنْهُ فَسَدَ الْمَعْنَى وَإِمَّا مَعَ حَذْفِ الثاني، كقوله: {اتخذتم العجل} {اتخاذكم العجل} {اتخذوه وكانوا ظالمين} {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عجلا جسدا} ، تَقْدِيرُهُ فِي الْجَمِيعِ اتَّخَذُوهُ آلِهَةً لِأَنَّ نَفْسَ اقْتِنَاءِ الْعِجْلِ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فَيَتَعَيَّنُ تقدير آلهة الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 فَإِنْ جَوَّزْنَا زِيَادَةَ مَنْ فِي الْإِيجَابِ كَانَ مِنَ الْمُتَعَدِّي لِاثْنَيْنِ وَإِنْ مَنَعْنَا كَانَ لِوَاحِدٍ ونظيره جعلت قال {وجعل الظلمات والنور} ،أَيْ خَلَقَهُمَا فَإِذَا تَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ كَانَ الثَّانِي الأول في المعنى كقوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة} {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} أَخَذَ تَجِيءُ بِمَعْنَى غَصَبَ وَمِنْهُ مَنْ أَخَذَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَبِمَعْنَى عَاقَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أخذه أليم شديد} {أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وَ {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} {ايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} وَتَجِيءُ لِلْمُقَارَبَةِ، قَالُوا: أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا كَمَا قَالُوا جَعَلَ يَقُولُ وَكَرَبَ يَقُولُ وَتَجِيءُ قَبْلَ القسم كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} {وإذ أخذنا ميثاقكم} وَبِمَعْنَى اعْمَلْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بقوة} أَيِ اعْمَلُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَانْتَهُوا عَمَّا نهيتهم عنه بجد واجتهاد سأل تتعدى لمفعوليين كَأَعْطَى وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ قَدْ تتعدى بِغَيْرِ حَرْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وليسألوا ما أنفقوا} {فاسألوا أهل الذكر} وقد تتعدى بِالْحَرْفِ إِمَّا بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقع} وإما بـ "عن" كَقَوْلِكِ: سَلْ عَنْ زَيْدٍ وَكَذَا {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القرية} وَالْمُتَعَدِّيَةُ لِمَفْعُولَيْنِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَعْطَيْتُ كَقَوْلِكَ سَأَلْتُ زَيْدًا بَعْدَ عَمْرٍو حَقًّا أَيِ اسْتَعْطَيْتُهُ أَوْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وَالثَّانِي: بِمَنْزِلَةِ: اخْتَرْتُ الرِّجَالَ زَيْدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا يسأل حميم حميما} ،أي عن حميم لذهوله عنه والثاني: أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ الثَّانِي مِنْهُمَا اسْتِفْهَامٌ كَقَوْلِهِ تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم} {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، فالمعنىسأل: سَائِلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمُسْلِمِينَ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ فَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ وَسُؤَالُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْجَالُهُمْ لَهُ كَاسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ وَلِرَدِّهِمْ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنْهُ وَعَلَى هَذَا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ من قبلهم المثلات} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" مِنْ" فِيهِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَأَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا وَالصِّفَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حفي عنها} فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَنْهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالسُّؤَالِ كَأَنَّهُ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا فَحَذَفَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فَحَسُنَ ذَلِكَ لِطُولِ الْكَلَامِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: {عنها} بمنزلة بها وتتصل بالحفاوة وعد فعل يتعدى لمفعوليين يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَأَعْطَيْتُهُ وَلَيْسَ كَظَنَنْتُ، قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 تعالى: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} فَـ "جَانِبَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ أَيْ وَعُدْنَاكُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ مُكْثًا فِيهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} فَالْغَنِيمَةُ تَكُونُ الْغُنْمَ فَإِنْ قُلْتَ: الْغُنْمُ حَدَثٌ لَا يُؤْخَذُ إِنَّمَا يَقَعُ الْأَخْذُ عَلَى الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَعَانِي قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ كَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ أَوْ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ أَيْ تَمْلِيكُ مَغَانِمَ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وَقَوْلُهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنهم} فَإِنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ إِلَى مَفْعُولٍ ثان ولكن قوله: {ليستخلفنهم} ولهم: {مَغْفِرَةٌ} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثيين} تبيين للوصية في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حسنا} {إن الله وعدكم وعد الحق} ،فَيُحْتَمَلُ انْتِصَابُ الْوَاحِدِ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَسُمِّيَ الْمَوْعُودُ بِهِ الْوَعْدَ كَالْمَخْلُوقِ الْخَلْقَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وَ {إِحْدَى} فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ ثَانٍ وَ {أَنَّهَا لَكُمْ} بَدَلٌ مِنْهُ أَيْ إِتْيَانَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ تَمْلِيكَهُ وَالطَّائِفَتَانِ الْعِيرُ وَالنَّصْرُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ} فَمَنْ قَدَّرَ فِي أَنَّ الثَّانِيَةَ الْبَدَلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ مَحْذُوفًا لِيَتِمَّ الْكَلَامُ فَيَصِحُّ الْبَدَلُ وَالتَّقْدِيرُ أَيَعِدُكُمْ إِرَادَةَ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ لِيَكُونَ اسْمُ الزَّمَانِ خَبَرًا عَنِ الْحَدَثِ وَمَنْ قَدَّرَ فِي الثَّانِيَةِ الْبَدَلَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِلنَّكِرَةِ وَقَدْ عَادَ الضَّمِيرُ فِيهَا إِلَى الْمَوْصُوفِ وَالْفِعْلُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثلاثين ليلة} فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ ظَرْفًا لِأَنَّ الْوَعْدَ لَيْسَ فِي كُلِّهَا بَلْ فِي بَعْضِهَا فَيَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا وَدَّ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الأصبهاني بمعنى تمنى يستعمل معها لو وإن وَرُبَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا نَحْوُ وَدُّوا لَوْ أَنْ فَعَلَ وَمَصْدَرُهُ الْوَدَادَةُ وَالِاسْمُ مِنْهُ وُدٌّ وَقَدْ يَتَدَاخَلَانِ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ وَقَالَ الرَّاغِبُ إِذَا كَانَ وَدَّ بِمَعْنَى أَحَبَّ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ لَوْ فِيهِ أَبَدًا وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، إذا كان بمعنى تمنى صلح للمضي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ لَمْ يَصْلُحْ لِلْمَاضِي لِأَنَّ الْإِرَادَةَ هِيَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ وَإِذَا كَانَ لِلْمَاضِي لَمْ يَجُزْ "أَنْ" وَإِذَا كَانَ لِلْحَالِ أَوْ لِلِاسْتِقْبَالِ جَازَ "أَنْ" وَ"لو" وفيما قاله نظرا لِأَنَّ "أَنْ" تُوصَلُ بِالْمَاضِي نَحْوُ سَرَّنِي أَنْ قمت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 قُلْتُ فَكَانَ الْأَحْسَنُ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِكَلَامِهِ وَهُوَ أَنَّهُ جَوَّزَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ دُخُولَ أَنْ وَهِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فِيهِ قَوَاعِدُ الْأُولَى إِذَا أُضِيفَ إِلَى جِنْسِهِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُ كَقَوْلِكَ زِيدٌ أَشْجَعُ الْأُسُودِ وَأَجْوَدُ السُّحُبِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى زِيدٌ أَشْجَعُ مِنَ الْأُسُودِ وَأَجْوَدُ مِنَ السُّحُبِ وَعَلَيْهِ قوله تعالى {خير الرازقين} و {أحكم الحاكمين} و {أحسن الخالقين} أَيْ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَسَمَّى بِرَازِقٍ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَسَمَّى بِحَاكِمٍ كَذَا قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السَّعْدِيُّ قَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ الَّذِي تَقَرَّرَ عَنِ الشُّيُوخِ أَنَّ أَفْعَلَ هَذِهِ لَا تُضَافُ إِلَّا وَيَكُونُ الْمُضَافُ بَعْضَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَلَا يُقَالُ هَذَا الْفَرَسُ أَسْبَقُ الْحَمِيرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضَ الْحَمِيرِ وَعَلَى هَذَا بَنَى الْبَصْرِيُّونَ مَنْعَ زَيْدٌ أَفْضَلُ إِخْوَتِهِ وَأَجَازُوا أَفْضَلُ الْإِخْوَةِ إِلَّا إِذَا أُخْرِجَتْ عَنْ مَعْنَاهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ الثَّانِيَةُ إذا ذكر بعد أفعل جنسه وواحد مِنْ آحَادِ جِنْسِهِ وَجَبَ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِكَ زيد أحسن الرجال وأحسن رجل وَإِذَا ذُكِرَ بَعْدَ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَجَبَ نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ نَحْوُ زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا وَأَغْزَرُ عِلْمًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أو أشد خشية} وقوله: {أزكى طعاما} فَقَدْ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ وَانْتَصَبَ وَقَدْ تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا حَتَّى رَجَعُوا بِهِ إِلَى جَعْلِ أَشَدَّ لِغَيْرِ الْخَشْيَةِ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَى: {يخشون الناس كخشية الله} أَيْ مِثْلِ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ مِثْلِ قَوْمٍ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يُحْمَلُ مَا خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ فِيهِ الْأَفْضَلِيَّةُ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ وَأَشْكَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إلا هي أكبر من أختها} لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا مِنْ آيَةٍ مِنَ التِّسْعِ إِلَّا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَاضِلَةً وَمَفْضُوْلَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ الْغَرَضَ وَصْفُهُنَّ بِالْكِبَرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِي الْفَضْلِ التَّفَاوُتَ الْيَسِيرَ أَنْ تَخْتَلِفَ آرَاءُ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ آرَاءُ الْوَاحِدِ فِيهَا كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لَاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْلَى أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا عِنْدَهُمْ وَقْتَ حُصُولِهَا لِأَنَّ لمشاهدة الآية في النفس أثر عَظِيمًا لَيْسَ لِلْغَائِبِ عَنْهَا الرَّابِعَةُ: قَالُوا: لَا يَنْبَنِي مِنَ الْعَاهَاتِ: فَلَا يُقَالُ: مَا أَعْوَرَ هَذِهِ الْفَرَسَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى} فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنَ الضَّلَالَةِ وَهُوَ مَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ لَا مِنْ عَمَى الْبَصَرِ الَّذِي يَحْجُبُ الْمَرْئِيَّاتِ عَنْهُ وَقَدْ صَرَّحَ بِبَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وَعَلَى هَذَا فَالْأَوَّلُ اسْمُ فَاعِلٍ وَالثَّانِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ فَقْدِ الْبَصِيرَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ أَعْمَى فَلَا يَكُونُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْأَوَّلَ، على عَمَى الْقَلْبِ وَالثَّانِي عَلَى فَقْدِ الْبَصِيرَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَمْرٍو فَأَمَالَ الْأَوَّلَ وَتَرَكَ الْإِمَالَةَ فِي الثَّانِي لَمَّا كَانَ اسْمًا وَالِاسْمُ أَبْعَدُ مِنَ الْإِمَالَةِ الْخَامِسَةُ: يَكْثُرُ حَذْفُ الْمَفْضُولِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَكَانَ أَفْعَلُ خَبَرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خير} {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى ألا ترتابوا} {والله أعلم بما وضعت} {وما تخفي صدورهم أكبر} {إنما عند الله هو خير لكم} {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أملا} {أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} وَقَدْ يُحْذَفُ الْمَفْضُولُ وَأَفْعَلُ لَيْسَ بِخَبَرٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {فإنه يعلم السر وأخفى} السادسة: قد يجيء مجردا عن مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَيَكُونُ لِلتَّفْضِيلِ لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ ثُمَّ هُوَ تَارَةً يَجِيءُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرض} وَمُؤَوَّلًا بِصِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} فـ "أعلم" هاهنا بِمَعْنَى عَالِمٌ بِكُمْ إِذْ لَا مُشَارِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَأَهْوَنَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى هَيِّنٍ إِذْ لَا تَفَاوُتَ فِي نِسْبَةِ الْمَقْدُورَاتِ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يُلْقَى في النار خير} وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} أَوْ لَفْظًا لَا مَعْنًى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ أعلم بما يستمعون به} و {نحن أعلم بما يقولون} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ من نفعه} فَمَعْنَاهُ الضَّرَرُ بِعِبَادَتِهِ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ بِهَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: {أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} وَلَا نَفْعَ مِنْ قَبْلِهِ أَلْبَتَّةَ؟ قِيلَ لَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} تَبْعِيدٌ لِنَفْعِهِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 لما لم يصح في اعتقادهم هَذَا بَعِيدٌ جَازَ الْإِخْبَارُ بِـ" بُعْدِ" نَفْعِ الْوَثَنِ وَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ {أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} السَّابِعَةُ: أَفْعَلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مُضَافٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} وَمُعَرَّفٍ بِاللَّامِ، نَحْوُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {ليخرجن الأعز منها الأذل} وَخَالٍ مِنْهُمَا وَيَلْزَمُ اتِّصَالُهُ بِـ" مِنْ" الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ جَارَّةً لِلْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أنا أكثر منك مالا} وَقَدْ يُسْتَغْنَى بِتَقْدِيرِهَا عَنْ ذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأعز نفرا} وَيَكْثُرُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ خَبَرًا كقوله: {والآخرة خير وأبقى} وَحَيْثُ أُضِيفَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى جَمْعٍ مُعَرَّفٍ نَحْوُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ وَلَا أَفْضَلُ رِجَالٍ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ لَا بُدَّ أَنْ يكون جماعة يُفَضِّلُهَا وَإِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ تَقُولَ أَفْضَلُ الرِّجَالِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سافلين} فَجَوَابُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَيْهِ تَقْدِيرًا بَلِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ وَقَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ وَكَأَنَّهُ قال أسفل قوم سافلين ولا خلاف أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى اسْمِ الْجَمْعِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا نحو أفضل الناس والقوم وأفضل ناس أفضل قَوْمٍ فَإِنْ قِيلَ لِمَ أَجَازُوا تَنْكِيرَ هَذَا ولم يجيزوا ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 قُلْتُ: لِأَنَّ أَفْضَلُ الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ بَلْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ فَخَفَّفُوهُ بِتَرْكِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الثَّانِيَةِ إِذَا كَانَ أَفْعَلُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ مُضَافًا جَازَ تَثْنِيَتُهُ وَجَمْعُهُ قَالَ تعالى: {واتبعك الأرذلون} و {بالأخسرين أعمالا} وقال في المفرد {إذ انبعث أشقاها} وقال في الجمع: {أكابر مجرميها} و {إلا الذين هم أراذلنا} وَتَقُولُ فِي الْمُؤَنَّثِ هَذِهِ الْفُضْلَى قَالَ تَعَالَى: {إنها لإحدى الكبر} {فأولئك لهم الدرجات العلى} وَحُكْمُ فَعَلَى حُكْمُ أَفْعَلَ لَا يُسْتَعْمَلُ بِغَيْرِ "مِنْ" إِلَّا مُضَافًا أَوْ مُعَرَّفًا بِأَلْ وَأَمَّا قوله: {وأخر متشابهات} فَقَالُوا إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْ أَيْ وَأُخَرُ مِنْهَا مُتَشَابِهَاتٌ تَنْبِيهٌ لَفَظُ سَوَاءٍ سَوَاءٌ: أَصْلُهُ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ يَجْرِي عَلَيْهِ يُقَالُ اسْتَوَى اسْتِوَاءً وَسَاوَاهُ مُسَاوَاةً لَا غَيْرَ فَإِذَا وَقَعَ صِفَةً كَانَ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ وَلِهَذَا تَقُولُ هُمَا سَوَاءٌ هُمْ سَوَاءٌ كَمَا تَقُولُ هُمَا عَدْلٌ وَهُمْ عَدْلٌ وَالسَّوَاءُ التَّامُّ وَمِنْهُ دِرْهَمٌ سَوَاءٌ أَيْ تَامٌّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {في أربعة أيام سواء} أَيْ مُسْتَوِيَاتٍ وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الْمَصْدَرِ أَيِ اسْتَوَتِ اسْتِوَاءً كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ ويجيء السواء بمعنى الوسط كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أَيْ عَدْلٍ وَهُوَ الْحَقُّ قَالَ ابْنُ أَبِي الربيع: وسواء لا يَرْفَعُ الظَّاهِرَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُضْمَرِ فِي سَوَاءٍ وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِسَوَاءٍ وَهُوَ مِمَّا جَازَ فِي الْمَعْطُوفِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ والأدوات ... النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ مِنَ الْأَدَوَاتِ وَالْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولِهَا وَلِهَذَا تَوَزَّعَ الْكَلَامُ عَلَى حَسَبِ مَوَاقِعِهَا وَتَرَجَّحَ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} ، فَاسْتُعْمِلَتْ "عَلَى" فِي جَانِبِ الْحَقِّ وَ"فِي" فِي جَانِبِ الْبَاطِلِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ كَأَنَّهُ مُسْتَعْلٍ يَرْقُبُ نَظَرُهُ كَيْفَ شَاءَ ظَاهِرَةٌ لَهُ الْأَشْيَاءُ وَصَاحِبُ الْبَاطِلِ كَأَنَّهُ مُنْغَمِسٌ فِي ظَلَامٍ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهَ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} فَعَطَفَ هَذِهِ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ بِالْفَاءِ ثُمَّ لَمَّا انْقَطَعَ نِظَامُ التَّرْتِيبِ عَطَفَ بِالْوَاوِ فَقَالَ تَعَالَى: {وليتلطف} ،إِذْ لَمْ يَكُنِ التَّلَطُّفُ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالطَّعَامِ كَمَا كَانَ الْإِتْيَانُ مِنْهُ مُرَتِّبًا عَلَى التَّوَجُّهِ فِي طَلَبِهِ وَالتَّوَجُّهُ فِي طَلَبِهِ مُتَرَتِّبًا عَلَى قَطْعِ الْجِدَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ مُدَّةِ اللُّبْثِ بِتَسْلِيمِ الْعِلْمِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَكَمَا فِي قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} الْآيَةَ فَعَدَلَ عَنِ اللَّامِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 إِلَى "فِي" فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا لِلتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ بِاللَّامِ لِأَنَّ "فِي" لِلْوِعَاءِ فَنَبَّهَ بِاسْتِعْمَالِهَا عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يَجْعَلُوا مَظِنَّةً لِوَضْعِ الصَّدَقَاتِ فِيهِمْ كَمَا يُوضَعُ الشَّيْءُ فِي وِعَائِهِ مُسْتَقِرًّا فِيهِ وَفِي تَكْرِيرِ حَرْفِ الظَّرْفِ دَاخِلًا عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِهِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ: {وَفِي الرِّقَابِ} يقل والرقاب لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِيهِ أَقْرَبُ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَحْسَنَ بِي وَإِلَيَّ وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي وَأَلْيَقُهَا بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ "بِي" لِأَنَّهُ إِحْسَانٌ دَرَجَ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الْغَايَةَ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} ، وَلَمْ يَقُلْ "عَلَى" كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ "على" للاستعلاء والمصلوب لا يجعل على رؤوس النَّخْلِ وَإِنَّمَا يُصْلَبُ فِي وَسَطِهَا فَكَانَتْ فِي أَحْسَنَ مِنْ عَلَى وَقَالَ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان} ،ولم يقل فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ عِنْدَ الْفَنَاءِ لَيْسَ هُنَاكَ حَالُ الْقَرَارِ وَالتَّمْكِينِ وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يمشون على الأرض هونا} وقال: {ولا تمش في الأرض مرحا} ، وَمَا قَالَ: عَلَى الْأَرْضِ وَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ الْعِبَادَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُمْ عَلَيْهَا مُسْتَوْقِرُونَ وَلَمَّا أَرْشَدَهُ ونهاه عن فعل التبختر قال لا تَمْشِ فِيهَا مَرَحًا بَلِ امْشِ عَلَيْهَا هَوْنًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وقال تعالى: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} وقال: ابن عباس الحمد الله الذي قال: {عن صلاتهم ساهون} ،وَلَمْ يَقُلْ فِي صَلَاتِهِمْ وَقَالَ: صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فَلَوْ سَقَطَتْ مِنْ جَازَ كَوْنُ الْحِجَابِ فِي الوسط وإن تباعدت وإذا أتيت بـ" من" أَفَادَتْ أَنَّ الْحِجَابَ ابْتِدَاءٌ مِنْ أَوَّلِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ "مِنْ" وَانْتَهَى إِلَى غَايَتِهِ فَكَأَنَّ الْحِجَابَ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَقَالَ: كرر الجار في قوله: {وعلى سمعهم} لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْخَتْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حِينَ اسْتَجَدَّ لَهُ تَعْدِيَةً أُخْرَى وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُ وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ فَلْنَذْكُرْ مُهِمَّاتِ مَطَالِبِهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 الْهَمْزَةُ أَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامُ وَهُوَ طَلَبُ الْإِفْهَامِ وَتَأْتِي لِطَلَبِ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ بِخِلَافِ هَلْ فَإِنَّهَا لِلتَّصَوُّرِ خَاصَّةً وَالْهَمْزَةُ أَغْلَبُ دَوَرَانًا وَلِذَلِكَ كَانَتْ أُمَّ الْبَابِ وَاخْتَصَّتْ بِدُخُولِهَا عَلَى الْوَاوِ نَحْوُ: {أَوَكُلَّمَا عاهدوا} وعلى الفاء نحو: {أفأمن أهل القرى} وَعَلَى ثُمَّ نَحْوُ: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} وَ"هَلْ" أَظْهَرُ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالْفِعْلِ مِنَ الْهَمْزَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} {فهل أنتم منتهون} و: {فهل أنتم مسلمون} ،فذلك لتأكيد الطلب للأوصاف الثلاثة، حَيْثُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ أَدَلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَثُبُوتِهِ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى طَلَبِهِ مِنْ فَهَلْ تَشْكُرُونَ وَهَلْ تُسْلِمُونَ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُعْدَلُ بِالْهَمْزَةِ عَنْ أَصْلِهَا فَيُتَجَوَّزُ بِهَا عن النفي والإيجاب والتقرير وغير ذلك الْمَعَانِي السَّالِفَةِ فِي بَحْثِ الِاسْتِفْهَامِ مَشْرُوحَةً فَانْظُرْهُ فيه مسألة في دخول الهمزة على رأيت وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى رَأَيْتَ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ أَوِ الْقَلْبِ وَصَارَتْ بِمَعْنَى أخبرني كقولك أرأيك زيدا مَا صَنَعَ فِي الْمَعْنَى تَعَدَّى بِحَرْفٍ وَفِي اللَّفْظِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} {أرأيت الذي يكذب بالدين} مسألة في دخول الهمزة على "لم" وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى لَمْ أَفَادَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ نَحْوُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} وَالثَّانِي: التَّعَجُّبُ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِكَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فُلَانٍ يَقُولُ كَذَا وَيَعْمَلُ كَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْهُ وَكَيْفَ كَانَ فَهِيَ تحذير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 أَمْ حَرْفُ عَطْفٍ نَائِبٌ عَنْ تَكْرِيرِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ نَحْوُ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا تُشْرِكُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ كَمَا تُشْرِكُ بَيْنَهَا "أَوْ" وَقِيلَ: فِيهَا مَعْنَى الْعَطْفِ وَهِيَ اسْتِفْهَامٌ كَالْأَلِفِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لِأَجْلِ مَعْنَى الْعَطْفِ وَقِيلَ هِيَ "أَوْ" أبدلت الميم مِنَ الْوَاوِ لِيُحَوَّلَ إِلَى مَعْنًى يُرِيدُ إِلَى مَعْنَى "أَوْ" وَهِيَ قِسْمَانِ: مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ: فَالْمُتَّصِلَةُ: هِيَ الْوَاقِعَةُ فِي الْعَطْفِ وَالْوَارِدُ بَعْدَهَا وَقَبْلَهَا كَلَامٌ وَاحِدٌ وَالْمُرَادُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ عَنِ التَّعْيِينِ فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِأَيْ وَشَرْطُهَا أَنْ تَتَقَدَّمَهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَيَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُفْرَدًا أَوْ فِي تَقْدِيرِهِ وَالْمُنْفَصِلَةُ: مَا فُقِدَ فِيهَا الشَّرْطَانِ أَوْ أحدهما وتقدر بـ"بَلْ" وَالْهَمْزَةُ ثُمَّ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي كَيْفِيَّةِ تقدير المنفصلة في ثلاث مَذَاهِبَ حَكَاهَا الصَّفَّارُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُقَدَّرُ بِهِمَا وَهِيَ بِمَعْنَاهُمَا فَتُفِيدُ الْإِضْرَابَ عَمَّا قَبْلَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ كَـ" بَلْ" وَالِاسْتِفْهَامَ عَمَّا بَعْدَهَا وَمِنْ ثَمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَفْهِمَ مُبْتَدِئًا كَلَامَكَ بِـ" أَمْ" وَلَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ لِإِفَادَتِهَا الْإِضْرَابَ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَالْفَارِقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ" بَلْ" أَنَّ مَا بَعْدَ "بَلْ" مَنْفِيٌّ وَمَا بَعْدَ أَمْ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ بَلْ خَاصَّةً والاستفهام محذوف بعدها وليست مُفِيدَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي مَعَانِي القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ وَالْإِضْرَابُ مَفْهُومٌ مِنْ أَخْذِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ وَتَرْكِ الْأَوَّلِ قَالَ الصَّفَّارُ: فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُعْطِي فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ فَيَبْقَى التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ الْأَخِيرُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ كَلَامِهِمْ إِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ وَيَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَّصِلَةَ يَصِيرُ مَعَهَا الِاسْمَانِ بِمَنْزِلَةِ "أَيْ" وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ خَبَرًا عَنْ "أَيْ" فَإِذَا قُلْتَ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ؟ أَمْ عَمْرٌو؟ فَالْمَعْنَى أَيُّهُمَا عِنْدَكَ؟ وَالظَّرْفُ خَبَرٌ لَهُمَا ثُمَّ الْمُتَّصِلَةُ تَكُونُ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى مِثْلِهِ نَحْوُ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خير أم الله الواحد القهار} ،أَيْ أَيُّ الْمَعْبُودِينَ خَيْرٌ وَفِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُتَأَوَّلَتَيْنِ بِالْمُفْرَدِ نَحْوُ: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شجرتها أم نحن المنشئون} ،أَيِ الْحَالُ هَذِهِ أَمْ هَذِهِ؟ وَالْمُنْقَطِعَةُ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى عَطْفِ الْجُمَلِ وَهِيَ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ بِمَثَابَةِ بَلْ وَالْهَمْزَةِ وَمَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ التَّوْبِيخُ كَمَا كَانَ فِي الْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أم اتخذ مما يخلق بنات} أَيْ بَلْ أَتَّخَذَ؟ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهَا خَبَرٌ وَالْمُرَادُ بِهَا التَّوْبِيخُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَجَرَى عَلَى كَلَامِ الْعِبَادِ وَقَوْلِهِ: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا ريب فيه} ثم قال: {أم يقولون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 افتراه} تَقْدِيرُهُ بَلْ أَيَقُولُونَ؟ كَذَا جَعَلَهَا سِيبَوَيْهِ مُنْقَطِعَةً لِأَنَّهَا بَعْدَ الْخَبَرِ. ثُمَّ وَجَّهَ اعْتِرَاضًا: كَيْفَ يستفهم الله عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُرِيدُ أَنَّ فِي كَلَامِهِمْ يَكُونُ الْمُسْتَفْهِمُ مُحَقِّقًا لِلشَّيْءِ لَكِنْ يُورِدُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يتذكر أو يخشى} وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى لَكِنَّهُ أَرَادَ لَعَلَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رَجَائِكُمَا وَقَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} تَقْدِيرُهُ بَلْ أَتَّخَذَ؟ بِهَمْزَةٍ مُنْقَطِعَةٍ لِلْإِنْكَارِ وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى بَلْ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {أمن خلق السماوات والأرض} وَمَا بَعْدَهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: وَلَا يَمْتَنِعُ عِنْدِي إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى بَلْ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يقولون شاعر} وقوله: {أم كان من الغائبين} وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ من هذا الذي هو مهين} بِمَعْنَى بَلْ وَلَيْسَ بِحَرْفِ عَطْفٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ أَمْ وَحِينَئِذٍ تَمَّ الْكَلَامُ وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ وَالْأَصْلُ: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أَمْ تُبْصِرُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ} قُلْتُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ مُنْقَطِعَةً وَعَلَى الثَّانِي مُتَّصِلَةً وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ وَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ! وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَنِ اسْتِوَاءِ عِلْمِهِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَدْرَكَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 الشَّكُّ فِي تَبَصُّرِهِمْ بَعْدَ مَا مَضَى كَلَامُهُ عَلَى التَّقْرِيرِ وَهُوَ مُثْبَتٌ وَجَوَابُ السُّؤَالِ بَلَى فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الشَّكُّ فِي تَبَصُّرِهِمْ قَالَ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} وَسَأَلَ ابْنُ طَاهِرٍ شَيْخَهُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ الرَّمَّاكِ: لِمَ لَمْ يَجْعَلْ سِيبَوَيْهِ أَمْ مُتَّصِلَةً! أَيْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ؟ أَيْ أَيُّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْكُمْ؟ فَلَمْ يُحْرِ جَوَابًا، وَغَضِبَ وَبَقِيَ جُمُعَةً لَا يُقَرِّرُ حَتَّى اسْتَعْطَفَهُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ فَاسْتَفْهَمَ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ ظن أنهم يبصرون لأنه معنى وقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ} ،فَأَضْرَبَ عَنِ الْأَوَّلِ وَاسْتَفْهَمَ كَذَلِكَ أَزْيَدٌ عِنْدَكَ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِبْصَارُ وَعَدَمُهُ مُتَعَادِلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَدْءِ بِالنَّفْيِ مَعْنًى فَلَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً وَقَدْ تَحْتَمِلُ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْقَطِعَةَ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ تُرِيدُونَ} قَالَ الْوَاحِدِيُّ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ قَبْلَهُ اسْتِفْهَامًا رد عليه وهو قوله: {ألم تعلم} وَإِنْ شِئْتَ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا مُسْتَأْنَفًا بِهَا الِاسْتِفْهَامُ فَيَكُونُ اسْتِفْهَامًا مُتَوَسِّطًا فِي اللَّفْظِ مُبْتَدَأً فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مصر} الآية ثم قال: {أم أنا خير} انْتَهَى وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ إِنَّهَا هاهنا مُنْقَطِعَةٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ هَمْزَةٌ تَقَعُ مَوْقِعَهَا وَمَوْقِعُ أَمْ أَيُّهُمَا وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ {أَلَمْ تَعْلَمْ} لَيْسَتْ مِنْ أَمْ فِي شَيْءٍ وَالتَّقْدِيرُ بَلْ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا فَخَرَجَ بِـ "أَمْ" مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ} وَقَوْلِهِ: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارة أخرى} وَمَعْنَى أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} أَيْ تُرِيدُونَ؟ وَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنة} وقوله: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} ،أَيْ أَيَحْسُدُونَ؟ وَقَوْلِهِ: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أم زاغت عنهم الأبصار} أي زاغت عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ؟ وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ البنون} أَيْ أَلَهُ! {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} أَيْ أَتَسْأَلُهُمْ أَجْرًا؟ وَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} قِيلَ: أَيْ أَظَنَنْتَ هَذَا؟ وَمِنْ عَجَائِبِ رَبِّكِ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ! وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ كَأَنَّهُ قَالَ أَحَسِبْتَ؟ وَحَسِبْتَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُخَاطِبُهُ: أَعَلِمْتَ أَنَّ زَيْدًا خَرَجَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ اعلم أن زيد خَرَجَ فَعَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمِ اتخذ مما يخلق بنات} تَقْدِيرُهُ بَلْ أَتَّخَذَ بِهَمْزَةٍ مَقْطُوعَةٍ عَلَى الْإِنْكَارِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ هَمْزَةَ وَصْلٍ لَصَارَ إِثْبَاتًا تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَتْ أَمِ الْمُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى بَلْ وَحْدَهَا دُونَ الْهَمْزَةِ وَمَا بَعْدَ بَلْ مُتَحَقِّقٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ مُتَحَقِّقًا تَعَالَى الله عن ذلك مسألة في ضرورة تقدم الاستفهام على "أم" أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا اسْتِفْهَامٌ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَالَّذِي فِي مَعْنَاهُ التَّسْوِيَةُ فَإِنَّ الَّذِي يَسْتَفْهِمُ اسْتَوَى عِنْدَهُ الطَّرَفَانِ وَلِهَذَا يسأل وكذا المسئول استوى عنه الْأَمْرَانِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْمُعَادَلَةَ تَقَعُ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ وَبَيْنَ جُمْلَتَيْنِ وَالْجُمْلَتَانِ يَكُونَانِ اسْمِيَّتَيْنِ وَفِعْلِيَّتَيْنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادِلَ بَيْنَ اسْمِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الِاسْمِيَّةُ بِمَعْنَى الْفِعْلِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِيَّةُ بِمَعْنَى الِاسْمِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} أَيْ أَمْ صَمَتُّمْ وَقَوْلِهِ: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أنا خير} لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا لَهُ أَنْتَ خَيْرٌ كَانُوا عِنْدَهُ بُصَرَاءَ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنْتُمْ بُصَرَاءُ؟ قَالَ الصَّفَّارُ: إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ مُوجَبَتَيْنِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَنْفِيَّةً أَخَّرْتَهَا فَقُلْتَ أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ وَلَا يَجُوزُ أَلَمْ يَقُمْ أَمْ لَا ولا سواء على ألم ثم أَمْ قُمْتَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أَمْ لَا يُرِيدُونَ أَمْ لَمْ تَقُمْ فَيَحْذِفُونَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ هَذَا سَوَاءٌ عَلَيَّ أَمْ قُمْتَ لِأَنَّهُ حُذِفَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَحُمِلَتْ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الْمَنْفِيَّةِ عَلَى هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 قَالَ: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا الِاسْتِفْهَامُ أَوِ التَّسْوِيَةُ بِخِلَافِ أَوْ فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُهَا كُلُّ كَلَامٍ إِلَّا التَّسْوِيَةَ فَلَا تَقُولُ سَوَاءٌ عَلَيَّ قُمْتَ أَوْ قَعَدْتَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ سَوَاءً مَسْأَلَةٌ قَالَ الصَّفَّارُ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ السؤال أو غير السؤال بـ "أم" فَإِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو فَجَوَابُ هَذَا زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو وَجَوَابُ أَوْ نَعَمْ أولا وَلَوْ قُلْتَ فِي جَوَابِ الْأَوَّلِ نَعَمْ أَوْ لَا كَانَ مُحَالًا لِأَنَّكَ مُدَّعٍ أَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَهُ فَإِنْ قُلْتَ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فِي جَوَابِ أَقَامَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو؟ قُلْتُ: يَكُونُ تَطَوُّعًا بِمَا لَا يَلْزَمُ وَلَا قِيَاسَ يَمْنَعُهُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ: وَضْعُ أَمْ لِلْعِلْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِخِلَافِ أَوْ فَأَنْتَ مَعَ أَمْ عَالِمٌ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَهُ مُسْتَفْهِمٌ عَنِ التَّعْيِينِ وَمَعَ أَوْ مُسْتَفْهِمٌ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ فِي الْخَبَرِ فَإِذَا قُلْتَ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَوْ عَمْرٌو فَمَعْنَاهُ هَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَكَ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ جَوَابُهُ نَعَمْ أَوْ لَا مُسْتَقِيمًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا فِي أَمْ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ التَّعْيِينِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 إِذَنْ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَدُلَّ عَلَى إِنْشَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الِارْتِبَاطُ مِنْ غَيْرِهَا نَحْوُ أَزُورُكَ فَتَقُولُ إِذَنْ أُكْرِمَكَ وَهِيَ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَامِلَةٌ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فَتَنْصِبُ الْمُضَارِعَ الْمُسْتَقْبَلَ إِذَا صُدِّرَتْ وَلَمْ تُفْصَلْ وَلَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ حَالًا وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِجَوَابٍ ارْتَبَطَ بِمُقَدَّمٍ أَوْ مُنَبِّهَةً عَلَى سَبَبٍ حَصَلَ فِي الْحَالِ وَهِيَ فِي الْحَالِ غَيْرُ عَامِلَةٍ لِأَنَّ الْمُؤَكِّدَاتِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَالْعَامِلَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ نَحْوُ إِنْ تَأْتِنِي إِذَنْ آتِكَ وَاللَّهِ إِذَنْ لَأَفْعَلَنَّ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ لَفُهِمَ الِارْتِبَاطُ وَتَدْخُلُ هَذِهِ على الاسمية نحو أزورك فتقول إن أَنَا أُكْرِمُكَ وَيَجُوزُ تَوَسُّطُهَا وَتَأَخُّرُهَا وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظالمين} فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجَوَابِ وَتَرْبُطُهُ بِمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهَا مَعْنًى ثَالِثًا وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ إِذِ الَّتِي هِيَ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ وَمِنْ جُمْلَةٍ بَعْدَهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا لَكِنْ حُذِفَتِ الْجُمْلَةُ تَخْفِيفًا وَأُبْدِلَ التَّنْوِينُ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ حِينَئِذٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ النَّاصِبَةُ الْمُضَارِعَ لِأَنَّ تِلْكَ تَخْتَصُّ بِهِ وَكَذَلِكَ مَا عَمِلَتْ فِيهِ وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ وَهَذِهِ لَا تَخْتَصُّ بِهِ بَلْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي نَحْوُ: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أجرا عظيما} {إذا لأمسكتم خشية الأنفاق} و: {إذا لأذقناك} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وَعَلَى الِاسْمِ، نَحْوُ إِنْ كُنْتُ ظَالِمًا فَإِذَنْ حُكْمُكَ فِيَّ مَاضٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لمن المقربين} وَرَامَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ جَعْلَهَا فِيهِ بِمَعْنَى بَعْدَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَذْكُرْهُ النُّحَاةُ لَكِنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ قَدْ تُحْذَفُ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا إِذْ وَيُعَوِّضُ عَنْهَا التَّنْوِينُ كَيَوْمِئِذٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا حَذْفَ الْجُمْلَةِ مِنْ إِذًا وَتَعْوِيضَ التَّنْوِينِ عَنْهَا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: فِي التَّذْكِرَةِ ذَكَرَ لِي عَلَمُ الدِّينِ الْبَلْقِينِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ تَقِيَّ الدِّينِ بْنَ رَزِينٍ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ إِذَنْ عِوَضٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ وَلَيْسَ هَذَا بِقَوْلٍ نَحْوِيٍّ انْتَهَى وَقَالَ الْقَاضِي ابن الجويني: وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَنْ قَالَ أَنَا آتِيكَ إِذَنْ أُكْرِمُكَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى إِذَا أَتَيْتَنِي أُكْرِمُكَ فَحَذَفَ أَتَيْتَنِي وَعَوَّضَ التَّنْوِينُ عَنِ الْجُمْلَةِ فَسَقَطَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَقَالَ: وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ اتِّفَاقُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِثَالِ مَنْصُوبٌ بِـ "إِذَنْ" لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتْ حَرْفًا نَاصِبًا لِلْفِعْلِ وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ رَفْعُ الْفِعْلِ بَعْدَهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِذِ الزَّمَانِيَّةُ مُعَوِّضًا عَنْ جُمْلَتِهِ التَّنْوِينُ كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْزِمُ مَا بَعْدَهَا نَحْوُ مَنْ يَزُرْنِي أُكْرِمْهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ الشَّرْطِيَّةَ وَلَا يُمْنَعُ مَعَ ذَلِكَ الرَّفْعُ بِهَا إِذَا أُرِيدَ الموصولة نحو من يزورني أكرمه قيل: ولولا قَوْلُ النُّحَاةِ إِنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ وَإِنَّ إِذَنْ عَامِلَةٌ فِي الْمُضَارِعِ لَقِيلَ إِنَّ إِذَنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَإِنَّ مَعْنَاهَا تَقْيِيدُ مَا بَعْدَهَا بِزَمَنٍ أَوْ حَالٍ لِأَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَنَا أَزُورُكَ فَيَقُولُ السَّامِعُ إِذَنْ أكرمك وهو بِمَعْنَى قَوْلِهِ أَنَا أُكْرِمُكَ زَمَنَ أَوْ حَالَ أَوْ عِنْدَ زِيَارَتِكَ لِي ثُمَّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَعْنَاهَا الْجَوَابُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ إِذَنْ يَقُومَ زَيْدٌ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ تُجِيبَ به أحد وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضالين} فيحمل عَلَى أَنَّهُ لِجَوَابٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنَّهُ أَجَابَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الكافرين} أَيْ بِأَنْعُمِنَا فَأَجَابَ: لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْرًا لِلنِّعْمَةِ كَمَا زَعَمْتَ بَلْ فَعَلْتُهَا وَأَنَا غَيْرُ عَارِفٍ بِأَنَّ الْوَكْزَةَ تَقْضِي بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ {وأنا من الجاهلين} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 إِذَا نَوْعَانِ ظَرْفٌ وَمُفَاجَأَةٌ فَالَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ نَحْوُ: خَرَجْتُ فَإِذَا السَّبْعُ وَتَجِيءُ اسْمًا وَحَرْفًا فَإِذَا كَانَتِ اسْمًا كَانَتْ ظَرْفَ مَكَانٍ وَإِذَا كَانَتْ حَرْفًا كَانَتْ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي الدَّالَّةِ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ كَمَا أَنَّ الْهَمْزَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَإِذَا قُلْتَ خَرَجْتُ فَإِذَا زَيْدٌ فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ إِذَا ظَرْفَ مَكَانٍ وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَهَا حَرْفًا فَإِنْ قَدَّرْتَهَا حَرْفًا كَانَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ مَوْجُودٌ وَإِنْ قَدَّرْتَهَا ظَرْفًا كَانَ الْخَبَرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَمَا تَقُولُ عِنْدِي زَيْدٌ فَتُخْبِرُ بِظَرْفِ الْمَكَانِ عَنِ الْجُثَّةِ وَالْمَعْنَى حَيْثُ خَرَجْتُ فَهُنَاكَ زَيْدٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَرْفَ زَمَانٍ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الزَّمَانِ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ وَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ لِلزَّمَانِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ مَكَانًا وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يشاء من عباده إذا هم يستبشرون} فَإِذَا الْأُولَى ظَرْفِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ مُفَاجَأَةٌ وَتَجِيءُ ظَرْفَ زَمَانٍ وَحَقُّ زَمَانِهَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا نَحْوُ {إذا جاء نصر الله والفتح} وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمَاضِي مِنَ الزَّمَانِ كَـ "إِذْ" كما في قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض} ،لِأَنَّ قَالُوا مَاضٍ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهُ مُسْتَقْبَلًا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا على واد النمل} : {حتى إذا جاءوك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 يجادلونك} {حتى إذا بلغ بين السدين} {حتى إذا ساوى بين الصدفين} {حتى إذا جعله نارا} {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} ،لأن الانفضاض واقع في الماضي وتجئ للحال كقوله تعالى: {والنجم إذا هوى} ،: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} وَالتَّقْدِيرُ وَالنَّجْمِ هَاوِيًا وَاللَّيْلِ غَاشِيًا وَالنَّهَارِ مُتَجَلِّيًا فـ "إذا" ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْتِقْرَارُ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا أُقْسِمُ الْمَحْذُوفُ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَقْدِيرَ الْعَامِلِ فِي ذلك وأوضحه الشيخ أثير الدين فقال: إِذَا ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّ أُقْسِمُ إنشائي فهو في الحال وإذا لِمَا يُسْتَقْبَلُ فَيَأْبَى أَنْ يَعْمَلَ الْحَالُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِاخْتِلَافِ زَمَانِ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ وَلَا جَائِزَ أن يكون ثم مضاف أُقِيمَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَقَامَهُ أَيْ وَطُلُوعِ النُّجُومِ وَمَجِيءِ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَالطُّلُوعُ حَالٌ وَلَا يَعْمَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ضَرُورَةَ أَنَّ زَمَانَ الْعَامِلِ زَمَانُ الْمَعْمُولِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ نَفْسُ الْمُقْسَمِ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْمَلُ وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ قَبْلَ الظَّرْفِ وَيَكُونَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَامِلُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَتَقْدِيرُهُ وَالنَّجْمِ كَائِنًا إِذَا هَوَى وَاللَّيْلِ كَائِنًا إِذَا يَغْشَى لِأَنَّهُ يَلْزَمُ كَائِنًا أَلَّا يَكُونَ مَنْصُوبًا بِعَامِلٍ إِذْ لَا يَصِحُّ أَلَّا يَكُونَ مَعْمُولًا لِشَيْءٍ مِمَّا فَرَضْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا وَأَيْضًا فَيَكُونُ الْمُقْسَمُ بِهِ جُثَّةً وَظُرُوفُ الزَّمَانِ لَا تَكُونُ أَحْوَالًا عَنِ الْجُثَثِ كَمَا لَا تكون أخبارا لهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 أما الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ أُقْسِمُ بِالنَّجْمِ وَقْتَ هُوِيِّهِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالِ فَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّمَانَيْنِ لَمَّا اشْتَرَكَا فِي الْوُقُوعِ الْمُحَقَّقِ نَزَلَا مِنْزِلَةَ الزَّمَانِ الْوَاحِدِ وَلِهَذَا يَصِحُّ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ شاء جعل لك خيرا من ذلك} ثم قال: {ويجعل} وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ الْفَارِسِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو الْفَتْحِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليوم إذ ظلمتم} مُسْتَشْكِلًا إِبْدَالَ إِذْ مِنَ الْيَوْمَ فَقَالَ الْيَوْمَ حَالٌ وَظَلَمْتُمْ فِي الْمَاضِي فَقَالَ إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مُتَّصِلَتَانِ وَإِنَّهُمَا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ فَكَأَنَّ الْيَوْمَ مَاضٍ وَكَأَنَّ إِذْ مُسْتَقْبَلُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ لِأَنَّ الْحَالَ كَمَا تَأْتِي مُقَارَنَةً تَأْتِي مُقَدَّرَةً وَهِيَ أَنْ تُقَدِّرَ الْمُسْتَقْبَلَ مُقَارَنًا فَتَكُونُ أَطْلَقْتَ مَا بِالْفِعْلِ عَلَى مَا بِالْقُوَّةِ مَجَازًا وَجَعَلْتَ الْمُسْتَقْبَلَ حَاضِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ تَقْدِيرُهُ وَهُوَ الْعَامِلُ وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ مِنِ اخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْآنَ أَنْ يقسم بطلوع النجم فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِالشَّيْءِ الَّذِي سَيُوجَدُ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ فَقَالَ إِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 ثَبَتَ أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ فَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى أُقْسِمُ فِي هَذَا الوقت فَهِيَ إِذَنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ اللَّيْلِ انْتَهَى وَقَدْ وَقَعَ فِي مَحْذُورٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ الْمَعْرُوفِ فَإِذَا جَعَلْتَ إِذَا مُعْمُوْلَةً لِفِعْلٍ هُوَ حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ لَزِمَ وُقُوعُ الزَّمَانِ فِي الزَّمَانِ وَهُوَ محال وَقَوْلُهُ يَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ عَامِلٌ قُلْنَا: بَلْ لَهُ عَامِلٌ وَهُوَ فِعْلُ الْقَسَمِ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ إِنْشَاءً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْأَخِيرَةُ فَقَدْ سَأَلَهَا أَبُو الْفَتْحِ فَقَالَ كَيْفَ جَازَ لِظَرْفِ الزَّمَانِ هُنَا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْجُثَّةِ وَقَدْ عُلِمَ امْتِنَاعُ كَوْنِهِ صِلَةً لَهُ وَصِفَةً وَخَبَرًا! وَأَجَابَ بِأَنَّهَا جَرَتْ مَجْرَى الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَخَّرُ وَيُقَدَّمُ وَهِيَ أَيْضًا بَعِيدَةٌ لَا تَنَالُهَا أَيْدِينَا وَلَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِهَا فِي حَالِ نَصْبِهَا إِحَاطَتُنَا بِمَا يَقْرُبُ مِنْهَا فَجَرَتْ لِذَلِكَ مَجْرَى الْمَعْدُومِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لِظَرْفِ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّجْمِ؟ وَأَجَابَ: بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ فِي الْحَالِ مِنْ حَيْثُ كَانَ فَضْلَةً انْتَهَى وَقَدْ يُقَالُ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا الِامْتِنَاعَ فِي الْحَالِ أَيْضًا فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَحُضُورِ اللَّيْلِ وَتَجْعَلُهُ حَالًا مِنَ الْحُضُورِ لَا مِنَ الْجُثَّةِ وَالتَّحْقِيقُ وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ إِذَا كَمَا تَجَرَّدَ عَنِ الشَّرْطِيَّةِ كَذَلِكَ تَجَرَّدَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِمُجَرَّدِ الْوَقْتِ مِنْ دُونِ تَعَلُّقٍ بِالشَّيْءِ تُعَلُّقَ الظَّرْفِيَّةِ الصناعية وهي مجرورة المحل هاهنا لِكَوْنِهَا بَدَلًا عَنِ اللَّيْلِ كَمَا جَرَتْ بِـ "حتى" في قوله: {حتى إذا جاءوها} وَالتَّقْدِيرُ أُقْسِمُ بِاللَّيْلِ وَقْتَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 غِشْيَانِهِ أَيْ أُقْسِمُ بِوَقْتِ غِشْيَانِ اللَّيْلِ وَهَذَا وَاضِحٌ فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ صَارَ أَحَدٌ إِلَى تَجَرُّدِهَا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ مَعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّسْهِيلِ فَقَالَ وَقَدْ تُفَارِقُهَا الظَّرْفِيَّةُ مَفْعُولًا بِهَا أَوْ مَجْرُورَةً بِحَتَّى أَوْ مُبْتَدَأً وَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا زِيَادَةُ رَابِعٍ وَهُوَ الْبَدَلِيَّةُ فَائِدَةٌ وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا لِلِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} وَقَوْلِهِ: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذا ضربوا في الأرض} فَهَذَا فِيمَا مَضَى لَكِنْ دَخَلَتْ "إِذَا" لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا شَأْنُهُمْ أَبَدًا وَمُسْتَمِرٌّ فِيمَا سَيَأْتِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنَدْمَانٍ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا سُقِيْتُ إِذَا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْمُفَاجَأَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الشَّيْءِ فِي حَالٍ أَنْتَ فِيهَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَلْقَى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هم يقنطون} قَالُوا وَلَا تَقَعُ بَعْدَ "إِذَا" الْمُفَاجَأَةِ إِلَّا الجملة الاسمية وبعد "إذا" إِلَّا الْفِعْلُ الْمَاضِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَتَبِعَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمُفَاجَأَةَ نَقَلَهَا إِلَى الْمَكَانِ عَنِ الزَّمَانِ وَمَعْنَى الْآيَةِ مُوَافَقَةُ الثُّعْبَانِ لِإِلْقَاءِ مُوسَى الْعَصَا فِي الْمَكَانِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ خَرَجْتُ فَإِذَا السَّبُعُ أَيْ فَإِذَا موافقة السبع وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا الثَّانِيَةُ: الظَّرْفِيَّةُ ضَرْبَانِ ظَرْفٌ مَحْضٌ وَظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَالْأَوَّلُ: نَحْوُ قَوْلِكِ رَاحَةُ الْمُؤْمِنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والليل إذا يغشى} ومنه إذا كنت علي راضية وإذا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ لَكَانَ جَوَابُهَا مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ ويصير التقدير الأول إذا يغشى أقسم فيفسد المعنى أَوْ يَصِيرُ الْقَسَمُ مُتَعَلِّقًا عَلَى شَرْطٍ لَا مُطْلَقًا فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ غَيْرَ حَاصِلٍ الْآنَ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ بَلْ عَلَى حُصُولِ الْقَسَمِ الْآنَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَكَذَا حُكْمُ {وَالنَّجْمِ إذا هوى} {والليل إذا يسر} ومما يتمحض لِلظَّرْفِيَّةِ الْعَارِيَةِ مِنَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أصابهم البغي هم ينتصرون} ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ لَوَجَبَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهَا وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَقْتَضِي شَرْطًا وَجَوَابًا وَلِهَذَا تَقَعُ الْفَاءُ بَعْدَهَا عَلَى حَدِّ وُقُوعِهَا بَعْدَ إِذْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا لَقِيتُمْ فئة فاثبتوا} وَكَذَا كَثُرَ وُقُوعُ الْفِعْلِ بَعْدَ مَاضِي اللَّفْظِ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى نَحْوُ إِذَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَمِنْهُ إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ وَتَخْتَصُّ الْمُضَمَّنَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ بِالْفِعْلِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى جُمْلَةٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 فِعْلِيَّةٍ وَلِهَذَا إِذَا وَقَعَ بَعْدَهَا اسْمٌ قُدِّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِعْلٌ مُحَافَظَةً عَلَى أَصْلِهَا فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا كَانَ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ المقدر كقوله تعالى: {إذا السماء انشقت} وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا كَانَ مَفْعُولًا وَالْفَاعِلُ فِيهِ أَيْضًا ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ كَقَوْلِهِ *إِذَا ابْنُ أَبِي مُوسَى بِلَالًا بَلَغْتِهِ* وَالتَّقْدِيرُ إِذَا بَلَغْتِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ اخْتِصَاصَهَا بِالْفِعْلِ لِجَوَازِ إِذَا زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ وَعَلَى هَذَا فَالْمَرْفُوعُ بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ وَالْفَاعِلُ فِيهَا جَوَابُهَا وَقِيلَ لَيْسَتْ مُضَافَةً وَالْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا لَا جَوَابُهَا تَنْبِيهٌ: مِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُفَاجَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ أَنَّ إِذَا الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا كَقَوْلِهِ: {إِذَا هُمْ يقنطون} وَالَّتِي بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ يُبْتَدَأُ بِهَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فَقَالَ فِي الْأُولَى إِذَا جَوَابٌ بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ وَإِنَّمَا صَارَتْ جَوَابًا بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُبْدَأُ بِهَا كَمَا لَا يُبْدَأُ بِالْفَاءِ قال: ابن النَّحَّاسُ وَلَكِنْ قَدْ عُورِضَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْفَاءَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَكَيْفَ تَكُونُ عِوَضًا مِنْهَا وَالْجَوَابُ أَنَّهَا إِنَّمَا تَدْخُلُ تَوْكِيدًا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كان حجتهم} فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَتَمَحِّضَةُ الظَّرْفِيَّةِ لِعَدَمِ الْفَاءِ فِي جوابها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 مَعَ مَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا جَوَابَ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ لَا جَوَابَ الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِئْ بِالْفَاءِ الثَّالِثَةُ: جَوَّزَ ابْنُ مَالِكٍ أَنْ تَجِيءَ لَا ظَرْفًا وَلَا شَرْطًا وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَيْهَا حَتَّى الْجَارَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جاءوها} أَوِ الْوَاقِعَةُ مَفْعُولًا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَلَيَّ رَاضِيَةً وَكَمَا جَازَ تَجَرُّدُهَا عَنِ الشَّرْطِ جَازَ تَجَرُّدُهَا عَنِ الظَّرْفِ وَتَحَصَّلَ أَنَّهَا تَارَةً ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ وَفِيهَا معنى الشرط نحو {إذا طلقتم النساء} وَتَارَةً ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ غَيْرُ شَرْطٍ نَحْوُ: {وَيَقُولُ الأنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا} وَتَارَةً ظَرْفٌ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ نَحْوُ: {إِذَا مَا أتوك لتحملهم} وَتَارَةً لَا ظَرْفٌ وَلَا شَرْطٌ وَتَارَةً لَا تَكُونُ اسْمَ زَمَانٍ وَهِيَ الْمُفَاجَأَةُ الرَّابِعَةُ: أَصْلُ إِذَا الظَّرْفِيَّةِ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ كَمَا أَنَّ إِذْ لِمَا مَضَى مِنْهُ ثُمَّ يُتَوَسَّعُ فِيهَا فَتُسْتَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَمِرِّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا الْحَاضِرَةِ وَالْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ فَهِيَ فِي ذَلِكَ شَقِيقَةُ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ يُفْعَلُ حَيْثُ يُفْعَلُ بِهِ نَحْوُ ذَلِكَ قَالُوا إِذَا اسْتُعْطِيَ فُلَانٌ أَعْطَى وَإِذَا اسْتُنْصِرَ نَصَرَ كَمَا قَالُوا فُلَانٌ يُعْطِي الرَّاغِبَ وَيَنْصُرُ الْمُسْتَغِيثَ مِنْ غَيْرِ قصد إلى تخصيص وقت دون وقت قال الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ الْخَامِسَةُ: تُجَابُ الشَّرْطِيَّةُ بثلاثة أشياء: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 أَحَدُهَا: الْفِعْلُ نَحْوُ إِذَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَثَانِيهَا: الفاء نحو إذا جئتني فأنا أكرمك وثالثها: "إِذَا" الْمَكَانِيَّةُ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} ،وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هم يجأرون} وَمَا قَبْلَهَا إِمَّا جَوَابُهَا نَحْوُ إِذَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بينهم يومئذ} وَالْمَعْنَى فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ تَقَاطَعُوا وَدَلَّ عليه قوله: {فلا أنساب} وَكَذَا قَوْلُهُ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يومئذ للمجرمين} وَإِنَّمَا احْتِيجَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ ما النَّافِيَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ بُشْرَى مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا كَانَ فِي صلته ومن ذلك قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تخرجون} فَالْعَامِلُ فِي إِذَا الْأُولَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} وَالتَّقْدِيرُ خَرَجْتُمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ تَخْرُجُونَ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَعْمَلَ ما بعد إذا الْمَكَانِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا وَحُكْمُهَا فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْفَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور فذلك يومئذ يوم عسير} فَالْعَامِلُ فِي إِذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ صَعُبَ الْأَمْرُ وَقَوْلُهُ: {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رجل ينبئكم إذا مزقتم} فالعامل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 فِي إِذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إنكم لفي خلق جديد} مِنْ مَعْنَى بُعِثْتُمْ أَوْ مَبْعُوثُونَ فَإِنْ قِيلَ: أَيَجُوزُ نَصْبُ إِذَا بِقَوْلِهِ جَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ؟ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ إِنَّ فِيمَا قَبْلَهَا وَهَذَا يُسَمَّى مُجَاوَبَةَ الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى لِلشَّيْءِ الْوَاحِدَ وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يُلِمُّ بِهِ كَثِيرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ وَالْمَعْنَى يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُ مِنْهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ في نوع ما يتعلق بالإعراب السَّادِسَةُ: إِذَا تُوَافِقُ إِنَّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَتُخَالِفُهَا فِي بَعْضٍ: فَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ فَهِيَ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ شَرْطًا وَجَزَاءً نَحْوُ إِذَا قُمْتَ قُمْتُ وَإِذَا زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَكُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَطْلُبُ الْفِعْلَ فَإِنْ وَقَعَ الِاسْمُ بَعْدَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُدِّرَ لَهُ فِعْلٌ يَرْفَعُهُ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ مِثَالُهُ فِي إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإن امرأة خافت} {إن امرؤ هلك} وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك} وَمِثَالُهُ فِي إِذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انشقت} و {إذا الشمس كورت} وَمَا بَعْدَهَا فِي السُّورَةِ مِنَ النَّظَائِرِ وَكَذَا قوله: {إذا السماء انفطرت} وَمَا بَعْدَهَا مِنَ النَّظَائِرِ وَ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةِ} وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تُخَالِفُهَا فَفِي مَوَاضِعَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 الأول: إلا تَدْخُلَ إِلَّا عَلَى مَشْكُوكٍ نَحْوُ إِنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَلَا يَجُوزُ إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ آتِيكَ لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مُتَيَقَّنٌ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُتَيَقَّنُ الْوُقُوعِ مُبْهَمَ الْوَقْتِ جَازَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أفإن مت} ونظائره وأما إذا فظاهر كلام النجاة يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْمُتَيَقَّنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ نَحْوُ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأْتِنِي وَقَوْلِهِ: إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها وَقَوْلِهِ *إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَسَلِّمِي* وَذَلِكَ لِكَوْنِهَا لِلزَّمَنِ الْمُعَيَّنِ بِالْإِضَافَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِ ولم يَجْزِمُوا بِهَا فِي الِاخْتِيَارِ لِعَدَمِ إِبْهَامِهَا كَالشُّرُوطِ وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ شُرُوطُ الْقُرْآنِ بِهَا كَقَوْلِهِ: {إِذَا الشمس كورت} وَنَظَائِرِهَا السَّابِقَةِ لِكَوْنِهَا مُتَحَقِّقَةَ الْوُقُوعِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} فَقَدْ أَشْكَلَ دُخُولُهَا عَلَى غَيْرِ الْوَاقِعِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ مُحْتَمِلٌ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِعَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وَالثَّانِي: إِهْلَاكُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَتَبْدِيلُ أَمْثَالِهِمْ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بآخرين} فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِي الدُّنْيَا وَجَبَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا بِمَعْنَى إِنْ الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ مَكَانُ إِنْ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ أَلَا تَرَى إِلَى ظُهُورِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين} {إن نشأ نخسف بهم الأرض} وَإِنَّمَا أَجَازَ لِـ "إِذَا" أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ إِنْ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّدَاخُلِ وَالتَّشَابُهِ وَقَالَ: ابن الجويني الَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا عَلَى الْمُتَيَقَّنِ وَالْمَشْكُوكِ لِأَنَّهَا ظَرْفٌ وَشَرْطٌ فَبِالنَّظَرِ إِلَى الشَّرْطِ تَدْخُلُ عَلَى الْمَشْكُوكِ كَـ "إِنْ" وَبِالنَّظَرِ إِلَى الظَّرْفِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ كَسَائِرِ الظُّرُوفِ وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ فِيمَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ إِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ لِاسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ وَيَمْتَنِعُ فِيهِ لِامْتِنَاعِ الْجَزَاءِ وَإِنَّمَا يُحَثُّ عَلَى فِعْلِ مَا يَجُوزُ أَلَّا يقع أما ما لابد مِنْ وُقُوعِهِ فَلَا يُحَثُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ دُخُولُ إِذَا عَلَى الْمَشْكُوكِ إِذَا لُحِظَتْ فِيهَا الظَّرْفِيَّةُ لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ الْتِزَامُ الْجَزَاءِ فِي زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْتِزَامُ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ شَرْطٍ فِيهِ لَيْسَ بِالْتِزَامٍ وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ إِنْ مَجْزُومًا بِهِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ تَحَقُّقِهِ فَيَغْلِبُ لَفْظُ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تصبهم سيئة} فَجِيءَ بِـ "إِذَا" فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ وَبِـ "إِنْ" فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ جِنْسُ الْحَسَنَةِ وَلِهَذَا عُرِّفَتْ وَحُصُولُ الْحَسَنَةِ الْمُطْلَقَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ التَّعْبِيرَ بِـ "إِذَا" وَجِيءَ بِـ "إِنْ" فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهَا نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَسَنَةِ الْمُطْلَقَةِ كَالْمَرَضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّحَّةِ وَالْخَوْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} بِلَفْظِ إِذَا مَعَ الضُّرِّ فَقَالَ السَّكَّاكِيُّ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إِلَى لَفْظِ الْمَسِّ وَتَنْكِيرِ الضُّرِّ الْمُفِيدِ لِلتَّعْلِيلِ لِيَسْتَقِيمَ التَّوْبِيخُ وَإِلَى النَّاسِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ كُلُّ ضَرَرٍ وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَسَّ قَدْرٍ يَسِيرٍ مِنَ الضُّرِّ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عريض} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ وَذَهَبَ بِنَفْسِهِ وَتَكَبَّرَ وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُعْرِضِ المتكبر لا المطلق الْإِنْسَانِ وَيَكُونُ لَفْظُ إِذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُعْرِضِ الْمُتَكَبِّرِ يَكُونُ ابْتِلَاؤُهُ بِالشَّرِّ مقطوعا الثَّانِي: مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخَالِفَةِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ بِـ "إِنْ" إِذَا كَانَ عَدَمًا لَمْ يَمْتَنِعِ الْجَزَاءُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْيَأْسُ مِنْ وُجُودِهِ وَلَوْ كَانَ الْعَدَمُ مَشْرُوطًا بِـ "إِذَا" وَقَعَ الْجَزَاءُ فِي الْحَالِ مِثْلُ إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا فِي آخِرِ الْعُمْرِ وَإِذَا قَالَ إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي زَمَانِ عَدَمِ تَطْلِيقِي لَكِ فَأَيُّ زَمَانٍ تَخَلَّفَ عَنِ التَّطْلِيقِ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَقَوْلُهُ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى امْتِنَاعِ الطَّلَاقِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَوْتِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ الثَّالِثُ: أَنَّ إِنْ تَجْزِمُ الْفِعْلَ المضارع إذا دخلت عليه وإذا لَا تَجْزِمُهُ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَحَّضُ شَرْطًا بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْتِزَامِ الْجَزَاءِ فِي وَقْتِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِالشَّرْطِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 وَقَدْ جَاءَ الْجَزْمُ بِهَا إِذَا أُرِيدَ بِهَا مَعْنَى إِنْ وَأُعْرِضَ عَمَّا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الزَّمَانِ كَقَوْلِهِ *وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ* الرَّابِعُ: أَنَّ إِذَا هَلْ تُفِيدُ التَّكْرَارَ وَالْعُمُومَ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ عُصْفُورٍ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ فَإِذَا قُلْتَ: إِذَا قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو أَفَادَتْ أَنَّهُ كُلَّمَا قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعُمُومُ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ وَأَمَّا إِنْ فَفِيهَا كَلَامٌ عَنِ ابْنِ جِنِّي يَأْتِي فِي بَابِ إِنْ الْخَامِسُ: أَنَّكَ تَقُولُ: أَقُومُ إِذَا قَامَ زيد فيقتضي أن قيامك مُرْتَبِطٌ بِقِيَامِهِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى الِاتِّصَالِ بِخِلَافِ أَقُومُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ فَيَقْتَضِي أَنَّ قِيَامَكَ بَعْدَ قِيَامِهِ وَقَدْ يَكُونُ عَقِبَهُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فالحاصل إن التقييد بالاستقبال دون اقتضاء مباعدة بخلاف إذا ذكره أبو جعفر ابن الزبير في كتابه ملاك التأويل السَّابِعَةُ: قِيلَ: قَدْ تَأْتِي زَائِدَةً كَقَوْلِهِ: {إِذَا السماء انشقت} تَقْدِيرُهُ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ كَمَا قَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} ، {أتى أمر الله} ورد هذا بأن الجواب مضمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 ويحوز مَجِيئُهَا بِمَعْنَى إِذْ وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ مَالِكٍ قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا} وَرُدَّ بِفَوَاتِ الْمَعْنَى لِأَنَّ إِذَا تُفِيدُ أَنَّ هَذَا حَالُهُمُ الْمُسْتَمِرُّ بِخِلَافِ إِذْ فَإِنَّهَا لَا تُعْطِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ: إِذَا فَعَلْتَ كَذَا فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: يَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ تَقُولُ إِذَا أَتَيْتَ الْبَابَ فَالْبَسْ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ إِذَا قَرَأْتَ فَتَرَسَّلْ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} فَائِدَةٌ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْحَسَنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهم قاموا} أَنَّهُ يُقَالُ: لِمَ أُتِيَ قَبْلَ أَضَاءَ بِـ "كُلَّمَا"؟ وَقَبْلَ أَظْلَمَ بِـ "إِذَا" وَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذَلِكَ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِضَاءَةِ يَسْتَلْزِمُ تَكْرَارَ الْإِظْلَامِ فَكَانَ تَنْوِيعُ الكلام أعذب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 الثَّانِي: أَنَّ مَرَاتِبَ الْإِضَاءَةِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَذَكَرَ كُلَّمَا تَنْبِيهًا عَلَى ظُهُورِ التَّعَدُّدِ وَقُوَّتِهِ لِوُجُودِهِ بِالصُّورَةِ وَالنَّوْعِيَّةِ وَالْإِظْلَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يُؤْتَ بِصِيغَةِ التَّكْرَارِ لِضَعْفِ التَّعَدُّدِ فِيهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِالنَّوْعِيَّةِ وَإِنْ حَصَلَ بِالصُّورَةِ الثَّالِثُ: قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِيهِ تَكَلُّفٌ أَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَى الضَّوْءِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النُّورِ كَانُوا كُلَّمَا حَدَثَ لَهُمْ نُورٌ تَجَدَّدَ لَهُمْ بَاعِثُ الضَّوْءِ فِيهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ فَقْدِهِ وَاخْتِفَاؤُهُ مِنْهُمْ وَأَمَّا التَّوَقُّفُ بِالظَّلَامِ فَهُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْجَوَابِ الثَّانِي لَكِنَّهُ بِمَادَّةٍ أُخْرَى وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ جَوَابَ الزَّمَخْشَرِيِّ يَرْجِعُ التَّكْرَارُ فِيهِ إِلَى جَوَابِ كُلَّمَا لَا إِلَى مَشْرُوطِهَا الَّذِي يَلِيهَا وَيُبَاشِرُهَا فَطَلَبَ تَكْرَارَهُ وَهُوَ الْأَوْلَى فِي مَدْلُولِ التَّكْرَارِ وَالْجَوَابُ الْمُتَقَدِّمُ يَرْجِعُ إِلَى تكرار مشروطها يَتْبَعُهُ الْجَوَابُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَلْزُومُهُ وَتَكَرُّرُهُ فَرْعُ تَكَرُّرِ الْأَوَّلِ الرَّابِعُ: أَنَّ إِضَاءَةَ الْبَرْقِ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ وَإِظْلَامَهُ لَيْسَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ لِأَنَّ إِضَاءَتَهُ هِيَ لَمَعَانُهُ وَالظَّلَامُ أَمْرٌ يَحْدُثُ عَنِ اخْتِفَائِهِ فَتُظْلِمُ الْأَمَاكِنُ كَظَلَامِ الْأَجْرَامِ الْكَثَائِفِ فَأَتَى بِأَدَاةِ التَّكْرَارِ عِنْدَ الْفِعْلِ الْمُتَكَرِّرِ مِنَ الْبَرْقِ وَبِالْأَدَاةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ مُتَكَرِّرًا مِنْهُ وَلَا صَادِرًا عَنْهُ الْخَامِسُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِضَاءَةِ الْبَرْقِ الْحَيَاةُ وَبِالظَّلَامِ الْمَوْتُ فَالْمُنَافِقُ تَمُرُّ حَالَةٌ فِي حَيَاتِهِ بِصُورَةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهَا دَارٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّاهِرِ فَإِذَا صَارَ إِلَى الْمَوْتِ رُفِعَتْ لَهُ أَعْمَالُهُ وَتَحَقَّقَ مَقَامُهُ فَتَسْتَقِيمُ كُلَّمَا فِي الحياة وإذا فِي الْمَمَاتِ وَهَكَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا دَامَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَأَمِتْنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي" فَاسْتَعْمَلَ مَعَ الْحَيَاةِ لَفْظَ التَّكْرَارِ وَالدَّوَامِ وَاسْتَعْمَلَ مَعَ لَفْظِ الْوَفَاةِ لَفْظَ الِاخْتِصَارِ وَالتَّقْيِيدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إِمَّا لِأَنَّ الْحَيَاةَ مَأْثُورَةٌ لِازْدِيَادِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي الْهِمَمُ الْعَالِيَةُ مَعْقُودَةٌ بِهِ فَعَرَّضَ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالدَّوَامِ عَلَيْهِ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُتَمَنَّى ولكن إذا نزل وَقْتِهِ رُضِيَ بِهِ وَإِمَّا لِأَنَّ الْحَيَاةَ يَتَكَرَّرُ زَمَانُهَا وَأَمَّا الْمَوْتُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَجَوَابٌ آخَرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَنْوَارِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُسْتَمِرُّ وَأَمَّا خَفَقَانُ الْبَرْقِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ فَعَوَارِضُ تتصل بالحدوث والتكرار فناسب الإتيان فيها بكلما وَفِي تِلْكَ بِـ "إِذَا" وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 إِذْ ظَرْفٌ لِمَاضِي الزَّمَانِ يُضَافُ لِلْجُمْلَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل} وَتَقُولُ أَيَّدَكَ اللَّهُ إِذْ فَعَلْتَ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} فَـ "تَرَى" مُسْتَقْبَلٌ وَإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ كَائِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْ كَانَ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهِ سَابِقٌ وَقَضَاءَهُ بِهِ نَافِذٌ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَوْ تَرَى نَدَمَهُمْ وَخِزْيَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ وقوفهم على النار فـ "إذ" ظرف ماضي لَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَدَمِهِمُ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ فَقَدْ صَارَ وَقْتَ التَّوَقُّفِ مَاضِيًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا بَعْدَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ هُوَ مَفْعُولُ تَرَى وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ مَجِيئَهَا مَفْعُولًا بِهِ كَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا إذ أنتم قليل} ومنعه آخرون وجعلوا المفعول محذوفا وإذ ظَرْفٌ عَامِلُهُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ وَالتَّقْدِيرُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عليكم} إِذًا وَاذْكُرُوا حَالَكُمْ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ الله يا عيسى} قِيلَ: قَالَ: لَهُ ذَلِكَ لَمَّا رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَتَكُونُ بِمَعْنَى حِينَ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فيه} أَيْ حِينَ تُفِيضُونَ فِيهِ وَحَرْفَ تَعْلِيلٍ نَحْوُ {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم} {وإذ لم يهتدوا به} وَقِيلَ: تَأْتِي ظَرْفًا لِمَا يُسْتَقْبَلُ بِمَعْنَى إِذَا وَخُرِّجَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا سَبَقَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم} وَأَنْكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ لِأَنَّ إِذَا لَا يَجِيءُ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ مَعَ النَّفْيِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وَقَدْ تَجِيءُ بَعْدَ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يسر} لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فِيهِ وَقِيلَ تَجِيءُ زَائِدَةً نحو: {وإذ قال ربك للملائكة} وَقِيلَ هِيَ فِيهِ بِمَعْنَى قَدْ وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى أَنْ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ عَنْ نَصِّ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ قَالَ وَيَشْهَدُ لَهُ قوله تعالى: {بعد إذ أنتم مسلمون} وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} قَالَ وَغَفَلَ الْفَارِسِيُّ عَمَّا فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا وَجَعَلَ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ الَّذِي بَعْدَ لَنْ عَامِلًا فِي الظَّرْفِ الْمَاضِي فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ سَآتِيكَ الْيَوْمَ أَمْسِ قَالَ: وَلَيْتَ شِعْرِي مَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ لَمْ يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} فَإِنْ جَوَّزَ وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي الظَّرْفِ الْمَاضِي عَلَى أَصْلِهِ فَكَيْفَ يَعْمَلُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فيما قبلها لاسيما مَعَ السِّينِ وَهُوَ قَبِيحٌ أَنْ تَقُولَ غَدًا سَآتِيكَ فَكَيْفَ إِنْ قُلْتَ غَدًا فَسَآتِيكَ فَكَيْفَ إِنْ زِدْتَ عَلَى هَذَا وَقُلْتَ أَمْسِ فَسَآتِيكَ وإذا على أصله بمعنى أمس تنبيه في وقوع إذ بعد واذكر حَيْثُ وَقَعَتْ إِذْ بَعْدَ وَاذْكُرْ فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الزَّمَانُ لِغَرَابَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنْظَرَ فِيهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مريم إذ انتبذت} وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صديقا نبيا ذ قال لأبيه} ونظائره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 أَوْ تَقَعُ فِي الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ فَأَمَّا فِي الْخَبَرِ فَلَهَا فِيهِ مَعَانٍ الْأَوَّلُ: الشَّكُّ نَحْوُ قام زيد أو عمرو الثاني: الْإِبْهَامُ وَهُوَ إِخْفَاءُ الْأَمْرِ عَلَى السَّامِعِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هدى} وقوله: {أتاها أمرنا ليلا أو نهارا} ،يُرِيدُ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَأَخَذَ أَهْلُهَا الْأَمْنَ أَتَاهَا أَمْرُنَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فَجْأَةً فَهَذَا إِبْهَامٌ لِأَنَّ الشَّكَّ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلِهِ: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يزيدون} فَإِنْ قُلْتَ: يَزِيدُونَ فِعْلٌ وَلَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِـ "إِلَى" فَإِنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِقَائِمٍ وَيَقْعُدُ عَلَى تَأْوِيلِ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ قُلْتُ: يَزِيدُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فِي محل رفع والتقدير أوهم يَزِيدُونَ قَالَهُ ابْنُ جِنِّي فِي الْمُحْتَسِبِ وَجَازَ عَطْفُ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ بِـ "أَوْ" لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُطْلَقِ الْجُمْلَةِ فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ تَكُونُ أَوْ هُنَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَالزِّيَادَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 قُلْتُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلِهَذَا قَدَّرُوا فِي الْمُبْتَدَأِ ضَمِيرَ الْمِائَةِ أَلْفٍ وَالتَّقْدِيرُ وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ مَعَهَا زِيَادَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا لِلشَّكِّ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ أَيْ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ الثَّالِثُ: التَّنْوِيعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو أشد قسوة} أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ تَارَةً تَزْدَادُ قَسْوَةً وَتَارَةً تُرَدُّ إِلَى قَسْوَتِهَا الْأُولَى فَجِيءَ بِـ "أَوْ" لاختلاف أحوال قلوبهم الرابع: التفصيل كقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هودا أو نصارى} ،أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا وَقَالَتِ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ نَصَارَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كونوا هودا أو نصارى} الخامس: للإضراب كـ "بل" كقوله: {كلمح البصر أو هو أقرب} و {مائة ألف أو يزيدون} عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} السَّادِسُ: بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أو نذرا} {لعله يتذكر أو يخشى} {لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} وَأَمَّا فِي الطَّلَبِ فَلَهَا مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: الْإِبَاحَةُ نَحْوُ تَعَلَّمْ فِقْهًا أَوْ نَحْوًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أو بيوت آبائكم} الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} يَعْنِي إِنْ شُبِّهَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْحِجَارَةِ فَصَوَابٌ أَوْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ فَصَوَابٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 وقوله: {كمثل الذي استوقد نارا} {أو كصيب} وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّمْثِيلَ مُبَاحٌ فِي الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَبَّهْتُمُوهُمْ بِأَيِّ النَّوْعَيْنِ قَوْلُهُ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} إِبَاحَةٌ لِإِيقَاعِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الثَّانِي: التَّخْيِيرُ نَحْوُ خُذْ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ ذَاكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرض أو سلما في السماء} الْآيَةَ فَتَقْدِيرُهُ فَافْعَلْ كَأَنَّهُ خَيَّرَ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ فِيمَا أَصْلُهُ الْمَنْعُ ثُمَّ يَرِدُ الْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَيَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَاحًا وَيَطْلُبَ الْإِتْيَانَ بِأَحَدِهِمَا وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يَذْكُرُ بِـ "أَوْ" لِئَلَّا يُوهِمَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُوَ الْوَاجِبُ لَوْ ذُكِرَتِ الْوَاوُ وَلِهَذَا مَثَّلَ النُّحَاةُ الْإِبَاحَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطعام عشرة مساكين} وَقَوْلِهِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نسك} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ فَلَوْ أَتَى بِالْجَمْعِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ بَلْ يَكُونُ أَفْضَلَ وَأَمَّا تَمْثِيلُ الْأُصُولِيِّينَ بِآيَتَيِ الْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ لِلتَّخْيِيرِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَحْظُورِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْآخَرَ يَبْقَى مَحْظُورًا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا عَدَا الْوَاجِبَ تَبَرُّعًا وَلَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْإِبَاحَةِ جَازَ صَرْفُهُ إِلَى مَجْمُوعِهِمَا وَهُوَ مَا كَانَ يَجُوزُ فِعْلُهُ أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ إِطَاعَةِ أَحَدِهِمَا دون الآخر بل النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِمَا مُفْرَدَيْنِ أَوَ مُجْتَمِعَيْنِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ أَوْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْوَصْفَانِ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: اسْتَشْكَلَ قَوْمٌ وُقُوعَ أَوْ فِي النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَوِ انْتَهَى عَنْ أحدهما لم يتمثل ولا يعد يمتثل إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْأَوْلَى أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا وَإِنَّمَا جَاءَ التَّعْيِينُ فِيهَا مِنَ الْقَرِينَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَبْلَ وُجُودِ النَّهْيِ تُطِيعُ آثِمًا أَوْ كَفُورًا أَيْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَإِذَا جَاءَ النَّهْيُ وَرَدَ عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْمَعْنَى فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَلَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيَجِيءُ التَّعْمِيمُ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ الدَّاخِلِ وَهِيَ عَلَى بَابِهَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِانْتِهَاءُ عَنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَنْتَهِيَ عَنْهُمَا بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ قَالَ فَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ أَوْ فِي الْآيَةِ عَلَى بَابِهَا وَأَنَّ التَّعْمِيمَ لَمْ يَجِئْ مِنْهَا وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهَا انْتَهَى وَمِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ خَبَرًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دين} لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَوْ وُجِدَا مَعًا وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي اللُّبَابِ: إِنِ اتَّصَلَتْ بِالنَّهْيِ وَجَبَ اجْتِنَابُ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وَلَوْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا لَفُعِلَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا وَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ أَوْ فِي النَّهْيِ نَقِيضِيَّةٌ أَوْ فِي الْإِبَاحَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 فَقَوْلُكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ إِذَنْ فِي مُجَالَسَتِهِمَا وَمُجَالَسَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فَضِدُّهُ في النهي لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا أَيْ لَا تُطِعْ هَذَا وَلَا هَذَا وَالْمَعْنَى لَا تُطِعْ أحدهما ومن أطاع منهما كان أحدهما فمن ها هنا كَانَ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ جَاءَ بِالْوَاوِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لَأَوْهَمَ الْجَمْعَ وَقِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّهُ لَوِ انْتَهَى عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَعُدْ مُمْتَثِلًا بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ الْخَطِيبِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا وَإِنَّمَا جَاءَ التَّعْمِيمُ فِيهَا مِنَ النَّهْيِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَبْلَ وُجُودِ النَّهْيِ تُطِيعُ آثِمًا أَوْ كَفُورًا أَيْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَالتَّعْمِيمُ فِيهِمَا فَإِذَا جَاءَ النَّهْيُ وَرَدَ عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا فَالْمَعْنَى لَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَسَمَّى التَّعْمِيمَ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ وَهِيَ عَلَى بَابِهَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِانْتِهَاءُ عَنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَنْتَهِيَ عَنْهُمَا بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتَهِي عَنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي بَابِ الْفِدْيَةِ بِغَيْرِ النَّعَمِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَنْ يقتلوا أو يصلبوا} لَيْسَ بِمُخَيَّرٍ فِيهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا أَقُولُ والثاني: مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى عَدَمِ التَّشْرِيكِ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى مُفْرَدَيْهَا بِالْإِفْرَادِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 بِخِلَافِ الْوَاوِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما} فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَلِهَذَا قَالَ: {بِهِمَا} وَلَوْ كَانَتْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَقِيلَ بِهِ وَقِيلَ عَلَى بَابِهَا وَمَعْنَى {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} إِنْ يَكُنِ الْخَصْمَانِ غَنِيَّيْنِ أَوْ فَقِيرَيْنِ أَوْ مِنْهُمَا أَيِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ لِأَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: {كُونُوا قوامين بالقسط شهداء لله} يُشِيرُ لِلْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِاثْنَيْنِ وَقِيلَ: الْأَوْلَوِيَّةُ الْمَحْكُومُ بِهَا ثَابِتَةٌ لِلْمُفْرَدَيْنِ مَعًا نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو وَرَأَيْتُهُمَا فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ الْمَعْلُومَيْنِ مِنْ وُجُوهِ الْكَلَامِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ وَغَيْرُهُ وَلَوْ قِيلَ فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِ لَمْ يَشْمَلْهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجِ الْمَخْلُوقُونَ عَنِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ صَارَ الْمَعْنَى افْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْلَى مِمَّنْ خَلَقَ وَلَوْ قِيلَ أَوْلَى بِهِ لَعَادَ إِلَيْهِ مِنْ حيث الشهادة فقط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 إن المكسورة الخفية تَرِدُ لِمَعَانٍ الْأَوَّلُ: الشَّرْطِيَّةُ وَهُوَ الْكَثِيرُ نَحْوُ: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} {إن ينتهوا يغفر لهم} ثُمَّ الْأَصْلُ فِي عَدَمِ جَزْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وعيسى جَازِمٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ قَوْلِهِ وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى المتيقن وجوده إذا أبهم زمانه كقوله: {أفإن مت فهم الخالدون} وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ نَحْوُ: {إِنْ كَانَ للرحمن ولد} وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّهَا لِلِاسْتِقْبَالِ وَأَنَّهَا تُخَلِّصُ الْفِعْلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا كَقَوْلِكَ إِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَمَعْنَاهُ إِنْ تُكْرِمْنِي وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنْ أَكْرَمْتَنِي الْيَوْمَ فَقَدْ أَكْرَمْتُكَ أَمْسِ وَقَوْلُهُ: {إِنْ كان قميصه قد من قبل فصدقت} ،فقيل: معنى أكرمتني اليوم يكون سبب لِلْإِخْبَارِ بِذَلِكَ وَإِنْ ثَبَتَ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِخْبَارِ بِذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَهِيَ عَكْسُ لَوْ فَإِنَّهَا لِلْمَاضِي وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ مَسْأَلَةٌ إِنْ دَخَلَتْ "إن" على لم يكن الجزم بـ"لم" لَا بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 {فإن لم تفعلوا} وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى لَا كَانَ الْجَزْمُ بِهَا لَا بِـ"لَا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لي} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لَمْ عَامِلٌ يَلْزَمُ مَعْمُولَهُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٌ وَإِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا مَعْمُولُ مَعْمُولِهَا نَحْوُ إِنْ زَيْدًا يَضْرِبْ أَضْرِبْهُ وَتَدْخُلُ أَيْضًا عَلَى الْمَاضِي فَلَا تَعْمَلُ فِي لَفْظِهِ وَلَا تُفَارِقُ الْعَمَلَ وَأَمَّا لَا فَلَيْسَتْ عَامِلَةً فِي الْفِعْلِ فأضيف العمل إلى إن الثاني: بِمَنْزِلَةِ لَا وَتَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ كَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ،بِدَلِيلِ مَا فِي الْجَاثِيَةِ: {مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدنيا} وقوله: {إن أنت إلا نذير} {إن الكافرون إلا في غرور} {إن كل نفس لما عليها حافظ} {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتي الرحمن عبدا} {إن نحن إلا بشر مثلكم} {إن أنتم إلا بشر مثلنا} وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ نَحْوُ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الحسنى} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 {إن يقولون إلا كذبا} {إن يدعون من دونه إلا إناثا} {وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} {إن كانت إلا صيحة واحدة} {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ شَرْطَ النَّافِيَةِ مَجِيءُ إِلَّا فِي خَبَرِهَا كَهَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ لَمَّا الَّتِي بِمَعْنَاهَا كَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عليها حافظ} بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ مَا كَانَ نَفْسٌ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا محضرون} {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَرُدَّ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} {وإن أدري أقريب أم بعيد} {إن عندكم من سلطان} {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا ليؤمنن به} فَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أحد من بعده} فَالْأُولَى شَرْطِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ نَافِيَةٌ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ الَّذِي أَذِنَتْ بِهِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأُولَى وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ وُجُوبًا وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ مكناهم فيما إن مكناكم فيه} فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الشَّجَرِيِّ إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ فِيمَا مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ إِلَّا أَنَّ إِنْ أَحْسَنُ فِي اللَّفْظِ لِمَا فِي مُجَامَعَةِ مِثْلِهَا مِنَ التَّكْرَارِ الْمُسْتَبْشَعِ وَمِثْلُهُ يُتَجَنَّبُ قَالَا وَيَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض ما لم نمكن لكم} وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا زَائِدَةٌ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَفْخَمُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي وَإِنْ نَافِيَةٌ وَقَعَتْ مَكَانَ مَا فَيَخْتَلِفُ اللَّفْظُ وَلَا تَتَّصِلُ مَا بِـ "مَا" وَالْمَعْنَى لَقَدْ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْغِنَى مَا لَمْ نُعْطِكُمْ وَنَالَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ هَذَا الْعِقَابُ فَأَنْتُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ إِذَا كَفَرْتُمْ وَقِيلَ إِنْ شَرْطِيَّةٌ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيِ الَّذِي إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ طَغَيْتُمْ وَقَالَ وَهَذَا مُطَّرَحٌ فِي التَّأْوِيلِ وَعَنْ قُطْرُبٍ أَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ حَكَاهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ وَيَحْتَمِلُ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْكَرَ مَجِيءَ النَّافِيَةِ وَقَالَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِنَّ مَا مَحْذُوفَةٌ وَالتَّقْدِيرُ مَا إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ مَا إِنْ تَدْعُونَ مَا إِنْ أَدْرِي وَنَظَائِرُهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ مَنَايَانَا وَدُولَةُ آخِرِينَا فَحُذِفَتْ مَا اخْتِصَارًا كَمَا حُذِفَ لَا في {تالله تفتأ} الثَّالِثُ: مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَتَعْمَلُ فِي اسْمِهَا وَخَبَرِهَا وَيَلْزَمُ خَبَرُهَا اللَّامَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم} وَيَكْثُرُ إِهْمَالُهَا، نَحْوُ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا} {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} {إن كل نفس لما عليها حافظ} ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ لَمَّا أَيْ أَنَّهُ كُلُّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ الرَّابِعُ: لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى إذ عند الكوفيين كقوله: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} قَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِعُلُوِّهِمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قالبعضهم: لَوْ كَانَتْ لِلْخَبَرِ لَكَانَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وكذا: {وإن كنتم في ريب} ونحوه مما الفعل في مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ وَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّحْقِيقُ كَالْمَعْنَى مَعَ "إِذَا" وَأَجَابُوا عَنْ دُخُولِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ لِنُكْتَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّهْيِيجِ نَحْوُ إِنْ كُنْتَ وَلَدِي فَأَطْعِمْنِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فَالِاسْتِثْنَاءُ مَعَ تَحَقُّقِ الدُّخُولِ تَأَدُّبًا بِأَدَبِ اللَّهِ فِي الْمَشِيئَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الدَّاخِلِينَ لَا مِنَ الرُّؤْيَا لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَتَصْدِيقِهَا سَنَةٌ وَمَاتَ بَيْنَهُمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُلُّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْخَامِسُ: بِمَعْنَى "لَقَدْ" فِي قوله: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} أَيْ لَقَدْ كُنَّا {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمفعولا} و {تالله إن كدت لتردين} {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} فَائِدَةٌ ادَّعَى ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ الْقَدْ أَنَّ إِنِ الشَّرْطِيَّةَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّكْثِيرِ لِمَا كَانَ فِي هَذَا الشِّيَاعُ وَالْعُمُومُ لِأَنَّهُ شَائِعٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ دُخُولُهَا عَلَى أحد التي لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النَّفْيِ الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك} لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَاحِدٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَحَدٌ هُنَا لَيْسَتِ الَّتِي لِلْعُمُومِ بَلْ بِمَنْزِلَةِ أَحَدٍ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَهُ مَعْنَى الْعُمُومِ لِأَجْلِ إِنْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنِ امرأة} {إن امرؤ} تَنْبِيهٌ قِيلَ: قَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِنْ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي مَوَاضِعَ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أردن تحصنا} وقوله: {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون} وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهان مقبوضة} ، وَقَوْلِهِ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وقوله: {إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} وَقَدْ يُقَالُ أَمَّا الْأُولَى فَيَمْتَنِعُ النَّهْيُ عَنْ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ فَإِنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ يُرِدْنَ الْبِغَاءَ وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْمُرَادِ مُمْتَنِعٌ: وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى إِذَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُنَّ عَلَى الزِّنَا إِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ أَوْ هُوَ شَرْطٌ مُقْحَمٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِكْرَاهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُنَّ لَا يُكْرِهْنَهُنَّ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْصِينِ وَفَائِدَةُ إِيجَابِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ فَالْمَعْنَى إِنْ أَرَدْنَ الْعِفَّةَ فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بإرادة ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وأما الرابعة فَهُوَ يُشْعِرُ بِالْإِتْمَامِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ وَأَمَّا الْبَوَاقِي فَظَاهِرُ الشَّرْطِ مُمْتَنِعٌ فِيهِ بِدَلِيلِ التَّعَجُّبِ الْمَذْكُورِ لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مُخَالَفَةَ الظَّاهِرِ لِعَارِضٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 أَنْ الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ تَرِدُ لِمَعَانٍ: الْأَوَّلُ: حَرْفًا مَصْدَرِيًّا نَاصِبًا لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَتَقَعُ مَعَهُ فِي مَوْقِعِ الْمُبْتَدَأِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ فَالْمُبْتَدَأُ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، نَحْوُ: {وأن تصوموا خير لكم} {وأن تصبروا خير لكم} {وأن يستعففن خير لهن} {وأن تعفوا أقرب للتقوى} وَالْفَاعِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ من الأعراب أن يتخلفوا} {أكان للناس عجبا أن أوحينا} {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ جَوَابَ وَتَقَعُ مَعَهُ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ بِهِ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَحْوُ: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} {فأردت أن أعيبها} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 {وأمرت لأن أكون} وقوله: {فإن استطعت أن تبتغي} {يريد الله أن يخفف عنكم} {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ} ،مَعْنَاهُ بِأَنْ أَنْذِرْ فَلَمَّا حُذِفَتِ الْبَاءُ تَعَدَّى الْفِعْلُ فَنُصِبَ وَمِنْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: {إِلَّا ما أمرتني به أن اعبدوا الله} نُصِبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا أَمَرْتَنِي به} وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ كَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} ، {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا} أَيْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يُنْصَبْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أوحينا} وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لِوَحْيِنَا لِأَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْإِعْرَابِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا أَنْ تَعْمَلَ فِيهِ الْعَوَامِلُ وَقَدْ يَعْرِضُ لِـ "أَنْ" هَذِهِ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا} أَيْ بِأَنْ يَقُولُوا كَمَا قُدِّرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لهم} أَيْ بِأَنَّ لَهُمْ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَنَفَاهَا الْخَلِيلُ عَلَى أَصْلِ الْجَرِّ وَتَقَعُ بَعْدَ عَسَى فَتَكُونُ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً نَحْوُ عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 ومثله: {عسى ربكم أن يرحمكم} وَتَكُونُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ إِنْ كَانَتْ تَامَّةً كَقَوْلِكَ عَسَى أَنْ يَنْطَلِقَ زَيْدٌ وَمِثْلُهُ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعسى أن تحبوا شيئا} الثَّانِي: مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَتَقَعُ بَعْدَ فِعْلِ الْيَقِينِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَيَكُونُ اسْمُهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَتَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ خَبَرًا عَنْهَا نَحْوُ: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا} {علم أن سيكون منكم مرضى} {وحسبوا ألا تكون فتنة} {وأن عسى أن يكون} {وألو استقاموا} {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وجعل ابن الشجري منه: {وناديناه أن يا إبراهيم} ،أَيْ أَنَّهُ يَا إِبْرَاهِيمُ الثَّالِثُ: مُفَسِّرَةً بِمَنْزِلَةِ أَيِ الَّتِي لِتَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ تَمَامِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَا بَعْدَهَا وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي تُفَسِّرُهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إبراهيم} {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا} {أن طهرا بيتي} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: تَكُونُ هَذِهِ فِي الْأَمْرِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا شَرْطُ مَجِيئِهَا بَعْدَ كَلَامٍ تَامٍّ لِأَنَّهَا تَفْسِيرٌ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا حَرْفٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَعْنَى وَخَرَجَ بِالْأَوَّلِ: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتِمَّ فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا مُبْتَدَأٌ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَاصِبَةً لِوُقُوعِ الِاسْمِ بَعْدَهَا بِمُقْتَضَى أَنَّهَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} فَقِيلَ إِنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ الِانْطِلَاقَ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ وَقَالَ: الْخَلِيلُ يُرِيدُونَ أَنَّهُمُ انْطَلَقُوا فِي الْكَلَامِ بِهَذَا وَهُوَ امْشُوا أَيِ أَكْثِرُوا يُقَالُ أَمَشَى الرَّجُلُ وَمَشَى إِذَا كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ فَهُوَ لَا يُرِيدُ انْطَلِقُوا بِالْمَشْيِ الَّذِي هُوَ انْتِقَالٌ إِنَّمَا يُرِيدُ قَالُوا هَذَا وَقِيلَ: عِبَارَةٌ عَنِ الأخذ في القول فيكون بمنزلة صريحه وأن مُفَسِّرَةً وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةً فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَاءَتْ بَعْدَ صَرِيحِ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا الله} قُلْنَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وَقَالَ الصَّفَّارُ: لَا تُتَصَوَّرُ الْمَصْدَرِيَّةُ هُنَا بِمَعْنَى إِلَّا عِبَادَةَ اللَّهِ لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَقَعُ بَعْدَهُ الْمُفْرَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقُولُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَقُولِ نَحْوُ قُلْتُ خَبَرًا وَشِعْرًا لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْكَلَامِ أَوْ يَقُولُ قُلْتُ زَيْدًا أَيْ هَذَا اللَّفْظَ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ فَثَبَتَ أَنَّهَا تَفْسِيرِيَّةٌ أَيِ اعبدوا الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 وَقَالَ السِّيرَافِيُّ: لَيْسَتْ أَنْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ بَلْ لِلْقَوْلِ بَلْ لِلْأَمْرِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ فَلَوْ كَانَ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا قُلْتَ لِي أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ لَمْ يَجُزْ لِذِكْرِ الْقَوْلِ الرَّابِعُ: زَائِدَةً وَتَكُونُ بَعْدَ لَمَّا التَّوْقِيتِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَلَمَّا أن جاءت رسلنا لوطا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فِي سُورَةِ هُودٍ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رسلنا لوطا} فَجَاءَ فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَمَّا أن جاء البشير} فَجِيءَ بِـ "أَنْ" وَلَمْ يَأْتِ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْحَذْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَشِيرِ إِلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ طُولِ الْحُزْنِ وَتَبَاعُدِ الْمُدَّةِ نَاسَبَ ذَلِكَ زِيَادَةُ أَنْ لِمَا فِي مُقْتَضَى وَصْفِهَا مِنَ التَّرَاخِي وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَنْصِبُ الْفِعْلَ وَهِيَ مَزِيدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سبيل الله} {وما لكم ألا تنفقوا} وأن فِي الْآيَتَيْنِ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ: {وَمَا لَنَا لَا نؤمن بالله} الْخَامِسُ: شَرْطِيَّةً فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ كَقَوْلِهِ: {أَنْ تضل إحداهما فتذكر} قَالُوا: وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ السَّادِسُ: نَافِيَةً بِمَعْنَى لَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هدى الله أن يؤتى أحد} أَيْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ أَنَّ يُؤْتَى مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَقِيلَ: إِنَّ يُؤْتَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ إِنَّ الْهُدَى أَنْ يُؤْتَى السَّابِعُ: التَّعْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ لِئَلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لكم أن تَضِلُّوا} وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا وَكَذَا قَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} وقوله: {أن تقول نفس يا حسرتى} الثَّامِنُ: بِمَعْنَى إِذْ مَعَ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: {بَلْ عجبوا أن جاءهم} وَقِيلَ بَلِ الْمَعْنَى لِأَنْ جَاءَهُمْ أَيْ مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ وَمَعَ الْمُضَارِعِ كَقَوْلِهِ: {أَنْ تُؤْمِنُوا بالله ربكم} أَيْ إِذَا آمَنْتُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَقَعَ أَنْ مِثْلَ مَا فِي نِيَابَتِهَا عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في ربه أن آتاه الله الملك} وقوله: {إلا أن يصدقوا} وَرُدَّ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا لِلتَّعْلِيلِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَائِقٌ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَالتَّقْدِيرُ لِأَنْ آتَاهُ ولئلا يصدقوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 إِنَّ الْمَكْسُورَةُ الْمُشَدَّدَةُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَلِلتَّعْلِيلِ، أَثْبَتَهُ ابْنُ جِنِّي مِنَ النُّحَاةِ وَكَذَا أَهْلُ الْبَيَانِ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي نَوْعِ التَّعْلِيلِ مِنْ قِسْمِ التَّأْكِيدِ وَبِمَعْنَى "نَعَمْ" فِي قَوْلِهِ تعالى: {إن هذان لساحران} فيمن شدد النون قال أبو إسحاق: عَرَضْتُ هَذَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ فَرَضِيَاهُ وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: كَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا بَعْدَ التَّنَازُعِ عَلَى قَذْفِ النَّبِيِّينَ بِالسِّحْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ هِيَ بِمَعْنَى أَجَلْ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ سُؤَالٌ عَنْ سِحْرِهِمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ} فَتَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَصْرُوفَةً إِلَى تَصْدِيقِ أَلْسِنَتِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنَ السِّحْرِ وَاسْتَضْعَفَهُ الْفَارِسِيُّ بِدُخُولِ اللَّامِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ فَإِنْ قُدِّرَتْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا أَيْ فَهُمَا سَاحِرَانِ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْحَذْفُ وَقِيلَ: دَخَلَتِ اللَّامُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ أَوْ لِمَا كَانَتْ تَدْخُلُ مَعَهَا فِي الْخَبَرِيَّةِ وَقِيلَ: جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُثَنَّى بالألف مطلقا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 أن المفتوحة المشددة يجيء لِلتَّأْكِيدِ كَالْمَكْسُورَةِ وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّكَ لَوْ صَرَّحْتَ بِالْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا لَمْ تُفِدْ تَوْكِيدًا وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا عُلِمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ أَنَّ والفعل والمصدر وقال: في المفصل إن وأن تُؤَكِّدَانِ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ الْمَكْسُورَةَ الْجُمْلَةُ معها على استقلالها بفائدتها والمفتوحة تقلبها إلى حكم المفرد قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لِأَنَّ وَضْعَ إِنَّ تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِمَعْنَاهَا فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِالْفَائِدَةِ بَعْدَ دُخُولِهَا وَأَمَّا الْمَفْتُوحَةُ فَوَضْعُهَا وَضْعُ الْمَوْصُولَاتِ فِي أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعَهَا كَالْجُمْلَةِ مَعَ الْمَوْصُولِ فَلِذَلِكَ صَارَتْ مَعَ جُمْلَتِهَا فِي حُكْمِ الْخَبَرِ فَاحْتَاجَتْ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ لِيَسْتَقِلَّ مَعَهَا بِالْكَلَامِ فَتَقُولُ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَتَسْكُتُ وَتَقُولُ أَعْجَبَنِي أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا الْجُزْءِ الَّذِي مَعَهَا لِكَوْنِهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ إِذْ مَعْنَاهُ أَعْجَبَنِي قِيَامُ زَيْدٍ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَةِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ جُزْءٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ الْمَفْتُوحَةُ مَعَ جُمْلَتِهَا وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فَاعِلَةً وَمَفْعُولَةً وَمُضَافًا إِلَيْهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَعُ فِيهِ الْمُفْرَدَاتُ وَمِنْ وُجُوهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا تُصَدَّرُ بِالْمَفْتُوحَةِ الْجُمْلَةُ كَمَا تُصَدَّرُ بِالْمَكْسُورَةِ لِأَنَّهَا لَوْ صُدِّرَتْ لَوَقَعَتْ مُبْتَدَأً وَالْمُبْتَدَأُ مُعَرَّضٌ لِدُخُولِ إِنَّ فَيُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِهِمَا وَلِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى لَعَلَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أنها إذا جاءت لا يؤمنون} وَتِلْكَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ فَقَصَدُوا إِلَى أَنْ تكون هذه مخالفة لتلك في الوضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 إِنَّمَا لِقَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ أَوِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ وَهِيَ لِلْحَصْرِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ كَالنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَفَرَّقَ الْبَيَانِيُّونَ بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ إِنَّمَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يُنْكِرُهُ كَقَوْلِكَ إِنَّمَا هُوَ أَخُوكَ وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُكَ الْقَدِيمُ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيُقِرُّ بِهِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْعَكْسِ فَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَيُنْكِرُهُ نَحْوُ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الله} ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُنْزَلُ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْمَجْهُولِ لِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ فَيُسْتَعْمَلُ لَهُ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ نَحْوُ: {وما محمد إلا رسول} الْآيَةَ وَنَحْوُ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وَالرُّسُلُ مَا كَانُوا عَلَى دَفْعِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَادِّعَاءُ الْمَلَائِكِيَّةِ لَكِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ وَجَعَلُوا أَنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ يَنْفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْبَشَرِيَّةَ فَأُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ مَا يَعْتَقِدُونَ وَأُخْرِجَ الْجَوَابُ أَيْضًا مَخْرَجَ مَا قَالُوا حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ كَمَا يَحْكِي الْمُجَادِلُ كَلَامَ خَصْمِهِ ثُمَّ يَكُرُّ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّنَا بَشَرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ مِنِ اخْتِصَاصِ الْمَلَائِكَةِ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ وَقَدْ يُنَزَّلُ الْمَجْهُولُ مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ لِادِّعَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ظُهُورَهُ فَيُسْتَعْمَلُ لَهُ إنما كقوله تعالى: {إنما نحن مصلحون} فَإِنَّ كَوْنَهُمْ مُصْلِحِينَ مُنْتَفٍ فَهُوَ مَجْهُولٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بَيْنَهُمْ صَلَاحٌ فَقَدْ نَسَبُوا الْإِصْلَاحَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ كَذَلِكَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ وَلِذَلِكَ جَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مُؤَكَّدًا مِنْ وجوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 إلى لانتهاء الغاية وهي مقابلة مِنْ ثُمَّ لَا يَخْلُوا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا أَوْ غَيْرُ دَاخِلٍ وَإِنْ لَمْ يقترن بها قرينة تدل على أن ما بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا أَوْ غَيْرُ دَاخِلٍ فَيُصَارُ إِلَيْهِ قَطْعًا وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا وَاخْتُلِفَ فِي دُخُولِ مَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَذَاهِبَ أَحَدُهَا: لَا تَدْخُلُ إِلَّا مَجَازًا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الشَّيْءِ وَنِهَايَتِهِ الَّتِي هِيَ حَدُّهُ وَمَا بَعْدَ الْحَدِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل} الثَّانِي: عَكْسُهُ أَيْ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا مَجَازًا بِدَلِيلِ آيَةِ الْوُضُوءِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ فِيهِمَا لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا أَوْ جُزْءًا كَالْمَرَافِقِ دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ فَقَدْ يَدْخُلُ نَحْوُ: {وَأَيْدِيَكُمْ إلى المرافق} وَقَدْ لَا يَدْخُلُ نَحْوُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى الليل} وَقِيلَ: فِي آيَةِ الْمَرَافِقِ: إِنَّهَا عَلَى بَابِهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمِرْفَقَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَّكِئُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي رَأْسِ الْعَضُدِ وَذَلِكَ هُوَ الْمِفْصَلُ وَفَرِيقُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ مِفْصَلُ الذِّرَاعِ وَلَا يَجِبُ فِي الْغَسْلِ أَكْثَرُ مِنْهُ وَقِيلَ: إِلَى تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ إِلَى الْمَرَافِقِ وَلَا يَنْبَغِي وُجُوبُ غَسْلِ الْمِرْفَقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ وَلَا يَنْفِيهِ التَّحْدِيدُ كَقَوْلِكَ سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَا يَقْتَضِي دُخُولَهَا وَلَا يَنْفِيهِ كَذَلِكَ الْمَرَافِقُ إِلَّا أَنَّ غَسْلَهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ أَنَّ إِلَى حَرْفٌ مُشْتَرَكٌ يَكُونُ لِلْغَايَةِ وَالْمَعِيَّةِ وَالْيَدُ تُطْلَقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ عَلَى الْكَفَّيْنِ فَقَطْ وَعَلَى الْكَفِّ وَالذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ فَمَنْ جَعَلَ إِلَى بِمَعْنَى مَعَ وَفَهِمَ مِنَ الْيَدِ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ أَوْجَبَ دُخُولَهُ فِي الْغَسْلِ وَمَنْ فَهِمَ مِنْ إِلَى الْغَايَةَ وَمِنَ الْيَدِ مَا دُونَ الْمِرْفَقِ لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْغَسْلِ قَالَ الْآمِدِيُّ: وَيَلْزَمُ مَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى مَعَ أَنْ يُوجِبَ غَسْلَهَا إِلَى الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ يَدًا وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} {ويزدكم قوة إلى قوتكم} {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} {وأيديكم إلى المرافق} {وإذا خلوا إلى شياطينهم} وَقِيلَ: تَرْجِعُ إِلَى الِانْتِهَاءِ وَالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ مَنْ يُضِيفُ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ وَمَوْضِعُهَا حَالٌ أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مُضَافًا إِلَى اللَّهِ؟ وَالْمَعْنَى فِي الْأُخْرَى: وَلَا تُضِيفُوا أَمْوَالَكُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَكُنِّيَ عَنْهُ بِالْأَكْلِ كَمَا قَالَ: {وَلَا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أَيْ لَا تَأْخُذُوا وَقَدْ تَأْتِي لِلتَّبْيِينِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ وَهِيَ الْمُعَلَّقَةُ فِي تَعَجُّبٍ أَوْ تَفْضِيلٍ بِحُبٍّ أَوْ بُغْضٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 مُبَيِّنَةً لِفَاعِلِيَّةِ مَصْحُوبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ السجن أحب إلي} ولموافقة اللام كقوله: {والأمر إليك} وَقِيلَ لِلِانْتِهَاءِ وَأَصْلُهُ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ وَكَقَوْلِهِ: {وَيَهْدِي من يشاء إلى صراط مستقيم} وَمُوَافَقَةِ "فِي" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ لَكَ إلى أن تزكى} وَقِيلَ الْمَعْنَى بَلْ أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَزَائِدَةً كَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تهوي إليهم} بِفَتْحِ الْوَاوِ وَقِيلَ: ضَمَّنَ تَهْوَى مَعْنَى تَمِيلُ تَنْبِيهٌ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ إِلَى قَدْ تُسْتَعْمَلُ اسْمًا فَيُقَالُ: انْصَرَفْتُ مِنْ إِلَيْكَ كَمَا يُقَالُ غَدَوْتُ مِنْ عَلَيْكَ حَكَاهُ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي شَرْحِ أَبْيَاتِ الْإِيضَاحِ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَلَمْ يقف الشيخ ابن حَيَّانَ عَلَى هَذَا فَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قوله: {وهزي إليك بجذع النخلة} ،وقوله: {واضمم إليك جناحك} إِلَى حَرْفُ جَرٍّ بِالْإِجْمَاعِ وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بـ "هزي" وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ وَقَدْ يرفع المتصل وهما المدلول وَاحِدٍ فَلَا تَقُولُ ضَرَبْتَنِي وَلَا ضَرَبْتُكَ إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عِنْدَهُمْ بِالْحَرْفِ كَالْمَنْصُوبِ الْمُسْتَقِلِّ فَلَا تَقُولُ هَزَزْتَ إِلَيَّ وَلَا هززت إليك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 أَلَا بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ تَأْتِي لِلِاسْتِفْتَاحِ وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا وَلِذَلِكَ قَلَّ وُقُوعُ الْجُمَلِ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ نَحْوُ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ ألا إنه بكل شيء محيط} {ألا لعنة الله على الظالمين} {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لثمود} {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} {ألا حين يستغشون ثيابهم} وَتَأْتِي مُرَكَّبَةً مِنْ كَلِمَتَيْنِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَ تَحْقِيقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} وقوله: {قال ألا تأكلون} وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّقِينَ وَلَيْسُوا بِآكِلِينَ وَلِلْعَرْضِ وَهُوَ طَلَبٌ بِلِينٍ نَحْوُ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يغفر الله لكم} {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 أَلَّا بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَنَّ النَّاصِبَةِ وَلَا النَّافِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا تعلوا علي} {ألا يسجدوا لله} ثم قيل: المشددة أصل والمخففة فرع قيل بِالْعَكْسِ وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ وَبِالْعَكْسِ حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيُّ فِي حَاشِيَةِ سِيبَوَيْهِ إِلَّا تَرِدُ لِمَعَانٍ: الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءُ وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلٍ وَهُوَ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا وَإِلَى مُنْقَطِعٍ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَتُقَدَّرُ بِـ "لَكِنْ" كَقَوْلِهِ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمصيطر إلا من تولى وكفر} و {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا من شاء} وقوله: {إلا الذين آمنوا} في سورة الانشقاق و {إلا من تولى وكفر} فِي آخِرِ الْغَاشِيَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 وكذلك: {إلا من ارتضى من رسول} وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} دَلِيلُ انْقِطَاعِهِ وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ رسول وقوله: {إلا تذكرة لمن يخشى} وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ {تَذْكِرَةً} بَدَلًا مِنْ {لِتَشْقَى} وهو منصوب بـ "أنزلنا" تَقْدِيرُهُ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} فَابْتِغَاءُ وَجْهِ رَبِّهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ الَّتِي تُجْزَى وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} فَقَوْلُهُمْ: {رَبُّنَا اللَّهُ} لَيْسَ بِحَقٍّ يُوجِبُ إِخْرَاجَهُمْ وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي قُعُودِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ عَنْ ضَرَرٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةُ الْجِهَادِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا فِي الْأَجْرِ مَعَ الْمُجَاهِدِ لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ وَالْمُجَاهِدُ يَعْمَلُ بِبَدَنِهِ وَقَلْبِهِ وَالْقَاعِدُ بِقَلْبِهِ وَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانها إلا قوم يُونُسَ} إِذْ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَكَانَ الْمَعْنَى فَهَلْ آمَنَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فَلَا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ طَلَبُ الْإِيمَانِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِ يُونُسَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطْلُبُ مِنْ كُلِّ شَخْصٍ الْإِيمَانَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَكِنْ قَوْمَ يُونُسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُمْكِنُ اتِّصَالُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَوْلَا} فِي الْمَعْنَى نَفْيٌ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَمَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ نَفْيًا كَانَ مَا بَعْدَ إِلَّا يُوجَبُ إِنْكَارُهُ قَالَ: مَا مِنْ قَرْيَةٍ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ بِأَنْ جعل إلا متقطعة عَمَّا قَبْلَهَا لُغَةً فَصِيحَةً وَإِنْ كَانَ جَعْلُهَا مُتَّصِلَةً أَكْثَرَ وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلا من رحم} فَإِنَّ مَنْ رَحِمَ بِمَعْنَى الْمَرْحُومِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَاصِمِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْصُومٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى لَكِنْ فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ اتِّصَالُهُ عَلَى أَنَّ {مَنْ رَحِمَ} بِمَعْنَى الرَّاحِمِ أَيِ الَّذِي يَرْحَمُ فَيَكُونُ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ قِيلَ: حَمْلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى أعني قراءة {من رُحِمَ} بِضَمِّ الرَّاءِ حَتَّى يَتَّفِقَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ الثَّانِي: بِمَعْنَى بَلْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إلا تذكرة} أَيْ بَلْ تَذْكِرَةً الثَّالِثُ: عَاطِفَةً بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي التَّشْرِيكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عليكم حجة إلا الذين ظلموا} معناه ولا الذين ظلموا وقوله: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظلم} أَيْ وَمَنْ ظَلَمَ تَأَوَّلَهَا الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ المنقطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 الرَّابِعُ: بِمَعْنَى "غَيْرَ" إِذَا كَانَتْ صِفَةً وَيُعْرَبُ الِاسْمُ بَعْدَ إِلَّا إِعْرَابَ غَيْرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ،وَلَيْسَتْ هُنَا لِلِاسْتِثْنَاءِ وَإِلَّا لَكَانَ التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ لَيْسَ فِيهِمُ اللَّهُ لَفَسَدَتَا وَهُوَ بَاطِلٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لهم شهداء إلا أنفسهم} ، فَلَوْ كَانَ اسْتِثْنَاءً لَكَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ لَيْسَ شُهُودًا عَلَى الزِّنَا لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْعَدَدُ وَلَا يَسْقُطُ الزِّنَا الْمَشْهُودُ بِهِ بِيَمِينِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِذَا جُعِلَ وَصْفًا فَقَدْ أُمِنَ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْجِنْسِ فَـ "إِلَّا" هِيَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرَ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِمَّا مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَمَنْ تَوَهَّمَ فِي صِفَةِ اللَّهِ وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَبْطَلَ قَالَ: الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْهُ وَخَاطِرٌ خَطَرَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العالمين} وقوله: ضل من تدعون إلا إياه اسْتِثْنَاءً وَأَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرَ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ لِأَنَّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صِفَةً كَانَ إِعْرَابُ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا إِعْرَابَ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَكَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ والجر وقال: وَالِاسْمُ بَعْدَ إِلَّا فِي الْآيَتَيْنِ مَنْصُوبٌ كَمَا تَرَى وَلَيْسَ قَبْلَ إِلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوبٌ بِإِلَّا وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُوصَفُ بِمَا بَعُدَ إِلَّا سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا أَوْ مُتَّصِلًا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْجَرْمِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا قليلا ممن أنجينا منهم} لَوْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ قَلِيلٌ عَلَى الصِّفَةِ لَكَانَ حَسَنًا وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 الْخَامِسُ: بِمَعْنَى بَدَلَ وَجَعَلَ ابْنُ الضَّائِعِ مِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لفسدتا} أَيْ بَدَلُ اللَّهِ أَيْ عِوَضُ اللَّهِ وَبِهِ يَخْرُجُ عَلَى الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي الْوَصْفِ بِـ "إِلَّا" مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ابْنَ مَالِكٍ جَعَلَهَا فِي الْآيَةِ صِفَةً وَأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ فَسَدَتَا لَصَحَّ لَأَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ فيقال: ما فائدة الوصف المقتضي ها هنا لِلتَّأْكِيدِ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ آلِهَةً تَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ أَوْ عَلَى الْجَمْعِ فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَأَتَى بِقَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّهَ} لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى التَّعَدُّدِ وَهَذَا نَظِيرُ قولهم في: {إلهين اثنين} أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا مُخَصَّصٌ لَا مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ : {إلهين} يدل على الجنسية وعلى التثنية فلوا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُفْهَمُ النَّهْيُ عَنْ أَحَدِهِمَا فأتى بـ "اثنين" لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ السَّادِسُ: لِلْحَصْرِ إِذَا تَقَدَّمَهَا نَفْيٌ: إِمَّا صَرِيحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَوْ مُقَدَّرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا على الخاشعين} فَإِنَّ إِلَّا مَا دَخَلَتْ بَعْدَ لَفْظِ الْإِيجَابِ إِلَّا لِتَأْوِيلِ مَا سَبَقَ إِلَّا بِالنَّفْيِ أَيْ فَإِنَّهَا لَا تَسْهُلُ وَهُوَ مَعْنَى كَبِيرَةٌ وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ صَادِقٌ مَعَهَا أَيْ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ بِخِلَافِ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 السابع: مركبة من إن الشرطية ولا النَّافِيَةِ وَوَقَعَتْ فِي عِدَّةِ مَوَاقِعَ مِنَ الْقُرْآنِ نحو: {إلا تنصروه فقد نصره الله} {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض} {إلا تنفروا يعذبكم} {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {وإلا تصرف عني كيدهن} وَلِأَجْلِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ غَلِطَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي إِلَّا تَفْعَلُوهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ وَعَجِبْتُ مِنَ ابْنِ مَالِكٍ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ حَيْثُ عَدَّهَا فِي أَقْسَامِ إِلَّا لَكِنَّهُ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ قَالَ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا حَاجَةَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا فَائِدَةٌ قَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مَعْنَى إِلَّا اللَّازِمُ لَهَا الِاخْتِصَاصُ بِالشَّيْءِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا قُلْتَ جَاءَنِيَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا فَقَدِ اخْتَصَصْتَ زَيْدًا بِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ وَإِذَا قُلْتَ مَا جَاءَنِي إِلَّا زَيْدٌ فَقَدِ اخْتَصَصْتَهُ بِالْمَجِيءِ وَإِذَا قُلْتَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا رَاكِبًا فَقَدِ اخْتَصَصْتَ هَذِهِ الْحَالَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَشْيِ وَالْعَدْوِ وَنَحْوِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 أَمَّا الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةُ الْمِيمِ كَلِمَةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ بِدَلِيلِ لُزُومِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا وقدرها سيبويه بـ "مهما" وَفَائِدَتُهَا فِي الْكَلَامِ: أَنَّهَا تُكْسِبُهُ فَضْلَ تَأْكِيدٍ تَقُولُ زَيْدٌ ذَاهِبٌ، فَإِذَا قَصَدْتَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ ذَاهِبٌ قُلْتَ: أَمَّا زَيْدٌ فَذَاهِبٌ وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ ذَاهِبٌ وَفِي إِيرَادِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} إِحْمَادٌ عَظِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَعْيٌ عَلَى الْكَافِرِينَ لِرَمْيِهِمْ بِالْكَلِمَةِ الْحَمْقَاءِ وَالِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَهَا إِنْ كَانَ مرفوعا فهو مبتدأ كقوله: {أما السفينة فكانت لمساكين} ، {وأما الغلام} ، {وأما الجدار} وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا، فَالنَّاصِبُ لَهُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فلا تنهر} وقرئ: {وأما ثمود فهديناهم} بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ لِاشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِهِمْ وَتُذْكَرُ لِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ الْمُخَاطِبُ وَلِلِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ مَا ادَّعَى فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فأما الذين شقوا ففي النار} {وأما الذين سعدوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 ففي الجنة} ،فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِمَا جُمِعَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ يوم مجموع له الناس} وَبَيَانُ أَحْكَامِ الشَّقِيِّ وَالسَّعِيدِ وَالثَّانِي: كَمَا لَوْ قِيلَ: زَيْدٌ عَالِمٌ شُجَاعٌ كَرِيمٌ فَيُقَالُ أَمَّا زَيْدٌ فَعَالِمٌ أَيْ لَا يُثْبَتُ لَهُ بِمَا ادَّعَى سِوَى الْعِلْمِ وَاخْتُلِفَ فِي تَعَدُّدِ الْأَقْسَامِ بِهَا فَقِيلَ إِنَّهُ لَازِمٌ وَحُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والراسخون في العلم} عَلَى مَعْنَى وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ التَّعَدُّدُ بَعْدَهَا وَقَطْعُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا الله} وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ قَدْ يُذْكَرُ فِيهَا قِسْمٌ وَاحِدٌ وَلَا يُنَافِي ذلك أن تكون للتفصيل ما فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ جُمُعَةَ الْمَوْصِلِيُّ فِي شَرْحِ الدُّرَّةِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ: وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَكِلُونَ مَعْنَاهُ إِلَى رَبِّهِمْ وَدَلَّ عَلَيْهِ {وَالرَّاسِخُونَ} الْآيَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي آيَةُ الْبَقَرَةِ {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق من ربهم وأما الذين كفروا} ،إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ فَالْفَاسِقُونَ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ وَهُمُ الضَّالُّونَ بِالتَّمْثِيلِ ثُمَّ خَالَفَهُ فَقَالَ وَأَنْتَ إِذَا جَعَلْتَ الْمُتَّبِعِينَ الْمُتَشَابِهَ بِالتَّأْوِيلِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْيَهُودِ الْمُحَرِّفِينَ لَهُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قال الله تعالى: {في قلوبهم زيغ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 أَيْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ وَضَحَ لَكَ الْأَمْرُ وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّاسِخِينَ بِالْمُتَشَابِهِ وَعَلَى هذا فالوقف على {والراسخون في العلم} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أصحاب اليمين فسلام لك} ،فَقِيلَ: الْفَاءُ جَوَابُ أَمَّا وَيَكُونُ الشَّرْطُ لَا جَوَابَ لَهُ وَقَدْ سَدَّ جَوَابُ أَمَّا مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ وَقِيلَ: بَلْ جَوَابُ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ أَمَّا وَتَجِيءُ أَيْضًا مركبة من أم المنقطعة وما الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَأُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي الْمِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أماذا كنتم تعملون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 إما المكسورة المشددة نَحْوُ: اشْتَرِ لِي إِمَّا لَحْمًا وَإِمَّا لَبَنًا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تتخذ فيهم حسنا} {إما أن تلقي وإما أن نكون} {فإما منا بعد وإما فداء} وانتصب منا وفداء على المصدر أي من مننتم وفاديتم وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهِيَةِ: حُكْمُهَا فِي هَذَا الْقِسْمِ التَّكْرِيرُ وَلَا تَكْرِيرَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ عِوَضٌ مِنْ تَكْرِيرِهَا تَقُولُ إِمَّا تَقُولُ الْحَقَّ وَإِلَّا فَاسْكُتْ وَإِلَّا بِمَعْنَى إِمَّا وَبِمَعْنَى الْإِبْهَامِ، نحو: {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} {إما العذاب وإما الساعة} {إما شاكرا وإما كفورا} وَتَكُونُ بِمَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ مُرَكَّبَةً مِنْ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وما الزَّائِدَةِ وَهَذِهِ لَا تُكَرَّرُ وَالْأَكْثَرُ فِي جَوَابِهَا نُونُ التَّوْكِيدِ، نَحْوُ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أحدا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 {قل رب إما تريني ما يوعدون} {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم} {وإما تخافن من قوم خيانة} وَإِنَّمَا دَخَلَتْ مَعَهَا نُونُ التَّوْكِيدِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إما شاكرا وإما كفورا} فقال البصريون للتخيير فانتصاب شاكرا وكفورا عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: التَّخْيِيرُ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى إِخْبَارِ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَقِيلَ: حَالٌ مُقَيِّدَةٌ أَيْ إِمَّا أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُمَا الشُّكْرَ فَهُوَ عَلَامَةُ السَّعَادَةِ أَوِ الْكُفْرَ فَهُوَ عَلَامَةُ الشَّقَاوَةِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لِلتَّفْصِيلِ وَأَجَازَ الكوفيون أن تكون ها هنا شَرْطِيَّةً أَيْ إِنْ شَكَرَ وَإِنْ كَفَرَ قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ إِلَّا أَنْ تُضْمِرَ بَعْدَ إِنْ فِعْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استجارك} وَلَا يَجِبُ إِضْمَارُهُ هُنَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ رَفْعُ شَاكِرٍ بِذَلِكَ الْفِعْلِ وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الشَّجَرِيِّ بِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ يُضْمِرُونَ بَعْدَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ فِعْلًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ لَفْظِهِ فَيَرْتَفِعُ الِاسْمُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ كَقَوْلِهِ تعالى: {إن امرؤ هلك} {وإن امرأة خافت} كَذَلِكَ يُضْمِرُونَ بَعْدَهُ أَفْعَالًا تَنْصِبُ الِاسْمَ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ كَقَوْلِكَ إِنْ زَيْدًا أَكْرَمْتَهُ نَفَعَكَ أَيْ إِنْ أَكْرَمْتَ أَلْ تَقَدَّمَتْ بِأَقْسَامِهَا فِي قَاعِدَةِ التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 الْآنَ اسْمٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ بِالْحَقِيقَةِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ حَدٌّ لِلزَّمَانَيْنِ أَيْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي وَظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يُتَجَوَّزُ بِهَا عَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَاضِي وَمَا يَقْرُبُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ حَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي اللُّبَابِ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ لِوَقْتٍ حَضَرَ جَمِيعُهُ كَوَقْتِ فِعْلِ الْإِنْشَاءِ حَالَ النُّطْقِ بِهِ أَوْ ببعضه بقوله تَعَالَى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رصدا} {الآن خفف الله عنكم} وَهَذَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ الْآنَ يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ ثُمَّ قَدْ تَتَّسِعُ فِيهِ الْعَرَبُ فَتَقُولُ أَنَا الْآنَ أَنْظُرُ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْيَسِيرِ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ وَمَا أَتَى بَعْدَهُ كَمَا تَقُولُ أَنَا الْيَوْمَ خَارِجٌ تُرِيدُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي عَقِبَ اللَّيْلَةِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَظَرْفِيَّتُهُ غَالِبَةٌ لَا لازمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 أُفٍّ صَوْتٌ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ التَّكَرُّهِ وَالتَّضَجُّرِ وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَقِيلَ: اسْمٌ لِفِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ كُفَّا أَوِ اتْرُكَا وَقِيلَ: اسْمٌ لِفِعْلٍ مَاضٍ أَيْ كَرِهْتُ وَتَضَجَّرْتُ حَكَاهُمَا أَبُو الْبَقَاءِ وَحَكَى غَيْرُهُ ثَالِثًا أَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُضَارِعٍ أَيْ أَتَضَجَّرُ مِنْكُمَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: {أُفٍّ لكم} ،فَأَحَالَ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْإِسْرَاءِ وَقَضِيَّتُهُ تَسَاوِي الْمَعْنَيَيْنِ وَقَالَ الْعَزِيزِيُّ فِي غَرِيبِهِ فِي هَذِهِ أَيْ تَلَفًا لَكُمْ فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ وَفَسَّرَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ أُفٍّ بمعنى قذرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 أَنَّى مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ فَفِي الشَّرْطِ تَكُونُ بِمَعْنَى أَيْنَ نَحْوُ أَنَّى يَقُمْ زَيْدٌ يَقُمْ عَمْرٌو وَتَأْتِي بِمَعْنَى كَيْفَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} {فأنى لهم} ، {أنى يؤفكون} {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ، أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَتَى شِئْتُمْ وَيَرُدُّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ وَهُوَ طِبْقُ سَبَبِ النُّزُولِ وَتَجِيءُ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ نَحْوُ: {أنى لك هذا} وقوله: {أنى يكون لي ولد} {أنى يكون لي غلام} قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا أَيْضًا كَيْفَ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ وَقُرِئَ شَاذًّا: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} أَيْ مِنْ أَيْنَ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ {إلى طعامه} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 وَتَكُونُ بِمَعْنَى مَتَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّى يُحْيِي هذه الله بعد موتها} وقوله: {قلتم أنى هذا} ،وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مِنْ أَيْنَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لِلسُّؤَالِ عَنِ الْحَالِ وَعَنِ الْمَكَانِ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنَّى مُشَاكِلَةٌ لِمَعْنَى أَيْنَ إِلَّا أَنَّ أَيْنَ لِلْمَوْضِعِ خَاصَّةً وَأَنَّى تَصْلُحُ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: فِيهَا مَعْنًى يَزِيدُ عَلَى أَيْنَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ كَانَ يُقَصِّرُ عَنْ مَعْنَى أَنَّى لَكِ لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّى لَكِ مِنْ أَيْنَ لَكِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ وقع في الجواب كذلك قوله: {هو من عند الله} ،وَلَمْ يَقُلْ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَجَوَابُ أَنَّى لك غَيْرُ جَوَابِ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا فَاعْرِفْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 أَيَّانَ فِي الْكَشَّافِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ قِيلَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ "أَيِّ" فِعْلَانِ مِنْهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَيُّ وَقْتٍ وَأَيُّ فِعْلٍ مِنْ أَوَيْتُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْبَعْضَ آوٍ إِلَى الْكُلِّ مُتَسَانِدٌ إِلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ وَقِيلَ أَصْلُهُ أَيُّ أَوَانٍ وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: جَاءَ أَيَّانَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَكَسْرُ هَمْزَتِهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا أَيُّ أَوَانٍ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مِنْ أَوَانٍ وَالْيَاءُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَيِّ فَبَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ وَاللَّامِ يَاءً أُدْغِمَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فِيهَا وَجُعِلَتِ الْكَلِمَتَانِ وَاحِدَةً وَهِيَ فِي الْأَزْمَانِ بِمَنْزِلَةِ مَتَى إِلَّا أَنَّ مَتَى أَشْهَرُ مِنْهَا وَفِي أَيَّانَ تَعْظِيمٌ وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ التَّفْخِيمِ بِخِلَافِ مَتَى قَالَ تَعَالَى: {أَيَّانَ مرساها} ، {أيان يبعثون} ، {أيان يوم الدين} ، {أيان يوم القيامة} وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ: إِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الشَّيْءِ الْمُعَظَّمِ أَمْرُهُ قَالَ: وَسَكَتَ الْجُمْهُورُ عَنْ كونها شرطا وذكر بعض المتأخرين مجيئها لدلالتها بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَلَكِنْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ إِي حَرْفُ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} ،وَلَا يَأْتِي قَبْلَ النَّهْيِ صِلَةً لَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 حَرْفُ الْبَاءِ أَصْلُهُ لِلْإِلْصَاقِ وَمَعْنَاهُ اخْتِلَاطُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَهُوَ الْأَكْثَرُ نَحْوُ بِهِ داء ومجازا كـ "مررت بِهِ" إِذْ مَعْنَاهُ جَعَلْتُ مُرُورِي مُلْصَقًا بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهُ لَا بِهِ فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الِاتِّسَاعِ وَقَدْ جَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا برؤوسكم} وَقَدْ تَأْتِي زَائِدَةً: إِمَّا مَعَ الْخَبَرِ نَحْوُ: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} وَإِمَّا مَعَ الْفَاعِلِ نَحْوُ: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فـ "الله" فاعل وشهيدا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ وَدَخَلَتْ لِتَأْكِيدِ الِاتِّصَالِ أَيْ لِتَأْكِيدِ شِدَّةِ ارْتِبَاطِ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَطْلُبُ فَاعِلَهُ طَلَبًا لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْبَاءُ تُوَصِّلُ الْأَوَّلَ إِلَى الثَّانِي فَكَأَنَّ الْفِعْلَ يَصِلُ إِلَى الْفَاعِلِ وَزَادَتْهُ الْبَاءُ اتِّصَالًا قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: فَعَلُوا ذَلِكَ إِيذَانًا بِأَنَّ الْكِفَايَةَ مِنَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ فِي عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ فَضُوعِفَ لَفْظُهَا لِيُضَاعَفَ مَعْنَاهَا وَقِيلَ: دَخَلَتِ الْبَاءُ لِتَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى اكْتَفُوا بِاللَّهِ وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُقَدَّرٌ وَالتَّقْدِيرُ كَفَى الِاكْتِفَاءُ بِاللَّهِ فَحُذِفَ الْمَصْدَرُ وَبَقِيَ مَعْمُولُهُ دَالًّا عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْبَاءَ إِذَا سَقَطَتِ ارْتَفَعَ اسم الله على الفاعلية كقوله عميرة ودع إن تجهزت غاديا *كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا* وَإِمَّا مَعَ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقوله: {تلقون إليهم بالمودة} أَيْ تَبْذُلُونَهَا لَهُمْ وَقَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وقوله: {بأيكم المفتون} جُعِلَتِ الْمَفْتُونُ اسْمَ مَفْعُولٍ لَا مَصْدَرًا كَالْمَعْقُولِ وَالْمَعْسُورِ وَالْمَيْسُورِ وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} {تنبت بالدهن} وقوله: {وامسحوا برؤوسكم} وَنَحْوِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِيءُ زَائِدَةً وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِزِيَادَتِهَا إِذَا تَأَدَّى الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ بِوُجُودِهَا وَحَالَةِ عَدَمِهَا عَلَى السَّوَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ فَإِنَّ مَعْنَى: {وَكَفَى بالله شهيدا} ،كما هي في أحسن بزيد ومعنى: {وامسحوا برؤوسكم} اجعلوا المسح ملاصقا برؤسكم وَكَذَا {بِوُجُوهِكُمْ} أَشَارَ إِلَى مُبَاشَرَةِ الْعُضْوِ بِالْمَسْحِ وَإِنَّمَا لَمْ يَحْسُنْ فِي آيَةِ الْغُسْلِ فَاغْسِلُوا بِوُجُوهِكُمْ لِدَلَالَةِ الْغَسْلِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ وَهَذَا كَمَا تَتَعَيَّنُ الْمُبَاشَرَةُ فِي قَوْلِكَ أَمْسَكْتُ بِهِ وَتَحْتَمِلُهَا فِي أَمْسَكْتُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلِاخْتِصَارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وأما {تلقون إليهم بالمودة} فَمَعْنَاهُ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمُ النَّصِيحَةَ بِالْمَوَدَّةِ وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: مَعْنَاهُ تُخْبِرُونَهُمْ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الرَّجُلُ أَهْلَ مَوَدَّتِهِ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: ضُمِّنَ {تُلْقُونَ} مَعْنَى تَرْمُونَ مِنَ الرَّمْيِ بِالشَّيْءِ يُقَالُ أَلْقَى زَيْدٌ إِلَيَّ بِكَذَا أَيْ رَمَى بِهِ وَفِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِلْقَاءٌ بِكِتَابٍ أَوْ بِرِسَالَةٍ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَوَدَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْمَوَدَّةِ فَلِهَذَا جِيءَ بِالْبَاءِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عليك حسيبا} ،فَلَيْسَتْ زَائِدَةً وَإِلَّا لَلَحِقَ الْفِعْلَ قَبْلَهَا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ لِلنَّفْسِ وَهُوَ مِمَّا يَغْلُبُ تَأْنِيثُهُ وَجُوِّزَ فِي الْفِعْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كَانَ مُقَدَّرَةً بَعْدَ كَفَى وَيَكُونَ بِنَفْسِكَ صِفَةً لَهُ قَائِمَةً مَقَامَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ الْمَنْصُوبُ بَعْدَهُ أَعْنِي حَسِيبًا كَقَوْلِكَ نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ وَتَجِيءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَهِيَ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْهَمْزَةِ فِي إِيصَالِ الْفِعْلِ اللَّازِمِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ نحو: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أَيْ أَذْهَبَ كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت} وَلِهَذَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَهُمَا مُتَعَاقِبَتَانِ وَأَمَّا قوله تعالى: {أسرى بعبده} فَقِيلَ: أَسْرَى وَسَرَى بِمَعْنًى كَسَقَى وَأَسْقَى وَالْهَمْزَةُ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ وَإِنَّمَا الْمُعَدَّى الْبَاءُ فِي بِعَبْدِهِ وَزَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ مَفْعُولَ أَسْرَى مَحْذُوفٌ وَأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْهَمْزَةِ أَيْ أَسْرَى اللَّيْلَةَ بِعَبْدِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ لَا تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ وَالسُّهَيْلِيُّ أَنَّهَا تَقْتَضِي مُصَاحَبَةَ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ فِي الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْهَمْزَةِ وَرُدَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَذْهَبُ مَعَ سَمْعِهِمْ فَالْمَعْنَى لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ وَقَالَ الصَّفَّارُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ ذَهَبَ الْبَرْقَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَكُونَ الذَّهَابُ عَلَى صِفَةٍ تَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ كما قال {وجاء ربك} قَالَ: وَإِنَّمَا الَّذِي يُبْطِلُ مَذْهَبَهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنًى تَحِلُّ بنا لولا بحاء الرَّكَائِبِ أَيْ تَجْعَلُنَا حُلَّالًا لَا مُحْرِمِينَ وَلَيْسَتِ الدِّيَارُ دَاخِلَةً مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لِكَوْنِ الْبَاءِ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فإن قلت: كيف جاء: {تنبت بالدهن} وَالْهَمْزَةُ فِي أَنْبَتَ لِلنَّقْلِ؟ قُلْتُ: لَهُمْ فِي الِانْفِصَالِ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَاءُ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: تُنْبِتُ ثَمَرَهَا وَفِيهِ الدُّهْنُ أَيْ وَفِيهِمَا الدُّهْنُ وَالْمَعْنَى تَنْبُتُ الشَّجَرَةُ بِالدُّهْنِ أَيْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْهُ وَتَخْتَلِطُ بِهِ الْقُوَّةُ بِنَبْتِهَا عَلَى مَوْقِعِ الْمِنَّةِ وَلَطِيفِ الْقُدْرَةِ وَهِدَايَةً إِلَى اسْتِخْرَاجِ صِبْغَةِ الْآكِلِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَبَتَ وَأَنْبَتَ بمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وَلِلِاسْتِعَانَةِ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى آلَةِ الْفِعْلِ نَحْوُ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَمِنْهُ فِي أَشْهَرِ الْوَجْهَيْنِ: {بسم الله الرحمن الرحيم} وَلِلتَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} {فبظلم من الذين هادوا} {فكلا أخذنا بذنبه} وَلِلْمُصَاحَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَعَ وَتُسَمَّى بَاءَ الْحَالِ كَقَوْلِهِ تعالى: {قد جاءكم الرسول بالحق} أي مع الحق أو محقا {يا نوح اهبط بسلام منا} وَلِلظَّرْفِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ فِي وَتَكُونُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوُ: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} {وبالأسحار هم يستغفرون} وَمَعَ النَّكِرَةِ نَحْوُ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأنتم أذلة} {نجيناهم بسحر} قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي التَّنْبِيهِ وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا مَعَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوُ كُنَّا بِالْبَصْرَةِ وَأَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِ الشَّمَّاخِ: وَهُنَّ وُقُوفٌ يَنْتَظِرْنَ قضاءه بضاحي غداة أَمْرُهُ وَهُوَ ضَامِزُ أَيْ فِي ضَاحِي وَهِيَ نكرة وللمجاوزة كـ "عن" نحو: {فاسأل به خبيرا} {سأل سائل بعذاب واقع} {ويوم تشقق السماء بالغمام} أي عن الغمام {بين أيديهم وبأيمانهم} أَيْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَلِلِاسْتِعْلَاءِ كَعَلَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ كَمَا قَالَ: {هَلْ آمَنُكُمْ عليه} ونحو: {وإذا مروا بهم يتغامزون} أَيْ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مصبحين} وللتبعيض كـ "من" نحو: {يشرب بها عباد الله} أي منها وخرج عليه: {وامسحوا برؤوسكم} وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ فَإِنَّ مَسَحَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمُزَالُ عَنْهُ وَإِلَى آخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ الْمُزِيلُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَامْسَحُوا أيديكم برءوسكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 بَلْ حَرْفُ إِضْرَابٍ عَنِ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتٍ لِلثَّانِي يَتْلُوهُ جُمْلَةٌ وَمُفْرَدٌ فَالْأَوَّلُ: الْإِضْرَابُ فِيهِ، إِمَّا بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوَّلِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ بِإِبْطَالِهِ وَتُسَمَّى حَرْفَ ابْتِدَاءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} أَيْ بَلْ هُمْ عِبَادٌ وَكَذَا: {أَمْ يَقُولُونَ به جنة بل جاءهم بالحق} وَإِمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ وَالْخُرُوجُ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ عَنِ الْأَوَّلِ وَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَاطِفَةٌ كَمَا قَالَهُ الصَّفَّارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} {بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا} وَقَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ من ربك} ،انْتَقَلَ مِنَ الْقِصَّةِ الْأُولَى إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شك منها بل هم منها عمون} لَيْسَتْ لِلِانْتِقَالِ بَلْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَقَوْلِهِ: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أزواجكم بل أنتم قوم عادون} وفي موضع: {بل أنتم قوم تجهلون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وفي موضع: {بل أنتم قوم مسرفون} والمراد تعديد خطاياهم واتصافهم بهذه الصفات وبل لَمْ يَنْوِ مَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ إِتْيَانِ الذُّكُورِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِنَاثِ بَلِ اسْتَدْرَكَ بِهَا بَيَانَ عُدْوَانِهِمْ وَخَرَجَ مِنْ تِلْكَ الْقِصَّةِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَزَعَمَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ وَابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ إِبْطَالُ مَا لِلْأَوَّلِ وَإِثْبَاتُهُ لِلثَّانِي إِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ نَحْوُ جَاءَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغَلَطِ فَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ وَإِنْ كَانَ مَا فِي النَّفْيِ نَحْوُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْغَلَطِ يَكُونُ عَمْرٌو غَيْرَ جَاءٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُثْبَتًا لِعَمْرٍو الْمَجِيءُ فَلَا يَكُونُ غَلَطًا انْتَهَى ومنه أيضا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا} وَقَوْلِهِ: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يظلمون بل قلوبهم في غمرة} وَقَوْلُهُ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كفروا في عزة وشقاق} ، ترك الكلام الأول وأخذ بـ "بل" فِي كَلَامٍ ثَانٍ ثُمَّ قَالَ حِكَايَةً عَنِ المشركين {أأنزل عليه الذكر من بيننا} ثُمَّ قَالَ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذكري} ثم ترك الكلام الأول وأخذ ب بل فِي كَلَامٍ آخَرَ فَقَالَ: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عذاب} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 وَالثَّانِي -أَعْنِي مَا يَتْلُوهَا مُفْرَدٌ- فَهِيَ عَاطِفَةٌ ثُمَّ إِنْ تَقَدَّمَهَا إِثْبَاتٌ نَحْوُ اضْرِبْ زَيْدًا بَلْ عَمْرًا وَأَقَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو فَقَالَ النُّحَاةُ هِيَ تَجْعَلُ مَا قَبْلَهَا كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَيُثْبَتُ مَا بَعْدَهَا وَإِنْ تَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ فَهِيَ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا عَلَى حَالِهِ وَجَعْلِ ضِدِّهِ لِمَا بَعْدَهَا نَحْوُ مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وَلَا يَقُمْ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وَوَافَقَ الْمُبَرِّدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ أَجَازَ مَعَ ذلك أن تكون ناقلة مع النَّهْيِ أَوِ النَّفْيِ إِلَى مَا بَعْدَهَا وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ قَبْلَهَا النَّفْيُ هَلْ تَنْفِي الْفِعْلَ أَوْ تُوجِبُهُ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 بَلَى لَهَا مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رَدًّا لِنَفْيٍ يَقَعُ قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أَيْ عَمِلْتُمُ السُّوءَ وَقَوْلِهِ: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ من يموت بلى} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سبيل} ثم قال: {بلى} أَيْ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ وَالثَّانِي: أَنْ تَقَعَ جَوَابًا لِاسْتِفْهَامِ دَخَلَ عَلَيْهِ نَفْيُ حَقِيقَةٍ فَيَصِيرُ مَعْنَاهَا التَّصْدِيقَ لِمَا قَبْلَهَا كَقَوْلِكَ أَلَمْ أَكُنْ صَدِيقَكَ أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ فَتَقُولُ بَلَى أَيْ كُنْتَ صَدِيقِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالوا بلى قد جاءنا نذير} ومنه: {ألست بربكم قالوا بلى} ،أَيْ أَنْتَ رَبُّنَا فَهِيَ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَصْدِيقٌ لِمَا قَبْلَهَا وَفِي الْأَوَّلِ رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا وَتَكْذِيبٌ وَقَوْلُهُ: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالوا بلى} أَيْ كُنْتُمْ مَعَنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَنَ النَّفْيُ بِالِاسْتِفْهَامِ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَالْحَقِيقِيُّ كَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} : {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى} ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ بَلْ نُحْيِيهَا قَادِرِينَ لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْيِ جَمْعِ الْعِظَامِ وَبَلَى إِثْبَاتُ فِعْلِ النَّفْيِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَعْدَهَا مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ فَلْنُحْيِهَا قَادِرِينَ لدلالة أيحسب عليه وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ مَجِيءِ الْجَوَابِ عَلَى نَمَطِ السُّؤَالِ وَالْمَجَازِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بربكم قالوا بلى} فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَلْ هُوَ لِلتَّقْرِيرِ لَكِنَّهُمْ أَجْرَوُا النَّفْيَ مَعَ التَّقْرِيرِ مجرى النفي المجرد في رده بـ "بلى" وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا وَوَجْهُهُ أَنَّ نَعَمْ تَصْدِيقٌ لِمَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا وَنَازَعَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمَحْكِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ إِثْبَاتٌ قَطْعًا وَحِينَئِذٍ فَنَعَمْ فِي الْإِيجَابِ تَصْدِيقٌ لَهُ فَهَلَّا أُجِيبَ بِمَا أُجِيبَ بِهِ الْإِيجَابُ فَإِنَّ قَوْلَكَ أَلَمْ أُعْطِكَ دِرْهَمًا بِمَنْزِلَةِ أَعْطَيْتُكَ وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ذَكَرَهُ الصَّفَّارُ أَنَّ الْمُقَرِّرَ قَدْ يُوَافِقُهُ الْمُقَرَّرُ فِيمَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ لَا فَلَوْ قِيلَ فِي جَوَابِ: أَلَمْ أُعْطِكَ نَعَمْ لَمْ يُدْرَ هَلْ أَرَادَ نَعَمْ لَمْ تُعْطِنِي فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُقَرِّرِ أَوْ نَعَمْ أَعْطَيْتَنِي فَيَكُونُ مُوَافِقًا فَلَمَّا كان يلتبس أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ بَلَى إِنَّمَا يُجَابُ بِهَا النَّفْيُ هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا قوله تعالى: {بلى قد جاءتك آياتي} فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نَفْيٌ لَفْظًا لَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ فإن معنى {لو أن الله هداني} ما هداني فلذلك أجيب بـ "بلى" الَّتِي هِيَ جَوَابُ النَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ وَلِذَلِكَ حَقَّقَهُ بقوله: {قد جاءتك آياتي} وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْهِدَايَاتِ وَمِثْلُهُ: {بَلَى قَادِرِينَ} فَإِنَّهُ سَبَقَ نَفْيٌ وَهُوَ {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ عِظَامَهُمْ فَرَدَّ عليهم بقوله: {بلى قادرين} وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَقُّ بَلَى أَنْ تَجِيءَ بَعْدَ نَفْيٍ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ وَهَذَا الْقَيْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النَّفْيِ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ وَأَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهَا جَوَابُ النَّفْيِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ: حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّفْيِ ثُمَّ حَمْلُ التَّقْرِيرِ عَلَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ وَأَجَابَهُ بِنَعَمْ وَسَأَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَلَّا قُرِنَ الْجَوَابُ بِمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ وهو قوله: {أن الله هداني} ولم يفصل بينهما بآية؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ إِنْ تَقَدَّمَ عَلَى إِحْدَى الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ فُرِقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّظْمِ فَلَمْ يَحْسُنْ وَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْقَرِينَةُ الْوُسْطَى نُقِضَ التَّرْتِيبُ وَهُوَ التَّحَسُّرُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الطَّاعَةِ ثُمَّ التَّعْلِيلُ بِفَقْدِ الْهِدَايَةِ ثُمَّ تَمَنِّي الرَّجْعَةِ فَكَانَ الصَّوَابُ مَا جَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى أَقْوَالَ النَّفْسِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَنَظْمِهَا ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا اقْتَضَى الْجَوَابُ مِنْ بَيْنِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّكَ مَتَى رَأَيْتَ بَلَى أَوْ نعم بعد الكلام يَتَعَلَّقُ بِهَا تَعَلُّقَ الْجَوَابِ وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ سُؤَالًا مُقَدَّرًا لَفْظُهُ لَفْظُ الْجَوَابِ وَلَكِنَّهُ اخْتُصِرَ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ عِلْمًا بِالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فله أجره عند ربه} ،فَقَالَ: الْمُجِيبُ بَلَى وَيُعَادُ السُّؤَالُ فِي الْجَوَابِ وَكَذَا قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ به خطيئته} ، لَيْسَتْ بَلَى فِيهِ جَوَابًا لِشَيْءٍ قَبْلَهَا بَلْ مَا قَبْلَهَا دَالٌّ عَلَى مَا هِيَ جَوَابٌ لَهُ وَالتَّقْدِيرُ لَيْسَ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ خَالِدًا فِي النَّارِ أَوْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ فَجَوَابُهُ الْحَقُّ بَلَى وَقَدْ يُكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الْجَوَابِ دَالًّا عَلَى بَاقِيهِ كَمَا قال تعالى: {بلى قادرين} أَيْ بَلَى نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ فَذِكْرُ الْجُمْلَةِ بِمَثَابَةِ ذكر الجزاء من الجملة وكاف عنها الثالث: مِنَ الْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ أَنَّ الْجَوَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَلْفُوظٍ بِهِ أَوْ مُقَدَّرٍ فَإِنْ كَانَ المقدر فَالْجَوَابُ بِالْكَلَامِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُقَدِّرُهُ مُسْتَفْهِمًا عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ قَامَ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ نَعَمْ وَلَا لَا لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا يَعْنِي بِذَلِكَ وإن كان الجواب الملفوظ بِهِ فَإِنْ أَرَدْتَ التَّصْدِيقَ قُلْتَ نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ بَلَى فَتَقُولُ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ أَمَا قَامَ زَيْدٌ نَعَمْ إِذَا صَدَّقْتَهُ وَبَلَى إِذَا كَذَّبْتَهُ وَكَذَلِكَ إِذَا أَدْخَلْتَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى النَّفْيِ وَلَمْ تُرِدِ التَّقْرِيرَ بَلْ أَبْقَيْتَ الكلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 عَلَى نَفْيِهِ فَتَقُولُ فِي تَصْدِيقِ النَّفْيِ نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ بَلَى نَحْوُ أَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ فَتَقُولُ فِي تَصْدِيقِ النَّفْيِ نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ بلى الرابع: يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ وَالْحَذْفُ بَعْدَ بَلَى فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جاءنا نذير} وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قل بلى وربي لتأتينكم} وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الملائكة منزلين بلى إن تصبروا} ،فَالْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ بَعْدَ بَلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَكْفِيكُمْ أَيْ بَلَى يَكْفِيكُمْ إِنْ تَصْبِرُوا وَقَوْلِهِ: {أولم تؤمن قال بلى} ،أَيْ قَدْ آمَنْتُ وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النار إلا أياما معدودة} ثُمَّ قَالَ بَلَى أَيْ تَمْسَسْكُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا من كان هودا أو نصارى} ثُمَّ قَالَ بَلَى أَيْ يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ وَقَوْلِهِ: {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى} وقد تحذف بلى وما بعدها كقوله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صبرا} أَيْ بَلَى قُلْتَ لِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِمَنْ تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} وَالْهِدَايَةُ سَابِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَالْمُرَادُ ثُمَّ دَامَ عَلَى الْهِدَايَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} وَقَدْ تَأْتِي لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شهيد} وقوله: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه} وَتَقُولُ: زَيْدٌ عَالِمٌ كَرِيمٌ ثُمَّ هُوَ شُجَاعٌ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ تَجِيءُ ثُمَّ كَثِيرًا لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَرْتَبَتَيِ الْفِعْلِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ تَفَاوُتِ رُتْبَتَيِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فـ "ثم" هُنَا لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ مِنْ رُتْبَةِ الْعَدْلِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ وَصْفِ الْعَادِلِينَ وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ،دَخَلَتْ لِبَيَانِ تَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْفَكِّ وَالْإِطْعَامِ مِنْ رُتْبَةِ الْإِيمَانِ إِلَّا أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَعَرُّضٍ لِوَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كفروا بربهم يعدلون} أن ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 دخلت لبعد ما بين الكفر وخلق السموات وَالْأَرْضِ وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكَشَّافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَغَفَّارٌ لِمَنْ تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ استقاموا} قَالَ كَلِمَةُ التَّرَاخِي دَلَّتْ عَلَى تَبَايُنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ دَلَالَتَهَا عَلَى تَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو أَعْنِي أَنَّ مَنْزِلَةَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الخبر مُبَايِنَةٌ لِمَنْزِلَةِ الْخَيْرِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا أَعْلَى مِنْهَا وَأَفْضَلُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ قتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر} إِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى ثُمَّ الدَّاخِلَةِ فِي تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ؟ قُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَرَّةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الدُّعَاءِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى وَقَوْلُهُ: {ثم كان من الذين آمنوا} قال جاء بـ "ثم" لِتَرَاخِي الْإِيمَانِ وَتَبَاعُدِهِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ عَلَى الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ لَا فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ السَّابِقُ الْمُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ ملة إبراهيم حنيفا} أن ثم هذه فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّهُ أَوْلَى وَأَشْرَفُ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَجَلُّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ أَتْبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِلَّتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ يَنْدَفِعُ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّ ثُمَّ قَدْ تَخْرُجُ عَنِ التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ وَتَصِيرُ كَالْوَاوِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ الزَّمَانِيَّ لُزُومًا أَمَّا إِذَا قُلْنَا إنها ترد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 لِقَصْدِ التَّفَاوُتِ وَالتَّرَاخِي عَنِ الزَّمَانِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى الِانْفِصَالِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ لَا أَنْ تَقُولَ إِنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُهْلَةِ وَتَكُونُ لِلتَّبَايُنِ فِي الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مُهْلَةٍ زَمَانِيَّةٍ بَلْ لِيُعْلَمَ مَوْقِعُ مَا يُعْطَفُ بِهَا وَحَالُهُ وَأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ كَافِيًا فِيمَا قُصِدَ فِيهِ وَلَمْ يُقْصَدْ فِي هَذَا تَرْتِيبٌ زَمَانِيٌّ بَلْ تَعْظِيمُ الْحَالِ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَتَوَقُّعُهُ وَتَحْرِيكُ النُّفُوسِ لِاعْتِبَارِهِ وَقِيلَ: تأتي للتعجب بنحو: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وقوله: {ثم يطمع أن أزيد كلا} وَقِيلَ: بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثم الله شهيد} أَيْ هُوَ شَهِيدٌ وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بيانه} وَالصَّوَابُ أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا لِمَا سَبَقَ قَبْلَهُ وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا} ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ قَبْلَ خَلْقِنَا فَالْمَعْنَى وَصَوَّرْنَاكُمْ وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا وَالْمَعْنَى ابْتَدَأْنَا خَلْقَكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ صَوَّرَهُ وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ صَوَّرَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {خَلَقَكُمْ مِنْ طين ثم قضى أجلا} وَقَدْ كَانَ قَضَى الْأَجَلَ فَمَعْنَاهُ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي خَلَقْتُهُ مِنْ طِينٍ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي قَضَيْتُ الأجل كما تقول كلمتك اليوم ثم كلمتك أمس أي أني أخبرك بذالك ثم أخبرك بهذا وَهَذَا يَكُونُ فِي الْجُمَلِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 فَأَمَّا عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا لِلتَّرْتِيبِ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ قِيلَ: وَتَأْتِي زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} إلى قوله: {ثم تاب عليهم} لِأَنَّ تَابَ جَوَابُ إِذَا مِنْ قَوْلِهِ: {حَتَّى إذا ضاقت} وَتَأْتِي لِلِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثم لا ينصرون} فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمَانِعُ مِنَ الْجَزْمِ عَلَى الْعَطْفِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عُدِلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ إِلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ ابْتِدَاءً كَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ رَفْعِهِ وَجَزْمِهِ فِي الْمَعْنَى؟ قِيلَ: لَوْ جُزِمَ لَكَانَ نَفْيُ النَّصْرِ مُقَيَّدًا بِمُقَاتَلَتِهِمْ كَتَوَلِّيهِمْ وَحِينَ رُفِعَ كَانَ النَّصْرُ وَعْدًا مُطْلَقًا كَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ شَأْنُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ أَنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْهَا وَأُبَشِّرُكُمْ بِهَا بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَنَّهُمْ مَخْذُولُونَ مَنَعْتُ عَنْهُمُ النُّصْرَةَ وَالْقُوَّةَ ثُمَّ لَا يَنْهَضُونَ بَعْدَهَا بِنَجَاحٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَمْرٌ وَاعْلَمْ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرْفَ اسْتِئْنَافٍ فَفِيهَا مَعْنَى الْعَطْفِ وَهُوَ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَكُمْ فَيُهْزَمُونَ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى التَّرَاخِي فِي ثُمَّ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 قِيلَ التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي تَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِتَوَلِّيهِمُ الْأَدْبَارَ وكقوله تَعَالَى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} ثم المفتوحة ظرف للبعيد بمعنى قال تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت} وقرئ: {فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد} ،أَيْ هُنَالِكَ اللَّهُ شَهِيدٌ بِدَلِيلِ: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لله الحق} وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَثُمَّ إِذَا مَا وقع آمنتم به} مَعْنَاهُ أَهُنَالِكَ، وَلَيْسَتْ ثُمَّ الْعَاطِفَةَ وَهَذَا وَهْمٌ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمَضْمُومَةُ بِالْمَفْتُوحَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 حاشا اسم يأتي بمعنى التنزيه كقوله: {حاش لله} بِدَلِيلِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَاشًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ كَمَا قيل: {براءة من الله} مِنْ كَذَا أَيْ حَاشًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ كَقَوْلِهِمْ رَعْيًا لِزَيْدٍ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {حَاشَا اللَّهِ} بِالْإِضَافَةِ فَهَذَا مِثْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ وَقِيلَ: بِمَعْنَى جَانَبَ يُوسُفُ الْمَعْصِيَةَ لِأَجْلِ اللَّهِ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هذا بشرا} قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ فَاعِلٌ مِنَ الْحَشَا الَّذِي هُوَ النَّاحِيَةُ أَيْ صَارَ فِي نَاحِيَةٍ أَيْ بَعُدَ مِمَّا رُمِيَ بِهِ وَتَنَحَّى عَنْهُ فَلَمْ يَغْشَهُ وَلَمْ يُلَابِسْهُ فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا قُلْنَا بِاسْمِيَّةِ حَاشَا فَمَا وَجْهُ تَرْكِ التَّنْوِينِ فِي قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ؟ قُلْتُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ حَاشَى الْمُشَبَّهَةَ بِحَاشَى الَّذِي هُوَ حَرْفٌ وَأَنَّهُ شَابَهَهُ لَفْظًا ومعنى فجرى مجراه في البناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 حتى كـ "إلى" لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ مَا بَعْدَ حَتَّى يَدْخُلَ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا قَطْعًا كَقَوْلِكَ قام القوم حتى زيد فـ "زيد" هَاهُنَا دَخَلَ فِي الْقِيَامِ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي قَامَ الْقَوْمُ إِلَى زَيْدٍ وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ إِنَّ حَتَّى تَجْرِي مَجْرَى الْوَاوِ وَثُمَّ فِي التَّشْرِيكِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى دُخُولِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ" وَقَوْلِهِ: "أُرِيتُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ" وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَتَّى تَخْتَصُّ بِالْغَايَةِ الْمَضْرُوبَةِ وَمِنْ ثَمَّ جَازَ أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حَتَّى رَأَسِهَا وَامْتَنَعَ حَتَّى نصفها أو ثلثها وإلى عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَايَةٍ انْتَهَى ثُمَّ الْغَايَةُ تَجِيءُ عَاطِفَةً وَهِيَ لِلْغَايَةِ كَيْفَ وَقَعَتْ إِمَّا فِي الشَّرَفِ كَجَاءَ الْقَوْمُ حَتَّى رَئِيسُهُمْ أَوِ الضعة نحو أسنت الْفِصَالُ حَتَّى الْقَرْعَى أَوْ تَكُونُ جُمْلَةً مِنَ الْقَوْلِ عَلَى حَالٍ هُوَ آخِرُ الْأَحْوَالِ الْمَفْرُوضَةِ أَوِ الْمُتَوَهَّمَةِ بِحَسْبِ ذَلِكَ الشَّأْنِ إِمَّا فِي الشدة نحو: {وزلزلوا حتى يقول} إِذَا أُرِيدَ حِكَايَةُ الْحَالِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَّةِ فَإِنْ أُرِيدَ الِاسْتِقْبَالُ لَزِمَ النَّصْبُ وَإِمَّا فِي الرَّخَاءِ نَحْوُ شَرِبَتِ الْإِبِلُ حَتَّى يَجِيءَ الْبَعِيرُ يَجُرُّ بَطْنَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 ولانتهاء الغاية نحو: {حتى مطلع الفجر} {حتى يبلغ الكتاب أجله} وَالتَّعْلِيلِ وَعَلَامَتُهَا أَنْ تَحْسُنَ فِي مَوْضِعِهَا كَيْ نَحْوُ حَتَّى تَغِيظَ ذَا الْحَسَدِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين} ويحتملها: {حتى تفيء} وقوله: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم} {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عند رسول الله حتى ينفضوا} قِيلَ: وَلِلِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أحد حتى يقولا} وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْغَايَةِ وَحَرْفُ ابْتِدَاءٍ أَيْ تُبْتَدَأُ بِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَوِ الْفِعْلِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حتى يقول الرسول} فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ. وَكَذَا الدَّاخِلَةُ عَلَى إِذَا في نحو: {حتى إذا فشلتم} وَنَظَائِرِهِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 حَيْثُ ظَرْفُ مَكَانٍ قَالَ الْأَخْفَشُ وَلِلزَّمَانِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ تَشْبِيهًا بِالْغَايَاتِ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْجُمْلَةِ كَلَا إِضَافَةٍ وَلِهَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} : مَا بَعْدَ حَيْثُ صِلَةٌ لَهَا وَلَيْسَتْ بِمُضَافَةٍ إِلَيْهِ يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُضَافَةً لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهَا فَصَارَتْ كَالصِّلَةِ لَهَا أَيْ كَالزِّيَادَةِ وَفَهِمَ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا مَوْصُولَهٌ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَمِنَ العرب من يعرب حيث قراءة بعضهم {من حيث لا يعلمون} بالكسر تحتملها وتحتمل الْبِنَاءِ عَلَى الْكَسْرِ وَقَدْ ذَكَرُوا الْوَجْهَيْنِ فِي قراءة: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا ظَرْفٌ لَا يَتَصَرَّفُ وَجَوَّزَ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهَا مَفْعُولًا بِهِ عَلَى السَّعَةِ قَالُوا وَلَا تَكُونُ ظَرْفًا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي مَكَانٍ وَإِذَا كَانَتْ مَفْعُولًا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا أَعْلَمُ لِأَنَّ أَعْلَمَ لَا يَعْمَلُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ فَيُقَدَّرُ لَهَا فِعْلٌ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى ظَرْفِيَّتِهَا مَجَازًا وَفِيهِ نَظَرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 دُونَ نَقِيضُ فَوْقَ وَلَهَا مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ الْمُبْهَمِ لِاحْتِمَالِهَا الْجِهَاتِ السِّتَّ وَقِيلَ: هِيَ ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى السُّفْلِ فِي الْمَكَانِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ كَقَوْلِكَ زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا دُونَ فَتَقْصِيرٌ عَنِ الْغَايَةِ قَالَ الصَّفَّارُ: لَا يُرِيدُ الْغَايَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلِ الْغَايَةَ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَهَا فَإِذَا قُلْتَ أَنَا دُونَكَ فِي الْعِلْمِ مَعْنَاهُ أَنَا مُقَصِّرٌ عَنْكَ وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُتَجَوَّزٌ فِيهِ أَيْ أَنَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْعِلْمِ لَا يَبْلُغُ مَوْضِعَكَ وَنَظِيرُهُ فُلَانٌ فَوْقَكَ فِي الْعِلْمِ الثَّانِي: اسْمٌ نحو: {من دونه} الثَّالِثُ: صِفَةٌ، نَحْوُ: هَذَا الشَّيْءُ دُونَ أَيِّ رَدِيءٍ فَيَجْرِي بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ وَقَدْ تَكُونُ صِفَةً لَا بِمَعْنَى رَدِيءٍ وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ نَحْوَ رَأَيْتُ رَجُلًا دُونَكَ ثُمَّ قَدْ يُحْذَفُ هَذَا الْمَوْصُوفُ وَتُقَامُ الصِّفَةُ مَقَامَهُ وَحِينَئِذٍ فَلِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَتَانِ أَحَدُهُمَا إِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِ الْمَوْصُولِ وَجَرْيِهَا بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ وَالثَّانِيَةُ إِبْقَاؤُهَا عَلَى أَصْلِهَا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 الظَّرْفِيَّةِ وَعَلَيْهَا جَاءَ قَوْلُهُ: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} ،قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَدْنَى مَكَانٍ مِنَ الشَّيْءِ وَمِنْهُ الدُّونُ لِلْحَقِيرِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ نَحْوُ زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو أَيْ فِي الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ وَاتُّسِعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي تَجَاوُزِ حَدٍّ إِلَى حَدٍّ نَحْوَ قَوْلِهِ تعالى: {أولياء من دون المؤمنين} أَيْ لَا يَتَجَاوَزُونَ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ دُونَ فِعْلٌ يُقَالُ دَانَ يَدُونُ دَوْنًا وَأُدِينَ إِدَانَةً وَالْمَعْنَى عَلَى الْحَقَارَةِ وَالتَّقْرِيبِ وَهَذَا دُونَ ذَلِكَ أَيْ قَرِيبٌ مِنْهُ وَدَوَّنَ الْكُتُبَ إِذَا جَمَعَهَا لِأَنَّ جَمْعَ الْأَشْيَاءِ إِدْنَاءُ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَتَقْلِيلُ الْمَسَافَةِ بَيْنَهَا وَدُونَكَ هَذَا أَصْلُهُ خُذْهُ مِنْ دونك أي من أدنى منك فاختصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 ذُو وَذَاتُ بِمَعْنَى صَاحِبٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذو العرش المجيد} ،وقوله: {ذواتا أفنان} وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافًا وَلَا يُضَافُ إِلَى صِفَةٍ وَلَا إِلَى ضَمِيرٍ وَإِنَّمَا وُضِعَتْ وُصْلَةً إِلَى وَصْفِ الْأَشْخَاصِ بِالْأَجْنَاسِ كَمَا أَنَّ الَّذِي وُضِعَتْ وُصْلَةً إِلَى وَصْلِ الْمَعَارِفِ بِالْجُمَلِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّوْضِيحُ وَالتَّخْصِيصُ وَالْأَجْنَاسُ أَعَمُّ مِنَ الْأَشْخَاصِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَخْصِيصُهَا لَهَا فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ مَرَرْتُ بِرَجُلِ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَضْلٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُعْقَلْ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فَإِذَا قُلْتَ بِذِي عِلْمٍ صَحَّ الْوَصْفُ وَأَفَادَ التَّخْصِيصَ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الصِّفَةُ تَابِعَةً لِلْمَوْصُوفِ فِي إِعْرَابِهِ وَمَعْنَاهُ وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَفَوْقَ كُلِّ ذي عالم عليم} فَقِيلَ الْعَالِمُ هُنَا مَصْدَرٌ كَالصَّالِحِ وَالْبَاطِلِ وَكَأَنَّهُ قال {وفوق كل ذي علم} فالقراءتان في المعنى سواء وقيل: ذي زائد ة وقيل: من إضافة المسمى إلا الِاسْمِ أَيْ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي شَخْصٍ يُسَمَّى عَالِمًا أَوْ يُقَالُ لَهُ عَالِمٌ عَلِيمٌ وَلَا يُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْأَشْخَاصِ وَلِهَذَا لَحَنُوا قَوْلَ بَعْضِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَذَوِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُضَافُ ذُو إِلَى ضَمِيرِ الْأَجْنَاسِ فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجِنْسِ هو الجنس في المعنى وَعَنِ ابْنِ بَرِّيٍّ أَنَّهَا تُضَافُ إِلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ صَاحِبٌ لِأَنَّهَا رَدِيفَتُهُ وَأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ إِضَافَتُهَا لِلضَّمِيرِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ وُصْلَةً وَإِلَّا فَلَا يُمْتَنَعُ وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ ذُو بِمَعْنَى الصَّاحِبِ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ مَوْصُوفًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ تَقُولُ جَاءَنِي رَجُلٌ ذُو مَالٍ بِالْوَاوِ في الرفع وبالألف في النصب بالياء فِي الْجَرِّ وَمِنْهُ ذُو بَطْنٍ خَارِجَةٍ أَيْ جَنِينِهَا وَأَلْقَتِ الدَّجَاجَةُ ذَا بَطْنِهَا أَيْ بَاضَتْ أَوْ سَلَحَتْ وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَالٍ وَلِلْبِنْتَيْنِ ذَوَاتَا مَالٍ وَلِلْجَمَاعَةِ ذَوَاتُ مَالٍ قَالَ: هَذَا أَصْلُ الْكَلِمَةِ ثُمَّ اقْتَطَعُوا عَنْهَا مُقْتَضَاهَا وَأَجْرَوْهَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ التَّامَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ غَيْرِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَا سِوَاهَا فَقَالُوا ذَاتٌ مُتَمَيِّزَةٌ وَذَاتٌ قَدِيمَةٌ وَمُحْدَثَةٌ وَنَسَبُوا إِلَيْهَا كَمَا هِيَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ فَقَالُوا الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ وَاسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ وَعَنِ أَبِي سَعِيدٍ يَعْنِي السِّيرَافِيَّ كُلُّ شَيْءٍ ذَاتٌ وَكُلُّ ذَاتٍ شَيْءٌ وَحَكَى صَاحِبُ التَّكْمِلَةِ قَوْلَ الْعَرَبِ جَعَلَ مَا بَيْنَنَا فِي ذَاتِهِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ يقول فيسمع ويمشى فيسرع ويضرب في ذات الإله فيوجع فال شَيْخُنَا يَعْنِي الزَّمَخْشَرِيَّ إِنْ صَحَّ هَذَا فَالْكَلِمَةُ عَرَبِيَّةٌ وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي اسْتِعْمَالِهَا وَأَمَّا قوله: {عليم بذات الصدور} وَقَوْلِهِ فُلَانٌ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 فَمِنَ الْأَوَّلِ وَالْمَعْنَى الْإِقْلَالُ لِمُصَاحَبَةِ الْيَدِ وَقَوْلُهُمْ أَصْلَحَ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنِهِ وَذُو الْيَدِ أَحَقُّ انْتَهَى وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْإِضَافَةُ لِـ "ذِي" أَشْرَفُ مِنَ الْإِضَافَةِ لِصَاحِبٍ لِأَنَّ قَوْلَكَ ذُو يُضَافُ إِلَى التَّابِعِ وَصَاحِبٌ يُضَافُ إِلَى الْمَتْبُوعِ تَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَقُولُ النَّبِيُّ صَاحِبُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا عَلَى جِهَةٍ مَا وَأَمَّا ذُو فَإِنَّكَ تَقُولُ فِيهَا ذُو الْمَالِ وَذُو الْعَرْشِ فَتَجِدُ الِاسْمَ الْأَوَّلَ مَتْبُوعًا غَيْرَ تَابِعٍ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَقْيَالُ حِمْيَرَ بِالْأَذْوَاءِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ ذُو جَدَنَ ذو يزن في الْإِسْلَامِ أَيْضًا ذُو الْعَيْنِ وَذُو الشَّهَادَتَيْنِ وَذُو السِّمَاكَيْنِ وَذُو الْيَدَيْنِ هَذَا كُلُّهُ تَفْخِيمٌ لِلشَّيْءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي لَفْظَةِ صَاحِبٍ وَبُنِيَ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي سُورَةِ الأنبياء: {وذا النون} فَأَضَافَهُ إِلَى النُّونِ وَهُوَ الْحُوتُ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحوت} قَالَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لَكِنْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتٌ كَبِيرٌ فِي حُسْنِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَالَتَيْنِ وَتَنْزِيلِ الكلام في الموضعين فإنه ذكر في موضع الثناء عليه ذو النُّونِ وَلَمْ يَقُلْ صَاحِبُ النُّونِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بـ"ذي" أَشْرَفُ مِنْ صَاحِبٍ وَلَفْظُ النُّونِ أَشْرَفُ مِنَ الْحُوتِ لِوُجُودِ هَذَا الِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَوَائِلَ السُّوَرِ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ مَا يُشَرِّفُهُ لِذَلِكَ فَالْتَفِتْ إِلَى تَنْزِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَتَيْنِ يَلُحْ لَكَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْغَرَضِ فَإِنَّ التَّدَبُّرَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ مفترض وقوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} أَيِ الْحَالَ بَيْنَكُمْ وَأَزِيلُوا الْمُشَاجَرَةَ وَتَكُونُ لِلْإِرَادَةِ والنية كقوله: {والله عليم بذات الصدور} أي السرائر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 رُوَيْدٌ تَصْغِيرُ رُودٍ وَهُوَ الْمَهْلُ قَالَ تَعَالَى: {أمهلهم رويدا} أَيْ قَلِيلًا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا أَمْهِلْهُمْ كَانَتْ بِمَعْنَى مَهْلًا وَلَا يُتَكَلَّمُ بِهَا إِلَّا مُصَغَّرًا مَأْمُورًا بِهَا رُبَّمَا لَا يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا إِلَّا مَاضِيًا لِأَنَّ دُخُولَ مَا لَا يُزِيلُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا فِي اللُّغَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقِيلَ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ تَقْدِيرُهُ رُبَّمَا كَانَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا السِّينُ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ قِيلَ وتأتي للاستمرار كقوله تعالى: {ستجدون آخرين} وَقَوْلِهِ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قبلتهم} لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ: {مَا وَلَّاهُمْ} فَجَاءَتِ السِّينُ إِعْلَامًا بِالِاسْتِمْرَارِ لَا بِالِاسْتِقْبَالِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَفَادَتِ السِّينُ وُجُودَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ فَهِيَ تُؤَكِّدُ الْوَعْدَ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ إِذَا قُلْتَ سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 وَمِثْلُهُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} مَعْنَى السِّينِ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ إِلَى حِينٍ وَقَالَ الطِّيبِيُّ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ السِّينَ فِي الْإِثْبَاتِ مُقَابِلَةُ إِنْ فِي النَّفْيِ وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ السِّينُ تَوْكِيدٌ لِلْوَعْدِ بَلْ كَانَتْ حِينَئِذٍ تَوْكِيدًا لِلْمَوْعُودِ بِهِ كَمَا أَنَّ لَوْ تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ بِهَا وَتَأْتِي زَائِدَةٌ كقوله: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} أي تجيبون وقوله: {ويستجيب الذين آمنوا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 سَوْفَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّنْفِيسِ وَزَمَانُهُ أَبْعَدُ مِنْ زَمَانِ السِّينِ لِمَا فِيهَا مِنْ إِرَادَةِ التَّسْوِيفِ وَمِنْهُ قِيلَ: فُلَانٌ يُسَوِّفُ فُلَانًا قال تعالى: {وسوف تسألون} وَقَالَ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ} فَقَرَّبَ الْقَوْلَ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْخَشَّابِ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ وَابْنُ يَعِيشَ وَابْنُ أَبَانٍ وَابْنُ بَابَشَاذَ وَابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُمْ وَمَنَعَ ابْنُ مَالِكٍ كَوْنَ التَّرَاخِي فِي سَوْفَ أَكْثَرَ بِأَنَّ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ مُتَقَابِلَانِ وَالْمَاضِي لَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا مُطْلَقُ الْمُضِيِّ دُونَ تَعَرُّضٍ لِقُرْبِ الزَّمَانِ أَوْ بُعْدِهِ فَكَذَا الْمُسْتَقْبَلُ لِيَجْرِيَ الْمُتَقَابِلَانِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتُعْمِلَا فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} وَفِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقوله: {سوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ قوله تعالى: {وسوف يؤت الله المؤمنين} ،وقوله: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} معبرا بِهِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَلِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَحْوَالَ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا قُرِنَ بِالسِّينِ لِمَا فِي الدُّنْيَا وَمَا قُرِنَ بِسَوْفَ لِمَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يخفى خروج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 قوله: {كلا سيعلمون} ، وقوله: {كلا سوف تعلمون} عَنْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مَعَ سَوْفَ لَا إِسْكَانَ فِيهِ وَمَعَ السِّينِ لِلْمُبَالَغَةِ وَقَصْدِ تَقْرِيبِ الْوُقُوعِ بِخِلَافِ سَيَقُومُ زَيْدٌ وَسَوْفَ يَقُومُ مِمَّا الْقَصْدُ فِيهِ الْإِخْبَارُ الْمُجَرَّدُ وَفَرَّقَ ابْنُ بَابَشَاذَ أَيْضًا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ سَوْفَ تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَعْدِ مِثَالُ الْوَعِيدِ: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ من أضل سبيلا} و {كلا سيعلمون} وَأَمْثَالُهَا فِي الْوَعْدِ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} لِتَضَمُّنِهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ جَمِيعًا فَالْوَعْدُ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِينَ والمحبين وَالْوَعِيدُ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ جَوَابِ الْمُرْتَدِّينَ بِكَوْنِهِمْ أَعِزَّةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ الْكَافِرِينَ وَالْأَكْثَرُ فِي السِّينِ الْوَعْدُ وَتَأْتِي لِلْوَعِيدِ مِثَالُ الْوَعْدِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ ودا} وَمِثَالُ الْوَعِيدِ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ ينقلبون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ حَقِيقَةً نَحْوُ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تحملون} أو مجازا نحو {ولهم علي ذنب} {فضلنا بعضهم على بعض} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يموت} فَهِيَ بِمَعْنَى الْإِضَافَةِ وَالْإِسْنَادِ أَيْ أَضَفْتُ تَوَكُّلِي وَأَسْنَدْتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ فإنها لا تفيده هاهنا وللمصاحبة كقوله: {وآتى المال على حبه} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} وَتَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ نَحْوُ: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هداكم} أَيْ لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا ذُكِرَتِ النِّعْمَةُ فِي الْغَالِبِ مَعَ الْحَمْدِ لَمْ تَقْتَرِنْ بعلى نَحْوُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} {الحمد لله فاطر السماوات والأرض} وَإِذَا أُرِيدَتِ النِّعْمَةُ أُتِيَ بِـ "عَلَى" فَفِي الْحَدِيثِ كَانَ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ" ثُمَّ أَوْرَدَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْعُلُوَّ هُنَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ وَتَجِيءُ لِلظَّرْفِيَّةِ نَحْوُ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ على حين غفلة من أهلها} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 ونحو: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَوْ فِي زَمَنِ سليمان أي زمن ملكه ويحتمل أن تتلوا ضَمِنَ مَعْنَى تَقُولُ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ علينا} وَبِمَعْنَى مِنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} وَحُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوليان} أَيْ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مقضيا} أَيْ كَانَ الْوُرُودُ حَتْمًا مَقْضِيًّا مِنْ رَبِّكَ وبمعنى عند نحو: {ولهم علي ذنب} ،أي عندي والباء نحو: {حقيق على أن لا أقول} وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْبَاءِ تَنْبِيهٌ حَيْثُ وَرَدَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَتْ فِي جَانِبِ الْفَضْلِ كَانَ مَعْنَاهُ الْوُقُوعُ وَتَأْكِيدُهُ كَقَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الحساب} وقوله: {ثم إن علينا حسابهم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 عَنْ تَقْتَضِي مُجَاوَزَةَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ نَحْوَ غَيْرِهِ وَتَعَدِّيهِ عَنْهُ تَقُولُ أَطْعَمْتُهُ عَنْ جُوعٍ أَيْ أَزَلْتُ عَنْهُ الْجُوعَ وَرَمَيْتُ عَنِ الْقَوْسِ أَيْ طَرَحْتُ السَّهْمَ عَنْهَا وَقَوْلُكَ أَخَذْتُ الْعِلْمَ عَنْ فُلَانٍ مَجَازٌ لِأَنَّ عِلْمَهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَوَجْهُ الْمَجَازِ أَنَّكَ لَمَّا تَلَقَّيْتَهُ مِنْهُ صَارَ كَالْمُنْتَقِلِ إِلَيْكَ عَنْ مَحَلِّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} لِأَنَّهُمْ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَهُ بَعُدُوا عَنْهُ وَتَجَاوَزُوهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ: عَنْ تُسْتَعْمَلُ أَعَمَّ مِنْ عَلَى لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ وكذلك وقع موقع على قَوْلِهِ: إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ وَلَوْ قلت: أطعمته من جُوعٍ وَكَسَوْتُهُ عَلَى عُرْيٍ لَمْ يَصِحَّ وَتَجِيءُ لِلْبَدَلِ نَحْوُ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئا} وَلِلِاسْتِعْلَاءِ نَحْوُ: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نفسه} وَقَوْلِهِ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ ربي} أي قدمته عليه وقيل: عَلَى بَابِهَا أَيْ مُنْصَرِفًا عَنْ ذِكْرِ رَبِّي وَحَكَى الرُّمَّانِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ أَحْبَبْتُ مِنْ أَحَبَّ الْبَعِيرُ إِحْبَابًا إِذَا بَرَكَ فَلَمْ يَقُمْ فَـ "عَنْ" مُتَعَلِّقَةٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ التَّضْمِينَ أَيْ تَثَبَّطْتُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي وَعَلَى هَذَا فَـ "حُبَّ الْخَيْرِ" مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 وَلِلتَّعْلِيلِ، نَحْوُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلا عن موعدة} {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك} وَبِمَعْنَى بَعْدَ نَحْوُ: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} {يحرفون الكلم عن مواضعه} ،بِدَلِيلِ أَنَّ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنْ بَعْدِ مواضعه {لتركبن طبقا عن طبق} وَبِمَعْنَى مِنْ نَحْوُ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عن عباده} {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} بِدَلِيلِ، {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} وَبِمَعْنَى الْبَاءِ نَحْوُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وَقِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهَا أَيْ وَمَا يَصْدُرُ قَوْلُهُ عَنْ هَوًى وَقِيلَ لِلْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّ نُطْقَهُ مُتَبَاعِدٌ عن الهوى متجاوز عَنْهُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الباء نفي عنه النطق في حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْهَوَى وَهُوَ صَحِيحٌ وَاذَا كَانَتْ عَلَى بَابِهَا نُفِيَ عَنْهُ التَّعَلُّقُ حَالَ كَوْنِهِ مُجَاوِزًا عَنِ الْهَوَى فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النُّطْقُ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْهَوَى وَهُوَ فَاسِدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 عَسَى لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ وَالْإِشْفَاقِ فِي الْمَكْرُوهِ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تحبوا شيئا وهو شر لكم} قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَتَأْتِي لِلْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} قَالَ: وَقَالَ الْكِسَائِيُّ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَسَى عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ فَهُوَ مُوَحَّدٌ نحو: {عسى أن يكونوا خيرا منهم} {وعسى أن تكرهوا شيئا} ، وَوُحِّدَ عَلَى عَسَى الْأَمْرُ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَمَا كَانَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ يُجْمَعُ كَقَوْلِهِ تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ هَلْ عَدَوْتُمْ ذَلِكَ؟ هَلْ جُزْتُمُوهُ؟ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَلُّ عَسَى فِي الْقُرْآنِ فهي واجبة وقال الشافعي: يُقَالُ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ عَسَى فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَاجِبَةٌ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ فَمَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بَلْ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْقَعَ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وَفِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أن يبدله أزواجا خيرا منكن} ،وَلَازَمْنَهُ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَّمَ بَعْضُهُمُ الْقَاعِدَةَ وَأَبْطَلَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى شَرْطٍ أَيْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَلَمَّا زَالَ الشَّرْطُ وَانْقَضَى الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ فَعَلَى هَذَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ بَابِهَا الَّذِي هُوَ الْإِيجَابُ وكذلك قوله: {عسى ربه إن طلقكن} تَقْدِيرُهُ وَاجِبٌ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ أَيْ لَبَتَّ طَلَاقَكُنَّ وَلَمْ يَبُتَّ طَلَاقَهُنَّ فَلَا يَجِبُ التَّبْدِيلُ وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي سُورَةِ التحريم: {عسى ربه} إِطْمَاعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْجَبَابِرَةِ مِنَ الْإِجَابَةِ بِـ "لَعَلَّ" وَعَسَى وَوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْقَطْعِ وَالْبَتِّ وَالثَّانِي أَنْ تَجِيءَ تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ وُجُوبَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الخوف والرجاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 عِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ بِمَعْنَى لَدُنْ إِلَّا أَنَّ عِنْدَ مُعْرَبَةٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ بِنَاءَهَا لِافْتِقَارِهَا إِلَى ما تضاف إليه كـ "لدن" وإذ وَلَكِنْ أَعْرَبُوا عِنْدَ لِأَنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِيهَا فَأَوْقَعُوهَا عَلَى مَا هُوَ مِلْكُ الشَّخْصِ حَضَرَهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ بِخِلَافِ لَدُنْ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لَدُنْ فُلَانٍ إِلَّا إِذَا كَانَ بِحَضْرَةِ الْقَائِلِ فَـ "عِنْدَ" بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَعَمُّ مِنْ لَدُنْ وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِهِ: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وعلمناه من لدنا علما} أَيْ مِنَ الْعِلْمِ الْخَاصِّ بِنَا وَهُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ. وَقَوْلُهُ: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} ،الظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى عِنْدَكَ وَكَأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ لَدُنْ لِمَا ذَكَرْنَا فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ بَيْنَ يَدَيْ لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ بِجِهَةِ أَمَامَ فَإِنَّ مِنْ حَقِيقَتِهَا الْكَوْنَ مِنْ جِهَتَيْ مُسَامَتَةِ الْبَدَنِ وَتُفِيدُ معنى القرب وقد تجيء بمعنى وراء وأمام إِذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى قَبْلُ كَـ "بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ" وَقَدْ تَجِيءُ وَرَاءَ بِمَعْنَى لَدَى الْمُضَمَّنِ مَعْنَى أَمَامَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} {من ورائه جهنم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 {ويكفرون بما وراءه} وقوله: {من وراء جدر} ،وَيَتَنَاوَلُ الْحَالَيْنِ بِالتَّضَايُفِ وَقَدْ يُطْلَقُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الطَّوَاعِيَةِ وَتَرْكِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} ،مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّقْدِيمِ أَوِ التَّقَدُّمِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَرَةِ بِالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ أَيْ لَا تُقَدِّمُوا الْقَوْلَ أَوْ لَا تُقَدِّمُوا بِالْقَوْلِ بَيْنَ يَدَيْ قَوْلِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَمْلَأَ بِالْمَعْنَى وَإِذَا ثبت أن عند ولدى للقرب فتارة يكون حقيقيا كقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عندها جنة المأوى} {وألفيا سيدها لدى الباب} وتارة مجازا إِمَّا قُرْبَ الْمَنْزِلَةِ وَالزُّلْفَى، كَقَوْلِهِ: {بَلْ أَحْيَاءٌ عند ربهم يرزقون} {إن الذين عند ربك} وَعَلَى هَذَا قِيلَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أَوْ قُرْبَ التَّشْرِيفِ كَقَوْلِهِ: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا في الجنة} وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَهَزْلِي وَجِدِّي كُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي" أَيْ فِي دَائِرَتِي إِشَارَةً لِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ وَتَارَةً بِمَعْنَى الْفَضْلِ، وَمِنْهُ: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أَيْ مِنْ فَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الحكم كقوله: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 {وهو عند الله عظيم} أَيْ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} أَيْ فِي حُكْمِكَ وَقِيلَ بِحَذْفِ عِنْدَ فِي الْكَلَامِ وَهِيَ مُرَادَةٌ لِلْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَقُّ من ربك} {رسول من الله} {عذاب من الرحمن} ،أَيْ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ لِظُهُورِ {قَدْ جَاءَكُمْ من الله نور} وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَ لِلْحُضُورِ نَحْوُ: {فَلَمَّا رَآهُ مستقرا عنده} وَقَدْ يَكُونُ الْحُضُورُ وَالْقُرْبُ مَعْنَوِيَّيْنِ نَحْوُ: {قَالَ الذي عنده علم من الكتاب} وَيَجُوزُ: وَأَنْزَلَ عِنْدَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 غَيْرُ مَتَى مَا حَسُنَ مَوْضِعَهَا "لَا" كَانَتْ حَالًا وَمَتَى حَسُنَ مَوْضِعَهَا "إِلَّا" كَانَتِ اسْتِثْنَاءً وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ صِفَةً لِمَعْرِفَةٍ، إِذَا كَانَ مَضَافُهَا إِلَى ضِدِّ الْمَوْصُوفِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ نَحْوَ مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الصَّادِقِ غَيْرِ الْكَاذِبِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَعَرَّفُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فَإِنَّ الْغَضَبَ ضِدَّ النِّعْمَةِ وَالْأَوَّلُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالثَّانِي هُمُ الْكُفَّارُ وَأُورِدَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} فَإِنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ وَهُوَ ضِدُّ الصَّالِحِ كَأَنَّهُ قِيلَ الصَّالِحُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الذين كانوا يعملون بَعْضَ الصَّالِحِ فَلَمَّ يَتَمَحَّضْ فِيهِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 الْفَاءُ تَرِدُ عَاطِفَةً وَلِلسَّبَبِيَّةِ وَجَزَاءً وَزَائِدَةً الْأَوَّلُ: الْعَاطِفَةُ وَمَعْنَاهَا التَّعْقِيبُ نَحْوَ قَامَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو أَيْ أَنَّ قِيَامَهُ بَعْدَهُ بِلَا مُهْلَةٍ وَالتَّعْقِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ نَحْوُ: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بأسنا بياتا} وَالْبَأْسُ فِي الْوُجُودِ قَبْلَ الْهَلَاكِ وَبِهَا احْتَجَّ الفراء على أن ما بعد الفاء يَكُونُ سَابِقًا فَفِيهِ عَشْرَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَذَفَ السَّبَبَ وَأَبْقَى الْمُسَبِّبَ أَيْ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا الثاني: أن الهلاك على نوعين: استئصال وبغير اسْتِئْصَالٍ، وَالْمَعْنَى وَكَمْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا بِغَيْرِ اسْتِئْصَالٍ لِلْجَمِيعِ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بِاسْتِئْصَالِ الْجَمِيعِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ مَجْهُولًا لِلنَّاسِ وَالْهَلَاكُ معلوم لَهُمْ وَذَكَرَهُ عَقِبَ الْهَلَاكِ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا لِأَنَّهُ لَا يَتَّضِحُ إِلَّا بِالْهَلَاكِ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى قَارَبْنَا إِهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْ جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا السَّادِسُ: أَنَّ الْهَلَاكَ وَمَجِيءَ الْبَأْسِ لَمَّا تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى جَازَ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 السَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَى: {فَجَاءَهَا} أَنَّهُ لَمَّا شُوهِدَ الْهَلَاكُ عُلِمَ مَجِيءُ الْبَأْسِ وَحُكِمَ بِهِ مِنْ باب الاستدلال بوجود الأثر الثَّامِنُ: أَنَّهَا عَاطِفَةٌ لِلْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا} التَّاسِعُ: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْعَاشِرُ: ... وَتَجِيءُ لِلْمُهْلَةِ كَـ "ثُمَّ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فكسونا العظام لحما} ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَهَا وَسَائِطَ وَكَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى} فَإِنَّ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ وَالْغُثَاءِ وَسَائِطَ وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مخضرة} وَتُؤُوِّلَتْ عَلَى أَنَّ تُصْبِحُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَتَيْنَا بِهِ فَطَالَ النَّبْتُ فَتُصْبِحُ وَقِيلَ: بَلْ هِيَ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّعْقِيبُ عَلَى مَا بَعُدَ في العادة تعقيبا لا على سبيل المضيافة فَرُبَّ سِنِينَ بَعْدَ الثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَزْمَانٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا} قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقِيلَ: بَلْ لِلتَّعْقِيبِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى بَابِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الِاخْضِرَارِ عِنْدَ زَمَانِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 فَإِذَا تَكَامَلَتْ أَصْبَحَتْ مُخْضَرَّةً بِغَيْرِ مُهْلَةٍ وَالْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الْمَاضِي يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى الْمَاضِي وَإِنَّمَا لَمْ يُنْصَبْ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ أَيْ قَدْ رَأَيْتُ فَلَا يَكُونُ لَهُ جَوَابٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا يُنْصَبُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ سَبَبًا لَهُ وَرُؤْيَتُهُ لِإِنْزَالِ الْمَاءِ لَيْسَتْ سَبَبًا لِاخْضِرَارِ الْأَرْضِ إِنَّمَا السَّبَبُ هُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا أَرَدْتَ فَاكْتَفِي بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ ونظيره: {أن اضرب بعصاك الحجر} أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ وَأَمَّا قَوْلُهُ:: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عظاما فكسونا العظام لحما} ،فقيل الفاء في: {فخلقنا العلقة} ،وفي {فخلقنا العلقة} بِمَعْنَى ثُمَّ لِتَرَاخِي مَعْطُوفِهَا وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: طُولُ الْمُدَّةِ وَقِصَرُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ فِيهِمَا فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ يَقْتَضِي زَمَنًا طَوِيلًا طَالَتِ الْمُهْلَةُ وَإِنْ كَانَ فِي التَّحْقِيقِ وُجُودُ الثَّانِي عُقَيْبَ الْأَوَّلِ بِلَا مُهْلَةٍ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ يَقْتَضِي زَمَنًا قَصِيرًا ظَهَرَ التَّعْقِيبُ بَيْنَ الفعلين فالآية واردة على التقدير الأول فَلَا يُنَافِي مَعْنَى الْفَاءِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهْلَةَ بَيْنَ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْفِعْلِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ فَوُجُودُ الثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ بَيْنَهُمَا هَذَا كُلُّهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثم من علقة ثم من مضغة} فعطف الكل بـ "ثم" ولهذا قال لبعضهم ثُمَّ لِمُلَاحَظَةِ أَوَّلِ زَمَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْفَاءُ لِمُلَاحَظَةِ آخِرِهِ وَبِهَذَا يَزُولُ سُؤَالُ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَعَ أَحَدِهِمَا بِالْفَاءِ وَهِيَ لِلتَّعْقِيبِ وَفِي الْأُخْرَى بِثُمَّ وَهِيَ لِلْمُهْلَةِ وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ هَذَا السُّؤَالَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فينبئكم بما كنتم تعملون} وفي أخرى، {ثم ينبئكم} وَأَجَابَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَا تُحَاسَبُ أُمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ فَتُحْمَلُ الْفَاءُ عَلَى أَوَّلِ الْمُحَاسَبِينَ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حق} وَيُحْمَلُ ثُمَّ عَلَى تَمَامِ الْحِسَابِ فَإِنْ قِيلَ: حِسَابُ الْأَوَّلِينَ مُتَرَاخٍ عَنِ الْبَعْثِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ الْفَاءُ؟ فَيَعُودُ السُّؤَالُ قُلْنَا: نَصَّ الْفَارِسِيُّ فِي الْإِيضَاحِ عَلَى أَنَّ ثُمَّ أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنَ الْفَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لَهَا تَرَاخٍ وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ إِلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ انْتَهَى وَتَجِيءُ لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زجرا فالتاليات ذكرا} تحتمل الفاء فيه التفاوت رُتْبَةِ الصَّفِّ مِنَ الزَّجْرِ وَرُتْبَةِ الزَّجْرِ مِنَ التِّلَاوَةِ وَيُحْتَمَلُ تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الصَّافِّ مِنْ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَفِّهِمْ وَزَجْرِهِمْ وَرُتْبَةِ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ مِنَ الْجِنْسِ التَّالِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَجْرِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْفَاءِ مَعَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ترتيب معانيها في الوجود كقوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 يا لهف زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ فَالـ صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ أَيِ الَّذِي أَصْبَحَ فَغَنِمَ فَآبَ الثَّانِي: أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ نَحْوَ قَوْلِكَ خُذِ الْأَكْمَلَ فَالْأَفْضَلَ وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ مَوْصُوفَاتِهَا فَإِنَّهَا فِي ذَلِكَ نَحْوُ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ النَّوْعُ الثَّانِي: لِمُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ وَالرَّبْطِ نَحْوُ: {إنا أعطيناك الكوثر فصل} وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً فَإِنَّهُ لَا يُعْطَفُ الْخَبَرُ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَعَكْسُهُ عَكْسُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ نَحْوِ: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أحوى} وَقَدْ تَأْتِي لَهُمَا نَحْوُ: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عليه} {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فكان من الغاوين} ،فَهَذِهِ ثَلَاثُ فَاءَاتٍ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْفَاءِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا تَرَتَّبَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ، فَتَارَةً يَتَسَبَّبُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَتَارَةً يُقَامُ مَقَامَ مَا تَسَبَّبَ عَنِ الْأَوَّلِ مِثَالُ الْجَارِي عَلَى طَرِيقِ السَّبَبِيَّةِ: {سَنُقْرِئُكَ فلا تنسى} {فآمنوا فمتعناهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 إلى حين} {فكذبوه فأنجيناه} ومثال الثاني: {فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} ، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عنهم} النوع الثَّالِثُ: الْجَزَائِيَّةُ وَالْفَاءُ تَلْزَمُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا خَبَرِيًّا أَعْنِي مَاضِيًا وَمُضَارِعًا فَإِنْ كَانَ فِعْلًا خَبَرِيًّا امْتَنَعَ دُخُولُ الْفَاءِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْعِلَّةِ وَتَعَاقُبِ الْفِعْلِ الْخَبَرِيِّ وَالْفَاءِ وَالْجَوَابُ عَنِ اجْتِمَاعِهِمَا في قوله تعالى: {ومن جاء بالسيئة فكبت} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولا رهقا} وَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ {إِنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الأخرى} وَعَنِ ارْتِفَاعِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} وَفِي قَوْلِ الشَّاعِرِ *مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا* وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ عِلَّةِ تَعَاقُبِ الْفِعْلِ وَالْفَاءِ أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ يَجُوزُ اسْتِقْلَالُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِالشَّرْطِ وَكَوْنِهَا جَوَابًا لَهُ فَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةً صَالِحَةً لِأَنْ تَكُونَ جَزَاءً اكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي جَوَابًا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَصْلُحُ جَوَابًا وَلَمْ يُؤْتَ بِغَيْرِهَا فَلَزِمَ كَوْنُهَا جَوَابًا وَإِذَا تَعَقَّبَتِ الْجَوَابَ امْتَنَعَ دُخُولُ الْفَاءِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا فَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ غَيْرَ فِعْلِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 لِلْجَوَابِ بِنَفْسِهَا لِأَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَيْنِ شَرْطًا وَجَزَاءً فَمَا لَيْسَ فِعْلًا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ أَدَاةِ الشَّرْطِ حَتَّى يَدُلَّ اقْتِضَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُ الْجَزَاءُ فَلَا بُدَّ مِنْ رَابِطَةٍ فَجَعَلُوا الْفَاءَ رَابِطَةً لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ فَيَدُلُّ تَعْقِيبُهَا الشَّرْطَ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهَا الْجَزَاءُ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَعَاقُبِ الْفِعْلِ وَالْفَاءِ فِي بَابِ الْجَزَاءِ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْفِعْلِ وَالْفَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْمُدَّعِي بِتَعَاقُبِهِمَا وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَعَاقُبَهُمَا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ صَالِحًا لِأَنْ يُجَازَى بِهِ وَهُوَ إِذَا مَا كَانَ صَالِحًا لِلِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يكون إلا مستقبلا وقوله: صدقت وكذبت الْمُرَادُ بِالْفِعْلِ فِي الْآيَةِ الْمُضِيُّ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا فَوَجَبَتِ الْفَاءُ فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ سَقَطَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَا غضبوا هم يغفرون} قُلْنَا: عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِذَا فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا بَلْ لِمُجَرَّدِ الزَّمَانِ وَالتَّقْدِيرُ وَالَّذِينَ هُمْ يَنْتَصِرُونَ زَمَانَ إِصَابَةِ الْبَغْيِ لَهُمْ وَالثَّانِي: أَنَّ هُمْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْفَاءَ حَسَّنَ حَذْفَهَا كَوْنُ الْفِعْلِ مَاضِيًا وَبِالْأَوَّلِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أن قالوا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الْفِعْلَ وَالْفَاءَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هم يقنطون} ، فَهُوَ أَنَّ إِذَا قَامَتْ مَقَامَ الْفَاءِ وَسَدَّتْ مَسَدَّهَا لِحُصُولِ الرَّبْطِ بِهَا كَمَا يَحْصُلُ بِالْفَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ وَفِي الْمُفَاجَأَةِ مَعْنَى التَّعْقِيبِ. وَأَمَّا الْأَخْفَشُ فَإِنَّهُ جَوَّزَ حَذْفَ الْفَاءِ حَيْثُ يُوجِبُ سِيبَوَيْهِ دُخُولَهَا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وَبِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهِ إِنْ أَطْعَمْتُمُوهُمْ فَتَكُونُ {إِنَّكُمْ لمشركون} جوابا للقسم ولجزاء مَحْذُوفٌ سَدَّ جَوَابُ الْقِسْمِ مَسَدَّهُ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ مَا فِيهِ مَوْصُولَةٌ لَا شَرْطِيَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا. وَالرَّابِعُ: الزَّائِدَةُ كقوله تعالى: {فليذوقوه حميم} وَالْخَبَرُ حَمِيمٌ وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ. وَجَعَلَ مِنْهُ الأخفش: {فذلك الذي يدع اليتيم} وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ إِنْ أَرَدْتَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ وَقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} على قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 فِي تَجِيءُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ: لِلظَّرْفِيَّةِ: ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ الظَّرْفُ وَالْمَظْرُوفُ حِسِّيَّيْنِ نَحْوُ زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَمِنْهُ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} ، {فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} وَتَارَةً يَكُونَانِ مَعْنَوِيَّيْنِ نَحْوُ رَغِبْتُ فِي الْعِلْمِ ومنه {ولكم في القصاص حياة} وَتَارَةً يَكُونُ الْمَظْرُوفُ جِسْمًا نَحْوُ {إِنَّا لَنَرَاكَ في ضلال مبين} وَتَارَةً يَكُونُ الظَّرْفُ جِسْمًا نَحْوُ {فِي قُلُوبِهِمْ مرض} وَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ وَالرَّابِعُ أَقْرَبُ الْمَجَازَاتِ إِلَى الْحَقِيقَةِ. وَتَجِيءُ بِمَعْنَى "مَعَ "نَحْوُ {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} {فادخلي في عبادي} على قول. وَبِمَعْنَى عِنْدَ نَحْوُ: {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سنين} وللتعليل: {فذلكن الذي لمتنني فيه} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 وَبِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ في الفلك} . بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ على الفلك} . وقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} . لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ. وَقِيلَ: ظَرْفِيَّةٌ لِأَنَّ الْجِذْعَ لِلْمَصْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْرِ لِلْمَقْبُورِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي. وَقِيلَ: إِنَّمَا آثَرَ لَفْظَةَ فِي لِلْإِشْعَارِ بِسُهُولَةِ صَلْبِهِمْ لِأَنَّ عَلَى تَدُلُّ عَلَى نُبُوٍّ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَحَرُّكٍ إِلَى فَوْقَ. وَبِمَعْنَى إِلَى نَحْوُ: {فَتُهَاجِرُوا فيها} {فردوا أيديهم في أفواههم} وَبِمَعْنَى مِنْ: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شهيدا} وَلِلْمُقَايَسَةِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ بَيْنَ مَفْضُولٍ سَابِقٍ وَفَاضِلٍ لَاحِقٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الآخرة إلا قليل} وللتوكيد كقوله تعالى: {اركبوا فيها} وبمعنى بعد: {وفصاله في عامين} أَيْ بَعْدَ عَامَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 وَبِمَعْنَى عَنْ كَقَوْلِهِ: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} قِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ،لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصَدِّقُوا فَنَزَلَ: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} . أَيْ عَنِ النَّعِيمِ الَّذِي قُلْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ أَعْمًى إِذْ لم يصدق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي الْمُتَصَرِّفِ وَعَلَى الْمُضَارِعِ بِشَرْطِ تَجَرُّدِهِ عَنِ الْجَازِمِ وَالنَّاصِبِ وَحَرْفِ التَّنْفِيسِ. وَتَأْتِي لِخَمْسِ مَعَانٍ: التَّوَقُّعِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّقْلِيلِ وَالتَّكْثِيرِ وَالتَّحْقِيقِ. فَأَمَّا التَّوَقُّعُ فَهُوَ نَقِيضُ مَا الَّتِي لِلنَّفْيِ وَتَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ نَحْوُ قَدْ يَخْرُجُ زَيْدٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مُتَوَقَّعٌ أَيْ مُنْتَظَرٌ وَأَمَّا مَعَ الْمَاضِي فَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُقُوعُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ وَقَعَ وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ مُنْتَظَرًا وَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلَ بَعْضَهُمْ كَوْنُهَا لِلتَّوَقُّعِ مَعَ الْمَاضِي وَلَكِنَّ مَعْنَى التَّوَقُّعِ فِيهِ أَنَّ "قَدْ" تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقَّعًا مُنْتَظَرًا ثُمَّ صَارَ مَاضِيًا وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَرَقَّبَةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّ قَوْلَكَ قد قعد كلام لقول يَنْتَظِرُونَ الْخَيْرَ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مُنْتَظِرُونَ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ فِي تَسْهِيلِهِ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الْمُتَوَقَّعِ لِإِفَادَةِ كَوْنِهِ مُتَوَقَّعًا بَلْ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ الْحَالِ انْتَهَى. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا حِينَئِذٍ تُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ الِابْتِدَاءُ بِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لمتوقع كقوله تعالى: {قد أفلح الْمُؤْمِنُونَ} لِأَنَّ الْقَوْمَ تَوَقَّعُوا عِلْمَ حَالِهِمْ عِنْدَ الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تجادلك في زوجها} لِأَنَّهَا كَانَتْ تَتَوَقَّعُ إِجَابَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِدُعَائِهَا. وَأَمَّا التَّقْرِيبُ فَإِنَّهَا تَرِدُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مَعَ الماضي فقد فَتَدْخُلُ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ الْحَالِ وَلِذَلِكَ تَلْزَمُ قَدْ مَعَ الْمَاضِي إِذَا وَقَعَ حَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} وَأَمَّا مَا وَرَدَ دُونَ قَدْ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هذه بضاعتنا ردت إلينا} ،فَـ "قَدْ" فِيهِ مُقَدَّرَةٌ هَذَا مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: لَا يُقَدَّرُ قَبْلَهُ قَدْ. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: إِنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ بِالْمَاضِي الْمُتَصَرَّفِ الْمُثْبَتِ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ الْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَدْ وَاللَّامُ نَحْوُ وَاللَّهِ لَقَدْ قَامَ زَيْدٌ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ تَدْخُلْ نَحْوُ وَاللَّهِ لَقَامَ زَيْدٌ. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْ مَعَ الْمَاضِي فِي جَوَابِ الْقَسَمِ لِلتَّوَقُّعِ قَالَ فِي الْكَشَّافِ عِنْدَ قوله: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنْ قُلْتَ مَالَهُمْ لَا يَكَادُونَ يَنْطِقُونَ بِاللَّامِ إِلَّا مَعَ قَدْ وَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ: حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ. لَنَامُوا فَمَا إِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالٍ قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْقَسَمِيَّةَ لَا تُسَاقُ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ جَوَابُهَا فَكَانَتْ مَظِنَّةً لِمَعْنَى التَّوَقُّعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى قَدْ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمُخَاطَبِ كلمة القسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: إِذَا دَخَلَتْ قَدْ عَلَى الْمَاضِي أَثَّرَتْ فِيهِ مَعْنَيَيْنِ تَقْرِيبَهُ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ وَجَعْلَهُ خَبَرًا مُنْتَظَرًا فَإِذَا قُلْتَ قَدْ رَكِبَ الْأَمِيرُ فَهُوَ كَلَامٌ لِقَوْمٍ يَنْتَظِرُونَ حَدِيثَكَ هَذَا تَفْسِيرُ الْخَلِيلِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ. وَلَا يُقَالُ إِنَّ مَعْنَى التَّقْرِيبِ يُنَافِي مَعْنَى التَّوَقُّعِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْمُفَصَّلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْرِيبَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ. وَأَمَّا التَّقْلِيلُ فَإِنَّهَا تَرِدُ لَهُ مَعَ الْمُضَارِعِ إِمَّا لِتَقْلِيلِ وُقُوعِ الْفِعْلِ نَحْوُ قَدْ يَجُودُ الْبَخِيلُ وَقَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ أَوْ لِلتَّقْلِيلِ لِمُتَعَلِّقٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . أَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ لِلتَّأْكِيدِ وَقَالَ: إِنَّ" قَدْ" إِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا فَوَافَقَتْ رُبَّمَا فِي خُرُوجِهَا إِلَى مَعْنَى التكثير والمعنى إن جميع السموات وَالْأَرْضِ مُخْتَصًّا بِهِ خُلُقًا وَمِلْكًا وَعِلْمًا فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ فِي سُورَةِ الصف: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم} قَدْ مَعْنَاهَا التَّوْكِيدُ كَأَنَّهُ قَالَ تَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا لَا شُبْهَةَ لَكُمْ فِيهِ وَنَصَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لِلتَّقْلِيلِ صَرَفَتِ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَنَّ "قَدْ" تُفِيدُ التَّقْلِيلَ مَعَ أَنَّهُ مَشْهُورٌ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَقَالَ قَدْ تَدُلُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْفِعْلِ عَمَّنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ وَتَقْلِيلُ الْمَعْنَى لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ قَدْ بَلْ لَوْ قِيلَ الْبَخِيلُ يَجُودُ وَالْكَذُوبُ يَصْدُقُ فُهِمَ مِنْهُ التَّقْلِيلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ شَأْنُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 الْبُخْلُ بِالْجُودِ وَعَلَى مَنْ شَأْنُهُ الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ إِنْ لَمْ يُحْمَلْ ذَلِكَ عَلَى صُدُورِ ذَلِكَ قَلِيلًا كَانَ الْكَلَامُ كَذِبًا لِأَنَّ آخِرَهُ يَدْفَعُ أَوَّلَهُ. وَأَمَّا التَّكْثِيرُ فَهُوَ مَعْنًى غَرِيبٌ وَلَهُ مِنَ التَّوْجِيهِ نَصِيبٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجهك في السماء} وَجَعَلَهَا غَيْرُهُ لِلتَّحْقِيقِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي أَيْ قَدْ رَأَيْنَا. وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَتَرِدُ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْمُتَعَلِّقِ مَعَ الْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي لَكِنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُضِيُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} {قد نعلم إنه ليحزنك} {قد يعلم ما أنتم عليه} وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَاضِي اجْتَمَعَتْ لِكُلِّ فِعْلٍ مُتَجَدِّدٍ نَحْوُ: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ علينا} {قد كان لكم آية} {لقد رضي الله عن المؤمنين} {لقد تاب الله} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وَلِهَذَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي أَوْصَافِ اللَّهِ لَا يُقَالُ قَدْ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا فَأَمَّا قوله: {أن سيكون منكم مرضى} ،فَهُوَ مُتَأَوَّلٌ لِلْمَرْضَى فِي الْمَعْنَى كَمَا أَنَّ النفي في قولك: ما علم الله زيد يخرج هو للخروج وتقديره وَمَا يَخْرُجُ زَيْدٌ فِيمَا عَلِمَ اللَّهُ وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ فَذَلِكَ لِفِعْلٍ يَكُونُ فِي حَالِهِ نَحْوُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ منكم} أَيْ قَدْ يَتَسَلَّلُونَ فِيمَا عَلِمَ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 الكاف للتشبيه نحو: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} وَهُوَ كَثِيرٌ وَلِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فيكم رسولا} ،قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ لِأَجْلِ إِرْسَالِي فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ فَاذْكُرُونِي. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {واذكروه كما هداكم} وَجَعَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ويكأنه لا يفلح الكافرون} وللتوكيد: {أو كالذي مر على قرية} وقوله: {ليس كمثله شيء} أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَهُ وَإِلَّا لَزِمَ إِثْبَاتُ الْمِثْلِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَإِنَّمَا زِيدَتْ لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الْمِثْلِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْحَرْفِ بِمَنْزِلَةِ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ ثَانِيًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكَافُ زَائِدَةٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ إِثْبَاتُ الْمِثْلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهَا تُفِيدُ نَفْيَ الْمِثْلِ عَنْ مِثْلِهِ لَا عَنْهُ لِأَنَّهُ لَوْلَا الْحُكْمُ بِزِيَادَتِهَا لَأَدَّى إِلَى مُحَالٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَ شَيْءٍ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ شَيْئًا لِأَنَّ مِثْلَ الْمِثْلِ مِثْلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِثْلُ الشَّيْءِ ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ كَمَا يُقَالُ مِثْلِي لَا يَفْعَلُ كَذَا أَيْ أَنَا لَا أَفْعَلُ وَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ زَائِدَةً. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: هِيَ غَيْرُ زَائِدَةٍ وَالْمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَإِذَا نَفَيْتَ التَّمَاثُلَ عَنِ الْفِعْلِ فَلَا مِثْلَ لِلَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: وَلِتَأْكِيدِ الوجود كقوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} ، أَيْ أَنَّ تَرْبِيَتَهُمَا لِي قَدْ وَجَدْتُ كَذَلِكَ أَوْجِدْ رَحْمَتَكَ لَهُمَا يَا رَبِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 كَانَ تَأْتِي لِلْمُضِيِّ وَلِلتَّوْكِيدِ وَبِمَعْنَى الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} . أي ما قدرتم. وبمعنى ينبغي كقوله: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} أَيْ لَمْ يَنْبَغِ لَنَا. وَتَكُونُ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تعالى: {وما علمي بما كانوا يعملون} . أَيْ بِمَا يَعْمَلُونَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَالِمًا مَا عَلِمُوهُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِهِ. وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الْأَفْعَالِ كَأَنَّ لِلتَّشْبِيهِ الْمُؤَكَّدِ وَلِهَذَا جاء: {كأنه هو} . دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّشْبِيهِ وَلِلْيَقِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ، عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَقَدْ تُخَفَّفُ قَالَ تَعَالَى: {كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ لِلتَّكْثِيرِ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَدِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عن أمر ربها ورسله} . وفيها قراءتان كائن على وزن قائل وبائع وَكَأَيِّنْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 قال ابن فارس: سمعت بعض أهل القرية يَقُولُ مَا أَعْلَمُ كَلِمَةً تَثْبُتُ فِيهَا النُّونُ خطا غيره هذه كَادَ بِمَعْنَى قَارَبَ وَسَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الْأَفْعَالِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 كَلَّا قَالَ سِيبَوَيْهِ حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ. قَالَ الصَّفَّارُ إِنَّهَا تَكُونُ اسْمًا لِلرَّدِّ إِمَّا لِرَدِّ مَا قَبْلَهَا وَإِمَّا لِرَدِّ مَا بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} هِيَ رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} . كَانَ إِخْبَارًا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِهَا فَقَالَ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا هُنَا إِلَّا لِتَبْيِينِ مَا بَعْدَهَا وَلَوْ لَمْ يَفْتَقِرْ لِمَا بَعْدَهَا لَجَازَ الْوَقْفُ. وَقَوْلِهِ: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا} هِيَ رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا فَالْوَقْفُ عَلَيْهَا حَسَنٌ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: شَرْطُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَا يُرَدُّ بِهَا مَا فِي غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ أَوِ الْإِنْكَارِ أَوْ مِنْ كَلَامِ غيره. كقوله تعالى: {كلا} . بَعْدَ قَوْلِهِ: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قال كلا} وَكَقَوْلِكَ: أَنَا أُهِينُ الْعَالَمَ! كَلَّا انْتَهَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 وَهِيَ نَقِيضُ إِي فِي الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ: {كَلَّا لا تطعه} وَقَوْلِهِ: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عهدا كلا} وَقَوْلِهِ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لهم عزا كلا} وَتَكُونُ بِمَعْنَى حَقًّا صِلَةً لِلْيَمِينِ كَقَوْلِهِ: {كَلَّا والقمر} {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا} وَقَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} ، {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا} فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَيْهَا أَيْنَمَا وَقَعَتْ وَغَلَّبَ عَلَيْهَا مَعْنَى الزَّجْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ دُونَهَا أَيْنَمَا وَقَعَتْ وَيَبْتَدِئُ بِهَا وَغَلَّبَ عَلَيْهَا مَعْنَى الزَّجْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ دُونَهَا أَيْنَمَا وَقَعَتْ وَيَبْتَدِئُ بِهَا وَغَلَّبَ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ لِتَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَيَقِفُ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الرَّدْعِ وَيَبْتَدِئُ بِهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ أولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 وَنَقَلَ ابْنُ فَارِسٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وهذا نقيضان لـ "لا" وأن كذلك نقيض لـ "كلا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ منهم} . عَلَى مَعْنَى ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا وَكَمَا فَعَلْنَا. ومثله: {هذا وإن للطاغين لشر مآب} قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى دُخُولُ الْوَاوِ بَعْدَ قَوْلِهِ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَاوِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ مُضْمَرًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} . ثُمَّ قَالَ {كَذَلِكَ} أَيْ كَذَلِكَ فَعَلْنَا وَنَفْعَلُهُ مِنَ التَّنْزِيلِ وَهُوَ كَثِيرٌ وَقِيلَ: إِنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَا فَإِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ فِيهَا نَفْيٌ لِمَا قَبْلَهَا وَالتَّقْدِيرُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهِيَ عَلَى هَذَا حَرْفٌ دَالٌّ على هذا المعنى وَلَا تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ خِلَافِ النَّحْوِيِّينَ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا وَيَكُونُ زَجْرًا وَرَدًّا أَوْ إِنْكَارًا لِمَا قَبْلَهَا وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَلِذَلِكَ لَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ لِأَنَّ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ أَكْثَرُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ لِأَنَّ أَكْثَرَ عُتُوِّ الْمُشْرِكِينَ وَتَجَبُّرِهِمْ بِمَكَّةَ فَإِذَا رَأَيْتَ سُورَةً فِيهَا كَلَّا فَاعْلَمْ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَتَكُونُ كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا عِنْدَ الْكِسَائِيِّ فَيُبْتَدَأُ بِهَا لِتَأْكِيدِ مَا بَعْدَهَا فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ وَيَكُونُ مَوْضِعُهَا نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَحَقَّ ذَلِكَ حَقًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 وَلَا تُسْتَعْمَلُ بِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ حُذَّاقِ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا إِذَا ابْتُدِئَ بِهَا لِتَأْكِيدِ مَا بَعْدَهَا. وَتَكُونُ بِمَعْنَى أَلَا فَيُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ وَهِيَ عَلَى هَذَا حَرْفٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَاتِمٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لِلِاسْتِفْتَاحِ أَنَّهُ رَوَى أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْعَلَقِ وَلَمَّا قال: {علم الأنسان ما لم يعلم} . طَوَى النَّمَطَ فَهُوَ وَقْفٌ صَحِيحٌ ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} فدل على أن الابتداء بـ "كلا" مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ فَهِيَ فِي الِابْتِدَاءِ بِمَعْنَى ألا عنده. فقد حصل لـ "كلا" معاني النفي في الوقف عليها وحقا وألا فِي الِابْتِدَاءِ بِهَا. وَجَمِيعُ كَلَّا فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ مَوْضِعًا فِي خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً لَيْسَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} . عَلَى مَعْنَى أَلَا وَاخْتَارَ قَوْمٌ جَعْلَهَا بِمَعْنَى حَقًّا وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فَتْحُ إِنَّ بَعْدَهَا وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 كُلُّ اسْمٌ وُضِعَ لِضَمِّ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ عَلَى جِهَةِ الْإِحَاطَةِ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَفْظُهُ مَأْخُوذًا مِنْ لَفْظِ الْإِكْلِيلِ وَالْكِلَّةِ وَالْكَلَالَةِ مِمَّا هُوَ لِلْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا انْضِمَامٌ لِذَاتِ الشَّيْءِ وَأَحْوَالِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَتُفِيدُ مَعْنَى التَّمَامِ كقوله تعالى: {ولا تبسطها كل البسط} . أَيْ بَسْطًا تَامًّا {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} . وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي انْضِمَامُ الذَّوَاتِ وَهُوَ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. ثُمَّ إِنْ دَخَلَ عَلَى مُنَكَّرٍ أَوْجَبَ عُمُومَ أَفْرَادِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْ عَلَى مُعَرَّفٍ أَوْجَبَ عُمُومَ أَجْزَاءِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْأَسْمَاءِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {وكل أتوه داخرين} . فَالتَّنْوِينُ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ. وَهُوَ لَازِمٌ لِلْإِضَافَةِ مَعْنًى وَلَا يَلْزَمُ إِضَافَتُهُ لَفْظًا إِلَّا إِذَا وَقَعَ تَأْكِيدًا أَوْ نَعْتًا وَإِضَافَتُهُ مَنْوِيَّةٌ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ مِنْهَا وَيُضَافُ تَارَةً إِلَى الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ نَحْوُ كُلُّ الْقَوْمِ وَمِثْلُهُ اسْمُ الْجِنْسِ نَحْوُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لبني إسرائيل} وَتَارَةً إِلَى ضَمِيرِهِ نَحْوُ: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 القيامة فردا} {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} {ليظهره على الدين كله} . وَإِلَى نَكِرَةٍ مُفْرَدَةٍ نَحْوُ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طائره} {والله بكل شيء عليم} {كل نفس بما كسبت رهينة} . وَرُبَّمَا خَلَا مِنَ الْإِضَافَةِ لَفْظًا وَيُنْوَى فِيهِ نحو: {كل في فلك يسبحون} {وكل أتوه داخرين} {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} {كلا هدينا} {كل من الصابرين} {وكلا ضربنا له الأمثال} وَهَلْ تَنْوِينُهُ حِينَئِذٍ عِوَضٌ أَوْ تَنْوِينُ صَرْفٍ؟ قَوْلَانِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَتَقْدِيمُهَا أَحْسَنُ مِنْ تَأْخِيرِهَا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ كُلُّهُمْ فَلَوْ أُخِّرَتْ لَبَاشَرَتِ الْعَوَامِلَ مَعَ أَنَّهَا فِي الْمَعْنَى مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ مَا لَا يُبَاشِرُهُ فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ أَشْبَهَتِ الْمُرْتَفِعَةَ بِالِابْتِدَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَلِ عَامِلًا فِي اللَّفْظِ وَأَمَّا كُلٌّ الْمُؤَكَّدُ بِهَا فلازمة للإضافة. وتحصل لَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: مُؤَكِّدَةً وَمُبْتَدَأً بِهَا مُضَافَةً وَمَقْطُوعَةً عَنِ الْإِضَافَةِ. فَأَمَّا الْمُؤَكَّدَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ تَوْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ مِمَّا يَتَبَعَّضُ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا الْإِحَاطَةُ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا الْمُضَافَةُ غَيْرُ الْمُؤَكِّدَةِ فَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تُضَافَ إِلَى النَّكِرَةِ الشَّائِعَةِ فِي الْجِنْسِ لِأَجْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 مَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَهُوَ إِنَّمَا مَا يُطْلَبُ جِنْسًا يُحِيطُ بِهِ فَإِنْ أَضَفْتَهُ إِلَى جُمْلَةٍ مُعَرَّفَةٍ نَحْوُ كُلُّ إِخْوَتِكَ ذَاهِبٌ قَبُحَ إِلَّا فِي الِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُبْتَدَأً وَكَانَ خَبَرُهُ مُفْرَدًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْإِضَافَةُ لِلنَّكِرَةِ لِشُيُوعِهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدَأً وَأَضَفْتَهُ إِلَى جُمْلَةٍ مُعَرَّفَةٍ نَحْوُ ضَرَبْتُ كُلَّ إِخْوَتِكَ وَضَرَبْتُ كُلَّ الْقَوْمِ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُسْنِ بِمَنْزِلَةِ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّكَ لَمْ تُضِفْهُ إِلَى جِنْسٍ وَلَا مَعَكَ فِي الْكَلَامِ خَبَرٌ مُفْرَدٌ يدل على معنى إضافته إِلَى جِنْسٍ مُعَرَّفٍ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ حَسُنَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْجِنْسِ وَلَوْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ لَمْ يَحْسُنْ لِمُنَافَاتِهَا مَعْنَى الْإِحَاطَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى بِالْكَلَامِ عَلَى أَصْلِهِ فَتُؤَكِّدُ الْكَلَامَ بِـ "كُلٍّ" فَتَقُولُ خُذْ مِنَ الثَّمَرَاتِ كُلِّهَا. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِي قَوْلِهِ كُلْ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَكُلْ مِنَ الثَّمَرَاتِ كُلِّهَا فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ دُونَ الْآخَرِ؟ قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي النَّتَائِجِ: لَهُ حِكْمَةٌ وَهُوَ أَنَّ مِنْ فِي الْآيَةِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لَا فِي مَوْضِعِ الظَّرْفِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ الثَّمَرَاتِ أَنْفُسَهَا لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْهَا شَيْئًا وَأَدْخَلَ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ كُلِّهِ وَلَوْ قَالَ أَخْرَجْنَا بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ كُلِّهَا لَقِيلَ أَيُّ شَيْءٍ أَخْرَجَ مِنْهَا وَذَهَبَ التَّوَهُّمُ إِلَى أَنَّ الْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ ظَرْفٍ وَأَنَّ مَفْعُولَ: {أَخْرَجْنَا} فِيمَا بَعْدُ وَهَذَا يُتَوَهَّمُ مَعَ تَقَدُّمِ كُلٍّ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ كُلًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 إِذَا تَقَدَّمَتِ اقْتَضَتِ الْإِحَاطَةَ بِالْجِنْسِ وَإِذَا تَأَخَّرَتِ اقْتَضَتِ الْإِحَاطَةَ بِالْمُؤَكَّدِ بِتَمَامِهِ جِنْسًا شَائِعًا كَانَ أَوْ مَعْهُودًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ كُلِي من كل الثمرات} . وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الثَّمَرَاتِ كُلِّهَا فَفِيهِ الْحِكْمَةُ السَّابِقَةُ وَتَزِيدُ فَائِدَةً وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهَا في النظم: {ومن ثمرات النخيل والأعناب} الْآيَةَ. فَلَوْ قَالَ بَعْدَهَا: ثُمَّ كُلِي مِنَ الثَّمَرَاتِ كُلِّهَا لَأَوْهَمَ أَنَّهَا لِلْعَهْدِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فكان الابتداء بـ "كل" أَحْضَرَ لِلْمَعْنَى وَأَجْمَعَ لِلْجِنْسِ وَأَرْفَعَ لِلَّبْسِ. وَأَمَّا الْمَقْطُوعُ عَنِ الْإِضَافَةِ فَقَالَ السُّهَيْلِيُّ حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً مُخْبَرًا عَنْهَا أَوْ مُبْتَدَأَةً مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ بَعْدَهَا لَا قَبْلَهَا أَوْ مَجْرُورَةً يَتَعَلَّقُ خَافِضُهَا بِمَا بَعْدَهَا كَقَوْلِكَ كُلًّا ضَرَبْتُ وَبِكُلٍّ مَرَرْتُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَذْكُورِينَ قَبْلَهَا لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهَا جُمْلَةٌ وَلَا أُضِيفَتْ إِلَى جُمْلَةٍ بَطُلَ مَعْنَى الْإِحَاطَةِ فِيهَا وَلَمْ يُعْقَلْ لَهَا مَعْنًى. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ كُلٍّ لِأَفْرَادِ التَّذْكِيرِ وَمَعْنَاهُ بِحَسَبِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ والأحوال ثلاثة: فالأول: أَنْ يُضَافَ إِلَى نَكِرَةٍ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ مَعْنَاهَا فَلِذَلِكَ جَاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر} {وكل إنسان ألزمناه} . وَمُفْرَدًا مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كسبت رهينة} {كل نفس ذائقة الموت} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وَمَجْمُوعًا مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لديهم فرحون} . فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى مَعَ النَّكِرَةِ دُونَ لَفْظِ كُلٍّ قَدْ أَوْرَدُوا عَلَيْهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} . وقوله: {وعلى كل ضامر يأتين} . وَقَوْلِهِ: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يسمعون إلى الملأ الأعلى} وأجيب بأن الجمع في الأولى باعتبار الأمة. وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّ الضَّامِرَ اسْمُ جَمْعٍ كَالْجَامِلِ وَالْبَاقِرِ. وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ إِنَّمَا عَادَ الضَّمِيرُ إِلَى الْجَمْعِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْكَلَامِ فَلَا يَلْزَمُ عَوْدُهُ إِلَى كُلٍّ. وَزَعَمَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدين في تفسيره: {ويل لكل أفاك أثيم} ،ثم قال: {أولئك لهم عذاب مهين} أَنَّهُ مِمَّا رُوعِيَ فِيهِ الْمَعْنَى بِهَذَا اللَّفْظِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الضَّمِيرَ لَمْ يَعُدْ إِلَى كل بل على الأفاكين الدالة عليه: {لكل أَفَّاكٍ} . وَأَيْضًا فَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ وَالْكَلَامُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ. الثَّانِي: أَنْ تُضَافَ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَيَجُوزُ مُرَاعَاةُ لَفْظِهَا وَمُرَاعَاةُ مَعْنَاهَا سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِضَافَةُ لَفْظًا نَحْوُ: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ،فَرَاعَى لَفْظَ كُلٍّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" وَلَمْ يَقُلْ رَاعُونَ وَلَا مَسْئُولُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 أو معنى نحو: {فكلا أخذنا بذنبه} ، فراعى لفظها وقال: {وكل أتوه داخرين} . فَرَاعَى الْمَعْنَى. وَقَدِ اجْتَمَعَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فردا} . هذا إذا جعلنا من موصولة فَإِنْ جَعَلْنَاهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً خَرَجَتْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ إِلَى الْأَوَّلِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُقْطَعَ عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا فَيَجُوزُ مُرَاعَاةُ لَفْظِهَا وَمُرَاعَاةُ مَعْنَاهَا. فمن الأول: {كل آمن بالله} {قل كل يعمل على شاكلته} {إن كل إلا كذب الرسل} . ولم يقل كذبوا {فكلا أخذنا بذنبه} ومن الثاني: {وكل كانوا ظالمين} ، {كل في فلك يسبحون} {كل له قانتون} {وكل أتوه داخرين} قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَعِلَّتُهُ أَنَّ أَحَدَ الْجَمْعَيْنِ عندهم كان عَنْ صَاحِبِهِ فَإِنَّ لَفْظَ كَلٍّ لِلْأَفْرَادِ وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدَّرُوا الْمُضَافَ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمْعًا فَتَارَةً رُوعِيَ كَمَا إِذَا صَرَّحَ بِهِ وَتَارَةً رُوعِيَ لَفْظُ كُلٍّ وَتَكُونُ حَالَةُ الْحَذْفِ مُخَالِفَةً لِحَالِ الْإِثْبَاتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 قِيلَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ حَيْثُ أُفْرِدَ يُقَدَّرُ الْحَذْفُ مُفْرَدًا وَحَيْثُ جُمِعَ يُقَدَّرُ جَمْعًا فَيُقَدَّرُ في قوله: {فكلا أخذنا بذنبه} كُلُّ وَاحِدٍ وَيُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} . كُلُّ نَوْعٍ مِمَّا سَبَقَ لَكَانَ مُوَافِقًا إِذَا أُضِيفَ لَفْظًا إِلَى نَكِرَةٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَقْتَضِي أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَكُلُّهُمْ أَتَوْهُ وَكِلَا التَّقْدِيرَيْنِ سَائِغٌ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ. وَيَتَعَيَّنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلٌّ في فلك يسبحون} . أَنَّ كُلًّا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْجَمْعِ وَقَدْ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ {كل يعمل على شاكلته} كُلُّ أَحَدٍ وَهُوَ يُسَاعِدُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي نِتَاجِ الْفِكْرِ إِذَا قُطِعَتْ كُلٌّ عَنِ الْإِضَافَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهَا جَمْعًا لِأَنَّهَا اسْمٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ تَقُولُ كَلٌّ ذَاهِبُونَ إِذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَوْمٍ وَأَجَابَ عَنْ إِفْرَادِ الْخَبَرِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِأَنَّ فِيهَا قَرِينَةً تَقْتَضِي تَحْسِينَ الْمَعْنَى بِهَذَا اللَّفْظِ دُونَ غَيْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} فَلِأَنَّ قَبْلَهَا ذِكْرَ فَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مُؤْمِنِينَ وَظَالِمِينَ فَلَوْ جَمَعَهُمْ فِي الْأَخْبَارِ وَقَالَ كَلٌّ يَعْمَلُونَ لَبَطُلَ مَعْنَى الِاخْتِلَافِ وَكَانَ لَفْظُ الْإِفْرَادِ أَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ وَالْمَعْنَى كُلُّ فَرِيقٍ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرسل} فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ قُرُونًا وَأُمَمًا وَخَتَمَ ذِكْرَهُمْ بِقَوْمِ تُبَّعٍ فَلَوْ قَالَ كَلٌّ كَذَّبُوا لَعَادَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ فَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ قَوْمِ تُبَّعٍ خَاصَّةً فَلَمَّا قَالَ: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ} عُلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَذَّبَ لِأَنَّ إِفْرَادَ الْخَبَرِ عَنْ كُلٍّ حَيْثُ وَقَعَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 مسألة وتتصل ما بـ "كل" نحو: {كلما رزقوا منها} . وَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ لَكِنَّهَا نَائِبَةٌ بِصِلَتِهَا عَنْ ظَرْفِ زَمَانٍ كَمَا يَنُوبُ عَنْهُ الْمَصْدَرُ الصَّرِيحُ وَالْمَعْنَى كُلُّ وَقْتٍ. وَهَذِهِ تُسَمَّى مَا الْمَصْدَرِيَّةَ الظَّرْفِيَّةَ أَيِ النَّائِبَةَ عَنِ الظَّرْفِ لَا أَنَّهَا ظَرْفٌ فِي نَفْسِهَا فَـ "كُلٌّ" مِنْ كُلَّمَا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى شَيْءٍ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الظَّرْفِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ أَنَّ كُلَّمَا لِلتَّكْرَارِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ مَا لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ مُرَادٌ بِهَا الْعُمُومُ فَإِذَا قُلْتَ أَصْحَبُكَ مَا ذَرَّ لله شارق فإنما تريد العموم فـ "كل" أَكَّدَتِ الْعُمُومَ الَّذِي أَفَادَتْهُ مَا الظَّرْفِيَّةُ لَا أَنَّ لَفْظَ كُلَّمَا وُضِعَ لِلتَّكْرَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ وَإِنَّمَا جَاءَتْ كُلٌّ تَوْكِيدًا لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَا الظَّرْفِيَّةِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إِنَّ التَّكْرَارَ مِنْ عُمُومِ مَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ لَا عُمُومَ لَهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نِيَابَتِهَا عَنِ الظَّرْفِ دَلَالَتُهَا عَلَى الْعُمُومِ وَإِنِ اسْتُفِيدَ عُمُومٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فَلَيْسَ مِنْ مَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّرْكِيبِ نَفْسِهِ وذكر بعض الأصوليين أنها إذا وصلت بـ "ما" صَارَتْ أَدَاةً لِتَكْرَارِ الْأَفْعَالِ وَعُمُومِهَا قَصْدِيٌّ وَفِي الْأَسْمَاءِ ضِمْنِيٌّ قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} وَإِذَا جُرِّدَتْ مِنْ لَفْظِ مَا انْعَكَسَ الْحُكْمُ وَصَارَتْ عَامَّةً فِي الْأَسْمَاءِ قَصْدًا وَفِي الْأَفْعَالِ ضمنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ تُطَلَّقُ كُلُّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا وَتَكُونُ عَامَّةً فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ لِدُخُولِهَا عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ قَصْدِيٌّ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تُطَلَّقْ فِي الثَّانِيَةِ لِعَدَمِ عُمُومِهَا قَصْدًا فِي الْأَسْمَاءِ وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِرَارًا طُلِّقَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِاقْتِضَائِهَا عُمُومَ الْأَفْعَالِ قَصْدًا وَهُوَ التَّزَوُّجُ مَسْأَلَةٌ. وَيَأْتِي كُلٌّ صِفَةً ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ النَّعْتِ قَالَ وَمِنَ الصِّفَةِ أَنْتَ الرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ وَمَرَرْتُ بِالرَّجُلِ كُلِّ الرَّجُلِ قَالَ الصَّفَّارُ: هَذَا يَكُونُ عِنْدَ قَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ قَوْلَكَ الرَّجُلُ مَعْنَاهُ الْكَامِلُ وَمَعْنَى كُلِّ الرَّجُلِ أَيْ هُوَ الرَّجُلُ لِعَظَمَتِهِ قَدْ قَامَ مَقَامَ الْجِنْسِ كَمَا تَقُولُ أَكَلْتُ شَاةً كُلَّ شَاةٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا" أَيْ أَنَّ مَنْ صَادَهُ فَقَدْ صَادَ جَمِيعَ الصَّيْدِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ لِعَظَمَتِهِ قَالَ وَهَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا سَبَقَهَا مَا فِيهِ رَائِحَةُ الصِّفَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَوْ كَانَ جَامِدًا لَمْ يَجُزْ نَحْوُ مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ كُلِّ الرَّجُلِ لَا يُفْهَمُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ شيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 كِلَا وَكِلْتَا هُمَا تَوْكِيدُ الِاثْنَيْنِ وَفِيهِمَا مَعْنَى الإحاطة ولهذا قال الرَّاغِبُ هِيَ فِي التَّثْنِيَةِ كَكُلٍّ فِي الْجَمْعِ وَمُفْرَدُ اللَّفْظِ مُثْنَى الْمَعْنَى عَبَّرَ عَنْهُ مَرَّةً بِلَفْظِهِ وَمَرَّةً بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَاهُ قَالَ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كلاهما} قُلْتُ: لَا خِلَافَ أَنَّ مَعْنَاهَا التَّثْنِيَةُ وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظِهَا فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مُفْرَدَةٌ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ تَثْنِيَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا مفردا في قوله: {كلتا الجنتين آتت} . فَالْإِخْبَارُ عَنْ كِلْتَا بِالْمُفْرَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مُفْرَدٌ إِذْ لَوْ كَانَ مُثَنًّى لَقَالَ آتَتَا وَدَلِيلُ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُثَنَّى فِي قَوْلِهِ: {أَحَدُهُمَا أو كلاهما} . وَلَوْ كَانَ مُثَنًّى لَمْ يَجُزْ إِضَافَتُهُ إِلَى التَّثْنِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ وَالْفَصِيحُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَيُقَالُ كِلَا الرَّجُلَيْنِ خَرَجَ وَكِلْتَا الْمَرْأَتَيْنِ حَضَرَتْ. وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّثْنِيَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا ذَكَرَهُ النحاة ولو كان كذلك لكثرة مراعاة المعنى كما كثرة مراعاته في من وما الْمَوْصُولَتَيْنِ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَ فِي لِسَانِ العرب عود الضمير مفردا كلتا الجنتين آتت وَمَا جَاءَ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ قَالَ فَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهَا مُفْرَدٌ صَالِحٌ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِمَا وَأَمَّا مُرَاعَاةُ التَّثْنِيَةِ فِيهِ فَعَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَوَجْهُ التَّوَسُّعِ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ مَعَهُ غيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 فَجَاءَتِ التَّثْنِيَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْإِفْرَادُ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَالتَّثْنِيَةُ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَائِدَةٌ. وَقَعَ فِي شِعْرِ أَبِي تَمَّامٍ كِلَا الْآفَاقِ وَخَطَّأَهُ الْمَعَرِّيُّ لِأَنَّ كِلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الِاثْنَيْنِ لَا الْجَمْعِ قَالَ: وَلَمْ يَأْتِ فِي الْمَسْمُوعِ: كِلَا الْقَوْمِ، وَلَا كِلَا الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كِلَا الرَّجُلَيْنِ وَنَحْوَهُ فَإِنْ أُخِذَ مِنَ الْكَلَأِ مِنْ قَوْلِكَ: كَلَأْتُ الشَّيْءَ إِذَا رَعَيْتَهُ وَحَفِظْتَهُ فَالْمَعْنَى يَصِحُّ إِلَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُقْصِرُ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 كَمْ نَكِرَةٌ لَا تَتَعَرَّفُ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي العدد كـ "أين" فِي الْأَمْكِنَةِ وَمَتَى فِي الْأَزْمِنَةِ وَكَيْفَ فِي الْأَحْوَالِ. وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ: كَمْ أَرْضُكَ جَرِيبًا؟ كَمْ مُبْتَدَأٌ وَأَرْضُكَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وإنما أرضك مبتدأ وكم الْخَبَرُ مِثْلُ كَيْفَ زَيْدٌ؟ وَهِيَ قِسْمَانِ: اسْتِفْهَامِيَّةٌ تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ بِمَعْنَى أَيِّ عَدَدٍ؟ فَيُنْصَبُ مَا بَعْدَهَا نَحْوُ: كَمْ رَجُلًا ضَرَبْتَ؟ وَخَبَرِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ بِمَعْنَى عَدَدٍ كَثِيرٍ فَيُجَرُّ مَا بَعْدَهَا نَحْوُ كَمْ عَبْدٍ مَلَكْتُ. وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ كَقَوْلِهِ: {وَكَمْ مِنْ قرية أهلكناها} {وكم قصمنا من قرية} وَلَيْسَتِ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ أَصْلًا لِلْخَبَرِيَّةِ خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ ادَّعَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ يس عِنْدَ الْكَلَامِ على: {ألم يروا كم أهلكنا} وَلَمْ تُسْتَعْمَلِ الْخَبَرِيَّةُ غَالِبًا إِلَّا فِي مَقَامِ الِافْتِخَارِ وَالْمُبَاهَاةِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وَلِهَذَا مُيِّزَتْ بِمَا يُمَيَّزُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَهُوَ مِائَةٌ وَأَلْفٌ فَكَمَا أَنَّ مِائَةً تُمَيَّزُ بِوَاحِدٍ مَجْرُورٍ فَكَذَلِكَ كَمْ وَاعْلَمُ أَنَّ كَمْ مُفْرَدَةُ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ فَيَجُوزُ فِي ضَمِيرِهَا الْأَمْرَانِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السماوات} . ثم قال: {لا تغني شفاعتهم} فَأَتَى بِهِ جَمْعًا وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلكناها} . ثم قال: {أو هم قائلون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 كَيْفَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ حَالِ الشَّيْءِ لَا عَنْ ذَاتِهِ كَمَا أَنَّ مَا سُؤَالٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ ومن عَنْ مُشَخِّصَاتِهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي اللَّهِ كَيْفَ. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ الظَّرْفِ فَإِذَا قُلْتَ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ كَانَ زيد مبتدأ وكيف فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى أَيِّ حَالٍ زَيْدٌ؟ هَذَا أَصْلُهَا فِي الْوَضْعِ لَكِنْ قَدْ تَعْرِضُ لَهَا مَعَانٍ تُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَوْ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ مِثْلُ مَعْنَى التَّنْبِيهِ وَالِاعْتِبَارِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: سُؤَالٌ مَحْضٌ عَنْ حَالٍ نَحْوُ كَيْفَ زَيْدٌ؟ وَثَانِيهَا: حَالٌ لَا سُؤَالَ مَعَهُ كَقَوْلِكَ لَأُكْرِمَنَّكَ كَيْفَ أَنْتَ أَيْ عَلَى أَيِّ حَالٍ كنت. ثالثها: معنى التعجب. وَعَلَى هَذَيْنِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} . قَالَ الرَّاغِبُ فِي تَفْسِيرِهِ كَيْفَ هُنَا اسْتِخْبَارٌ لَا اسْتِفْهَامٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِخْبَارَ قَدْ يَكُونُ تَنْبِيهًا لِلْمُخَاطَبِ وَتَوْبِيخًا وَلَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْمُسْتَخْبَرِ وَالِاسْتِفْهَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَالَ: فِي الْمُفْرَدَاتِ كُلُّ: مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِلَفْظِ كَيْفَ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَلَى طَرِيقِ التَّنْبِيهِ لِلْمُخَاطَبِ أو توبيخ نحو: {كيف تكفرون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 {كيف يهدي الله قوما} {كيف يكون للمشركين عهد} {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} {فانظروا كيف بدأ الخلق} . {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يعيده} وَقَالَ: غَيْرُهُ قَدْ تَأْتِي لِلنَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رسوله} {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} وَلِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْجَحْدِ شَاعَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا إلا كقوله: {إلا الذين عاهدتم} وَلِلتَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} وَلِلتَّحْذِيرِ كَقَوْلِهِ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} وَلِلتَّنْبِيهِ وَالِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بعض} وَلِلتَّأْكِيدِ وَتَحْقِيقِ مَا قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ: {وَانْظُرْ إِلَى العظام كيف ننشزها} ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 وَقَوْلِهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشهيد} ،فإنه توكيد لما تقدم وَتَحْقِيقٍ لِمَا بَعْدَهُ عَلَى تَأْوِيلِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ فِي الْآخِرَةِ! وَلِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا من كل أمة بشهيد} . أَيْ فَكَيْفَ حَالُهُمْ إِذَا جِئْنَا وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: "كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ"! وَقِيلَ: وَتَجِيءُ مَصْدَرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} وَتَأْتِي ظَرْفًا فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَهِيَ عِنْدَهُ في قوله: {كيف تكفرون} مَنْصُوبَةً عَلَى التَّشْبِيهِ بِالظَّرْفِ أَيْ فِي حَالِ تَكْفُرُونَ وَعَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ أَيْ عَلَى حَالِ تَكْفُرُونَ. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {فَكَيْفَ إذا جئنا من كل أمة بشهيد} . فَإِنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ بَعْدَهَا اسْمًا وَجَعَلْتَهَا خَبَرًا أَيْ كَيْفَ صُنْعُكُمْ أَوْ حَالُكُمْ وَإِنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ بَعْدَهَا فِعْلًا تَقْدِيرُهُ كَيْفَ تَصْنَعُونَ؟ وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ لَهَا الشَّرْطَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يشاء} ، {يصوركم في الأرحام كيف يشاء} فيبسطه في السماء كيف يشاء وَجَوَابُهُ فِي ذَلِكَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وَمُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ الشَّرْطُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ إِنَّمَا يُفِيدُ الرَّبْطَ فَقَطْ أَيْ رَبْطَ جُمْلَةٍ بِأُخْرَى كَأَدَاةِ الشَّرْطِ لَا اللَّفْظِيُّ وَإِلَّا لَجُزِمَ الْفِعْلُ. وَعَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهَا تَجْزِمُ نَحْوُ كَيْفَ تَكُنْ أَكُنْ وَقَدْ يُحْذَفُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} . أَيْ كَيْفَ تُوَالُونَهُمْ! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 اللَّامُ قِسْمَانِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامِلَةً أَوْ غَيْرَ عَامِلَةٍ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: غَيْرُ الْعَامِلَةِ. وَتَجِيءُ لِعَشْرَةِ مَعَانٍ مُعَرِّفَةٍ وَدَالَّةٍ عَلَى الْبُعْدِ وَمُخَفَّفَةٍ وَمُوجِبَةٍ وَمُؤَكِّدَةٍ وَمُتَمِّمَةٍ وَمُوَجِّهَةٍ وَمَسْبُوقَةٍ وَالْمُؤْذِنَةِ وَالْمُوَطِّئَةِ. فَالْمُعَرِّفَةُ: الَّتِي مَعَهَا أَلِفُ الْوَصْلِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْمُعَرِّفَةَ اللَّامَ وَحْدَهَا وَيُنْسَبُ لِسِيبَوَيْهِ وَذَهَبَ الْخَلِيلُ إِلَى أَنَّهُ ثُنَائِيٌّ وَهَمْزَتُهُ هَمْزَةُ قَطْعٍ وُصِلَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَنْقَسِمُ الْمُعَرِّفَةُ إِلَى عَهْدِيَّةٍ وَاسْتِغْرَاقِيَّةٍ وَقَدْ سَبَقَا فِي قَاعِدَةِ التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ وَزَادَ قَوْمٌ طَلَبَ الصِّلَةِ وَجُعِلَ مِنْهُ: {رَكِبَا في السفينة} {فأكله الذئب} وللإضمار، {فإن الجحيم هي المأوى} . وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِضْمَارَ بَعْدَهَا مُرَادٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ فَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هِيَ مَأْوَاهُ وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ الْمَأْوَى لَهُ وَاللَّامُ فِي التَّعْرِيفِ مُرَقَّقَةٌ إِلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ فَيَجِبُ تَفْخِيمُهَا إِذَا كَانَ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ أَوْ فَتْحَةٌ وَهِيَ فِي الْأَسْمَاءِ تَفْخِيمُ الْجَرْسِ وَفِي الْمَعْنَى تَوْقِيرُ الْمُسَمَّى وَتَعْظِيمُهُ سُبْحَانَهُ! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وَالدَّالَّةُ عَلَى الْبُعْدِ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ إِعْلَامًا بِالْبُعْدِ أَوْ تَوْكِيدًا لَهُ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ. وَالْمُخَفِّفَةُ الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا تَخْفِيفُ إِنَّ الْمُشَدَّدَةِ نَحْوُ: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حافظ} وَتُسَمَّى لَامُ الِابْتِدَاءِ وَالْفَارِقَةُ لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ. وَالْمُخَفِّفَةُ هِيَ الَّتِي تُحَقِّقُ الْخَبَرَ مَعَ الْمُبْتَدَأِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وغفر} {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} وَالْمُوجِبَةُ بِمَعْنَى إِلَّا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . أَيْ مَا كَلٌّ فَجَعَلُوا إِنْ بِمَعْنَى مَا وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا فِي الْإِيجَابِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} بِالرَّفْعِ وَالْمُرَادُ: وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ إِلَّا لِتَزُولَ مِنْهُ. وَالْمُؤَكِّدَةُ وَهِيَ الزَّائِدَةُ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَتَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُبْتَدَأُ وَتُسَمَّى لَامُ الِابْتِدَاءِ فيؤذن بأنه المحكوم قال تعالى: {لمسجد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 أسس على التقوى} {ليوسف وأخوه أحب} {لأنتم أشد رهبة} ثَانِيهِمَا: فِي بَابِ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا إِذَا تأخر، {إن في ذلك لعبرة} وعلى خبرها نحو: {إن ربك لبالمرصاد} ، {إن إبراهيم لحليم أواه} {إن بطش ربك لشديد} فَـ"إِنَّ" فِي هَذَا تَوْكِيدٌ لِمَا يَلِيهَا وَاللَّامُ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ. وَكَذَا فِي أَنَّ الْمَفْتُوحَةِ كقراءة سعيد {لا إنهم ليأكلون} . بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَإِنَّهُ أَلْغَى اللَّامَ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى إِنَّ الْمَكْسُورَةِ أَوْ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالْخَبَرِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ نَحْوُ {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} . فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ لَيَعْمَهُونَ فِي سَكْرَتِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي اللام في قوله: {لمن ضره} فَقِيلَ هِيَ مُؤَخَّرَةٌ وَالْمَعْنَى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وَجَازَ تَقْدِيمُهَا وَإِيلَاؤُهَا الْمَفْعُولَ لِأَنَّهَا لَامُ التَّوْكِيدِ وَالْيَمِينِ فَحَقُّهَا أَنْ تَقَعَ صَدْرَ الْكَلَامِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ اللَّامَ فِي صِلَةِ مَنْ فَتَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَوْصُولِ مُمْتَنِعٌ وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهَا حَرْفٌ لَا يُفِيدُ غَيْرَ التَّوْكِيدِ وَلَيْسَتْ بِعَامِلَةٍ كَـ "مِنَ" الْمُؤَكِّدَةِ فِي نَحْوِ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ دُخُولُهَا وَخُرُوجُهَا سَوَاءٌ وَلِهَذَا جَاءَ تَقْدِيمُهَا وَيَجُوزُ أَلَّا تَكُونَ هُنَا مَوْصُولَةً بَلْ نَكِرَةً وَلِهَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ اللَّامُ فِي غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 موضعها و"من" في موضع نصب يَدْعُو وَالتَّقْدِيرُ يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ أَيْ يَدْعُو إِلَهًا ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفَعِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يَدْعُو فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ فِي حَالِ دُعَائِهِ إِيَّاهُ وَقَوْلِهِ: {لَمَنْ} مُسْتَأْنَفٌ مَرْفُوعٌ بالابتداء وقوله: {ضره أقرب من نفعه} في صلته و {لبئس المولى} . خَبَرُهُ. وَهَذَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ {يَدْعُو} يُدْعَى لَكِنَّ مَجِيئَهُ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَمِيرُهُ يُبْعِدُهُ. وَالْمُتَمِّمَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} ، {إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} . فَاللَّامُ هُنَا لِتَتْمِيمِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِذَنْ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ. وَالْمُوَجَّهَةُ فِي جَوَابِ لَوْلَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم} . فاللام في {لقد} توجه للتثبيت وَالْمَسْبُوقَةُ فِي جَوَابِ لَوْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ نشاء لجعلناه حطاما} أَيْ تُفِيدُ تَأَخُّرُهُ لِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأمس} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} بِغَيْرِ لَامٍ فَإِنَّهُ يُفِيدُ التَّعْجِيلَ أَيْ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا لِوَقْتِهِ. وَالْمُؤْذِنَةُ: الدَّاخِلَةُ عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْقَسَمِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا لِتُؤْذِنَ أَنَّ الْجَوَابَ لَهُ لَا لِلشَّرْطِ أَوْ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَسَمٍ قَبْلَهَا. وَتُسَمَّى الْمُوَطِّئَةَ لِأَنَّهَا وَطَّأَتِ الْجَوَابَ لِلْقَسَمِ أَيْ مَهَّدَتْهُ. وَقَوْلُ الْمُعْرِبِينَ: إِنَّهَا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ فِيهِ تَجَوُّزٌ وَإِنَّمَا هِيَ مُوَطِّئَةٌ لِجَوَابِهِ كَقَوْلِهِ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار} وَلَيْسَتْ جَوَابًا لِلْقَسَمِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ مَا يَأْتِي بَعْدَ الشَّرْطِ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ قَوْلُكَ لَامُ الْجَوَابِ. وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كلا لئن لم ينته لنسفعا} . فاللام في لئن مؤذنة وَقَوْلِهِ: {نَسْفَعًا} جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ تَقْدِيرُهُ وَاللَّهِ لَنَسْفَعَنْ وَمِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} . وَزَعَمَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهَا لَامُ التَّوْكِيدِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَقَدْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ: إِنَّهَا لَامُ الْقَسَمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ ابْتِدَاءٍ لِأَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ لَا تَلْحَقُ إِلَّا الْأَسْمَاءَ وَمَا يَكُونُ بمنزلتها كالمضارع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 الْقِسْمُ الثَّانِي: الْعَامِلَةُ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: جَارَّةٌ وَنَاصِبَةٌ وَجَازِمَةٌ. الْأُولَى: الْجَارَّةُ وَتَأْتِي لِمَعَانٍ: لِلْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض} {ولله جنود السماوات والأرض} وَالتَّمْلِيكِ، نَحْوَ وَهَبْتُ لِزَيْدٍ دِينَارًا وَمِنْهُ: {وَوَهَبْنَا لهم من رحمتنا} وَالِاخْتِصَاصِ وَمَعْنَاهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي نِسْبَةً بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقُهُ نَحْوُ هَذَا صَدِيقٌ لِزَيْدٍ وَأَخٌ لَهُ وَمِنْهُ الْجَنَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلِلتَّخْصِيصِ وَمِنْهُ: {إِنْ وَهَبَتْ نفسها للنبي} وللاستحقاق كقوله تعالى: {ويل للمطففين} {لهم اللعنة ولهم سوء الدار} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِلْكَ أَنَّ الْمِلْكَ لِمَا حَصَلَ وَثَبَتَ وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ لَكِنْ هُوَ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ مِنْ حَيْثُ مَا قَدِ اسْتُحِقَّ قَالَهُ الرَّاغِبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وَلِلْوِلَايَةِ كَقَوْلِهِ: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بعد} وَيَجُوزُ أَنْ تُجْمَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ كَقَوْلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَوَلِيُّهُ وَالْمَخْصُوصُ بِهِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ الْحَمْدُ لِي وَإِلَيَّ. وَلِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ مَوْضِعَهَا مِنْ أَجْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإنه لحب الخير لشديد} . أي من أجل حب الخير. وقوله: {لإيلاف قريش} . وهي متعلقة بقوله: {فليعبدوا} أو بقوله. {فجعلهم كعصف مأكول} وَلِهَذَا كَانَتَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سُورَةً وَاحِدَةً. وَضُعِّفَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ إِنَّمَا هُوَ لِكُفْرِهِمْ وَتَجَرُّئِهِمْ عَلَى الْبَيْتِ. وَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أي اعجبوا. وقوله: {سقناه لبلد ميت} أَيْ لِأَجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، بِدَلِيلِ: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماء} هَذَا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ إِنَّهَا بِمَعْنَى إِلَى. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُنْ للخائنين خصيما} أَيْ لَا تُخَاصِمِ النَّاسَ لِأَجْلِ الْخَائِنِينَ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يختانون أنفسهم} وَلَيْسَتْ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ لَا تَكُنْ لِلَّهِ خَصِيمًا لِدُخُولِهَا عَلَى الْمَفْعُولِ أَيْ لَا تَكُنْ خصيم الله وبمعنى إلى كقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} بدليل قوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} {الحمد لله الذي هدانا لهذا} {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان} وقوله: {بأن ربك أوحى لها} ،بدليل: {وأوحى ربك إلى النَّحْلِ} وَزَيَّفَهُ الرَّاغِبُ لِأَنَّ الْوَحْيَ لِلنَّحْلِ جُعِلَ ذلك له للتسخير وَالْإِلْهَامِ وَلَيْسَ كَالْوَحْيِ الْمُوحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَاللَّامُ عَلَى جَعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَهُ بِالتَّسْخِيرِ. وَبِمَعْنَى على نحو: {ويخرون للأذقان} {فلما أسلما وتله للجبين} وَقَوْلِهِ: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . أَيْ فَعَلَيْهَا لِأَنَّ السَّيِّئَةَ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا له بدليل قوله تعالى: {فعلي إجرامي} وَقَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} أي من لَمْ يَكُنْ وَقَوْلِهِ: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدار} وَبِمَعْنَى فِي كَقَوْلِهِ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ القيامة} ، {يا ليتني قدمت لحياتي} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 {لا يجليها لوقتها إلا هو} وَبِمَعْنَى بَعْدَ نَحْوُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . وَقَالَ ابْنُ أَبَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَبِمَعْنَى عَنْ مَعَ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سبقونا} . أَيْ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ الْمَعْنَى خِطَابَهُمْ بِذَلِكَ وَإِلَّا لَقِيلَ سَبَقْتُمُونَا وَقِيلَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَقِيلَ لِلتَّبْلِيغِ وَالْتُفِتَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وكقوله: {قالت أخراهم لأولاهم} . وأما قوله: {وقالت أولاهم لأخراهم} . فَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ كَذَلِكَ قَسَّمَهَا ابْنُ مَالِكٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {ألم أقل لك} وَغَيْرُهُ يُسَمِّيهَا لَامَ التَّبْلِيغِ فَإِنْ عُرِفَ مَنْ غَابَ عَنِ الْقَوْلِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فَلِلتَّعْلِيلِ نحو: {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا} {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ ضَابِطًا فِي اللَّامِ المتعلقة بالقول وهو إِنْ دَخَلَتْ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْقَائِلِ فَهِيَ لِتَعْدِيَةِ الْقَوْلِ لِلْمَقُولِ لَهُ نَحْوُ: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا معروفا} {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا} وقوله: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلا أن يشاء الله} وَهُوَ كَثِيرٌ. وَبِمَعْنَى أَنِ الْمَفْتُوحَةِ السَّاكِنَةِ قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَجَعَلَ مِنْهُ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} {يريد الله ليبين لكم} {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} وَهَذِهِ اللَّامُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَرَدْتُ وَأَمَرْتُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْمُسْتَقْبَلَ وَلَا يَصْلُحَانِ فِي الْمَاضِي فَلِهَذَا جُعِلَ مَعَهُمَا بِمَعْنَى أَنْ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الصف فقال {يريدون ليطفئوا نور الله} أصله يريدون أن يطفئوا كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ وَلِلتَّعْدِيَةِ وَهِيَ الَّتِي تُعَدِّي الْعَامِلَ إِذَا عَجَزَ نَحْوُ: {إِنْ كنتم للرؤيا تعبرون} . فَاللَّامُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَضْعُفُ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَيْهِ. وَسَمَّاهَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: آلَةُ الْفِعْلِ وَذَكَرَ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ يُسَمُّونَهَا لَامَ الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك} {أن أنصح لكم} وَقَالَ الرَّاغِبُ: التَّعْدِيَةُ ضَرْبَانِ: تَارَةً لِتَقْوِيَةِ الْفِعْلِ، ولا يجوز حذفه نحو: {وتله للجبين} ،وَتَارَةً يُحْذَفُ، نَحْوُ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أن يضله} فَأُثْبِتَ فِي مَوْضِعٍ وَحُذِفَ فِي مَوْضِعٍ انْتَهَى. وللتبيين كقوله تعالى: {وقالت هيت لك} أَيْ أَقْبِلْ وَتَعَالَ أَقُولُ لَكَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ اللَّامَ الْمَكْسُورَةَ تَجِيءُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض ليجزي} وَالْمَعْنَى لَيَجْزِيَنَّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالتَّوْكِيدِ بِالنُّونِ فَلَمَّا حَذَفَ النُّونَ أَقَامَ الْمَكْسُورَةَ مَقَامَ الْمَفْتُوحَةِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ وَذُكِرَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا فِعْلٌ مُقَدَّرٌ أَيْ آمِنُوا لِيَجْزِيَ. الثَّانِي: النَّاصِبَةُ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي مَوْضِعَيْنِ لَامُ كَيْ وَلَامُ الْجُحُودِ. وَلَامُ الْجُحُودِ هِيَ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ الْجَحْدِ أَيِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: {ما كان الله ليذر المؤمنين} ، {وما كان الله ليعذبهم} {لم يكن الله ليغفر لهم} وَضَابِطُهَا أَنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ تَمَّ الْكَلَامُ بِدُونِهَا وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ تَوْكِيدًا لِنَفْيِ الْكَوْنِ بِخِلَافِ لَامِ كَيْ قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} لَامُ كَيْ لِأَنَّ لَامَ الْجُحُودِ إِذَا سَقَطَتْ لَمْ يَخْتَلَّ الْكَلَامُ وَلَوْ سَقَطَتِ اللَّامُ مِنَ الآية بطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 الْمَعْنَى وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إِظْهَارُ أَنْ بَعْدَ لَامِ كَيْ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ لِأَنَّهَا فِي كَلَامِهِمْ نَفْيٌ لِلْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ فَالسِّينُ بِإِزَائِهَا فَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهَا مَا لَا يَكُونُ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فيهم} . فَجَاءَ بِلَامِ الْجَحْدِ حَيْثُ كَانَتْ نَفْيًا لِأَمْرٍ متوقع مخوف في المستقبل ثم قال: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} . فَجَاءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ حيث أراد نفي الْعَذَابِ بِالْمُسْتَغْفِرِينَ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ. وَمِثْلُهُ: {وما كان ربك ليهلك القرى} . ثم قال: {وما كنا مهلكي القرى} ومثال لام كي وكي مضمرة معها قوله تعالى: {لينذر بأسا} {لنثبت به فؤادك} {لنصرف عنه السوء} {ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم} وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} . يُرِيدُ كَيْ تَكُونُوا. وَقَوْلِهِ: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آية} وَقَدْ تَجِيءُ مَعَهَا كَيْ نَحْوُ: {لِكَيْ لَا يعلم بعد علم شيئا} {لكي لا يكون على المؤمنين حرج} {لكي لا تحزنوا على ما فاتكم} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 وَرُبَّمَا جَاءَتْ كَيْ بِلَا لَامٍ كَقَوْلِهِ: {كَيْ لا يكون دولة بين الأغنياء} . وَفِي مَعْنَاهُ لَامُ الصَّيْرُورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لهم عدوا وحزنا} {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} وَتُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِذَلِكَ بَلْ لِضِدِّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ عَلَامَتَهَا جَوَازُ تَقْدِيرِ الْفَاءِ مَوْضِعَهَا وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ التَّعْلِيلِ الَّتِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {لِنُحْيِيَ بِهِ بلدة ميتا} . أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ تَدْخُلُ عَلَى مَا هُوَ غَرَضٌ لِفَاعِلِ الْفِعْلِ وَيَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى الْفِعْلِ وَلَيْسَ فِي لَامِ الصَّيْرُورَةِ إِلَّا التَّرَتُّبُ فَقَطْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ أَفَادَتِ اللَّامُ نَفْسَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَلَا يَجِبُ فِي الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ غَرَضًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِكَ خَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ مَخَافَةَ الشَّرِّ فَقَدْ جَعَلْتَ الْمَخَافَةَ عِلَّةً لِخُرُوجِكَ وَمَا هِيَ بِغَرَضِكَ. وَنَقَلَ ابْنُ فَوْرَكٍ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ كُلَّ لَامٍ نَسَبَهَا اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ فَهِيَ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ دُونَ التَّعْلِيلِ لِاسْتِحَالَةِ الْغَرَضِ وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بِقَوْلِهِ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} . وقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا يغفر لك الله} . فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ إِذْ هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وَأَقُولُ: مَا جَعَلُوهُ لِلْعَاقِبَةِ هُوَ رَاجِعٌ لِلتَّعْلِيلِ فَإِنَّ الْتِقَاطَهُمْ أَفْضَى إِلَى عَدَاوَتِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ صِدْقَ الْإِخْبَارِ بِكَوْنِ الِالْتِقَاطِ لِلْعَدَاوَةِ لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الشَّيْءِ يَكُونُ عِلَّةً وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ الْعِلَّةِ صَادِرًا عَمَّنْ نُسِبَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ لَفْظًا بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى مَنْ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَيْهِ خَلْقًا كَمَا تَقُولُ جَاءَ الْغَيْثُ لِإِخْرَاجِ الْأَزْهَارِ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ لِإِنْضَاجِ الثِّمَارِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يضاف إلى الشمس والغيث. كَذَلِكَ الْتِقَاطُ آلِ فِرْعَوْنَ مُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَهُ لِحِكْمَتِهِ وَجَعَلَهُ عِلَّةً لِعَدَاوَتِهِ لِإِفْضَائِهِ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ حِفْظِهِ وَصِيَانَتِهِ كَمَا فِي مَجِيءِ الْغَيْثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِخْرَاجِ الْأَزْهَارِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا التَّحْقِيقُ أَنَّهَا لَامُ الْعِلَّةِ وَأَنَّ التَّعْلِيلَ بِهَا وَارِدٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاعِيهِمْ إِلَى الِالْتِقَاطِ كَوْنَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا بَلِ الْمَحَبَّةُ وَالتَّبَنِّي غَيْرَ أن ذلك لما أن نَتِيجَةَ الْتِقَاطِهِمْ لَهُ وَثَمَرَتَهُ شُبِّهَ بِالدَّاعِي الَّذِي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء فَاللَّامُ مُسْتَعَارَةٌ لِمَا يُشْبِهُ التَّعْلِيلَ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُبْتَدَأِ فِي النَّحْوِ فَأَمَّا قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون} فَهِيَ لَامُ كَيْ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَلَامُ الصَّيْرُورَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَالتَّقْدِيرُ فَصَارَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِكَيْ يَكُونَ عَدُوًّا انْتَهَى وَجَوَّزَ ابْنُ الدَّهَّانِ فِي الْآيَةِ وَجْهًا غَرِيبًا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْ فَالْتَقَطَ آلُ فِرْعَوْنَ وَ {عَدُوًّا وَحَزَنًا} حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي: {لِيَكُونَ لَهُمْ} أَيْ لِيَتَمَلَّكُوهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِكَرَاهَةِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وأما قوله: {ليغفر لك الله} ،فَحَكَى الْهَرَوِيُّ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ اللَّامَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى لَيَغْفِرَنَّ اللَّهُ لَكَ فَلَمَّا حُذِفَتِ النُّونُ كُسِرَتِ اللَّامُ وَإِعْمَالُهَا إِعْمَالُ كَيْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى فَتَحْنَا لَكَ لِكَيْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكَ فَلَمْ يَكُنِ الْفَتْحُ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ. قَالَ: وَأَنْكَرَهُ ثَعْلَبٌ وَقَالَ هِيَ لَامُ كَيْ وَمَعْنَاهُ لِكَيْ يَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْمَغْفِرَةِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فَلَمَّا انْضَمَّ إِلَى الْمَغْفِرَةِ شَيْءٌ حَادِثٌ وَاقِعٌ حَسُنَ مَعَهُ كَيْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحسن ما كانوا يعملون} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا ليضلوا عن سبيلك} . فَقَالَ الْفَرَّاءُ لَامُ كَيْ. وَقَالَ: قُطْرُبٌ وَالْأَخْفَشُ: لَمْ يُؤْتَوُا الْمَالَ لِيُضِلُّوا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الضَّلَالَ كَانُوا كَأَنَّهُمْ أُوتُوهَا لِذَلِكَ فَهِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ. هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَالنَّصْبُ عِنْدَهُمْ بِإِضْمَارِ أَنْ وَهُمَا جَارَّتَانِ لِلْمَصْدَرِ وَاللَّامُ الْجَارَةُ هِيَ لَامُ الْإِضَافَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ تَجِيءُ لِأَسْبَابٍ: مِنْهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ، إِمَّا فِي الْإِثْبَاتِ نَحْوُ: {ولتنذر أم القرى} . أَوِ النَّفْيِ نَحْوُ: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كنت عليها إلا لنعلم} . فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ لِنَعْلَمَ ملائكتنا وأولياءنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى خَاطَبَ الْخَلْقَ بِمَا يُشَاكِلُ طَرِيقَتَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ الْبَوَاطِنِ وَالظَّوَاهِرِ عَلَى قَدْرِ فَهْمِ الْمُخَاطَبِ. وَقَدْ تَقَعُ مَوْقِعَ أَنْ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُولَةٍ لَهَا فِي الْمَعْنَى وَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا لِمَعْنَى الْقَصْدِ والإرادة نحو: {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} . {إنما يريد الله ليعذبهم بها} وَمِنْهَا الْعَاقِبَةُ عَلَى مَا سَبَقَ. الثَّالِثُ: الْجَازِمَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلطَّلَبِ وَتُسَمَّى لَامَ الْأَمْرِ وَتَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ لِتُؤْذِنَ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَشَرْطُهَا أَنْ يكون الفعل لغير الْمُخَاطَبَ فَيَقُولُونَ لِتَضْرِبْ أَنْتَ وَمِنْهُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ: {فبذلك فليفرحوا} وَوَصْفُهَا أَنْ تَكُونَ مَكْسُورَةً إِذَا ابْتُدِئَ بِهَا نحو: {لينفق ذو سعة من سعته} . {ليستأذنكم} . وَتُسَكَّنُ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ نَحْوُ: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وليؤمنوا بي} {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وَيَجُوزُ الْوَجْهَانِ بَعْدَ ثُمَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قُرِئَ فِي السَّبْعِ بِتَسْكِينِ: {لْيَقْضُوا} وَبِتَحْرِيكِهِ وَتَجِيءُ لَمَعَانٍ مِنْهَا التَّكْلِيفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سعة من سعته} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 وَمِنْهَا أَمْرُ الْمُكَلَّفِ نَفْسَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} وَالِابْتِهَالُ وَهُوَ الدُّعَاءُ نَحْوُ: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} وَالتَّهْدِيدُ نَحْوُ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فليكفر} وَالْخَبَرُ نَحْوُ: {مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ له الرحمن مدا} . أي يمد. ويحتمله {ولنحمل} . أَيْ وَنَحْمِلُ وَيَجُوزُ حَذْفُهَا وَرَفْعُ الْفِعْلِ وَمِنْهُ يقول: {تؤمنون بالله ورسوله} . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلطَّلَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: {نغفر لكم} مَجْزُومًا فَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَبٌ لَمْ يَصِحَّ الْجَزْمُ لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ وَجْهٌ سِوَاهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 لا على ستة أوجه. أحدهما: أَنْ تَكُونَ لِلنَّفْيِ وَتَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ. فَالدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ تَكُونُ عَامِلَةً وَغَيْرَ عَامِلَةٍ. فَالْعَامِلَةُ قِسْمَانِ: تَارَةً تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ وَهِيَ النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ وَهِيَ تَنْفِي مَا أَوْجَبَتْهُ إِنَّ فَلِذَلِكَ تُشَبَّهُ بِهَا فِي الْأَعْمَالِ نَحْوُ: {لَا تثريب عليكم} ، {لا مقام لكم} {لا جرم أن لهم النار} وَيَكْثُرُ حَذْفُ خَبَرِهَا إِذَا عُلِمَ نَحْوُ: {لَا ضير} {فلا فوت} وَتَارَةً تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْمُفَصَّلِ أَنَّهَا غَيْرُ عَامِلَةٍ. وَكَذَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الدُّرَّةِ إِنَّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ. قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُ الْعُمُومَ كَمَا فِي النَّصْبِ وَعَلَيْهِ قَالَ لَا نَاقَةَ لِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلَ يَعْنِي فَإِنَّهُ نَفْيُ الْجِنْسِ لَمَّا عُطِفَ وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَلَا امْرَأَةَ تُفِيدُ نَفْيَ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْعَطْفَ أَفْهَمُ لِلْعُمُومِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي الْمُحَصَّلِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} . قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَهْمِ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْهُ كَمَا فِي الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْفَتْحِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَبْنِيَّةُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إِمَّا لِكَوْنِهِ نَصًّا أَوْ لِكَوْنِهِ أَقْوَى ظُهُورًا وَسَبَبُ الْعُمُومِ أَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التُّحْفَةِ: قد تكون المشبه بـ "ليس" نَافِيَةً لِلْجِنْسِ وَيُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ إِرَادَةِ الْجِنْسِ وَغَيْرِهِ بِالْقَرَائِنِ هَذَا كُلُّهُ فِي الْعَامِلَةِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْعَامِلَةِ فَيُرْفَعُ الِاسْمُ بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يُرَدْ نَفْيُ الْعُمُومِ وَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ ثُمَّ تَارَةً تَكُونُ نَكِرَةً كَقَوْلِهِ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ ولا هم عنها ينزفون} {لا بيع فيه ولا خلال} وَتَارَةً تَكُونُ مَعْرِفَةً كَقَوْلِهِ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لها أن تدرك القمر} وَلِذَلِكَ يَجِبُ تَكْرَارُهَا إِذَا وَلِيَهَا نَعْتٌ نَحْوُ: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تسقي الحرث} فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ تُكَرِّرْهَا وَقَدْ أَوْجَبُوا تَكْرَارَهَا فِي الصِّفَاتِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا سَاقِيَةٌ لِلْحَرْثِ أَيْ لَا تُثِيرُ وَلَا تسقي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 وَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدْخُلُ فِي الْمُتَضَادَّيْنِ وَيُرَادُ بِهَا إِثْبَاتُ الْأَمْرَيْنِ بِهِمَا جَمِيعًا نَحْوُ زَيْدٌ لَيْسَ بِمُقِيمٍ وَلَا ظَاعِنٍ أَيْ تَارَةً يَكُونُ كَذَا وَتَارَةً يَكُونُ كَذَا وَقَدْ يُرَادُ إِثْبَاتُ حَالَةٍ بَيْنَهُمَا نَحْوُ زَيْدٌ لَيْسَ بِأَبْيَضَ وَلَا أَسْوَدَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا شرقية ولا غربية} . قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَصُونَةٌ عَنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ وَأَمَّا الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ فَتَارَةً تَكُونُ لِنَفْيِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَقَوْلِهِ تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} . لِأَنَّهُ جَزَاءٌ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا. وَمِثْلُهُ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا ينصرونهم} وَقَدْ يُنْفَى الْمُضَارِعُ مُرَادًا بِهِ نَفْيُ الدَّوَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض} وقد يكون للحال كقوله: {لا أقسم بيوم القيامة} {فلا أقسم برب المشارق} {فلا أقسم بمواقع النجوم} {فلا وربك لا يؤمنون} وقوله: {وما لكم لا تقاتلون} يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مالكم غَيْرُ مُقَاتِلِينَ. وَقِيلَ: يُنْفَى بِهَا الْحَاضِرُ عَلَى التشبيه بـ "ما" كَقَوْلِكَ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ زَيْدٌ يَكْتُبُ الْآنَ لَا يَكْتُبُ وَالنَّفْيُ بِهَا يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْمُتَكَلِّمِ نَحْوُ لَا أَخْرُجُ الْيَوْمَ وَلَا أُسَافِرُ غَدًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 {قل لا أسألكم عليه أجرا} وَفِعْلُ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِكَ: إِنَّكَ لَا تَزُورُنَا وَمِنْهُ قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} ، {فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي فِي الْقَسَمِ وَالدُّعَاءِ نَحْوُ وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتَ وَنَحْوَ لَا ضَاقَ صَدْرُكَ. وَفِي غَيْرِهَا نَحْوُ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} وَالْأَكْثَرُ تَكْرَارُهَا وَقَدْ جَاءَتْ غَيْرَ مُكَرَّرَةٍ فِي قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَكِنَّهَا مُكَرَّرَةٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا فَكَّ رَقَبَةً وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ اقْتِحَامَ الْعَقَبَةِ بِذَلِكَ وَقِيلَ إِنَّهُ دُعَاءٌ أَيْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْعَلَ خَيْرًا. وَقَدْ يُرَادُ الدُّعَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي كَقَوْلِكَ لَا فَضَّ اللَّهُ فَاكَ وَقَوْلِهِ لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي. الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ لِلنَّهْيِ يُنْهَى بِهَا الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ نَحْوُ لَا تَقُمْ وَلَا يَقُمْ وَقَالَ تَعَالَى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المؤمنين} {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلا أن يشاء الله} {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} {لا يسخر قوم من قوم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 {ولا تنابزوا بالألقاب} {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} {لا يحطمنكم سليمان} وتخلص المضارع للاستقبال نحو: {لا تخافي ولا تحزني} وَتَرِدُ لِلدُّعَاءِ نَحْوُ: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أخطأنا} . وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا الطَّلَبِيَّةُ لِيَشْمَلَ النَّهْيَ وَغَيْرَهُ. وَقَدْ تَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَالنَّهْيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ألا تعبدوا إلا الله} {وما لكم لا تقاتلون} الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ جَوَابِيَّةً أَيْ رَدٌّ فِي الجواب مناقض لـ "نعم" أَوْ بَلَى فَإِذَا قَالَ مُقَرِّرًا أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قُلْتَ: لَا أَوْ بَلَى وَإِذَا قَالَ: مُسْتَفْهِمًا هَلْ زَيْدٌ عِنْدَكَ قُلْتَ لَا أَوْ نَعَمْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نعم} الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى لَمْ وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي نَحْوُ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُصَلِّ وَمِثْلُهُ: {فَلَا اقتحم العقبة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 الْخَامِسَةُ: أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً تُشْرِكُ مَا بَعْدَهَا فِي إِعْرَابِ مَا قَبْلَهَا وَتَعْطِفُ بَعْدَ الْإِيجَابِ نَحْوُ يَقُومُ زَيْدٌ لَا عَمْرٌو وَبَعْدَ الْأَمْرِ نَحْوُ اضْرِبْ زَيْدًا لَا عُمْرًا وَتَنْفِي عَنِ الثَّانِي مَا ثَبَتَ لِلْأَوَّلِ نَحْوُ خَرَجَ زَيْدٌ لَا بَكْرٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا بَكْرٌ فَالْعَطْفُ لِلْوَاوِ دُونَهَا لِأَنَّهَا أُمُّ حُرُوفِ الْعَطْفِ. السَّادِسَةُ: أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ النَّفْيُ أَوِ النَّهْيُ فَتَجِيءُ مُؤَكِّدَةً لَهُ كَقَوْلِكَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وما أموالكم ولا أولادكم} {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ ولا وصيلة ولا حام} وقوله: {ولا الضالين} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَقِيلَ: إِنَّمَا دَخَلَتْ هُنَا مُزِيلَةً لِتَوَهُّمِ أَنَّ الضَّالِّينَ هُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ والعرب تنعت الواو وَتَقُولُ مَرَرْتُ بِالظَّرِيفِ وَالْعَاقِلِ فَدَخَلَتْ لِإِزَالَةِ التَّوَهُّمِ. وَقِيلَ: لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ وَمِثَالُ النَّهْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا القلائد} فـ "لا" زَائِدَةٌ وَلَيْسَتْ بِعَاطِفَةٍ لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُعْطَفُ بِهَا فِي غَيْرِ النَّهْيِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ هُنَا لِنَفْيِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ مَجِيئِهَا جَمِيعًا تَأْكِيدًا لِلظَّاهِرِ مِنَ اللَّفْظِ وَنَفْيًا لِلِاحْتِمَالِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ النَّفْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَصًّا وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِـ "لَا" لَجَازَ أن يكون النفي عنها عَلَى جِهَةِ الِاجْتِمَاعِ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلِذَلِكَ كَانَ يَقُولُ بِبَقَاءِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى لِبَقَاءِ الْكَلَامِ بِإِثْبَاتِهَا عَلَى حَالَةٍ عِنْدَ عَدَمِهَا وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عِنْدَ مَجِيئِهَا أَقْوَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السيئة} . فَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحَسَنَةَ لَا تُسَاوِي السَّيِّئَةَ فَـ "لَا" عِنْدَهُ زَائِدَةٌ وَمَنْ قَالَ أَنَّ جِنْسَ الْحَسَنَةِ لَا يَسْتَوِي إِفْرَادُهُ وَجِنْسَ السَّيِّئَةِ لَا يَسْتَوِي إِفْرَادُهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فَلَيْسَتْ زَائِدَةً وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا مَزِيدُ كَلَامٍ فِي بَحْثِ الزِّيَادَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يستوي الأعمى والبصير} . الْآيَةَ فَالْأُولَى وَالثَّانِيَةُ غَيْرُ زَائِدَةٍ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ والخامسة زائدة. وقال: ابن الشجري قد تجيء مؤكدة النفي فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات ولا المسيء} . لأنك لا تَقُولُ مَا يَسْتَوِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو وَلَا تَقُولُ مَا يَسْتَوِي زَيْدٌ فَتَقْتَصِرُ عَلَى وَاحِدٍ. وَمِثْلُهُ: {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ ولا الحرور} {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا هَاهُنَا صِلَةٌ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَالْمَعْنَى وَلَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ حَتَّى تَقَعَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} . وَلَوْ قُلْتَ: مَا يَسْتَوِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو لَمْ يَجُزْ إِلَّا عَلَى زِيَادَةِ لَا. الثَّانِي: بَعْدَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ النَّاصِبَةِ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ما منعك ألا تسجد} . وَقِيلَ إِنَّمَا زِيدَتْ تَوْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ {مَنَعَكَ} بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مَا مَنَعَكَ ألا تسجد} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وَقَالَ ابْنُ السِّيدِ: إِنَّمَا دَخَلَتْ لِمَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ لَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الشَّيْءِ بِأَمْرِ الْمَمْنُوعِ بِأَلَّا يَفْعَلَ مَهْمَا كَانَ الْمَنْعُ فِي تَأْوِيلِ الْأَمْرِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ وَالْحَمْلُ عَلَى تَرْكِهِ أَجْرَاهُ مَجْرَاهَا. وَمِنْ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} . أي لئن لم لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتِمُّ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةً وَالْمَعْنَى عَلَيْهَا. وَهَذَا كَمَا تَكُونُ مَحْذُوفَةً لَفْظًا مُرَادَةً مَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أن تضلوا} . الْمَعْنَى أَلَّا تَضِلُّوا لِأَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَقَعُ لِأَجْلِ أَلَّا تَضِلُّوا. وَقِيلَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا. وَأَمَّا السِّيرَافِيُّ فَجَعَلَهَا عَلَى بَابِهَا حَيْثُ جَاءَتْ زَعَمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا لِأَمْرٍ مَا قَدْ يَكُونُ فَعَلَهُ لِضِدِّهِ فَإِذَا قُلْتَ جِئْتُ لِقِيَامِ زَيْدٍ فَإِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَجِيءَ وَقَعَ لِأَجْلِ الْقِيَامِ وَهَلْ هُوَ لِأَنْ يَقَعَ أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ مُحْتَمَلٌ فَمَنْ جَاءَ لِلْقِيَامِ فَقَدْ جَاءَ لِعَدَمِ الْقِيَامِ وَمَنْ جَاءَ لِعَدَمِ الْقِيَامِ فَقَدْ جَاءَ لِلْقِيَامِ بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا نَصَصْتَ عَلَى مَقْصُودِكَ فَقُلْتَ جِئْتُ لِأَنْ يَقَعَ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ يَقَعَ فَقَدْ جِئْتَ لِعَدَمِ الْقِيَامِ أَيْ لِأَنْ يَقَعَ عَدَمُ الْقِيَامِ وَهُوَ أَعْنِي عَدَمَ الْوُقُوعِ طَلَبُ وُقُوعِهِ. وَإِنْ قُلْتَ: وَقَصْدِي أَلَّا يَقَعَ الْقِيَامُ وَلِهَذَا جِئْتُ فَقَدْ جِئْتَ لِأَنَ يَقَعَ عَدَمُ الْقِيَامِ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ تَقُولَ جِئْتُ للقيام تعني بِهِ عَدَمَ الْقِيَامِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ الله لكم أن تضلوا} أَيْ يُبَيِّنُ الضَّلَالَ أَيْ لِأَجْلِ الضَّلَالِ يَقَعُ الْبَيَانُ: هَلْ هُوَ لِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِهِ؟ الْمَعْنَى يبين ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 وكذلك قوله تعالى: {لئلا يعلم} . أَيْ فَعَلَ اللَّهُ هَذَا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ هَلْ وَقَعَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَقَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ. الثَّالِثُ: قَبْلَ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . الْمَعْنَى أُقْسِمُ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: {لَأُقْسِمُ} وهي قراء قَوِيمَةٌ لَا يُضْعِفُهَا عَدَمُ نُونِ التَّوْكِيدِ مَعَ اللام لأن المراد بأقسم فِعْلُ الْحَالِ وَلَا تَلْزَمُ النُّونُ مَعَ اللَّامِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا غَيْرُ زَائِدَةٍ بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ. وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا وَنَفَى بِهَا كَلَامًا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْقِيَامَةِ فَـ "لَا أُقْسِمُ" جَوَابٌ لِمَا حُكِيَ مِنْ جَحْدِهِمُ الْبَعْثَ كَمَا كَانَ قوله: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} . جوابا لقوله: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} . لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَجْرِي مَجْرَى السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْإِلْغَاءَ وَكَوْنُهَا صَدْرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي الِاعْتِنَاءَ بِهَا وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَلَيْسَتْ "لَا" فِي قوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} . وقوله: {فلا أقسم برب المشارق} . وَنَحْوِهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ،كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِمَجِيئِهَا بَعْدَ الْفَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ كَلِمَةً عَلَى كَلِمَةٍ تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . فَهِيَ إِذَنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَأَجَازَ الْخَارْزَنْجِيُّ فِي: {لا أقسم بيوم الْقِيَامَةِ} كَوْنَ لَا فِيهِ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَبَقِيَتْ لَا. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا فِي قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} . مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ كَمَا زِيدَتْ فِي: {لئلا يعلم} لتأكيد وجوب العلم، {لَا يُؤْمِنُونَ} جَوَابُ الْقَسَمِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّهَا زِيدَتْ لِتَظَاهُرِ لَا فِي: {لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إنه لقول رسول كريم} انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: هَبْ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي آيَةِ الْوَاقِعَةِ فَمَا الْمَانِعُ مَنْ تَأَتِّيهِ فِي النِّسَاءِ؟ إِلَّا أَنْ يُقَالَ اسْتَقَرَّ بِآيَةِ الْوَاقِعَةِ أَنَّهَا تُزَادُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ فَقَطْ وَلَمْ يَثْبُتْ زِيَادَتُهَا مُتَظَاهِرَةً لَهَا فِي الْجَوَابِ. السَّابِعَةُ: تَكُونُ اسْمًا فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ نَقْلَهُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ مَا قَالُوهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى نَكِرَةٍ وَكَانَ حَرْفُ الْجَرِّ دَاخِلًا عَلَيْهَا نَحْوُ غَضِبْتُ مِنْ لَا شَيْءٍ وَجِئْتُ بِلَا مَالٍ وَجَعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ غَيْرَ وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ جَعَلُوا لَا بِمَعْنَى غَيْرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِيهَا الْإِعْرَابُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعْرَابُهَا عَلَى مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّتِهَا وَهُوَ مَا بَعْدَهَا كَقَوْلِكَ جَاءَنِي رَجُلٌ لَا عَالِمٌ وَلَا عَاقِلٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا فَارِضٌ ولا بكر} {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} . وقوله: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 لات قال سيبويه: لات مشبهة بـ "ليس" فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ تَتَمَكَّنْ تَمَكُّنَهَا وَلَمْ يستعملوها إلا مضمرا فيها لأنها كـ "ليس" فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ أَلَا تَرَى أنك تقول ليست وليسوا وعبد الله ليس ذاهبا فتبنى عليها ولات فيها ذلك قال تعالى: {ولات حين مناص} . أَيْ لَيْسَ حِينَ مَهْرَبٍ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرْفَعُ حِينَ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ لَيْسَ وَالنَّصْبُ بِهَا الْوَجِهُ لَا جَرَمَ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مَتْلُوَّةً بِأَنَّ وَاسْمِهَا وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَهَا فِعْلٌ. الْأَوَّلُ فِي "هُودٍ" وَثَلَاثَةٌ فِي "النَّحْلِ" وَالْخَامِسُ فِي "غَافِرٍ" وَفِيهِ فَسَّرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَذَكَرَ اللُّغَوِيُّونَ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّ "لَا" نَافِيَةٌ رَدًّا لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَرَمَ فِعْلٌ مَعْنَاهُ حَقٌّ وَ"أَنَّ" مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا فَاعِلٌ أَيْ حَقٌّ وَوَجَبَ بُطْلَانُ دَعْوَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا جَرَمَ} مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ وَتَحْقِيقٌ لِخُسْرَانِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 الثاني: أن لا زائدة وجرم معناه كسب أي كسب عَمَلُهُمُ النَّدَامَةَ وَمَا فِي خَبَرِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَعَلَى الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. الثَّالِثُ: لَا جَرَمَ كَلِمَتَانِ رُكِّبَتَا وَصَارَ مَعْنَاهُمَا حَقًّا وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ يَقْتَصِرُ عَلَى ذلك. والرابع: أن معناها لا بد وأن الْوَاقِعَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ لَوْ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: الِامْتِنَاعِيَّةُ وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا فَقَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ حِرَفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ. وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الصَّفَّارُ: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو دَلَّتْ عَلَى أَنَّ قِيَامَ عَمْرٍو كَانَ يَقَعُ لَوْ وَقَعَ مِنْ زَيْدٍ وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ قِيَامُ زَيْدٍ هَلْ يَمْتَنِعُ قِيَامُ عَمْرٍو أَوْ يَقَعُ الْقِيَامُ مِنْ عَمْرٍو بِسَبَبٍ آخَرَ؟ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ اللَّفْظُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لِتَعْلِيقِ مَا امْتَنَعَ بِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هِيَ حَرْفُ شَرْطٍ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ مَا يَلِيهِ وَاسْتِلْزَامَهُ لِتَالِيهِ. وَهِيَ تُسَمَّى امْتِنَاعِيَّةً شَرْطِيَّةً وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ولو شئنا لرفعناه بها} . دَلَّتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لِرَفْعِهِ مُنْتَفِيَةٌ وَرَفْعُهُ مُنْتَفٍ إِذْ لَا سَبَبَ لِرَفْعِهِ إِلَّا الْمَشِيئَةُ الثَّانِي: اسْتِلْزَامُ مَشِيئَةِ الرَّفْعِ لِلرَّفْعِ إِذِ الْمَشِيئَةُ سَبَبٌ وَالرَّفْعُ مُسَبَّبٌ وَهَذَا بخلاف: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 "لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ" إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ لَمْ يَخَفِ انْتِفَاءَ لم يعص حَتَّى يَكُونَ خَافَ وَعَصَى لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِصْيَانِ لَهُ سَبَبَانِ خَوْفُ الْعِقَابِ وَالْإِجْلَالُ وَهُوَ أَعْلَى وَالْمُرَادُ أَنَّ صُهَيْبًا لَوْ قُدِّرَ خُلُوُّهُ عَنِ الْخَوْفِ لَمْ يَعْصِ لِلْإِجْلَالِ كَيْفَ وَالْخَوْفُ حَاصِلٌ! وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالِامْتِنَاعِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ الْجَزَاءَ وَهُوَ الثَّانِي امْتَنَعَ لِامْتِنَاعِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَوَّلُ فَامْتَنَعَ الثَّانِي وَهُوَ الرَّفْعُ لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَمَنْ تَبِعَهُ كَابْنِ جُمُعَةَ الْمَوْصِلِيِّ وَابْنِ خَطِيبٍ زَمَلْكَا امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي قَالُوا لِأَنَّ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الْجَزَاءِ لِجَوَازِ إِقَامَةِ شَرْطٍ آخَرَ مَقَامَهُ وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْجَزَاءِ فَيَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ مُطْلَقًا. وَذَكَرُوا أَنَّ لَهَا مَعَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتَجَرَّدَ مِنَ النَّفْيِ نَحْوُ لَوْ جِئْتَنِي لَأَكْرَمْتُكَ وَتَدُلُّ حِينَئِذٍ عَلَى انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ وَسَمَّوْهَا حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} : {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} وَقَوْلِهِ: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لكنت من المتقين} . أَيْ مَا هَدَانِي بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {بَلَى قد جاءتك آياتي} . لِأَنَّ بَلَى جَوَابٌ لِلنَّفْيِ. وَثَانِيهَا: إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا حَرْفُ النَّفْيِ تُسَمَّى حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ نَحْوُ لَوْ لَمْ تُكْرِمْنِي لَمْ أُكْرِمْكَ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَهُمَا لِأَنَّهُمَا لِلِامْتِنَاعِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِمَا حَرْفُ نَفْيٍ سُلِبَ عَنْهُمَا الِامْتِنَاعُ فَحَصَلَ الثُّبُوتُ لِأَنَّ سَلْبَ السَّلْبِ إِيجَابٌ ثَالِثُهَا: أَنْ يَقْتَرِنَ حَرْفُ النَّفْيِ بِشَرْطِهَا دُونَ جَوَابِهَا وَهِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُوبٍ نَحْوُ لَوْ تُكْرِمْنِي أَكْرَمْتُكَ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ انْتِفَاءُ الْجَزَاءِ وَثُبُوتُ الشَّرْطِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 رَابِعُهَا: عَكْسُهُ وَهُوَ حَرْفُ وُجُوبٍ لِامْتِنَاعٍ نَحْوُ لَوْ جِئْتَنِي لَمْ أُكْرِمْكَ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْجَزَاءِ وَانْتِفَاءَ الشَّرْطِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أولياء} وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ سِيبَوَيْهِ لَهَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ عَدَمُ نَفَاذِ كَلِمَاتِ اللَّهِ مَعَ فَرْضِ شَجَرِ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَالْبَحْرِ مَمْدُودًا بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ مِدَادًا وَلَا يَلْزَمُ أَلَّا يَقَعَ عَدَمُ نَفَاذِ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَجْعَلِ الشَّجَرَ أَقْلَامًا وَالْبَحْرَ مِدَادًا. وَكَذَا فِي نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ عَدَمَ الْعِصْيَانِ كَانَ يَقَعُ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ وَلَا يَلْزَمُ أَلَّا يَقَعَ عَدَمُ الْعِصْيَانِ إلا عند الخوف وهكذا الباقي. وأما تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ وَذَكَرَ لَهَا هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْأَرْبَعَةَ فَلَا يَطَّرِدُ وَذَلِكَ لِتَخَلُّفِ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ وَهُوَ كُلُّ مَوْضُوعٍ دَلَّ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ ثَابِتٌ مُطْلَقًا إِذْ لَوْ كَانَ مَنْفِيًّا لَكَانَ النَّفَادُ حَاصِلًا وَالْعَقْلُ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ تَنْفَدْ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الأمور فلأن تَنْفَدَ مَعَ قِلَّتِهَا وَعَدَمِ بَعْضِهَا أَوْلَى. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانوا ليؤمنوا} وكذا قوله: {ولو أسمعهم لتولوا} . فَإِنَّ التَّوَلِّيَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِسْمَاعِ أَوْلَى وَأَمَّا قَوْلُهُ: "نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ" فَنَفْيُ الْعِصْيَانِ ثَابِتٌ إِذْ لَوِ انْتَفَى نَفْيُ الْعِصْيَانِ لَزِمَ وَجُودُهُ وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي الْمَدْحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 وَلَمَّا لَمْ يَطَّرِدْ لَهُمْ هَذَا التَّفْسِيرُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ صِحَّتَهُ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِهَا عَلَى طُرُقٍ: الْأَوَّلُ: دَعْوَى أَنَّهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَعْنِي الثَّابِتَ فِيهَا الثَّانِي دَائِمًا إِنَّمَا جَاءَتْ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ عَلَى ارْتِبَاطِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَضَابِطُهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مُجَرَّدِ الِارْتِبَاطِ دُونَ امْتِنَاعِ كُلِّ مَوْضِعٍ قُصِدَ فِيهِ ثُبُوتُ شَيْءٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَيُرْبَطُ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِوُجُودِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لِوُجُودِهِ دَائِمًا ثُمَّ لَا يُذْكَرُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا النَّقِيضُ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ ذَلِكَ الشيء عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ النَّقِيضِ الْآخَرِ فَعَدَمُ النَّفَادِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَاقِعٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ ما في الأرض من شجرة أقلام وكون البحر مد من سَبْعَةُ أَبْحُرٍ فَعَدَمُ النَّفَادِ عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ كَوْنِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى وَكَذَا عَدَمُ عِصْيَانِ صُهَيْبٍ وَاقِعٌ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ خَوْفِهِ فَعَدَمُ عِصْيَانِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْخَوْفِ أَوْلَى وَعَلَى هَذَا يَتَقَرَّرُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا تُفِيدُ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ وَتَحَصَّلَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: امْتِنَاعُ شَرْطِهَا وَالْآخَرُ بكونه مُسْتَلْزِمًا لِجَوَابِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْجَوَابِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا ثُبُوتِهِ فَإِذَا قُلْتَ لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو فَقِيَامُ زَيْدٍ مَحْكُومٌ بِانْتِفَائِهِ فِيمَا مَضَى وَبِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا ثُبُوتَهُ لِثُبُوتِ قِيَامِ عَمْرٍو وَهَلْ لِقِيَامِ عَمْرٍو وَقْتٌ آخَرُ غَيْرَ اللَّازِمِ عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لَا يُعْرَضُ فِي الْكَلَامِ لِذَلِكَ وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ كَوْنُ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ غَيْرَ وَاقِعَيْنِ وَقَدْ سَلَبَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الدَّلَالَةَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مُطْلَقًا وَجَعَلَهَا لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ولو أسمعهم لتولوا} . قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 فَلَوْ أَفَادَتْ لَوِ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ لَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَا أَسْمَعَهُمْ وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَسْمَعَهُمْ وَلَا تَوَلَّوْا لَكِنَّ عَدَمَ التَّوَلِّي خَيْرٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَمَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا. قَالَ فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ لَوْلَا تُفِيدُ إِلَّا الرَّبْطَ هَذَا كَلَامُهُ. وَقَدْ يُمْنَعُ قَوْلُهُ إِنَّ عَدَمَ التَّوَلِّي خَيْرٌ فَإِنَّ الْخَيْرَ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ التَّوَلِّي بِتَقْدِيرِ حُصُولِ الْإِسْمَاعِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْإِسْمَاعَ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ التَّوَلِّي عَلَى الْإِطْلَاقِ خَيْرًا بَلْ عَدَمُ التَّوَلِّي الْمُرَتَّبِ عَلَى الْإِسْمَاعِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا كَانَ جَوَابًا لَهَا كَانَ يَقَعُ لِوُقُوعِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا امْتَنَعَ الْأَوَّلُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي وَاقِعًا لِوُقُوعِهِ فَإِنْ وَقَعَ فَلِأَمْرٍ آخَرَ وَذَلِكَ لَا يُنْكَرُ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو دَلَّ ذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ عَمْرٍو الَّذِي كَانَ يَقَعُ مِنْهُ لَوْ وَقَعَ قِيَامُ زَيْدٍ لَا عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ عَمْرٍو لِسَبَبٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ امْتَنَعَ عَدَمُ الْعِصْيَانِ الَّذِي كَانَ سَيَقَعُ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ لَوْ وَقَعَ وَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُ عَدَمِ الْعِصْيَانِ عِنْدَ وُجُودِ الْخَوْفِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُحْمَلَ لَوْ فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مَحْذُوفَةُ الْجَوَابِ فيكون قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلام} مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ هَذَا لَتَكَسَّرَتِ الْأَشْجَارُ وَفَنِيَ الْمِدَادُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {مَا نَفِدَتْ} مُسْتَأْنَفٌ أَوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ أَيْ وَمَا نَفِدَتْ الرَّابِعُ: أَنْ تُحْمَلَ لَوْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى الَّتِي بِمَعْنَى إِنَّ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لَوْ أَصْلُهَا فِي الْكَلَامِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ الشَّيْءِ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ تَقُولُ لَوْ جِئْتَنِي لَأَعْطَيْتُكَ وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ هُنَاكَ لَضَرَبْتُكَ ثُمَّ تَتَّسِعَ فَتَصِيرَ فِي مَعْنَى إِنِ الْوَاقِعَةِ لِلْجَزَاءِ تَقُولُ أَنْتَ لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 تُكْرِمُنِي وَلَوْ أَكْرَمْتُكَ تُرِيدُ وَإِنْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وقوله: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} . تَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يُقْبَلُ أَنْ يَتَبَرَّرَ بِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُقْبَلُ وَإِنِ افْتَدَى بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يسوغ هذا في قوله: {ولو أن ما فِي الْأَرْضِ} فَإِنَّ إِنْ الشَّرْطِيَّةَ لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ وَأَنَّ الْمُشَدَّدَةُ مَعَ مَا عَمِلَتْ فِيهِ اسْمٌ فَإِذَا كَانَتْ لَوْ بِمَنْزِلَةِ إِنَّ فَيَنْبَغِي أَلَّا تَلِيَهَا. أَجَابَ الصَّفَّارُ بِأَنَّهُ قَدْ يَلِي أَنَّ الِاسْمُ فِي اللَّفْظِ فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي إِنْ نَفْسِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي لَوِ الْمَحْمُولَةِ عَلَيْهَا وَكَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي لَوْ قَبْلَ خُرُوجِهَا إِلَى الشَّرْطِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْحُرُوفِ الطَّالِبَةِ لِلْأَفْعَالِ. قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أن لو في الآيتين السابقين بِمَعْنَى إِنَّ أَنَّ الْمَاضِيَ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ الْمُسْتَقْبَلِ وَلَوِ الِامْتِنَاعِيَّةُ تَصْرِفُ مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْمَاضِي فَإِنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ يَفْتَدِ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا تَقْتَضِي امْتِنَاعَ مَا يَلِيهَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا بِالْكَذِبِ. وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى إِنْ وَالثَّانِي: قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهُ عَلَى الْفَرْضِ أَيْ وَلَوْ كُنَّا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ عِنْدَكَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيمَا أَفْرَدَهُ عَلَى سُورَةِ الْحُجُرَاتِ لَوْ تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ فِعْلِيَّتَيْنِ تَعَلَّقَ مَا بَيْنَهُمَا بِالْأُولَى تَعَلُّقَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مُخَلَّصَةً بِالشَّرْطِ كان وَلَا عَامِلَةً مِثْلَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وَإِنَّمَا سَرَى فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ اتِّفَاقًا مِنْ حَيْثُ إِفَادَتِهَا فِي مَضْمُونَيْ جُمْلَتِهَا أَنَّ الثَّانِيَ امْتَنَعَ لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ أَنْ تَكْسُوَ النَّاسَ فَيُقَالُ لَكَ هَلَّا كَسَوْتَ زَيْدًا فَتَقُولُ لَوْ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكَسَوْتُهُ افْتَقَرَتْ فِي جَوَابِهَا إِلَى مَا يَنْصِبُ عَلَمًا عَلَى التَّعْلِيقِ فَزِيدَتِ اللَّامُ وَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ إِنْ لِعَمَلِهَا فِي فِعْلِهَا وَخُلُوصِهَا لِلشَّرْطِ. وَيَتَعَلَّقُ بِـ "لَوِ" الِامْتِنَاعِيَّةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: إِنَّهَا كَالشَّرْطِيَّةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْفِعْلِ فَلَا يَلِيهَا إِلَّا فِعْلٌ أَوْ مَعْمُولُ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ظَاهِرٌ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} . حُذِفَ الْفِعْلُ فَانْفَصَلَ الضَّمِيرُ. وَانْفَرَدَتْ لَوْ بِمُبَاشَرَةِ أَنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تخرج إليهم} وَهُوَ كَثِيرٌ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي الْخَبَرِ فَقِيلَ مَحْذُوفٌ وَقِيلَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ وَهُوَ أَقْيَسُ لِبَقَاءِ الِاخْتِصَاصِ. الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَجِبُ كَوْنُ خَبَرِ أَنَّ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ لَوْ فِعْلًا لِيَكُونَ عِوَضًا عَنِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: هُوَ وَهْمٌ وَخَطَأٌ فَاحِشٌ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلام} وَكَذَا رَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ بِالْآيَةِ وَقَالُوا إِنَّمَا ذَاكَ فِي الْخَبَرِ الْمُشْتَقِّ لَا الْجَامِدِ كَالَّذِي فِي الْآيَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 وَأَيَّدَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ من حيث إن قوله: {والبحر يمده} لما التبس بالعطف بقوله: {ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} صَارَ خَبَرُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ وَهُوَ {يَمُدُّهُ} كَأَنَّهُ خَبَرُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِالْتِبَاسِهَا بِهَا. قَالَ الشَّيْخُ فِي الْمُغْنِي: وَقَدْ وَجَدْتُ آيَةً فِي التَّنْزِيلِ وَقَعَ فيها الخبر مُشْتَقًّا وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ كَمَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لِآيَةِ لُقْمَانَ وَلَا ابْنُ الْحَاجِبِ وَإِلَّا لمنع ذَلِكَ. قُلْتُ: وَهَذَا عَجِيبٌ فَإِنَّ لَوْ فِي الْآيَةِ لِلتَّمَنِّي وَالْكَلَامُ فِي الِامْتِنَاعِيَّةِ بَلْ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ مَقَالَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ سَبَقَهُ إِلَيْهَا السِّيرَافِيُّ وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَمَا اسْتُدْرِكَ بِهِ مَنْقُولٌ قَدِيمًا فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ لِابْنِ الْخَبَّازِ لَكِنْ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهِ فَقَالَ فِي بَابِ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا قَالَ السِّيرَافِيُّ تَقُولُ لَوْ أَنَّ زَيْدًا أَقَامَ لَأَكْرَمْتُهُ وَلَا تَجُوزُ لَوْ أَنَّ زَيْدًا حَاضِرٌ لَأَكْرَمْتُهُ لِأَنَّكَ لَمْ تَلْفُظْ بِفِعْلٍ يَسُدُّ مَسَدَّ ذَلِكَ الْفِعْلِ. هَذَا كَلَامُهُمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لو أنهم بادون في الأعراب} . فَأُوقِعَ خَبَرُهَا صِفَةً وَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بِأَنَّ هَذِهِ لِلتَّمَنِّي فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى لَيْتَ كَمَا تَقُولُ لَيْتَهُمْ بَادُونَ انْتَهَى كَلَامُهُ تَنْبِيهٌ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ سُؤَالًا وَهُوَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ لَوْ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكَسَوْتُهُ وَنَظِيرِهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ الله أن يتخذ ولدا لاصطفى} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَوْ زَيْدٌ جَاءَنِي لَكَسَوْتُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 رحمة ربي} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ زَيْدًا جَاءَنِي لَكَسَوْتُهُ ومنه قوله تعالى: {ولو أنهم صبروا} . وأجاب بأن القصد في الأول أَنَّ الْفِعْلَيْنِ تَعْلِيقُ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ لَا غَيْرَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى التَّعْلِيقِ السَّاذَجِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْغَرَضَ نَفْيُ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا وَبَيَانُ تَعَالِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَدَاءِ هَذَا الْغَرَضِ إِلَّا تَجْدِيدُ الْفِعْلَيْنِ لِلتَّعَلُّقِ دُونَ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَقَدِ انْضَمَّ إِلَى التَّعْلِيقِ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إِمَّا نَفْيُ الشَّكِّ أَوِ الشُّبْهَةِ أَنَّ الْمَذْكُورَ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ مَكْسُوٌّ لَا مَحَالَةَ لَوْ وَجَدَ مِنْهُ الْمَجِيءَ وَلَمْ يَمْتَنِعْ وَإِمَّا بَيَانُ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَقَوْلِهِ تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك} مُحْتَمِلٌ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي أَنَّهُمْ لَا مَحَالَةَ يَمْلِكُونَ وَأَنَّهُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْإِمْسَاكِ لَوْ مَلَكُوا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي هُوَ مَالِكُهَا وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُمْسَكُ. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْلَا تَدْخُلُ إِلَّا على فعل وأنتم لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَلَكِنَّ بِـ "تَمْلِكُ" مُضْمَرًا وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَوْ تَمْلِكُونَ وَبَيْنَ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ لِمَكَانِ الْقَصْدِ إِلَى الْفِعْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ الِاسْمِ وَإِنَّمَا يَسُوغُ هَذَا الْفَرْقُ لَوِ ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ. قُلْتُ: التَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَمْثِيلًا لَا يُتَكَلَّمُ بِهِ يُنَزَّلُ الِاسْمُ فِي الظَّاهِرِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ أَهَمُّ بِدَلِيلِ لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي فِي ظُهُورِ قَصْدِهِمْ إِلَى الِاسْمِ لَكِنَّهُ أَهَمُّ فِيمَا سَاقَهُ الْمَثَلُ لأجله وكذا قوله: {وإن أحد من المشركين استجارك} وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ فِي التقدير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 وَأَمَّا فِي الثَّالِثِ: فَفِيهِ مَا فِي الثَّانِي مَعَ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ الَّذِي تُعْطِيهِ أَنَّ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ زَيْدًا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَجِيءَ وَأَنَّهُ بِتَرْكِهِ الْمَجِيءَ قَدْ أَغْفَلَ حَظَّهُ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ وَقِسْ عَلَيْهَا نَظَائِرَ التَّرَاكِيبِ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ. الثَّالِثَةُ: الْأَكْثَرُ فِي جَوَابِهَا الْمُثْبَتِ اللَّامُ الْمَفْتُوحَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هُوَ اللَّازِمُ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَوْ قَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا} . فَفِي اللَّامِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَازِمَةٌ لِلْأُولَى. وقوله: {لو نشاء لجعلناه حطاما} . ويجوز حذفها: {لو نشاء جعلناه أجاجا} الرابعة: يجوز حذف جوابها للعلم وَلِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} . وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} ،وَهُوَ كَثِيرٌ سَبَقَ فِي بَابِ الْحَذْفِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ لَنَفِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ {مَا نَفِدَتْ} هُوَ الْجَوَابَ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ النَّفَادِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ نَفْيُ النَّفَادِ لَازِمًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا وَالْبَحْرِ مِدَادًا كَانَ لُزُومُهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا أَوْلَى. وَقِيلَ: تُقَدَّرُ هِيَ وَجَوَابُهَا ظَاهِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} تَقْدِيرُهُ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارتاب المبطلون} . أي ولو يكون وخططت إذن لارتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ أَوْجُهِ "لَوْ" أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَصْلُحَ مَوْضِعَهَا إِنِ الْمَكْسُورَةُ وَإِنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَهَا لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَهِيَ مِثْلُهَا فَيَلِيهَا الْمُسْتَقْبَلُ كقوله تعالى: {ولو أعجبك حسنهن} {ولو نشاء لطمسنا} وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَفْظًا صَرَفَهُ لِلِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِهِ: {ولو كره المشركون} ومنه قوله تعالى: {ولو كنا صادقين} . وَقَوْلِهِ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا ولو افتدى به} . وَنَظَائِرُهُ. قَالُوا: وَلَوْلَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ لَمَا اقْتَضَتْ جَوَابًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَوَابٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُضْمَرٍ وَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ إِنَّ تَأْوِيلَهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يُفْتَدَى بِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُقْبَلُ إِنِ افْتَدَى بِهِ. قَالُوا: وَجَوَابُهَا يَكُونُ مَاضِيًا لَفْظًا كَمَا سَبَقَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم} ، وَمَعْنًى وَيَكُونُ بِاللَّامِ غَالِبًا نَحْوُ: {وَلَوْ شَاءَ الله لذهب بسمعهم} وَقَدْ يُحْذَفُ نَحْوُ: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} . وَلَا يُحْذَفُ غَالِبًا إِلَّا فِي صِلَةٍ نَحْوُ: {وليخش الذين لو تركوا} الْآيَةَ الثَّالِثُ: "لَوِ" الْمَصْدَرِيَّةُ وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَصْلُحَ مَوْضِعَهَا أَنِ الْمَفْتُوحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لو يعمر ألف سنة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 وَقَوْلُهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يردونكم} {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأمتعتكم} {ود المجرم لو يفتدي} . أَيِ الِافْتِدَاءَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ مَصْدَرِيَّةَ لَوْ وَتَأَوَّلُوا الْآيَاتِ الشَّرِيفَةَ عَلَى حَذْفِ مَفْعُولِ يَوَدُّ وَحَذْفِ جَوَابِ لَوْ أَيْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ طُولَ الْعُمْرِ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لِيُسَرَّ بِذَلِكَ. وَأُشْكِلَ قَوْلُ الْأَوَّلِينَ بِدُخُولِهَا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بينها وبينه} . وَالْحَرْفُ الْمَصْدَرِيُّ لَا يَدْخُلُ عَلَى مِثْلِهِ! وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ يَوَدُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ بَيْنَهَا فَانْتَفَتْ مُبَاشَرَةُ الْحَرْفِ الْمَصْدَرِيِّ لِمِثْلِهِ! وَأَوْرَدَ ابْنُ مَالِكٍ السؤال في: {فلو أن لنا كرة} وَأَجَابَ بِهَذَا وَبِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَوْكِيدِ اللفظ بمرادفه نحو {فجاجا سبلا} وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ نَظَرٌ أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ دُخُولُ لَوْ عَلَى ثَبَتَ مُقَدَّرًا إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَهُوَ لَا يَرَاهُ فَكَيْفَ يُقَرِّرُهُ فِي الْجَوَابِ! وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَيْسَتْ هُنَا مَصْدَرِيَّةً بَلْ لِلتَّمَنِّي كَمَا سَيَأْتِي وَلَوْ سَلِمَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ وَصْلُ لَوْ بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِـ "أَنَّ" وَقَدْ نَصَّ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ صِلَتَهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً بِمَاضٍ أَوْ مُضَارِعٍ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَأَكْثَرُ وُقُوعِ هَذِهِ بَعْدَ وَدَّ أَوْ يَوَدُّ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ مُفْهِمٍ تَمَنٍّ وَبِهَذَا يُعْلَمُ غَلَطُ مَنْ عَدَّهَا حَرْفَ تَمَنٍّ لو صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِ تَمَنٍّ كَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ لَيْتَ وَفِعْلِ تمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 الرَّابِعُ: "لَوِ" الَّتِي لِلتَّمَنِّي وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَصِحَّ مَوْضِعَهَا لَيْتَ نَحْوُ لَوْ تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا كَمَا تَقُولُ لَيْتَكَ تَأْتِينَا فَتَحَدِّثُنَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فلو أن لنا كرة} . وَلِهَذَا نُصِبَ فَيَكُونُ فِي جَوَابِهَا لِأَنَّهَا أَفْهَمَتِ التمني كما انتصب {فأفوز} في جواب ليت: {يا ليتني كنت معهم} وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قِسْمًا آخَرَ وَهُوَ التَّعْلِيلُ كَقَوْلِهِ: {ولو على أنفسكم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 لولا مركبة عند سيبويه من لو ولا حكاه الصفار والصحيح أنها بسيطة. ومن التَّرْكِيبِ مَا يُغَيَّرُ وَمِنْهُ مَا لَا يُغَيَّرُ فَمِمَّا لَا يُغَيَّرُ لَوْلَا وَمِمَّا يَتَغَيَّرُ بِالتَّرْكِيبِ حَبَّذَا صَارَتْ لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَانْفَصَلَ ذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا أَوْ مُؤَنَّثًا وَصَارَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَذَلِكَ هَلَّا زَالَ عَنْهَا الِاسْتِفْهَامُ جُمْلَةً. ثُمَّ هِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُوبٍ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِوُجُودٍ بِالدَّالِ. قِيلَ: وَيَلْزَمُ عَلَى عِبَارَةِ سِيبَوَيْهِ فِي لَوْ أَنْ تَقُولَ حَرْفٌ لِمَا سَيَقَعُ لِانْتِفَاءِ مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ رَصْفِ الْمَبَانِي: الصَّحِيحُ أَنَّ تَفْسِيرَهَا بِحَسَبِ الْجُمَلِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ بَعْدَهَا مُوجَبَتَيْنِ فَهِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُوبٍ نَحْوُ لَوْلَا زَيْدٌ لَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَالْإِحْسَانُ امْتَنَعَ لِوُجُودِ زَيْدٍ وَإِنْ كَانَتَا مَنْفِيَّتَيْنِ فَحَرْفُ وُجُودٍ لِامْتِنَاعٍ نَحْوُ لَوْلَا عُدْمُ زَيْدٍ لَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ انْتَهَى. وَيَلْزَمُ فِي خَبَرِهَا الْحَذْفُ وَيُسْتَغْنَى بِجَوَابِهَا عَنِ الْخَبَرِ وَالْأَكْثَرُ فِي جَوَابِهَا الْمُثْبَتِ اللَّامِ نَحْوُ: {لَوْلَا أَنْتُمْ لكنا مؤمنين} ، {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بطنه إلى يوم يبعثون} وَقَدْ يُحْذَفُ لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حكيم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وَقَدْ قِيلَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} . لَهَمَّ بِهَا لَكِنَّهُ امْتَنَعَ هَمُّهُ بِهَا لِوُجُودِ رُؤْيَةِ بُرْهَانِ رَبِّهِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ هَمٌّ أَلْبَتَّةَ كَقَوْلِكَ لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِكْرَامَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُودِ زَيْدٍ وَبِهِ يُتَخَلَّصُ مِنَ الْإِشْكَالِ الَّذِي يُورَدُ وَهُوَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الْهَمُّ. وَأَمَّا جَوَابُهَا إِذَا كَانَ مَنْفِيًّا فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْحَذْفِ نحو: {ما زكى منكم من أحد أبدا} وهو يرد قول ابن عصفور أن المنفي بِـ "مَا" الْأَحْسَنُ بِاللَّامِ. الثَّانِي: التَّحْضِيضُ فَتَخْتَصُّ بالمضارع نحو: {لولا تستغفرون الله} {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} {لولا أخرتني إلى أجل قريب} وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّنْدِيمُ فَتَخْتَصُّ بِالْمَاضِي نَحْوُ: {لَوْلَا جَاءُوا عليه بأربعة شهداء} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} وَفِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ تَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ التَّحْضِيضَ وَالتَّوْبِيخَ لَا يَرِدَانِ إِلَّا عَلَى الْفِعْلِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَقَدْ جَوَّزُوا فِيهَا إِذَا وَقَعَ الْمَاضِي بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ تَحْضِيضًا أَيْضًا وَهُوَ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَرِينَةً صَارِفَةً لِلْمَاضِي عَنِ الْمُضِيِّ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 فرقة منهم طائفة} يَجُوزُ بَقَاءُ نَفَرَ عَلَى مَعْنَاهُ فِي الْمُضِيِّ فَيَكُونُ لَوْلَا تَوْبِيخًا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ فَيَكُونُ تَحْضِيضًا. قَالُوا: وَقَدْ تُفْصَلُ مِنَ الْفِعْلِ بِإِذْ وَإِذَا مَعْمُولَيْنِ لَهُ وَبِجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ معترضة. فالأول {ولولا إذ سمعتموه قلتم} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ نَحْوُ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} ،الْمَعْنَى: فَهَلَّا تَرْجِعُونَ الرُّوحَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَحَالَتُكُمْ أَنَّكُمْ شَاهِدُونَ ذَلِكَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُحْتَضَرِ مِنْكُمْ بِعِلْمِنَا أَوْ بالملائكة ولكنكم لا تشاهدون ذلك ولولا الثَّانِيَةُ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى. الثَّالِثُ: لِلِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى "هَلْ" نحو: {لولا أخرتني إلى أجل قريب} {لولا أنزل عليه ملك} قَالَهُ الْهَرَوِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْجُمْهُورُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأُولَى لِلْعَرْضِ وَالثَّانِيَةَ مِثْلُ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بأربعة شهداء} الرَّابِعُ: لِلنَّفْيِ بِمَعْنَى لَمْ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فلولا كانت قرية آمنت} أَيْ لَمْ تَكُنْ {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ من قبلكم} أَيْ فَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْهَرَوِيُّ فِي الْأَزْهِيَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فَهَلَّا وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: {فَهَلَّا كَانَتْ قَرْيَةٌ} نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَاهُ مَعْنَى الْمُضِيِّ لِأَنَّ اقْتِرَانَ التَّوْبِيخِ بِالْمَاضِي يُشْعِرُ بِانْتِفَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ هَذَا يُخَالِفُ أَصَحَّ الْإِعْرَابَيْنِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ يَقْوَى فِيهِ الْبَدَلُ وَيَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ وَلَمْ يَأْتِ فِي الْآيَتَيْنِ إِلَّا النَّصْبُ أَيْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مُوجَبٌ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ. وَجَعَلَ ابْنُ فَارِسٍ مِنْهُ: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بسلطان بين} الْمَعْنَى اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً وَلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانٍ. وَنَقَلَ ابْنُ بَرَّجَانَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ هُودٍ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَوْلَا فَهِيَ بِمَعْنَى هَلَّا إِلَّا قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ} لِأَنَّ جَوَابَهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا. وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ لَوْمَا هِيَ قَرِيبٌ مِنْ لَوْلَا كَقَوْلِهِ تعالى: {لو ما تأتينا بالملائكة} قَالَ ابْنُ فَارِسٌ هِيَ بِمَعْنَى هَلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 لَمْ نَفْيٌ لِلْمُضَارِعِ وَقَلْبُهُ مَاضِيًا وَتَجْزِمُهُ نَحْوُ: {لم يلد ولم يولد} . وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَنْصِبُ بِهَا وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ: {ألم نشرح} بِفَتْحِ الْحَاءِ وَخَرَجَتْ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ فَفُتِحَ لَهَا مَا قَبْلَهَا ثُمَّ حذفت ونويت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 لَمَّا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَدْخُلُ عَلَى المضارع فتجزمه وتقبله مَاضِيًا كَـ "لَمْ" نَحْوُ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الذين جاهدوا منكم} بل لما يذوقوا عذاب. أَيْ لَمْ يَذُوقُوهُ: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خلوا من قبلكم} لَكِنَّهَا تُفَارِقُ لَمْ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لم لنفي فعل ولما لِنَفْيِ قَدْ فَعَلَ فَالْمَنْفِيُّ بِهَا آكَدُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ لَمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ "لَمْ" و"ما" هي نَقِيضَةُ "قَدْ" وَتَنْفِي مَا تُثْبِتُهُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُنْتَظَرِ. وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ أَبِي الْفَتْحِ فَإِنَّهُ قَالَ أَصْلُ "لَمَّا" "لَمْ" زِيدَتْ عَلَيْهَا"مَا" فصارت نفيا تَقُولُ قَامَ زَيْدٌ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ بِالنَّفْيِ لَمْ يَقُمْ فَإِنْ قُلْتَ قَدْ قَامَ قَالَ لَمَّا يَقُمْ لَمَّا زَادَ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ زَادَ فِي النَّفْيِ مَا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا رَكَّبُوا لَمْ مَعَ مَا حَدَثَ لَهَا مَعْنًى وَلَفْظٌ أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهَا صَارَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ظَرْفًا فَقَالُوا لَمَّا قُمْتَ قَامَ زَيْدٌ أَيْ وَقْتَ قِيَامِكَ قَامَ زَيْدٌ وَأَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا دُونَ مَجْزُومِهَا نَحْوَ جِئْتُكَ وَلَمَّا أَيْ وَلَمَّا تَجِئْ انْتَهَى وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِ ثَلَاثَةُ فُرُوقٍ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَكَوْنُهَا قَدْ تَقَعُ اسْمًا هُوَ ظَرْفٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الوقف عليها دون النفي بخلاف لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وَرَابِعُهَا: يَجِيءُ اتِّصَالُ مَنْفِيِّهَا، بِالْحَالِ وَالْمَنْفِيُّ بِلَمْ لَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا نَحْوُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لم يكن شيئا مذكورا} ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا نَحْوُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رب شقيا} وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ لَمَّا يَجُوزُ حَذْفُهُ اختيارا. سَادِسُهَا: أَنَّ لَمْ تُصَاحِبُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ لَمَّا فَلَا يُقَالُ إِنْ لَمَّا يَقُمْ وَفِي التنزيل: {وإن لم تفعل} ، {وإن لم ينتهوا} سَابِعُهَا: أَنَّ مَنْفِيَّ لَمَّا مُتَوَقَّعٌ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ مَنْفِيِّ لَمْ أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى: {بَلْ لما يذوقوا عذاب} . أَنَّهُمْ لَمْ يَذُوقُوهُ إِلَى الْآنَ وَأَنَّ ذَوْقَهُمْ لَهُ مُتَوَقَّعٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ولما يدخل الأيمان في قلوبكم} . مَا فِي لَمَّا مِنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ دَلَالَةَ لَمَّا عَلَى التَّوَقُّعِ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدُ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ لَمَّا لَيْسَتْ لِنَفْيِ الْمُتَوَقَّعِ حَيْثُ يُسْتَبْعَدُ تَوَقُّعُهُ وَإِنَّمَا هِيَ لِنَفْيِ الْفِعْلِ الْمُتَوَقَّعِ كَمَا أَنَّ قَدْ لِإِثْبَاتِ الْفِعْلِ الْمُتَوَقَّعِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ إِنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِـ "قَدْ فَعَلَ" أَيْ يُجَابُ بِهَا فِي النَّفْيِ حَيْثُ يجاب بـ "قد" فِي الْإِثْبَاتِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ جَاءَتْ لَمَّا بَعْدَ فِعْلٍ يَقُولُ الْقَائِلُ لَمَّا يَفْعَلْ فتقول قد فعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَاضٍ فَهِيَ حرف لِوُجُودٍ أَوْ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ فَيَقْتَضِي وُقُوعَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا عَكْسُ لَوْ نَحْوُ لَمَّا جَاءَنِي زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ. وَقَالَ: ابْنُ السَّرَّاجِ وَالْفَارِسِيُّ: ظَرْفٌ بِمَعْنَى حِينَ وَرَدَّهُ ابْنُ عُصْفُورٍ بِقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أهلكناهم لما ظلموا} . قَالَ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَقَعْ حِينَ ظَلَمُوا بَلْ كَانَ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْهَلَاكِ إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْذَارُهُمْ إِيَّاهُمْ وَبَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ الْإِهْلَاكُ فَلَيْسَتْ بِمَعْنَى حِينَ وَهَذَا الرَّدُّ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا قَدَّرْنَا الْإِهْلَاكَ أَوَّلَ مَا ابْتَدَأَ الظُّلْمُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَوْلُهُ: {ظَلَمُوا} فِي مَعْنَى استداموا الظلم أي وقع الإهلاك لهم حِينِ ظُلْمِهِمْ أَيْ فِي حِينِ اسْتِدَامَتِهِمُ الظُّلْمَ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} . وقوله: {ولما ورد ماء مدين} {ولما جاءت رسلنا لوطا} {إلا قوم يونس لما آمنوا} {فلما أحسوا بأسنا} وَأَمَّا جَوَابُهَا فَقَدْ يَجِيءُ ظَاهِرًا كَمَا ذَكَرْنَا قد يَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مَقْرُونَةً بِالْفَاءِ نَحْوُ: {فَلَمَّا نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} . أَوْ مَقْرُونَةً بِمَا النَّافِيَةِ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نذير ما زادهم} . وبإذا الْمُفَاجِئَةِ نَحْوُ: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ منها يركضون} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ منه يصدون} . {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} . وَبِهَذَا رُدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى حِينَ فَإِنَّ مَا النَّافِيَةَ وَإِذَا الْفُجَائِيَّةَ لا يعمل ما بعدهما فيما قبلها فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا. وَقَدْ يَكُونُ مُضَارِعًا كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يجادلنا} وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَاضِي أَيْ جَادَلَنَا. وَقَدْ يُحْذَفُ كقوله: {فمنهم مقتصد} قَالَ بَعْضُهُمْ التَّقْدِيرُ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ: {مُقْتَصِدٌ} هُوَ الْجَوَابُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ خَبَرَهَا مَقْرُونٌ بِالْفَاءِ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنَّ لي بكم قوة} جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَمَنَعْتُكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كفروا به} قِيلَ: جَوَابُ لَمَّا الْأُولَى لَمَّا الثَّانِيَةُ وَجَوَابُهَا وَرَدَ بِاقْتِرَانِهِ وَقِيلَ: {كَفَرُوا بِهِ} جَوَابٌ لَهُمَا لأن الثانية تكرير للأولى ز وَقِيلَ جَوَابُ الْأُولَى مَحْذُوفٌ أَيْ أَنْكَرُوهُ وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} فَقِيلَ الْجَوَابُ: {ذَهَبَ اللَّهُ} وَقِيلَ مَحْذُوفٌ اسْتِطَالَةً لِلْكَلَامِ مَعَ أَمْنِ اللَّبْسِ أَيْ حُمِدَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يجعلوه} . قيل الجواب قوله: {وأوحينا إليه} . عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ زَائِدَةً. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَنْجَيْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا} . قِيلَ: الْجَوَابُ {وَجَاءَتْهُ} عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَقِيلَ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَخَذَ يُجَادِلُنَا وَقِيلَ: {يُجَادِلُنَا} مؤول بـ "جادلنا" وكذلك قوله: {فلما أسلما وتله للجبين} . أَيْ أَجْزَلَ لَهُ الثَّوَابَ وَتَلَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} . فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا} يَسُدُّ مَسَدَّ الْجَوَابِ لَا أَنَّهُ الْجَوَابُ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لما ظلموا} . فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَهْلَكْنَاهُمْ} يَسُدُّ مَسَدَّ الْجَوَابِ لَا أَنَّهُ الْجَوَابُ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادهم إلا نفورا} . فَإِنَّمَا وَقَعَ جَوَابُهَا بِالنَّفْيِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ زَادَهُمْ نُفُورًا أَوِ ازْدَادَ نُفُورُهُمْ تَنْبِيهٌ: يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بَيْنَ تَجَرُّدِهَا مِنْ أَنْ ودخولها عليه وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ نَاصِبُهَا قَدْ تَعَلَّقَ بِعَقِبِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ خَافِضَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ وَإِذَا انْفَتَحَتْ أَنْ بَعْدَهَا أَكَّدَتْ هَذَا الْمَعْنَى وَشَدَّدَتْهُ وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ قَالَ وَنَرَاهُ مَبْنِيًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا أن جاءت رسلنا لوطا} الْآيَةَ كَأَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَبْصَرَهُمْ لَحِقَتْهُ الْمَسَاءَةُ وَضِيقُ الذَّرْعِ فِي بَدِيهَةِ الْأَمْرِ وَغُرَّتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كل نفس لما عليها حافظ} . عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ الْمِيمِ. وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُلُّ ذلك لما متاع الحياة الدنيا} لَمَا الْمُخَفَّفَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ: اللَّامِ وَمَا النَّافِيَةِ وَسِيبَوَيْهِ يَجْعَلُ مَا زَائِدَةً وَالْفَارِسِيُّ يَجْعَلُ اللَّامَ وَسَيَأْتِي فِي حَرْفِ الْمِيمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 لَنْ صِيغَةٌ مُرْتَجَلَةٌ لِلنَّفْيِ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَمُرَكَّبَةٌ عِنْدَ الْخَلِيلِ مِنْ لَا وَأَنْ وَاعْتُرِضَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَيْهَا نَحْوُ زَيْدًا لَنْ أَضْرِبَ وَجَوَابُهُ: يَجُوزُ فِي الْمُرَكَّبَاتِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَسَائِطِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ جَازِمَةً وَقَدْ قِيلَ بِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ النَّصْبُ وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَهِيَ لِنَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهَا فِي النَّفْيِ نَقِيضَةُ السِّينِ وَسَوْفَ وَأَنْ فِي الْإِثْبَاتِ فَإِذَا قُلْتَ سَأَفْعَلُ أَوْ سَوْفَ أَفْعَلُ كَانَ نَقِيضُهُ لَنْ أَفْعَلَ. وَهِيَ فِي نَفْيِ الِاسْتِقْبَالِ آكَدُ مِنْ لَا وَقَوْلِهِ تعالى: {فلن أبرح الأرض} . آكَدُ مِنْ قَوْلِهِ: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مجمع البحرين} وليس معناها النفي على التأبيد خِلَافًا لِصَاحِبِ الْأُنْمُوذَجِ بَلْ إِنَّ النَّفْيَ مُسْتَمِرٌّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا أَنْ يَطْرَأَ مَا يُزِيلُهُ فهي لنفي المستقبل ولم لنفي الماضي وما لِنَفْيِ الْحَالِ. وَمِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا تَنْفِي مَا قرب ولا يمتد مَعْنَى النَّفْيِ فِيهَا كَامْتِدَادِ مَعْنَاهَا وَقَدْ جَاءَ في قوله تعالى: {ولا يتمنونه أبدا} . بِحَرْفِ لَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ حَرْفُ الشَّرْطِ بِالْفِعْلِ فَصَارَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ يَعُمُّ الْأَزْمِنَةَ كَأَنَّهُ يَقُولُ مَتَى زَعَمُوا ذَلِكَ لِوَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَقِيلَ لَهُمْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} فَقَصَرَ مِنْ صِيغَةِ النَّفْيِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} وَلَيْسَتْ لَنْ مَعَ كَانَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لِأَنَّ كَانَ لَا تَدْخُلُ عَلَى حَدَثٍ وَإِنَّمَا هي داخلة على المبتدأ والخبر عِبَارَةٌ عَنْ قِصَرِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ذَلِكَ الْحَدَثُ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ثُمَّ قَالَ فِي الْجَوَابِ: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} فَانْتَظَمَ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَأَمَّا التَّأْبِيدُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ تَقُولُ زَيْدٌ يَصُومُ أَبَدًا وَيُصَلِّي أَبَدًا وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَعَلُّقُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ لَنْ تَدُلُّ عَلَى امتناع الرؤية ولو نفي بـ "لا" لَكَانَ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ إِذْ لَمْ يُخَصَّ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالسُّنَّةِ وَأَمَّا الْإِدْرَاكُ الَّذِي نُفِيَ بـ "لا" فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ" وَلَمْ يقل تدركون ربكم والعرب تنفي المظنون بـ "لن" والمشكوك بـ "لا". وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ التَّأْبِيدَ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَنِ الطَّوِيلِ لَا عَنِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ ابْنُ الْخَشَّابِ. وَقَدْ سَبَقَ مَزِيدُ كَلَامٍ فِيهَا فِي فصل التأبيد وَأَدَوَاتِهِ. قِيلَ: وَقَدْ تَأْتِي لِلدُّعَاءِ كَمَا أَتَتْ لَا لِذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} وَمَنَعَهُ آخَرُونَ لِأَنَّ فِعْلَ الدُّعَاءِ لَا يُسْنَدُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بَلْ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ نَحْوُ يا رب لَا عَذَّبْتَ فُلَانًا وَنَحْوَهُ لَا عَذَّبَ اللَّهُ عمرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 لَكِنْ لِلِاسْتِدْرَاكِ مُخَفَّفَةٌ وَمُثَقَّلَةٌ وَحَقِيقَتُهُ رَفْعُ مَفْهُومِ الكلام السابق تقول ما زيد شجاع ولكنه غير كريم فرفعت بـ "لكن" مَا أَفْهَمَهُ الْوَصْفُ بِالشَّجَاعَةِ مِنْ ثُبُوتِ الْكَرَمِ لَهُ لِكَوْنِهِمَا كَالْمُتَضَايِفَيْنِ فَإِنْ رَفَعْنَا مَا أَفَادَهُ مَنْطُوقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَذَاكَ اسْتِثْنَاءٌ وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ بِوَجْهٍ مَا فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا بَيْنَ مُتَوَافِقَيْنِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} . لِكَوْنِهِ جَاءَ فِي سِيَاقِ لَوْ وَلَوْ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُمْتَنِعَةٌ فِي الْمَعْنَى فَلَمَّا قِيلَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} عُلِمَ إِثْبَاتُ مَا فُهِمَ إِثْبَاتُهُ أَوَّلًا وَهُوَ سَبَبُ التَّسْلِيمِ وَهُوَ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى وَلَكِنَّ اللَّهَ مَا أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لِيُسَلِّمَكُمْ فَحُذِفَ السَّبَبُ وَأُقِيمَ الْمُسَبِّبُ مَقَامَهُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْفَرْقُ بَيْنَ بَلْ وَلَكِنْ وَإِنِ اتَّفَقَا فِي أَنَّ الْحُكْمَ لِلثَّانِي أَنَّ لَكِنْ وَضْعُهَا عَلَى مُخَالَفَةِ مَا بَعْدَهُمَا لِمَا قَبْلَهُمَا وَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُهُ إِلَّا مُثْبَتًا لِامْتِنَاعِ تَقْدِيرِ النَّفْيِ فِي الْمُفْرَدِ وَإِذَا كَانَ مُثْبَتًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ نَفْيًا كَقَوْلِكَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو وَلَوْ قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا بَلْ فَلِلْإِضْرَابِ مُطْلَقًا مُوجَبًا كَانَ الْأَوَّلُ أَوْ مَنْفِيًّا. وَإِذَا ثَقُلَتْ فَهِيَ مِنْ أَخَوَاتِ إِنَّ تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ وَلَا يَلِيهَا الْفِعْلُ وَأَمَّا وُقُوعُ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} وَهُوَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فَجَوَابُهُ أَنَّهَا هُنَا لَيْسَتِ الْمُثَقَّلَةُ بَلْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ وَالتَّقْدِيرُ لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 وَلِهَذَا تُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْأَلِفِ وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِهَا إِلَّا أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى النُّونِ فَالْتَقَتِ النُّونَانِ فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَمَوْضِعُ أَنَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ والله مبتدأ ثالث وربي خبر المبتدأ الثالث وَالْمُبْتَدَأُ الثَّالِثُ وَخَبَرُهُ خَبَرُ الثَّانِي وَالثَّانِي هُوَ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالرَّاجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ الْيَاءُ. ثُمَّ الْمُخَفَّفَةُ قَدْ تَكُونُ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَهِيَ عَامِلَةٌ وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ عَامِلَةٍ فَيَقَعُ بَعْدَهَا الْمُفْرَدُ نَحْوَ مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو فَتَكُونُ عَاطِفَةً عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ إِذَا وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فَهَلْ هِيَ لِلْعَطْفِ أَوْ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ قَوْلَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنِ الله يشهد} قَالَ: وَنَظِيرُ فَائِدَةِ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا فَعَلَى الْعَطْفِ لَا يَجُوزُ وَعَلَى كَوْنِهَا حَرْفَ ابْتِدَاءٍ يَجُوزُ. قَالَ: وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْوَاوُ انْتَقَلَ الْعَطْفُ إِلَيْهَا وَتَجَرَّدَتْ لِلِاسْتِدْرَاكِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ تَشْدِيدُ النُّونِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْوَاوِ وَتَخْفِيفُهَا إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا وَعَلَى هَذَا جَاءَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يجحدون} {ولكن أكثرهم لا يعلمون} {لكن الله يشهد} {لكن الرسول} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 {لكن الذين اتقوا} {لكن الظالمون اليوم} وَعَلَّلَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ تَكُونُ عَاطِفَةً فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى وَاوٍ مَعَهَا كَـ "بَلْ" فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا وَاوٌ لَمْ تُشْبِهْ بَلْ لِأَنَّ بَلْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُشَدَّدَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ وَلَا تَكُونُ عَاطِفَةً. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ولكن رسول الله} فأكثرهم على تخفيفها ونصب رسول بِإِضْمَارِ كَانَ أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى أَبَا أَحَدٍ. وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ لَكِنْ لَيْسَتْ عَاطِفَةً لِأَجْلِ الْوَاوِ فَالْأَلْيَقُ لَهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْجُمَلِ كَـ "بَلْ" الْعَاطِفَةِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِتَشْدِيدِهَا عَلَى أَنَّهَا عَامِلَةٌ وَحُذِفَ خَبَرُهَا أَيْ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَيْ مُحَمَّدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 لَعَلَّ تَجِيءُ لَمَعَانٍ الْأَوَّلُ: لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ نَحْوُ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَنَا وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَكْرُوهِ نَحْوُ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَاصِي ثُمَّ وَرَدَتْ فِي كَلَامِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْوَصْفَانِ لِأَنَّ التَّرَجِّيَ لِلْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ. فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لعله يتذكر أو يخشى. مَعْنَاهُ كُونَا عَلَى رَجَائِكُمَا فِي ذِكْرِهِمَا يَعْنِي أَنَّهُ كَلَامٌ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى جَانِبِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا جَازِمَيْنِ بِعَدَمِ إِيمَانِ فِرْعَوْنَ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُمَا فِي الْخَوْفِ ففي قوله تعالى: {لعل الساعة قريب} . فَإِنَّ السَّاعَةَ مَخُوفَةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قوله: {والذين آمنوا مشفقون منها} وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ؟ هَلْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمَحْبُوبِ أَوْ مُطْلَقًا وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَحْبُوبِ فَهَلْ ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لَهَا عَنْ وَضْعِ التَّرَجِّي إِلَى وَضْعِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ مَجَازًا أَمْ لَا؟ قُلْتُ: لَيْسَ إِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا مِنَ الْكَرِيمِ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَعْرِضُ بِأَنْ يَفْعَلَ إِلَّا بَعْدَ التَّصْمِيمِ عَلَيْهِ فَجَرَى الْخِطَابُ الْإِلَهِيُّ مَجْرَى خِطَابِ عُظَمَاءِ الملوك من الخلق وقوله: {يا أيها الناس اعبدوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 ربكم} الآية إلى: {تتقون} إِطْمَاعُ الْمُؤْمِنِ بِأَنْ يَبْلُغَ بِإِيمَانِهِ دَرَجَةَ التَّقْوَى الْعَالِيَةَ لِأَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَفْتَتِحُهَا وَبِالْإِيمَانِ يَخْتَتِمُهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الشَّرْعُ مُلْزِمٌ. وَقَدْ قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدْ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ لَكِنَّهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ إِذَا أَطْمَعَ فَعَلَ مَا يُطْمِعُ لَا مَحَالَةَ فَجَرَى إِطْمَاعُهُ مَجْرَى وَعْدِهِ فَلِهَذَا قِيلَ إِنَّهَا مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. وَهَذَا فِيهِ رَائِحَةُ الِاعْتِزَالِ فِي الْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْإِطْمَاعُ دُونَ التَّحْقِيقِ كَيْلَا يَتَّكِلَ الْعِبَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم} وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَعَلَّ طَمَعٌ وَإِشْفَاقٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَفُسِّرَ في كثير من المواضع بـ "لا" وَقَالُوا إِنَّ الطَّمَعَ وَالْإِشْفَاقَ لَا يَصِحُّ عَلَى الله تعالى. وقال: وَلَعَلَّ وَإِنْ كَانَ طَمَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي فِي كَلَامِهِمْ تَارَةً طَمَعَ الْمُخَاطِبِ وَتَارَةً طَمَعَ الْمُخَاطَبِ وَتَارَةً طَمَعَ غَيْرِهِمَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّنَا نتبع السحرة} . فَذَلِكَ طَمَعٌ مِنْهُمْ فِي فِرْعَوْنَ. وَفِي قَوْلِهِ: {لعله يتذكر أو يخشى} . إِطْمَاعُ مُوسَى وَهَارُونَ وَمَعْنَاهُ قُولَا لَهُ قَوْلًا لينا راجيين أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى وَقَوْلِهِ: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بعض ما يوحى إليك} أَيْ تَظُنُّ بِكَ النَّاسُ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لعلك باخع نفسك} ،وقوله: {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} أي راجين الفلاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 كما قال: كما قال: {يرجون رحمت الله} وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتَّرَجِّي إِلَّا في الممكن لأنه انتظار وَلَا يُنْتَظَرُ إِلَّا فِي مُمْكِنٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {لعلي أبلغ الأسباب} الْآيَةَ فَاطِّلَاعُ فِرْعَوْنَ إِلَى الْإِلَهِ مُسْتَحِيلٌ وَبِجَهْلِهِ اعْتَقَدَ إِمْكَانَهُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ الْجِسْمِيَّةَ وَالْمَكَانَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. الثَّانِي: لِلتَّعْلِيلِ كقوله تعالى: {فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} {وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون} أَيْ كَيْ. وَجَعَلَ مِنْهُ ثَعْلَبٌ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} أَيْ كَيْ حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. الثَّالِثُ: الِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يحدث بعد ذلك أمرا} {وما يدريك لعله يزكى} وحكى البغوي في تفسيره عن الواقدي أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَعَلَّ فإنها للتعليل إلا قوله: {لعلكم تخلدون} فَإِنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ وَكَوْنُهَا لِلتَّشْبِيهِ غَرِيبٌ لَمْ يَذْكُرْهُ النُّحَاةُ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَنَّ "لَعَلَّ" لِلتَّشْبِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لِلرَّجَاءِ الْمَحْضِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ كَيْفَ يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَاضِي. وَقَدْ وَقَعَ خَبَرُ ليت ماضيا في قوله: {يا ليتني مت قبل هذا} وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى مَنْعِ وُقُوعِ الْمَاضِي خَبَرًا للعل الرماني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 لَيْسَ فِعْلٌ مَعْنَاهُ نَفْيُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي الْحَالِ إِذَا قُلْتَ لَيْسَ زَيْدًا قَائِمًا نَفَيْتَ قِيَامَهُ فِي حَالِكَ هَذِهِ وَإِنْ قُلْتَ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا غَدًا لَمْ يَسْتَقِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فَيَكُونُ فِيهَا مُسْتَقْبَلًا. هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنَّهَا لِنَفْيِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عُمُومًا. وَقِيلَ مُطْلَقًا حَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَرُدَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ: {أَلَا يَوْمَ يأتيهم ليس مصروفا عنهم} وَهَذَا نَفْيٌ لِكَوْنِ الْعَذَابِ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَصِحُّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَنْفِي عَنِ الْحَالِ بِالْقَرِينَةِ نَحْوُ لَيْسَ خَلْقُ اللَّهِ مِثْلَهُ. وَهَلْ هُوَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ أَوِ الْوَحْدَةِ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ غَيْرَ ابْنِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ شَوَاهِدِ التَّوْضِيحِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَفِيهِ شَاهِدٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ لَيْسَ لِلنَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ بِهِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مِمَّا يُغْفَلُ عَنْهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لهم طعام إلا من ضريع} لَدُنْ بِمَعْنَى عِنْدَ وَهِيَ أَخَصُّ مِنْهَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى ابْتِدَائِهَا بِهِ نَحْوُ: أَقَمْتُ عِنْدَهُ مِنْ لدن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا فَتُوَضِّحُ نِهَايَةَ الْفِعْلِ وهي أبلغ من عند قال تعالى: {قد بلغت من لدني عذرا} {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا} {من لدن حكيم عليم} {فهب لي من لدنك وليا} وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي عِنْدَ. وَقَدْ تحذف نونها قال تعالى: {وألفيا سيدها لدى الباب} {هذا ما لدي عتيد} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 مَا تَكُونُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا سِتَّةٌ منها أسماء وستة حروف ما الاسمية. فَالِاسْمِيَّةُ ضَرْبَانِ: مَعْرِفَةٌ وَنَكِرَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَ مَوْضِعَهَا الَّذِي فَهِيَ مَعْرِفَةٌ أَوْ شَيْءٌ فَهِيَ نَكِرَةٌ وَإِنْ حَسُنَا مَعًا جَازَ الْأَمْرَانِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ويغفر ما دون ذلك} . و {هذا ما لدي عتيد} والنكرة: ضربان ضرب يلزم الصفة وضرب لا يلزمه والذي يلزمه الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالشَّرْطِيَّةُ وَالتَّعَجُّبُ وَمَا عَدَاهَا تَكُونُ مِنْهُ نَكِرَةً فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ صِفَةٍ تَلْزَمُهَا. فَالْأَوَّلُ: مِنَ السِّتَّةِ: الْأَسْمَاءُ الْخَبَرِيَّةُ وَهِيَ الْمَوْصُولَةُ وَيَسْتَوِي فِيهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله باق} . وقوله: {بما أنزل إليك} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض} فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُذَكَّرَ كَانَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِمَعْنَى الَّذِي وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَنَّثَ كَانَتْ لِلتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى الَّتِي. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَذَا يقول النحويون إنها بمعنى الذي مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَيْنَهُمَا تَخَالُفٌ فِي الْمَعْنَى وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ مَا اسْمٌ مُبْهَمٌ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ حَتَّى إِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمَعْدُومِ نَحْوُ: "إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا لَمْ يَكُنْ" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نَعْتًا لِمَا قَبْلَهَا وَلَا مَنْعُوتَةً لِأَنَّ صِلَتَهَا تُغْنِيهَا عَنِ النَّعْتِ وَلَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ انْتَهَى. ثُمَّ لَفْظُهَا مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ وَيَجُوزُ مُرَاعَاتُهَا فِي الضَّمِيرِ. وَنَحْوُهُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا ينفعهم} . ثم قال: {هؤلاء شفعاؤنا} . لما أراد الجمع. وكذلك قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يستطيعون} وَمِنْ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إيمانكم} وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ما عندكم ينفد} وَقَدْ تَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا لَا يَعْقِلُ تَغْلِيبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} . وَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ بِدَلِيلِ نُزُولِ الْآيَةِ بَعْدَهَا مُخَصَّصَةً: {إِنَّ الذين سبقت لهم منا الحسنى} قَالُوا: وَقَدْ تَأْتِي لِأَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أَيِ الْأَبْكَارِ إِنْ شِئْتُمْ أَوِ الثَّيِّبَاتِ وَلَا تَكُونُ لِأَشْخَاصِ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا اسْمٌ مُبْهَمٌ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا إِلَّا عَلَى جِنْسٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} والمراد آدم. وقوله: {والسماء وما بناها} وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أَيِ اللَّهَ. فَأَمَّا الْأُولَى فَقِيلَ إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وقال السهيل بَلْ إِنَّهَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا مِنْ حَيْثُ كَانَ السُّجُودُ لِمَا يَعْقِلُ وَلَكِنْ لِعِلَّةٍ أخرى وهي المعصية والتكبر فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِمَ عَصَيْتَنِي وَتَكَبَّرْتَ عَلَى مَا خَلَقْتُهُ وَشَرَّفْتُهُ فَلَوْ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَنْ؟ كَانَ اسْتِفْهَامًا مُجَرَّدًا مِنْ تَوْبِيخٍ وَلَتُوُهِّمَ أَنَّهُ وَجَبَ السُّجُودُ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَعْقِلُ أَوْ لِعِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ أَوْ لِذَاتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا آيَةُ السَّمَاءِ فَلِأَنَّ الْقَسَمَ تَعْظِيمٌ لِلْمُقْسَمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْآيَاتِ فَثَبَتَ لِهَذَا الْقَسَمِ بِالتَّعْظِيمِ كَائِنًا مَا كَانَ وَفِيهِ إِيحَاءٌ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِيجَادِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَنْ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ لِلْمَعْنَى مَقْصُورًا عَلَى ذَاتِهِ دُونَ أَفْعَالِهِ وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ جَعَلَهَا بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ. وَأَمَّا {مَا أَعْبُدُ} فَهِيَ عَلَى بَابِهَا لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى مَعْبُودِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ مَعْبُودِي وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسُدُونَهُ وَيَقْصِدُونَ مُخَالَفَتَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ فَلَا يَصِحُّ فِي اللَّفْظِ إِلَّا لَفْظَةُ مَا لِإِبْهَامِهَا وَمُطَابَقَتِهَا لِغَرَضٍ أَوْ لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ لِأَنَّ مَعْبُودَهُمْ لَا يَعْقِلُ وَكَرَّرَ الْفِعْلَ عَلَى بِنْيَةِ الْمُسْتَقْبَلِ حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ إِيمَاءً إِلَى عصمة الله له عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 الزَّيْغِ وَالتَّبْدِيلِ وَكَرَّرَهُ بِلَفْظٍ حِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتَّبِعُونَ شَهَوَاتِهِمْ بِفَرْضِ أَنْ يعبدوا اليوم مالا يعبدون غدا. وهاهنا ضابط حسن الفرق بَيْنَ الْخَبَرِيَّةِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ مَا إِذَا جَاءَتْ قَبْلَ لَيْسَ أَوْ لَمْ أَوْ لَا أَوْ بَعْدَ إِلَّا فَإِنَّهَا تَكُونُ خَبَرِيَّةً كَقَوْلِهِ: {ما ليس لي بحق} {ما لم يعلم} {ما لا تعلمون} {إلا ما علمتنا} . وَشَبَهِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْجَرِّ نَحْوُ رُبَّمَا وَعَمَّا وَفِيمَا وَنَظَائِرِهَا إِلَّا بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ. وَرُبَّمَا كَانَتْ مَصْدَرًا بَعْدَ الْبَاءِ نحو: {بما كانوا يظلمون} {بما كانوا يكذبون} {بما تعملون} وَإِنْ وَقَعَتْ بَيْنَ فِعْلَيْنِ سَابِقُهُمَا عِلْمٌ أَوْ دِرَايَةٌ أَوْ نَظَرٌ جَازَ فِيهَا الْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تكتمون} {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} {وإنك لتعلم ما نريد} {هل علمتم ما فعلتم} . {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} {ولتنظر نفس ما قدمت} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 الثَّانِي: الشَّرْطِيَّةُ وَلَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ وَيَعْمَلُ فِيهَا مَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ نَحْوُ مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بخير منها} {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عليم} {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله} {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا ممسك لها} فَـ "مَا" فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا الثَّالِثُ: الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِمَعْنَى أي شيء ولها صدر الكلام كالشرط وَيُسْأَلُ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ مَا لَا يَعْقِلُ وَأَجْنَاسِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ أَجْنَاسِ الْعُقَلَاءِ وَأَنْوَاعِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ قال تعالى: {ما هي} . و {ما لونها} {وما تلك بيمينك يا موسى} قَالَ الْخَلِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} مَا اسْتِفْهَامٌ أَيْ أَيَّ شَيْءٍ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَمِثَالُ مَجِيئِهَا لِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} ،وَنَظِيرُهَا لَكِنْ فِي الْمَوْصُولَةِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لكم من النساء} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 وَجَوَّزَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يُسْأَلَ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ مَنْ يَعْقِلُ أَيْضًا حَكَاهُ الرَّاغِبُ فَإِنْ كَانَ مَأْخَذُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رب العالمين} . فَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَالِكُ وَالْمِلْكُ صِفَةٌ وَلِهَذَا أَجَابَهُ مُوسَى بِالصِّفَاتِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَا سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَجَابَهُ مُوسَى تَنْبِيهًا عَلَى صَوَابِ السُّؤَالِ. ثُمَّ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي إِعْرَابِهَا وَهُوَ بِحَسَبِ الِاسْمِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ نحو قوله تعالى: {ما لونها} . و {ما هي} {ما أصابك من حسنة فمن الله} وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا هُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ كانت في موضع الخبر كقوله: {ما الرحمن} . وَقَوْلِهِ: {مَا الْقَارِعَةُ} . {مَا الْحَاقَّةُ} الثَّانِيَةُ: فِي حَذْفِ أَلِفِهَا وَيَكْثُرُ فِي حَالَةِ الْخَفْضِ قَصَدُوا مُشَاكَلَةَ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى فَحَذَفُوا الْأَلِفَ كَمَا أَسْقَطُوا الصِّلَةَ وَلَمْ يَحْذِفُوا فِي حَالِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ كَيْلَا تَبْقَى الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا حَرْفُ الْجَرِّ أَوْ مُضَافٌ اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْخَافِضَ وَالْمَخْفُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كقوله تعالى: {فيم أنت من ذكراها} {لم تحرم ما أحل الله لك} {فبم تبشرون} {عم يتساءلون} وأما قوله: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي} ،فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ بِأَيِّ شَيْءٍ غَفَرَ لِي فَجَعَلُوا مَا اسْتِفْهَامًا وَقَالَ الْكِسَائِيُّ مَعْنَاهُ بِمَغْفِرَةِ رَبِّي فَجَعَلَهَا مَصْدَرِيَّةً قَالَ الْهَرَوِيُّ: إِثْبَاتُ الْأَلِفِ فِي مَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اتِّصَالِهَا بِحَرْفِ الْجَرِّ لُغَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لهم} فَقِيلَ إِنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 أَغْوَيْتَنِي؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ أَيْ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَقْعُدَنَّ أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ أُقْسِمُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ أَيْ فَأُقْسِمُ بِإِغْوَائِكَ لَأَقْعُدَنَّ وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِالْإِغْوَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا وَالتَّكْلِيفُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ تَعْرِيفًا لِسَعَادَةِ الْأَبَدِ وَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يُقْسِمَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ تَعَلُّقُهَا بِـ {لَأَقْعُدَنَّ} قِيلَ يَصُدُّ عَنْهُ لَامُ الْقَسَمِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ وَاللَّهِ لَا بِزَيْدٍ لَأَمُرَّنَّ. وَالرَّابِعُ: التَّعَجُّبِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} {قتل الأنسان ما أكفره} وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قراءة سعيد بن جبير: {ما غرك بربك الكريم} وتكون في موضع رفع بالابتداء وما خَبَرٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَالتَّعَجُّبَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ لِأَنَّكَ إِذَا تَعَجَّبْتَ مِنْ شَيْءٍ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَسْأَلَ عَنْهُ وَالْخَامِسُ: نَكِرَةٌ بِمَعْنَى شَيْءٍ وَيَلْزَمُهَا النَّعْتُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ مَا مُعْجِبًا لَكَ وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَا بَعُوضَةً فَمَا فوقها} ، {إن الله نعما يعظكم به} أَيْ نِعْمَ شَيْئًا يَعِظُكُمْ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 وَالسَّادِسُ: نَكِرَةٌ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَا صِلَةٍ كَالتَّعَجُّبِ وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصدقات فنعما هي} ،أَيْ فَنِعْمَ شَيْئًا هِيَ كَمَا تَقُولُ نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ أَيْ نِعْمَ الرَّجُلُ رَجُلًا زَيْدٌ ثُمَّ قَامَ مَا مَقَامَ الشَّيْءِ. فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ تَجِيءُ مَا مُضْمَرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذا رأيت ثم رأيت} . أَيْ مَا ثَمَّ. وَقَوْلِهِ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبينك} . أي ما بيني {لقد تقطع بينكم} . أي ما بينكم ما الحرفية وَأَمَّا الْحَرْفِيَّةُ فَسِتَّةٌ. الْأَوَّلُ: النَّافِيَةُ وَلَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ فَفِي الأسماء كـ "ليس" تَرْفَعُ وَتَنْصِبُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: قَالَ تَعَالَى: {ما هذا بشرا} وقوله تعالى: {ما هن أمهاتهم} عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ التَّاءِ وَقَوْلِهِ: {فَمَا مِنْكُمْ من أحد عنه حاجزين} وَعَلَى الْأَفْعَالِ فَلَا تَعْمَلُ وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي بِمَعْنَى لَمْ نَحْوُ مَا خَرَجَ أَيْ لَمْ يَخْرُجْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كانوا مهتدين} وَعَلَى الْمُضَارِعِ لِنَفْيِ الْحَالِ بِمَعْنَى لَا نَحْوَ مَا يَخْرُجُ زَيْدٌ أَيْ لَا يَخْرُجُ نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ خُرُوجٌ فِي الْحَالِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ جَحْدًا وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَسَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَحْدِ وَالنَّفْيِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَاعِدَةِ الْمَنْفِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ هِيَ لِنَفْيِ الْحَالِ فِي اللُّغَتَيْنِ الْحِجَازِيَّةِ وَالتَّمِيمِيَّةِ نَحْوُ مَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا وَمُنْطَلِقٌ وَلِهَذَا جَعَلَهَا سِيبَوَيْهِ فِي النَّفْيِ جَوَابًا لِـ "قَدْ" فِي الْإِثْبَاتِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَدْ لِلتَّقْرِيبِ مِنَ الْحَالِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ جَوَابًا لَهَا فِي النَّفْيِ. قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ لِلنَّفْيِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: {وما نحن بمنشرين} {وما نحن بمبعوثين} وَفِي الْمَاضِي، نَحْوُ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ ولا نذير} . فَإِنَّهُ وَرَدَ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى مَعْنَى كَرَاهَةِ أَنْ يَقُولُوا عِنْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مَا جَاءَنَا فِي الدُّنْيَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ وَهَذَا للماضي المحقق وأمثال ذلك كثيرة. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ سِيبَوَيْهِ جَعَلَ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهَا جَرَتْ مَوْضِعَ قَدْ فِي النَّفْيِ فَكَمَا أَنَّ قَدْ فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا. وَهُنَا ضَابِطٌ وَهُوَ إِذَا مَا أَتَتْ بَعْدَهَا إِلَّا فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ مِنْ نَفْيٍ إِلَّا فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا. أَوَّلُهَا: فِي الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِمَّا آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا} الثَّانِي: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} الثَّالِثُ: فِي النِّسَاءِ قَوْلُهُ: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتيتموهن إلا أن يأتين} . الرَّابِعُ: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ما قد سلف} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 الْخَامِسُ: فِي الْمَائِدَةِ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذكيتم} السَّادِسُ: فِي الْأَنْعَامِ: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ به إلا أن يشاء ربي شيئا} السَّابِعُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلا} الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ فِي هُودٍ: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إلا} . فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ وَالثَّانِي: فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. الْعَاشِرُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ: فِي يُوسُفَ: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سنبله إلا قليلا} . وفيها: {ما قدمتم لهن إلا} الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي الْكَهْفِ: {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الله} . عَلَى خِلَافٍ فِيهَا. الثَّالِثَ عَشَرَ: {وَمَا بَيْنَهُمَا إلا بالحق} . حَيْثُ كَانَ. وَالثَّانِي: الْمَصْدَرِيَّةُ، وَهِيَ قِسْمَانِ وَقْتِيَّةٌ وَغَيْرُ وَقْتِيَّةٍ. فَالْوَقْتِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ نائب عن الظرف الزَّمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} . وقوله: {إلا ما دمت عليه قائما} . و {ما دمتم حرما} ،أي مدة دوام السموات وَالْأَرْضِ وَوَقْتَ دَوَامِ قِيَامِكُمْ وَإِحْرَامِكُمْ وَتُسَمَّى ظَرْفِيَّةً أَيْضًا وَغَيْرُ الْوَقْتِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُقَدَّرُ مَعَ الْفِعْلِ نَحْوُ بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ أَيْ صُنْعُكَ قال تعالى: {وبما كانوا يكذبون} أَيْ بِتَكْذِيبِهِمْ أَوْ بِكَذِبِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وقوله: {ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} . وقوله: {كما آمن الناس} . و {كما أرسلنا فيكم رسولا} . و: {بئسما اشتروا} . أَيْ كَإِيمَانِ النَّاسِ وَكَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَبِئْسَ اشْتِرَاؤُهُمْ. وَكُلَّمَا أَتَتْ بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِئْسَ فَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ وَصَاحِبُ الْكِتَابِ يَجْعَلُهَا حَرْفًا وَالْأَخْفَشُ يَجْعَلُهَا اسْمًا وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا مِنْ صِلَتِهَا شَيْءٌ. وَالثَّالِثُ: الْكَافَّةُ لِلْعَامِلِ عَنْ عَمَلِهِ وَهُوَ مَا يَقَعُ بَيْنَ نَاصِبٍ وَمَنْصُوبٍ أَوْ جَارٍّ وَمَجْرُورٍ أَوْ رَافِعٍ وَمَرْفُوعٍ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الله إله واحد} {إنما يخشى الله من عباده العلماء} {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} والثاني: كقوله: ربما رجل أكرمته وقوله: {ربما يود الذين كفروا} وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِكَ قَلَّمَا تَقُولِينَ وَطَالَمَا تَشْتَكِينَ. وَالرَّابِعُ: الْمُسَلَّطَةُ وَهِيَ الَّتِي تَجْعَلُ اللَّفْظَ مُتَسَلِّطًا بِالْعَمَلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا نَحْوَ مَا في إذما وحيثما لأنهما لَا يَعْمَلَانِ بِمُجَرَّدِهِمَا فِي الشَّرْطِ وَيَعْمَلَانِ عِنْدَ دُخُولِهَا عَلَيْهِمَا وَالْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مُغَيِّرَةً لِلْحَرْفِ عَنْ حَالِهِ كَقَوْلِهِ فِي لَوْ لَوْمَا غَيَّرَتْهَا إِلَى مَعْنَى هَلَّا قَالَ تَعَالَى: {لَوْ مَا تأتينا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 وَالسَّادِسُ: الْمُؤَكِّدُ لِلَّفْظِ وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ صِلَةً وَبَعْضُهُمْ زَائِدَةً وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَرْفٌ إِلَّا وَلَهُ مَعْنًى وَيَتَّصِلُ بِهَا الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَتَقَعُ أَبَدًا حَشْوًا أَوْ آخِرًا وَلَا تقع ابتداء وَإِذَا وَقَعَتْ حَشْوًا فَلَا تَقَعُ إِلَّا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَلَازِمَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ زِيَادَتَهَا لِإِقْحَامِهَا بين ما هو كالشيء الواحد. نحو: {أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا} {أينما تكونوا يدرككم الموت} وَكَذَا قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} {فبما رحمة من الله لنت لهم} {فبما نقضهم ميثاقهم} {عما قليل} {أيما الأجلين قضيت} {مما خطيئاتهم} وَجَعَلَ مِنْهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حافظ} قال فَجَعَلَهَا زَائِدَةً وَأَجَازَ الْفَارِسِيُّ زِيَادَةَ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَلَيْهَا حَافِظٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُلٌّ لما جميع} . إنما هو لجميع وما لَغْوٌ. قَالَ الصَّفَّارُ: وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهَا لَغْوًا وَلَمْ يَجْعَلْهَا مَوْصُولًا لِأَنَّ بَعْدَهَا مفرد فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلَهَا فِي {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} مَوْصُولَةً لِأَنَّ بَعْدَهَا الظَّرْفَ؟ قُلْنَا: مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ مَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ أَلَا تَرَى كُلَّ نَفْسٍ وَهَذَا يَمْنَعُ فِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الصِّلَةِ انْتَهَى وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ عِبَارَةَ اللَّغْوِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 مَنْ لَا تَكُونُ إِلَّا اسْمًا لِوُقُوعِهَا فَاعِلَةً وَمَفْعُولَةً وَمُبْتَدَأَةً وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا الْمَوْصُولَةُ وَالِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالشَّرْطِيَّةُ وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ. فَالْمَوْصُولَةُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يستكبرون} {ولله يسجد من في السماوات والأرض} وَالِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي أُشْرِبَتْ مَعْنَى النَّفْيِ وَمِنْهُ: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} . وَ {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضالون} وَلَا يَتَقَيَّدُ جَوَازُ ذَلِكَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَهَا الْوَاوُ خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ بِدَلِيلِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وَالشَّرْطِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} وَ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} أَيْ فَرِيقٌ يَقُولُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ وَضَعَّفَهُ أَبُو الْبَقَاءِ بِأَنَّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ وَالْمَعْنَى هَاهُنَا عَلَى الْإِيهَامِ. وَتَوَسَّطَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ "أَلْ" لِلْجِنْسِ فَنَكِرَةٌ أَوْ لِلْعَهْدِ فَمَوْصُولَةٌ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ مُنَاسَبَةَ الْجِنْسِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ لِلْعَهْدِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ وَمَنْ مَوْصُولَةٌ وَلِلْعَهْدِ وَمَنْ نَكِرَةٌ. ثُمَّ الْمَوْصُولَةُ قَدْ تُوصَفُ بِالْمُفْرَدِ وَبِالْجُمْلَةِ وَفِي التَّنْزِيلِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان} . فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَيْ كُلُّ شَخْصٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَيْهَا. قَالُوا: وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ فَعَلَى الْمَجَازِ. هَذِهِ عِبَارَةُ الْقُدَمَاءِ وَعَدَلَ جَمَاعَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ مَنْ يَعْلَمُ لِإِطْلَاقِهَا عَلَى الْبَارِي كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُوصَفُ بِالْعِلْمِ لَا بِالْعَقْلِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ. وَضَيَّقَ سِيبَوَيْهِ الْعِبَارَةَ فَقَالَ هِيَ لِلْأَنَاسِيِّ. فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمِلْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ من في السماوات} . فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ بِأَنْ يَقُولَ لِأُولِي الْعِلْمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا يَقِلُّ فِيهَا فَاقْتُصِرَ عَلَى الْأَنَاسِيِّ لِلْغَلَبَةِ. وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ فَإِمَّا لِأَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ وَإِمَّا لِاخْتِلَاطِهِ بِهِ فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يخلق} ،وَالَّذِي لَا يَخْلُقُ الْمُرَادُ بِهِ الْأَصْنَامُ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ لَمَّا عُومِلَتْ بِالْعِبَادَةِ عبر عنها بـ "من" بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد بـ "من" لَا يَخْلُقُ الْعُمُومَ الشَّامِلَ لِكُلِّ مَا عُبِدَ من دون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 اللَّهِ مِنَ الْعَاقِلِينَ وَغَيْرِهِمْ فَيَكُونُ مَجِيءُ مَنْ هُنَا لِلتَّغْلِيبِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاخْتِلَاطُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ من يمشي على بطنه} الْآيَةَ فَعَبَّرَ بِهَا عَمَّنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَهُمُ الْحَيَّاتُ وَعَمَّنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وَهُمُ البهائم لاختلاطهم مَعَ مَنْ يَعْقِلُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ فَغَلَبَ عَلَى الجميع حكم العاقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 فائدة. قيل: إنما كان "من" لمن يعقل و"ما" لِمَا لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ مَوَاضِعَ مَا فِي الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ مَوَاضِعِ مَنْ وَمَا لَا يَعْقِلُ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْقِلُ فَأَعْطَوْا مَا كَثُرَتْ مَوَاضِعُهُ لِلْكَثِيرِ وَأَعْطَوْا مَا قَلَّتْ مَوَاضِعُهُ لِلْقَلِيلِ وَهُوَ مَنْ يَعْقِلُ لِلْمُشَاكَلَةِ وَالْمُجَانَسَةِ تَنْبِيهٌ. ذَكَرَ الْأَبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّ اخْتِصَاصَ مَنْ بِالْعَاقِلِ وَمَا بِغَيْرِهِ مَخْصُوصٌ بِالْمَوْصُولَتَيْنِ أَمَّا الشَّرْطِيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ تَنْبِيهٌ وَقَدْ سَبَقَ فِي قَاعِدَةِ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بَيَانُ حُكْمِ مَنْ فِي ذَلِكَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا من كان هودا أو نصارى} فَجَعَلَ اسْمَ كَانَ مُفْرَدًا حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ وَخَبَرَهَا جَمْعًا حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا وَلَوْ حَمَلَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ عَلَى اللَّفْظِ مَعًا لَقَالَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَلَوْ حَمَلَهُمَا عَلَى مَعْنَاهَا لَقَالَ إِلَّا مَنْ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى فَصَارَتِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَاقِلِينَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَنَعَهَا ابْنُ السَّرَّاجِ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْمُ وَالْخَبَرُ مَعًا عَلَى اللَّفْظِ فَيُقَالُ إِلَّا مَنْ كَانَ عَاقِلًا أَوْ يُحْمَلَا مَعًا عَلَى الْمَعْنَى فَيُقَالُ إِلَّا مَنْ كَانُوا عَاقِلِينَ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بخلاف قولهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 مِنْ حَرْفٌ يَأْتِي لِبِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى. الْأَوَّلُ: ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَتِهَا إِلَى الَّتِي لِلِانْتِهَاءِ. وَذَلِكَ إِمَّا فِي اللَّفْظِ نَحْوَ سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} ما فِي الْمَعْنَى نَحْوُ زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو لِأَنَّ مَعْنَاهُ زِيَادَةُ الْفَضْلِ عَلَى عَمْرٍو وَانْتِهَاؤُهُ فِي الزِّيَادَةِ إِلَى زَيْدٍ. وَيَكُونُ فِي الْمَكَانِ اتِّفَاقًا نَحْوُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ نَحْوَ مِنْ فُلَانٍ وَمِنْهُ: {إِنَّهُ مِنْ سليمان} ، وَقَوْلِكَ ضَرَبْتُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ إِذَا أَرَدْتَ الْبِدَاءَةَ مِنَ الصَّغِيرِ وَالنِّهَايَةَ بِالْكَبِيرِ. وَفِي الزَّمَانِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وَقَوْلِهِ: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بعد} فَإِنَّ قَبْلُ وَبَعْدُ ظَرْفَا زَمَانٍ. وَتَأَوَّلَهُ مُخَالِفُوهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ فَـ "مِنْ" دَاخِلَةٌ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى التَّأْسِيسِ وَهُوَ مَصْدَرٌ وَأَمَّا قَبْلُ وَبَعْدُ فَلَيْسَتَا ظَرْفَيْنِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ الثَّانِي: الْغَايَةُ وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى فِعْلٍ هُوَ مَحَلٌّ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَانْتِهَائِهِ مَعًا نَحْوُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 أَخَذْتُ مِنَ التَّابُوتِ فَالتَّابُوتُ مَحَلُّ ابْتِدَاءِ الْأَخْذِ وانتهائه وكذلك أخذته من زيد فـ "زيد" مَحَلٌّ لِابْتِدَاءِ الْأَخْذِ وَانْتِهَائِهِ كَذَلِكَ. قَالَهُ الصَّفَّارُ وغاير قيله وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ نَحْوَ قَوْلِكَ رَأَيْتُ الْهِلَالَ مِنْ دَارِي مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ فَابْتِدَاءُ الرُّؤْيَةِ وَقَعَ مِنَ الدَّارِ وَانْتِهَاؤُهَا مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ وَكَذَلِكَ شَمَمْتُ الرَّيْحَانَ مِنْ دَارِي مِنَ الطَّرِيقِ فَابْتِدَاءُ الشَّمِّ مِنَ الدَّارِ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَى الطَّرِيقِ. وقال: وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ بَلْ هُمَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَالْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي حَقِّ الْفَاعِلِ وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي حَقِّ الْمَفْعُولِ وَنَظِيرُهُ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بِالشَّامِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ كَتْبِهِ إِلَى عُمَرَ بِالشَّامِ بَلِ الَّذِي كَانَ فِي الشَّامِ عُمَرُ فَقَوْلُهُ بِالشَّامِ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ. قَالَ وَزَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ لَزِمَهَا إِلَى الِانْتِهَاءِ فَأَجَازَ سِرْتُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى يَوْمِ الْأَحَدِ لِأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَذْكُرْ لَمْ يُدْرَ إِلَى أَيْنَ انْتَهَى السَّيْرُ. قَالَ الصَّفَّارُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ مِنْ كَلَامِهِمْ وَإِذَا أَرَادَتِ الْعَرَبُ هَذَا أَتَتْ فِيهِ بِمُذْ وَمُنْذُ وَيَكُونُ الِانْتِهَاءُ إِلَى زَمَنِ الْإِخْبَارِ. الثالث: التبعيض ولها علامتان أن يقع مَوْقِعَهَا وَأَنْ يَعُمَّ مَا قَبْلَهَا مَا بَعْدَهَا إِذَا حُذِفَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تحبون} ،وَلِهَذَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْضَ مَا تحبون وقوله: {منهم من كلم الله} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 وقوله: {إني أسكنت من ذريتي} فَإِنَّهُ كَانَ نَزَلَ بِبَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ. الرَّابِعُ: بَيَانُ الْجِنْسِ وَقِيلَ: إِنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ مُطْلَقًا حَكَاهُ التَّرَّاسُ وَلَهَا عَلَامَتَانِ أَنْ يَصِحَّ وَضْعُ الَّذِي مَوْضِعَهَا وَأَنْ يَصِحَّ وُقُوعُهَا صِفَةً لِمَا قَبْلَهَا. وَقِيلَ هِيَ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا تَحْتَهُ أَجْنَاسٌ وَالْمُرَادُ أَحَدُهَا فَإِذَا أَرَدْتَ وَاحِدًا مِنْهَا بَيَّنْتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . وَغَيْرَهَا فَلَمَّا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعْلَمِ الْمُرَادُ فَلَمَّا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَوْثَانِ عُلِمَ أَنَّهَا الْمُرَادُ من الجنس وقرنت بـ "من" لِلْبَيَانِ فَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّهَا لِلْجِنْسِ وَأَمَّا اجْتِنَابُ غَيْرِهَا فَمُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَالتَّقْدِيرُ وَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ أَيِ اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الْوَثَنِيَّ فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى الصِّفَةِ. وَهِيَ بِعَكْسِ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّ تِلْكَ يَكُونُ مَا قَبْلَهَا بَعْضًا مِمَّا بَعْدَهَا فَإِذَا قُلْتَ أَخَذْتُ دِرْهَمًا مِنَ الدَّرَاهِمِ كَانَ الدِّرْهَمُ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ وَهَذِهِ مَا بَعْدَهَا بَعْضٌ مِمَّا قَبْلَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْثَانَ بَعْضُ الرِّجْسِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ،أَيِ الَّذِينَ هُمْ أَنْتُمْ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا التَّبْعِيضُ. وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء من جبال فيها من برد} . فَـ "مِنَ" الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيِ ابْتِدَاءِ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ بَعْضِ جِبَالٍ مِنْهَا وَالثَّالِثَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْجِبَالَ تَكُونُ بَرَدًا وَغَيْرَ بَرَدٍ وَنَظِيرُهَا: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَالْأُولَى لِلْبَيَانِ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ نَوْعَانِ كِتَابِيُّونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 وَمُشْرِكُونَ وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِدُخُولِهَا عَلَى نَكِرَةٍ مَنْفِيَّةٍ وَالثَّالِثَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} . فَالْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالثَّانِيَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَوْ زائدة بدليل قوله: {وحلوا أساور} . وَالثَّالِثَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَوِ التَّبْعِيضِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَوْمُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَغَارِبَةِ بَيَانَ الْجِنْسِ وَقَالُوا هِيَ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الرِّجْسَ جَامِعٌ لِلْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا قِيلَ مِنَ الْأَوْثَانِ فَمَعْنَاهُ الِابْتِدَاءُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ لِأَنَّ الرجس ليس هو ذاتها فـ "من" فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَهِيَ فِي أَخَذْتُهُ مِنَ التَّابُوتِ. وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الرِّجْسَ مِنْهَا هُوَ عِبَادَتُهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْكُمْ} فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ وَيُقَدَّرُ الْخِطَابُ عاما للمؤمنين وغيرهم. وأما قوله: {من الجبال} فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّ السَّمَاءَ مُشْتَمِلَةً عَلَى جِبَالِ الْبَرَدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَيُنَزِّلُ مِنْ بَرَدٍ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا أُعِيدَ فِيهِ الْعَامِلُ مَعَ الْبَدَلِ كَقَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ استضعفوا لمن آمن منهم} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ} . فَفِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ وَكَثِيرًا مَا تَقَعُ بَعْدَ مَا وَمَهْمَا لِإِفْرَاطِ إِبْهَامِهِمَا نَحْوُ: {ما يفتح الله للناس من رحمة} ، {ما ننسخ من آية} {مهما تأتنا به من آية} وَهِيَ وَمَخْفُوضُهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 وَقَدْ تَقَعُ بَعْدَ غَيْرِهِمَا: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سندس وإستبرق} . الشَّاهِدُ فِي غَيْرِ الْأُولَى، فَإِنَّ تِلْكَ لِلِابْتِدَاءِ وَقِيلَ زَائِدَةٌ. الْخَامِسُ: التَّعْلِيلُ وَيُقَدَّرُ بِلَامٍ نَحْوُ: {مما خطيئاتهم أغرقوا} . وقوله: {أطعمهم من جوع} . أَيْ مِنْ أَجْلِ الْجُوعِ. وَرَدَّهُ الْأَبْذِيُّ بِأَنَّ الَّذِي فُهِمَ مِنْهُ الْعِلَّةُ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْمُرَادِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلِابْتِدَاءِ أَيِ ابْتِدَاءِ الْإِطْعَامِ مِنْ أَجْلِ الْجُوعِ. السَّادِسُ: الْبَدَلُ مِنْ حَيْثُ الْعِوَضِ عَنْهُ فَهُوَ كَالسَّبَبِ فِي حُصُولِ الْعِوَضِ فَكَأَنَّهُ مِنْهُ أَتَى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَجَعَلْنَا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} . لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَوْلِهِ: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} . أَيْ بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ وَمَحَلُّهَا مَعَ مَجْرُورِهَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلِهِ: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} . أَيْ بَدَلَ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ رَحْمَةِ اللَّهِ وقوله: {قل من يكلأكم بالليل والنهار من الرحمن} أَيْ بَدَلَ الرَّحْمَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 السَّابِعُ: بِمَعْنَى عَلَى نَحْوُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} . أَيْ عَلَى الْقَوْمِ وَقِيلَ عَلَى التَّضْمِينِ أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهُمْ بِالنَّصْرِ. الثَّامِنُ: بِمَعْنَى عَنْ نَحْوُ: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} . وَقِيلَ: هِيَ لِلِابْتِدَاءِ فِيهِمَا. وَقَوْلِهِ: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جوع} . فَقَدْ أَشَارَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ مِنْ هُنَا تُؤَدِّي مَعْنَى عَنْ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ لِلْعِلَّةِ أَيْ لِأَجْلِ الْجُوعِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الَّذِي فُهِمَ مِنْهُ الْعِلَّةُ إِنَّمَا هُوَ أَجْلُ لَا مِنْ. وَاخْتَارَ الصَّفَّارُ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. التَّاسِعُ: بِمَعْنَى الْبَاءِ نَحْوُ: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خفي} . حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ يُونُسَ وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ: {مِنْ طَرْفٍ} لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ وَإِنَّمَا نَظَرُهُ بِبَعْضِهَا. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ أَبَانَ: {يَحْفَظُونَهُ من أمر الله} . أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَوْلَهُ: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سلام} . الْعَاشِرُ: بِمَعْنَى فِي نَحْوُ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يوم الجمعة} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 {أروني ماذا خلقوا من الأرض} وَقِيلَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. الْحَادِي عَشَرَ: بِمَعْنَى عِنْدَ نَحْوُ: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ من الله} . قال أبو عبيد وَقِيلَ إِنَّهَا لِلْبَدَلِ. الثَّانِي عَشَرَ: بِمَعْنَى الْفَصْلِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ نَحْوُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ المفسد من المصلح} ، {حتى يميز الخبيث من الطيب} الثَّالِثَ عَشَرَ: الزَّائِدَةُ وَلَهَا شَرْطَانِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى نَكِرَةٍ وَأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَفْيًا نَحْوَ مَا كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ نَهْيًا نَحْوَ لَا تَضْرِبْ مِنْ رَجُلٍ أَوِ اسْتِفْهَامًا نَحْوُ هَلْ جَاءَكَ مِنْ رَجُلٍ؟ وَأَجْرَى بَعْضُهُمُ الشَّرْطَ مَجْرَى النَّفْيِ نَحْوُ إِنْ قَامَ رَجُلٌ قَامَ عَمْرٌو. وَقَالَ الصَّفَّارُ: الصَّحِيحُ الْمَنْعُ وَلَهَا فِي النَّفْيِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ للتنصيص على العموم وهي الداخلة على مالا يُفِيدُ الْعُمُومَ نَحْوُ مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ فَإِنَّهُ قَبْلَ دُخُولِهَا يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْجِنْسِ وَنَفْيَ الْوَحْدَةِ فَإِذَا دَخَلَتْ مِنْ تُعِينُ نَفْيَ الْجِنْسِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إله واحد} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} وَثَانِيهِمَا: لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الصِّيغَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْعُمُومِ نَحْوَ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ أَوْ مِنْ دَيَّارٍ لِأَنَّكَ لَوْ أَسْقَطْتَ مِنْ لَبَقِيَ الْعُمُومُ عَلَى حَالِهِ لَأَنَّ أَحَدًا لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلْعُمُومِ فِي النَّفْيِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَغَايُرِ الْمَعْنَيَيْنِ خِلَافُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ مِنْ تَسَاوِيهِمَا. قَالَ الصَّفَّارُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي وَأَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى جَاءَنِي رَجُلٌ إِلَّا وَهُوَ يُرَادُ بِهِ مَا جَاءَنِي أَحَدٌ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا تَأْكِيدُ الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ أَحَدٍ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا الِاسْتِغْرَاقُ فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى. قَالَ: وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُؤَكِّدَةَ تَرْجِعُ لِمَعْنَى التَّبْعِيضِ فَإِذَا قُلْتَ مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا أَتَانِي بَعْضُ هَذَا الْجِنْسِ وَلَا كُلُّهُ وَكَذَا مَا أَتَانِي مِنْ أَحَدٍ أَيْ بَعْضٍ مِنَ الْأَحَدَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ: الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزبير نص سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهَا نَصٌّ فِي الْعُمُومِ قَالَ فَإِذَا قُلْتَ مَا أَتَانِي رَجُلٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُرِيدَ مَا أَتَاكَ مِنْ رَجُلٍ فِي قُوَّتِهِ وَنَفَاذِهِ بَلْ أَتَاكَ الضعفاء. والثاني: أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ مَا أَتَاكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بَلْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ تُرِيدَ مَا أَتَاكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَلَا أَكْثَرُ مِنْ ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 فَإِنْ قُلْتَ: مَا أَتَانِي مِنْ رَجُلٍ كَانَ نَفْيًا لِذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ وَتَسْتَغْرِقُ. وَيَلْتَحِقُ بِالنَّفْيِ الِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ ترى من فطور} وجوز الأخفش زيادتها في الإثبات كقوله: {غفر لكم من ذنوبكم} . وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ بِدَلِيلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعا} فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الزِّيَادَةِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ. وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ لَوْ كَانَتَا فِي حَقِّ قَبِيلٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا مِنْ قوم نُوحٍ وَالْأُخْرَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا غُفِرَ لِلْبَعْضِ كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ كَمَالُ التَّرْغِيبِ فِي الْإِيمَانِ إِلَّا بِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ. وَأَيْضًا: فَكَيْفَ يَحْسُنُ التَّبْعِيضُ فِيهَا مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَيَصِحُّ قَوْلُ الْأَخْفَشِ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِغُفْرَانِ بَعْضِ الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ إِغْرَاقَ قَوْمِ نُوحٍ عَذَابٌ لَهُمْ وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مُضَافًا إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فَلَوْ آمَنُوا لَغُفِرَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْإِغْرَاقَ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا غُفْرَانُ الذَّنْبِ بِالْإِيمَانِ فِي الْآخِرَةِ فَمَعْلُومٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا آمَنَ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ ذُنُوبٌ وَهِيَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ فَثَبَتَ التَّبْعِيضُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {ذُنُوبِكُمْ} يَشْمَلُ الْمَاضِيَةَ وَالْمُسْتَقْبَلَةَ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ تُفِيدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 الْعُمُومَ فَقِيلَ مِنْ لِتُفِيدَ أَنَّ الْمَغْفُورَ الْمَاضِي وَعَدَمَ إِطْمَاعِهِمْ فِي غُفْرَانِ الْمُسْتَقْبَلِ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَجْتَنِبُوا الْمَنْهِيَّاتِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَهُوَ حَسَنٌ لِقَوْلِهِ: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف} . وَسِيبَوَيْهِ يُقَدِّرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مَفْعُولًا مَحْذُوفًا أَيْ يَغْفِرُ لَكُمْ بَعْضًا مِنْ ذُنُوبِكُمْ مُحَافَظَةً عَلَى مَعْنَى التَّبْعِيضِ. وَقِيلَ: بَلِ الْحَذْفُ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّقْدِيرُ يَغْفِرُ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ مَا لَوْ كَشَفَ لَكُمْ عَنْ كُنْهِهِ لَاسْتَعْظَمْتُمْ ذَلِكَ وَالشَّيْءُ إِذَا أَرَادُوا تَفْخِيمَهُ أَبْهَمُوهُ كَقَوْلِهِ: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ اليم ما غشيهم} . أَيْ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَقَالَ الصَّفَّارُ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى بَابِهَا وَذَلِكَ أَنَّ غَفَرَ تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا بِاللَّامِ فَالْأَخْفَشُ يَجْعَلُ الْمَفْعُولَ الْمُصَرَّحَ الذُّنُوبَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً وَنَحْنُ نَجْعَلُ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا وَقَامَتْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ مَقَامَهُ أَيْ جُمْلَةً مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْفُورَ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ لا حَالِ الْإِسْلَامِ وَالَّذِي اكْتَسَبُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ لَا جَمِيعُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آية الصدقة: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} فَلِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ لَا يَمْحُو كُلَّ السَّيِّئَاتِ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَخْفَشُ أَيْضًا قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} . أَيْ أَبْصَارَهُمْ وَقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثمرات} . أَيْ كُلُّ الثَّمَرَاتِ وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نبأ المرسلين} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا بَلْ هِيَ فِي الْأَوَّلِ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ النَّظَرَ قَدْ يَكُونُ عَنْ تَعَمُّدٍ وغير تَعَمُّدِ وَالنَّهْيُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى نَظَرِ الْعَمْدِ فَقَطْ وَلِهَذَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} . مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ مِنْ لِأَنَّ حِفْظَ الْفُرُوجِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ فِي النَّظَرِ لِجَوَازِ وُقُوعِهِ اتِّفَاقًا وَقَدْ يُبَاحُ لِلْخِطْبَةِ وَلِلتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ الله وَعَدَ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهَا كُلُّ نَوْعٍ مِنْ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَزِيَادَةٌ وَلَمْ يَجْعَلْ جَمِيعَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الثِّمَارِ عِنْدَهُمْ بَلْ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا يَكْفِيهِ وَزِيَادَةٌ عَلَى كِفَايَتِهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْجِنْسِ عِنْدَهُمْ حَتَّى لَمْ تَبْقَ مَعَهُ بَقِيَّةٌ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ وَصْفُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّنَاهِي. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِلتَّبْعِيضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نقصصهم عليك} لَطِيفَةٌ: إِنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لم تذكر كقوله في سورة الصف: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} . إلى قوله: {يغفر لكم ذنوبكم} وقوله في سورة الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} . إلى قوله: {ويغفر لكم ذنوبكم} وَقَالَ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ نُوحٍ: {يغفر لكم من ذنوبكم} وفي سورة الأحقاف: {يا قومنا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 ذنوبكم} وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ لِئَلَّا يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْوَعْدِ وَلِهَذَا إِنَّهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ وَالْأَحْقَافِ وَعَدَهُمْ مَغْفِرَةَ بَعْضِ الذُّنُوبِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ لَا مُطْلَقًا وَهُوَ غُفْرَانُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَا مَظَالِمِ الْعِبَادِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: الْمُلَابَسَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ من بعض} ،أَيْ يُلَابِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى النَّسْلِ وَالْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ نَسْلِ الْمُنَافِقِ مُؤْمِنٌ وَعَكْسُهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} . وكذا قوله: {ذرية بعضها من بعض} . كَمَا يَتَبَرَّأُ الْكُفَّارُ كَقَوْلِهِ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتبعوا من الذين اتبعوا} فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بعض} أَيْ بَعْضُكُمْ يُلَابِسُ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ يَشْمَلُكُمُ الْإِسْلَامُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 مَعَ لِلْمُصَاحَبَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُصَاحَبَةٌ وَاشْتِرَاكٌ إِلَّا فِي حُكْمٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ الْوَاوُ الَّتِي بِمَعْنَى مَعَ إِلَّا بَعْدَ فِعْلٍ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا لِتَصِحَّ الْمَعِيَّةُ. وَكَمَالُ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ الِاجْتِمَاعُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ الِاشْتِرَاكُ دُونَ زَمَانِهِ. فَالْأَوَّلُ: يَكْثُرُ فِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَالْعِلَاجِ نَحْوُ دَخَلْتُ مَعَ زَيْدٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَ عَمْرٍو وَقُمْنَا مَعًا وَمِنْهُ قوله تعالى: {ودخل معه السجن فتيان} ، {أرسله معنا غدا} {فأرسل معنا أخانا} {لن أرسله معكم} وَالثَّانِي: يَكْثُرُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ نَحْوُ آمَنْتُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتُبْتُ مَعَ التَّائِبِينَ وَفَهِمْتُ الْمَسْأَلَةَ مع من فهمها ومنه قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} وقوله: {وكونوا مع الصادقين} {وقيل ادخلا النار مع الداخلين} {إنني معكما أسمع وأرى} {إن معي ربي سيهدين} {لا تحزن إن الله معنا} . أَيْ بِالْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النبي والذين آمنوا معه} يَعْنِي الَّذِينَ شَارَكُوهُ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَذَاهِبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وَقَدْ ذَكَرُوا الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {واتبعوا النور الذي أنزل معه} . قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعِيَّةِ فِي الِاشْتِرَاكِ فَتَمَامُهُ الِاجْتِمَاعُ فِي الزَّمَانِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ أُنْزِلَ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَعَ اتِّبَاعِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِيمَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ دُونَ الزَّمَانِ وَتَقْدِيرُهُ وَاتَّبَعُوا مَعَهُ النُّورَ. وَقَدْ تَكُونُ الْمُصَاحَبَةُ فِي الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَفْعُولِ وَبَيْنَ الْمُضَافِ كَقَوْلِهِ شَمَمْتُ طِيبًا مَعَ زَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صبرا} . نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ ثُمَّ قَالَ وَقَدْ وَرَدَ فِي الشِّعْرِ اسْتِعْمَالُ مَعَ فِي مَعْنًى يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ لِيُلْحَقَ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَقُومُ مَعَ الرُّمْحِ الرُّدَيْنِيِّ قَامَةً وَيَقْصُرُ عَنْهُ طُولُ كُلِّ نِجَادِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: مَعَ تَقْتَضِي الِاجْتِمَاعَ إِمَّا فِي الْمَكَانِ نَحْوُ هُمَا مَعًا فِي الدَّارِ أَوْ فِي الزَّمَانِ نَحْوُ وُلِدَا مَعًا أَوْ فِي الْمَعْنَى كَالْمُتَضَايِفَيْنِ نَحْوُ الْأَخُ وَالْأَبُ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا صَارَ أَخًا لِلْآخَرِ فِي حَالِ مَا صَارَ الْآخَرُ أَخَاهُ وَإِمَّا فِي الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ نَحْوُ هُمَا مَعًا فِي الْعُلُوِّ وتقتضي مع النُّصْرَةِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَفْظُ مَعَ هُوَ الْمَنْصُورُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا} {إن الله مع الذين اتقوا} {وهو معكم أين ما كنتم} {واعلموا أن الله مع المتقين} ، {إن معي ربي سيهدين} انتهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ إِنَّ مَعًا إِذَا أُفْرِدَتْ تُسَاوِي جَمِيعًا مَعْنًى. وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا قَالَ ثَعْلَبٌ إِذَا قُلْتَ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو جَمِيعًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ فِي وَقْتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ فِي وَاحِدٍ وَإِذَا قُلْتَ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعًا فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَالتَّحْقِيقُ مَا سَبَقَ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحُضُورِ كقوله: {إنني معكما} أي ناصر كما {إن الله مع الذين اتقوا} . أَيْ مُعِينُهُمْ. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أَيْ عَالِمٌ بِكُمْ وَمُشَاهِدُكُمْ فَكَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَهُمْ وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إِذَا قُلْتَ كَانَ زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو أَيْ زَمَنَ مَجِيءِ عَمْرٍو ثُمَّ حُذِفَ الزَّمَنُ وَالْمَجِيءُ وَقَامَتْ "مَعَ" مقامهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 النُّونِ لِلتَّأْكِيدِ وَهِيَ إِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً كَانَتْ بمنزلة تأكيد الفعل مرتين أو شديدة فمنزلة تَأْكِيدِهِ ثَلَاثًا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا من الصاغرين} ، مِنْ حَيْثُ أَكَّدَتِ السِّجْنَ بِالشِّدَّةِ دُونَ مَا بَعْدَهُ إِعْظَامًا. وَلَمْ يَقَعِ التَّأْكِيدُ بِالْخَفِيفَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: هَذَا وَقَوْلِهِ: {لَنَسْفَعًا بالناصية} وَفِي الْقَوَاعِدِ أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الجماعة الذكور كان ما قبلها مضمونا نَحْوُ يَا رِجَالُ اضْرِبُنَّ زَيْدًا وَمِنْهُ وَقَوْلِهِ تعالى: {لتؤمنن به ولتنصرنه} . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل} . فَإِنَّمَا جَاءَ قَبْلَهَا مَفْتُوحًا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الْجَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ وَلَا تَلْحَقُهُ وَاوُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالُوا نَحْنُ نَقُومُ لِيَكُونَ فِعْلُهُمْ كَفِعْلِ الْوَاحِدِ وَالرَّجُلُ الرَّئِيسُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ كَقَوْلِهِمْ فَلَمَّا دَخَلَتِ النُّونُ هَذَا الفعل مرة أخرى بني آخره معها عَلَى الْفَتْحِ لَمَّا كَانَ لَا يَلْحَقُهُ وَاوُ الْجَمْعِ وَإِنَّمَا يَضُمُّونَ مَا قَبْلَ النُّونِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ وَيَلْحَقُهَا وَاوُ الْجَمْعِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ وَاوَ الْجَمْعِ يَكُونُ مَا قَبْلَهَا مَضْمُومًا نَحْوَ قَوْلِكَ يَضْرِبُونَ فَإِذَا دَخَلَتِ النُّونُ حُذِفَتْ نُونُ الْإِعْرَابِ لِدُخُولِهَا وَحُذِفَ الْوَاوُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ النُّونِ وَبَقِيَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ مَضْمُومًا لِيَدُلَّ عَلَيْهِ. وَمِثْلُهُ: {لَنَكُونَنَّ من الخاسرين} فَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ مَفْتُوحًا لَمْ يُحْذَفْهَا وَلَكِنَّهَا تُحَرِّكُهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ نَحْوَ اخْشَوُنَّ زيدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 الْهَاءِ تَكُونُ ضَمِيرًا لِلْغَائِبِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ نَحْوُ: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يحاوره} . وَتَكُونُ لِبَيَانِ السَّكْتِ وَتَلْحَقُ وَقْفًا لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ وَإِنَّمَا تُلْحَقُ بِحَرَكَةِ بِنَاءٍ لَا تُشْبِهُ حَرَكَةَ الإعراب نحو: {ما هيه} . وكالهاء في {كتابيه} . و {حسابيه} . و {سلطانيه} . و {ماليه} وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُحْذَفَ وَصْلًا وَتُثْبَتَ وَقْفًا وَإِنَّمَا أُجْرِيَ الْوَصْلُ مَجْرَى الْوَقْفِ أَوْ وُصِلَ بنية الوقف في {كتابيه} و {حسابيه} . اتفاقا فأثبتت الهاء كذا عند الجميع الْقُرَّاءِ إِلَّا حَمْزَةَ فَإِنَّهُ حَذَفَ الْهَاءَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمِ الثَّلَاثِ وَأَثْبَتَهَا وَقْفًا أَعْنِي فِي مَالِيَهْ وَسُلْطَانِيَهْ وَمَاهِيَهْ فِي الْقَارِعَةِ لِأَنَّهَا فِي الْوَقْفِ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَحْصِينِ حَرَكَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وفي الوصل يستغني عنه فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِيَهْ وَحِسَابِيَهْ؟ قِيلَ: إِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 هَا كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ اسْمًا سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ وَثَانِيهِمَا: لِلتَّنْبِيهِ وَلَهَا مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَلْحَقَ الْأَسْمَاءَ الْمُبْهَمَةَ الْمُفْرَدَةَ نَحْوُ هَذَا وَتَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ وَلِهَذَا يَدْخُلُ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ومن هؤلاء من يؤمن به} وَيُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {لمثل هذا فليعمل العاملون} الثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ: {هَا أنتم أولاء تحبونهم} {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم} وَيَدُلُّ عَلَى دُخُولِ حَرْفِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ لَا يَخْلُوا إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ بِهِ الدُّخُولُ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ أَوِ الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْمُبْهَمَ فِي الْآيَتَيْنِ دَخَلَ عَلَيْهِمَا حَرْفُ الْإِشَارَةِ فَعُلِمَ أَنَّ دُخُولَهَا إِنَّمَا هو الْجُمْلَةِ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 هَلْ لِلِاسْتِفْهَامِ قِيلَ وَلَا يَكُونُ الْمُسْتَفْهِمُ مَعَهَا إِلَّا فِيمَا لَا ظَنَّ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ الْهَمْزَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِثْبَاتٌ فَإِذَا قُلْتَ أَعِنْدَكَ زَيْدٌ؟ فَقَدْ هَجَسَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ عِنْدَهُ فَأَرَدْتَ أَنْ تَسْتَثْبِتَهُ بِخِلَافِ هَلْ حَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ. وَقَدْ سَبَقَ فُرُوقٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى قَدْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وهل أتاك حديث موسى} {هل أتاك حديث الغاشية} {هل أتى على الأنسان} وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَلْ تَأْتِي لِلتَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} . أَيْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ وَكَذَا قَوْلُهُ: {هَلْ أتى على الأنسان} . على القوم بِأَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ فَإِنَّهُ تَوْبِيخٌ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ. وَتَأْتِي بِمَعْنَى مَا كَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغمام} وبمعنى ألا كقوله: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} وبمعنى الأمر نحو: {فهل أنتم منتهون} . وبمعنى السؤال: {هل من مزيد} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 وَبِمَعْنَى التَّمَنِّي: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حجر} وَبِمَعْنَى أَدْعُوكَ نَحْوُ: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تزكى} . فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ هَيْهَاتَ. لِتَبْعِيدِ الشَّيْءِ ومنه: {هيهات هيهات لما توعدون} قال الزجاج البعد لما توعدون وقيل: وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الزَّجَّاجِ أَوْقَعَهُ فِيهِ اللَّامُ فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ بَعُدَ الْأَمْرُ لِمَا تُوعَدُونَ أَيْ لأجله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 الواو الواو العاملة. حَرْفٌ يَكُونُ عَامِلًا وَغَيْرَ عَامِلٍ فَالْعَامِلُ قِسْمَانِ: جَارٌّ وَنَاصِبٌ. فَالْجَارُّ وَاوُ الْقَسَمِ نَحْوُ: {وَاللَّهِ ربنا ما كنا مشركين} واو رُبَّ عَلَى قَوْلٍ كُوفِيٍّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَرَّ بِـ "رُبَّ" الْمَحْذُوفَةِ لَا بِالْوَاوِ. وَالنَّاصِبُ ثِنْتَانِ: وَاوُ مَعَ فَتَنْصِبُ الْمَفْعُولَ مَعَهُ عِنْدَ قَوْمٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَا قَبْلَ الْوَاوِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ شِبْهِهِ بِوَاسِطَةِ الْوَاوِ. وَالْوَاوُ الَّتِي يَنْتَصِبُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْأَجْوِبَةِ الثَّمَانِيَةِ وَأَنْ يُعْطَفَ بِهَا الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى قَوْلٍ كُوفِيٍّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاوَ فِيهِ عَاطِفَةٌ وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ. وَلَهَا قِسْمٌ آخَرُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ تُسَمَّى وَاوَ الصَّرْفِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ يَقْتَضِي إِعْرَابًا فَصَرَفَتْهُ الْوَاوُ عنه إلى النصب كقوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} على قراءة النصب. الواو غير العاملة وَأَمَّا غَيْرُ الْعَامِلَةِ فَلَهَا مَعَانٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصْلُهَا الْعَاطِفَةُ تُشْرِكُ فِي الْإِعْرَابِ وَالْحُكْمِ وَهِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ قَبْلَهُ وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ فَمِنَ الْأَوَّلِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها} فَإِنَّ الْإِخْرَاجَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الزِّلْزَالِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ قَضِيَّةِ الْوُجُودِ لَا مِنَ الْوَاوِ. وَمِنَ الثاني: {واسجدي واركعي مع الراكعين} ،وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ شَرْعَهُمْ كَانَ مُخَالِفًا لِشَرْعِنَا فِي ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ: {مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدنيا نموت} أَيْ نَحْيَا وَنَمُوتُ. وَقَوْلِهِ: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ ليال وثمانية أيام} . وَالْأَيَّامُ هُنَا قَبْلَ اللَّيَالِي إِذْ لَوْ كَانَتِ اللَّيَالِي قَبْلَ الْأَيَّامِ كَانَتِ الْأَيَّامُ مُسَاوِيَةً لِلَّيَالِي وَأَقَلَّ. قَالَ الصَّفَّارُ: وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَقَالَ سَبْعَ لَيَالٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَأَمَّا ثَمَانِيَةٌ فَلَا يَصِحُّ عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ فَائِدَةٌ: وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خلقت وحيدا} {وذرني والمكذبين} أَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ كَوْنَ الْوَاوِ عَاطِفَةً وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ اتْرُكْنِي وَاتْرُكْ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَكَذَلِكَ اتْرُكْنِي وَاتْرُكِ الْمُكَذِّبِينَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَهُوَ وَاوُ "مَعَ" كقولك لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 والثاني: واو الاستثناء وَتُسَمَّى وَاوَ الْقَطْعِ وَالِابْتِدَاءِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى وَلَا مُشَارِكَةٍ فِي الْإِعْرَابِ وَيَكُونُ بَعْدَهَا الْجُمْلَتَانِ. فَالِاسْمِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وأجل مسمى عنده} وَالْفِعْلِيَّةُ كَقَوْلِهِ: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} {هل تعلم له سميا ويقول الأنسان} . والظاهر أنها الواو العاطفة لكنها تعطف لجمل الَّتِي لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْمُفْرَدَاتِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا. الثَّالِثُ: وَاوُ الْحَالِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَهِيَ عِنْدَهُمْ مُغْنِيَةٌ عَنْ ضَمِيرِ صَاحِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وطائفة قد أهمتهم} وقوله: {لئن أكله الذئب ونحن عصبة} وَقَوْلِهِ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فريقا من المؤمنين لكارهون} وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ نَحْوُ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وأنتم تعلمون} {وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} {لم تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ ألوف حذر الموت} {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى ما تعملون} {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء} {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} . الرَّابِعُ: لِلْإِبَاحَةِ نَحْوُ جَالِسِ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ لأنك أمرت بمجالستهما معا. قال وعلى هذا أخذ مالك قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية الْخَامِسُ: وَاوُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ بَعْدَ السَّبْعَةِ إِيذَانًا بِتَمَامِ الْعَدَدِ فَإِنَّ السَّبْعَةَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْعَقْدُ التَّامُّ كَالْعَشْرَةِ عِنْدَنَا فَيَأْتُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ الدَّالِّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَتَقُولُ خَمْسَةٌ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ فَيَزِيدُونَ الْوَاوَ إِذَا بَلَغُوا الثَّمَانِيَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدُوسٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {سبع ليال وثمانية أيام} وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ خَالَوَيْهِ وَغَيْرِهِ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تعالى: {وثامنهم كلبهم} . بعد ما ذُكِرَ الْعَدَدُ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى في صفة الجنة: {وفتحت أبوابها} . بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا ثَمَانِيَةٌ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ النار: {فتحت أبوابها} . بِغَيْرِ الْوَاوِ لِأَنَّهَا سَبْعَةٌ وَفُعِلَ ذَلِكَ فَرْقًا بينهما. وقوله: {والناهون عن المنكر} . بَعْدَ مَا ذَكَرَ قَبْلَهَا مِنَ الصِّفَاتِ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقِيلَ دَخَلَتْ فِيهِ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي حَالِ أَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ فَهُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: {ثَيِّبَاتٍ وأبكارا} مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ لِأَنَّ الْوَاوَ لَوْ أُسْقِطَتْ مِنْهُ لَاسْتَحَالَ الْمَعْنَى لِتَنَاقُضِ الصِّفَتَيْنِ. وَلَمْ يُثْبِتِ الْمُحَقِّقُونَ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ وَأَوَّلُوا مَا سَبَقَ عَلَى الْعَطْفِ أَوْ وَاوِ الْحَالِ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي آيَةِ الْجَنَّةِ لِبَيَانِ أَنَّهَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً قَبْلَ مَجِيئِهِمْ وَحُذِفَتْ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُغْلَقَةً قَبْلَ مَجِيئِهِمْ. وَقِيلَ: زِيدَتْ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ عَلَامَةً لِزِيَادَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى غَضَبِهِ وَعُقُوبَتِهِ وَفِيهَا زِيَادَةُ كَلَامٍ سَبَقَ فِي مَبَاحِثِ الْحَذْفِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تَأْتِي فِي الصِّفَاتِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ وَلَيْسَ كذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 بَلْ يَجُوزُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ قَالَ تعالى: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} . وَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وتقول جاءني زيد والعالم. السادس: الزيادة لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} . بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتِ الْوَاوُ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهَا أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ وَضَابِطُهُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جُمْلَةِ صِفَةٍ لِلنَّكِرَةِ نَحْوُ جَاءَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ ثَوْبٌ آخَرُ وَكَذَا: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وَقَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَتَابَعَهُ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ فِي الْأَزْهَرِيَّةِ فَقَالَ وَتَأْتِي الْوَاوُ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا إِلَّا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ حَسَنٌ وَفِي الْقُرْآنِ مِنْهُ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} . وَقَالَ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} . انْتَهَى وَأَجَازَهُ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خير لكم} . فَقَالَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نصب صفة لـ "شيء" وَسَاغَ دُخُولُ الْوَاوِ لَمَّا كَانَتْ صُورَةُ الْجُمْلَةِ هُنَا كَصُورَتِهَا إِذَا كَانَتْ حَالًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 وَأَجَازَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى قَرْيَةٍ وهي خاوية} ، فقال: الجملة في موضع جر صفة لـ "قرية" وأما قوله: {فاضرب به ولا تحنث} فَقِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا جَوَابَ الْأَمْرِ بِتَقْدِيرِ اضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ. وَيُتَحَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض ولنعلمه} قِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: وَلِنُعَلِّمَهُ فِعْلَنَا ذَلِكَ. كذلك: {وحفظا من كل شيطان} أي وحفظا فعلنا ذلك وقيل: في قوله: {وفتحت أبوابها} : إِنَّهَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ أَيْ سُعِدُوا وَأُدْخِلُوا وَقِيلَ: وَلِيُعْلَمَ فِعْلُنَا ذَلِكَ وَكَذَلِكَ: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} أي حفظا فعلنا ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وناديناه أن يا إبراهيم} . أَيْ نَادَيْنَاهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ وَالتَّقْدِيرُ عُرِفَ صَبْرُهُ وَنَادَيْنَاهُ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ من الموقنين} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ} . أي لنعلم. وقوله: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ إِذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إذا السماء انشقت} مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا إِذَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا الْأَرْضُ مدت} وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ وَقْتَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ هُوَ وَقْتُ مَدِّ الْأَرْضِ وَانْشِقَاقِهَا وَاسْتَبْعَدَهُ أَبُو الْبَقَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَبَرَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ ولا فائدة في إعلامنا بأن الوقت الِانْشِقَاقِ فِي وَقْتِ الْمَدِّ بَلِ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ عِظَمُ الْأَمْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: بِأَنَّ زيادة الواو تغلب فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ تُحْذَفُ كَثِيرًا مِنَ الْجُمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قلت} أي وقلت والجواب قوله تعالى: {تولوا} وَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ ربكم توقنون} وفي قول أَكْثَرُ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رب السماوات والأرض} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وكانوا يصرون على الحنث العظيم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 وَيْكَأَنَّ قَالَ الْكِسَائِيُّ كَلِمَةُ تَنَدُّمٍ وَتَعَجُّبٍ قَالَ تعالى: {ويكأن الله يبسط الرزق} {ويكأنه لا يفلح الكافرون} وَقِيلَ: إِنَّهُ صَوْتٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّنَدُّمِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ مُسَمَّاهُ نَدِمْتُ أَوْ تَعَجَّبْتُ. وَقَالَ الصَّفَّارُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ أَلَمْ تَرَ فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ أَرَادُوا تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى وَيْلَكَ فَكَانَ يَنْبَغِي كسر إن. وقيل: وي تنبيه وكأن لِلتَّشْبِيهِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ كَأَنَّ زَائِدَةً لَا تُفِيدُ تَشْبِيهًا وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ الْأَمْرُ يُشْبِهُ هَذَا بَلْ هُوَ كَذَا. قُلْتُ: عَنْ هَذَا اعْتَذَرَ سِيبَوَيْهِ فَقَالَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ انْتَبَهُوا فَتَكَلَّمُوا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِمْ أَوْ نُبِّهُوا فَقِيلَ لَهُمْ أَمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَا عِنْدَكُمْ هَكَذَا. وَهَذَا بَدِيعٌ جِدًّا كَأَنَّهُمْ لَمْ يُحَقِّقُوا هَذَا الْأَمْرَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِلَّا ظَنٌّ فَقَالُوا نُشَبِّهُ أَنْ يَكُونَ الأمر كذا ونهوا ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَكَذَا عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ انْتَهَى وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ كَأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ بَلِ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ حَرْفًا لِلْخِطَابِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمَ فِعْلٍ لَمْ يُضَفْ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ بِكَمَالِهِ اسْمٌ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ وَيْلَكَ فَحُذِفَتِ اللَّامُ وَفُتِحَتْ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ بِاسْمِ الْفِعْلِ قَبْلَهَا. وَأَمَّا الْوَقْفُ فَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ يَقِفَانِ عَلَى الْكَافِ عَلَى مُوَافَقَةِ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْكِسَائِيُّ يَقِفُ عَلَى الْيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا قِرَاءَتَهُمْ مِنْ نَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا أَخَذُوهَا نَقْلًا وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُمْ فِي النَّحْوِ وَلَمْ يَكْتُبُوهَا مُنْفَصِلَةً لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ بِهَا الْكَلَامُ وُصِلَتْ وَيْلٌ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَيْلٌ تَقْبِيحٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مما تصفون} . وَقَدْ تُوضَعُ مَوْضِعَ التَّحَسُّرِ وَالتَّفَجُّعِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {يا ويلتنا} {يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغراب} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 يَا لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَمِنْهُ قَوْلُ الدَّاعِي يَا اللَّهُ وَهُوَ {أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حبل الوريد} . اسْتِصْغَارًا لِنَفْسِهِ وَاسْتِبْعَادًا لَهَا مِنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى. وَقَدْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ إِذَا كَانَ سَاهِيًا أو غافلا تنزيلا الْبَعِيدِ. وَقَدْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ الَّذِي لَيْسَ بِسَاهٍ وَلَا غَافِلٍ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَى النِّدَاءِ فِي مَحَلِّ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِ الْمُنَادَى. وَقَدْ تُحْذَفُ نَحْوُ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة} {قال ابن أم} وقد قيل في قوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل} . فِي قِرَاءَةِ تَخْفِيفِ مَنْ إِنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلنِّدَاءِ أَيْ يَا صَاحِبَ هَذِهِ الصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ تَأْتِي لِلتَّأَسُّفِ وَالتَّلَهُّفِ نَحْوُ: {أَلَّا يسجدوا} وَقِيلَ لِلتَّنْبِيهِ قَالَ: وَلِلتَّلَذُّذِ نَحْوُ: يَا بَرْدَهَا عَلَى الْفُؤَادِ لَوْ تَقِفْ* وَهَذَا مَعَ التَّوْفِيقِ كاف فحصلا* الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 فِي آخِرِ النُّسْخَةِ الْمَنْقُولِ مِنْهَا مَا مِثَالُهُ. تَمَّتِ النُّسْخَةُ الْمُبَارَكَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْنِهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مُقَرِّبًا بِالْفَوْزِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ السَّعِيدِ رَابِعَ عَشَرَ شَهْرِ شَعْبَانَ الْفَرْدِ مِنْ شُهُورِ سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ والحمد الله رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَغَفَرَ اللَّهُ لَنَا ولكم ولجميع المسلمين والحمد الله رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلَا ... فجل من لا فيه عيب وعلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446