الكتاب: الموافقات المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ) المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان الناشر: دار ابن عفان الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م عدد الأجزاء: 7   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الموافقات الشاطبي، إبراهيم بن موسى الكتاب: الموافقات المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ) المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان الناشر: دار ابن عفان الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م عدد الأجزاء: 7   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمات مقدمة المحقق ... مقدمة المحقق: إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومَن يُضلل؛ فلا هادي له. وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71] . أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 1 أما بعد؛ فقد مضت حركة الاجتهاد في الدين؛ قوية سديدة، مطردة نامية، خصبة الإنتاج، ميمونة الولائد؛ من منتصف القرن الثاني، حيث بدأ استقرار المذاهب بوضع الأصول، وتمييز العام منها الجامع بين المذاهب المختلفة، والخاص الذي ينفرد به مذهب عن مذهب آخر، وتتابع تولد المذاهب إلى منتصف القرن الرابع، فكلما قطع واحد منها دور التأصيل على يد مؤسسه ومتخذ أصوله؛ دخل في دور التفريع، وهو دور الاجتهاد المقيد؛ فتلاحقت المذاهب على دور التفريع إلى استهلال القرن الخامس، وهنالك تمحض الفقه لعمل جديد هو عمل التطبيق بتحقيق الصور وضبط المحامل؛ فكان اجتهاد جديد هو الاجتهاد في المسائل، ثم دخل الفقه في أوائل القرن السادس دون الترجيح، وهو دور اجتهاد نظري، يعتمد درس الأقوال وتمحيصها والاختيار فيها بالترجيح والتشهير، حتى انتهى ذلك الاختيار إلى عمل تصفية، برز في دور التقنين، بتأليف مختصرات محررة على طريقة الاكتفاء بأقوال تثبت، هي الراجحة المشهورة، وأقوال تلغى هي التي ضعفها النظر في الدور الماضي باعتبار أسانيدها أو باعتبار مداركها أو باعتبار قلة وفائها بالمصلحة التي تستدعيها مقتضيات الأحوال. وبذلك وقف سير الفقه عند تلك المختصرات، وأقبل الفقهاء يجمعون دراساتهم حول المختصرات، مقتصرين في تخريج المسائل عليها في حال أن صورا من الوقائع الحادثة التي لم تشتمل تلك المختصرات على نصوص أحكامها كانت تتعاقب ملحة في طلب الأجوبة التي تحل مشاكلها، والأحكام التي تقرر وجهة السير فيها. فكان ذلك ملفتا أنظار الفقهاء إلى ضيق النطاق الالتزامي الذي ضربوه على أنفسهم باقتصار على المختصرات، وحاديا بهم إلى الرجوع إلى المجال الأوسع: مجال الأقوال العديدة، والآراء المتباينة داخل كل مذهب، ذلك الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 2 المجال الذي لم يزل يستفحل به الهجران منذ القرن السادس. وبتلك الرجعة التي خرج بها الفقه عن نطاق الالتزام؛ وجد الفقهاء أنفسهم في وضع حرج دقيق، من حيث إن المجتمع الإسلامي بما شاع فيه من الضعف والانحلال قد أخذ ينزلق خارج نطاق الحدود والأخلاق الشرعية؛ حتى أصبحت صور الحياة الفردية والاجتماعية مختلفة في نسب متفاوتة عن المُثُل العليا التي رسمتها أحكام الدين الإسلامي. ومن حيث إن الفقيه الذي يضطلع بواجبه في تقويم الحياة الفردية والاجتماعية على مبادئ الدين وتعاليمه يكون بين أمرين: إما أن يحاول حمل الناس على الطريقة الملتزمة والأحكام التي تعاقبت الأجيال منذ قرنين وأكثر على احترامها بحرمة الدين والانكسار من الخروج عنها مخالفة وعصيانا؛ فيكون في حملهم على ذلك من أعنات المكلفين، وتحجير الواسع، والتزام ما لا يلزم ما لا يرضاه لنفسه وللناس الفقيه الموفق. وإما أن يجر الفقيه عامة الناس وراءه إلى المجال الأوسع الذي يصبو إليه؛ حيث الاختلاف، والأنظار، وأعمال المناسبات والضرورات؛ فيكون قد جرأهم على ما كانوا مشفقين منه، مستعظمين لأمره، غير مستهترين فيه؛ من مخالفة الأحكام التي عرفوها ودانوا بها، وبذلك ينفتح للأهواء باب يلج منه كل إنسان إلى اختيار ما يوافق ميله، وينسجم مع حالته؛ فيصبح الدين أمرا نسبيا إضافيا، يختلف عند كل شخص أو جماعة عما هو عليه عند شخص آخر أو جماعة آخرين؛ حتى تختل الشريعة وتنحل عراها. لا سيما وقد ألف الناس أمورا شائعة بينهم لم يزالوا يألفونها والعلماء ينكرونها، وهي التي يشنع العلماء على الناس أخذهم بها, باعتبار كونها من البدع على النحو الذي أورده أبو بكر الطرطوشي، فإذا فتح باب الاختيار والخروج عن الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 3 الأحكام الفقهية المألوفة، والحكم على بعض الأشياء بالحسن والمشروعية، مع أن السلف لم يحسنوها ولم يقروا مشروعيتها؛ فإنهم لا يلبثون أن يجروا البدع ذلك المجرى، ويتأولوا لها أوجها تئول بها إلى الحسن والمشروعية؛ فكيف يستطاع بعد ذلك تغيير المنكر ومقاومة البدعة؟! تلك هي دقة الموقف الحرج الذي وقفه الفقهاء في القرن الثامن، وذلك هو سر البطولة الفكرية التي تمثلت في أول متحرك للخروج بالفقه وأهله من ذلك الموقف الحرج الدقيق، وهو: الإمام أبو إسحاق الشاطبي1. التعريف بكتاب الموافقات2: لما كان الكتاب العزيز هو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وكانت السنة راجعة في معناها إليه؛ تُفَصِّل مجمله، وتُبيِّن مشكله، وتبسط موجزه؛ كان لا بد -لِمُريد اقتباس أحكام هذه الشريعة بنفسه- من الرجوع إلى الكتاب والسنة، أو إلى ما تفرع عنهما بطريق قطعي من الإجماع والقياس. ولما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب، وكانت لهم عادات في الاستعمال، بها يتميز صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ، وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَعَامِّهِ وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ونصه وفحواه، إلى غير ذلك؛ كان لا بد -لطالب الشريعة من هذين الأصلين- أن يكون على علم بلسان العرب في مناحي خطابها، وما تنساق إليه أفهامُها في كلامها؛ فكان حذق اللغة العربية بهذه الدرجة ركنا من أركان الاجتهاد؛ كما تقرر ذلك عند عامة الأصوليين، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "رسالة الأصول".   1 انظر: "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي" "70-72" للشيخ محمد الفاضل بن عاشور. 2 ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 4 هذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتفق لمجرد إدخال الناس تحت سُلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معا، وروعي في كل حُكم منها: إما حفظ شيء من الضروريات الخمس1 "الدِّينُ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال"، التي هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة. وإما حفظ شيء من الحاجيات؛ كأنواع المعاملات، التي لولا ورودها على الضروريات لوقع الناس في الضيق والحرج. وإما حفظ شيء من التحسينات، التي ترجع إلى مكارم الخلاق ومحاسن العادات. وإما تكميل نوع من النواع الثلاثة بما يُعين على تحققه. ولا يخلو بابٌ من أبواب الفقه -عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها- من رعاية هذه المصالح، وتحقيق هذه المقاصد، التي لم توضع الأحكام إلا لتحقيقها. ومعلوم أن هذه المراتب الثلاث تتفاوت في درجات تأكد الطلب لإقامتها، والنهي عن تعدي حدودها. وهذا بحرٌ زاخر، يحتاج إلى تفاصيل واسعة، وقواعد كلية، لضبط مقاصد الشارع فيها "من جهة قصده لوضع الشريعة ابتداء، وقصده في وضعها للأفهام بها، وقصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وقصده في دخول المكلف تحت حكمها".   1 في الأصل: "الخمسة". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 5 تحقيق هذه المقاصد، وتحرِّي بسطها، واستقصاء تفاريعها، واستثمارها من استقراء موارد الشريعة فيها؛ هو معرفة سر التشريع، وعلم ما لا بد منه لمن يحاول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. إذ إنه لا يكفي النظر في هذه الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا؛ لتضاربت بين يديه الجزئيات، وعارض بعضها بعضا في ظاهر الأمر، إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشارع، ليعرف به ما يأخذ منها وما يدع؛ فالواجب إذًا اعتبار الجزئيات بالكليات، شَأْنَ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ كُلِّيَّاتِهَا فِي كُلِّ نَوْعٍ من أنواع الموجودات. وإلى هذا أشار الغزالي فيما نقله عن الشافعي، بعد بيان مفيد فيما يُراعيه المجتهد في الاستنباط؛ حيث قال: "ويُلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدِّمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل؛ فتُقدَّم قاعدة الرَّدْع، على مراعاة الاسم الوارد في الجزئي". ومن هذا البيان عُلِم أن لاستنباط أحكام الشريعة رُكْنَين: أحدهما: علم لسان العرب. وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها. أما الركن الأول؛ فقد كان وصفا غريزيا في الصحابة والتابعين من العرب الخلص، فلم يكونوا في حاجة لقواعد تضبطه لهم، كما أنهم كسبوا الاتصاف بالركن الثاني من طول صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفتهم الأسباب التي ترتب عليها التشريع، حيث كان ينزل القرآن وتردُ السنة نجوما، بحسب الوقائع مع صفاء الخاطر؛ فأدركوا المصالح، وعرفوا المقاصد التي راعاها الشارع في التشريع، كما يعرف ذلك من وقف على شيء من محاوراتهم عند أخذ رأيهم واستشارة الأئمة لهم في الأحكام الشرعية التي كانوا يتوقفون فيها. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 6 وأما من جاء بعدهم ممن لم يحرز هذين الوصفين؛ فلا بد له من قواعد تضبط له طريق استعمال العرب في لسانها، وأخرى تضبط له مقاصد الشارع في تشريعه للأحكام، وقد انتصب لتدوين هذه القواعد جملة من الأئمة بين مقل ومكثر، وسموها "أصول الفقه". ولما كان الركن الأول هو الحذق في اللغة العربية؛ أدرجوا في هذا الفن ما تمس إليه حاجة الاستنباط بطريق مباشر مما قرره أئمة اللغة، حتى إنك لترى هذا النوع من القواعد هو غالب ما صُنف في أصول الفقه، وأضافوا إلى ذلك ما يتعلق بتصور الأحكام، وشيئا من مقدمات علم الكلام ومسائله. وكان الأجدر -في جميع ما دونوه- بالاعتبار من صلب الأصول هو ما يتعلق بالكتاب والسنة من بعض نواحيهما، ثم ما يتعلق بالإجماع والقياس والاجتهاد. ولكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالا؛ فلم يتكلموا على مقاصد الشارع، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب الإفضاء إليها، وأنها بحسب الأول ثلاثة أقسام: ضروريات، وحاجيات، وتحسينات ... إلخ، مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جلبت إلى الأصول من علوم أخرى. وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك، دائر بين تلخيص وشرح, ووضع له في قوالب مختلفة. وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه؛ حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 7 الهجري لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل؛ فحلل هذه المقاصد إلى أربعة أنواع، ثم أخذ يفصل كل نوع منها وأضاف إليها مقاصد المكلف في التكليف، وبسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة وتسعة وأربعين فصلا من كتابه "الموافقات"، تجلى بها كيف كانت الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام لجميع البشر دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية؛ لأنها مراعى فيها مجرى العوائد المستمرة، وأن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس اختلافا في الخطاب الشرعي نفسه، بل عند اختلاف العوائد ترجع كُلُّ عَادَةٍ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ يُحكمُ بِهِ عليها، وأن هذه الشريعة -كما يقول- خاصيتها السماح، وشأنها الرفق، تَحْمِلُ الْجَمَّاءَ الْغَفِيرَ؛ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا، وَتَهْدِي الْكَافَّةَ؛ فهيما وغبيا. المباحث التي أغفلوها فيما تكلموا عليه1: لم تقف به الهمة في التجديد والعمارة لهذا الفن عند حد تأصيل القواعد وتأسيس الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، بل جال في تفاصيل مباحث الكتاب أوسع مجال، وتوصل باستقرائها إلى استخراج درر غوال لها أوثق صلة بروح الشرعية، وأعرق نسب بعلم الأصول؛ فوضع في فاتحة كتابه ثلاث عشرة قاعدة، يتبعها خمسة فصول جعلها لتمهيد هذا العلم أساسا، ولتمييز المسائل التي تعتبر من الأصول نبراسا، ثم انتقل منها إلى قسم الأحكام الخمسة الشرعية والوضعية، وبحث فيها من وجهة غير الوجهة المذكورة في كتب الأصول، وأمعن بوجه خاص في المباح، والسبب، والشرط، والعزائم، والرخص.   1 ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز أيضا. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 8 وناهيك في هذا المقام أنه وضع في ذلك ربع الكتاب، تصل منه إلى علم جم، وفقه في الدين، وقد رتب عليه في قسم الأدلة قواعد ذات شأن في التشريع، وهناك يبين ابتناء تلك القواعد على ما قرره في قسم الأحكام؛ حتى لترى الكتاب آخذا بعضه بحجز بعض. ثم إن عرائس الحكمة ولباب الأصول، التي رسم معالمها وشد معاقلها في مباحث الكتاب والسنة، ما كان منها مشتركا وما كان خاصا بكل منهما، وعوارضهما؛ من الأحكام، والتشابه، والنسخ، والأوامر، والنواهي، والخصوص، والعموم، والإجمال، والبيان، هذه المباحث التي فتح الله عليه بها لم تسلس له قيادها، وتكشف له قناعها؛ إلا باتخاذه القرآن الكريم أنيسه، وجعله سميره وجليسه على ممر الأيام والأعوام، نظرا وعملا، وباستعانته على ذلك بالاطلاع والإحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في كلام الأئمة السابقين، والتزود من آراء السلف المتقدمين، مع ما وهبه الله من قوة البصيرة بالدين، حتى تشعر وأنت تقرأ في الكتاب كأنك تراه وقد تسنم ذروة طود شامخ، يشرف منه على موارد الشريعة ومصادرها، يحيط بمسالكها، ويبصر بشعابها, فيصف عن حس، ويبني قواعد عن خبرة، ويمهد كليات يشدها بأدلة الاستقراء من الشريعة؛ فيضم آية إلى آيات، وحديثا إلى أحاديث، وأثرا إلى آثار؛ عاضدا لها بالأدلة العقلية والوجوه النظرية حتى يدق عنق الشك، ويسد مسالك الوهم، ويظهر الحق ناصعا بهذا الطريق الذي هو نوع من أنواع التواتر المعنوي، ملتزما ذلك في مباحثه وأدلته حتى قال بحق: إن هذا المسلك هو خاصية كتابه. ولقد أبان في هذه المسائل منزلة الكتاب من أدلة الشريعة، وأنه أصل لجميع هذه الأدلة، وأن تعريفه للأحكام كلي، وأنه لا بد له من بيان السنة، كما بيَّن أقسام العلوم المضافة إلى القرآن، وما يحتاج إليه منها في الاستنباط وما لا يحتاج إليه، وتحديد الظاهر والباطن من القرآن، وقسم الباطن الذي يصح الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 9 الاستنباط منه والذي لا يصح الاستنباط منه، وأثبت أن المكي اشتمل على جميع كليات الشريعة، والمدني تفصيل وتقرير له، وأنه لا بد من تنزيل المدني على المكي، وأن النسخ لم يرد على الكليات مطلقا، وإنما ورد على قليل من الجزئيات لأسباب مضبوطة، وحدد الضابط للحد الأعدل الأوسط في فهم الكتاب العزيز الذي يصح أن يبنى عليه اقتباس الأحكام منه، ثم بين رتبة السنة ومنزلتها من الكتاب، وأنها لا تخرج في أحكام التشريع عن كليات القرآن1، وأثبت ذلك كله بما لا يدع في هذه القواعد شبهة. وقد جعل تمام الكتاب باب الاجتهاد ولواحقه؛ فبيَّن أنواع الاجتهاد، وما ينقطع منها، وما لا ينقطع إلى قيام الساعة، وأنواع ما ينقطع، وما يتوقف منها على الركنين -حذق اللغة العربية حتى يكون المجتهد في معرفة تصرفاتها كالعرب، وفهم مقاصد الشريعة على كمالها- وما يتوقف منها على الثاني دون الأول، وما لا يتوقف على واحد منهما. ثم أثبت أن الشريعة ترجع في كل حكم إلى قول واحد، مهما كثر الخلاف بين المجتهدين في إدراك مقصد الشارع في حكم من الأحكام، وبنى على هذا الأصل طائفة من الكليات الأصولية، ثم بين محال الاجتهاد، وأسباب عروض الخطأ فيه ... إلخ. وفيما ذكرناه إشارة إلى قطرة من ساحل كتاب "الموافقات" الذي لو اتخذ منارا للمسلمين بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لكان منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة، يتبجحون بأنهم أهل للاجتهاد مع خلوهم من كل وسيلة، وتجردهم من الصفات التي تدنيهم من هذا   1 اعتنى الشيخ العلامة عبد الغني عبد الخالق بمناقشة أدلة المصنف حول هذا الزعم عناية دقيقة فائقة، وذكرنا مناقشاته عند كلام المصنف في المجلد الأخير من كتابنا هذا الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 10 الميدان؛ سوى مجرد الدعوى، وتمكن الهوى، وترك أمر الدين فوضى بلا رقيب. فترى فريقا ممن يستحق وصف الأمية في الشريعة يأخذ ببعض جزئياتها يهدم به كُلِّيَّاتِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا إِلَى مَا ظَهَرَ له ببادئ الرأي من غير إحاطة بمقاصد الشارع لتكون ميزانا في يده لهذه الأدلة الجزئية، وفريقا آخر يأخذ الأدلة الجزئية مأخذ الاستظهار على غرضه في النازلة العارضة؛ فيحكِّم الهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تبعا لغرضه، من غير إحاطة بمقاصد الشريعة ولا رجوع إليها رجوع الافتقار، ولا تسليم لما روي عن ثقات السلف في فهمها، ولا بصيرة في وسائل الاستنباط منها، وما ذلك إلا بسبب الأهواء المتمكنة من النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل، واطراح النصفة وعدم الاعتراف بالعجز، مضافا ذلك كله إلى الجهل بمقاصد الشريعة والغرور بتوهم بلوغ درجة الاجتهاد1، وإنها لمخاطرة في اقتحام المهالك, أعاذنا الله. ونعود إلى الموضوع؛ فنقول: إن صاحب "الموافقات" لم يذكر في كتابه مبحثا واحدا من المباحث المدونة في كتب الأصول؛ إلا إشارة في بعض الأحيان لينتقل منها إلى تأصيل قاعدة، أو تفريع أصل, ثم هو مع ذلك لم يغض من فضل المباحث الأصولية، بل تراه يقول في كثير من مباحثه: إذا أضيف هذا إلى ما تقرر في الأصول أمكن الوصول إلى المقصود.   1 نجد محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" "7/ 197-198" ينظر نظرة أخرى لهذا الموقف السلبي من "المقاصد"، ويعتذر لهم بأنهم كانوا خائفين على الشريعة من الهدم، ويذكر أنهم "فروا من تقرير هذا الأصل تقريرا صريحا -مع اعتبارهم كلهم له- خوفا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم، وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم؛ فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية؛ فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسائل العلة في القياس". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 11 وجملة القول أن كلا مما ذكره في كتب الأصول، وما ذكره في "الموافقات"؛ يعتبر كوسيلة لاستنباط الأحكام من أدلة الشريعة؛ إلا أن القسم المذكور في الأصول على كثرة تشعبه، وطول الحجاج في مسائله، تنحصر فائدته في كونه وسيلة؛ حتى لطالما أوردوا على المشتغلين به الاعتراض بأنه لا فائدة فيه إلا لمن يبلغ درجة الاجتهاد؛ فكان الجواب الذي يقال دائما: إن فائدته لغير المجتهد أن يعرف كيف استنبطت الأحكام، ولكن التسليم بهذا الجواب يحتاج إلى تسامح وإغضاء كثير؛ لأنه إنما يعرف به بعض أجزاء وسيلة الاستنباط مفككة منثورة، والبعض الآخر -وهو المتعلق بركن معرفة مقاصد الشريعة- فاقد, وما مثله في هذه الحالة إلا كمثل من يريد أن يعلمك صنعة النساجة فيعرض عليك بعض أجزاء آلة النسيج محلولة مبعثرة الأجزاء، ولا تخفى ضئولة تلك الفائدة. أما القسم الذي ذكره الشاطبي في الأجزاء الأربعة من كتابه؛ فهو وإن كان كجزء من وسيلة الاستنباط، يعرف به كيف استنبط المجتهدون أيضا؛ إلا أنه في ذاته فقه في الدين، وعلم بنظام الشريعة، ووقوف على أسس التشريع، فإن لم نصل منه إلى الاتصاف بصفة الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط؛ فإنا نصل منه إلى معرفة مقاصد الشارع، وسر أحكام الشريعة، وإنه لهدى تسكن إليه النفوس، وإنه لنور يشرق في نواحي قلب المؤمن؛ يدفع عنه الحيرة، ويطرد ما يلم به من الخواطر، ويجمع ما زاغ من المدارك؛ فلله ما أفاد الشريعة الإسلامية هذا الإمام رضي الله عنه! السبب في عدم تداول الكتاب1: بقي أن يقال: إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة   1 ما تحته مأخوذ من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 12 على ما وصفت؛ فلماذا حجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه من الإذاعة، بَلْهَ العكوف على تقريره، ونشره بين علماء الشرق، فلو لم تكن الكتب المشتهرة أكثر منه فائدة ما احتجب واشتهرت؟ وجوابه: أن هذا منقوض؛ فإنه لا يلزم من الشهرة عدمها فضل ولا نقص، فالكتب عندنا كالرجال؛ فكم من فاضل استتر، وعاطل ظهر؟ ويكفيك تنبيها على فساد هذه النظرية ما هو مشاهد؛ فهذا كتاب "جمع الجوامع بشرح المحلى" بقي قرونا طويلة، هو كتاب الأصول الوحيد الذي يدرس في الأزهر ومعاهد العلم بالديار المصرية، مع وجود مثل "الإحكام" للآمدي، وكتابي "المنتهى" و"المختصر" لابن الحاجب, و"التحرير"، و"المنهاج" و"مسلم الثبوت"، وغيرها من الكتب المؤلفة في نفس القسم الذي اشتمل عليه "جمع الجوامع". وقد نسجت عليها عناكب الإهمال؛ فلم يبرز بعضها للتداول والانتفاع بها إلا في عهدنا الأخير، ولا يختلف اثنان في أن "جمع الجوامع" أقلها غناء، وأكثرها عناء. وإنما يرجع خمول ذكر الكتاب إلى أمرين1: أحدهما: المباحث التي اشتمل عليها. وثانيهما: طريقة صوغه وتأليفه.   1 يضاف إليهما ما انتشر من أساليب عقيمة في درس العلوم وتحصيلها بداية من القرن التاسع؛ فقد أخذ الناس يعكفون على "المختصرات" يحفظونها، ويرددون أقوال غيرهم، وتركوا الاجتهاد والبحث والابتكار. انظر: "أليس الصبح بقريب" "79" لمحمد الطاهر بن عاشور، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص107" لحمادي العبيدي. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 13 فالأول كون هذه المباحث مبتكرة مستحدثة لم يُسبق إليها المؤلف كما أشرنا إليه، وجاءت في القرن الثامن بعد أن تم للقسم الآخر من الأصول تمهيده وتعبيد طريقه، وألفه المشتغلون بعلوم الشريعة وتناولوه بالبحث والشرح والتعلم والتعليم، وصار في نظرهم هو كل ما يطلب من علم الأصول؛ إذ إنه عندهم كما قلنا وسيلة الاجتهاد الذي لم يتذوقوه, فلا يكادون يشعرون بنقص في هذه الوسيلة, فلم تتطاول همة من سمع منهم بالكتاب إلى تناوله وإجهاد الفكر في مباحثه، واقتباس فوائده، وضمها إلى ما عرفوا، والعمل على إلفها فيما ألفوا، ولفْتِ طلاب العلم إليها، وتحريك هممهم وإعانتهم عليها. والثاني أن قلم أبي إسحاق -رحمه الله- وإن كان يمشي سويا ويكتب عربيا نقيا؛ كما يشاهد ذلك في كثير من المباحث التي يخلص فيها المقام لذهنه وقلمه؛ فهناك ترى ذهنا سيالا، وقلما جوالا، قد تقرأ الصفحة كاملة لا تتعثر في شيء من المفردات ولا أغراض المركبات؛ إلا أنه في مواطن الحاجة إلى الاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية، والرجوع إلى المباحث المقررة في العلوم الأخرى، يجعل القارئ ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط؛ لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضا يعول في سياقه عليه؛ فهو يكتب بعد ما أحاط بالسنة، وكلام المفسرين، ومباحث الكلام، وأصول المتقدمين، وفروع المجتهدين، وطريق الخاصة من المتصوفين، ولا يسعه أن يحشو الكتاب بهذه التفاصيل؛ فمن هذه الناحية وجدت الصعوبة في تناول الكتاب، واحتاج في تيسير معانيه وبيان كثير من مبانيه إلى إعانة مُعانيه، ومع هذا؛ فالكتاب يعين بعضه على بعض؛ فتراه يشرح آخره أوله وأوله آخره. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 14 مصادر الشاطبي وموارده في الكتاب: الشاطبي -رحمه الله- واسع الاطلاع، ينقل من كثير من الكتب، ولكنه قليل التصريح بأسمائها1، ويميل إلى الإلغاز والإبهام في ذلك، ولا سيما في كتابنا هذا وكتابه الآخر "الاعتصام"، خلافا لـ"الإفادات والإنشادات". والإمام مالك وكتبه وكتب مذهبه وأصحابه2 هي أكثر ما يذكر في كتابه هذا؛ فهو ينقل كثيرا من "الموطأ"، وصرح3 به مرارا؛ كما في "2/ 116، 295، 4/ 112، 131، 320 ... "، ومن شروحه كـ"القبس" لابن العربي كما في "3/ 197, 198، 199، 201 ... "، و"المنتقى" للباجي كما في "4/ 109"، ولم يصرح بهما. وينقل أيضا من "المدونة" وصرح بذلك في موطنين "1/ 387، 3/ 498"، ونقل منها ولم يصرح بها في مواطن، ومن "العتبية" وصرح بها في "2/ 361 و3/ 147، 158، 271 و4/ 110 و5/ 198"، ومن شرحها "البيان والتحصيل" ولم يصرح به، ونقل منه في مواطن كثيرة منها "3/ 498 و4/ 110". ونقل أيضا من كثير من كتب المالكية؛ كـ"الموَّازية" في "5/ 85"، و"نوازل ابن رشد" في "5/ 100"، و"مختصر ما ليس في المختصر" في "1/ 273"، و"الكافي" في "1/ 387"، و"المبسوطة" في "1/ 386، 387"، و"مقدّمات ابن رشد" في "1/ 187"، و"الأموال" للداودي "1/ 184"،   1 مع ملاحظة أنه يعزو الأقوال لقائليها إلا في القليل النادر. 2 على اختلاف فنونها؛ كأحكام للقرآن، أو شرح للحديث، أو الفقه، أو الأصول ... 3 ونقل منه ولم يصرح به مرارا أيضا، والظاهر أنه ينقل من روايات كثيرة منه؛ فها هو يعزو حديثا إليه في "4/ 320"، ولم أظفر به في رواياته الخمس المطبوعة للآن. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 15 وصرح بأسماء هذه الكتب. ونقل الشاطبي -وأكثر جدا- من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض -وصرح به في موطنين فقط، هما في "3/ 84 و5/ 96"- ومن "الرسالة" للقشيري، ومن "جامع بيان العلم"1 لابن عبد البر. وهو ينقل من هذه الكتب أخبار وتراجم وأقوال الصحابة والتابعين، وكذا أخبار مالك وأصحابه، وأخبار الزهاد والعابدين، وقصصهم وحكاياتهم، ونقل من "جامع بيان العلم" أيضا كثيرا من الأحاديث والأخبار والآثار، ومن كتاب ابن عبد البر الآخر "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء"؛ كما تراه في "3/ 203"، علما بأنه لم يصرح قط بأسماء هذه الكتب. ونقل الشاطبي من كثير من كتب التفسير وأحكام القرآن وفضائله وناسخه ومنسوخه ومشكله؛ مثل: "أحكام القرآن" لإسماعيل بن إسحاق وصرح به في "5/ 33"، و"أحكام القرآن" لابن العربي وصرح به في "5/ 196"، ونقل منه ولم يصرح به في مواطن كثيرة منها "2/ 273 و4/ 195"، ونقل مواطن من "تفسير سهل بن عبد الله التستري"؛ كما تراه في "4/ 162، 242، 245"، وكذا من كتاب "فضائل القرآن" لأبي عبيد وصرح بذلك في "1/ 51"، ونقل منه ولم يصرح في "4/ 148، 172"، ومن "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي وصرح به في "1/ 388 و3/ 340"، ولأبي عُبيد ولابن النحاس؛ كما تراه لهما في "3/ 340"، ولمكي بن أبي طالب؛ كما تراه في "3/ 346، 363" ولم يصرح بأسمائها، و"مشكل القرآن" لابن قتيبة وصرح به في "5/ 150" ولم يصرح به في "2/ 207". أما كتب الحديث والرواية والأخبار والرجال؛ فهو ينقل من دواوين السنة   1 انظر مثلا: "4/ 75 و5/ 107، 122-123". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 16 المشهورة؛ مثل: "الصحيحين"، و"الموطأ"، و"سنن أبي داود"، و"سنن الترمذي"، و"سنن النسائي". وينقل أيضا من "مسند البزار"، و"جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري"، و"الجهاد" لابن حبيب، و"مشكل الحديث"1 لابن قتيبة، و"فوائد الأخبار" للإسكاف، و"مشكل الآثار"2 للطحاوي، و"المؤتلف والمختلف" لعبد الغني بن سعيد الأزدي، و"الدلائل"3 لثابت، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض4، وصرح بأسماء هذه الكتب جميعا، وترى مواطن ذلك في فهرس الكتب في المجلد السادس. وقد ظفرتُ من خلال التحقيق بنقولات للشاطبي في كتابه هذا من كتب الحديث وشروحاته لم يصرِّح بأسمائها؛ مثل: "القبس"، و"المنتقى" -كلاهما شرح لـ"الموطأ"، ومضى بيان مواطن ذلك- و"المعلم بفوائد مسلم" للمازري في "3/ 456، 464-465 و5/ 290، 418، 420"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" في "3/ 70"، و"تهذيب الآثار" لابن جرير الطبري في "5/ 288"، و"إعلام الحديث شرح البخاري" للخطابي في "5/ 93". ووجدته ينقل أحاديث وآثارا من "الشفا" للقاضي عياض، و"البدع والنهي عنها" لابن وضاح، و"الإحياء" للغزالي. والغزالي من أكثر الأعلام المذكورين في كتاب الشاطبي هذا، وكتبه التي   1 ونقل منه ولم يصرح باسمه في "4/ 226، 234". 2 ونقل منه ولم يصرح باسمه في "3/ 275". 3 انظر عنه: كتابنا "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري" "رقم 536". 4 ونقل منه في "5/ 290" ولم يصرح باسمه. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 17 صرح بالنقل منها كثيرة؛ منها: "الإحياء" -وأكثر من النقل منه- و"إلجام العوام"، و"جواهر القرآن"، و"المستظهرية" -أو "فضائح الباطنية"- و"مشكاة الأنوار"، و"المنقذ من الضلال"1، و"بعض كتبه" في "5/ 289"، وهو من أكثر من يذكرهم من الأصوليين، وينقل من كتابه "المستصفى" ولم يصرح به2، ومن "شفاء الغليل" وصرح به في "5/ 20". ويليه في الذكر: الرازي، ونقل من كتابه "المحصول" كثيرا3، وصرح به في موطن واحد فقط هو في "2/ 76"، و"التنقيح" وصرح به أيضا في "2/ 76". ثم الجويني، ونقل منه كثيرا، وصرح بـ"البرهان" مرة واحدة في "1/ 364"، و"الإرشاد" كذلك في "3/ 537". ثم القرافي، ولم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "الفروق"4 في "1/ 390، 395 و4/ 65، 106"، ومن "نفائس الأصول شرح المحصول" في "2/ 68-80، 86". ثم العز ابن عبد السلام، لم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "القواعد الكبرى" وقد أبهمه. وينقل أيضا من "القواعد" لشيخه المقري ولم يصرح باسمه، تراه في "1/ 111".   1 انظر مواطن النقل من هذه الكتب في الفهارس آخر الكتاب "فهرس الكتب". 2 انظر مثلا: "5/ 54، 55". 3 مثل "5/ 105". 4 انظر مقارنة بديعة بين "الفروق" و"الموافقات" في: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 94-95" للأستاذ فتحي الدريني. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 18 ولا ينسى في هذا المقام الإمام الشافعي؛ فإن الشاطبي استفاد منه، ونقل من كتابه العظيم "الرسالة" وصرح به فقط في مرتين "2/ 104 و5/ 56". ونقل أيضا من كتابه "الأم" ولم يصرح به، وهناك إشارات تنبئ على ذلك، انظر منها: "2/ 324"، واستفاد الشاطبي أيضا من شروحات "الرسالة"، وصرح بأنه وقف على "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب في "3/ 127". ونقل الشاطبي أيضا من كتب الباجي وصرح بأسماء بعضها؛ مثل: "أحكام الفصول" في "5/ 421" -ونقل منه أيضا في "5/ 109، 111" ولم يصرح باسمه- و"التبيين لسنن المهتدين" في "5/ 89". ونقل عن ابن حزم ولعل ذلك في "النبذ"1 و"مراتب الإجماع"2، وعن ابن بشكوال، ولعل ذلك في "المنقطعين إلى الله"، وهو مطبوع، ولكن لم أظفر به بعد. ومن مصادر الشاطبي في كتابه هذا بعض كتب اللغة والأدب؛ كـ"الكتاب" لسيبويه وصرح بالنقل منه في "5/ 54"، و"الكامل" للمبرد وصرح بالنقل منه في "4/ 283"، و"الخصائص" لابن جني ولم يصرح باسمه، ونقل منه في مواطن منها "2/ 133"، و"درة الغواص" أو "مقامات الحريري" وصرح بالنقل منه في "3/ 288". ونقل أيضا من بعض كتب الفلسفة؛ مثل كتاب ابن رشد "فصل الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنَ الِاتِّصَالِ".   1 انظر: "4/ 189". 2 انظر: "4/ 82". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 19 ونقل أيضا من بعض كتب الشافعية، ولم أظفر له بنقل من كتب الحنفية أو الحنابلة، وصرح في "3/ 131" أن هذه الكتب كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب. ومن كتب الشافعية التي نقل منها: "الحاوي الكبير" للماوردي؛ كما في "4/ 111"، ولم يصرح باسمه، ونقل أيضا من "الورع" للصنهاجي فقرات طويلة، ولم يذكر اسمه ولا اسم كتابه؛ كما تراه في التعليق على "1/ 171". هذه هي المصادر التي ظفرتُ بنقل للشاطبي منها1، ولم أفز بذلك إلا بالمرور على كثير من الكتب، وتقليب آلاف الصفحات، ومضي عشرات الساعات، ولعلي في قابل الأيام أظفر بزوائد فرائد؛ فإن النية متوجهة للعناية بهذا الكتاب حتى بعد طبعه ونشره؛ ليظهر إن شاء الله في طبعات لاحقات مجودا بالقدر الذي ينبغي أن يحتله بين سائر الكتب، وما ذلك على الله بعزيز. مدح العلماء وثناؤهم على الكتاب: أجمع مترجمو الشاطبي والباحثون المتأخرون -ولا سيما في علم "مقاصد الشريعة"- على أن الشاطبي هو الإمام الذي فتح الباب واسعا لطلبة العلم وأهله للتطلع إلى أسرار الشريعة وحكمها، ومهد لهم طريق التعامل مع مقاصدها وكلياتها، جنبا إلى جنب مع نصوصها وجزئياتها، بل يكاد2 هؤلاء أن   1 عدا مجالسه ومناظراته، وصرح ببعضها في كتابنا هذا منها "4/ 13"، وكذا مراسلاته ومكاتباته للعلماء، كما وقع له في مسألة "مراعاة الخلاف". 2 ظهرت نظرية "المقاصد" قبل الشاطبي على هيئة لمحات وخطرات متناثرة، ثم أخذت تبرز لهذا الفن قواعد، وتتكامل، وتتميز شيئا فشيئا عن قواعد أصول الفقه، واعتمد الشاطبي في كتابه هذا على جهود سبقته لكثير من العلماء، انظر تفصيل ذلك في الكتب التي أفردت "المقاصد" بالدراسة؛ مثل: "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص8 وما بعد" لابن عاشور، و"مقاصد الشريعة" "ص45 وما بعد" لعلال الفاسي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص149 وما بعد" ليوسف العالم، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص134 وما بعد" لحمادي العبيدي، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص259 وما بعد" لأحمد الريسوني. 1- "نيل الابتهاج" "ص48". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 20 يتفقوا على أن الشاطبي هو مبتدع هذا العلم "المقاصد" كما ابتدع سيبويه علم النحو، وابتدع الخليل بن أحمد علم العروض. وهذه شذرات من كلام العلماء والباحثين في مدح هذا الكتاب: يقول أحمد بابا عن هذا الكتاب: "كتاب "الموافقات" في أصول الفقه كتاب جليل القدر جدا لا نظير له، يدل على إمامته وبعد شأوه في العلوم سيما علم الأصول، قال الإمام الحفيد ابن مرزوق: كتاب "الموافقات" المذكور من أقبل الكتب"1. ويقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عن هذا الكتاب وأثره في التفكير الإسلامي بعد عصره: "ولقد بنى الإمام الشاطبي حقا بهذا التأليف هرما شامخا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قل من اهتدى إليها قبله؛ فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله؛ لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب "الموافقات" للشاطبي هو المفزع وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة وصور الحياة المختلفة الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 21 المتعاقبة"1. ويذهب أبوه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى أن الشاطبي هو "الرجل الذي أفرد هذا الفن بالتدوين"2. ويوازن الشيخ عبد المتعال الصعيدي بين الشاطبي في ابتداعه علم المقاصد، وبين الشافعي في ابتداعه علم الأصول؛ فيقول: "بهذا يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير بعد الإمام الشافعي؛ لأنه سبق هذا العصر الحديث بمراعاة ما يسمى فيه روح الشريعة، أو روح القانون، وهذا باهتمامه بمقاصد الشريعة"3. ويذكر الشيخ محمد الخضري أن ما اهتدى إليه الشاطبي ألصق بالاجتهاد من أصول الفقه، وقد قال بهذا الصدد: "ومن الغريب أنه على كثرة ما كُتِب في أصول الفقه لم يُعْنَ أحد بالكتابة في الأصول التي اعتبرها الشارع في التشريع، وهي التي تكون أساسا لدليل القياس، لأن هذا الدليل روحه العلل المعتبرة شرعا، وهذه العلل منها ما نص الشارع على اعتباره، ومنها ما ثبت عنده اعتباره في تشريعه، ومع أن هذه القواعد ينبغي أن يبذل الجهد في توضيحها وتقريرها حتى تكون نبراسا للمجتهدين، والاشتغال بها خير من قتل الوقت في الخلاف والجدل في كثير من المسائل التي لا يترتب عليها ولا على الخلاف فيها حكم شرعي، ولعلهم تركوا ذلك للفقهاء مع أن هذه القواعد بعلم أصول الفقه ألصق, وأحسن من رأيته كتب في   1 "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي" "ص76". 2 "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص8". 3 "المجددون في الإسلام" "ص309". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 22 ذلك أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة "780هـ"1 في كتابه الذي سماه "الموافقات"، وهو كتاب عظيم الفائدة، سهل العبارة، لا يجد الإنسان معه حاجة إلى غيره"2. ويقول الشيخ علي حسب الله: "وقد جاء أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة "790هـ" في كتابه "الموافقات" بما لم يُسْبَقْ إليه"3. ويذهب صبحي المحمصاني إلى أن ما ابتدعه الشاطبي من علم المقاصد يفوق ما في كثير من الشرائع القريبة المعاصرة؛ "فقد حلل مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها أحكامها بصورة لم تصل إليها كثير من الشرائع الغربية الحالية؛ فأوجب في الأحكام الشرعية أن تطبق وفاقا للمقاصد التي وضعت لها"4. ويذكر أحمد أمين أن الشاطبي سلك طريقة مخالفة لطرائق أهل المشرق جميعا؛ فكان أسلوبه أيسر وألطف، كما جاء بمباحث جديدة لم يعرفها الناس5. ولماذا نذهب بعيدا؛ فالشاطبي نفسه كان يرى أنه هو الذي ابتكر هذا العلم؛ فيقول: "فَإِنْ عَارَضَكَ دُونَ هَذَا الْكِتَابِ عَارِضُ الْإِنْكَارِ، وعمي عنك وجه   1 الصحيح أنه توفي سنة "790هـ" على ما سيأتي في ترجمته في أول المجلد السادس. 2 "أصول الفقه" "ص12". 3 "أصول التشريع الإسلامي" "ص7". 4 "مقدمة في إحياء علوم الشريعة" "ص22". 5 "ظهر الإسلام" "3/ 55". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 23 الِاخْتِرَاعِ فِيهِ وَالِابْتِكَارِ، وَغَرَّ الظَّانَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ، وَلَا أُلِّفَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ مَا نُسِجَ عَلَى مِنْوَالِهِ، أَوْ شُكل بِشَكْلِهِ، وَحَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، وَمِنْ كُلِّ بِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاعُهُ -فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْإِشْكَالِ دُونَ اخْتِبَارٍ- وَلَا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار"1. ويقول شيخنا العلامة مصطفى الزرقاء: "ومنذ أن نشر كتابه "الاعتصام" في البدع، وكتابه الآخر: "الموافقات في أصول الشريعة"2، وكانا من الكنوز الدفينة، أخذ اسم الشاطبي يدور على ألسنة العلماء والفقهاء، وأصبح الكتابان -ولا سيما "الموافقات"- من ركائز التراث الأساسية التي يلجأ إليها أساتذة الشريعة وطلابها المتقدمون، تفهما في دراستهم، وعزوا وتوثيقا لأفهامهم فيما يكتبون، ولمع نجم الشاطبي منذئذ بالمشرق في هذا الأفق العلمي، ثم أخذ يزداد سطوعا حتى أصبح يُستضاء به في بحوث أصول الشريعة ومقاصدها، وتوضح به الحجة، وتقام بما فيه المحجة"3. وقد مدحه أيضا من نظم الكتاب أو من اختصره على ما سيأتي في مبحث "الجهود التي بذلت حول الكتاب"، ويقول محمد محمود الشنقيطي: "حق هذا الكتاب أن يستنسخ ويطبع في بلاد المسلمين لاحتياجهم إليه عموما، خصوصا المالكيين منهم، والحنفيين"4.   1 "الموافقات" "1/ 12-13". 2 زيادة: "في أصول الشريعة" أمر شاع وانتشر، ولا أصل له، على ما بيناه تحت "تحقيق اسم الكتاب". 3 تقديم "فتاوى الشاطبي" "ص8". 4 "أشهر الكتب العربية بخزائن دولة إسبانيا" "ق21". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 24 وذهب رشيد رضا إلى أن الشاطبي يُعد بكتاب "الموافقات" نظيرا لابن خلدون في "المقدمة". فكلاهما ابتدع من التأليف ما لم يُسبق إليه، كما أنهما انتهيا إلى وضع واحد هو أن الأمة الإسلامية التي ابتدع لها هذان العبقريان كتابيهما، أو علميهما الجديدين، لم تقبل على إبداعهما العجيب، ولم تنتفع به1. ويتمنى بعض الدارسين أن "لو اتخذ كتاب "الموافقات" منارا للمسلمين، بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لتكون منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة"2. ويقول آخر من المعجبين بهذا الأثر النفيس: "وأشهر ما تركه الشاطبي كتاب "الموافقات" في أصول الشريعة، والكتاب غزير العبارة، واسع الحجة، وهو من دون شك من أنفس ما كُتب في علم الأصول، وفي التشريع الإسلامي، وذلك بشهادة الأستاذ الشيخ محمد عبده نفسه، والشيخ محمد الخضري، وفي "الموافقات" تحقيق دقيق في مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها، وقد نجح الشاطبي في تحليل ذلك وإيضاحه كله ببيان وإسهاب"3. ولقد أوردت هذه التقاريظ للمعاصرين بنصوصها لأكشف إلى أي مدى شُغف الناس بكتاب "الموافقات" هذه الأيام، ولعل مؤلف الكتاب نفسه قد سبقهم إلى الإعجاب بكتابه، والتنويه به، والإشادة بما بذل فيه من جهد؛ فهو يقول عن نفسه وعن كتابه ما يأتي:   1 مقدمة "الاعتصام" "1/ 4". 2 من كلام شيخ دراز المتقدم "ص14". 3 "النظرية العامة في الموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية" "1/ 51". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 25 "فَأَوْرَدَ مِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ، وَفَوَائِدِهِ الْغَرِيبَةِ الْبُرْهَانِ، وَبَدَائِعِهِ الْبَاهِرَةِ لِلْأَذْهَانِ؛ مَا يَعْجِزُ عَنْ تَفْصِيلِ بَعْضِ أَسْرَارِهِ الْعَقْلُ، وَيَقْصُرُ عَنْ بَثِّ مِعْشَارِهِ اللِّسَانُ، إِيرَادًا يُمَيِّزُ الْمَشْهُورَ مِنَ الشَّاذِّ، وَيُحَقِّقُ مَرَاتِبَ الْعَوَامِّ وَالْخَوَاصِّ وَالْجَمَاهِيرِ وَالْأَفْذَاذِ، وَيُوَفِّي حُقَّ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالسَّالِكِ وَالْمُرَبِّي وَالتِّلْمِيذِ وَالْأُسْتَاذِ، عَلَى مَقَادِيرِهِمْ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ وَالتَّوَانِي وَالِاجْتِهَادِ وَالْقُصُورِ وَالنَّفَاذِ، وَيُنْزِلُ كُلًّا مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ حَلَّ، ويُبصِّره فِي مَقَامِهِ الْخَاصِّ بِهِ بِمَا دَقَّ وجلَّ، وَيَحْمِلُهُ فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ مَجَالُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ، وَيَأْخُذُ بِالْمُخْتَلِفِينَ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ بَيْنَ الِاسْتِصْعَادِ وَالِاسْتِنْزَالِ؛ لِيَخْرُجُوا مِنِ انحرافي التشدد والانحلال، وطرفي التناقض والمحال"1. فهو يريد أن يقول: إن كتابه هذا قد اتخذ سبيلا وسطا، لا إفراط فيه ولا تفريط، وإنما هو الاعتدال الذي اتسم به الإسلام، والذي ينأى بأهله عن الشدة والعسر والانحلال والتميّع إلى السماحة واليسر، ثم هو إلى ذلك مشبع نهم العقول إلى المعرفة، وواجدٌ كل طالب طلبته على قدر مستواه الذهني، وطاقته العقلية، وجهده في الطلب، وأنه قد وضعه على طريقة مُثلى؛ فهو مع سهولته ويسره عسير المنال، لا تستطيع العقول النافذة أن تكشف عن كل ما فيه، ولا الألسنة الفصيحة أن تترجم عن أقل ما حواه. وفي مكان آخر من كتابه هذا لا يفتأ ينوه بالبناء المتماسك الذي يذكر أنه وضعه عليه، وأن محاولة تغيير جزء قليل من هذا البناء يفسده كله، وليس البناء الذي أقام عليه كتابه إلا هذه الكليات العامة للمقاصد الشرعية، والتي يذكر أنه تمكن منها بعد طول النظر والاستقصاء والدرس؛ فأحاط بها، وسبكها سبكا محكما لا يقبل الانخرام، بحيث إذا انخرم كلي منها؛ فقد انخرم النظام كله،   1 "الموافقات" "1/ 9". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 26 وبهذا الصدد يقول: "وَإِذَا نَظَرْتَ بِالنَّظَرِ الْمَسُوقِ فِي هَذَا الْكِتَابِ تَبَيَّنَ بِهِ مِنْ قُرْبٍ بيانُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي إِذَا انْخَرَمَ مِنْهَا كُلِّيٌّ وَاحِدٌ؛ انخرم نظام الشريعة". والحقيقة أن كتاب "الموافقات" -وإن كان قد خلص أصول الفقه من الجدل اللفظي، ووجه النظر إلى المعاني والمقاصد- إلا أنه حافل بالاستطرادات التي تشتت وحدة الموضوع، ثم إن مؤلفه سلك فيه المنهج القديم في طرح القضايا، فتراه يذكر القاعدة أو الأصل في بضعة أسطر ثم يأخذ في فرض الاعتراضات والردود عليها؛ مما أضفى على الكتاب روح الجدل الممل، كما أنه أكثر من التفريع والتجزئة للمسائل؛ مما جعل عمله يتخذ طابعا تعليميا لا يتيح للعقل أن يفكر وإنما يتيح للذاكرة أن تنقل فتتخم1. ولهذا قامت جهود كثيرة حوله، من أهمها "المختصرات" و"الدراسات"، ونبين ذلك في الآتي: الجهود التي بذلت حول الكتاب وأثره في الدعوة الإصلاحية الحديثة: بذلت جهود قليلة حول كتاب "الموافقات"، ولا سيما من قبل الأقدمين؛ فلم نظفر -مثلا- بمن خرج أحاديثه أو علق عليه2، وإنما ظفرنا بعمل واحد قام به أحدُ تلاميذ المؤلف3 من وادي آش؛ فعمد إلى نظم كتاب "الموافقات"،   1 "الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص112" للدكتور حمادي العبيدي. 2 بل ظل الكتاب مغمورا إلى أن ظهر أول مرة سنة "1884هـ"، وسيأتي بيان ذلك. 3 نسبه بعض المعاصرين إلى "أبي بكر محمد بن عاصم ت 829هـ"، وفرق بعضهم بين عمل ابن عاصم وهذا النظم؛ فإن صحت التفرقة فتكون الجهود في النظم من قبل اثنين. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 27 وسمى نظمه "نيل المُنى من الموافقات"1، وتوجد منه نسخة خطية بدير الأسكوريال تحت "رقم 1164"، ونقتطف من أبياته ما يلي: الحمد لله الذي من نعمته ... أن بث في المشروع سر حكمته وهيأ العقول للتصريف ... بمقتضى الخطاب والتكليف إلى أن يقول: وبعدُ, فالعلم حياة ثانية ... لها دوام والجسود فانية وقد غدا ظل الشباب زائلا ... ولم أنل من الزمان طائلا جعلت في كتب العلوم أُنْسي ... وعن سوى العلم صرفت نفسي فالعلم أولى ما اقتضى به الزمن ... وكتبه هي الجليس المؤتمن والمورد المستعذب الفُرات ... ومن أجلها "الموافقات" لشيخنا العلامة المراقب ... ذاك أبو إسحاق نجل الشاطبي فهو كتاب حسن المقاصد ... ما بعده من غاية لقاصد وكان قد سماه بالعنوان ... واختار من رؤيا ذا الاسم الثاني وقد سمعت بعضه لديه ... ومنه في ترددي عليه لكن لم يكن له اختلافي ... إلا يسير القدر غير شافي لأن ثنى التقصير من عناني ... وصدني عن قربه زماني حتى غدت حياته منقضية ... في عام تسعين وسبعمائة والآن وقد نبذت عيني شغلي ... وصار نيل العلم أقصى أملي جدَّدْتُ عهدي باجتناء زهره ... وردت فكري في اقتفاء أثره إلى أن قال:   1 يدل عنوانه أن هذا الاختصار من أعظم أماني المختصر. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 28 وجاعلا له من السمات ... "نيل المُنى من الموافقات" فعدُّه لم يعد في المَسطور ... ستة آلاف من المشطور وها أنا بما قصدت آتي ... مقدما حكم المقدمات وأسأل التوفيق والإعانه ... في شأنه من ربنا سبحانه وقد ختم النظم بما يلي: "تم والحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وذلك بمدينة وادي آش -كلأها الله- في أواخر ربيع الثاني عام 820هـ"1. أما المعاصرون؛ فقد أقبلوا عليه، وتباروا في مدحه والثناء عليه2، ووجه أفاضل منهم العناية إليه، ويمكننا القول: إن خدمتهم لكتاب "الموافقات" محصورة في ثلاثة محاور، هي: المحور الأول: مختصراته. قام باختصار الكتاب فيما وقفتُ عليه ثلاثة: الأول: مصطفى بن محمد فاضل بن محمد مأمين الشنقيطي القلقمي3 "المتوفى سنة 1328هـ - 1910م". نظم كتاب "الموافقات" ثم شرحه بعبارات المصنف مع اختصار شديد لها، ولكنه متين وقوي، وأفاد أنه وقف على "الموافقات" عام ستة بعد ثلاثمائة وألف، وقال: "ولم يكن له قبل ذلك في ناحيتنا هذه أثر، ولا بلغ أحدا منهم له خبر".   1 "أشهر الكتب العربية بخزائن دولة إسبانيا" "ق21". 2 ومضت قريبا جملة من أقوالهم. 3 له ترجمة في المجلد السادس. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 29 وطبع هذا النظم مع شرحه سنة "1324هـ" بعنوان: "المرافق على الموافق" في مطبعة أحمد يمني بفاس، وأثبت على طرته: "طبع على نفقة قائد المشور السعيد السيد إدريس بنعيش". جاء في أوله مدح لـ"الموافقات"، وبيان منهجه فيه، وهذا نص كلامه: "الحمد لله الذي به شروح العلوم ونصوصها، وبه تعلم أصولها وفروعها كلما بدت خصوصها، وبه نيل معرفة ما هو عمومها وخصوصها، وبه تميز منها ما هو خواتمها وفصوصها، والصلاة والسلام على محمد الثابت به مرصوصها، الموافق بين ظاهرها وباطنها، المبين به خلوصها، وعلى آله وصحبه وتابعيهم الظاهر بهم قلوصها، وبعد؛ فيقول عبيد ربه ماء العينين ابن شيخه الشيخ محمد فاضل بن مامين، غفر الله لهم وللمسلمين آمين: إنه لما تفضل الله علي بكتاب "الموافقات" للشيخ، العلامة، المحقق، القدوة، الحافظ، الأصولي، النظار، أبي إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد، اللخمي، الشاطبي، ثم الغرناطي -تفقده الله برحمته- عام ستة بعد ثلاثمائة وألف ولم يكن له قبل ذلك في ناحيتنا هذه أثر، ولا بلغ أحدا منهم له خبر؛ فأخذته واستشعرته بعد أن جعلته دثارا، وجعلت الحائل بيني معه الظلام لا ما دمت أرى له أنوارا، فإذا هو نور يذهب الظلام وينور البصائر والأبصار؛ إلا أنه بحر أبحر تغرق فيه البحار، ويرشف الأنهار؛ فقلت: من جاء البحر فليأت أهله بشيء من الدرر، إن أمكن، وإلا فليأتهم بشيء من العنبر، فلما نظرت إذا البحر لا ساحل له، ولا سفينة لي تمر بي فيه لأدخله؛ فبقيت متحيرا، وفي فضل ربي معتبرا؛ حتى تذكرت ما تفضل الله علي به فيما مضى من قولي غفر الله لي قولي وعملي: شربت شرابا لا ذوو الخمر تشرب ... وشاهدت ما الأبصار عنه تحجب الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 30 وخضت بحارا لا تخاض بحيلة ... ولكنها فضلا تُخاض وتُشرب علمت أن فضل ربي ما انقضى، وقد قال لنبينا, عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، ونحن له من عطائه، وهو لنا من آلائه؛ فاستقدرت على ما أردت منه بنبينا -صلى الله عليه وسلم- المستوى فيه ذكينا مع غبينا -صلى الله عليه وسلم- في صبحنا وعشينا، واقتحمت فيه بثيابي، وقلت هذا بحري وكتابي؛ فإذا هو البحر العذب الزلال، والكتاب الجامع لأصول مذاهب الرجال؛ فشرعت في استخراجي منه نظما، لعله يفيد من طلب منه علما؛ فتفضل الله علي بنظمه، لكن تعذر على الغير بعض فهمه؛ فطلب مني أن أشرحه شرحا يبين معناه؛ لتكثر الفائدة، ويسهل فهمه لمن تعناه؛ فشرحته شرحا ما جهدت فيه إلا في الاختصار، والتجافي عن منهج الإكثار، والمؤلفات تتفاضل بزهو الزهر والثمر لا بالهدر، وبالملح لا بالكبر، وبجموع اللطائف لا بتكثير الصحائف، وبفخامة الأسرار لا بضخامة الأسفار، ولذلك جعلت هذا الشرح مجلدا واحدا، ولو مددت فيه القلم لكان أربع مجلدات أو زائدا، لكني أتيت من الأصل بما فيه الكفاية، وما تحصل البغية لأهل الدراية، ولذلك سميته "المرافق على الموافق" مستعينا عليه بمبين الدقائق ومعلم الشرائع والحقائق، والمعطي من فضله جميع الخلائق، طالبا منه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ويكسونا القبول حتى يعم النفع بنا لذوي التخصيص والتعميم، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير"1. الثاني: إبراهيم بن طاهر بن أحمد بن أسعد العظم "المتوفى سنة 1377هـ - 1957م". قال الزركلي في "الأعلام" "1/ 44": "له "اختصار الموافقات"   1 "المرافق على الموافق" "ص2-4". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 31 للشاطبي، مخطوط، جزآن، عند أسرته". الثالث: محمد يحيى بن عمر المختار بن الطالب عبد الله الولاتي الشنقيطي1 "ت1330هـ - 1912م". له "توضيح المشكلات في اختصار الموافقات", طبعه وراجعه حفيده بابا محمد عبد الله "المحاضر بكلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض"، ولم أقف منه إلا على مجلدين، وفي الآخر منهما ينتهي كتاب "المقاصد". المحور الثاني: دراسات عن الكتاب ومنهج الشاطبي فيه ومجاراته فيما كتب، وإحياء ضرورة معرفة المقاصد للمجتهد2. نبه الشيخ محمد عبده في مطلع هذا القرن طلاب الأزهر وعلماءه إلى كتاب "الموافقات"، وذلك بعد طبعه في تونس، وكان يوصي به الأساتذة والعلماء؛ فيذكر محمد الخضري أنه لما كان بالسودان يدرس علم أصول الفقه للطلاب الذين يقع إعدادهم بالكلية ليكونوا قضاة, زار الشيخ محمد عبده السودان، فعرض عليه الشيخ الخضري ما كان يلقيه على الطلبة من دروس؛ فأثنى عليه، ولكنه دعاه إلى اعتماد كتاب "الموافقات" للشاطبي، وأن يمزج ما جاء في هذا الكتاب من علم المقاصد بما كان يدرسه للطلاب من علم الأصول حتى ينتبهوا إلى أسرار الشريعة الإسلامية، وتتسع آفاقهم للنظر، ويذكر الشيخ الخضري أنه استجاب لما طلب منه محمد عبده؛ فيقول:   1 له ترجمة في: "الأعلام الشرقية" "1/ 403/ رقم 500-ط دار الغرب"، و"شجرة النور الزكية" "435"، و"المعسول" "8/ 281-287"، و"الأعلام" للزركلي "7/ 142-143". 2 تضمن هذا المحور الكلام على أثر الشاطبي بعامة وكتابه "الموافقات" بخاصة على الإصلاح والمصلحين في العصر الراهن. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 32 "فاستحضرت هذا الكتاب، وأخذت أطالعه مرات حتى ثبتت في نفسي طريقة الرجل، وجعلت آخذ منه الفكرة بعد الفكرة لأضعها بين ما آخذه من كتب الأصول؛ حتى جاء بحمد الله ما أمليته وفق مرامي"1. وعن طريق محمد عبده تأثر الشيخ محمد رشيد رضا "ت 1935م" بكتاب "الموافقات"؛ فأخذ يعالج النواحي المصلحية في الشريعة، ويذكر أن مسائل المعاملات من سياسية وقضائية وغيرها ترجع كلها إلى قواعد حفظ المصالح ودرء المفاسد، وكل ما عُلم من مقاصد الشريعة2. كما أن الشيخ محمدًا أبا زهرة وجه جهوده في مصنفاته الفقهية لإبراز المقاصد الشرعية تأثرا بالشاطبي عن طريق مدرسة المنار، ورأى أن الفقه لا يعطي ثماره إلا إذا أبرزت مقاصد أحكامه؛ فإن المقاصد هي عللها الحقيقية، ويقول هذا الكلام وهو يكتب عن ابن حزم الظاهري الذي يقوم مذهبه على رفض التعليل إطلاقا3.   1 "أصول الفقه" "ص13". 2 ولكن رشيد رضا لم يقف عند التأثر بالمقاصد وإنما كان تأثير الشاطبي فيه بالغا حده بكتاب "الاعتصام"؛ لأن اتجاهه كان منصبا على الدعوة السلفية؛ فوجد في هذا الكتاب بغيته، ورأى أنه لا تنحصر فائدته في كشف البدع واستئصالها فحسب، ولكنه يتضمن أصول الدعوة السلفية التي وجه إليها هو جهوده كلها، وكانت أعماله الإصلاحية تنطلق منها. ومن الجدير بالذكر هنا أمران: الأول: أن الشاطبي مجدد ومصلح، وأن كتابه "الموافقات" تضمن التجديد، وكتاب "الاعتصام" تضمن الإصلاح. والآخر: أن شيخنا الألباني -حفظه الله- عرف "الدعوة السلفية" في أول أمره عن طريق محمد رشيد رضا. 3 انظر: "ابن حزم الظاهري" لمحمد أبي زهرة "ص409". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 33 فإذا جئنا إلى المغرب العربي وجدنا أن أهم من تأثر بالشاطبي رائدان عظيمان من رواد الإصلاح العلمي والاجتماعي والسياسي، هما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، والزعيم علال الفاسي في المغرب1. أما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور؛ فإنه تأثر بالشاطبي في المقاصد، وهو وإن وجه إليه نقدا حادا أحيانا؛ إلا أن ذلك النقد لم يتجاوز بعض المآخذ المنهجية التي رأى فيها أن الشاطبي اتسع عليه الموضوع فوقع في التطويل والاضطراب، وفي هذا المعنى يقول: "تطوح في مسائله -أي: مسائل علم المقاصد- إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود"2، ولكنه مع ذلك لم يستطع إخفاء إعجابه به؛ فنوه بعمله، وأعلن أنه سيقتدي فيه، دون أن ينقل عنه نقلا حرفيا؛ فيقول: "على أنه أفاد جد الإفادة؛ فأنا أقتفي آثاره، ولا أهمل مهماته، ولكن لا نقله ولا اختصاره"3. ويذهب عبد المجيد تركي إلى أن كتاب "مقاصد الشريعة" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور يُعَدُّ مُسْتَلْهَما من كتاب "الموافقات" للشاطبي، الذي يُعد بحق مبتكر هذا الفن، وإن النقد الذي وجهه إليه ربما كان لإخفاء الاعتماد الكبير الذي اعتمده عليه في تأليف كتابه4.   1 انظر: "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "ص511، 515". 2 "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص7". 3 المرجع السابق، وانظر: "نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور" "ص420 وما بعد" لإسماعيل الحسني. 4 "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "89، 476، 477". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 34 والواقع أن المقارنة بين الجزء الثاني المخصص للمقاصد من كتاب "الموافقات" للشاطبي، وكتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" للشيخ ابن عاشور تكشف عن أمرين: أولهما يتعلق بالناحية العلمية، وثانيهما بالناحية المنهجية، فما يتعلق بالناحية الأولى؛ فإن ابن عاشور خصص بحوثا خاصة للمقاصد في أبواب المعاملات، بينما الشاطبي تناول المقاصد كلها تناولا عاما. وأما ما يتعلق بالناحية الثانية وهي الناحية المنهجية؛ فإن الشاطبي يبدأ بالكليات وينطلق منها إلى الجزئيات؛ فتراه يطرح القاعدة ثم يأتي عليها بأمثلة جزئية من فقه الفروع تطبيقا لها أو توضيحا، وبذلك ينهج منهج الأصوليين، بينما ابن عاشور يسلك عكس هذا المنهج؛ فيعالج قواعد المقاصد من منطلق الأمثلة الفرعية, فيسلك بذلك مسلك فقهاء الفروع1. بقي لنا أن ننظر في تأثر علال الفاسي بالشاطبي، لقد ظهر ذلك في كتابه الذي سماه "دفاع عن الشريعة"، والذي يعد تعبيرا عن الأفكار الأساسية لهذا الزعيم، بل تعبيرا عن المواقف العملية التي وقفها في جهوده الإصلاحية داخل المغرب الأقصى، والتي تتجاوز المغرب إلى العالم الإسلامي كله في مواجهته للحضارة الغربية والأخذ عنها. أما جهوده الإصلاحية المتجهة داخليا إلى تغيير أوضاع العالم الإسلامي؛ فإنه يرى أن هذا التغيير لا يتم إلا بأمرين: أولهما: إحياء حركة الاجتهاد. وثانيهما: إصلاح الفكر السياسي.   1 انظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص65 وما بعد" لابن عاشور، و"مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص5" لعلال الفاسي. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 35 فالاجتهاد ينبغي أن تكون مقاصد الشريعة أساسه، وما الأدلة الاجتهادية كلها إلا راجعة للمقاصد، ذلك أن اعتبار جلب المصالح واستبعاد المفاسد هو الذي يحدو الفقيه إلى البحث عن الحكم المناسب، والتماس العلة. وإذن؛ فالمقاصد هي الركن في بناء الصرح التشريعي كله1. وفي مجال الإصلاح السياسي تصبح المقاصد مجال النظر للقضايا العامة؛ كمراقبة السلطة التنفيذية، وسياسة الدولة التشريعية والاجتماعية؛ هل تسير طبقا لأحكام الشرع في تحقيق مصالح المسلمين وإبعاد المفاسد عنهم، أم لا؟ فإذا جئنا إلى مواقفه الخارجية؛ فإننا نجدها مواقف تتمسك بالأصالة، وتستلهم مقاصد الشريعة أيضا في هذه المواقف، وهو يفرق هنا بين اتجاهين، هما: اتجاه الاقتباس من قوانين الغرب ونظمه، واتجاه الأخذ من حضارته بوجه عام. أما الاتجاه الأول؛ فيرفضه رفضا باتا، ويعلن أن هذا الرفض ليس مصدره التعصب، أو الكراهية للغرب، أو الجهل بقوانينه، وإنما مصدره العقيدة؛ فعقيدتنا الإسلامية تمنعنا من أن نعطل شريعة الإسلام ونحكم بقوانين الغرب، أو نتبع مناهجه في الاستنباط. ويحلل نظريته هذه؛ فيذكر أن منهج الغرب في الاجتهاد يعتمد القانون الطبيعي، وما يسمونه قواعد العدالة والإنصاف، وما إلى ذلك من المبادئ التي اصطلحوا عليها. أما منهج الاجتهاد في الشرع الإسلامي؛ فيقوم على أوامر الله تعالى   1 "مناظرات في أصول الشريعة" "517". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 36 ونواهيه، أي: على إرادة الله فيما أحب لعباده وما كره لهم، ومن هنا؛ فإن الشريعة الإسلامية مصدرها العقيدة أصلا، وليس القانون الطبيعي أو غيره مما يذكره الغربيون1. وأما الاتجاه الثاني الذي هو الأخذ من الحضارة الغربية في غير النظم والقوانين؛ فإن الشريعة بمقاصدها ينبغي أن تكون محكمة فيه؛ فلا نأخذ عنهم إلا ما يكون مصدر قوة لنا، أما ما يكون باعثا على الانحلال والفساد؛ فلا2، ولا ينبغي أن يخدعنا ما يسميه الغربيون والمقلدون لهم تطورا؛ إذ قد يكون بالنسبة إلينا مسخا3. إن مقاصد الشريعة هي التي تنير سبلنا؛ فنتبين على ضوئها التطور الحق، ونستمد منها مواقفنا من كل ما يَفِدُ علينا من تيارات أجنبية4.   1 انظر: "دفاع عن الشريعة" "ص116-117". 2 "دفاع عن الشريعة" "ص147". 3 "دفاع عن الشريعة" "ص148". 4 "دفاع عن الشريعة" "ص148". ويقول الدكتور حمادي العبيدي في كتابه "الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص284" بعد أن أورد ما سبق من تأثر المعاصرين بالشاطبي وكتابه "الموافقات"؛ يقول: "وإذا أردنا أن نوازن بين درجات التفاعل مع أفكار الشاطبي عند هؤلاء المصلحين الذين ذكرناهم؛ فإننا نرى أن علالا الفاسي هو الذي نقل تلك الأفكار إلى المجال الذي تجري فيه "الصحوة الإسلامية" المعاصرة، سواء في موقفها الداخلي ودعوتها إلى النهوض بالعالم الإسلامي، أو في موقفها الخارجي من الحضارة الغربية والاقتباس منها. وهكذا يتضح أن الشاطبي ما يزال يعيش بيننا بفلسفته في المقاصد وآرائه الإصلاحية، وأن رجال العلم والفكر في العالم الإسلامي يجدون فيها معينا لدعواتهم إلى الإصلاح والتجديد على أسس من القيم الإسلامية الثابتة". قلت: وما تقدم يثبت صحة ما أوردناه عن الشيخ الفاضل بن عاشور "ص25" من قوله: = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 37 .........................................................................   = "وظهرت مزية كتابه -أي: "الموافقات"- ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية؛ فكان كتاب "الموافقات" للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح ... ". والواقع أن هذا الاتجاه في النهوض بالعالم الإسلامي على أساس فكر أصيل يستمد من ينابيع المقاصد الشرعية قد ظهر نتيجة التصادم مع حضارة الغرب المادية، وحماية للمسلمين من فتنة الأفكار المستوردة التي لا تتلاءم مع مقتضيات حضارتهم وأصول دينهم الحنيف. انظر: "مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية" "ص507". قلت: بهذا الصدد لا بد من التنبيه على أن كثيرا من البعيدين عن الجادة، والمحاربين للدعوة السلفية يتعلقون بكلام للشاطبي في كتابه هذا، ويأتون به في معرض "التجديد" والكلام على "ما أصاب المسلمين من ركود وتخلف وجمود"، ويخرجون بـ"نتائج" و"أحكام" عجيبة غربية، ويمكن تسمية صنيعهم هذا بـ"التلبيس المقلوب". فها هو -مثلا- "محمد عابد الجابري" يذهب في مقالة له نشرت في مجلة "العربي" "عدد 334، سنة 1986م، ص25-29" بعنوان "رشدية عربية أم لاتينية" إلى أن الشاطبي في كتابه "الموافقات" يُعد عقلانيا، وها هو "راشد الغنوشي" "يحتج" بكلام للشاطبي في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" في مواطن كثيرة، وكأني به يقرر أن الشاطبي "اعتبر المصلحة هي أساس الشرع"، وهذا ما يلبس به حسن حنفي من خلال ذكره لهذه القاعدة ذات البريق الجذاب. انظر: "تزييف الإسلام وأكذوبة الفكر الإسلامي المستنير" "ص95" لمحمد إبراهيم مبروك، نشر دار ثابت - القاهرة. لقد ذهلت بعد مطالعتي لكتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"؛ فهو يقرر فيه أحكاما وقواعد وينسبها للشرع، ويتعلق بعد هذا كله بالأصوليين وعلى رأسهم إمامنا الشاطبي -رحمه الله تعالى- وهو في كتابه هذا يوافق نظرة الغرب حول الحرية وحول المرأة. اقرأ قوله فيه "ص129": "ولقد استند المجيزون إمامة المرأة الولاية العظمى إلى أن عمومات الإسلام تؤكد المساواة بين الذكر والأنثى، وأن الحديث المذكور -أي: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" - لا يمثل أساسا = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 38 ..........................................................................   = صالحا لتخصيص عموم المساواة، ذلك أن الحديث المذكور ورد بخصوص حادثة معينة صورتها أنه لما ورد على النبي أن كسرى فارس مات، وأن قومه ولوا ابنته مكانه؛ قال عليه السلام ذلك القول تعبيرا عن سخطه على قتلهم رسوله إليهم؛ فالحديث لا يتعدى التعليق على الواقعة المذكورة حتى يكون مرجعا في مادة القانون الدستوري، خاصة وأن علماء الأصول لم يتفقوا على أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ فما كان لفظه عاما لا يعني أن حكمه عام أيضا، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة، فضلا عن ظنيته من جهة السند لمنع المرأة من الإمامة العظمى". ثم يضيف راشد الغنوشي ما يؤدي إلى نفي وجود نظام حكم في الإسلام، بل وإلى إلغاء الأحكام الشرعية جملة، يقول في هامش نفس الصفحة: "إلا أن الأحكام الشرعية وخاصة ما تعلق منها بنظام الدولة الإسلامية ما ينبغي أن تبنى على سند ظني مهما كانت درجة الظنية ضئيلة". ويصل إلى مبتغاه في "ص130"؛ فيقول: "والنتيجة أنه ليس هناك ما يقطع بمنع المرأة من الولايات العامة قضاء أو إمارة ... ". ولن أرد هنا على مثل هذه الأقوال المخالفة للدين، وما أتيت بها إلا للدلالة على وجود هذا المنهج الغريب في عصرنا؛ إلا أني ألفت نظر هذا الكاتب إلى أن اشتراط القطع لثبوت الأحكام الشرعية يؤدي إلى التحلل من الإسلام، وأن قوله: "فيما كان لفظه عاما لا يعني أن حكمه عام أيضا" يؤدي إلى إلغاء كثير من القطعيات، وإلى رد الاستدلال بالنصوص القطعية الدالة عليها، وعلى سبيل المثال؛ فإنه يلغي كل العقوبات الإسلامية؛ كقطع السارق، وجلد الزاني أو رجمه، وقتل المرتد، وجلد شارب الخمر وغيرها، والقاعدة الأصولية المعلومة عند الفقهاء بالضرورة تقول: "يبقى العام على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص". ولا تمنعنا موضوعية البحث ولا تحرجنا من دعوى الجهل أو التجاهل لبعض الثوابت في الإسلام، هذا أقل ما نقوله، والبينة عليه قائمة فيما أوردناه عنه. وهذا الذي ذكره الغنوشي في كتابه يناقض الأصول التي قررها الشاطبي في "الموافقات" عند كلامه على "العام" و"الخاص" و"الظني" و"القطعي". أعود إلى ما ذكرت سابقا من أن أحدا من العلماء المعتبرين عند الأمة لا يقول بهذا المنهج أو مثله، ولا يقرر شيئا منه، ولم يأت أحد ممن يقول به حاليا أو من يتبعونه باستدلال شرعي صحيح = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 39 .........................................................................   = عليه، وجُل ما يأتون به هو ادعاء وجود هذا المنهج عند بعض العلماء الأفذاذ، والإتيان بنصوص من أقوالهم مع المحافظة على غموضها، ومن هؤلاء العلماء الكبار الإمام الشاطبي المالكي, رحمه الله. ولقد صور الغنوشي في كتابه هذا منهجا خطيرا على المسلمين يتلخص بالتشريع بالمصلحة مجردة من أي قيد، والأخطر أن يُنسب ذلك النهج المبتدع والخطير إلى الإمام الشاطبي -رحمه الله- وأن يُدعى أن هذا هو منهج المفكرين الأصوليين المعاصرين. يقول الغنوشي في "ص38": "وإذا تقدمنا صوب المعاني التشريعية من أجل وضع إطار قانوني لحريات الإنسان أو لواجباته؛ وجدنا مفكري الإسلام المعاصرين يكادون يجمعون على تزكية الإطار الأصولي الذي وضعه العلامة الشاطبي في "الموافقات"، والمتلخص في اعتبار أن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية، والتي صنفها إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات ... ". ويقول الغنوشي أيضا في "ص43" من كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية": "وكان مبحث المقاصد الشرعية الذي اختطه بتوفيق العلامة المغربي أبو إسحاق الشاطبي في رائعته "الموافقات" قد حظي كما تقدم بقبول عام لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين كأساس وإطار لنظرية الحقوق والحريات العامة والخاصة في التصور الإسلامي، ومعلوم أن أبا إسحاق الشاطبي في تتبعه كليات الشريعة وجزئياتها قد كشف عن نظرية المصلحة العامة؛ فوجدها مرتبة في ثلاثة مستويات ... ". ويقول أيضا في "ص358": "ولقد حظي هذا العلم "علم أصول الفقه" بعقول عظيمة تتابعت على تأصيل قواعده وتطويرها وإثرائها وصقلها؛ حتى بلغت مع العلامة الأندلسي الشاطبي أوجا عظيما متقدما امتدادا للنهج الذي سنه الإمام الشافعي؛ فلقد انصبت نخبة من العقول العظيمة التي امتلأت يقينا بعظمة الإسلام، وغاصت في نصوص الوحي كتابا وسنة، وفي تراث الفقه والتطبيق الأساسي وسائر علوم الإسلام خلال القرون، كما استوعبت جملة المعرفة البشرية المعروفة في العصر، وصاغت من خلال كل ذلك قواعد للتشريع على ضوء ما استخلصته من مقاصد الدين، وجملة مقاصد الدين تدور حول مصالح العباد؛ فإنما لأجل ذلك جاء الدين، يقول الشاطبي: "إنا استقرينا من الشريعة أنها = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 40 ..........................................................................   وضعت لمصالح العباد استقراء ولا ينازع فيه الرازي ولا غيره"، ويقول: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا". ويقول الغنوشي في "ص359". "والاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر إلى قبول أصول الشاطبي إطارا عاما لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين، انطلاقا من هذا الأصل العظيم؛ أن الدين إنما أنزل للتحصيل وللمحافظة على مصالح الناس في الدنيا والآخرة, وفي هذا المنظور العام والمقصد العام للشريعة أمكن لجزئيات الدين أن تجد مكانها اللائق بها كفرع من أصل، وفي هذا المنظور نفسه يمكن أن تجد المشكلات المستجدة في حياة المسلمين حلولها المناسبة ... ". ثم يقول: "فما غلب ما فيه من صلاح عما فيه من فساد؛ فهو مشروع ... ". واضح من كلام الغنوشي أنه يقرر منهجا جديدا للتفكير أو للتشريع عند المسلمين، منهجا يقوم على المصلحة، وواضح أيضا أنه يريد الاستناد إلى الإمام الشاطبي -رحمه الله- من أجل إضفاء شرعية ما على مواقف أو طروحات غير شرعية؛ فيفهم من كلام الإمام، ويريد من قارئه أن يفهم أن الواقع يدرس دراسة عقلية، وتدرس جوانب المصلحة وجوانب المفسدة فيه، ثم يكون حكم الشرع في ذلك الواقع بحسب المصلحة كما يراها العقل، فإذا غلب العقل جانب المصلحة كان ذلك الشيء أو الأمر أو الواقع مشروعا، وإذا غلب جانب المفسدة كان العكس، وهكذا يتحقق مراده ومراد أصحاب هذا المنهج معه في استبعاد أحكام الشريعة التي لا توافق أهواءهم أو نظرتهم العقلية، ولكن الغنوشي لا ينسى التسويغ لهذا الموقف فيُفهم قارئه أن المجتمعات تتغير وتتبدل، ما يستدعي تطور الأحكام لتجاري تطور المجتمعات؛ فالمنهج الإسلامي الذي يصلح لجماعة ما أو زمان ما لا يصلح لكل جماعة وكل زمان، فإذا لم تتطور الشريعة تصبح جامدة وغير صالحة؛ فلا بد أن تكون قابلة للتطور، ولهذا لا بد أن تكون مرنة، ولا بد أن تتوافق مع الواقع لتعطيه من الأحكام ما يناسبه. يقول في "ص358": "ولأن من سمات المنهج الإسلامي الواقعية والمرونة بما يحقق خلوده وصلاحه لكل زمان ومكان، ولأن حياة الجماعات البشرية عامة، ومنهم جماعة المسلمين في حركية دائمة مثل حياة الأفراد تتوارد عليها حالات الصحة والمرض، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والضعف والقوة؛ فلا مناص لدين جاء ليغطي حياة البشرية في كل أصقاعها على امتداد الزمان أن يتسع لتغطية كل = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 41 .........................................................................   = أوضاع التطور التي يمكن أن تمر بها جماعة أو جماعات المسلمين دائما ... ". ويقول أيضا في "ص120": "إن الشريعة ليست نصوصا جامدة، ولا هي مصوغة في صيغ نهائية، وليست أيضا مدونة قانونية بحيث وضعت لكل فعل وحالة حكما، وإنما المجال لا يزال فسيحا للتفسير والتحديد والإضافة والتجديد عن طريق استخدام العقل الفردي والجماعي "الاجتهاد"". هذه النصوص المطولة التي أوردناها أعلاه عن الغنوشي كافية لبيان منهجه "العصري" في فهم الإسلام، والذي يتلخص في أن الأفراد والجماعات -ومنهم المسلمون- في تطور وتغير دائم، وتعتريهم حالات الصحة والمرض والقوة والضعف، والإسلام يجب أن يكون بناء على ذلك قابلا للتطور والتغير، ويجب أن يكون مرنا، وإلا لم يكن صالحا؛ فالأحكام يجب أن تتغير بحسب الواقع، فما كان حراما قد يصير حلالا، والقاعدة التي تتبع في ذلك هي المصلحة التي يراها العقل، فما يراه العقل محققا للمصلحة ودارئا للمفسدة؛ فهو مشروع إن خالف نصا؛ لأن النصوص برأيه ليست جامدة ولا مصوغة في صيغ نهائية، ولم تعط حكما لكل فعل وحالة، والمجال فسيح أمام العقل. فالنصوص عنده إذن فقط حددت المقاصد، والمقاصد هي المصالح، وإذا لم تتبع قواعد المصلحة في التشريع؛ جمدت الشريعة وفقد الإسلام صلاحيته، وهو يرى في كل ذلك أنه يستند إلى أصول الشاطبي -رحمه الله- وفي ذلك مغالطة كبيرة وجريئة، وإن أهم ما نقصده هنا هو بيان أن الشاطبي -رحمه الله- بعيد كل البعد عن هذا المنهج، ولو قال به لرد قوله لتناقضه الصارخ مع شريعة الإسلام أصولا وفروعا. فما هي حقيقة رأي أو موقف الإمام الشاطبي؟ إن قول الشاطبي: إن الشريعة وضعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل معا، لا يستفاد منه ولا بأي وجه من الوجوه أن ما يراه العقل مصلحة؛ فهو مشروع، ولا أنه يجوز ترك حكم النص إلى حكم فيه مصلحة بحجة أو بشرط المحافظة على المقصد، ولا أن ما تغلب فيه المصلحة على المفسدة؛ فهو مشروع، والذي يفهم من كلام الشاطبي هو أن وجود الشريعة الإسلامية هو وجود لشريعة صالحة لرعاية البشر؛ فتحقق لهم إشباع حاجاتهم وطمأنينة نفوسهم لأنها تعالج البشر بأحكام من عند خالق البشر الذي يشرع لهم ما يصلح لهم على الحقيقة؛ فيؤدي إلى رفاهيتهم وطمأنينتهم = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 42 ........................................................................   = في الدنيا؛ أي: في العاجل، ويؤدي إلى ثوابهم ونجاحهم من العقاب في الآخرة؛ أي: في الآجل، وهذا كله مصلحة للعباد، مصلحة في الدنيا ومصلحة في الآخرة، وكلتاهما تنتجان عن التزام ما أمر به الله سبحانه وتعالى، وليس معنى هذا أن الإنسان يجوز أن يسير في هذه الدنيا بحسب ما يراه محققا للمصلحة؛ لأن هذا يؤدي لأن يشرع الإنسان لنفسه بنفسه، وهذا لو سلمنا أنه يؤدي إلى مصلحة العباد في العاجل؛ فإنه لا يؤدي إلى المصلحة في الآجل؛ لأنه عدول عما أمر به الله سبحانه وتعالى، والمصالح في العاجل لا تتحقق إلا بما تتحقق به المصالح في الآجل، علاوة على أن قصد المصلحة في التشريع لا يؤدي إلى حصول المصلحة، وإنما يؤدي إلى الشقاء في العاجل. وقد بين الإمام الشاطبي قصده هذا في مقدمة الجزء الأول من كتابه "الموافقات"، عندما بين أن الإنسان كان يشرع لنفسه قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء على ما يراه مصلحة؛ فأدى ذلك إلى شقائه حتى جاءت الشريعة الحنيفية، وبينت للعباد ما يؤدي إلى المصلحة الحقيقية، التي يعلم الله وحده السبيل إليها، ويجهل سبيلها الإنسان الذي قد يسلك إلى شقائه وهلاكه ظانا لضعفه وقصور إدراكه أنه يسلك إلى المصلحة والطمأنينة. قال الشاطبي في "1/ 3": "الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة، ونصب لنا من شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى علَم وأوضح دلالة، وكان ذلك أفضل ما منّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله؛ فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء؛ لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الأهواء، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء؛ فنضع السموم على الأدواء موضع الدواء، طالبين للشفاء؛ كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكبابا على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم". ومما يفسر ويؤكد المعنى الذي ذكرناه آنفا عند الشاطبي، قوله "2/ 63-64": "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور: = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 43 ...........................................................................   = أَحَدُهَا: مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} ". ويستطرد الشاطبي في بيان هذا الأمر بما بنا غنية فيما أوردناه عنه من هذا الموضع عما لم نورده. إذًا، المصلحة عند الشاطبي تنتج عن تطبيق الشريعة ذاتها، وليس عن تطبيق ما يراه العقل موصلا إليها؛ فليس المشروع هو ما يؤدي إلى المصلحة كيفما كان، وإنما المصلحة عند الشاطبي مقصد من التشريع لا يسلك إليها إلا ما قد شرعه الله. قال الشاطبي في "2/ 63": " ... أن الشريعة إنما جاءت لتخرج العباد من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت". فالعجب العُجاب ممن يستدل بـ"الموافقات" على عكس هذا المعنى! ولا نستطيع أن نستقصي كل ما قاله هذا الإمام الفذ حول هذه المسألة، ولكني أدعوك -أخي القارئ- إلى قراءة كلام الإمام الشاطبي بعمق، ولا سيما عند حديثه على التحسين والتقبيح العقليين، انظر لزاما: "1/ 125 وما بعد" وتعليقنا عليه؛ فهو مما ينسف هذا المنهج المبتدع من جذوره، ويبيِّن أن افتراءهم على الشاطبي واه ومتهافت. والخلاصة: أن النقول التي أوردناها عن الغنوشي فيما سبق تبين أنه والذين يعتبرهم الأصوليين المعاصرين أو مفكري الإسلام المعاصرين يتخذون من أصول الشاطبي إطارا عاما لأجل التشريعات الجديدة المطلوبة لهذا العصر، والتي تتطلب مرونة في الشريعة تدفع إلى العدول عن أحكام النصوص إلى أحكام أخرى تقتضيها الضرورة أو المصلحة بحجة المحافظة على المقاصد، وما أوردناه آنفا عن "الموافقات" للشاطبي يدحض هذه المزاعم التي لا أصل لها عنده، ويؤكد أنها فرية؛ فالشاطبي -رحمه الله- أبدا لم يتحدث عن فقه مصالح وضرورات ولا عن فقه موازنات. أما ما يذكره الغنوشي عن تقسيم الشاطبي للمقاصد الشرعية إلى ضروريات وحاجيات = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 44 ..........................................................................   = وتحسينيات؛ فهذا صحيح، ولكن ليس صحيحا ما يبنيه الغنوشي على ما يستنبطه الإمام؛ فما أشار إليه الغنوشي من إدخال الحريات العامة؛ كحرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرية الملكية في هذه المقاصد؛ إنما هو من أوهامه، والشاطبي تحدث في الضروريات عن حفظ الدين وليس عن حرية العقيدة، وحفظ الدين الذي اعتبره الأصوليون من مقاصد الشريعة استدلوا عليه بأن الشارع قد شرع حدا للمرتد وهو القتل؛ فبهذا يحفظ الدين في شريعة الإسلام، بينما الغنوشي في كتابه يدعي أن مقصد حفظ الدين هو حرية العقيدة، أي بهتان هذا؟! ثم إنه بعد ذلك يجادل عبثا في هذه المسألة، فيحاول أن يثبت أن عقوبة المرتد عقوبة تعزيرية وليست حدا، استدعتها الظروف السياسية آنذاك -زمن النبي, صلى الله عليه وسلم- وأن ما صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن الردة وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" كان باعتبار ولايته السياسية ولم يكن تشريعا، وأن قتل المرتد كان يعده خروجا بالقوة على نظام الدولة ومحاولة زعزعته، وكل هذه الدعاوى منه ليست مبنية على أي دليل، وظاهر فيها ريح الحضارة الغربية النتنة؛ فكل هذه المحاولة اليائسة هي ليثبت أن الإسلام يقرر حرية العقيدة، وأن حق الإنسان محترم ومحفوظ في تغيير عقيدته، ومن أراد أقوال الغنوشي؛ فليراجع صفحة "48 و49 و50" من كتابه. وكذلك ما قاله الغنوشي عن مقصد حفظ العقل؛ فالأصوليون يجعلون حفظ العقل مقصدا، ويستدلون على ذلك بتحريم المسكر وبالعقوبة الشرعية عليه، بينما يذكر الشيخ راشد أن حفظ العقل يتعلق به حق الإنسان في التعليم وحرية التفكير وحرية التعبير، ما العلاقة بين حفظ العقل المستنبط من وضع عقوبة لشارب الخمر وبين حرية التعبير؟ ما هذا؛ أهو عمق في التفكير والاستنباط، أم هو استنتاج جار على مقتضى الأهواء وليس جاريا على حسب مقتضى العقول؟ إنه الاحتمال الأخير بلا شك، والدافع إليه هو موافقة الحضارة الغربية، وهذا النوع من الموافقات مختلف تمام الاختلاف عن "موافقات الشاطبي". دعوكم من هذا أيها "المفكرون المعاصرون"؛ فإنه ضلال، وهو يسقطكم ولا يرفعكم. وعلى كل حال؛ فالشاطبي بريء من كل هذا كما بينا سابقا. وقطعا لكل المحاولات المريبة في تفسير مقصد الشاطبي من تقسيمه المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية؛ لا بد من بيان مقصده منها كما بينه هو، ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن الشاطبي لم يكن أول من تناول هذا التقسيم؛ فقد سبقه كثير من الأصوليين كالغزالي والآمدي -رحمهما الله- = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 45 ...........................................................................   = تعالى. والشاطبي لم يورد هذا التقسيم ليرد أحكاما شرعية ويستبدل بها أحكاما أخرى من تقديرات العقل بحجة أن الأولى تحسينية والثانية حاجية، أو أن الأولى حاجية والثانية ضرورية، بل هذا عين ما يسميه الشهوة والهوى؛ فكما أن المصلحة هي ما جعله الشرع مصلحة والمفسدة كذلك، كما بينا عنه سابقا؛ فكذلك مرتبة المصلحة أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية هو بجعل الشارع لها كذلك. إن حديث الشاطبي ومن سبقه في هذا التقسيم للمصالح ينطوي على فهم عميق لواقع الإنسان؛ فهم لا تجده في كل ما أنتجته الحضارة الغربية من أبحاث، هذه الحضارة التي ينطلق منها أحيانا من يطلق عليهم أحيانا: "مفكرو الإسلام المعاصرون". ثم إن الشاطبي -رحمه الله- قد بين أن المصلحة ليست في مجرد سد هذه الحاجات؛ فالشرائع الوضعية تسعى إلى سدها وإشباعها، وإنما المصلحة في سدها كما أمر الشرع، يقول الشاطبي "2/ 63": "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية". ويقول "2/ 78": "فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد القائل: إن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها؛ فذلك لا نزاع فيه". فإذا ربطنا هذا الكلام بما ذكرناه عنه سابقا أن المصلحة هي بجعل الشرع لها كذلك، وكذلك المفسدة؛ علمنا رأيه، وهو أن العقول تدرك بالتجارب, أي: بعد تطبيق الشرع أن هذا المأمور به يؤدي إلى مصلحة، وأن هذا المنهي عنه يؤدي إلى مفسدة، وقول الشاطبي "بعد وضع الشرع أصولها"؛ أي: بعد أن نصب الشرع الأدلة الدالة على طلب الفعل أو تركه. وعليه؛ فالشاطبي يرى أن اللازم اتباع الشرع في الأمر والنهي كي تتحصل المصلحة في الدنيا والآخرة، وإلا؛ فسوف نقع في المفسدة حيث نتوقع المصلحة، أما ما يراه بعض المهزومين أمام الحضارة الغربية وأمام ضغط الواقع؛ فهو قلب للأمور رأسا على عقب، إنه استبدال لشريعة اسمها المصلحة بشريعة الإسلام. = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 46 ...........................................................................   = وهؤلاء الذين يريدون تحميل أوزارهم للشاطبي؛ فيقولون: إنهم ينتهجون نهجه، ويدعون أن الاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر يجعل من أصول الشاطبي إطارا عاما وأساسا لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين، وأن الشرع قد تضمن أصولا عامة يمكن أن يتأسس عليها اجتهاد جديد كلما حصل تطور في الحياة، هؤلاء يعدهم الشاطبي أهل بدع، ولله در هذا الشاطبي المستنير؛ فلنقرأ بتأن قوله "3/ 34": "فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعلُهُ موافقا أو مخالفا"؛ أي: لصورة الفعل المأمور به أو المنهي عنه بالنص، ثم يتابع: "وعلى كلا التقديرين؛ إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته؛ فالجميع أربعة أقسام". فيتحدث رحمه الله عن الأقسام الثلاثة الأولى بما يلزم، ثم يتحدث عن القسم الرابع وهو ما يلزمنا هنا؛ فيقول "3/ 37": "والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا؛ فهو أيضا ضربان: أحدهما: أن يكون مع العلم بالمخالفة. والآخر: أن يكون مع الجهل بذلك. فإن كان مع العلم بالمخالفة؛ فهذا هو الابتداع، كإنشاء العبادات المستأنفة، والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل، ومع ذلك؛ فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة". ثم يسترسل الشاطبي -رحمه الله- في إثبات بدعية هذا الطرح وهو مخالفة الشارع فيما أمر أو نهى بحجة المحافظة على المقصد، وهذا هو عين ما طرحه الغنوشي في كتابه، وهو عين ما يطرحه الذين جعلهم الغنوشي مفكري الإسلام المعاصرين، وجميعهم يقصدون إلى تغيير شرع الله؛ فيثيرون مسألة مقاصد الشريعة كمقدمة وغطاء للانحراف، ثم يخادعون فيغشون على العقول والقلوب بإثارة مسألة مرونة الشريعة، ويتترسون بالإمام الشاطبي، والشاطبي بريء منهم ويعدهم أهل أهواء وبدع؛ فمن لي بأصحاب هذه المفاهيم الغربية السقيمة، يغرفونها من مستنقعات الكفر، ثم يزينونها بالبسملة والحمدلة ويدعون أنها الإسلام؟ إن الشاطبي يرد هذا المنهج ويعده مذموما شرعا، ويقول: "إن مخالفة الشرع بالفعل أو الترك مع قصد المحافظة على مقصد الشريعة هو بمثابة روح بلا جسد"، ثم يقول "3/ 45": فإذا = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 47 ...........................................................................   = لَمْ يُنْتَفَعُ بِجَسَدٍ بِلَا رُوحٍ؛ كَذَلِكَ لَا ينتفع بروح في غير جسد". وجريا على المنهج الذي اتبعته هنا في الرد على الغنوشي بكلام الشاطبي نفسه؛ لأن الأول ادعى أنه يتخذ من أصول الثاني إطارا عاما لمنهجه؛ فلننظر ما هو رأي الشاطبي في مسألة التطور في الواقع والمرونة في الشريعة، والتغير في أحوال الأفراد والجماعات، يقول الإمام الشاطبي, رحمه الله "2/ 483-484": "إن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة؛ كالإخبار عن السموات والأرض وما بينهما، وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال، وأن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله؛ كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال؛ فإن الخلاف بينهما محال". وقال أيضا: "لولا أن اطراد العادات معلوم؛ لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه". وقال أيضا "2/ 488": "العوائد المستمرة ضربان: أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا. والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي. أما الأول؛ فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، والتأهب للمناجاة وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة؛ فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع؛ فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا؛ حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه، أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح؛ فلنجزه، أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل". ثم تحدث الشاطبي عن الضرب الثاني؛ فأطال قليلا، ثم لخص فقال "2/ 491": "إن ما جرى ذكره هنا عند اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف = الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 48 ويظهر تأثر علال الفاسي بالشاطبي في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"؛ فهو يصرح فيه بأنه قرأه ودرسه، ثم إنه كتبه ليسد فراغا، ويتجاوز الحد الذي وقف عنده الشاطبي؛ فها هو يقول في مطلعه: "هذا كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" أضعه اليوم بين يدي قرائي الأفاضل، وأنا واثق من أنه سيسد فراغا في المكتبة العربية؛ لأن الذين تعاقبوا على كتابة المقاصد الشرعية لم يتجاوزوا الحد الذي وقف عنده إمامنا أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الموافقات"، أو لم يبلغوا ما إليه قصد، وبعضهم خرج عن الموضوع إلى محاولة تعليل كل جزء من أجزاء الفقه أخذا للمقاصد بمعناها الحرفي"1، ثم يقول: "وعرضت إلى أصول الشرعة؛ فتناولتها من جهة المقاصد أكثر مما تناولتها من جهة العلة، ولم أغفل عن المباحث التي وقعت حولها من المعاصرين مما اقتضته شبهات الوقت والمتشابهات لدى مفكريه؛ فجمعت بذلك بين نقط الجدل القديم والجديد، ودللت القارئ على نقط الضعف فيها ووسائل الإجابة عنها، ثم بينت بعد ذلك وسائل الاجتهاد وأسباب الاختلاف بما يفسح المجال   = فِي أَصْلِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَوْضُوعٌ عَلَى أَنَّهُ دَائِمٌ أَبَدِيٌّ، لَوْ فُرِضَ بَقَاءُ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَحْتَجْ في الشرع إلى مزيد .... ". هذا هو الشاطبي، وهذه أفكاره ومفاهيمه وأصوله؛ فكيف يجعلها من يسمون أنفسهم مفكري الإسلام المعاصرين إطارا عاما لمنهجهم القائم على الحاجة إلى فقه جديد اسمه فقه المصالح أو فقه الموازنات أو فقه المصالح والضرورات؟! انظر: مقالة "رد افتراءات على الإمام الشاطبي" لمحمود عبد الكريم حسن، منشورة في "مجلة الوعي" "العدد 88، السنة الثامنة، ربيع الأول، سنة 1415هـ، ص21 وما بعد". 1 "مقاصد الشريعة" "ص5". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 49 للذين يرغبون في تعمق أسرار الشريعة وتفهم مغازيها"1، ثم يقول: "ويعلم الله كم بذلت من جهد في استخلاص فصول هذا الكتاب، وجعلها قريبة من أذهان المعاصرين، مستندا إلى أهم المصادر الإسلامية والكتب العلمية الصحيحة، مجتهدا في تفهم آراء المسلمين والتوفيق بينها وتوضيح مواطن الضعف في كتابات المعاصرين منهم، ومتتبعا ما أسميته بالإسرائيليات الجديدة، أي: الأفكار المتسربة من غيرنا عن طريق الاستعمار الروحي الذي هو آفتنا في هذا العصر. وقد أخذ هذا الكتاب مني وقتا غير قصير؛ إذ اشتغلت فيه مع غيره من الأعمال الأخرى مدة أربعة أعوام؛ فهو ليس بالمرتجل ولا بالمستعجل، وكان أصله محاضرات ألقيتها على كل من طلبة الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، وطلبة كلية الحقوق بنفس الجامعة بفاس، وطلبة كلية الشريعة بجامعة القرويين من نفس المدينة. وأملي أن يجد من قرائي الكرام قبولا حسنا، وعناية بالموضوع الذي ما يزال يستحق الكثير من البحث ومن التدقيق، وحسبي أني قد زدت فيه لبنة على من سبقني، وفتحت آفاقا لمن يريد أن يعمل من بعدي"2. ويقول أيضا مبينا ما آل إليه العالم الإسلامي من خمود، وإيمانه بضرورة الجمود: "وقد مضى على العالم الإسلامي ردح استسلم فيه إلى الخمود وآمن بضرورة الجمود؛ فأعرض عن النظر في الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها، وأحل أقوال الأئمة والفقهاء مقام الكتاب والسنة؛ حتى أصبح من ينظر فيها محكوما عليه بالفسق، ومن يتجرأ على الاستدلال بها منظورا إليه النظر الشزر.   1 "مقاصد الشريعة" ص5". 2 "مقاصد الشريعة" "ص6". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 50 وأما من يدعي الاجتهاد ولو في جزئية ما؛ فهو المارق من الدين السالك سبيل غير المؤمنين، وذلك ما فتح الباب لقلب الأحكام الشرعية، وإظهار الشريعة الإسلامية بمظهر الشريعة التي لا تقبل التطور ولا تصلح لكل العصور"1، ثم يقول: ومن حسن الحظ أن ينتبه بعض العلماء لهذه الفاجعة، ويتجرءوا على النظر والاجتهاد؛ فيعيدوا للشرع الشريف اعتباره، وللنظر والعلم الصحيح مكانتهما، ولكن ذلك وقع بالأسف في عصر طغى على المسلمين فيه الفكر الأجنبي والقانون الأجنبي؛ فصعب على القائمين بدعوة الإسلام النجاح، وكثر عليهم المعارضون والمتآمرون، وذلك ما يوجب عليهم الصمود ويفرض عليهم بذل أقصى ما يمكن من الجهد واستكمال ما يحتاجون إليه من العلم؛ حتى لا يفضي جمود الآباء إلى جحود الأبناء، وإن في قلة الفقهاء المجددين على قلتهم ضمانا للسير بالفقه الإسلامي إلى شاطئ النجاة حتى يصبح مرتبطا بمقاصد الشريعة وأدلتها، ومتمتعا بالتطبيق في محاكم المسلمين وبلدانهم، وليس ذلك على الله وعلى همة المجاهدين المجتهدين بعزيز. يعتمد المجتهد في استنباطه الأحكام على أمرين: 1- المعرفة بالأدلة السمعية التي تئول إلى الكتاب والسنة والإجماع وما اختلف فيه العلماء من الأصول الأخرى. 2- التأكد من دلالة اللفظ في اللغة العربية وفي استعمال البلغاء، وهذه الدلالة إما بالمنطوق أو بالمفهوم، أو بالمعقول وهو القياس وأنواع الاستدلال المختلف في حجيتها بين الأئمة. القدرة على الموازنة بين الأدلة واختيار أرجحها وأقواها على من دونه.   1 "مقاصد الشريعة" "ص164". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 51 فالمعرفة بالأدلة السمعية، والتأكد من الدلالات اللغوية، والقدرة على الترجيح بين الأدلة المتزاحمة؛ تلك هي العناصر التي يتوقف عليها المجتهد للقيام بمهمة الاجتهاد، والدلالات السمعية، وطرق التأكد من معانيها والترجيح بينها هو ما يبحث فيه علم الأصول وعلم الاجتهاد، والأخير جزء من الأول، ولكنه خاص باعتبار ما يتوقف عليه من العلوم. فلا بد للفقيه إذا أراد أن يكون مجتهدا من معرفة الكتاب وقراءاته وناسخه ومنسوخه والسنة واصطلاحاتها ودرجاتها ومركزها من القرآن، ولا بد كذلك من معرفة علم الأصول واللغة وأقوال الفقهاء وأسباب اختلافهم وطرق الاستدلال السمعية والعقلية ومقاصد الشريعة. ويرى الشاطبي أن درجة الاجتهاد إنما تحصل ممن اتَّصَفَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَهْمُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ عَلَى كمالها، وهو شرط لم يذكره أغلب علماء الأصول، مع أنه الذي يتفق مع ما قاله الشافعي من وجوب ملاحظة المجتهد القواعد الكلية أولا، وتقديمها على الجزئيات ... "1. والمتمعن في كتاب علال الفاسي يجد أثر الشاطبي واضحا فيه، ولكنه جعله قريبا من الأذهان، وسبكه في عبارة واضحة، وربطه بالواقع الذي يحياه؛ بحيث تعرض لشبهات الوقت والمتشابهات لدى مفكريه. وتولدت عن هذه الكتابات والجهود التي ركزت على ضرورة معرفة "المقاصد" أبحاث متخصصة في منهج الداعين إليها، وظهر منها فيما يخص الشاطبي اثنان2:   1 "مقاصد الشريعة" "ص164-165". 2 ذكر الدكتور عبد المجيد تركي في كتابه "مناظرات في أصول الشريعة" "ص528" أنه يعد دراسة عن الشاطبي ومقاصد الشريعة؛ فلا أدري هل أتم ذلك أم لا؟ الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 52 الأول: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني، طبع عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سنة "1412هـ - 1992م". والآخر: الشاطبي ومقاصد الشريعة لحمادي العبيدي، طبع عن دار قتيبة، سنة "1412هـ - 1992م" أيضا. وكلاهما جلى منهج الشاطبي في قسم المقاصد من "الموافقات". المحور الثالث: طبعات الكتاب. طبع كتاب "الموافقات" عدة طبعات1، هي: الأولى: طبع بتونس سنة "1302هـ - 1884م" بمطبعة الدولة التونسية، وبتصحيح ثلاثة من علماء جامعة الزيتونة في ذلك الوقت، هم: الشيخ علي الشنوفي، والشيخ أحمد الورتاني، والشيخ صالح قايجي، وظهر في أربعة أجزاء. الثانية: طبع في سنة "1327هـ - 1909م" الجزء الأول منه، ويقع في "189 صفحة" بمدينة "قازان" عاصمة جمهورية التتار بروسيا. الثالثة: طبع في مصر سنة "1341هـ - 1922م" في المطبعة السلفية، وأنفق على الطبع عبد الهادي بن محمد منير الدمشقي، وعلق الشيخ محمد الخضر حسين على الجزء الأول والثاني، وعلق الشيخ محمد حسين مخلوف على الجزء الثالث والرابع. الرابعة: طبع في مصر بتعليق وتحقيق الشيخ عبد الله دراز، وظهر في أربعة أجزاء.   1 انظر: "معجم المطبوعات العربية والمعربة" "1091"، و"ذخائر التراث العربي الإسلامي" "1/ 607". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 53 الخامسة: طبع في مصر بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد عن مطبعة محمد علي صبيح، وظهر في أربعة أجزاء أيضا. تقويم الطبعات التي وقفت عليها: من خلال المشوار الطويل الذي صحبته مع "الموافقات"، والنظر في الطبعات التي وقفت عليها، وهي عدا الأولى والثانية من الطبعات المتقدمة؛ أستطيع أن أقرر أن الأصل الذي اعتمده هؤلاء المحققون واحد، وأن الغلط والتحريف والسقط متكرر، اللهم إلا أن يشير المتقدم منهم -وهو الشيخ محمد الخضر أو محمد الحسين- إلى احتمال تحريف أو سقط، فيصححه المتأخر، مثل: الشيخ عبد الله دراز؛ كما تراه في مواطن من طبعتنا هذه، مثل: "3/ 176، 364، 373، 381 و4/ 179 و5/ 68، 302"، أو يتعقبه ويخطئه1؛ كما تراه من طبعتنا هذه في "3/ 237، 523، 566 و4/ 34، 192 و5/ 89، 210، 305"، وفي جميع هذه المواطن يتعقب الشيخ دراز الشيخ مخلوف، وتعقب دراز الشيخ محمد الخضر حسين أيضا، ولكن في مواطن قليلة منها "2/ 21". أما الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وهو آخر من حقق هذا الكتاب؛ فيفترض أن تكون طبعته أدق الطبعات السابقة وأحسنها، ولكن -يا للأسف- كانت على خلاف ذلك؛ فعلى الرغم من قوله في المقدمة بعد أن ذكر الطبعات السابقة, عدا طبعة قازان: "ولم تخلُ طبعة من هذه الطبعات من تحريف وتصحيف وسقط، رغم ما بُذل في كل واحدة منها من الجهد، ورغم جلالة شأن القائمين عليها، وها أنذا أقدِّم هذه الطبعة الرابعة لمن يعنيهم أن   1 دون أن يذكر اسمه، ولكن ينقل عبارته -ويتصرف فيها غالبا- ثم يبين ما فيها من خطأ أو نحوه. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 54 يقرءوا هذا الكتاب، ويفيدوا منه، بعد أن بذلت الوسع في مراجعة أصوله وتحقيقها، والله سبحانه المسئول أن ينفع به، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه"1. قلت: على الرغم من هذا القول؛ إلا أن طبعته لم تمتز بشيء يذكر عن سابقاتها إلا في مواطن يسيرة، أثبت في أصل الكتاب ما احتمله الشيخ مخلوف، وتابعه في نقل كثير من الهوامش -ولا سيما في الجزء الأخير- فأثبتها منه بالحرف، ولعله يزيد عليها كلمات2؛ كما تراه في "5/ 124، 125، 131، 133، 139، 158، 181، 183، 185، 195، 201، 267، 336". والعجب كل العجب أن أخطاء وقعت في رسم الآيات في مواطن عدة؛ كما تراه في "3/ 421 و4/ 160، 305، 326-ط دراز"، وتتابعت جميع الطبعات عليها. والحق يقال, إن أجود هذه الطبعات طبعة الشيخ عبد الله دراز، ولا سيما أنه بذل جهدا عظيما فيها، وذلك من خلال شرحه كلام المصنف، وتعقبه له وإحالته الدقيقة3 على كلام المصنف في مباحث فاتت أو ستأتي، وهذه التعليقات تدل على علم واسع، ونظر ثاقب، وقدم راسخة في علم الأصول، ودراسة دقيقة عميقة لكتاب "الموافقات"، وقد لاحظ بعض الباحثين أن "تعليقات الشيخ دراز تمتاز بالشح في الإطراء، وبالمبالغة في المعارضات   1 مقدمة محمد محيي الدين لـ"الموافقات" "1/ 5". 2 وميزنا زياداته بوضعها بين معقوفات؛ فأينما رأيت "ف"، وتبعه "م"، وفيما يسبق ذلك معقوفات؛ فالمعقوفات من زيادات "م"؛ أي: محمد محيي الدين، وأصل الكلام لـ"ف"؛ أي: الشيخ مخلوف. 3 إلا في مواطن قليلة جدا، نبهنا عليها في مواطنها. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 55 والاستدراكات"1، ولكنه مع هذا أطرى عليه في غير موضع؛ فها هو يقول عن طريقة الشاطبي: "يتتبع الظنيات في الدلالة، أو في المتن، أو فيهما، والوجوه العقلية كذلك، ويضم قوة منها إلى قوة، ولا يزال يستقري حتى يصل إلى ما يعد قاطعا في الموضوع ... فهذه خاصية هذا الكتاب في استدلالاته، وهي طريقة ناجحة أدت إلى وصوله إلى المقصود، اللهم إلا في النادر، رحمه الله رحمة واسعة"2. وتعليقات الشيخ دراز تمتاز بالاختزال والضغط، وقد أشار هو في مقدمته على "الموافقات" تحت عنوان "سبب توجهي للكتاب وطريقة مزاولتي لخدمته" إلى الدافع عن تحقيقه، ومزايا هذا التحقيق؛ فقال: "كثيرا ما سمعنا وصية "الشيخ محمد عبده" رحمه الله لطلاب العلم بتناول الكتاب، وكنت إذ ذاك من الحريصين على تنفيذ هذه الوصية؛ فوقف أمامي وأمام غيري صعوبة الحصول على نسخة منه، وبعد اللتيا والتي وفقنا إلى استعارة نسخة بخط مغربي من بعض الطلبة؛ فكان إلغاز الخط مع صعوبة المباحث، وإلحاح صاحب النسخة لاسترجاعها أسبابا تضافرت على الصدّ عن سبيله؛ فأنفذنا وصية القائل: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع فلما يسر الله طبع الكتاب طبعة مصرية3، وأتيحت لي فرصة النظر فيه؛ عالجته أول مرة حتى جئت على آخره، فُرضتُ في هذا السفر الطويل شعابه   1 "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص252". 2 "الموافقات" "4/ 323-328-ط دارز، و5/ 405- طبعتنا هذه". 3 يشير الشيخ دراز -رحمه الله- إلى طبعة الشيخ محمد الخضر حسين ومحمد حسين مخلوف، والحق أن الكتاب طبع طبعتان قبل ذلك. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 56 وأوديته، وسبرت خزائنه وأوعيته، وقد زادني الخُبر به في تصديق الخبر، وحمدت السرى ومغبة السهر؛ فملك أعنة نفسي لإعادة النظر فيه بطريق الاستبصار، وامتحان ما يقرره بميزان النظار، والرجوع إلى الموارد التي استقى منها، والتحقق من معانيها التي يصدر عنها، والإفصاح عما دق من إشاراته، والإيضاح لما شق على الذهن في عباراته، بأكمل لفظ موجز، ومد معنى مكتنز، وجلب فرع توقف الفهم عليه، والإشارة لأصل يرمي إليه، ولم أرُم الإكثار في هذه التعليقات وتضخيمها باللم من المصنفات للمناسبات1، بل جعلت المكتوب بمقياس المطلوب، واقتصرت على المكسوب في تحقيق المرغوب؛ إلا ما دعت ضرورة البيان إليه في النادر الذي يتوقف الفهم عليه، والتزمت تحرير الفكر من قيوده وإطلاقه من مجاراة المؤلف في قبول تمهيده، أو الإذعان لاستنتاجه لمقصوده،   1 ومع هذا؛ فقد صرح في تعليقاته وشرحه النقل من كثير من الكتب؛ مثل "الإحكام" للآمدي، و"المستصفى" للغزالي, و"ميزان الأصول" لعلاء الدين السمرقندي، و"إرشاد الفحول"، و"منح الجليل"، و"الشرح الصغير" للدردير، و"مختصر ابن الحاجب" الأصولي، و"شروحه"، و"أحكام القرآن" لابن العربي، و"زاد المعاد"، و"تفسير البغوي"، و"السيرة الحلبية"، و"التحرير" لابن الهمام، و"المنهاج" للبيضاوي، و"شرح الطيبة" للنويري، و"إحياء علوم الدين"، و"القاموس المحيط"، و"الاعتصام" للشاطبي، و"الفروق" للقرافي، وغيرها. بالإضافة إلى المراجع التي اعتمد عليها في التخريج، وهي: الكتب الستة، "شرح ابن حجر على البخاري"، "شرح القسطلاني على البخاري"، "مشكاة المصابيح"، "تيسير الوصول"، "شرح العزيزي على الجامع الصغير"، و"شرح المناوي على الجامع الصغير"، "الترغيب والترهيب" للمنذري، "منتقى الأخبار" مع شرحه "نيل الأوطار"، "التلخيص الحبير", "مجمع الزوائد"، "تخريج العراقي لأحاديث الإحياء"، "المجموع الفائق من حديث خير الخلائق" للمناوي، "كنوز الحقائق" للمناوي، "تمييز الطيب من الخبيث"، "تذكرة الموضوعات"، "اللؤلؤ المرصوع"، "رسالة الصاغاني في الموضوعات"، "النهاية" لابن الأثير، "الشفا مع شرحي القاري والشهاب"، و"المواهب اللدنية"، "الموطأ"، كلاهما بشرح الزرقاني، "راموز الحديث" لأحمد ضياء الدين، "الغماز على اللماز"، "مسند الشافعي"، "تفسير الطبري"، "تفسير الآلوسي"، "إعلام الموقعين". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 57 وكان هذا سببا في عدم الاحتشام من نقده في بعض الأحيان، والتوقف في قبول رفده الذي لم يرجح في الميزان؛ فقد جعل هذا المسلك حقا على الناظر المتأمل فيما قرر، والطالب للحق فيما أورد وأصدر، وطلب منه أن يقف وقفة المتخيرين لا وقفة المترددين المتحيرين، كما نهى عن الاستشكال قبل الاختبار؛ حتى لا تطرح الفائدة بدون اعتبار، نعم؛ فليس في تحقيق العلم فلان وأين منه فلان؟ ولو كان لضاع كثير من الحق بين الخطأ والنسيان، وهذه ميزة ديننا الإسلام، قبول المحاجة والاختصام، حاشا للرسول, عليه الصلاة والسلام. وقال تحت عنوان "تخريج أحاديث الكتاب" ما نصه: "كان من استقراء المؤلف لموارد الشريعة أن أورد زُهاء ألف من الأحاديث النبوية، وفي الغالب لم يسندها إلى راويها، ولم ينسبها لكتب الحديث التي تحويها، بل قلما استوفى حديثا بتمامه، وإنما يذكر منه بقدر غرض الدليل في المقام، وقد يذكر جزءا آخر منه في مقام آخر حسبما يستدعيه الكلام، وقد يشير إلى الحديث إشارة دون أن يذكر منه شيئا؛ يقصد بهذا وذاك الوصول إلى قصده، دون أن يخرج في الإطناب عن حده، ولا تخفى حاجة الناظر في كلامه إلى الوقوف على الحديث بتمامه، ومعرفة منزلته قوة وضعفا؛ ليكون الأول عونا على معرفة الغرض من سياق الحديث, والثاني مساعدا على تقدير قيمة الاستدلال والاطمئنان أو عدمه في هذا المجال؛ فكان هذا حافزا للهمة، إلى القيام بهذه المهمة، على ما فيها من المشقة والعمل المضني في البحث، واستقصاء ساحات دواوين الحديث الفيحاء، مع كثرة مآخذه، وتعدد مراجعه، حتى كان مرجعنا في ذلك ثلاثة وثلاثين1 كتابا من كتب الحديث.   1 ذكرناها في آخر الهامش السابق. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 58 ولقد كان يحمل عنا أبهظ هذا العبء الأستاذ محمد أمين عبد الرزاق، الذي استمر أشهرا طوالا يعاني مراجعة هذه الأصول للوصول إلى مخرج الحديث، والعثور على لفظه، على كثرة الروايات، واختلافها في العبارات، ليشار أمام الحديث إلى الكتاب الذي خرجه، وفي الغالب باللفظ الذي أدرجه؛ حتى يسهل الرجوع إلى محلته لمعرفة لفظه ومنزلته؛ فجزاه الله عن خدمته للعلم خير الجزاء"1. وقال أيضا تحت عنوان "التحريفات والأخطاء الباقية في الطبعة الماضية" ما نصه: "إنه وإن قام جليلان من أكابر العلماء بتصحيح الكتاب عند طبعه، والعناية بقدر الوسع في رده لأصله؛ فقد كانت كثرة ما وجد من الخطأ والتحريف في النسخة التي حصل عليها طابع الكتاب، مضافة إلى ضيق الوقت الذي جرى فيه التصحيح, كافية لقيام العذر لحضرتهما في بقاء قسم كبير من التحريفات، وسقوط جمل برمتها، أو كلمات لا يستقيم المعنى دون إكمالها، ولا يتم للمؤلف غرض دون إدراجها؛ فكان هذا من دواعي زيادة الأناة وإعمال الفكرة في هذه الناحية؛ حتى يسرها الله، وصار الكتاب في مبناه ومعناه خالصا سائغا للطالبين. ولست -وإن أطرى الناظرون- بمدع أني بلغت في خدمة الكتاب النهاية، بل -إذا حسنت الظنون- قلت خطوة في البداية؛ فميدان العمل فيه سعة لمن شحذت همته، وبذل النصح شرعة لمن خلصت نيته؛ فإنما الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" انتهى كلامه. قلت: وكلامه السابق يؤكد ما ذكرته آنفا من أن محققي الكتاب لم يحققوه على أصول خطية مضبوطة، وإنما توالوا على طبعه، معتمدين على الطبعات   1 انظر ما سيأتي من ملاحظات حول هذا التخريج. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 59 الأولى، ولذا وقع في جميع النسخ تحريف وسقط. ومن القضايا الملفتة للنظر للمتمعن في طبعات الكتاب: تحقيق اسم الكتاب: سمى المصنف كتابه هذا أولا "عنوان التعريف بأسرار التكليف المتعلقة بالشريعة الحنيفة"، ثم حدثت حادثة أُعطي بسببها اسم "الموافقات"، وقد أوردها في مقدمته؛ فقال: "لَقِيتُ يَوْمًا بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنِّي مَحَلَّ الْإِفَادَةِ، وَجَعَلْتُ مَجَالِسَهُمُ الْعِلْمِيَّةَ مَحَطًّا لِلرَّحْلِ, وَمُنَاخًا لِلْوِفَادَةِ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ وَتَصْنِيفِهِ، وَنَابَذْتُ الشَّوَاغِلَ دُونَ تَهْذِيبِهِ وَتَأْلِيفِهِ، فَقَالَ لِي: رَأَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ1، وَفِي يَدِكَ كِتَابٌ أَلَّفْتَهُ، فَسَأَلْتُكَ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتَنِي أَنَّهُ كِتَابُ "الْمُوَافَقَاتِ"، قَالَ: فَكُنْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الظَّرِيفَةِ، فَتُخْبِرُنِي أَنَّكَ وَفَّقْتَ بِهِ بَيْنَ مَذْهَبَيِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي حَنِيفَةَ2. فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ أَصَبْتُمُ الْغَرَضَ بِسَهْمٍ مِنَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ مُصِيبٍ، وَأَخَذْتُمْ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ النَّبَوِيَّةِ بِجُزْءٍ صَالِحٍ وَنَصِيبٍ؛ فَإِنِّي شَرَعْتُ فِي تَأْلِيفِ هَذِهِ الْمَعَانِي، عَازِمًا عَلَى تَأْسِيسِ تِلْكَ الْمَبَانِي؛ فَإِنَّهَا الْأُصُولُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَوَاعِدُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ؛ فَعَجِبَ الشَّيْخُ مِنْ غَرَابَةِ هَذَا الِاتِّفَاقِ؛ كَمَا عَجِبْتُ أَنَا مِنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ وصحبة هذه الرفاق"3.   1 رأيت في المنام في أول ليلة بدأت فيها بخدمة هذا الكتاب "أسدا" على "شرفة" عالية، والناس ينظرون إليه، ويخافونه ويهابونه، وينصرفون عنه، وأحسست برباطة جأش، وقوة عزيمة؛ فسرتُ تجاهه، وقربت منه، دون خوف ولا وجل؛ فوجدته ذلولا مطوعا؛ فأولتُها على خدمة هذا الكتاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. 2 لاحظ عدم ذكره الإمام مالكا بجانب الإمام أبي حنيفة، وإنما ذكر ابن القاسم. 3 "الموافقات" "1/ 10-11". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 60 وأخطأ كحالة؛ فاعتبر "عنوان التعريف بأسرار التكليف" كتابا مستقلا عن "الموافقات"1. أما المعاصرون ممن طبع الكتاب؛ فزادوا في اسمه؛ فهو في طبعة دراز يحمل اسم "الموافقات في أصول الشريعة"، وفي طبعة كل من الشيخين محمد الخضر ومحمد حسين مخلوف يحمل اسم "الموافقات في أصول الأحكام"، وهذا العنوان هو الذي أثبته أيضا محمد محيي الدين عبد الحميد، ولا أدري من أين لهم هذه الزيادات، مع أنها لم تذكر عند المصنف2 ولا في الأصول الخطية للكتاب، ولا في المصادر والمراجع إلا باسم "الموافقات"؟! الأصول المعتمدة في التحقيق: اعتمدت في تحقيقي لكتاب "الموافقات" على نسختين خطيتين، وأربع نسخ مطبوعة، هذا وصفها: النسخة الأولى: وهي التي أطلقنا عليها "الأصل"3، وهي من محفوظات دار الكتب الوطنية بتونس، تحت "رقم 3189"، وتقع في جزأين: الأول في "142 ورقة"، ويبدأ بـ"مقاصد المكلف في التكليف"، والثاني في "172 ورقة"، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة "29" سطرا، وخطها مغربي مقروء، تبدأ المسائل والفصول بخط كبير أحمر، وهو يختصر لفظة "تعالى" بعد   1 "معجم المؤلفين" "1/ 118". 2 مع أنه أحال عليه كثيرا في "الاعتصام"، وكذا سماه بـ"الموافقات" كما في النص المتقدم. 3 وذلك لوقوفي على هذه النسخة في وقت مبكر، وقد صوّرها لي الأخ الفاضل رياض السعيد -حفظه الله- من جامعة أم القرى بمكة المكرمة؛ فله ولقسم المخطوطات في الجامعة مني جزيل الشكر، وأسأل الله تعالى أن يجزيهم جزيل الأجر. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 61 اسم الجلالة، وكذا "الصلاة" من "عليه الصلاة والسلام" ويكتب "حينئذ" مختصرة أيضا ويشير إليها بحرف "ح"، جاء في أولها: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما". وعلى هوامشها تصحيحات، وهي مقابلة على نسخة أخرى، ووضع الناسخ في الهامش عناوين فرعية لفوائد وقعت عند المصنف؛ فمثلا في هامش "ق 4/ ب" تجد بإزاء كلام المصنف في شرح قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كلاما للناسخ، فيه: "اعرف معنى الحفظ في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ ... } "، هكذا. وجاء على طرة المخطوط ترجمة للمصنف، وهذا نصها: "الحمد لله، التعريف بمؤلف هذا الكتاب: هو الإمام، ناصر السنة، أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد، اللخمي، الغرناطي، ويعرف بأبي إسحاق الشاطبي، قال الشيخ بابا في "كفاية المحتاج" في وصفه: الإمام، الجليل، العلامة، المجتهد، المحقق، القدوة، الحافظ، الأصولي، المفسر، المحدث، الفقيه، النظار، اللغوي، النحوي، البياني، الثبت, الثقة، الورع، الصالح، السني، البحاث، الحجة، كان من أفراد محققي العلماء الأثبات وأكابر متقني الأئمة الثقات، له قدم راسخة في العلوم والإمامة العظمى في الفنون؛ فقها، وأصولا، وتفسيرا، وحديثا، وعربية وغيرها؛ مع تحر عظيم وتحقيق بالغ، له استنباطات جليلة، وفوائد كثيرة، وقواعد محققة محررة، واقتراحات غزيرة مقررة, وقدم راسخة في الصلاح والورع والتحري والعفة واتباع السنة وتجنب البدع والشبه والانحراف عن كل ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة، وأوذي بسببها كثيرا كما ذكر في خطبة كتابه في البدع؛ حتى أنشد في ذلك: الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 62 بُليت يا قوم والبلوى منوعة ... بمن أداريه حتى كاد يُرديني دفع المضرة لا جلبا لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني قال شيخ الإسلام ابن مرزوق الحفيد الإمام في وصفه: المحقق، الفقيه، العلامة، الأستاذ, الصالح. ا. هـ. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام. وقال أبو الحسن بن سمعة في حقه: هو نخبة علماء قطرنا، أخذ العربية عن إمام فيها بلا مدافع أبي عبد الله بن الفخار البيري، لازمه حتى مات، وعن الإمام رئيس علوم اللسان الشريف أبي القاسم السبتي. قلت: هو الشريف الغرناطي، شارح "المقصورة الحازمية"، وأول من شرح "الخزرجية"، وكان ممن يفتخر بلقائه كما في "وفيات ابن قنفد"، قال الشيخ بابا: وأخذ بقية الفنون عن الأئمة: الشريف أبي عبد الله التلمساني أعلم أهل وقته، والعلامة أبي عبد الله المقري وقطب الدائرة، وشيخ الشيوخ الأستاذ أبي سعيد بن لب، والعلامة المحدث الخطيب بن مرزوق، والمحقق الأصولي أبي علي منصور بن الزواوي، والمؤلف المفسر أبي عبد الله البلنسي، والحاج الخطيب أبي جعفر الشقوري. وممن استفاد منه: الفقيه الحافظ أبو العباس القباب وغيره، اجتهد وبرع وفاق الأكابر، والتحق بالأئمة الكبار، وبالغ في التحقيق، وتكلم مع الأئمة في المشكلات، وجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته وإمامته؛ كمسألة مراعاة الخلاف في المذهب، له فيها بحث جليل مع الإمامين: القباب وابن عرفة، ومسألة الدعاء عقب الصلاة بحث فيها معهما ومع القاضي الفشتالي وابن لب، وأبحاث في التصوف مع الإمام ابن عباد وغيرهم. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 63 قلت: مسألة مراعاة الخلاف قد أشار إليها في المقدمة الثالثة عشرة من هذا الكتاب، وقد استوفى كلامه وكلام القباب وابن عرفة أبو يحيى بن عاصم في "شرح منظومة" أبيه، وقد ذكر في "المعيار" أسئلته التي وجهها إلى ابن عرفة غير معزوة إليه، وذكر أجوبة ابن عرفة عنها، وقد رأيت منسوبا لابن عاصم أسقاط كثير من تلك الأجوبة؛ لغموض تلك المسائل؛ فراجعها في سفر البيوع. قال الشيخ بابا: وبالجملة؛ فقدره في العلوم والصلاح فوق ما يذكر، وتحليته أعلى مما يشهر، ألف تواليف جليلة في غاية النفاسة، مشتملة على تحرير القواعد، وتحقيق مهمات الفوائد، كهذا الكتاب الموسوم بـ"الموافقات" في الأصول. قال: كتاب جليل القدر، لا نظير له، فيه من تحقيقات القواعد وتقريرات الأصول ما لا يعلمه إلا الله، يدل على بعد سمائه في العلوم كلها، خصوصا الأصول، قال فيه الإمام ابن مرزوق: إنه من أنبل الكتب في سفر ضخم، بل في سفرين، وتأليف نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة. قلت: اسم كتاب البدع: "الاعتصام"، وفيه كلام طويل الذيل على آية {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ... إلخ، وعلى حديث "ستفترق أمتي", وحديث "البر ما تطمئن إليه نفسك"؛ في غاية النفاسة والغرابة والتحقيق والإحاطة بجميع ما يتوهم أن يقال في ذلك، وشرح فيه الاستحسان والمصالح المرسلة، وميزها عن البدع أتم شرح وتمييز. قال الشيخ: وله كتاب "المجالس"، شرح فيه آيات وأحاديث من كتاب البيوع من "البخاري" لم يكمل. قال: وفيه دليل على ما خصه الله تعالى به من التحقيق، و"شرحه" الجليل المشهور على "ألفية ابن مالك" في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف عليها الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 64 مثله بحثا وتحقيقا، وكتاب "الإفادات والإنشادات"، فيه طُرَف وتحف وملح، وكتاب "عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق"، وكتاب في أصول النحو، ذكرهما في "شرح الألفية". قال: ورأيت في موضع آخر أنهما تلفا، ورد على أبي الأصبغ بن سهل صاحب "الإحكام" في مسألة ذكر المؤذن في الأسحار على الصومعة وغير ذلك. قلت: ذكر في كتاب البدع أن قيام المؤذن بالإنشاد على الصومعة بدعة من ثلاثة وجوه؛ فراجعه. ثم قال الشيخ: أخذ عنه الأئمة؛ كالقاضي الشهير أبي يحيى بن عاصم، والقاضي أبي بكر بن عاصم، والعلامة أبي جعفر القصار. قلت: وكان يباحثه أيام تأليف هذا الكتاب ببعض المسائل، ثم يضعها فيه على عادة العظماء حسبما نقله الشيخ بابا في ترجمته عن ابن الأزرق عن شيخه ابن فتوح، ثم قال: وأخذ عنه غيرهم. توفي يوم الثلاثاء، ثامن شعبان، سنة "790" تسعين وسبعمائة، وكان يرى جواز ضرب الخراج على الناس إذا ضعف بيت المال وعجز عن القيام بمصالح الناس؛ كما وقع للشيخ المالقي في كتاب "الورع"، وقرر ذلك في كتاب "الحوادث" بأبرع تقرير، وقال في أثناء كلامه: ولعلك تقول كما قال القائل لمجيز شرب العصير بعد طبخه حتى صار ربا: أحللتها والله يا عمر, يعني أنه أحل شرب الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ! قال: فجوابه كما قال عمر, رضي الله تعالى عنه: والله! لا أحل ما حرمه الله، ولا أحرم ما أحله، وإن الحق أحق أن يتبع، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ؛ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 65 وكان يرى توظيف ما يبنى به السور على أهل الموضع؛ استنادا للمصالح المرسلة لضياعه إذا لم يقوموا به، مخالفا في ذلك الأستاذ ابن لب وله في المسألة كلام مستوفى، ولابن الفراء مع سلطان وقته كلام مشهور، ومن فرائده: "الكيل الشرعي المنقول عن شيوخ المذهب، تقر مسألة أخذ حفنة بكلتا اليدين مجتمعتين من يد متوسطة جربته -بل أربع منها بصاع- جربته؛ فصح فهو المعول عليه لابتنائه على أصل تقريبي شرعي، وتدقيق الأمور غير مطلوب لأنه تكلف وتنطع. قال: ولا يحظى اختلافها اختلافا متباينا كما اختبرته، وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين، وينهى عن الكتب المتأخرة؛ ككتب ابن بشير، وابن شاس، وابن الحاجب، ذكر ذلك في المقدمة الثانية عشرة من هذا الكتاب1. قال: وقد أوصاني بعض العلماء بالفقه -يعني: القباب- بالتحامي عنها، وأتى بعبارة خشنة، ولكنه محض نصيحة، والتساهل في النقل عن كل كتاب لا يحتمله دين الله، وقد اختبرت ذلك فظهر لي وجهه. قال الشيخ بابا: والعبارة الخشنة فهي قول القباب: أفسد ابن بشير وتابعاه الفقه" ا. هـ. وأثبت الناسخ في الهوامش2 فوائد وإيضاحات لكلام المصنف، وأحيانا يتعقبه، ولكن يقع هذا في القليل النادر، انظر من طبعتنا, في الهامش "1/ 434 و2/ 140، 275، 277 و3/ 55، 333، 563". وفي نهاية المخطوط أثبت الناسخ اسمه وتاريخ النسخ؛ فعليه ما صورته:   1 انظر: تعليقنا على "1/ 148". 2 وبعضها لم يظهر في التصوير. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 66 "تم نسخ الثاني من كتاب "الموافقات" بحمد الله سبحانه وتعالى على يد عبده أفقر عبيد الله وأحوجهم إليه، الراجي من مولاه الفضل والمزيد، عبده: محمد بن أحمد أبي عصيدة الفاني, غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ومؤدبيه ولإخوانه وممن حضر في محلته، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. ونَسَخته لشيخنا العالم العلامة المحقق الفقيه الشريف السيد إسماعيل التميمي نفع الله بعلومه المسلمين، آمين. وكان الفراغ من نسخه بعد عصر يوم الخميس، السادس والعشرين من شهر شعبان المبارك عام تسعة عشر ومائتين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ العظيم". النسخة الثانية: وهي التي أطلقنا عليها "ط"، وهي من محفوظات الخزانة العامة بالرباط1 "رقم375- مخطوطات الأوقاف"، ومن محفوظات الزاوية الناصرية قديما تحت "رقم 89"، وهي تقع في "509" ورقات، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة "27 سطرا" في الأغلب، وقد تزيد الأسطر؛ فتصل على "31" سطرا، وتنقص إلى "24" سطرا. وخطها مغربي ومقروء، وهي منسوخة بخطين متغايرين. جاء على طرة المخطوط ما صورته:   1 وصوّرها لي المقرئ عبد الكبير أبو ياسر المغربي جزاه الله خيرا. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 67 "كتاب الموافقات تأليف الشيخ، الإمام، العالم، العلامة، القدوة, الحجة، أبي إسحاق، إبراهيم بن موسى، اللخمي، الشاطبي, رضي الله عنه". وتحته: "كان هنا بخط المؤلف في الأصل الذي هو -أيضا- بخطه1 ما نصه: "نقلت من كتاب "ألف باء" لأبي الحجاج بن الشيخ, رحمه الله: يُروى أن بعض الصديقين دعا إلى الله -عز وجل- بحقيقة التوحيد، فلم يستجب له، ولا الواحد بعد الواحد؛ فعجب من ذلك؛ فأوحى الله -عز وجل- إليه: تريد أن تستجيب لك العقول؟ قال: نعم. قال: أتحجبني عنهم؟ قال: كيف أحجبك وأنا أدعو إليك؟ قال: تكلم في الأسباب وفي أسباب الأسباب. قال: فدعا إلى الله من هذه الطريق؛ فاستجاب له الجم الغفير. وكان أيضا فيه بالخط المذكور: ومن "تاريخ دمشق"2 عن مؤرج قال: قال رجل للمهلب, يعني: ابن أبي صُفرة: بم بلغْتَ ما بلغت؟ قال: بالعلم, قال: قد رأينا من هو أعلم منك لم يبلغ ما بلغْتَ. قال: ذاك علم صفة، وهذا علم وضع مواضعة، وأصبته به فرصة. وأخرى لم أُخْبرك بها: إيثاري فعلا أحمد عليه دون القول به". وتحته: "للزاوية الناصرية صانها الله تعالى بمنه آمين، وفيه في آخره كراريس بخط الإمام ابن مرزوق, رحمه الله".   1 ولعل هذا يفيد أن هذه النسخة مقابلة على نسخة المصنف؛ لأنها مضبوطة وقليلة السقط والتحريف، ولا سيما القسم الأول منها. 2 "17/ ق 448". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 68 وبجانب العنوان المذكور: "ألف هذا الكتاب و"الحوادث والبدع"1 وشرح "ألفية ابن مالك" في النحو، وله تصانيف، أبدع في كل ما ألف، مات يوم الثلاثاء ثامن شعبان تسعين وسبعمائة، ودفن بجبانة باب الفخارين تجاه باب جسر قبة الزيتون". وفي أوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله. قال الشيخ، الفقيه، الإمام، العالم الأوحد الكبير، قدوة الأئمة المهتدين، وخاتمة المحققين المعتمدين، وناصر السنة إحياء لمعالم الدين، المعدود على تأخر زمانه في أهل السبق، المصنف، العلامة، الخطيب، الصالح، الكامل، أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد بن موسى، اللخمي، الشاطبي, رضي الله عنه". والناسخ مجهول وهو من المشاركين في العلم، ولم يثبت اسمه على الكتاب، ولا تاريخ النسخ، وأقدّر أن يكون في القرن العاشر الهجري، وجاء في آخر هذه النسخة ما نصه: "تم كتاب "الموافقات" بحمد الله وحسن عونه، اللهم إني أسألك بحق أسمائك كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وبحق أنبيائك2 كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم، وبحق أوليائك3 كلهم ما علمت منهم وما لم أعلم؛ أن تتوب علي توبة صادقة، وأن تميتني على الإيمان والإسلام، وأن تشفيني من جميع الأمراض والأسقام، وأن لا تحرمني من زيارة قبر سيدنا ونبينا ومولانا محمد عليه   1 هو "الاعتصام". 2 هذا من التوسل الممنوع؛ فيجب اجتنابه، والله الهادي. 3 نفسه الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 69 أفضل الصلاة وأزكى السلام، آمين، آمين، آمين، يا رب العالمين. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم كثيرا كثيرا إلى يوم الدين". وهذه النسخة مضبوطة، وأخطاء القسم الأول منها قليلة، وهي مقابلة على نسخة جيدة، لعلها نسخة المصنف، ومن مميزات هذه النسخة أيضا؛ أن الكتاب في طبعاته السابقة كلها لم يُقابل عليها، ولذا انفردت بكلمات وزيادات -قد تصل إلى فقرات- لا يستقيم النص ولا المعنى إلا بها، وتكون قد سقطت من جميع النسخ الأخرى، وفيها وحدها في غير موطن الصواب وفي غيرها الخطأ، انظر, على سبيل المثال: "1/ 75 و2/ 45، 134، 282، 309، 429، 411 و3/ 237، 273، 313، 327، 335، 351، 508، 516 و4/ 178، 386 و5/ 68، 262، 270، 384"، ولا تخلو هوامشها من بعض الفوائد العلمية. أما المطبوعات الأربعة المعتمدة في التحقيق؛ فهي طبعة الشيخ دراز ورمزت لها بـ"د"، وطبعة الشيخين محمد الخضر حسين ومحمد حسين مخلوف ورمزتُ للأول "خ" وللثاني "ف"، وطبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ورمزتُ لها بـ"م"، وما نقله الشيخ ماء العينين في "المرافق على الموافق" من كتاب "الشاطبي" ورمزتُ له بـ"ماء"، وقد مضى وصف هذه الطبعات. عملي في التحقيق: يتلخص عملي في تحقيق الكتاب بالآتي: أولا: عملت على ضبط نصه وتقسيمه إلى فقرات توضح معانيه وتعين على فهمه، وجهدت على سلامة النص من السقط والتحريف والتصحيف، الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 70 وكان ذلك من خلال مقابلة النسخ المطبوعة على بعضها بعضا1، ثم قابلتها على النسختين الخطيتين المتقدم وصفهما، وأثبت الفروق في الهوامش، وأشرت إلى السقط الواقع في بعضها، وأثبت زيادات نسخة "ط" الخطية على سائر النسخ بين المعقوفات، وأهملت التنصيص على ذلك؛ فليكن ذلك على بالك. ثانيا: ومما ساعد على ذلك أني جهدت في توثيق النصوص، وبيان المصادر التي نقل منها المصنف، واستطعت بحمد الله أن أظفر بجم غفير من النصوص, وبعشرات من الكتب التي ينقل عنها المصنف وعملت على مقابلة ما عند المصنف بما في هذه المراجع، وأثبت الفروق في الهوامش أيضا، ووجدت أن المصنف غالبا يتصرف في النقل باختصار العبارة، وأثبت رحمه الله قدرة فائقة ومتميزة في ذلك، انظر, على سبيل المثال: "5/ 111" مع تعليقي. ثالثا: عملتُ على تخريج الأحاديث والآثار وأقوال السلف والأئمة العلماء من مصادرها، وأزعم أني قمت بذلك على وجه لم أُسبق إليه ولله الحمد، ذلك أني أشرت في الهوامش إلى عشرات النصوص التي أومأ إليها المصنِّف إيماء، وذكر معاني لا صلة بألفاظها إلى ألفاظ هذه الأحاديث والآثار؛ فذكرت نصوصها في الهامش2، وخرجتها تخريجا علميا، مع بيان الحكم عليها وفقا للمقرر في علم المصطلح، وناقلا أحكام الحفاظ والعلماء، وكانت خطتي في تخريج الأحاديث على النحو الآتي:   1 وأهملت الأخطاء الطبعية الظاهرة، واعتبرت جدول التصويبات المثبت في آخر الكتاب عند المقابلة. 2 انظر, على سبيل المثال: "2/ 54، 55، 96، 87، 92، 121، 369، 445، 503 و3/ 39، 70، 71، 81-84، 190، 191، 470، 471 و5/ 328". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 71 أولا: لم أسهب في تخريج أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما؛ إلا لضرورة أو فائدة. ثانيا: اعتنيت بتخريج الأحاديث والآثار التي أومأ وأشار إليها المصنف. ثالثا: بيّنتُ درجة الحديث والأثر من حيث الصحة والحسن والضعف. رابعا: اعتنيت بتخريج اللفظ الذي أورده المصنف, انظر, على سبيل المثال: "2/ 41-42، 115، 368، 451 و3/ 335 و4/ 310، 471 و5/ 258-259، 295". خامسا: حاولت الوقوف على مصدر المصنف من النقل، وتمييز حد الصحيح من الضعيف الوارد في نقله. سادسا: إذا كان المصنف ينقل حديثا ضعيفا؛ كنتُ أُبيِّنُ ذلك، ثم أورد ما يغني عنه انظر, على سبيل المثال: "2/ 225-226، 398 و4/ 99، 399 و5/ 156-157". ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية: زعم المصنف في مقدمة الكتاب "ص11" أنه سيورد في الكتاب "من أحاديثه الصحاح والحسان"، والحق أنه أورد فيه كثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها، ووجدت أن بضاعة المصنف الحديثية ضعيفة، لا يعول عليها ولا أقول هذا جزافا، وإنما بعد علم وتحر، وسبب ذلك أنه يعتمد على ما اشتهر من أحاديث في كتب الأصوليين، وينقلها دون النظر في حكم الحفاظ عليها من ضعف أو بطلان، وتجد ذلك في عدد غير قليل من الأحاديث في هذا الكتاب، مثل: "كن عبد الله المقتول ... " في "2/ 172"، الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 72 و"أصحابي كالنجوم ... " في "4/ 452"، وتعقب عائشة وابن عباس أبا هريرة في "3/ 192"، و"تمكث إحداكن شطر دهرها" في "2/ 152"، و"ما أجهلك بلغة قومك" في "4/ 30"، و"فلأولى عصبة ذكر" في "4/ 385"، وحديث معاذ: "بم تحكم ... " في "4/ 298"، وحديث: "حكمي على الجماعة ... " في "3/ 241". واعتمد في كثير من الأحايين على كتب الوعظ والرقائق التي لا تعتني بصحة الأحاديث، ونقل منها نصوصا على أنها أحاديث. انظر مثلا: "1/ 44، 81، 88، 347، 352 و2/ 191، 425 و3/ 65-66، 148، 149، 403". واعتمد أيضا على نقل أحاديث من "الشفا" للقاضي عياض، وقد عاب المحدّثون عليه تساهله في الأحاديث1، ووقع في أغلاط بسبب ذلك، انظر منها: "3/ 69، 92" ووقعت له أوهام أخر في الأحاديث والآثار "1/ 199، 265 و3/ 41، 194، 342، 406 و4/ 117، 120". والعجب أن المصنف لم يعتن بالحكم على الحديث إلا في النادر، وإن فعل؛ فإنما يتابع غيره؛ كما تراه مثلا: "3/ 472 و4/ 235 و5/ 46، 288"، بل قد يورد الحديث في موطن ويسكت عنه، ثم يذكر حكما لحافظ عليه بالضعف في موطن آخر. انظر, على سبيل المثال: "1/ 98 و5/ 147". وقد يعلق الحكم على صحته أو صحة الأثر؛ كما تراه -مثلا- في:   1 انظر: "السير" "20/ 216" للذهبي. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 73 "2/ 227 و3/ 257"، بل قد ينقل الحديث من كتاب أو من ديوان من دواوين السنة ويكون مؤلفه قد ضعفه ولا يلقي بالا لهذا التضعيف؛ كما تراه في "2/ 115 و3/ 342"، وقد يعزو لديوان من دواوين السنة المشهورة، وينقل منها بالواسطة ويقع له بسبب ذلك وهم؛ كما تراه في "3/ 406". ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في طبعة الشيخ دراز 1: ذكر الشيخ عبد الله دراز -رحمه الله- عند تخريج أحاديث الكتاب أن الأستاذ الشيخ محمد أمين عبد الرزاق2 قد ساعده في هذا العمل، وقال: "ولقد كان يحمل عنا أبهظ هذا العبء الأستاذ الشيخ محمد أمين عبد الرزاق". وقال قبل ذلك: "حتى كان مرجعنا في ذلك ثلاثة وثلاثين كتابا من كتب الحديث". وذكر أن عملهما "استمر أشهرا طوالا"، وأنهما حرصا على الوصول إلى مخرج الحديث، والعثور على لفظه؛ على كثرة الروايات، واختلافها في العبارات3. قلت: لي على التخريج المذكور ملاحظات كثيرة، أُشير إلى قسم منها:   1 ولم يعتن غيره بالتخريج، ولذا خصصته بالذكر. 2 لعله الشيخ المحدث محمد عبد الرزاق حمزة، المدرس في الحرم المكي، وهو من علماء مصر، سافر إلى مكة سنة "1344هـ"، وقبل هذا الوقت بقليل كان الشيخ دراز مشغولا بكتاب "الموافقات". انظر ترجمته في: "مشاهير علماء نجد" "514"، و"الأعلام" "6/ 203". 3 مقدمة الشيخ دراز على "الموافقات" "1/ 14"، ومضى كلامه "ص62-63". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 74 أولا: تخريج الأحاديث المذكورة كانت بواسطة الكتب المتأخرة، ولم يقفوا على أغلب الأحاديث من مصادرها الأصلية؛ فتراهم مثلا يقولون في "2/ 258-ط دراز": "أخرجه في "كنوز الحقائق" عن ابن أبي عاصم"، وفي حديث آخر: "رواه الشيخان، ملا علي في "شرحه على الشفا"، وفي ثالث في الجزء والصفحة نفسها: "رواه في "المشكاة" عن مسلم"، وهكذا أغلب تخريجاتهم. ثانيا: قد ينظرون في المصادر الأصلية، ولكن لا يتتبعون الحديث بألفاظه في مواطنه كلها؛ فينفون وجود لفظة في "صحيح البخاري" مثلا، وهي فيه؛ كما تراه في "2/ 259-ط دراز"نفوا وجود لفظة "قط" في حديث من "صحيح البخاري"، وهي فيه برقم "3294"، ويقع لهم مثل هذا كثيرا، انظر مثلا: "2/ 447- هذه الطبعة". ثالثا: يعزون الحديث إلى مصادر غير مشهورة ويكون الحديث في "الصحيحين" أو في أحدهما؛ كما في "2/ 265-ط دراز" عند قول المصنف: "وأن عمارا تقتله الفئة الباغية"، قالوا في الهامش: "جزء من حديث أخرجه أبو بكر البرقاني والإسماعيلي". قلت: وهو في "الصحيحين" وهو متواتر، انظره "2/ 453- طبعتنا هذه"، وفي الصفحة نفسها يقول المصنف: "وأخبر بملك معاوية ووصاه"، قالوا: "روى ابن عساكر بإسناد ضعيف ... "، وهذا قصور؛ فروى الحديث -وهو صحيح- جمع ممن هم أعلى من ابن عساكر؛ كالإمام أحمد وغيره، وعبارة المصنف مأخوذة من "الشفا" "1/ 656"، وانظر تعليقنا عليه في: "2/ 452-453"، ويقع لهم مثل هذا كثيرا، ولا سيما في أحاديث "الصحيحين"؛ فما بالك في غيرهما؟ الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 75 فمثلا في "4/ 56" عزيا الحديث لأبي داود وهو ليس فيه، وإنما في "صحيح مسلم"، وفي "4/ 99- هامش3" عزياه لمسلم وهو في "البخاري" -ومثل هذا كثير- وفي "4/ 54" عزيا حديثين لمسلم عن جرير بن عبد الله، وإنما هو عن جابر بن عبد الله، وفي "4/ 72" عزياه للترمذي وهو في "مسلم". رابعا: والعجب منهما أنهما إذ نصا على ضعف أحاديث ثابتة، كما وقع لهما في "4/ 39-ط دراز"، بينما سكتا عن عشرات الأحاديث الضعيفة والموضوعة. خامسا: أهملا تخريج الآثار إلا النادر منها. سادسا: أهملا تخريج الأحاديث التي أشار إليها المصنف، وفاتهما التنبيه على العشرات منها، وصرحا بأنهما لم يظفرا ببعضها، انظر مثلا: "4/ 444". والحاصل أن ميزة طبعة الشيخ دراز -رحمه الله- في تعليقاته الأصولية عليها، أما الحديثية؛ فليس لها كبير أهمية، ولا يوجد فيها نفس مشتغل بعلم الحديث، وقد يعذر بأن كثيرا من كتب الحديث لم تكن قد طبعت آنذاك، والمطبوع منها لم يخدم بالفهارس العلمية، والكشافات التحليلية؛ كما هو في يومنا هذا. والخلاصة ... أن الناظر في هذا الكتاب ينبغي له؛ بل يجب عليه مراجعة الأحاديث المذكورة فيه، ومعرفة درجتها من الصحة والضعف؛ فإن المصنف والمعلق فيما يظهر لي لم يكن لهما -رغم علو مقامهما في الرأي- كبير حظ من علم الحديث، وهذه آفة الأصوليين، بل داؤهم العضال، وأرجو أن أكون بطبعتي هذه للكتاب قد ملأت فراغا، وسددتُ نقصا. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 76 ومن عملي في تحقيق الكتاب أيضا: رابعا: قمت بتجميع تعليقات وشروح محققي الكتاب، ووضعتها في الهامش، ورمزت لتعليقات الشيخ دراز بـ"د" وتعليقات الشيخ محمد محيي الدين بـ"م", وتعليقات الشيخ محمد الخضر حسين بـ"خ", وتعليقات الشيخ محمد حسين مخلوف بـ "ف"، وتعليقات الشيخ الشنقيطي بـ"ماء". وكنتُ أضيف عليها أحيانا، وميزت إضافاتي غالبا بـ"قلت"، وكنت أتعقب بعض ما وقع في هذه التعليقات والشروح، انظر -مثلا- تعقبي لـ ف" في: "5/ 394"، ولـ"خ" في: "1/ 271 و2/ 159، 346"، ولـ"د" في: "2/ 335، 419 و3/ 199-200، 501-502 و4/ 104، 105، 129، 377 و5/ 175، 208"، وكذا تعقبته والمصنف في مواطن. خامسا: تأويل الصفات، وقع المؤلف في هذا الكتاب والمعلق عليه1 في تأويل كثير من صفات الله تعالى؛ فبينت بإسهاب أن هذا مخالف لمنهج السلف الصالح في هذا الباب, انظر على سبيل المثال: "2/ 195، 257 و3/ 319، 323 و4/ 10، 11 "تعقب المعلق"، و137 "تعقب المعلق"، و5/ 144، 202-203". سادسا: ذكرتُ في الهوامش ما وقفت عليه من مواطن بحث شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم للمسائل التي عند المصنف2، ونقلت كلامهما -أو كلام أحدهما- في بعض الأحايين، إن كانت فيه فائدة زائدة, أو فيه توجيه وبحث يخالف ما عند المصنف3، ووجدتُ أنهما على الرغم من بعد   1 أعني: الشيخ محمد عبد الله دراز, رحمه الله تعالى. 2 أشار علي بهذا الشيخ بكر أبو زيد, حفظه الله ورعاه. 3 الخلاف بين ابن تيمية ومدرسته من جهة والشاطبي من جهة أخرى يمكن في اعتماد ابن تيمية على النص والتأكد من صحته على وجه رئيس، وتوضيح ابن تيمية لمنهج السلف في العقيدة، والاستغراق في نصرته والذب عنه، بينما هو غير ظاهر عند الشاطبي إلا في المسائل الفقهية ومن الناحية الأصولية، وموقف ابن تيمية من التصوف وأعلام الصوفية والمسائل المطروحة في هذا الباب أدق من موقف الشاطبي؛ إذ عنده تحسين ظن زائد بهؤلاء كأبي يزيد البسطامي وغيره، ونجد تباينا بينهما في الكرامات، انظر: "2/ 440، 443" والتعليق عليه من "الموافقات". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 77 مواطنهما؛ فإنهما يلتقيان في كثير من المباحث، وتفطن لهذا شيخنا الألباني -حفظه الله- فقال في "صحيح الترغيب والترهيب" "1/ 37-38" بعد أن أورد كلاما لابن تيمية وآخر للشاطبي: "قلت: هذا كله من كلام الإمام الشاطبي، وهو يلتقي تمام الالتقاء مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- ومن الطرائف أن هذا مشرقي وذاك مغربي، جمع بينهما -على بُعد الدار- المنهج العلمي الصحيح". مسألة: وهنا مسألة ... لا بد من الإشارة إليها، وهي: هل اجتمع الشاطبي مع شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم، وهل نظر في كتبهما؟! والجواب عن هذا السؤال: إننا نستطيع أن نقرر بكل طمأنينة أن ابن تيمية وابن القيم لم يرد لهما ذكر ألبتة في جميع كتب الشاطبي المطبوعة، ولم أظفر بعد شدة بحث، وكثرة استقصاء إلى ما يمكننا أن نجعل هذا اللقاء ثابتا، أو في حكم الواقع، ولم أعثر للشاطبي في كتابه هذا على ذكر للحنابلة، وقد صرح فيه "3/ 131" أن كتب الحنفية والشافعية كالمعدومة الوجود في زمانهم؛ فكيف بكتب الحنابلة؟ لا شك أنه ظفر ببعضها، ولكن بعد كتابته "الموافقات"؛ فها هو يصرح في "الاعتصام" "1/ 462-ط ابن عفان" -وقد أحال فيه كثيرا على الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 78 "الموافقات" -بقوله: "قال بعض الحنابلة ... "، ونقل نصا طويلا جهدتُ في البحث عنه؛ فلم أعثر على لفظه في كتب ابن تيمية وابن القيم1، وعلى فرض صحة العثور عليه في كتبهما؛ فلا يلزم أنه التقى بهما أو عثر على كتبهما؛ فلا يبعد أن يكون أخذه بواسطة بعض من له رحلة من المغاربة إلى المشرق، أو بواسطة بعض شيوخه. وبهذه المناسبة أذكر أن بعض شيوخ الشاطبي قد التقى بابن القيم؛ فها هو أبو عبد الله المقري يحكي عن نفسه أنه "لقي شمس الدين بن قيم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تيمية"2. من خلال ما تقدم أستبعد صحة ما ذهب إليه سعد محمد الشناوي في كتابه "مدى الحاجة للأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي" "1/ 150" عند كلامه على تأثر الشاطبي بمن سبقوه، قال ما نصه: "وقد تأثر الإمام الشاطبي بما جاء في مؤلفات من سبقه، وهو العز بن عبد السلام، وابن تيمية!! وابن القيم!! والقرافي، ولهذا نجد كتابه مزيجا وتحليلا لهذه الآراء القيمة التي استقرت في عقولها نظرية المصالح المرسلة ... ". وسألتُ شيخنا الألباني -حفظه الله- عن هذه المسألة؛ فأجاب بأنه لم يثبت عنده ولم يطلع على ما يسمح بالجزم أو باحتمال أن تكون اللقيا قد تمت بين الشاطبي وابن تيمية أو ابن القيم.   1 وقع نحوه في "المسودة" "316"، و"إعلام الموقعين" "1/ 24-ط دار الحديث"، و"العدة" "4/ 1059-1060" للقاضي أبي يعلى. ثم ظفرت به في "إقامة الدليل على بطلان التحليل" بواسطة ما ذكره العلامة بكر أبو زيد في التقديم. 2 انظر: "نفح الطيب" "3/ 254"، و"نيل الابتهاج" "250"، وبحث هذا الموضوع الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص269-270". الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 79 ومن عملي في التحقيق أيضا: سابعا: أنني نشطت في بحث كثير من المسائل المطروقة في الكتاب، وأثبت أماكن بحثها من كثير من أمهات كتب الأصول أو الفقه، وربما نقلت بعض الاستطرادات أو التوضيحات أو الاستدراكات على كلام المصنف فيها. ثامنا: قرأتُ ما كُتب عن الشاطبي ونظريته "المقاصد"، والأبحاث التي اعتنت بالنقل عنه، أو ناقشت كلامه، وأثبت في الهوامش النافع واللازم منها، وأضفت ذلك إلى قائليها وذلك من بركة العلم وشكره1. تاسعا: أشرتُ إلى كلام الشاطبي في كتبه الأخرى، فيما يخص المسائل المبحوثة هنا، وحاولت أن أنقل منه ما يلزم في توضيح مبهم أو حل مشكل، وحاولت إثبات المواطن التي أحال عليها في كتابه هذا ليسهل النظر فيه؛ فإن "آخره يشرح أوله، وأوله آخره"، ووجدته أثبت شيئا هنا في "5/ 666" وتراجع عنه في "الاعتصام" "2/ 472-ط ابن عفان"، وكذا أثبت هنا مسألة "3/ 528" وتراجع عنها أو قرر خلافها في "5/ 199". عاشرا: أثبت الجزء والصفحة من المصادر التي صرح الشراح بالنقل منها، ووضعته بين معقوفتين [] ، وصوبت الأخطاء الطبعية الواقعة في عباراتهم، ولعلي خرَّجتُ أيضا -في بعض الأحايين2- الأحاديث والآثار التي يوردونها على سبيل الاستشهاد.   1 أسند القاضي عياض في "الإلماع" "ص228-229"، ومحمد بن القاضي عياض في "تعريفه بوالده" "ص82" إلى أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: "مِنْ شكر العلم أن تستفيد الشيء، فإذا ذُكر لك؛ قلت: خفي علي كذا وكذا، ولم يكن لي به علم حتى أفادني منه فلان كذا وكذا؛ فهذا شكر العلم". 2 ولا سيما في المجلد الثالث والرابع والخامس من طبعتنا هذه. الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 80 حادي عشر: وأخيرا ... صنعت فهارس علمية تحليلية في مجلد خاص يحتوي على فهرس للآيات، وللأحاديث، وللآثار، وللأعلام، وللأشعار، وللفرق والطوائف والجماعات والمذاهب والملل، ولعناوين الكتب الواردة في نص كتاب الشاطبي هذا، وللفوائد والمسائل العلمية ورتبتها على الأبواب والمواضيع. والمرجو من الله تعالى أن أكون قد قدَّمت خطوة في استفادة طلبة العلم من هذا الكتاب، ومن الله أستمد العون والتوفيق والسداد, وأرجو الأجر والثواب, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتب أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ضحى يوم الخميس, العشرين من محرم سنة "1417هـ" الأردن - عمان الجزء: مقدمة ¦ الصفحة: 81 المجلد الأول مقدمة ... تقديم: بقلم فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبي زيد الحمد لله القائل في كتابه المبين: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإن "معرفة الحكم والغايات والأسرار التشريعية الثابتة العامة الشاملة، المقصودة في جنس التشريع العام لتحقيق مصالح العباد في الدارين التي وُضعت الشريعة من أجلها" هي من جهة التصديق -الماصدق- حقيقة: "علم مقاصد الشريعة" من جميع جهات مقاصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء، وللإفهام بها، وللتكليف بها، ولدخول المكلف تحت حكمها في دائرة حفظ الضروريات -ويقال: الكليات- الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض, والمال، المبني حفظها وجودًا في جلب المصالح وتكثيرها؛ فكل طاعة ترجع إليها، وعدمًا في درء المفاسد وتقليلها؛ فكل مخالفة خارجة عنها، وذاك في أصنافها الثلاثة: "الضروريات"، و"الحاجيات"، و"التحسينيات"؛ فيكون في كل كلية ستة جوانب: ثلاثة وجودية، وثلاثة عدمية, الجميع ثلاثون مقصدًا، عشرة ضرورية، وعشرة حاجية، وعشرة تحسينية، وأجمع آية لها في الجزء: م ¦ الصفحة: 1 كتاب الله -تعالى- قوله, سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] ، كما أشار إلى ذلك العلامة العز ابن عبد السلام في "قواعده" رحمه الله. فهذا العلم الشريف: "علم مقاصد الشريعة" يصح أن نلقبه باسم: "علم اقتصاد الشريعة"؛ لأنه يُستثمر فيما وُضع له: معرفة غايات جنس الأحكام، وحكمها، ومقاصدها، ووظيفتها، وما تهدي إليه، وتدل عليه من حفظ نظام العالم، وتحقيق مصالح العباد في الدارين، وذلك في جنس التشريع العام. وبه تتم معرفة حكمة التشريع في كل نوع من أنواع علوم الشريعة، مثل: "العبادات"، و"المعاملات"، و"الأنكحة"، وغيرها. وبه تتم معرفة حكمة التشريع في كل جزئية من جزئيات الشريعة، وأحكامها التفصيلية. وكذلك الحال في: "علم الاقتصاد" يُستثمر للفروع التجارية وردا وإصدارا. وهذا العلم المتميز، هو أحد رُكْني: "علم أصول الفقه" الموضوع لدلالة الفقيه على معرفة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل، وركنه الآخر: "علم لسان العرب". وهذا العلم برُكْنَيْه قد وضع له الأصوليون كتبا تخصه، عُرفت باسمه. وهي بكليتها قد عُنيت عناية فائقة بركنه الأول: "علم لسان العرب"، وكثير منها جمع بين الركنين: "اللسان، والمقاصد". فمن هؤلاء في المشرق: الجويني "ت سنة 478" في: "البرهان في الجزء: م ¦ الصفحة: 2 أصول الفقه"، والغزالي "ت سنة 505" في: "المستصفى" و"شفاء الغليل"؛ فإنه تناول الكليات الخمس، وجعلها أصلا للمقاصد الشرعية، والرازي "ت سنة 606" في: "المحصول"، والآمدي "ت سنة 631" في: "الإحكام"، وغيرهم. وما مباحث الأصوليين في: "الاستحسان"، و"المصالح المرسلة"، و"سد الذرائع"، و"رفع الحرج"، و"مراعاة مقاصد المكلفين"، و"مسالك العلة في القياس"، وما في كل واحدة منها من كتب مفردة إلا ميادين فسيحة لترقية هذا العلم: "علم مقاصد الشريعة". بل إن من المشارقة من أفرد تأصيل: "المقاصد" في كتاب؛ منهم: العز ابن عبد السلام "ت سنة 660" في: "القواعد الصغرى" وهي: "الفوائد في اختصار المقاصد"، وبَسَطَها في: "القواعد الكبرى"، وذكر له مترجموه أيضا كتابا باسم: "المصالح والمفاسد"، ومنهم الشيخ طاهر الجزائري ثم الدمشقي "ت سنة 1338" في كتابه: "مقاصد الشرع"، وكان للنجم الطوفي الحنبلي "ت سنة 716" عناية فائقة في اعتبار المصالح، وكانت رسالته: "المصلحة المرسلة" محل عناية العلماء بين النقد والاعتبار. واستظهر آخرون مقاصد التشريع، وعنوا بالكشف عن حكمة الشريعة وغاياتها، وأسرارها، وعللها في جنس التشريع العام، أو في نوعه، أو في جزئية منه، بمؤلفات مستقلة منهم: الحكيم الترمذي "ت سنة 320" في عدد من كتبه، وأبو منصور الماتريدي "ت سنة 333" في كتابه: "مآخذ الشرائع"، والقفال الشاشي الشافعي "ت سنة 365" في: "محاسن الشريعة"، والعامري "ت سنة 381" في: "الإعلام بمناقب الإسلام"، والراغب "ت سنة 502" في: "الذريعة إلى الجزء: م ¦ الصفحة: 3 مكارم الشريعة"، ومحمد بن عبد الرحمن البخاري "ت سنة 546" في: "محاسن الإسلام وشرائع الإسلام" في آخرين، رحم الله الجميع. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية "ت سنة 728" رحمه الله تعالى, عناية بالغة، ولهج شديد بالكشف والبيان عن مقاصد الشريعة، وإدارة الأحكام عليها، ولعله أول من أبرز المزج بين بيان الحكم التكليفي ومقصد الشارع، وأن الشريعة تجري أحكامها مطردة على نسق واحد وفق القياس؛ فلا تجمع بين المتضادين، ولا تفرق بين المتماثلين، وتلاه تلاميذ مدرسته الأثرية، وفي مقدمتهم العلامة صاحب التصانيف المفيدة: ابن قيم الجوزية "ت سنة 751" رحمه الله تعالى؛ فقد أبدى في كتبه وأعاد. وكان من لفتات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عدم التسليم بحصر الكليات في الخمس المذكورة كما في: "الفتاوى" "32/ 234"، وقفاه ابن فرحون المالكي "ت سنة 799" في: "تبصرة الحكام" "2/ 105". وبين يدينا الآن في "المقاصد" عالم وكتاب؛ ذلكم هو الإمام المجدد، العلامة المصلح، الزاهد، الورع، المحتسب، الناصر للسنة، القامع للبدعة: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي نسبا، المالكي مذهبا، الأثري مشربا، الشاطبي، ثم الغرناطي مولدا نحو "سنة 730"، ووفاة "سنة 790"، نجم لمع من أندلس الإسلام مولدا، ونشأة، ووفاة، وشيوخا، منهم: ابن الفخار، والمقري الجد، وابن لُب، وابن مرزوق، ومنصور الزواوي, وابن الزيات، والشقوري، والبلنسي، وكان معاصرا لأعلام ثلاثة: لسان الدين بن الخطيب، وابن خلدون، وابن القباب. وأبو إسحاق هو أستاذ غرناطة في جامعها الأعظم: في القراءات، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والنحو, ولسان العرب. الجزء: م ¦ الصفحة: 4 وكان له تلاميذ مشاهير؛ منهم: القاضيان الأخوان: أبو يحيى ابن عاصم، وأبو بكر ابن عاصم، وأبو جعفر ابن الفخار، والبياني، والمجاري، والقصار, وابن فتوح، وغيرهم. وأبو إسحاق: هو مؤلف غرناطة الإبداعي في كُتبه: "الموافقات" في أصول الشريعة ومقاصدها، و"الاعتصام" في السنة وقمع البدعة، و"الإفادات والإنشادات"، وجمع له بعض المعاصرين: "الفتاوى" مستخرجة من: "المعيار" للونشريسي, وهذه الأربعة مطبوعة، وله "المجالس في شرح البيوع من صحيح البخاري"، و"شرح الخلاصة لابن مالك"، وهو قيد الطبع في جامعة أم القُرى، و"عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق" وهو في فقه لسان العرب، يقال: غَسَلهُ، ويقال: ضاع في حياته، كما ضاع كتابه الآخر: "أصول النحو". وهو -رحمة الله عليه- في مؤلفاته هذه بعيد عن طرق التأليف التقليدية، والعمل المكرور، وإنما يفترعها افتراعا، ويُبدع فيها إبداعا؛ لأنه قد اتخذ القرآن والسنة له نبراسا وإماما، وحذق "لسان العرب"؛ لغة، ونحوا، وفقها، واشتقاقا؛ بما لم يدرك شأوه من لحقه، ولم ينسج على منواله ومسلكه؛ فلا جرم كان نجما لامعا، أضاء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب؛ فلفت الأنظار، وعكفت على كتبه الأبصار، واستضاءت بأنوارها بصائر أهل الأمصار. وهذا الإمام الفذ -رحمة الله عليه- قد اشتهر في قطره، ثم ذاع صيته في المشارق والمغارب؛ لمناداته بالسنة، والاعتصام بها، ورفضه الجمود والتقليد، وإنكاره التصوف والبدع المضلة، ودعوته الملحة إلى الدليل، وله في ذلك منازلات ومراسلات مع شيوخ عصره، ابن عرفة، والقباب, وابن عباد الرَّنْدي, إلى آخرين سماهم صاحب: "المعيار" واحتفظ بتدوين هذه المراسلات؛ فجزاه الله خيرا. الجزء: م ¦ الصفحة: 5 وقد حصل له لقاء ذلك ثارات، وخصوم، وخصومات، وبخاصة من شيخه ابن لُبَّ، ورُمِيَ بدعاوى هو منها بريء، ولبس عليه بها المغرضون. ومن هذه التهم الباطلة التي نفاها في صدر كتابه: "الاعتصام": 1- نسب إليه: أن الدعاء لا ينفع، وهو إنما ينكر الدعاء الجماعي. 2- ورُمِيَ بالتشيع، والنيل من الصحابة -رضي الله عنهم- وهو إنما لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة. 3- ورُمِيَ بالغلو, وهو إنما كان يرفض الفتوى بالأقوال الضعيفة. 4- واتهم بمعاداة الأولياء، وهو إنما ينكر على المتفقرة أو المتصوفة غلوَّهم ومخالفتهم للسنة. 5- ورُمِيَ بالخروج عن جماعة المسلمين، وهو إنما يدعو إلى طريق الفرقة الناجية. هذه إلماعة معتصرة عن هذا الإمام في حياته العلمية والعملية، وبتأملها يظهر فيها جَليا نزعته التجديدية، ودعوته الإصلاحية -شأن كل مجدد ومصلح- وهي تشبه إلى حد كبير دعوة التجديد التي قام بها في المشرق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مع تباعد الدار، وأن ولادة هذا الإمام بعد وفاة شيخ الإسلام، وكل منهما لم يرحل قط إلى قطر الآخر، لكني وجدت أثارة من علم تدل على أن لشيخ الإسلام ابن تيمية صوتا مسموعا في غرناطة، ذلك أن الإمام الشاطبي قد نقل عنه في: "الاعتصام" "1/ 356" قوله: "قال بعض الحنابلة ... " وهو بنصه في كتاب ابن تيمية: "إقامة الدليل على بطلان التحليل" المطبوع ضمن: "الفتاوى الكبرى" "3/ 370". وربما أن الشاطبي -رحمه الله تعالى- لَمْ يُسَمِّه، ولَمْ يَسْتَرْسِلْ بِذِكْرِهِ الجزء: م ¦ الصفحة: 6 والنَّقْلِ عنه؛ اتِّقَاءً لِمَا وَقَعَ في الخُلُوفِ مِنْ عَدَاوَتِهِ، والنفرة منه ... ومن أعظم وجوه التشابه بينهما: ربط الترجيح والاختيار في مسائل الخلاف بالنظر إلى مقاصد الشريعة، وتنقيحها، وتحقيقها، والتدقيق فيها، وهذه من أبرز السمات التي جعلت كتب هذين الإمامين تحتل مكان الصدارة عند أهل العلم. وإذا كانت هذه الالتفاتة النفيسة ملحوظة في كتابات الشاطبي، فإن محط الرحل فيها هو كتابه الفريد الفارد: "الموافقات"، وقد حوى بين دفتيه بعد خطبته خمسة أقسام: - القسم الأول: وفيه ثلاث عشرة مقدمة. - القسم الثاني: في الأحكام: أحكام التكليف الخمسة: الواجب، المستحب، المحرم، المكروه، المباح، وأحكام الوضع الخمسة: السبب، الشرط، المانع، الصحة والفساد، والعزيمة والرخصة. - القسم الثالث: في مقاصد الشريعة. - القسم الرابع: في الأدلة، وقصر بحثه فيها على الكتاب والسنة. - القسم الخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد. وإذا نظرنا إلى هذه الأقسام, وجدناها في -الجملة- عمدة مباحث الأصوليين في: "كتب أصول الفقه"، وأن من مباحثهم: "مقاصد الشريعة"، وأنها قد أفردت بالتأليف من عدد من علماء المشرق. فلماذا إذًا اشتهر هذا الإمام بها واشتهرت به، ولا يكاد تُعرف إلا من طريقه، وشغف الناس بكتابه هذا: "الموافقات" نظما واختصارا، وصار لأهل عصرنا من النصف الثاني من القرن الرابع عشر فما بعد، توجه عظيم إلى الجزء: م ¦ الصفحة: 7 دراسة: "المقاصد" والتأليف فيها استقلالا، وبحثا، ومحاضرة بلغت نحو الأربعين، من أهمها كتاب ابن عاشور وكتاب علال الفاسي؛ حتى قُررت مادة مستقلة في الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كل هذه الجهود من خلال "المقاصد عند الشاطبي"؟؟ والجواب من وجوه: 1- أن الشاطبي -رحمه الله تعالى- أبرز هذا العلم، ولهج به، وأوسعه بحثا، وتحليلا، وتحقيقا، وتفصيلا؛ فعقد آصرة النسب بين الأصول والقواعد، ووسع لائحة المقاصد. 2- في النسج والصياغة فَارَقَ عامَّةَ مَنْ سبقَهُ؛ إذ ساقه بنقاوة اللسان العربي متخليا عن الاصطلاحات الكلامية، والأدوات المنطقية، وكيف لا يكون كذلك وديدنه في كتابه على أن هذه الشريعة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية، ودعوته قائمة على ساقها بالتزام اللسان العربي وحِذْقه؟! 3- بناه إعدادا على الاستقراء الكلي للأدلة من الكتاب والسنة, بجمع نصوص الوحدة الموضوعية منهما، وضميمة كلام السلف إليهما، وشهود العقل لها. 4- أرْدَفَ هذا باستيلاد أبحاث بسط القول فيها، بما يعز نظيره، ومن هذه الأبحاث التي افترعها، وانفتق ثاقب فكره عنها: أ- المصلحة وضوابطها. ب- القصد في الأفعال وسوء استعمال الحق. ج- النوايا بين الحكم والقصد. د- المقاصد والعقل. الجزء: م ¦ الصفحة: 8 هـ- الغايات العامة للمقاصد. 5- دعوته الجادة إلى التطبيق العملي بمزج الفروع الفقهية بالمقاصد الشرعية؛ ليستخرج القول الحق فيها. 6- والكتاب وضعه هذا الإمام؛ ليكون "وسيلة إلى فقه الاستنباط" بحذق اللسان، وتشخيص علم المقاصد؛ إلا أنه في حقيقته: فقه في الدين، ومثال متميز في توظيف الاستقراء الكلي؛ لفهم نصوص الوحيين، وعلم متكامل بنظام الشريعة وأسس التشريع ومقاصده في مصالح العباد في الدارين. لهذه الوجوه وغيرها بهر العلماء, وتسابقوا إليه، وعكفوا عليه، وتسابقوا إلى طباعته شرقا وغربا؛ إذ طُبع في تونس عام "1302" ثم في قازان عام "1327"، وطُبع في مصر ثلاث طبعات عام "1341" بتعليق الشيخ محمد الخضر حسين على الجزأين الأولين، وبتعليق الشيخ محمد حسنين مخلوف على الثالث والرابع، ثم بتحقيق الشيخ محمد بن عبد الحميد، ثم بتحقيق الشيخ عبد الله دراز بمقدمته الحافلة وتعليقاته المحررة التي تليق بمكانة الكتاب ومنزلته. ولعله في قُطْره "الغرب الإسلامي" أول من نسج في الأصول بركنيه على هذا الطراز، وهو في قطره أول من بسط الكلام على: "علم المقاصد"، ونهض به، وفتق مسائله، وشيد عمارته، وجال في تفاصيله، وشخصها، ولفت الأنظار إلى قواعده الكلية، وبَسَطَها، وتعمق في بحثها، مناشدا باستخراج علل الأحكام، وحكمتها، ومصالحها، وصَرَف أنظار الفقهاء من الخلاف والجدل الفقهي الجامد في الفروعيات إلى تطعيمه بالنظر في مقاصد الشارع، وأنها كالحياض الواسعة لهذه الفروعيات والخلافيات فيتقلص ظل الخلاف، وتلتقي الأحكام الاجتهادية ما أمكن في قالب واحد، وفق مقاصدها التي وضعت لها، الجزء: م ¦ الصفحة: 9 نابعة من مشكاة واحدة، بجامع مقاصد الشريعة الكلية، محققة خلود الشريعة، وعصمتها, ووحدة أحكامها. والشاطبي -رحمه الله تعالى- ينص في مقدمته على افتراعه لهذا العلم، أي: بهذا الاعتبار. كما افترع الإمام الشافعي: "علم أصول الفقه"، والخليل بن أحمد: "علم العروض"، وابن خلدون: "علم الاجتماع" في "مقدمته"، وهكذا. وبعد؛ فكم تطلعت إلى أن أرى هذا الكتاب مطبوعا محققا مخدوما بما يليق بمكانته من تعاليق، وفهارس علمية ونظرية، مع المحافظة على خدمات السابقين، وجهودهم المبذولة تقديما وتعليقا؛ لتحوي هذه الطبعة ما سبقها وزيادة؛ حتى يسر الله الكريم بفضله هذا المطلوب، على يد العلامة المحقق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان؛ فبعث إلي بنسخة من هذا الكتاب بعد صفه وتنضيده؛ فوجدته -أحسن الله إليه- قد بذل فيه جهده، وجمع له نفسه، ووفر المطالب المذكورة، وأضاف إليها تعليقات جمة بتحقيقات مهمة، وتخريجات للمرويات، وعزو للمنقولات وإحالات إلى كتب الشاطبي وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وأتبع ذلك بمفاتيح للكتاب، ومسرد علمي للفوائد واللطائف؛ فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه، ونفع به عباده. وإني أول مستفيد من عمله في هذا التقديم، ومن كتابين مهمين أحدهما: "الشاطبي ومقاصد الشريعة" لحمادي العبيدي, وثانيهما: "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" لأحمد الريسوني؛ فما في هذا التقديم مستخلص من ثلاثتهم، مع ما فتح الله به وهو خير الفاتحين, والحمد لله رب العالمين. الجزء: م ¦ الصفحة: 10 القسم الأول: المقدمات مقدمات المؤلف مدخل ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنَا بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ، وَهَدَانَا بِالِاسْتِبْصَارِ بِهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَمَاية الضَّلَالَةِ، وَنَصَبَ لَنَا مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أَعْلَى عَلَم وَأَوْضَحَ دَلَالَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ وَالْمِنَحِ الْجَلِيلَةِ وَأَنَالَهُ. فَلَقَدْ كُنَّا قَبْلَ شُرُوقِ هَذَا النُّورِ نَخْبِطُ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ، وَتَجْرِي عُقُولُنَا فِي اقْتِنَاصِ مَصَالِحِنَا عَلَى غَيْرِ السَّوَاءِ؛ لِضَعْفِهَا عَنْ حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الهواء، عَلَى مَيْدَانِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْمُنْقَلَبَيْنِ مَدَارُ الْأَسْوَاءِ؛ فَنَضَعُ السُّمُومَ عَلَى الْأَدْوَاءِ مَوَاضِعَ الدَّوَاءِ، طَالِبِينَ لِلشِّفَاءِ، كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ، وَلَا زِلْنَا1 نَسْبَحُ بَيْنَهُمَا فِي بَحْرِ الْوَهْمِ فَنَهِيمُ، وَنَسْرَحُ مِنْ جَهْلِنَا بِالدَّلِيلِ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ، وَنَسْتَنْتِجُ الْقِيَاسَ الْعَقِيمَ، وَنَطْلُبُ آثَارَ الصِّحَّةِ مِنَ الْجِسْمِ السَّقِيمِ، وَنَمْشِي إِكْبَابًا2 عَلَى الْوُجُوهِ وَنَظُنُّ أنا نمشي على الصراط المستقيم؛   1 في الأصل: "ما زلنا". 2 من أكب على وجهه، إذا تمادى في الغواية، وهو أحد الأفعال التي تهمز؛ فتكون لازمة وتجرد فتتعدى، ونظائره: انسل الطير، وأحجم زيد، وأنزفت البئر "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 حَتَّى ظَهَرَ مَحْضُ الْإِجْبَارِ فِي عَيْنِ الْأَقْدَارِ، وَارْتَفَعَتْ حَقِيقَةُ أَيْدِيِ الِاضْطِرَارِ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ أَطْمَاعُ أَهْلِ الِافْتِقَارِ؛ لَمَّا صَحَّ مِنْ أَلْسِنَةِ الْأَحْوَالِ صِدْقُ الْإِقْرَارِ، وَثَبَتَ فِي مُكْتَسَبَاتِ الْأَفْعَالِ حكمُ الِاضْطِرَارِ؛ فَتَدَارَكَنَا الرَّبُّ الْكَرِيمُ بِلُطْفِهِ الْعَظِيمِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا الْبَرُّ الرَّحِيمُ بِعَطْفِهِ الْعَمِيمِ؛ إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ مِنْ دُونِهِ حِيَلًا، وَلَمْ نَهْتَدِ1 بِأَنْفُسِنَا سُبلا، بِأَنْ جَعَلَ الْعُذْرَ1 مَقْبُولًا، وَالْعَفْوَ عَنِ الزَّلَّاتِ قَبْلَ [بَعْثِ الرِّسَالَاتِ مَأْمُولًا] 1؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 15] . فَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الْأُمَمِ، كَلٌّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ مِنْ عَرَبٍ أَوْ عَجَمٍ؛ ليبيِّنوا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ مِنْ أَمَمٍ2، وَيَأْخُذُوا بحُجزهم عَنْ مَوَارِدِ جَهَنَّمَ، وَخَصَّنَا مَعْشَرَ الْآخَرِينَ السَّابِقِينَ بلبنة تمامهم، ومسك3 ختامهم؛ محمد بن   1 بدلا منها في نسخة "خ" بياضات, وكتب المعلق: "هكذا الأصل، وفيه حذف من الناسخ، ولعل نظم الكلام هكذا: "ولم نسلك بأنفسنا سُبُلا، بأن جعل لما أُمرنا به قبولا، وللعفو عن الزلات قبل الابتهال حصولا"". 2 أي: من قُرب. انظر: "لسان العرب" "أم م". 3 في نسخة "خ": "مسكة"، وكتب المعلق عليها ما نصه: "قال الغزالي في كتاب "الاقتصاد": الأكثرون على العمل بالإجماع فيما لم يرد فيه نص قاطع وضرب المثل لهذا بقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ؛ فأنكر عليه بعض المفسرين، ووسم هذه المقالة بأنها إلحاد، وما قاله الغزالي مبني على الوجه الذي سيقرره المصنف قريبا من أن الألفاظ لا تدل على المراد منها بوجه قاطع لتوقف القطع على التحقق؛ من عدم النقل، والمجاز، والإضمار، والتقديم، والتأخير، والإطلاق، والتقييد ونحو ذلك، وإنما يحصل القطع بمضمونها بعد أن ينضم إليها ما ينفي تلك الوجوه المحتملة؛ كأن ينعقد على مدلولها إجماع أو تتوارد عليه نصوص أخرى، والمحققون على أن الآية نص قاطع بنفسها وعلى أي مذهب؛ فقد بلغ مضمونها مبلغ القطع المعتد به في تقرير العقائد التي يخرج المتردد فيها عن دائرة الإسلام حيث تضافر عليها صريح القرآن والسنة والإجماع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 عبد الله، الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ المُسْداة، والرحمةُ الْمُهْدَاةُ، والحكمةُ الْبَالِغَةُ الأميَّة، وَالنُّخْبَةُ الطَّاهِرَةُ الْهَاشِمِيَّةُ، أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْعَرَبِيَّ الْمُبِينَ، الْفَارِقَ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَوَضَعَ بَيَانَهُ الشَّافِيَ وَإِيضَاحَهُ الْكَافِيَ فِي كفِّه، وطيَّبه بِطِيبِ ثَنَائِهِ وعرَّفه بعَرْفه1؛ إِذْ جَعَلَ أَخْلَاقَهُ وَشَمَائِلَهُ جُمْلَةَ نَعْتِهِ، وَكُلِّيَّ وَصْفِهِ، فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مبيِّنا بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَفِعْلِهِ وَكَفِّهِ؛ فوضُح النَّهَارُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وتبيَّن الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ شَمْسًا مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ وَلَا غَيْن2. فَنَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَالْحَمْدُ نِعْمَةٌ مِنْهُ مُسْتَفَادَةٌ، وَنَشْكُرُ لَهُ وَالشُّكْرُ أَوَّلُ الزِّيَادَةِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وباسطُ الرِّزْقِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ، بَسْطًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ، وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ، جَارِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذَّارِيَاتِ: 56-58] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] . كُلُّ ذَلِكَ لِيَتَفَرَّغُوا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي عُرضت عَلَيْهِمْ عَرْضًا، فَلَمَّا تحمَّلوها عَلَى حُكْمِ الْجَزَاءِ؛ حُمِّلوها فَرْضًا، وَيَا لَيْتَهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِشْفَاقِ وَالْإِبَايَةِ، وتأمَّلوا فِي الْبِدَايَةِ خَطَرَ النِّهَايَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ خطرها على بال، كما خطر للسموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ3؛ فَلِذَلِكَ سُمِّي الْإِنْسَانُ ظَلُومًا جَهُولًا، وكان أمر   1 أي: طيَّبه بطيب رائحته. 2 الغين لغة في الغيم. انظر: "لسان العرب" "غ ي ن". 3 أشار إلى أن المراد بالأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} عهدة التكليف، وإباية السموات والأرض والجبال لحملها تمثيل لعدم استعدادها بحسب الفطرة لتقلدها، وفي هذا التمثيل تنويه بقدر هذه التكاليف وتعظيم لشأنها. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الله مفعولا؛ فدل1 عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَبَانَةِ شاهدٌ قَوْلِهِ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] . فَسُبْحَانَ مَنْ أَجْرَى الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ، عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَمَقَادِيرِهِ؛ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ فِيمَا يَعْمَلُونَ، لَا يُسأل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ! وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، الصَّادِقُ الْأَمِينُ، المبعوثُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، بِمِلَّةٍ حَنِيفِيَّةٍ، وَشِرْعَةِ الْحَاكِمِينَ2 بِهَا حَفِيَّةً، يَنْطِقُ بِلِسَانِ التَّيْسِيرِ بَيَانُهَا، ويعرِّف أَنَّ الرِّفْقَ خَاصِّيَّتُهَا وَالسَّمَاحَ شَأْنُهَا؛ فَهِيَ تَحْمِلُ الْجَمَّاءَ الْغَفِيرَ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا، وَتَهْدِي الْكَافَّةَ فَهِيمًا وَغَبِيًّا، وَتَدْعُوهُمْ بِنِدَاءٍ مُشْتَرِكٍ دَانِيًا وَقَصِيًّا، وَتَرْفُقِ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مُطيعا وَعَصِيًّا، وَتَقُودُهُمْ بِخَزَائِمِهِمْ3 مُنْقَادًا وَأَبِيًّا، وتُسوي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْعَدْلِ شَرِيفًا وَدَنِيًّا، وتُبوئ حَامِلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَكَانًا عَلِيًّا، وَتُدْرِجُ النُّبُوءَةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وتُلبس الْمُتَّصِفِ بِهَا مَلْبَسًا سَنِيًّا، حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ وَلِيًّا؛ فَمَا أَغْنَى مَنْ وَالَاهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا، وَمَا أَفْقَرَ مَنْ عَادَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو بِهَا وَإِلَيْهَا4، ويبث للثقلين ما لديها، ويناضل   1 في "د": "دل"، وما أثبتناه من الأصل و"خ" و"م". 2 في النسخ المطبوعة: "شرعة بالمكلفين"، والمثبت من الأصل. 3 جمع خِزامة، وهي حلقة من شعر تُجعل في وترة أنف البعير يُشد فيها الزمام. انظر: "مختار الصحاح" "خ ز م". 4 يتحقق هذا المعنى بالنظر إلى القرآن الذي هو مطلع الشريعة الغراء؛ فإنه من جهة اشتماله على الحجج المحكمة والمواعظ الحسنة مدعو به، ومن حيث تقريره للعقائد والأحكام والآداب مدعو إليه "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بِبَرَاهِينِهَا عَلَيْهَا، وَيَحْمِي بِقَوَاطِعِهَا جَانِبَيْهَا، بَالِغَ الْغَايَةِ فِي الْبَيَانِ، بِقَوْلِهِ1 بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِهِ: "أَنَا النَّذِيرُ العُريان" 2 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ الَّذِينَ عَرَفُوا مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ فحصَّلوها، وَأَسَّسُوا قَوَاعِدَهَا وأصَّلوها، وَجَالَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي آيَاتِهَا، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وَغَايَاتِهَا، وَعُنُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِاطِّرَاحِ الْآمَالِ، وشفَّعوا الْعِلْمَ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ، وَسَابَقُوا إِلَى الْخَيِّرَاتِ فَسَبَقُوا3، وَسَارَعُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ فَمَا لُحِقُوا، إِلَى أَنْ طَلَعَ فِي آفَاقِ بَصَائِرِهِمْ شَمْسُ الْفُرْقَانِ، وَأَشْرَقَ فِي قُلُوبِهِمْ نُورُ الْإِيقَانِ؛ فَظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ مِنْهَا عَلَى اللِّسَانِ، فَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَرَعَ ذَلِكَ الْبَابَ، فَصَارُوا خَاصَّةَ الْخَاصَّةِ وَلُبَابَ اللُّبَابِ، وَنُجُومًا يَهْتَدِي بِأَنْوَارِهِمْ أُولُو الْأَلْبَابِ؟! رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الَّذِينَ خَلَفُوهُمْ قُدْوَةً لِلْمُقْتَدِينَ، وَأُسْوَةً لِلْمُهْتَدِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ؛ أَيُّهَا الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ أَعْلَى الْعُلُومِ4، الطَّالِبُ لِأَسْنَى نَتَائِجِ الحُلوم، الْمُتَعَطِّشُ إِلَى أَحْلَى مَوَارِدِ الْفُهُومِ، الْحَائِمُ حَوْلَ حِمًى ظاهر المرسوم؛   1 في النسخ المطبوعة: "يقول"، والمثبت من الأصل. 2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي 11/ 316/ رقم 6482، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 250/ رقم 7253"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل, باب شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، 4/ 1788-1789/ رقم 2283" من حديث أبي موسى مرفوعا: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العُريان؛ فالنجاء ... ". 3 في الأصل: "فتسبقوا"، وله وجه كما في "اللسان" "س ب ق". 4 تتفاضل العلوم على حسب شرف غايتها، أو قوة دلائلها، أو كمال موضوعاتها؛ ولهذا كان أشرف العلوم وأرفعها منزلة علم التوحيد، ثم ما ينبني عليه من سائر علوم الشريعة "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 طَمَعًا فِي إِدْرَاكِ بَاطِنِهِ الْمَرْقُومِ، مَعَانِيَ1 مَرْتُوقَةٍ فِي فَتْقِ تِلْكَ الرُّسُومِ2؛ فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُصغي إِلَى مَنْ وَافَقَ هَوَاكَ هَوَاهُ، وَأَنْ تُطارح الشَّجَى مَنْ مَلَكه -مِثْلَكَ- شَجَاهُ، وَتَعُودَ -إذْ شاركْتَه فِي جَوَاهُ- مَحَلَّ نَجْوَاهُ؛ حَتَّى يَبُثَّ إِلَيْكَ شَكْوَاهُ، لِتَجْرِيَ مَعَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ حَيْثُ جَرَى، وَتَسْرِيَ فِي غَبَشِهِ الْمُمْتَزِجِ ضَوْءُهُ بِالظُّلْمَةِ كَمَا سَرَى، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ تَحْمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَاقِبَةَ السُّرَى. فَلَقَدْ قَطَعَ فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصُودِ مهامِهَ فِيحا، وَكَابَدَ مِنْ طَوَارِقِ طَرِيقِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا، وَلَاقَى مِنْ وُجُوهِهِ الْمُعْتَرِضَةِ جَهْما وصَبِيحا، وَعَانَى مِنْ رَاكِبَتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ مَانِعًا وَمُبِيحًا3، فَإِنْ شِئْتَ أَلْفَيْتَهُ لِتَعَبِ السَّيْرِ طَلِيحا4، أَوْ لِمَا حَالَفَ مِنَ الْعَنَاءِ طَرِيحًا، أَوْ لِمُحَارَبَةِ الْعَوَارِضِ الصَّادَّةِ جَرِيحًا؛ فَلَا عَيْشَ هَنِيئًا، وَلَا مَوْتَ مُرِيحًا. وجُملة الْأَمْرِ فِي التَّحْقِيقِ: أَنَّ أَدْهَى مَا يَلْقَاهُ السَّالِكُ لِلطَّرِيقِ فَقْدُ الدَّلِيلِ، مَعَ ذِهْنٍ لِعَدَمِ نُورِ الْفَرْقَانِ كَلِيلٍ، وَقَلْبٍ بِصَدَمَاتِ الْأَضْغَاثِ5 عَلِيلٍ؛ فَيَمْشِي عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، وَيَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ قَبِيلٍ، إِلَى أَنْ مَنَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ، الْهَادِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ فبُعثت لَهُ أَرْوَاحُ تِلْكَ الْجُسُومِ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ الرُّسُومِ، وَبَدَتْ مُسَمَّيَاتُ تِلْكَ الْوُسُومِ؛ فَلَاحَ فِي أَكْنَافِهَا الْحَقُّ وَاسْتَبَانَ، وَتَجَلَّى مِنْ تَحْتِ سَحَابِهَا شَمْسُ الْفُرْقَانِ وَبَانَ، وَقَوِيَتِ النفس الضعيفة   1 كذا في الطبعات الثلاث والأصل. 2 أي: ملتئمة في تضاعيف معالمه. 3 في الأصل: "سخيا". 4 أي: منهكا هزيلا. انظر: "لسان العرب" "ط ل ح". وعلق "خ" هنا ما نصه: "من قولهم: طلح البعير طلحا وطلاحة، إذا أعيا؛ فهو طليح". 5 الأضغاث: الأخلاط، ومنه أضغاث الأحلام لما التبس منها، والمراد منها في هذه الجملة مثارات الحيرة، وشبه الباطل. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وشجُع الْقَلْبُ الْجَبَانُ، وَجَاءَ الْحَقُّ فَوَصَلَ أَسْبَابَهُ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ فَبَانَ، فَأَوْرَدَ مِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ1، وَفَوَائِدِهِ الْغَرِيبَةِ الْبُرْهَانِ، وَبَدَائِعِهِ الْبَاهِرَةِ لِلْأَذْهَانِ؛ مَا يَعْجِزُ عَنْ تَفْصِيلِ بَعْضِ أَسْرَارِهِ الْعَقْلُ، وَيَقْصُرُ عَنْ بَثِّ مِعْشَارِهِ اللِّسَانُ، إِيرَادًا يُمَيِّزُ الْمَشْهُورَ مِنَ الشَّاذِّ، وَيُحَقِّقُ مَرَاتِبَ الْعَوَامِّ وَالْخَوَاصِّ وَالْجَمَاهِيرِ وَالْأَفْذَاذِ، ويُوفي حُقَّ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالسَّالِكِ وَالْمُرَبِّي وَالتِّلْمِيذِ وَالْأُسْتَاذِ، عَلَى مَقَادِيرِهِمْ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ وَالتَّوَانِي وَالِاجْتِهَادِ وَالْقُصُورِ وَالنَّفَاذِ، وَيُنْزِلُ كُلًّا مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ حَلَّ، ويُبصره فِي مَقَامِهِ الْخَاصِّ بِهِ بِمَا دقَّ وجلَّ، وَيَحْمِلُهُ فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ مَجَالُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ، وَيَأْخُذُ بِالْمُخْتَلِفِينَ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ بَيْنَ الِاسْتِصْعَادِ وَالِاسْتِنْزَالِ؛ لِيَخْرُجُوا مِنِ انْحِرَافَيِ التَّشَدُّدِ وَالِانْحِلَالِ، وَطَرَفَيِ التَّنَاقُضِ والمُحال؛ فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يَجِبُ لِجَلَالِهِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى جَمِيلِ إِنْعَامِهِ وَجَزِيلِ إِفْضَالِهِ. وَلَمَّا بَدَا مِنْ2 مَكْنُونِ السِّرِّ مَا بَدَا وَوَفَّقَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ وَهَدَى, لَمْ أَزَلْ أُقَيِّدُ مِنْ أَوَابِدِهِ، وَأَضُمُّ مِنْ شَوَارِدِهِ تَفَاصِيلَ وجُملا، وَأَسُوقُ مِنْ شَوَاهِدِهِ فِي مَصَادِرِ الحُكم وَمَوَارِدِهِ مُبَيِّنًا لَا مُجْمِلًا، مُعْتَمِدًا عَلَى الِاسْتِقْرَاءَاتِ الْكُلِّيَّةِ، غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى الْأَفْرَادِ الْجُزْئِيَّةِ، وَمُبَيِّنًا أُصُولَهَا النَّقْلِيَّةَ بِأَطْرَافٍ مِنَ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ، حَسْبَمَا أَعْطَتْهُ الِاسْتِطَاعَةُ وَالْمِنَّةُ، فِي بَيَانِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَظْمِ تِلْكَ الْفَرَائِدِ، وَجَمْعِ تِلْكَ الْفَوَائِدِ، إِلَى تَرَاجِمَ تَرُدُّهَا إِلَى أُصُولِهَا، وَتَكُونُ عَوْنًا عَلَى تَعَقُّلِهَا وَتَحْصِيلِهَا؛ فَانْضَمَّتْ إِلَى تَرَاجِمِ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ، وَانْتَظَمَتْ فِي أَسْلَاكِهَا السَّنِية الْبَهِيَّةِ؛ فَصَارَ كتابا منحصرا في خمسة أقسام3:   1 بل فيه أحاديث موضوعة وضعيفة؛ كما بيناه في التخريج، والله الموفق. 2 في "ط": "من". 3 "القسم؛ بالفتح: مصدر قسم الشيء يقسمه قسما، وبالكسر: النصيب والحظ، والجمع أقسام ... وحقيقته أنه جزء من جملة تقبل التقسيم". "ماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الْأَوَّلُ: فِي الْمُقَدِّمَاتِ1 الْعِلْمِيَّةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي تَمْهِيدِ الْمَقْصُودِ. وَالثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرُهَا وَالْحُكْمُ بِهَا أَوْ عَلَيْهَا، كَانَتْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ. وَالثَّالِثُ: فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالرَّابِعُ: فِي حَصْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ، وَذِكْرِ مَآخِذِهَا، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُحكم بِهَا عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. وَالْخَامِسُ: فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ، وَالْمُتَّصِفِينَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. وَفِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَسَائِلُ وَتَمْهِيدَاتٌ، وَأَطْرَافٌ وَتَفْصِيلَاتٌ؛ يَتَقَرَّرُ بِهَا الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ، وَيَقْرُبُ بِسَبَبِهَا تَحْصِيلُهُ لِلْقُلُوبِ. وَلِأَجَلِّ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ التَّكْلِيفِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ، سَمَّيْتُهُ بِـ"عُنْوَانُ التَّعْرِيفِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ"، ثُمَّ انْتَقَلْتُ عَنْ هَذِهِ السِّيمَاءِ لِسَنَدٍ غَرِيبٍ، يَقْضِي الْعَجَبَ مِنْهُ الْفَطِنُ الْأَرِيبُ، وَحَاصِلُهُ أَنِّي لَقِيتُ يَوْمًا بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنِّي مَحَلَّ الْإِفَادَةِ، وَجَعَلْتُ مَجَالِسَهُمُ الْعِلْمِيَّةَ مَحَطًّا لِلرَّحْلِ ومُناخا لِلْوِفَادَةِ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ وَتَصْنِيفِهِ، وَنَابَذْتُ الشَّوَاغِلَ دُونَ تَهْذِيبِهِ وَتَأْلِيفِهِ؛ فَقَالَ لِي: رَأَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ، وَفِي يَدِكَ كِتَابٌ   1 "جمع مقدمة بكسر الدال وفتحها، وهي بالكسر أفصح، وهي من كل شيء أوله. والعلمية المنسوبة للعلم أي: المعرفة احترازا مما ينسب إلى العمل. والمحتاج المفتقر. وتمهيد الأمر: تسويته وإصلاحه وجعله وطئا سهلا، والمقصود الشيء الذي يقصد إتيانه لفائدة مرغوبة" "ماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أَلَّفْتَهُ فَسَأَلْتُكَ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتَنِي أَنَّهُ كِتَابُ "الْمُوَافَقَاتِ"، قَالَ: فَكُنْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الظَّرِيفَةِ، فَتُخْبِرُنِي أَنَّكَ وَفَّقْتَ بِهِ بَيْنَ مَذْهَبَيِ ابْنِ الْقَاسِمِ1 وَأَبِي حَنِيفَةَ. فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ أَصَبْتُمُ الْغَرَضَ بِسَهْمٍ مِنَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ مُصيب، وَأَخَذْتُمْ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ النَّبَوِيَّةِ بِجُزْءٍ صَالِحٍ وَنَصِيبٍ؛ فَإِنِّي شَرَعْتُ فِي تَأْلِيفِ هَذِهِ الْمَعَانِي، عَازِمًا عَلَى تَأْسِيسِ تِلْكَ الْمَبَانِي، فَإِنَّهَا الْأُصُولُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَوَاعِدُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ. فَعَجِبَ الشَّيْخُ مِنْ غَرَابَةِ هَذَا الِاتِّفَاقِ، كَمَا عَجِبْتُ أَنَا مِنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ وَصُحْبَةِ هَذِهِ الرِّفَاقِ؛ لِيَكُونَ -أَيُّهَا الْخِلُّ الصَّفِّيُّ، وَالصَّدِيقُ الْوَفِيُّ- هَذَا الْكِتَابُ عَوْنًا لَكَ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَشَارِحًا لِمَعَانِي الْوِفَاقِ وَالتَّوْفِيقِ، لَا لِيَكُونَ عُمْدَتَكَ فِي كُلِّ تَحَقُّقٍ وَتَحْقِيقٍ، وَمَرْجِعَكَ فِي جَمِيعِ مَا يعنُّ لَكَ مِنْ تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ؛ إِذْ قَدْ صَارَ عِلْمًا مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ، وَرَسْمًا كَسَائِرِ الرُّسُومِ، وَمَوْرِدًا لِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَتَعَارُضِ الْفُهُومِ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَرَّبَ عَلَيْكَ فِي الْمَسِيرِ، وَأَعْلَمَكَ كَيْفَ تَرْقَى فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَإِلَى أَيْنَ تَسِيرُ، وَوَقَفَ بِكَ مِنَ الطَّرِيقِ السَّابِلَةِ عَلَى الظَّهر، وَخَطَبَ لَكَ عَرَائِسَ الْحِكْمَةِ ثُمَّ وَهَبَ لَكَ الْمَهْرَ. فقدِّمْ قَدَم عَزْمِكَ؛ فَإِذَا أَنْتَ بِحَوْلِ اللَّهِ قَدْ وَصَلْتَ، وَأَقْبِلْ عَلَى مَا قِبَلك مِنْهُ؛ فَهَا أَنْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَدْ فُزْتَ بِمَا حَصَّلْتَ، وَإِيَّاكَ وَإِقْدَامَ الْجَبَانِ، وَالْوُقُوفَ مَعَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ2، وَالْإِخْلَادَ إِلَى مُجَرَّدِ التَّصْمِيمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَفَارِقْ وَهَد   1 خالف ابن القاسم الإمام مالكا في مسائل كثيرة؛ فوصفه بعض الفقهاء بأنه مجتهد مطلق، وذهب الأكثرون إلى أنه مجتهد في المذهب؛ أي: مقيد النظر بأصول مالك، ولهذا كان أهل الأندلس -وهم مقتدون بمذهب مالك- يشرطون في سجلات قرطبة أن لا يخرج القاضي عن قول ابن القاسم ما وجده، ولم يتركوا العمل بقوله إلا في ثماني عشرة مسألة. "خ". 2 كذا في "ط" وحدها، وفي سائر النسخ: "مع الطرق الحسان"!! وفسرها "خ" بقوله: "لا يشغلك جمال الطريق عن السير إلى الغايات الشريفة، وكثير من القارئين من يلهيه حسن أساليب القول عن الغوص في أعماقه واقتناص حكمه البديعة ومراميه السامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 التَّقْلِيدِ رَاقِيًا إِلَى يَفَاع الِاسْتِبْصَارِ1، وَتَمَسَّكْ مِنْ هَدْيِكَ بِهِمَّةٍ2 تَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْمُدَافَعَةِ وَالِاسْتِنْصَارِ إِذَا تَطَلَّعَتِ الْأَسْئِلَةُ الضَّعِيفَةُ وَالشُّبَهُ الْقِصَارُ، وَالْبَسِ التَّقْوَى شِعَارًا، وَالِاتِّصَافَ بِالْإِنْصَافِ دِثَارًا، وَاجْعَلْ طَلَبَ الْحَقِّ لَكَ نِحْلَة، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ لِأَهْلِهِ مِلَّةً، لَا تَمْلِكْ [قَلْبَكَ] 3 عَوَارِضُ الْأَغْرَاضِ، وَلَا تُغير4 جَوْهَرَةَ قَصْدِكَ طَوَارِقُ الْإِعْرَاضِ، وَقِفْ وَقْفَةَ الْمُتَخَيِّرِينَ لَا وَقْفَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ؛ إِلَّا إِذَا اشْتَبَهَتِ الْمَطَالِبُ، وَلَمْ يَلُحْ وَجْهُ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ؛ فَلَا عَلَيْكَ مِنَ الْإِحْجَامِ وَإِنْ لجَّ الْخُصُومُ، فَالْوَاقِعُ فِي حِمَى الْمُشْتَبِهَاتِ هُوَ الْمَخْصُومُ، وَالْوَاقِفُ دُونَهَا هُوَ الرَّاسِخُ الْمَعْصُومُ، وَإِنَّمَا الْعَارُ والشنارُ5 عَلَى مَنِ اقْتَحَمَ الْمَنَاهِيَ فَأَوْرَدَتْهُ النَّارَ، لَا تَرِدْ مَشْرَعَ الْعَصَبِيَّةِ، وَلَا تَأْنَفْ مِنَ الْإِذْعَانِ إِذَا لَاحَ وَجْهُ الْقَضِيَّةِ أَنَفَةَ ذَوِي النُّفُوسِ الْعَصِيَّةِ، فَذَلِكَ مَرْعًى لِسَوَامِهَا وَبيل، وَصُدُودٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. فَإِنْ عَارَضَكَ دُونَ هَذَا الْكِتَابِ عَارِضُ الْإِنْكَارِ، وَعَمِيَ عَنْكَ وَجْهُ الِاخْتِرَاعِ فِيهِ وَالِابْتِكَارِ وَغَرَّ6 الظَّانَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا سُمع بِمِثْلِهِ وَلَا أُلِّفَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ مَا نُسج عَلَى مِنْوَالِهِ أَوْ شُكل بِشَكْلِهِ، وَحَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، وَمِنْ كُلِّ بِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاعُهُ؛ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْإِشْكَالِ دون   1 جعل التقليد بمنزلة الوهد، وهو المنخفض من الأرض؛ لأن المقلد لا يرمي ببصره إلى ما وراء قول متبوعه أو فعله، فكأنه في منحدر تمنعه جوانبه من أن يمد عينه إلى ما خلفه من ملكوت السموات والأرض، وجعل التبصر بمكان اليفاع وهو الرابية؛ لأن المتبصر لا يقف بفكره جامدا على ما يسبق إليه من قول أو يشهده من عمل، بل ينفذ ببصيرته الصافية إلى مرتقى الاستدلال؛ فكأنه قائم على أكمة يشرف منها على مواقع شتى ليتخير من بينها أبدع المناظر وأصفى الموارد "خ". 2 في نسخة "خ": "من تهديك بمنة تتمكن". 3 ليست في الأصل ولا في "ط"، وضبط ناسخ "ط" "تُمِلْكَ" من "الميلان". 4 في "د": "تغر". 5 في حاشية الأصل: الشنار, بالفتح: أقبح العيب والعار، الأمر المشهور بالشنعة. ا. هـ. "قاموس". 6 في "ط": "وظنَّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 اخْتِبَارٍ، وَلَا ترْمِ بِمَظِنَّةِ الْفَائِدَةِ عَلَى غَيْرِ اعْتِبَارٍ؛ فَإِنَّهُ بِحَمْدِ اللَّهِ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ، وَشَدَّ مَعَاقِدَهُ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ، وَرَسَمَ مَعَالِمَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَحْبَارُ، وَشَيَّدَ أَرْكَانَهُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ1، وَإِذَا وضُح السبيلُ لَمْ يَجِبِ2 الْإِنْكَارُ، وَوَجَبَ قَبُولُ مَا حَوَاهُ وَالِاعْتِبَارُ بِصِحَّةِ مَا أَبْدَاهُ وَالْإِقْرَارُ، حَاشَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَيَطْرُقُ صِحَّةَ أَفْكَارِهِمْ مِنَ الْعِلَلِ؛ فَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّت سَقَطَاتُهُ، وَالْعَالِمُ مَنْ قَلَّتْ غَلَطَاتُهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى النَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ، إِذَا وَجَدَ فِيهِ نَقْصًا أَنْ يُكْمِلَ، وَلْيُحْسِنِ الظَّنَّ بِمَنْ حَالَفَ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ، وَاسْتَبْدَلَ التَّعَبَ بِالرَّاحَةِ وَالسَّهَرَ بِالْمَنَامِ؛ حَتَّى أَهْدَى إِلَيْهِ نَتِيجَةَ عُمره، وَوَهَبَ لَهُ يَتِيمَةَ دَهْرِهِ؛ فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِ مَقَالِيدَ مَا لَدَيْهِ، وَطَوَّقَهُ طَوْقَ الْأَمَانَةِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ، وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْبَيَانِ فِيمَا وجب عليه، و "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" 3. جَعَلَنَا اللَّهُ مِنَ الْعَامِلِينَ بِمَا عَلِمْنَا، وَأَعَانَنَا عَلَى تَفْهِيمِ مَا فَهِمْنَا، وَوَهَبَ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا يُبَلِّغُنَا رِضَاهُ، وَعَمَلًا زَاكِيًا يَكُونُ عُدَّةً لَنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ. وَهَا أَنَا أَشْرَعُ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، وَآخُذُ فِي إِنْجَازِ ذَلِكَ الْمَوْعُودِ، وَاللَّهُ المستعانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ العظيم.   1 أي: تأمل الحفظة. انظر: "مختار الصحاح" "ن ظ ر". 2 من "أجبى" بمعنى أخفى، مأخوذا من الإجباء، وهو أن يغيب الرجل إبله عن المتصدق، والمعنى: أن السبيل الواضح لا يتمكن المنكر من إخفائه. "خ". 3 الحديث في "الصحيحين" وغيرهما، ولم يصح إلا عن عمر -رضي الله عنه- وسيأتي تخريجه "ص459". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى 1 إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ2 فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا   1 نحو ما عند المصنف تحت هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 228-234، و20/ 62-64". 2 "قوله: "أصول" جمع أصل، وهو في الاصطلاح ما يبنى عليه غيره عكس الفرع؛ فإنه ما ينبني على غيره. والفقه لغة: الفهم، وفي الاصطلاح: الأحكام الشرعية التي طريقها طريق المجتهدين والدين والجزاء والعبادة، وهو المراد هنا. والقطعي: الذي لا شك فيه، وتراها وتبصرها. وظنية: منسوبة إلى الظن، وهو الراجح من الأمر، والمرجوح يسمى وهما، والمستوي يسمى شكا". "ماء". وكتب "د" ما نصه: "تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة كـ "لا ضرر ولا ضرار"، و {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، و {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، "إنما الأعمال بالنيات"، "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة"، وهكذا، وهذه تسمى أدلة أيضا؛ كالكتاب، والسنة، والإجماع ... إلخ. وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي فن الأصول؛ فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية؛ فالقاضي ومن وافقه على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني، والمؤلف بصدد معالجة إثبات كون مسائل الأصول قطعية بأدلته الثلاثة الأول وبالأدلة الأخرى التي جاء بها في صدد الرد على المازري في اعتراضه على القاضي، ثم قرر أخيرا أن ما كان ظنيا يطرح من علم الأصول؛ فيكون ذكره تبعيا لا غير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ قَطْعِيٌّ1. بَيَانُ2 الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْقَطْعِ3. وَبَيَانُ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ: أحدُها4: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أُصُولٍ عَقْلِيَّةٍ5، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ، وإما إلى   1 خفي الوجه الذي بسطه المصنف في هذه المقدمة على بعض الكاتبين في الأصول؛ فقال: من أصول الفقه ما ليس بقطعي؛ كحجية الاستصحاب، ومفهوم المخالفة، وستطلع إن شاء الله على أن من قرر أصلا كالاستصحاب أو سد الذرائع أو المصالح المرسلة؛ إنما انتزعه من موارد متعددة من الشريعة حتى قطع بأنه من الأصول المقصودة في بناء الأحكام. "خ". قال "ماء": "قطعية أبدا في جميع الدهر ولا تكون ظنية". قلت: الخلاف في هذه المسألة يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النزاع فقط؛ فالقائلون بأن "أصول الفقه" قطعية لا تحتمل الظنيات -ومنهم المصنف-؛ يقصدون "أصول" الأدلة، والقواعد الكلية للشريعة، ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاجتهادات التطبيقية ليس من "أصول" الفقه، وإن بُحث في علم "أصول الفقه" وكتبه، وأما القائلون بأن أصول الفقه تشتمل على كثير من الظنيات؛ فإنما يتكلمون عن "علم أصول الفقه"، حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات، ودليل ظنيتها كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى المصنف إلى إقصائه من "أصول الفقه"، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن "أصول الفقه" قطعية لا ظنية، تأمل اعتراض أستاذنا الدريني في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأدلته" "1/ 20" تجد مصداق التوجيه السابق، وقد ذكره الأستاذ أحمد الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص140". 2 في "م": "وبيان". 3 فإنا إذا تصفحنا جميع مسائل علم الأصول نقطع بأنها مبنية على كليات الشريعة الثلاث، واستقراء جميع الأفراد فيه ممكن؛ فإنها مسائل محصورة "د". 4 حاصله أن كليات الشريعة مبنية؛ إما على أصول عقلية، وإما على استقراء كلي من الشريعة، وكلاهما قطعي؛ فهذه الكليات قطعية، فما ينبني عليها من مسائل الأصول قطعي "د". 5 أي: راجعة إلى أحكام العقل الثلاثة كما سيذكره في المقدمة الثانية تفصيلا. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الِاسْتِقْرَاءِ الْكُلِّيِّ1 مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ قَطْعِيٌّ أَيْضًا، وَلَا ثَالِثَ2 لِهَذَيْنِ إِلَّا الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا، وَالْمُؤَلَّفُ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ قَطْعِيٌّ، وَذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ. وَالثَّانِي3: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً؛ لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى أَمْرٍ عَقْلِيٍّ؛ إِذِ الظَّنُّ لَا يُقْبَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا إِلَى كُلِّيٍّ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الظَّنَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْئِيَّاتِ4؛ إِذْ لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ؛ لَجَازَ تَعَلُّقُهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ الْكُلِّيُّ الْأَوَّلُ5، وَذَلِكَ غَيْرُ جائز عادة6 -وأعني بالكليات7 هنا: الضروريات،   1 لا يتأتى عادة أن يكون المستنبطون لقاعدة "أن الأمر للوجوب" مثلا وقفوا على كل أمر صدر من الشارع حتى يتحقق الاستقراء الكلي المعروف الموجب لليقين، لكن المطلوب هنا القطع؛ أي: الجزم، ويكفي لذلك الكثرة المستفيضة الإفراد من كل نوع من أنواع الأمر الواردة في مقاصد الشريعة الثلاثة: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ومثل هذا كافٍ في عده استقراء كليا يوجب القطع؛ لأن ما لم يطلع عليه المستنبط من الأوامر لا يخرج عن كونه فردا من أنواع الأوامر التي اطلعوا عليها؛ فلا يترتب عليه إخلال بالقاعدة. 2 سيأتي في المقدمة الثانية زيادة: العادي؛ فلعله توسع هنا بإدراجه في العقلي "د". 3 إثبات للمطلوب بإبطال نقيضه؛ لأنه يترتب على كونه ظنية حصول ما لا يجوز عادة، وهو تعلق الظن بأصل الشريعة، وأيضا حصول الشك فيها، وأيضا جواز تبديلها، وكلها باطلة "د". قلت: وانظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 112-126". 4 لا الكليات الشرعية بدليل قوله: "إذ لو جاز ... "؛ فهو روح الدليل "د". 5 أي: بملاحظة أنها جاءت بعد الاستقراء الكلي؛ فيصح قوله: "لجاز ... " إلخ، وأصل الشريعة المقطوع بها هي الكلي الأول الذي تفرعت عنه القوانين والكليات الأخرى، وحيث كان الأصل الأول مقطوعا به، وكان التفريع عليه بطريق الاستقراء الكلي؛ فحكم الفرع حينئذ يكون حكما للأصل، والعكس "د". 6 لأنه بعد قيام الدليل على الأصل والقطع به يستحيل عادة أن يحصل فيه ظن بدل القطع، ولم يقل عقلا؛ لأنه لا يمنع العقل حصول الظن للشخص في شيء بعد القطع بالدليل؛ فإنه لا يلزم من عرض ذلك محال عقلا. "د". 7 أي: التي قلنا: إنها مرجع لمسائل الأصول "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَالْحَاجِيَّاتِ، وَالتَّحْسِينِيَّاتِ1-، وَأَيْضًا لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ؛ لَجَازَ تَعَلُّقُ الشَّكِّ بِهَا، وَهِيَ لَا شَكَّ فِيهَا، وَلَجَازَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا ضَمِنَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ حِفْظِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ جَعْلُ الظَّنِّيِّ2 أَصْلًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ لَجَازَ جَعْلُهُ أَصْلًا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَنِسْبَةِ أُصُولِ الدِّينِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْمَرْتَبَةِ؛ فَقَدِ اسْتَوَتْ فِي أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ مُعْتَبَرَةٌ3 فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حِفْظِ الدِّينِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ، وَلَمْ نُتَعبد بِالظَّنِّ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ4، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب   1 في "م": "الظن". 2 استدلال خطابي؛ لأنه لا يتأتى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول؛ حتى ما اتفقوا عليه منها، إنما المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط، وكان يجدر به وهو في مقام الاستدلال العام على قطعية مسائل الأصول ومقدماتها ألا يذكر مثل هذا الدليل "خ". 3 "أما الضروريات؛ فَمَعْنَاهَا: أَنَّهَا لَا بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ بَلْ عَلَى فساد وتهارج، وهي خمس: حفظ الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل. وَأَمَّا الْحَاجِيَّاتُ؛ فَمَعْنَاهَا: أَنَّهَا مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حيث التوسعة ورفع التضيق؛ كالرخص، وإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال. وأما التحسينيات؛ فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات؛ كإزالة النجاسة، وستر العورة، وأخذ الزينة" "ماء". 4 ذهبت طائفة إلى أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالطرق المفيدة للعلم، متمسكين بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، وأجاب الجمهور عن الآيتين بأنهما من قبيل العام المخصوص بالأدلة القائمة على العمل بما يفيد الظن في الفروع؛ كأدلة العمل بخبر الآحاد، أو أن العمل بمثل خبر الآحاد حيث كان يستند إلى الدلائل الموجبة للعمل عند ظن الصدق كان وجوبه معلوما قطعا؛ فالظن واقع في طريق الحكم، وقد انضمت إليه الدلائل القاطعة على وجوب العمل بمقتضى هذا الظن؛ فلم يكن العامل بما يفيده خبر الآحاد مثلا متبعا لمجرد الظن، بل مستندا إلى ما يفيد العلم بأن ذلك الحكم المنتزع بطريق مظنون هو ما ناطه الشارع بعهدته "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 مِنَ الْأُصُولِ تَفَاصِيلَ الْعِلَلِ، كَالْقَوْلِ فِي عَكْسِ الْعِلَّةِ، وَمُعَارَضَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَتَفَاصِيلَ أَحْكَامِ الْأَخْبَارِ، كَأَعْدَادِ الرُّوَاةِ، وَالْإِرْسَالِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ. وَاعْتَذَرَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ1 عَنْ إِدْخَالِهِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ التَّفَاصِيلَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهَا دَاخِلَةٌ بِالْمَعْنَى2 فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّحَاشِي عَنْ عَدِّ هَذَا الْفَنِّ مِنَ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، عَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْأُصُولَ هِيَ أُصُولُ الْعِلْمِ3؛ لِأَنَّ تِلْكَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينُ كُلِّيَّاتٍ وُضِعَتْ لَا لِأَنْفُسِهَا4، لَكِنْ ليُعْرَض عَلَيْهَا أَمْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ. قَالَ: فَهِيَ فِي هَذَا كَالْعُمُومِ5 وَالْخُصُوصِ. قال: ويحسن   1 في "البرهان" "1/ 85-86". 2 لا يخفى أن اعتبار مثل هذا يؤدي إلى دعوى أن الفروع قطعية أيضا "د". 3 أصول العلم قوانينه التي يتألف منها؛ ككون الإجماع أو القياس حجة، والمطلق يحمل على المقيد والعام يقبل التخصيص، ودلالته على جميع أفراده قطعية أو ظنية، أما الأصول بمعنى الأدلة؛ فهي الكتاب, والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. فقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أصل بمعنى الدليل، وقولك بعد: "والأمر للوجوب" أصل من أصول العلم "خ". 4 أي: لا لتعتقد حتى يلزم فيها ثبوتها على وجه قطعي "د". 5 لعله يريد أن القاعدة بالنسبة لجزئيات الأدلة كالعام بالنسبة لجزئياته، وحيث إن جزئيات الأدلة يلحقها الظن في دلالتها؛ فلا مانع أن تكون الكليات التي تنطبق عليها كانطباق العام على الخاص يلحقها الظن أيضا "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 مِنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنْ لَا يَعُدَّهَا مِنَ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ عِنْدَهُ [هِيَ الْأَدِلَّةُ، وَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُ] 1 مَا يُفْضِي إِلَى الْقَطْعِ، وَأَمَّا الْقَاضِي؛ فَلَا يَحْسُنُ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُصُولِ، عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ. هَذَا مَا قَالَ. وَالْجَوَابُ2: أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كان مظنونا تطرق إليها احْتِمَالُ الْإِخْلَافِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ أَصْلًا فِي الدِّينِ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَالْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا3 وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ الْمَضْمُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ حِفْظُ أُصُولِهِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ4، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] أَيْضًا، لَا أَنَّ الْمُرَادَ5 الْمَسَائِلُ الْجُزْئِيَّةُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَتَخَلَّفْ عن الحفظ جزئي من   1 ليست في الأصل. 2 أي: عن القاضي؛ أي: إن القاضي وإن قال: إن الأصول هي تلك القوانين؛ فهذا لا ينافي أنه يقول: إنها قطعية؛ لأن كل ما كان ظنيا لا يعد من الأصول؛ فسواء أريد بالأصول الأدلة من الكتاب والسنة ... إلخ أو أريد بها تلك القواعد؛ لا بد أن تكون قطعية، ومنه يُعلم أن قوله: "لأن تلك الظنيات ... إلخ" من كلام المازري لا من كلام القاضي، ومعلوم أن الغرض من جلب كلام القاضي والمازري تصفية المقام ورد شبهة المازري ليتم له أن أصول الفقه على أي تقدير في معناها قطعية، سواء كانت هي القواعد أو الأدلة من الكتاب والسنة، أو الكليات الشرعية المنصوصة. "د". 3 مجرد دعوى؛ إلا أن يجعل تفريعا على ما قبله فتكون الفاء ساقطة "د". 4 مسلم، ولكنك تعمم في المستنبطة الصرفة أيضا "د". وانظر في معنى الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "27/ 447"، و"المحرر الوجيز" "3/ 351-352" لابن عطية. 5 سيأتي له ما يخالف هذا؛ إذ يقول في المقدمة التاسعة: "ولذا كانت الشريعة محفوظة أصولها وفروعها"، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن مراده هنا نفي حفظ الفروع بذاتها، وهناك إثبات حفظها بنصب أدلتها الكافية لمن توجه إليها بفهم راسخ، فإن أخطأها بعض؛ أصابها بعض آخر، فهي محفوظة في الجملة "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْجَوَازِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوُقُوعُ؛ لِتَفَاوُتِ الظُّنُونِ، وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النُّصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ، وَوُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهَا قَطْعًا؛ فَقَدْ وُجد الْخَطَأُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي مَعَانِي الْآيَاتِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ مِنْهُ كُلِّيًّا1، وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصْلٍ قَطْعِيًّا. هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْمَعَالِي، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي, فَإِنَّ إِعْمَالَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الْفِقْهِ2؛ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهَا, وَاخْتِبَارِهَا بِهَا، وَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا؛ لِأَنَّكَ أَقَمْتَهَا مُقام الْحَاكِمِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، بِحَيْثُ تُطرح الْأَدِلَّةُ إذا لم تجز عَلَى مُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تُجعل الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينَ لِغَيْرِهَا3؟ وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَادَةٍ لِأَنْفُسِهَا حَتَّى يُسْتَهَانَ بِطَلَبِ الْقَطْعِ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا حَاكِمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الثِّقَةِ بِهَا فِي رُتْبَتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تُجعل قَوَانِينَ، وَأَيْضًا، لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا ظَنِّيَّةً؛ لَزِمَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ فَالِاصْطِلَاحُ اطَّرَدَ عَلَى أَنَّ الْمَظْنُونَاتِ لَا تُجعلُ أُصُولًا، وَهَذَا كافٍ فِي اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما   1 كليا منصوصا كما قال أولا؛ فيمنع قوله بعد: يلزم أن يكون كل أصل قطعيا، فإذا كان غرضه تقرير مذهب أبي المعالي، وأن القطع إنما هو في الكليات المنصوصة في الشريعة بدون تعرض للقوانين المستنبطة؛ لا يكون لذكره هنا فائدة تعود على غرضه من قطعية مسائل الأصول، وإذا كان يقيس القوانين على النصوص كما هو المفهوم من قوله: "لا فرق بينها وبين الأصول التي نص عليها"؛ فهو قياس لم يذكر له علة صحيحة "د". 2 في "ط": "أصول العلم". 3 أي: من القطعيات التي تعرض فيما يعرض عليها، وقد يقال: إنها جعلت قوانين لاستخراج الفروع من القطعيات والظنيات، وليست قوانين لنفس القطعيات، والفروع المستنبطة بها ظنية ولا ضير في هذا "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 جرى1 فيها مما ليس بقطعي تفريعا عليه بالتبع، لا بالقصد الأول2.   1 رجوع عن قسم عظيم مما شملته الدعوى، ولكنه مقبول ومعقول؛ فإن من مسائل الأصول ما هو قطعي مجمع عليه، ومنها ما هو محل للنظر، وتشعب وجوه الأدلة إثباتا وردا، راجع "الأسنوي على المنهاج" في تعريف الأصول على أنه -بهذه الخاتمة التي طرح بها كثيرا من القواعد المذكورة في الأصول جزافا دون تحديد لنوع ما يطرح- صار لا يُعرف مقدار ما بقي قطعيا وما سلم فيه أنه ظني، وهذا يقلل من فائدة هذه المقدمة. "د". 2 بعد ختم "ماء" هذا الفصل قال: "تنبيه: اعلم أني ذكرت في النظم تبعا للأصل أن أصول فقه الدين قطعية، ولا تكون ظنية، وتقدم ما تقدم من الكلام، ثم إني أقول: إن أصول الفقه عرفها صاحب "جمع الجوامع" أعني السبكي بقول: أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل: معرفتها، والأصولي: العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية". وقال في تعريفها سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي في "مراقي السعود" "أصوله دلائل الإجمال"، قال في شرحه: "يعني أن أصول الفقه أدلته الإجمالية؛ لأن الأصل في الاصطلاح هو الدليل أو الأمر الراجح ... والدليل الإجمالي هو الذي لا يعين مسألة جزئية كقاعدة "مطلق الأمر والنهي". وفعله -صلى الله عليه وسلم- والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمبين والمجمل، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، وخبر الواحد ... " إلى أن قال: "والقاعدة قضية كلية تعرف منها أحكام جزئياتها نحو مطلق الأمر للوجوب ومطلق النهي للتحريم، والإجماع والقياس والاستصحاب حجة، والعام يقبل التخصيص والخاص يقضي على العام ... إلى غير ذلك من كلامهم في كتبهم, جزاهم الله خيرا" "ماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المقدمة الثانية : إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةَ الْمُعْتَمَدَةَ فِيهِ لَا تَكُونُ إِلَّا قَطْعِيَّةً1؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةٌ لَمْ تُفِدِ الْقَطْعَ فِي الْمَطَالِبِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَهَذَا بَيَّنٌ، وَهِيَ: - إِمَّا عَقْلِيَّةٌ؛ كَالرَّاجِعَةِ إِلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ الثَّلَاثَةِ: الْوُجُوبِ، وَالْجَوَازِ، وَالِاسْتِحَالَةِ. - وَإِمَّا عَادِيَّةٌ، وَهِيَ تَتَصَرَّفُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ أَيْضًا؛ إِذْ مِنَ الْعَادِيِّ مَا هُوَ واجبٌ فِي الْعَادَةِ أَوْ جَائِزٌ أَوْ مُسْتَحِيلٌ. - وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ، وَأَجَلُّهَا الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي اللَّفْظِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ، أَوْ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الْمَعْنَى، أَوِ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ. فَإِذَا الْأَحْكَامُ الْمُتَصَرِّفَةُ2 فِي هَذَا الْعِلْمِ لَا تَعْدُو الثلاثة: الوجوب،   1 لازم أو ملزوم لما تقدم له في المقدمة الأولى؛ فيجري عليه ما جرى عليها "د". 2 أي: التي تتركب منها مقدماته لا تتجاوز الأحكام الثلاثة، سواء كانت عقلية أو عادية أو سمعية، وقد يذكر في الأصول أن كذا حجة أو ليس بحجة؛ فهذا ليس من المقدمات، وإنما هو مما يتفرع على تلك المقدمات؛ إذ هو العرض الذاتي الذي يُراد إثباته لموضوعاته التي هي الأدلة بواسطة تلك المقدمات "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَالْجَوَازَ، وَالِاسْتِحَالَةَ، وَيَلْحَقُ بِهَا الْوُقُوعُ أَوْ عَدَمُ الْوُقُوعِ، فَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْءِ حُجَّةً أَوْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ فَرَاجِعٌ إِلَى وُقُوعِهِ كَذَلِكَ، أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ كَذَلِكَ، وَكَوْنُهُ صَحِيحًا أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ رَاجِعٌ1 إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَّلِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا؛ فَلَا مُدخل لَهُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُصُولٌ، فَمَنْ أَدْخَلَهَا فِيهَا فمن2 باب خلط بعض العلوم ببعض.   1 لأنها بمعنى ثبوته أعم من أن يكون واجبا أو جائزا أو مستحيلا، يعني عقليا أوعاديا، لا خصوص العقلي "د". 2 إنما ذكروها من باب المقدمات لحاجة الأصولي إلى تصورها والحكم بها إثباتا ونفيا؛ كقوله: الأمر للوجوب والنهي للتحريم مثلا، وقد ذكرها هو وأطال في تحديدها؛ إلا أن يكون مراده كون كذا من الأفعال فرضا أو حراما مثلا، فإن هذا من الفروع الصرفة التي ليست من المقدمات في شيء "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 المقدمة الثالثة 1 الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذَا الْعِلْمِ؛ فَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مُرَكَّبَةً2 عَلَى الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، أَوْ مُعِينة فِي طَرِيقِهَا، أَوْ مُحَقِّقَةً لِمَنَاطِهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَا مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا نَظَرٌ فِي أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِشَارِعٍ, وَهَذَا مبيَّن فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمُعْتَمَدُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَوُجُودُ الْقَطْعِ3 فِيهَا -عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ- معدوم، أو في غاية الندور   1 هذه المقدمة كبيان ودفع لما يرد على المقدمة قبلها "د". وقارن ما فيها بكلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "19/ 228-234". 2 أي: لا تكون أدلة هذا العلم مركبة من مقدمات عقلية محضة، بل قد تكون إحدى المقدمات والباقي شرعية مثلا، وقد تكون معينة بأن يأتي الدليل كله شرعيا، ويستعان على تحقيق نتيجته بدليل عقلي، وقد تكون المقدمات العقلية أو العادية لا لإثبات أصل كلي، بل لتحقيق المناط؛ أي: لتطبيق أصل على جزئي من جزئياته، وذلك بالبحث في أن هذا الجزئي مندرج في موضوع القاعدة ليأخذ حكمها، وسيأتي أن هذا البحث قد يرجع للطب أو للصناعات المختلفة أو للعرف في التجارات والزراعات وغير ذلك؛ إلا أنه يلاحظ على ذلك أن تحقيق المناط من صناعة الفقيه المجتهد، لا من تحقيق مسائل الأصول في ذاتها، ومثل ذلك يقال في تنقيح المناط وتخريج المناط الآتيين له في الجزء الرابع؛ لأنها كلها من وظيفة الفقيه لا الأصولي؛ إلا أن يقال: لا مانع من تحقيق المناط في مسائل الأصول أيضا، لكن على وجه آخر غير طريقة ذلك الاصطلاح "د". 3 يستعمل القطع في دلالة الألفاظ؛ فيأتي على نوعين: أولهما: الجزم الحاصل في النص القاطع، وهو ما لا يتطرقه احتمال أصلا نحو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وهذا ما يقصده المصنف في هذه المقدمة. ثانيهما: العلم الحاصل من الدليل الذي لم يقم بإزائه احتمال يستند إلى أصل يعتد به ولا يضره الاحتمالات المستندة إلى وجوه ضعيفة أو نادرة، وهذا المعنى هو الذي يقصده القائلون بأن دلالة العام على أفراده قطعية. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 "أَعْنِي: فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ"؛ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ فَعَدَمُ إِفَادَتِهَا الْقَطْعَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً؛ فَإِفَادَتُهَا الْقَطْعَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ جميعُها أَوْ غَالِبُهَا ظَنِّيٌّ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا؛ فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ، وَالْإِضْمَارِ، وَالتَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ، وَالتَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ والمُعارض الْعَقْلِيِّ1، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ مَعَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَذِّرٌ وَقَدِ اعْتَصَمَ مَنْ قَالَ بِوُجُودِهَا بِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ فِي أَنْفُسِهَا، لَكِنْ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أَوْ مَنْقُولَةٌ؛ فَقَدْ تُفِيدُ الْيَقِينُ، وَهَذَا كُلُّهُ نادرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ2. وَإِنَّمَا الْأَدِلَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ هُنَا الْمُسْتَقْرَأَةُ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ تَضَافَرَتْ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى أَفَادَتْ فِيهِ الْقَطْعَ؛ فَإِنَّ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِافْتِرَاقِ، وَلِأَجْلِهِ أَفَادَ التَّوَاتُرُ الْقَطْعَ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ، فَإِذَا حَصَلَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ مجموعٌ يُفِيدُ الْعِلْمَ؛ فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالتَّوَاتُرِ3 الْمَعْنَوِيِّ، بَلْ هو كالعلم   1 العقليات التي يصح لها أن تعارض لفظ الشارع ويتعين صرفه عن ظاهره لأجلها كمال* ما إذا عارضه الحس والمشاهدة إنما هي القضايا الثابتة بأدلة قاطعة، أما مجرد استحسان العقل واستقباحه؛ فلا يقف أمام نص الشارع لأنه قد يكون ناشئا عن عدم صفاء الفطرة والذوق، أو تغلب الهوى، وكثيرا ما يكون أثرا من آثار النشأة والبيئة الخاصة. "خ". 2 أي: فلا يفيد الاعتصام به بحالة مطردة في سائر الأدلة كما هو المطلوب "د". 3 وليس تواترا معنويا؛ لأن ذاك يأتي كله على نسق واحد؛ كالوقائع الكثيرة المختلفة التي تأتي جميعُها دالة على شجاعة علي مثلا بطريق مباشر، أما هذا؛ فيأتي بعضه دالا مباشرة على وجوب الصلاة، وبعضه بطريق غير مباشر، لكن يستفاد منه الوجوب؛ كمدح الفاعل لها، وذم التارك، والتوعد الشديد على إضاعتها، وإلزام المكلف بإقامتها ولو على جنبه إن لم يقدر على القيام، وقتال من تركها ... إلخ، ولذلك عده شبيها بالمعنوي ولم يجعله معنويا "د".   * كذا في الأصل، ولعل صوابه: "كما لو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَجُودِ حَاتِمٍ1 الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمَا. وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهِمَا قَطْعًا، وَإِلَّا فَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ على وجوب الصلاة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَكَانَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بمجرده نظر من أوجه2، لكن خف3 بِذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ مَا صَارَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ ضَرُورِيًّا فِي الدِّينِ، لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا شَاكٌّ فِي أَصْلِ الدين. ومن ههنا4 اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مِثْلِ هَذَا عَلَى دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَقَاطِعٌ لِهَذِهِ الشَّوَاغِبِ. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَدِلَّةَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، أَوْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْقِيَاسِ حُجَّةً؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَسَاقِ5؛ لِأَنَّ أَدِلَّتَهَا مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر،   1 قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 193": "يشير إلى التواتر المعنوي، ومثله بالأخبار الواردة في سخاء حاتم؛ فإنها كثيرة، لكنها لم تتفق على سياق واحد، ومجموعها يفيد القطع بأنه كان سخيا، وكذلك الأخبار الواردة في شجاعة علي، واستيعاب ذلك متعسر؛ فرأيت أن أشير إلى شيء من ذلك ... "، ثم سرد بعضا منها. 2 أي: كان استدلالا ظنيا لتوقفه على المقدمات الظنية المشار إليها "د". 3 في "ط": "حَفَّت". 4 أي: فبدل أن يسردوا الأدلة الجزئية، فيؤخذ في مناقشة كل دليل يورد بالمناقشات المشار إليها؛ يعدلون عن هذا الطريق القابل للمشاغبة إلى طريق ذكر الإجماع القاطع للشغب، وما ذلك إلا لأن كل دليل على حدته ظني لا يفيد القطع "د". 5 وهو شبه التواتر المعنوي "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةُ الْمَسَاقِ1، لَا تَرْجِعُ إِلَى بَابٍ وَاحِدٍ؛ إِلَّا أَنَّهَا تَنْتَظِمُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَى النَّاظِرِ الْأَدِلَّةُ عَضَّدَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَصَارَتْ بِمَجْمُوعِهَا مُفِيدَةً لِلْقَطْعِ؛ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ2، وَهِيَ مَآخِذُ الْأُصُولِ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ رُبَّمَا3 تَرَكُوا ذِكْرَ هَذَا الْمَعْنَى وَالتَّنْبِيهَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ إِغْفَالُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ فَاسْتَشْكَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَاتِ عَلَى حِدَتِهَا4، وَبِالْأَحَادِيثِ عَلَى انْفِرَادِهَا؛ إِذْ لَمْ يَأْخُذْهَا مَأْخَذَ الِاجْتِمَاعِ5، فَكَّرَ عَلَيْهَا بِالِاعْتِرَاضِ نَصًّا نَصًّا، وَاسْتَضْعَفَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْمُرَادِ مِنْهَا الْقَطْعُ، وَهِيَ إِذَا أُخِذَتْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ6 غيرُ مُشْكِلَةٍ، وَلَوْ أُخِذَتْ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مَأْخَذَ هَذَا الْمُعْتَرِضِ؛ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا قَطْعٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَلْبَتَّةَ؛ إِلَّا أَنْ نُشْرِكَ الْعَقْلَ7، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ وَرَاءِ الشَّرْعِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الانتظام.   1 أي: كما أشرنا إليه؛ فلذا كان شبيها بالتواتر المعنوي وليس إياه "د". 2 فإنه بناها على هذه الطريقة بحالة اطردت له فيها "د". 3 إنما قال: ربما, ولم يقل: إنهم تركوه قطعا لأن الغزالي أشار إليه في دليل كون الإجماع حجة، كما تجيء الإشارة إليه, ولله در الغزالي؛ فإنه بإشارته لهذا في الإجماع جعل الشاطبي يستفيد منه كل هذه الفوائد الجليلة، ويتوسع فيه هذا التوسع، بل جعله خاصة كتابه؛ كما سيقول في آخره "د". 4 أي: كل آية على حدة بدون ضمها إلى سائر الآيات والأحاديث؛ حتى يصير النظر إليها نظرا إلى المجموع الذي يشبه التواتر "د". 5 في الأصل و"م": "الإجماع". 6 أي: سبيل الاجتماع الذي يصير كالإجماع من آحاد الأدلة على المعنى المطلوب "د". 7 أي: بالاستقراء والنظر إلى الأدلة منظومة في سلك واحد، ويحتمل أن يكون المعنى: إلا أن نحكم العقل في الأحكام الشرعية، ونقول: إنه يدركها بنفسه؛ فيحصل القطع بها من جهته وإن كان دليل السمع ظنيا، لكن العقل عندنا لا يدركها مباشرة، وإنما ينظر فيها من وراء الشرع؛ فتعين هذا الطريق الاستقرائي في إفادة السمعيات القطع "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فِي تَحْقِيقِ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ. فَقَدَ اتَّفَقَتِ1 الْأُمَّةُ -بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ- عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ -وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ, وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ- وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ, وَلَا شَهِدَ لَنَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَمْتَازُ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ، بَلْ عُلمت مُلَاءَمَتُهَا لِلشَّرِيعَةِ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّةٍ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَوِ اسْتَنَدَتْ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ عَادَةً تَعْيِينُهُ، وَأَنْ يَرْجِعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ2؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ ظَنِّيٌّ، وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فِي التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ خَبَرَ وَاحِدٍ دُونَ سَائِرِ الْأَخْبَارِ، كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ3 هُنَا لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ عَلَى فَرْضِ الِانْفِرَادِ، وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ، وَأَحْوَالِ دَلَالَاتِ الْمَنْقُولَاتِ، وَأَحْوَالِ النَّاظِرِينَ فِي قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِهِ، وَكَثْرَةِ الْبَحْثِ وَقِلَّتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَنَحْنُ إِذَا نَظَرْنَا4 فِي الصَّلَاةِ؛ فَجَاءَ فيها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] عَلَى وُجُوهٍ، وَجَاءَ مَدْحُ الْمُتَّصِفِينَ بِإِقَامَتِهَا، وَذَمُّ التَّارِكِينَ لَهَا، وَإِجْبَارُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى فِعْلِهَا وَإِقَامَتِهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَقِتَالُ مَنْ تَرَكَهَا أَوْ عَانَدَ فِي تَرْكِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى, وَكَذَلِكَ النَّفْسُ: نُهي عَنْ قَتْلِهَا، وجُعل قَتْلُهَا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ مُتَوَعَّدًا عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك   1 تمثيل بأهم مسألة أصولية لا يمكن إثباتها بدليل معين، وإنما ثبتت بشبه التواتر المعنوي بأدلة لم ترد على سياق واحد وفي باب واحد "د". 2 بعدها في "ط": "الأنظار والقرائح". 3 في الأصل: "يعتني". 4 مثالان آخران في أهم المسائل الشرعية من الفروع "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ مَقْرُونَةً بِالْإِيمَانِ، وَوَجَبَ سَدُّ رَمَقِ الْمُضْطَرِّ، وَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَالْمُوَاسَاةُ وَالْقِيَامُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ، وَأُقِيمَتِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ وَالْمُلُوكُ لِذَلِكَ، وَرُتِّبَتِ الْأَجْنَادُ لِقِتَالِ مَنْ رَامَ قَتْلَ النَّفْسِ، وَوَجَبَ عَلَى الْخَائِفِ مِنَ الْمَوْتِ سَدُّ رَمَقِهِ بِكُلِّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، إِلَى سَائِرِ مَا يَنْضَافُ لِهَذَا [الْمَعْنَى] 1، عَلِمْنَا يَقِينًا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمَ الْقَتْلِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَدِلَّةِ فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. وَبِهَذَا امْتَازَتِ الْأُصُولُ مِنَ الْفُرُوعِ؛ إِذْ كَانَتِ الْفُرُوعُ مُسْتَنِدَةً إِلَى آحَادِ الْأَدِلَّةِ وَإِلَى مَآخِذَ مُعَيَّنَةٍ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى الظَّنِّ، بِخِلَافِ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ بِإِطْلَاقٍ، لَا مِنْ آحَادِهَا عَلَى الْخُصُوصِ. فَصْلٌ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ نَصٌّ مُعَيَّنٌ، وَكَانَ مُلَائِمًا لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَمَأْخُوذًا مَعْنَاهُ مِنْ أَدِلَّتِهِ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ يُبنى2 عَلَيْهِ، ويُرجع إِلَيْهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَصْلُ قَدْ صَارَ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّتِهِ مَقْطُوعًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الْقَطْعِ بِالْحُكْمِ بِانْفِرَادِهَا دُونَ انْضِمَامِ غَيْرِهَا إِلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْمُتَعَذِّرِ3. وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا ضَرْبُ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ4 الَّذِي اعتمده مالك   1 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط. 2 في الأصل: "ينبني". 3 في "م": "كالمنعذر" بالنون، ومثل ما مضى عند الغزالي في "المنخول" "ص364". 4 أي: المصالح المرسلة، وهي التي لم يشهد لها أصل شرعي من نص أو إجماع، لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، وذلك كجمع المصحف وكتابته؛ فإنه لم يدل عليه نص من قِبَل الشارع، ولذا توقف فيه أبو بكر وعمر أولا، حتى تحققوا من أنه مصلحة في الدين تدخل تحت مقاصد الشرع في ذلك، ومثله ترتيب الدواوين وتدوين العلوم الشرعية وغيرها؛ ففي مثل تدوين النحو مثلا لم يشهد له دليل خاص، ولكنه شهد له أصل كلي قطعي يلائم مقاصد الشرع وتصرفاته، بحيث يؤخذ حكم هذا الفرع منه، وأنه مطلوب شرعا وإن كان محتاجا إلى وسائط لإدراجه فيه "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَالشَّافِعِيُّ1؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لِلْفَرْعِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ؛ فَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَصْلٌ كُلِّيٌّ، وَالْأَصْلُ الْكُلِّيُّ إِذَا كَانَ قَطْعِيًّا قَدْ يُسَاوِي الْأَصْلَ الْمُعَيَّنَ, وَقَدْ يَرْبُو2 عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْأَصْلِ الْمُعَيَّنِ وَضَعْفِهِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَرْجُوحًا3 فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ, حُكْمَ سَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعَيَّنَةِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ، يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَرْجِعُ4 إِلَى [تَقْدِيمِ] 5 الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ6، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ.   1 قال الأبياري في "شرح البرهان" في الاستدلال بالمصالح: "هو عين ما ذهب إليه مالك، وقد رام إمام الحرمين التفريق بين المذهبين، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا؛ فالمصلحة المرسلة يتمسك بها كثير من الأئمة؛ إلا أن الإمام مالكا عمل بها في بناء الأحكام أكثر من غيره". "خ". 2 في جميع الأصول: "بربي". 3 في "م" و"خ": "موجودا". 4 بناء على بعض تفاسير الاستحسان، وسيأتي غير ذلك له في الجزء الرابع، وأنه يقدم على الظاهر وعلى القياس؛ فمالك يستحسن تخصيصه بالمصلحة، وأبو حنيفة يستحسن تخصيصه بخبر الواحد؛ فلذا نسبه هنا لمالك "د". 5 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. 6 أي: الْأَخْذُ بِمَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ دَلِيلٍ كُلِّيٍّ، وذلك كبيع العرية بخرصها تمرا؛ فهو بيع رطب بيابس وفيه الغرر الممنوع بالدليل العام؛ إلا أنه أبيح رفعا لحرج المعرِي والمعرَى، ولو منع لأدى إلى منع العريّة رأسا وهو مفسدة، فلو اطرد الدليل العام فيه لأدى إلى هذه المفسدة؛ فيستثنى من العام، وسيأتي شرحه بإيضاح في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد من الجزء الرابع، ومنه الاطلاع على العورات في التداوي أبيح على خلاف الدليل العام لأن اتباع العام في هذا يوجب مفسدة وضررا لا يتفق مع مقاصد الشريعة في مثله؛ فالاستحسان ينظر إلى لوازم الأدلة ويراعي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فَإِنْ قِيلَ 1: الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَصْلِ الْأَعَمِّ عَلَى الْفَرْعِ الْأَخَصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَعَمَّ كُلِّيٌّ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ جُزْئِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَالْأَعَمُّ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْأَخَصِّ؛ فَالشَّرْعُ وَإِنِ اعْتُبِرَ كُلِّيَّ الْمَصْلَحَةِ، مِنْ أَيْنَ يُعلم اعْتِبَارُهُ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ الْكُلِّيَّ إِذَا انْتَظَمَ فِي الِاسْتِقْرَاءِ [يَكُونُ] 2 كُلِّيًّا جَارِيًا مَجْرَى الْعُمُومِ فِي الْأَفْرَادِ، [أَمَّا كَوْنُهُ كُلِّيًّا؛ فكما يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَجْرَى مَجْرَى الْعُمُومِ فِي الْأَفْرَادِ] 3؛ فَلِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ اقْتِضَاءِ وُقُوعِهِ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَمِنْ هُنَالِكَ اسْتُنْبِطَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتُنْبِطَ مِنْ أدلة الأمر والنهي والواقعين عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ؛ فَهُوَ كُلِّيٌّ فِي تَعَلُّقِهِ، فَيَكُونُ عَامًّا فِي الْأَمْرِ بِهِ وَالنَّهْيِ لِلْجَمِيعِ.   = مآلاتها إلى أقصاها، فلو أدت في بعض الجزئيات إلى عكس المصلحة التي قصدها الشارع؛ حجز الدليل العام عنها، واستثنيت وفاقا لمقاصد الشرع، وفي الشرع من هذا كثير جدا في أكثر أبوابه، وهو وإن لم ينص على أصل الاستحسان بأدلة معينة خاصة؛ إلا أنه يلائم تصرفاته ومأخوذ معناه من موارد الأدلة التفصيلية*؛ فيكون أصلا شرعيا وكليا يُبنى عليه استنباط الأحكام "د". وكتب "خ" هنا ما نصه: "لعل في العبارة حذفا، وأصلها: "يرجع إلى تقدم أصل الاستدلال المرسل على القياس"، قال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان، وحاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي". 1 هذا الاعتراض يتجه على كل من المصالح المرسلة والاستحسان؛ لأن كلا منهما استدلال بأصل كلي على فرع خاص، والفرق بينهما أن الثاني تخصيص لدليل بالمصلحة، والأول إنشاء دليل بالمصلحة على ما لم يرد فيه دليل خاص "د". 2 ساقط من الأصل، "وفي "ط": "انتظم الاستقراء جرى مجرى ... ". 3 سقط من الأصل.   * في المطبوع "التفصيلة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 لَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا اعْتِبَارُ كُلِّ مَصْلَحَةٍ مُوَافِقَةٍ لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالِفَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْمُوَافَقَةِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ مَصَالِحَ مِنْ حَيْثُ وَضَعَهَا الشَّارِعُ كَذَلِكَ, حَسْبَمَا هو مذكور فِي مَوْضِعِهِ1 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ [بِحَوْلِ اللَّهِ] 2. فَصْلٌ وَقَدْ أَدَّى عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا قَبْلَهُ إِلَى أَنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ3؛ إِذْ لَمْ يَجِدْ في آحاد الأدلة بانفرادها4 مَا يُفِيدُهُ الْقَطْعُ، فَأَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَّةِ5 وَمَنْ بَعْدَهُ، وَمَالَ أَيْضًا بِقَوْمٍ آخَرِينَ إِلَى تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْأَخْذِ بِأُمُورٍ عَادِيَّةٍ، أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ6، وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ أُخَرُ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ عَرَضَ فِيهَا [هَذَا الْإِشْكَالَ فَادَّعَى فِيهَا] 7 أَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ بِحَسَبِ هَذَا التَّرْتِيبِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ وَاضِحٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.   1 في المسألة الثامنة من كتاب المقاصد "د". 2 من "ط" فقط. 3 انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 267، 268، 270". 4 في "د": "بانفردها". 5 كذا في الأصول، ولعل صوابه: "الأئمة". 6 أي: إن عدم التفاتهم إلى التواتر المعنوي في حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة" الذي استدل به الغزالي على حجية الإجماع، ونظرهم في الأحاديث الواردة نظرا إفراديا لكل حديث منها جعلهم يتركون الاستدلال بها على حجية الإجماع ويجنحون؛ إما إلى الاستدلال عليه بأمور عادية كالقرائن المشاهدة أوالمنقولة التي تدل عادة على اعتباره، وإما إلى الاستدلال عليه بالإجماع على القطع بتخطئة المخالف له، مع ما فيه من شبه المصادرة "راجع ابن الحاجب"، وبهذا البيان يعلم أن قوله في الأخذ إن لم يكن محرفا عن "والأخذ" أو "إلى الأخذ"؛ فهو بمعناه "د". 7 ساقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المقدمة الرابعة : كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرْسُومَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا فُرُوعٌ فِقْهِيَّةٌ، أَوْ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، أَوْ لَا تَكُونُ عَوْنًا فِي ذَلِكَ1؛ فَوَضْعُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَارِيَةٌ. وَالَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَمْ يَخْتَصَّ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِقْهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لَهُ، وَمُحَقِّقًا لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ بِأَصْلٍ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ فَرْعٌ فِقْهِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْعُلُومِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ كَعِلْمِ النَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالِاشْتِقَاقِ, وَالتَّصْرِيفِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، وَالْعَدَدِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَالْحَدِيثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا تَحْقِيقُ الْفِقْهِ2، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ مَسَائِلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ [كُلُّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْفِقْهُ يُعد مِنْ أُصُولِهِ, وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يُضاف إِلَى الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِقْهٌ؛ فَلَيْسَ] 3 بِأَصْلٍ لَهُ.   1 أي: بطريق مباشر لا بالوسائط كما هو الحال في الاستعانة على الاستنباط بالعلوم الآتية؛ فهو يريد أن المقدمات التي ذكرها في كتابه فيها العون المباشر الذي يجعلها من الأصول، بخلاف المقدمات البعيدة مثل ما سيذكره من المباحث بعد "د". 2 تحقيقه غير استنباطه، ولهذا الغرض لم يقل: مسائله، بل: "من مسائله" "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط على ناسخ الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَدْخَلُوهَا فِيهَا؛ كَمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ1، وَمَسْأَلَةِ الْإِبَاحَةِ2 هَلْ هِيَ تَكْلِيفٌ أَمْ لَا، وَمَسْأَلَةِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ، وَمَسْأَلَةِ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ أَمْ لَا، وَمَسْأَلَةِ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي3 أَنْ يُعد4 مِنْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، ثُمَّ البحث فيه في علمه وَإِنِ انْبَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ؛ كَفُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّحْوِ، نَحْوَ مَعَانِي الْحُرُوفِ، وَتَقَاسِيمِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، وَالْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَعَلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَرَادِفِ، وَالْمُشْتَقِّ، وَشِبْهِ ذَلِكَ. غَيْرَ أَنَّهُ يُتَكَلَّمُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مسألة هي عريقة   1 أضف إليها مسألة الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجازا، ونحو ذلك "د". 2 تكلم على المباح في خمس مسائل تأتي قريبا؛ فعليك أن تنظر فيها بضابطه في هذه المقدمة لتعرف الفرق بين البحث في كون الإباحة تكليفا أو لا، وبين تلك المسائل؛ حتى عد هذا خارجا عن الأصول وعد مباحثه الخمسة من الأصول. "د". 3 ذكر فيما قبل الكاف نوعا من المسائل التي لا يصح إدخالها في أصول الفقه، وجعل ضابطه كل مسألة لا ينبني عليها فقه، ومثل له بكثير من مبادئ الأحكام وبعض المبادئ اللغوية؛ كمسألة ابتداء الوضع، وهذا نوع آخر وهو ما ينبني عليه فقه، ولكنه ليس من مسائل الأصول، بل من مباحث علم آخر، وقد استوفى البحث فيه في علمه الخاص به، وذلك كمبادئ النحو واللغة، وبهذا البيان تعلم أن قوله: "ثم البحث فيه في علمه" جملة اسمية معطوفة على صلة ما، ولعل أصل النسخة: "وتم* البحث ... إلخ" بجملة فعلية من التام؛ فحُرِّفت إلى ما ترى. وبعد؛ فالمعروف أن مباحث النحو واللغة ذكرت في الأصول لا على أنها من مسائله، بل من مقدماته التي يتوقف عليها توقفا قريبا، نعم، كان ينبغي ألا يتوسعوا في بحثها وتحريرها كأنها مسائل من هذا العلم؛ لأنها محققة في علم آخر، ولعل هذا هو مراد المؤلف "د". 4 في الأصل: "لا يعد"، و"لا" ساقطة من جميع النسخ المطبوعة ومن "ط" و"ماء".   * في الأصل المعتمد في التحقيق: "ثم" بمثلثة واضحة في أوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ [الْكَرِيمَ لَيْسَ فيه من طرائق كلام الْعَجَمِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ] 1 عَرَبِيٌّ، وَالسُّنَّةُ عَرَبِيَّةٌ, لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَعْجَمِيَّةٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ لَا يَشْتَمِلُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَرَبِيٌّ, بِحَيْثُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا التَّحْقِيقَ سُلِكَ بِهِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَسْلَكَ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَقْرِيرِ مَعَانِيهَا وَمَنَازِعِهَا فِي أنواع مخاطباتها خاصة؛ فإن كثير مِنَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ مَا يُعْطِيهِ الْعَقْلُ فِيهَا، لَا بِحَسَبِ مَا يُفهم مِنْ طَرِيقِ الْوَضْعِ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَخُرُوجٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبَيَّنَةٌ2 فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَصْلٌ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فِقْهٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهَا اخْتِلَافٌ3 فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ؛ فَوَضْعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَوْ إِبْطَالِهِ عَارِيَةٌ أَيْضًا، كَالْخِلَافِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْوَاجِبِ المخير4،   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، وسيأتي بسط من المصنف لهذه المسألة في "2/ 101 وما بعد". 2 في المسألة الأولى من النوع الثاني في "المقاصد" "د". 3 في "د" و"خ" و"ط": "خلاف". 4 فالجمهور قالوا: الواجب واحد مبهم يتحقق في الخارج في أحد هذه المعينات التي خير بينها. وقال المعتزلة: بل الواجب الجميع, قال الإمام في البرهان: "إنهم معترفون بأن من ترك الجميع لا يأثم إثم تارك واجبات، ومن فعل الجميع لا يثاب ثواب واجبات؛ فلا فائدة في هذا الخلاف عمليا، بل هو نظري صرف، لا يبنى عليه تفرقة في العمل؛ فلا يصح الاشتغال بأدلته في علم الأصول" "د". وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "ذهبت المعتزلة إلى أن الوجوب والتحريم يرجعان إلى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَالْمُحَرَّمِ الْمُخَيَّرِ1؛ فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مُوَافِقَةٌ لِلْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاعْتِقَادِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُحَرَّرٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وفي أصول الفقه له تقرير   = صفات الأعيان، ونفى الجمهور أن يكونا راجعين إلى ذات المحكوم أو إلى صفة ذاتية أو عرضية، ويقولون: إنما هما تعلق أمر الله أو نهيه بالمخاطبين, ومناط الوجوب عند المعتزلة في مثل خصال الكفارة الجميع على وجه البدل، ويرجع إلى القول بأن الواجب هو القدر المشترك المتحقق في الخصال الثلاث، ومذهب الأشاعرة والفقهاء أن مناط الوجوب واحد منها لا بعينه؛ فالواجب كل خصلة على تقدير أن لا تسبق بأخرى، وحاول بعض الأصوليين أن يجعل لهذا الخلاف أثرا في الفروع؛ فقال: إذا ترك من وجبت عليه الكفارة جميع الخصال وقلنا للإمام المطالبة بالكفارات؛ أجبر بمقتضى مذهب الجمهور على فعل واحدة منها بدون تعيين، أما على مذهب المعتزلة؛ فيصح جبره على واحد بعينه؛ لأن الواجب عندهم القدر المشترك وهو يتأدى بأي خصلة فعلت". وكتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "انظر هذا؛ فإن المسألة ذات أقوال أربعة: الأول لأهل السنة: إن الواجب واحد لا بعينه. والثاني للمعتزلة: إن الواجب هو الكل، ويسقط بواحد. والثالث لهم أيضا: إن الواجب معين عند الله تعالى، فإن فعل غيره؛ سقط. والرابع: وهو ما وقع التزاحم به بين أهل السنة والمعتزلة: إن الواجب هو ما يختاره المكلف. وبنوا على الأول: إنه إذا فعل الجميع أنه يثاب على أعلاها ثواب الواجب، وعلى العمل في ثواب المندوب من حيث إنها أحدها، وإذا ترك الجميع يعاقب على أدناها، وبنوا على الثاني أنه يُثاب ثواب من فعل واجبات، ويعاقب على تركها عقاب من ترك واجبات؛ فإن الخلاف جاوز الاعتقاد إلى غيره؛ تأمل". قلت: نقل إمام الحرمين في الهامش السابق عن المعتزلة يشوش على استدراك الناسخ على المصنف، فإن لم يصح عنهم النقل المذكور؛ فكلامه وجيه قوي؛ فتأمل. 1 قال الأولون: يجوز أن يُحرَّم واحد لا بعينه، ويكون معناه: أن عليه أن يترك أيها شاء، جمعا وبدلا؛ فلا يجمع بينها في الفعل، وقال المعتزلة: لا يجوز، بل المحرم الجميع، وترك واحد كاف في الامتثال، والأدلة من الطرفين والردود هي بعينها المذكورة في الواجب المخير، وإذن؛ فليس من فائدة عملية في هذا الخلاف أيضا، هذا ما يريده المؤلف، وهو واضح "د". وعلق "خ" في هذا الموطن بقوله: "جرى الخلاف في جوازه ووقوعه، والحق أنه لم يقع والمحرم في مسألة الأختين، إنما هو الجمع بينهما كما هو صريح قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أَيْضًا، وَهُوَ: هَلِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ أَوْ غَيْرُهُمَا راجعة إلى صفة الْأَعْيَانِ1، أَوْ إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ؟ وَكَمَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ2 عِنْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَضُوهَا مِمَّا لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ مَا يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَى الِاعْتِقَادِ [يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَأَيْضًا] 3 يَنْبَنِي عَلَيْهِ عِصْمَةُ الدَّمِ وَالْمَالِ، وَالْحُكْمُ بِالْعَدَالَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى ما دونه، وأشباه ذلك، وهو مِنْ عِلْمِ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا جَارٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ؛ فَلْيَكُنْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ما تقدم.   1 لعل صوابه الأفعال، وهي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين؛ فالمعتزلة القائلون بها يقولون: إن الأمر بواحد مُبهم غير مستقيم؛ لأنه مجهول، ويقبح العقل الأمر بالمجهول، والجمهور يقولون: إن الوجوب والتحريم بخطاب الشرع، ولا دخل للعقل فيه، ولا حسن ولا قُبح في الأفعال إلا بأمر الشارع ونهيه؛ فلا مانع من الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة كخصال الكفارة، على أن له جهة تعيين بأنه أحد الأشياء المعينة؛ فهذا وجه بناء مسألة المخير على قاعدة التحسين "د". قلت: وفي النسخ المطبوعة جميعها: "صفات الأعيان" وما أثبتناه من الأصل و"ط". 2 راجع الأسنوي؛ فقد ذكر له فوائد عملية كثيرة، من تنفيذ عتقه، وطلاقه ... في نحو عشرة فروع خلافية، نعم، إنه قيد كلامه بقوله: "عند الفخر الرازي"، والرازي يقول: "لا فائدة في التكليف إلا تضعيف العذاب عليهم في الآخرة"، وعليه؛ فليس له عنده فائدة عملية فقهية، لكن بعد ظهور هذه الفروع، واطلاع المؤلف عليها بدليل تقييده بكلام الرازي؛ كان ينبغي للمؤلف حذف مسألة تكليف الكفار من بحثه هذا "د" وقال "خ" هنا: "بنى بعض الفقهاء على هذا الخلاف فروعا؛ منها: غرم من أتلف لهم خمرا أو خنزيرا، وإباحة وطء الكتابية لزوجها المسلم القادم من السفر في نهار رمضان". قلت: وكذا تقديم الطعام والشراب لهم في نهار رمضان، وغيرها. 3 ساقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المقدمة الخامسة : كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ؛ فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَأَعْنِي بِالْعَمَلِ: عَمَلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَ الْجَوَارِحِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ1 شَرْعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّا رَأَيْنَا الشَّارِعَ يُعرض عَمَّا لَا يُفِيدُ عَمَلًا مُكَلَّفًا بِهِ2؛ فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] .   1 المباح ليس مطلوبا شرعا كما يأتي له في بحثه؛ فقاعدته هذه تقتضي أن البحث الذي ينبني عليه استنباط المباح ومعرفة أن العمل الفلاني مباح؛ لا يكون مستحسنا شرعا، وهو غير ظاهر؛ فتقييده بالحيثية فيه خفاء "د". 2 أليس هذا من باب النظر في مصنوعات الله المؤدي إلى قوة الإيمان وزيادة البصيرة بكمالات الخالق -جل شأنه- امتثالا للآيات الطالبة من المكلفين النظر في السموات والأرض وما فيها؟ ولذا قالوا: إن الجواب بالآية عن السؤال من الأسلوب الحكيم، أي: إنه أليق بحال هذا السائل لمعنى عرفه -صلى الله عليه وسلم- فيه، وعليه؛ فلو أجابه -صلى الله عليه وسلم- بما يطلب؛ لكان فيه فائدة عملية قلبية، إلا أنه رأى الأليق بحاله توجيه فكره إلى ثمرة من ثمرات طريقة سير الهلال، بدل بيان نفس الطريقة التي لا يفهمها هو، وقد يعسر فهمها على كثير من العرب، ومثله لا يناسب منصب النبوة؛ فالعدول لحال السائل وأمثاله كما هو اللائق بمنصب النبوة، وإن كان الجواب المطابق للسؤال قد يؤدي إلى فائدة عملية قلبية؛ فتأمل "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَمَلُ؛ إِعْرَاضًا عَمَّا قَصَدَهُ السَّائِلُ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْهِلَالِ: "لِمَ يَبْدُو فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ دَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ يَمْتَلِئُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى؟ "1. ثُمَّ قَالَ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [الْبَقَرَةِ: 189] ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّ الْآيَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فِي التَّمْثِيلِ إِتْيَانٌ لِلْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا2، وَالْبِرُّ إِنَّمَا هُوَ التَّقْوَى،   1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد". قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "1/ ق 6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "3/ 269" من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به. وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 490". وأخرج ابن جرير في "التفسير" "2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ"، عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. فيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف. وأخرج نحوه ابن جرير عن قتادة بسندٍ رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل. وانظر: "الفتح السماوي" "1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول" "ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي "1/ 118-119"، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب". 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ، 3/ 621/ رقم 1803، وكتاب التفسير، باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ، 8/ 183/ رقم 4512" عن البراء -رضي الله عنه- قال: "نزلت هذه الآية فينا, كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها؛ فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك؛ فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ". قال "خ": "ومتى ثبت سبب نزول الآية بسند صحيح؛ امتنع تأويلها على وجه التمثيل، وتعيَّن فهمُها على ما يطابق السبب حتما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لَا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُفِيدُ نَفْعًا فِي التَّكْلِيفِ، وَلَا تجرُّ إِلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ أيَّان مُرْساها: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] ؛ أَيْ: إِنَّ السُّؤَالَ عَنْ هَذَا سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي؛ إِذْ يَكْفِي مِنْ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ السَّاعَةِ؛ قَالَ لِلسَّائِلِ: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ " 1؛ إِعْرَاضًا عَنْ صَرِيحِ سُؤَالِهِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَلَمْ يُجبه عَمَّا سَأَلَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 101] . نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ سَأَلَ: مَنْ أَبِي؟ رُوي أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَامَ يَوْمًا يُعرف الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ؛ فَقَالَ: "لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ ". فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذافة ". فَنَزَلَتْ2. وَفِي الْبَابِ3 رِوَايَاتٌ أُخر. وَقَالَ ابنُ عبَّاس فِي سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ صِفَاتِ الْبَقَرَةِ: "لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا؛ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ"4، وهذا يبيِّن أن سؤالهم لم   1 أخرجه البخار في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله، 10/ 557/ رقم 6171"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، 4/ 2032-2033/ رقم 2639" من حديث أنس بن مالك, رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال من تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وسيذكره المصنف "ص257-258" بأطول من هذا. 3 في "د" والأصل: "البابين". 4 أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 215-216/ رقم 698"، وابن جرير في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجْرِي الْكَلَامُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا1 عِنْدَ مَنْ رَوَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ2 فِيمَنْ سَأَلَ3: أحجُّنا هَذَا لعامنا أم للأبد؟ فقال عليه السلام:   = "التفسير" "1/ 338" بإسناد ضعيف. وأخرجه ابن جرير في "التفسير" أيضا -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر" "2/ 168"- بإسناد صحيح عن ابن عباس بلفظ: "لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم". قال ابن كثير في "تفسيره" "1/ 114": "إسناده صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد"، وأورده في كتابه "تحفة الطالب" "رقم 234" بإسناد ابن أبي حاتم الضعيف، وسكت عليه، وقال ابن حجر عقبه: "هذا موقوف صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عفان بن مسلم عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، ورجاله كوفيون من رجال الصحيح". وورد مرفوعا ولكن من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن مردويه في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 111"، والبزار في "مسنده" "3/ 40/ رقم 2188- زوائده"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ 223/ رقم 727". وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 314"، وقال ابن كثير: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة"، وقال البزار: "لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 189" للفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 193- ط المحققة" عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ضعيف لإرساله. وانظر: "الدر المنثور" "1/ 190"، و"بحر العلوم" "1/ 384", و"تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 66". 1 آية: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ.. .} . 2 هذا البحث مستوفى في المسألة الثانية من أحكام السؤال والجواب في قسم الاجتهاد آخر الكتاب "د" قلت: انظره في "5/ 374-392". 3 سأل بعد نزول آية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} كما يأتي للمؤلف "2/ 257". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 "لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ؛ لَوَجَبَتْ" 1، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: "فَذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ" 2 الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُمْ هُنَا زِيَادَةٌ3 لَا فَائِدَةَ عَمَلٍ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ سَكَتُوا لَمْ يَقِفُوا عَنْ عَمَلٍ، فَصَارَ السُّؤَالُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَمِنْ هُنَا نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ" 4؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُفِيدُ، وقد سأله جبريل عن الساعة؛ فقال:   1 هذه الجملة ملفقة من حديثين في قصتين مختلفتين كما يُفهم من الأسلوب العربي، وكما يعلم من مراجعة "صحيح مسلم" في "باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي باب فرض الحج مرة"، والأصل أنه لما فُرض الحج؛ قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. ثم قال: "ذروني ما تركتكم، لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ... " إلخ، والسائل هنا هو الأقرع بن حابس، وهذه القصة هي المناسبة للمقام "د". قلت: وسيأتي تخريج ذلك "ص257". "أما الحديث الآخر؛ ففي صفة متعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج قال سُراقة بن مالك: أرأيت مُتعتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: "بل هي للأبد" "د". قلت: سيأتي تخريجه "ص275". 2 سيأتي عند المصنف "ص256" بلفظه، ولكن فيه "بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" مع تتمة له، وهو في "الصحيحين" وغيرهما. 3 فقد سأل بعدما أخذ من العلوم حاجته؛ لأن ظاهر الآية الإطلاق، وهو أن حجهم لا يجب إلا مرة في العمر، والآية تنزل على هذا الوجه، بمعنى أن الإجابة على الأسئلة الكثيرة مظنة الإساءة بزيادة تكليف لم يكن، أو بجواب يكرهه السائل، ولو في غير التكليف، وإن كان ليس في خصوص سببها هنا ما يكرهون؛ لأن الجواب بما فيه يُسْر، وهو أن الحج واجب مرة فقط "د". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292" أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية: "إنه -أي: النبي, صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ" 1؛ فَأَخْبَرَهُ أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْم، وَذَلِكَ يبيِّن أَنَّ السُّؤَالَ عَنْهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ2 تَكْلِيفٌ، وَلَمَّا كَانَ يَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ أَمَارَاتِهَا الحذرُ مِنْهَا وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي الْأَفْعَالِ3 الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَارَاتِهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ عِنْدَهَا؛ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِتَعْرِيفِهِ عُمر أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ دِينَهُمْ؛ فَصَحَّ إِذًا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ دِينِهِمْ فِي فَصْلِ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ "أَعْنِي: علْم زَمَانِ إِتْيَانِهَا"؛ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ وَفَائِدَةِ سُؤَالِهِ لَهُ عَنْهَا. وَقَالَ: "إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرما: مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحرم فحُرِّم مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ" 4، وَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُحرم؛ فَمَا فَائِدَةُ السؤال عنه   1 قطعة من حديث جبريل الطويل، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ... 1/ 39-40/ رقم 9" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه. 2 وإلا لعلمه -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان هو لا يعنيه علمها وهو المعني بالعلم والمعارف الربانية, فغيره أولى. "د". 3 كما ينبه عليه حديث الترمذي مجملا: "يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم ... " إلخ إلى أن قال: "يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا ". "د". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 264/ رقم 7289"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، 4/ 1831/ رقم 2358" من حديث سعد بن أبي وقاص, رضي الله عنه. قال "خ": "الحكمة من مثل هذا الإنذار تأكيد النهي عن إلقاء الأسئلة في وقت غير لائق من غير أن تدعو إليها حاجة، وتحريم الشيء عقوبة وتأديبا وقع في بعض الشرائع الماضية، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ، ولكن لم يقع في الشريعة الإسلامية بحال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ؟ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] ، وَقَالَ: "هَذِهِ الْفَاكِهَةُ؛ فَمَا الْأَبُّ؟ "1، ثُمَّ قَالَ: "نُهينا عَنِ التَّكَلُّفِ"2. وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية [الْإِسْرَاءِ: 85] . وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يُجابوا، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُحتاج إِلَيْهِ في   1 أي: إنه لفت نظرهم أولا إلى أن هنا شيئا مجهولا ليبني عليه هذه الفائدة العلمية. "د". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264-265" بسنده إلى أنس؛ قال: "كنا عند عمر؛ فقال: "نهينا عن التكلف"". وأخرج الإسماعيلي وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، وعبد بن حميد في "التفسير" -كما في "فتح الباري" "13/ 271"، وأورد ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372" إسناد عبد بن حميد- وعبد الرزاق في "التفسير" "2/ 348"، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 181/ رقم 43"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 327"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 825، 227- ط غاوجي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 512-513"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 514"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 229-230/ رقم 2084"، وابن جرير في "التفسير" "30/ 59"، والهروي في "ذم الكلام" "ص133" من طرق عن عمر بعضها صحيح نحو ما عند المصنف من ذكر الأب. وعزاه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 159" للثعلبي وابن مردويه والطبراني في "مسند الشاميين". وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372": "وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب، وإلا؛ فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل"، وقاله ابن كثير في "تفسيره" أيضا. قلت: ويستشكل هذا بما أخرجه الحاكم -مختصرا- في كتاب الصوم في "المستدرك" عن عمر بن الخطاب؛ أنه سأل ابن عباس عن الأب؛ فقال: هو نبت الأرض مما يأكله الدواب والأنعام، ولا يأكله الناس، وقال: "صحيح على شرط مسلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 التَّكْلِيفِ. وَرُوِيَ1 أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ملُّوا مَلَّة، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَدِّثْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الْآيَةَ] [الزُّمَرِ: 23] . وَهُوَ كَالنَّصِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا سَأَلُوا، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّؤَالُ إِلَّا فِيمَا يُفِيدُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، ثُمَّ ملُّوا ملَّة، فَقَالُوا: حدِّثنا حَدِيثًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ؛ فَنَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ2.   1 هو قطعة من الحديث الآتي. 2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص22/ رقم 13" -ثنا حجاج- وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح، كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به. وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بالكوفة قديم، قبل الاختلاط، بخلاف سماع حجاج بن محمد الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد؛ كما في "الكواكب النيرات" "ص288، 293". إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل؛ كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؛ فهو مرسل، بل معضل بلا شك، وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير سند. وقد أخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} . وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -وكما في "المطالب العالية" "3/ 343، ق 136/ ب-المسندة"- ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم 6209- الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183"، أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال: أنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا؟ فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ... } إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 1-3] ؛ فتلاها عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زمانا، فقالوا: يا رسول = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 انْظُرِ الْحَدِيثَ فِي "فَضَائِلِ الْقُرْآنِ" لِأَبِي عُبيد. وَتَأَمَّلْ خَبَرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ صَبِيغٍ فِي سُؤَالِهِ النَّاسَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكم تَكْلِيفِيٌّ، وَتَأْدِيبَ عُمَرَ [رضي الله عنه] له1.   = الله! لو حدثتنا؟ فأنزل الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الْآيَةَ [الزمر: 23] كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قال خلاد: وزاد فيه حين قالوا: يا رسول الله! ذكِّرنا. فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] . وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرا من طريق محمد بن سعيد العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86- مسند سعد، و3/ 352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به. وأخرجه ابن أبي عاصم في "المُذَكِّر والتذكير" "رقم 24" ثنا حسين بن الأسود به. قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا] بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا عن عمرو بن قيس إلا خلاد بن مسلم". قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير خلاد، وهو ثقة، وثقه ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: "لا بأس به", وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: "حديثه مقارب". وأعلَّه الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو، وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعّفه غيره، وبقية رجاله ثقات". والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق. وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث حسن". 1 أخرج ذلك ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 426"، والدارمي في "السنن" "1/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَقَدْ سَأَلَ ابنُ الكوَّاء عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ... } [الذَّارِيَاتِ: 1-2] إِلَخْ؛ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "وَيْلَكَ، سَل تَفَقُّهًا وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتًا". ثُمَّ أَجَابَهُ؛ فَقَالَ لَهُ ابنُ الكوَّاء: أَفَرَأَيْتَ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ: "أَعْمَى سَأَلَ عَنْ عَمْيَاءَ". ثُمَّ أَجَابَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ1، وَفِي الْحَدِيثِ طُول.   = 55-56"، والخلال -كما قال أبو يعلى في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" "ق 122-123"- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 329، 330، 332، 333، 789"، وابن عساكر في "تاريخه" "ترجمة صبيغ"، وهو صحيح. وأخرجها البزار في "البحر الزخار" "1/ 423-424/ رقم 299"، والدارقطني في "الأفراد" "ق 20/ ب-أطراف الغرائب" مرفوعا، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك. قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 606" بعد عزوه للبزار: "قلت: المستغرب من هذا السياق رفع هذا التفسير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا؛ فقصة صبيغ بن عسل التميمي مع عمر مشهورة وكأنه -والله أعلم- إنما ضربه لما ظهر له من حاله أن سؤاله سؤال استشكال، لا سؤال استرشاد واستدلال، كما قد يفعله كثير من المتفلسفة الجهال، والمبتدعة الضلال؛ فنسأل الله العافية في هذه الحياة الدنيا وفي المآل". وانظر: "مجمع الزوائد" "7/ 112-113"، و"تفسير ابن كثير "4/ 231-232" و"الاعتصام" "1/ 80، و2/ 53-54" للمصنف. 1 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 241"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 115-117"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 466-467"، والفريابي وسعيد بن منصور والحارث بن أبي أسامة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" -كما في "الدر المنثور" "6/ 111"- وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 464/ رقم 726-ط الجديدة"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 334"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص126-ط المغرب" من طرق عن علي -رضي الله عنه- وبعضها إسناده صحيح. وانظر: "مسند الشاشي" "2/ 96/ رقم 620"، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 65-66"؛ فقد أطال في ذكر الروايات التي فيها إنكار علي -رضي الله عنه- على هذا المبتدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَيَحْكِي كَرَاهِيَّتَهُ عمَّن تقدَّم1. وَبَيَانُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: - مِنْهَا: أَنَّهُ شُغْلٌ عَمَّا يَعْنِي مِنْ أَمْرِ التَّكْلِيفِ الَّذِي طُوِّقَه المكلَّف بِمَا لَا يَعْنِي، إِذْ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فَائِدَةٌ؛ لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهُ2 يُسأل عَمَّا أُمر بِهِ أَوْ نُهي عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُ فِي تَدْبِيرِ رِزْقِهِ وَلَا يَنْقُصُهُ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الحاصلة منه فِي الْحَالِ؛ فَلَا تَفِي مَشَقَّةَ اكْتِسَابِهَا وتعبُ طَلَبِهَا بِلَذَّةِ حُصُولِهَا، وَإِنْ فُرض أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً فِي الدُّنْيَا؛ فَمِنْ شَرْطِ كَوْنِهَا فَائِدَةً شَهَادَةُ الشَّرْعِ لَهَا بِذَلِكَ، وَكَمْ مِنْ لَذَّةٍ وَفَائِدَةٍ يَعُدُّهَا الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ وَلَيْسَتْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَّا عَلَى الضِّدِّ؛ كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفِسْقِ، وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ عَاجِلٌ، فَإِذًا قَطَعَ الزَّمَانَ فِيمَا لَا يَجْنِي ثَمَرَةً فِي الدَّارَيْنِ، مَعَ تَعْطِيلِ مَا يجني الثمرة من فعل ما لا يَنْبَغِي. - وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّرْعَ3 قَدْ جَاءَ بِبَيَانِ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ قَدْ يُظن أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِي التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ثَمَرَةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْفِتْنَةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيَثُورُ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ وَالنِّزَاعُ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ والتعصُّب، حَتَّى تَفَرَّقُوا شِيَعًا4، وَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَرَجُوا عَنِ السُّنَّةِ، ولم يكن أصل التفرق5 إلا بهذا   1 انظر: "2/ 142-143، 5/ 332". 2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "إنما". 3 في "ط": "الشارع". 4 وذلك كاختلافهم في نجاة أبويه -صلى الله عليه وسلم- فإنه طالما شقي به الناس فرقة وتدابرا. "د". قلت: وكذلك مسألة عصمة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزنا؛ هل هي قدرية أم شرعية؟ فإنها وقع بسببها خلاف وهجر بين بعض فضلاء علماء عصرنا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ العظيم 5 في "ط": "الفِرَق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 السَّبَبِ، حَيْثُ تَرَكُوا الِاقْتِصَارَ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَعْنِي، وَخَرَجُوا إِلَى مَا لَا يَعْنِي؛ فَذَلِكَ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَالْعَالِمِ، وَإِعْرَاضُ الشَّارِعِ -مَعَ حُصُولِ السُّؤَالِ- عَنِ الْجَوَابِ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مِثْلِهِ مِنَ الْعِلْمِ فِتْنَةٌ أَوْ تَعْطِيلٌ لِلزَّمَانِ فِي غَيْرِ تَحْصِيلٍ. - وَمِنْهَا: أَنَّ تَتَبُّعَ النَّظَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وتطلب عمله مِنْ شَأْنِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَتَبَرَّأُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ1، وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا بِتَعَلُّقِهِمْ بِمَا يُخالف السُّنَّةَ؛ فَاتِّبَاعُهُمْ فِي نِحْلَةٍ هَذَا شَأْنُهَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، وَانْحِرَافٌ عَنِ الجادَّة. وَوُجُوهُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ كَثِيرَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْعِلْمُ مَحْبُوبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمَطْلُوبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ جَاءَ الطَّلَبُ فِيهِ عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، فَتَنْتَظِمُ صِيَغه كُلَّ عِلْمٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ، وَمَا لَا يتعلَّق بِهِ عَمَلٌ؛ فَتَخْصِيصُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ2، وَأَيْضًا؛ فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ تَعَلُّمَ كُلِّ عِلْمٍ فَرْضُ كِفَايَةٍ، كَالسِّحْرِ وَالطَّلْسَمَاتِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ الْبَعِيدَةِ الْغَرَضِ عَنِ الْعَمَلِ3، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا قَرُبَ مِنْهُ؛ كَالْحِسَابِ، وَالْهَنْدَسَةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ؟ وَأَيْضًا؛   1 يتبرأ الإسلام من الفلسفة المتولدة من أوهام وظنون، لا يشهد لها حس أو تجربة صحيحة أو برهان، وأما ما يقوم منها على نظر صادق؛ فيأذن بتعلمه ولا سيما حيث يكون له مدخل في تنظيم شئون الحياة وترقية وسائل العمران. "خ". 2 قلت: أي: قول بالتشهي والهوى. 3 السحر والطلسمات من العلوم المحرمة، قال الذهبي في رسالته "مسائل في طلب العلم وأقسامه" "ص214-215- ضمن ست رسائل": "من العلوم المحرمة علم السحر والكيمياء والطيرة والسيمياء والشعبذة والتنجيم والرَّمل، وبعضها كفر صراح". وانظر, غير مأمور: كتابنا "كتب حذر العلماء منها" "المجموعة الأولى، 1/ 99"؛ فقد أتينا على نقل كثير من النقول على حرمة تعلم السحر والطلسمات، وذكرنا فيه أشهر كتبه الرائجة، ليحذر منها المتقي ربه -عز وجل- والله الهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فَعِلْمُ التَّفْسِيرِ مِنْ جُملة الْعُلُومِ الْمَطْلُوبَةِ، وَقَدْ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَتَأَمَّلْ حِكَايَةَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ1: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ مَرَّ بِيَهُودِيٍّ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُسْلِمٌ يَقْرَأُ عَلَيْهِ عِلْمَ هَيْئَةِ الْعَالَمِ، فَسَأَلَ الْيَهُودِيَّ عَمَّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهُ: أَنَا أُفَسِّرُ لَهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ مَا هِيَ؟ وَهُوَ مُتَعَجِّبٌ، فَقَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] . قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَأَنَا أُبيِّن لَهُ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا وَتَزْيِينِهَا. فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَالِمُ مِنْهُ. هَذَا مَعْنَى الْحِكَايَةِ لَا لَفْظُهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَعْرَافِ: 185] يَشْمَلُ كُلَّ عِلْمٍ ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ، مِنْ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ، مُكْتسب أَوْ مَوْهُوبٍ، وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَيَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَلْسَفَةِ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، مِنْ حَيْثُ تَدُلُّ عَلَى صَانِعِهَا، وَمَعْلُومٌ طَلَبُ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْمَخْلُوقَاتِ؛ فَهَذِهِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الِاسْتِحْسَانِ فِي كُلِّ عِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: إِنَّ عُمُومَ الطَّلَبِ مَخْصُوصٌ، وَإِطْلَاقَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَالَّذِي يوضحه أمران: أحدهما: بأن السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَمْ يَخُوضُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَ تَحْتَهَا عَمَلٌ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ، بَلْ قَدْ عَدَّ عُمَرُ ذَلِكَ فِي نَحْوِ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي نُهي   1 لم يذكرها في "تفسيره" عند الآية المذكورة "28/ 133". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عَنْهُ1، وَتَأْدِيبُهُ صَبِيغًا ظَاهِرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنكر عَلَيْهِ2، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَخُض فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لنُقل، لَكِنَّهُ لَمْ يُنقل؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِهِ. وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وَهَكَذَا" 3 إِلَى نَظَائِرِ ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ هُنَالِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَعَنِ الثَّانِي: إِنَّا لَا نُسلِّم ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا فَرْضُ الْكِفَايَةِ رَدُّ4 كُلِّ فَاسِدٍ وَإِبْطَالُهُ، عُلم ذَلِكَ الْفَاسِدُ أَوْ جُهل؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ أَنَّهُ فَاسِدٌ، والشرعُ مُتَكَفِّلٌ بِذَلِكَ. وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَعْلَمْ علم   1 مضى تخريجه "ص49". 2 مضى تخريجه "ص51-52". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب" "4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، 2/ 761/ رقم 1080 بعد 15"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصوم، باب الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه, 7/ 139-140" من حديث ابن عمر بلفظ: "إنا أمة أمية ... " وتقديم "نكتب" على "نحسب". وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 122" من حديثه بلفظ: "نحن أمة أميون ... ". وعلّق "خ" هنا: "وصف عليه -الصلاة والسلام- العرب بأنها أمة أمية لقلة العارفين منها بالكتابة، وإنما ذكر هذا الوصف ليكون كالعلة لتعليق حكم الصيام على رؤية الهلال دون الحساب، ولم يأت به في مساق الفخر حتى يفهم منه مدح الأمية والترغيب في البقاء عليها، بل القرآن وصفهم بالأميين ونبه على أن الرسول -عليه السلام- بعث فيهم ليخرجهم من طور الأمية ويرتقي بهم إلى صفوف الذين أوتوا العلم والحكمة؛ فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] ". 4 في "ط": "فيه رد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 السِّحْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ، مَعَ أَنَّهُ بَطَلَ عَلَى يَدَيْهِ بِأَمْرٍ هُوَ أَقْوَى مِنَ السِّحْرِ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ وَلِذَلِكَ لَمَّا سَحَرُوا أعْين النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ؛ خَافَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَخَفْ، كَمَا لَمْ يَخَفِ الْعَالِمُونَ بِهِ، وَهُمُ السحرة؛ فقال الله له: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] . ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] . وَهَذَا تَعْرِيفٌ1 بَعْدَ التَّنْكِيرِ, وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يُعرَّف بِهِ، وَالَّذِي كَانَ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِي دَعْوَاهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِبْطَالُ وَالرَّدُّ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ، وَلَوْ بِخَارِقَةٍ عَلَى يَدِ وَلِيٍّ لِلَّهِ، أَوْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ نَاشِئٍ عَنْ فُرْقَانِ التَّقْوَى؛ فَهُوَ الْمُرَادُ، فَلَمْ يتعيَّن إِذًا طلبُ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْعُلُومِ مِنَ الشَّرْعِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مطلوبٌ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنَ الْخِطَابِ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَعْلُومًا؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكَلُّفٌ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ عُمَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] ، تَوَقَّفَ فِي مَعْنَى الْأَبِّ2، وَهُوَ مَعْنًى إِفْرَادِيٌّ لَا يَقْدَحُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ فِي عِلْمِ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ فِي الْآيَةِ؛ إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ طَعَامِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ أَصْنَافًا كَثِيرَةً مِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسَانِ مُبَاشَرَةً؛ كَالْحَبِّ3، وَالْعِنَبِ، وَالزَّيْتُونِ، وَالنَّخْلِ، وَمِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِهِ بِوَاسِطَةٍ، مِمَّا هُوَ مَرْعًى لِلْأَنْعَامِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَبَقِيَ التَّفْصِيلُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تلك الأفراد فضلا؛   1 أي: قوله: "إنما صنعوا ... إلخ" تعريف لموسى بأن هذا سحر وصاحبه لا يفلح، بعد تنكير وعدم معرفة من موسى -عليه السلام- بذلك. "د". 2 مضى تخريجه "ص49". 3 في الأصل: "كالحب مباشرة والعنب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فَلَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْرِفَهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ عُدَّ الْبَحْثُ عَنْ مَعْنَى الْأَبِّ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَإِلَّا؛ فَلَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ مِنْ جِهَتِهِ لَمَا كَانَ مِنَ التَّكَلُّفِ، بَلْ مِنَ الْمَطْلُوبِ عِلْمُهُ لِقَوْلِهِ: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّاسُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النَّحْلِ: 47] ؛ فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ الهُذلي بِأَنَّ التخوُّف فِي لُغَتِهِمُ التَّنَقُّصُ، وَأَنْشَدَهُ شَاهِدًا عَلَيْهِ: تخوَّف الرَّحْل مِنْهَا تامِكا قَرِدا ... كَمَا تخوَّف عودُ النَّبْعَةِ السَّفَنُ فَقَالَ عُمَرُ: "يَا أَيُّهَا1 النَّاسُ! تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم"2.   1 في "م": "أيها". 2 قال المناوي في "الفتح السماوي" "2/ 755/ رقم 642": "لم أقف عليه", وقال ابن همات في كتابه "تحفة الراوي في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي" "ق 194/ ب": "قال السيوطي: لا يحضرني الآن تخريجه، لكن أخرج ابن جرير [في "التفسير" "14/ 113"] عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية .... " وذكر نحوه. قلت: إسناد ابن جرير ضعيف، فيه رجل لم يسم عن عمر، وفيه سفيان بن وكيع ضعيف، وذكره القرطبي في "التفسير" "10/ 110" عن سعيد بن المسيب نحوه. وقال ابن حجر في "الفتح" "8/ 386": "وروي بإسناد فيه مجهول عن عمر؛ أنه سأل عن ذلك, فلم يجب، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله. قال: فخرج فلقي أعرابيا؛ فقال: ما فعل فلان؟ قال: تخوفته -أي: تنقصته- فرجع؛ فأخبر عمر فأعجبه"، ثم قال: "وفي شعر أبي كبير الهذلي ما يشهد له". وورد نحوه عن ابن عباس فيما أخرجه الحاكم "2/ 499"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص345"، وابن الأنباري في "الوقف"؛ كما في "المزهر" "2/ 302"، وابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد؛ كما في "الدر" "6/ 254". قلت: ويشير ابن حجر في مقولته السابقة إلى البيت المذكور، وقد عزاه الجوهري في "الصحاح" "مادة: خوف، 4/ 1359" لذي الرمة، وفيه: "ظهر النبعة"، وعزاه ابن منظور في "لسان = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ فِي مَحَافِلِ النَّاسِ عَنْ مَعْنَى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [الْمُرْسَلَاتِ: 1] ، {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النَّازِعَاتِ: 3] مِمَّا يُشوش عَلَى الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ بِنَاءِ عَمَلٍ عَلَيْهِ، أدَّب عُمَرُ صَبِيغًا بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ1. فَإِذًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} الْآيَةَ [ق: 6] بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ؛ غَيْرُ سائغ؛ ولأن ذلك من قبيل ما لا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهَا وَعَلَى مَعْهُودِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ عِلْمٍ يُعزى إِلَى الشَّرِيعَةِ لَا يُؤَدِّي فَائِدَةَ عَمَلٍ، وَلَا هُوَ مِمَّا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ؛ فَقَدْ تَكَلَّفَ أَهْلُ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا الِاحْتِجَاجَ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ فِي عُلُومِهِمْ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا استدل   = العرب" "مادة خوف، 9/ 101" لابن مقبل، ونسبه الأصفهاني في "الأغاني" -كما قال الزبيدي في "تاج العروس"- لابن مزاحم الثمالي، ونسبه الآلوسي في "تفسيره" "14/ 152" والبيضاوي في "تفسيره" "357" وغيرهما لأبي كبير الهذلي، ووقع في بعض المصادر: "تخوف السير". ومعنى "تامكا" -بالمثناة الفوقية، اسم فاعل- من "تمك السنام يتمك تمكا"؛ أي: طال وارتفع، فهو تامك؛ أي: سنام مرتفع، وقوله "قردا" -بفتح القاف، وكسر الراء- أي: متراكما أو مرتفعا، و"النبعة" -بضم النون وفتحها-: واحد "النبع"، وهو شجر يتخذ منه القسي، و"السَّفَن" -بفتح السين والفاء-: ما ينحت به الشيء كالمبرد، وهو فاعل "تخوف"، ومفعوله "عود" أو "ظهر"، ومعنى البيت: إن رحل ناقته أثر في سنمهم المتراكم -أوالمرتفع- وتنقص كما ينقص المبرد عود النبعة، أفاده ابن همات. وقال "خ" في هذا الموطن: "اختلف علماء اللغة في قائل هذا البيت؛ فنسبوه إلى زهير وذي الرمة وابن مزاحم الثمالي وعبد الله بن عجلان النهدي؛ كما اختلفت الرواية في بعض ألفاظه؛ فروى لفظ "السير" بدل "الرحل"، و"ظهر" بدل "عود"، والبيت وارد في وصف ناقة أضناها السير، والتامك المرتفع والمراد به السنام، والقرد المتلبد بعضه على بعض، والسفن الحديدة التي تبرد بها القسي". 1 مضى تخريجه "ص51-52". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أَهْلُ الْعَدَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 113] . وَأَهْلُ [النِّسَبِ الْعَدَدِيَّةِ أَوِ الْهَنْدَسِيَّةِ] 1 بِقَوْلِهِ تَعَالَى: [ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ ..... مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَالِ: 65] إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ. وَأَهْلُ الْكِيمِيَاءِ بِقَوْلِهِ, عَزَّ وَجَلَّ] : {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية [العدد: 17] . وَأَهْلُ التَّعْدِيلِ النُّجُومِيِّ بِقَوْلِهِ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرَّحْمَنِ: 5] . وَأَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةِ جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ بِقَوْلِهِ: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الْآيَةَ] [الْأَنْعَامِ: 91] . وَعَلَى بَعْضِ الضُّرُوبِ الْحَمْلِيَّةِ وَالشُّرْطِيَّةِ بِأَشْيَاءَ أُخر. وَأَهْلُ خَطِّ الرَّمْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الْأَحْقَافِ: 4] ، وَقَوْلِهِ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: "كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ فِي الرَّمْلِ"2 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مسطور   1 المثبت من "ط" -وكذا ما بين المعقوفتين فيما سيأتي- فقط، وبدله في سائر النسخ: "الهندسة". 2 رواه عن معاوية بن الحكم السلمي اثنان، ضمن حديث طويل جليل في باب الصفات، في بعض طرقه ذكر بالسؤال "أين الله؟ " وإجابة الجارية "في السماء"، وفيه اللفظ المذكو عند المصنف، على النحو التالي: أولا: عطاء بن يسار، وعنه هلال بن أبي ميمونة، ورواه عنه ثلاثة: 1- يحيى بن أبي كثير. قال الذهبي في "العلو للعلي الغفار" "16": "رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية السلمى". قلت: وقفت على ثمانية منهم: الأول: حجاج الصَّوَّاف: كما عند ابن أبي شيبة في "الإيمان" مختصرا "رقم 84"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 1/ 381-382/ رقم 537 بعد 33، وكتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1749"، وأحمد في "المسند" "5/ 447، 448"، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ............................................................   = "تحفة الأشراف" "8/ 427"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 61"، وأبي داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 244/ رقم 930، وكتاب الأيمان والنذور، باب في الرقبة المؤمنة، 3/ 230/ رقم 3282، وكتاب الطب، باب في الخط وزجر الطير، 4/ 16/ رقم 3909"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 490"، والدارمي في "السنن" "1/ 354" -ولم يسق لفظه- وأبي عوانة في "المسند" "2/ 142-143"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ ورقم 859"، و"التوحيد" "ص122"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 383/ رقم 165- مختصرا، 6/ 124/ رقم 2248- الإحسان"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398-399، الأرقام: 938 و943 و947"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 212"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 237/ رقم 726"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 360 مختصرا"، ولفظه: ... ومنا رجال يخطون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه؛ فذاك". ورواه عن يحيى وفيه اللفظ المذكور جماعة، منهم: الثاني: الأوزاعي: كما عند مسلم في "الصحيح" "1/ 383" -ولم يسق لفظه- وأشار إليه في "4/ 1749"، وأبي عوانة في "المسند" "2/ 141"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الكلام في الصلاة، 3/ 14-18", وابن حبان في "الصحيح" "6/ 22/ رقم 2247- الإحسان"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 35-36/ رقم 859"، و"التوحيد" "ص121"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 398/ رقم 937 و941 و945"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249"، و"الأسماء والصفات" "421". وأخرجه من طريقه مختصرا البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 193"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والدارمي في "المسند" "1/ 353"، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" "84". الثالث والرابع: حرب بن شداد وأبان بن يزيد العطار: كما عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1105". ومن طريقه: البيهقي مختصرا في "السنن الكبرى" "2/ 250"، و"الأسماء والصفات" "422"، وابن قدامة مختصرا في "إثبات صفة العلو" "رقم 16". وأخرجه أبو عوانة في "المسند" "2/ 141-142" بسنده إلى أبان والأوزاعي، جميعا عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ............................................................   = يحيى به، وفيه اللفظ المذكور. وأخرجه مختصرا دونه عن أبان وحده به: أحمد في "المسند" "5/ 448"، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 60"، و"الرد على بشر المريسي" "ص95"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 489"، ومن طريقه الحافظ أبو العلاء ابن العطار في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" "رقم 20"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 939 و942 و946"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 652"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "ص63". الخامس: هشام الدستوائي: كما عند الحربي في "غريب الحديث" "2/ 720"؛ قال: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى "هو ابن سعيد القطان" عن هشام به مختصرا، وفيه اللفظ المذكور. السادس: حسين المعلم: كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 401/ رقم 944"، وفيه اللفظ المذكور. السابع: همام بن يحيى: كما عند أحمد في "المسند" "5/ 448"، وفيه اللفظ المذكور. ورواه عن يحيى، لكن بلفظ: " ... فمن وافق علْمَه علِم ". الثامن: معمر، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 403/ رقم 19501، وبإسناده إليه الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 399/ رقم 940"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 181/ رقم 3359". ورواه تاسع عن يحيى وهو من أقرانه، وهو: التاسع: أيوب السختياني: ولكن عن يحيى عن هلال عن معاوية به، ولم يذكر فيه عطاء بن يسار؛ كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 402-403/ رقم 948" مختصرا، وليس فيه اللفظ المذكور. وهذا حديث سمعه يحيى من هلال؛ إذ صرح بالتحديث عند أحمد وابن خزيمة؛ فانتفت شبهة تدليسه، كما صرح كل من هلال بن أبي ميمونة وعطاء بالتحديث عند ابن خزيمة. 2- فليح بن سليمان: رواه مختصرا ولم يرد فيه السؤال المذكور، ولا جواب الجارية، ولا اللفظ الذي أورده المصنف؛ كما عند البخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 530"، وأبي داود في "السنن" "كتاب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ..........................................................   = الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، 1/ 245/ رقم 931"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 446"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 249". 3- مالك بن أنس: وذكر فيه السؤال وجواب الجارية، ولم يذكر اللفظ الذي أورده المصنف أو نحوه؛ كما في "الموطأ" "2/ 776-777"، وعنه الشافعي في "الرسالة" فقرة "242"، و"الأم" "5/ 280"، والنسائي في "التفسير" "2/ 255-256/ رقم 485"، و"السنن الكبرى" في "السير" و"النعوت"؛ كما في "تحفة الأشراف" "رقم 11378"، وابن خزيمة في "التوحيد" "ص122"، والخطيب في "الموضح" "1/ 195"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 387". ولكن قال مالك في روايته في اسم الصحابي "عمر بن الحكم"؛ فتعقبه الشافعي؛ فقال في "الرسالة" "ص76": "وهو معاوية بن الحكم، وكذلك رواه غير مالك، وأظن مالكا لم يحفظ اسمه". قلت: رواه عن مالك على الصواب يحيى بن يحيى التميمي، وعنه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 62"، والبيهقي في "السنن الكبرى "7/ 387"، وقال: "ورواه يحيى بن يحيى عن مالك مجوّدا". وانظر غير مأمور: "الجوهر النقي"، وشروح "الموطأ"، و"تحفة الأشراف" "رقم 11348"، وترجمة "معاوية بن الحكم" من "تهذيب الكمال" ومختصراته؛ ففيها كلام تفصيلي بخصوص هذا الشأن. ثانيا: أبو سلمة بن عبد الرحمن: وعنه الزهري، وعنه جماعة؛ كما عند مسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم الكهانة، 4/ 1748-1749/ رقم 537 بعد 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "10/ 402/ رقم 19500"، وأحمد في "المسند" "3/ 443 و5/ 447-448، 449"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1104"، والطبراني في "المعجم الكبير" "19/ 396-397/ رقم 933-936". والحديث صحيح، وقد شكك بعضهم في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الجارية، وجوابها، وإقراره -صلى الله عليه وسلم- لها بقولهم تارة: إن الحديث مضطرب، وبقولهم أخرى: إنها زيدت فيما بعد في "صحيح مسلم"! = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ..........................................................   = ومن زعم الاختلاف في متنه؛ فلم يصب لأنه احتج لما ذهب إليه بروايات أحسن مراتبها الضعف على أنها عند التحقيق لا تُعدّ اختلافا، وإنما أراد بعض أهل البدع التعلق بهذا لإبطال دلالة هذا الحديث على اعتقاد أهل السنة من أن الله فوق خلقه، وكذلك تشكيك بعض أهل الزيغ في ثبوت هذا الحديث في "صحيح مسلم" هو أوهى من بيت العنكبوت، لمن علم وَفَهِمَ وأنصف، وشبهات أهل البدع لم تسلم منها آيات الكتاب؛ فكيف تسلم منها السنن؟! أما اللفظ الذي أورده المصنف آنفا في الخط؛ فهو صحيح عند مسلم وغيره، ورواته جميعا ثقات معروفون؛ فقول ابن رشد "ت520هـ" في رسالته "الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط" "ص42- بتحقيقي"، وكذا قول ابن العربي في "أحكام القرآن" "4/ 696" بأن جميع أحاديث الخط ضعيفة؛ ليس بجيد، ويعوزه التحقيق العلمي، والله تعالى أعلم، وكذا قال القرطبي المفسر في "الجامع لأحكام القرآن" "16/ 179" متعقبا ابن العربي: "هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي أخرجه مسلم". تنبيه: أورد الرافعي في "الشرح الكبير" هذا الحديث عن معاوية بن الحكم، وورد في أوله: "لما رجعت من الحبشة؛ صليت مع رسول الله, صلى الله عليه وسلم ... " وهو غلط محض لا وجه له، ولم يذكر أحد "معاوية بن الحكم" في مهاجرة الحبشة؛ لا من الثقات، ولا من الضعفاء، وكأنه انتقال ذهني من حديث متقدم لابن مسعود، يورده الفقهاء قبل هذا؛ فإن فيه "رجعت من الحبشة"، والله أعلم، أفاده ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 281". ومن الجدير بالذكر أن الذهبي عد هذا الحديث في "العلو للعلي الغفار" "16" من الأحاديث المتواترة الواردة في العلو، وذكر طرفا منه، وقال: "هذا حديث صحيح". وأخرجه ابن وهب في "جامعه" "1/ 113-114"؛ قال: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن أناسا قالوا لرسول الله, صلى الله عليه وسلم ... "وذكر نحوه". وهذا النبي هو إدريس -عليه السلام- كما قال أبو ذر ابن الشيخ الإمام سبط ابن العجمي في "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 258، 932- بتحقيقنا"، والأبي في "إكمال الإكمال" "2/ 239"، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" "1/ 912"، واقتصروا عليه، وذكره الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "9/ 118"، وشبير العثماني في "فتح الملهم شرح صحيح مسلم" "2/ 135"، وذكرا معه قولا آخر، وهو "دانيال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فِي الْكُتُبِ، وجميعُه1 يَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَبِهِ تَعْلَمُ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَعْرَافِ: 185] لَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ عُلُومُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ لِلْعَرَبِ بِهَا2، وَلَا يليق بالأميين الذين بُعث فيهم النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- بِمِلَّةٍ سَهْلَةٍ سَمْحَةٍ، وَالْفَلْسَفَةُ -عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا جَائِزَةُ الطَّلَبِ- صَعْبَةُ الْمَأْخَذِ، وَعِرَةُ الْمَسْلَكِ، بَعِيدَةُ الْمُلْتَمَسِ، لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِتَعَلُّمِهَا كَيْ تُتعرف آيَاتِ اللَّهِ وَدَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ3 لِلْعَرَبِ النَّاشِئِينَ فِي مَحْضِ الْأُمِّيَّةِ؛ فَكَيْفَ وَهِيَ مَذْمُومَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، مُنبَّه عَلَى ذَمِّهَا بِمَا تَقَدَّمَ   1 أي: وجميع المسطور في هذه الكتب يأتون فيه بما يدل على القطع بأن هذه الآيات مقصود منها ما استدلوا عليه، يعني: وإنما هي تكلفات لا تليق بلسان العرب ومعهودها. "د". قلت: وهنالك أمثلة من إسقاطات العقلانيين و"العلمانيين" يضحك منها العقلاء بله العلماء، والله الهادي. وفي "ط": "بأنه غير مقصود ما تقدم". 2 إذا نظرنا للحديث الصحيح: "بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع"، مع العلم بأن القرآن للناس كافة، وأنه ليس مخاطبا به خصوص طائفة العرب في العهد الأول لها، بل العرب كلهم في عهدهم الأول وغيره وغير العرب كذلك، إذا نظرنا بهذا النظر؛ لا يمكننا أن نقف بالقرآن وبعلومه وأسراره وإشاراته عند ما يريده المؤلف وكيف نوفق بين ما يدعو إليه من ذلك وبين ما ثبت من أنه لا ينضب معينه؟ والخير في الاعتدال؛ فكل ما لا تساعد عليه اللغة، ولا يدخل في مقاصد التشريع؛ يعامل المعاملة التي يريدها المؤلف، أما ما لا تنبو عنه اللغة، ويدخل في مقاصد الشريعة بوجه؛ فلا يوجد مانع من إضافته إلا الكتاب العزيز، ومنه ما يتعلق بالنظر في مصنوعات الله للتدبر والاعتبار وتقوية الإيمان وزيادة الفهم والبصيرة. "د". 3 من الآيات المبثوثة في السماء والأرض ما يكفي في إدراكه النظر الفطري، ومنها ما يُدرك بمزاولة قوانين علمية، ولا مانع من أن يبقى هذا القسم في الآيات المرغب في تدبرها؛ فإن النظر الذي يحث عليه مثل قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] لم يحد بنهاية أو ينص فيه على طريق معين. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ؛ غيرُ مَطْلُوبٍ فِي الشَّرْعِ. فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ؛ كَأَلْفَاظِ اللُّغَةِ، وَعِلْمِ النَّحْوِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ مَطْلُوبٌ، إِمَّا شَرْعًا، وَإِمَّا عَقْلًا، حَسْبَمَا تبيَّن فِي مَوْضِعِهِ، لَكِنْ هُنَا معنى آخر لا بد من الالتفات إليه، وهو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المقدمة السادسة : وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْمَطْلُوبِ قَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ تَقْرِيبِيٌّ يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، وَإِنْ فُرِضَ1 تَحْقِيقًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، المنبَّه عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا طُلب مَعْنَى المَلَك؛ فَقِيلَ: إِنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْق اللَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ، أَوْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ؛ فَقِيلَ: إِنَّهُ هَذَا الَّذِي أَنْتَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ؛ فَقِيلَ: هُوَ التَّنَقُّصُ، أَوْ مَعْنَى الْكَوْكَبِ؛ فَقِيلَ: هَذَا الَّذِي نُشَاهِدُهُ بِاللَّيْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَيَحْصُلُ فَهْمُ الْخِطَابِ مَعَ هَذَا الْفَهْمِ التَّقْرِيبِيِّ حَتَّى يُمْكِنَ الِامْتِثَالُ. وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي الشَّرِيعَةِ؛ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الكِبْرُ بَطر الْحَقِّ وغمطُ النَّاسِ" 2؛ ففسَّره بِلَازِمِهِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَمَا تُفسر أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِمُرَادِفَاتِهَا لُغَةً، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَظْهَرَ فِي الفهم منها، وقد بيَّن عليه   1 سينازع في كونه تحقيقا، وأنه يتعذر الوصول لحقائق الأشياء؛ فلذا قال: "وإن فرض" "د". قلت: وفي نسخة "م": "وإن قرض" بالقاف، وهو خطأ. 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 السَّلَامُ, الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَى مَا يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور، وهي عَادَةُ الْعَرَبِ، وَالشَّرِيعَةُ عَرَبِيَّةٌ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أُمِّيَّةٌ؛ فَلَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْبَيَانِ إِلَّا الْأُمِّيُّ، وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مَشْرُوحًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَإِذًا؛ التَّصَوُّرَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبَاتٌ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الْبَيَانَاتِ الْقَرِيبَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي -وَهُوَ مَا لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ- فَعَدَمُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْجُمْهُورِ أَخْرَجَهُ عَنِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَسَالِكَهُ صَعْبَةُ الْمَرَامِ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] ، كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ، فَأُحِيلَ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَغْمَضَ مِنْهُ، وَهُوَ: مَاهِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْمَادَّةِ أَصْلًا، أَوْ يُقَالُ: جوهرٌ بَسِيطٌ ذُو نِهَايَةٍ وَنُطْقٍ عَقْلِيٍّ، أَوْ طُلِبَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ؛ فَقِيلَ: هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ الْمَائِتُ1، أَوْ يُقَالُ: مَا الْكَوْكَبُ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ جِسْمٌ بَسِيطٌ، كُرِيٌّ، مَكَانُهُ الطَّبِيعِيُّ نَفْسُ الْفَلَكِ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنير، مُتَحَرِّكٌ عَلَى الْوَسَطِ، غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَيْهِ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ؛ فَيُقَالُ: هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنَ الْجِرْمِ الْحَاوِي، الْمُمَاسُّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ أَزْمِنَةٍ فِي طَلَبِ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى هَذَا وَلَا كَلَّفَ بِهِ2. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا تَسَوُّرٌ عَلَى طلب معرفة ماهيات الأشياء3، وقد اعترف   1 بمعنى الميت؛ أي: الذي مآله الموت. انظر "لسان العرب" "م وت". 2 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على فساد المنطق وعلم الكلام في المجلد التاسع من "مجموع الفتاوى"، وفي كتابه "الرد على المنطقيين"، وغير ذلك. 3 معرفة كنه الأشياء ينفع في علوم الطبيعة، والعلوم المعروفة اليوم كالطب والهندسة والفلك، أما في "الإلهيات"؛ فهو علم لا ينفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أَصْحَابُهُ بِصُعُوبَتِهِ، بَلْ قَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا أَنْ لَا يُعرف شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ إِذِ الْجَوَاهِرُ لَهَا فُصُولٌ مَجْهُولَةٌ, وَالْجَوَاهِرُ عُرِّفَتْ بِأُمُورٍ سَلْبِيَّةٍ؛ فَإِنَّ الذَّاتِيَّ الْخَاصَّ1 إِنْ عُلم فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَكَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِلْحِسِّ, فَهُوَ مَجْهُولٌ، فَإِنْ عُرِّف ذَلِكَ الْخَاصُّ بِغَيْرِ مَا يَخُصُّهُ؛ فَلَيْسَ بِتَعْرِيفٍ، وَالْخَاصُّ بِهِ كَالْخَاصِّ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ، أَوْ ظَاهِرَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى, وَذَلِكَ لَا يَفِي بِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ، هَذَا فِي الْجَوْهَرِ، وَأَمَّا الْعَرَضُ؛ فَإِنَّمَا يُعَرَّفُ بِاللَّوَازِمِ؛ إِذْ لَمْ يَقْدِرُ أَصْحَابُ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَاهِرِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الذَّاتِيَّاتِ لَا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنْ لَيْسَ ذَاتِيٌّ سِوَاهَا، وَلِلْمُنَازِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ, وَلَيْسَ لِلْحَادِّ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ وَصْفٌ آخَرُ لَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ؛ إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الصِّفَاتِ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَلَا يُقَالُ أَيْضًا: لَوْ كَانَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ آخَرُ مَا عُرفت الْمَاهِيَّةُ [دُونَهُ] 2؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا تُعرف الْحَقِيقَةُ إِذَا عُرف جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ؛ حَصَلَ الشَّكُّ فِي مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّةِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى مَا شَرَطَهُ أربابُ الْحُدُودِ يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجعل مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُستعان بِهَا فِيهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تَقَرَّرَ، وَهُوَ أَنَّ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ لَا يَعْرِفُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إلا باريها؛ فتسوُّر الإنسان على   1الذي يُراد جعله فصلا إن علم بوجوده في غير الماهية التي يُراد جعله فصلا لها؛ لم يكن خاصا، وإن لم يعلم في غيرها؛ كان مجهولا، فإن عرّفناه بشيء لا يخصه؛ فليس تعريفا له، وإن عرّفناه بشيء خاص به؛ انتقل الكلام إليه، كالخاص الذي هو موضوع الكلام، فيتسلسل؛ فلا بد من الرجوع في كون الفصل ذاتيا خاصا إلى أمور محسوسة ... إلخ، وذلك نادر الحصول؛ فلا يفي بما يُطلب من تعريف الماهيات الكثيرة "د". 2 ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 مَعْرِفَتِهَا رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، هَذَا كُلُّهُ فِي التَّصَوُّرِ. وَأَمَّا [فِي] 1 التَّصْدِيقِ؛ فَالَّذِي يَلِيقُ مِنْهُ بِالْجُمْهُورِ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ الدَّلِيلِ فِيهِ ضَرُورِيَّةً، أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الضَّرُورِيَّةِ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ طَلَبُهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نبَّه الْقُرْآنُ عَلَى أَمْثَالِهِ؛ كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] 2: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النَّحْلِ: 17] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إِلَى آخِرِهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ [مِنْ شَيْءٍ] 3} [الرُّومِ: 40] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 58-59] . وَهَذَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى الدَّلِيلِ فِي التَّصْدِيقِ، وَإِلَّا؛ فَتَقْرِيرُ الْحُكْمِ كافٍ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مَرَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ لِلْمُؤَالِفِ4 وَالْمُخَالِفِ، وَمَنْ نظر في استدلالالهم عَلَى إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ؛ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَيْسَرَ الطُّرُقِ وَأَقْرَبَهَا إِلَى عُقُولِ الطَّالِبِينَ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ متكلَّف، وَلَا نَظْمٍ مُؤَلَّفٍ5، بَلْ كَانُوا يَرْمُونَ بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَلَا يُبالون كيف وقع في   1 زيادة من الأصل. 2، 3 ساقطات من الأصل. 4 في "م": "للموافق". 5 كقياسات المنطق "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تَرْتِيبِهِ، إِذَا كَانَ قَرِيبَ الْمَأْخَذِ، سَهْلَ الْمُلْتَمَسِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا1 إِلَى نَظْمِ الْأَقْدَمِينَ فِي التَّحْصِيلِ؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ إِيصَالَ الْمَقْصُودِ، لَا مِنْ حَيْثُ احْتِذَاءُ مَنْ تقدَّمهم. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُرَتَّبًا عَلَى قِيَاسَاتٍ مُرَكَّبَةٍ أَوْ غَيْرِ مُرَكَّبَةٍ؛ إِلَّا أَنَّ فِي إِيصَالِهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْضَ التَّوَقُّفِ لِلْعَقْلِ؛ فَلَيْسَ هَذَا الطَّرِيقُ بِشَرْعِيٍّ، وَلَا تَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ2؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَتْلَفَةٌ لِلْعَقْلِ وَمَحَارَةٌ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ بِخِلَافِ وَضْعِ التَّعْلِيمِ، وَلِأَنَّ الْمَطَالِبَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ وَقْتِيَّةٌ3؛ فَاللَّائِقُ بِهَا مَا كَانَ فِي الْفَهْمِ وَقْتِيًّا، فَلَوْ وُضِعَ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ غَيْرَ وَقْتِيٍّ؛ لَكَانَ مُنَاقِضًا لِهَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَاتِ لَيْسَتْ عَلَى فن واحد، ولا هي جارية على   1 أي: قد يتفق أن يكون على نظم الأقيسة لا من حيث إنهم قصدوا الاقتداء بالفلاسفة في تركيب الأدلة، بل من جهة أنهم قصدوا الوصول إلى المقصود، فاتفق لهم المشاكلة في النظم كما سيأتي في حديث: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"؛ إلا أنه نادر، كما يأتي في آخر مسألة في الكتاب "د" قلت: انظر "5/ 418"، وسيأتي تخريج الحديث "4/ 360". 2 جرى السلف في البحث عن العقائد على طريقة الكتاب العزيز حتى رفع المعاندون من المتفلسفة والمبتدعة رءوسهم بإلقاء الشكوك والشبه على حقائق الدين؛ فلم يسع علماء الكلام إلا أن تصدوا لمكافحتهم بمثل السلاح الذي كانوا يهاجمونهم به، وأخذ البحث في العقائد هيئة غير هيئته الأولى، وإنما يكون هذا الصنيع بدعة مكروهة حيث يتحقق أنه رفع أو بدل حقيقة شرعية "خ". 3 أي: مطلوب تحصيلها في الوقت التالي للخطاب بها، بدون التراخي الذي يقتضيه السير في طريقة الاستدلال المنطقي، ونظام المناقضات والمعارضات والنقوض الإجمالية، التي قد تستغرق الأزمان الطويلة، ولا تستقر النفس فيها على ما ترتاح إليه، مع كثرة المطالب الشرعية اليومية وغيرها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 التَّسَاوِي فِي كُلِّ مَطْلَبٍ؛ إِلَّا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا قَارَبَهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَفَاوُتَ فِيهَا يُعتدُّ بِهِ، فَلَوْ وُضعت الْأَدِلَّةُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ1؛ لَتَعَذَّرَ هَذَا الْمَطْلَبُ، وَلَكَانَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا لَا عَامًّا، أَوْ أَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطاق2، أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ، وَكِلَاهُمَا مُنتفٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" تَقْرِيرُ هذا المعنى.   1 أي: غير ما كان من الضروريات وما قاربها. "د". 2 في "م": "يطلق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المقدمة السابعة : كُلُّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ فَطَلَبُ الشَّارِعِ لَهُ إِنَّمَا يَكُونُ [مِنْ] 1 حَيْثُ هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّعَبُّدِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى, فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ اعْتِبَارُ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَبِالتَّبَعِ وَالْقَصْدِ الثَّانِي، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا تقدَّم فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلُ أَنَّ كَلَّ عِلْمٍ لَا يُفيد عَمَلًا2؛ فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يدلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ؛ لَكَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرَعَا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرْعًا؛ لَبَحَثَ عنه الأولون3 من الصحابة والتابعين،   1 زيادة من الأصل و"م" و"خ". 2 كالفلسفة النظرية الصرفة، أما الفلسفة العملية؛ كالهندسة، والكيمياء، والطب، والكهرباء, وغيرها؛ فليست داخلة في كلامه، ولا يصح أن يقصدها؛ لأنها علوم يتوقف عليها حفظ مقاصد الشرع في الضروريات والحاجيات ... إلخ، والمصالح المرسلة تشملها، وهي وسيلة إلى التعبد أيضا؛ لأن التعبد هو تصرف العبد في شئون دنياه وأخراه بما يقيم مصالحهما، بحيث يجري في ذلك على مقتضى ما رَسم له مولاه، لا على مقتضى هواه؛ كما سيأتي للمؤلف. "د". 3 ممنوع؛ فكم من علم شرعي لم يبحث عنه الأولون لعدم الحاجة إليه عندهم؟ وأقربها إلينا علم الأصول، ولم يبدأ البحث في تأصيل مسائله في عهد الصحابة والتابعين. "د". وقال "خ": "من العلوم ما تقتضيه حال العصر؛ كعلم الكيمياء، والهندسة، ومباحث الحرارة والكهرباء، وقاعدة وزن الثقل، وما يشاكلها من العلوم التي لا يمكن الخلاص من الأعداء إلا بالقيام عليها، ولم يبحث عنها الأولون من الصحابة والتابعين؛ لأن الحاجة الداعية إلى تعلمها لم تظهر في ذلك العهد بمثل الوجه الذي ظهرت به اليوم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَمَا يَلْزَمُ عَنْهُ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ بالتعبُّد، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النِّسَاءِ: 1] . {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هُودِ: 1-2] . {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إِبْرَاهِيمِ: 1] . {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 2] . { [الْحَمْدُ لِلَّهِ] الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 1] ؛ أَيْ: يُسوون بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ؛ فَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [الْمَائِدَةِ: 92] . {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الْكَهْفِ: 2] . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 25] . {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 2-3] .   1 سقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحصى، كُلُّهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ التعبد لله، وإنما أُتوا بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ، سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [مُحَمَّدٍ: 19] . وَقَالَ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هُودٍ: 14] . وَقَالَ: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غَافِرٍ: 65] . وَمَثَلُهُ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، لَا بُدَّ أَنْ أُعقبت بِطَلَبِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، أَوْ جُعل مُقَدِّمَةً لَهَا، بَلْ أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ هَكَذَا جَرَى مَسَاقُ الْقُرْآنِ فِيهَا: أَلَّا تُذكر إِلَّا كَذَلِكَ1؛ وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ التَّعَبُّدَ لِلَّهِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تُحصى. وَالثَّالِثُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعِلْمِ هُوَ الْعَمَلُ، وَإِلَّا؛ فَالْعِلْمُ عَارِيَةٌ وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28] . وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يُوسُفَ: 68] . قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي لَذُو عَمَلٍ بما علَّمناه2.   1 المثبت من "ط" فقط، وفي سائر النسخ: "إلا تذكرة إلا كذا"، وهو خطأ. 2 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "13/ 15"، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "4/ 557". وقال "خ" معلقا عليه: "ولا وجه لهذا التأويل على ما يطابق وضعها المألوف قيما لا عوج فيه، وهو الثناء على يوسف -عليه السلام- بفضيلة العلم، وبيان أنه مفاض عليه بتعليم الله إياه على طريق الوحي، أو نصب الأدلة الكونية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ... } إِلَى أَنْ قَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 9] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [الْبَقَرَةِ: 44] . ورُوي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 94] ؛ قَالَ: قَوْمٌ وَصَفَوُا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَخَالَفُوهُ إِلَى غَيْرِهِ1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ أرْحاء تَدُورُ بعُلماء السُّوءِ، فيُشرف عَلَيْهِمْ بعض مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: مَا صيَّركم فِي هَذَا، وَإِنَّمَا كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ, وَنُخَالِفُكُمْ إِلَى غيره" 2.   1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1194". 2 أخرج نحو هذا الحديث عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، 6/ 331/ رقم 3267، وكتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، 13/ 48/ رقم 7098"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، 4/ 2290/ رقم 2989"، ولفظ البخاري: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاهُ؛ فيجتمع أهل النار عليه؛ فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ". وأخرجه من حديث أبي هريرة باللفظ المذكور عند المصنف الديلمي في "المسند" "رقم 845"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1177" بسند ضعيف جدا، ونحوه عن أنس عند ابن عدي وابن عساكر، وعن ابن عمر عند ابن عساكر بإسناد فيه متهم بالكذب؛ كما في "إتحاف السادة المتقين" "10/ 519"، ويغني عن هذه الأحاديث حديث أسامة السابق، وكان ينبغي للمصنف أن يقتصر عليه، ولكنه يتابع الغزالي -في بعض الأحايين- في نقل الأحاديث من "الإحياء"، وضعفها مشهور معلوم، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: "إِنَّمَا يُتعلَّم الْعِلْمُ ليُتَّقى بِهِ اللَّهُ، وَإِنَّمَا فُضِّل الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُتقى اللَّهُ بِهِ"1. وَعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسأل عَنْ خَمْسِ خِصال"، وَذَكَرَ فِيهَا: $"وَعَنْ عِلْمِهِ, مَاذَا عمل فيه؟ " 2.   1 انظر: "ص82". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب في القيامة، 4/ 612/ رقم 2416"، وأبو يعلى في "المسند" "9/ 178/ رقم 5271"، والطبراني في "الكبير" "10/ 8-9/ رقم 9772"، و"الصغير" "1/ 269"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 763-764"، والخطيب في "التاريخ" "12/ 440"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص96" من طريق حسين بن قيس الرحبي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن ابن مسعود مرفوعا به. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يُضعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه". قلت: إسناده ضعيف؛ إلا أن للحديث شواهد يصحح بها، منها: حديث أبي بَرْزة الأسلمي: أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2417" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والدارمي في "السنن" "1/ 135"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 428/ رقم 7434"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 1، ص16-17"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 30"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 494"، وأبو نعيم في الحلية "10/ 232"، وإسناده حسن. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" "رقم 2212" بإسناد واه عن أبي برزة، وفيه زيادة: "وعن حب أهل البيت"، وفيه معروف بن خرَّبوذ، ترجمه الذهبي في "الميزان" "1/ 443"، وقال: "أتى بخبر باطل ... " وذكره، إلا أنه جعله من مسند أبي ذر. قلت: وهو كذلك في "تاريخ ابن عساكر" "12/ ق 126"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "11/ 102/ رقم 11177" بهذه الزيادة بإسناد ضعيف جدا، فيه حسين بن الحسن الأشقر، كان يشتم السلف، كذا في "المجمع" "10/ 346". حديث معاذ بن جبل: أخرجه الطبراني في "الكبير" "20/ 60-61/ رقم 11"، والخطيب في "التاريخ" "11/ 441-442"، و"الاقتضاء" "رقم 2"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 493" بإسناد لا بأس به في الشواهد، وصححه المنذري في "الترغيب" "4/ 185". وقد اضطرب فيه ليث بن أبي سُليم؛ فكان يرفعه مرة، ويوقفه مرة عن معاذ؛ كما عند هناد في "الزهد" "رقم 724"، والدارمي في "السنن" "1/ 135"، والبزار في "المسند" "رقم 3437، 3438"، والخطيب في "الاقتضاء" "رقم 3"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1208". وانظر: "مجمع الزوائد" "10/ 346"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 946". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "إِنَّمَا أَخَافَ أَنْ يُقال لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ؟ فَأَقُولُ: عَلِمْتُ. فَلَا تَبْقَى آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آمِرَةٌ أَوْ زَاجِرَةٌ إِلَّا جَاءَتْنِي تَسْأَلُنِي فَرِيضَتَهَا، فَتَسْأَلُنِي الْآمِرَةُ: هَلِ ائْتَمَرْتَ؟ وَالزَّاجِرَةُ: هَلِ ازْدُجِرْتَ؟ فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، [وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ] 1، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسمع"2. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسعَّر بِهِمُ النار يوم   1 ساقطة من الأصل. 2 أخرجه أحمد في "الزهد" "2/ 58"، وابنه عبد الله في "زوائده" "2/ 65" -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 213-214"- وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 253" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 489"- وابن أبي شيبة في "المصنف" 13/ 311"، والدارمي في مقدمة "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 39" -ومن طريقة ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1201"- وأبو داود في "الزهد" "رقم 226، 254"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "5/ 17، 18/ تهذيب ابن بدران"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 51، 53، 54، 55"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 630"، والآجري في "أخلاق العلماء "ص97-ط المغرب" من طرق عن أبي الدرداء مطولا ومختصرا، والمطول الذي فيه: "فلا تبقى آية في كتاب الله ... "، أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1207"، وهو عند أبي داود وعبد الله بن أحمد، وإسناده لا بأس به. وأخرجه دونه أيضا البيهقي في "المدخل" "رقم 492" و"الشعب" "4/ 411", وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1204"، وهو صحيح مختصرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الْقِيَامَةِ، قَالَ فِيهِ: "وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وعلَّمه، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فأُتي بِهِ فعرَّفه نِعَمه فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تعلَّمت فِيكَ الْعِلْمَ وعلَّمته، وقرأتُ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَّبْتَ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمر بِهِ فسُحب عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقي فِي النَّارِ "1. وَقَالَ: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ" 2.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة/ رقم 2383"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال: فلان جريء، 6/ 23، 24". 2 أخرجه الطبراني في "الصغير" "1/ 305/ رقم 507- الروض الداني"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1807"، والبيهقي في "الشعب" "2/ 284-285/ رقم 1778"، والخطيب في "الكفاية" "6-7"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 162" من طريق عثمان البري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا. وإسناده ضعيف جدا، مداره على عثمان بن مقسم البري، قال الطبراني: "لم يروه عن المقبري إلا عثمان البري"، وهو ضعيف جدا، واتهمه ابن معين بالوضع، وألان الهيثمي في "المجمع" "1/ 185" فيه الكلام بقوله بعد عزو الحديث للطبراني في "الصغير": "وفيه عثمان البري، قال الفلاس: صدوق كثير الغلط، صاحب بدعة، ضعّفه أحمد والنسائي والدارقطني". وضعف الحديث العراقي في "تخريجه لأحاديث الإحياء" "1/ 3 و3/ 377"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 78"، وابن حجر كما قال المناوي في "فيض القدير" "1/ 518"؛ إلا أنه لم يرتض حكم هؤلاء الحفاظ، فاستدرك عليهم بقوله: "لكن للحديث أصل أصيل"، وعزا للحاكم حديث ابن عباس بلفظ: "أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا، أو قتله نبي، أو قتل أحد والديه, والمصوّرون، وعالم لم ينتفع بعلمه ". قلت: أخرجه أبو القاسم الهمذاني في "فوائده" "1/ 196/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1617"- من طريق عبد الرحيم أبي الهيثم عن الأعمش عن الشعبي عن ابن عباس مرفوعا. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَرُوِيَ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ1. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: "مَنْ حَجب الله عنه العلم؛ عذَّبه به عَلَى الْجَهْلِ، وَأَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْعَلَمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَمَنْ أَهْدَى اللَّهُ إِلَيْهِ عِلْمًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ"2. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: "اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا؛ فلن يأجُركم الله بعلمه حتى تعملوا"3.   = قال شيخنا الألباني: "وهذا إسناد واهٍ، آفته عبد الرحيم هذا، وهو ابن حماد الثقفي، قال العقيلي في "الضعفاء": "حدث عن الأعمش مناكير، وما لا أصل له من حديث الأعمش"، ثم ساق له أحاديث ونقلها الذهبي عنه، ثم قال: "ولا أصل لها من حديث الأعمش"، ثم قال: "عبد الرحيم هذا شيخ واه، لم أر لهم فيه كلاما، وهذا عجيب"". ثم بيَّن أن الحديث ليس في "المستدرك" وقال: "وقد ثبت الحديث من رواية ابن مسعود مرفوعا دون جملة الوالدين، وكذا جملة العالم ... وهو مخرج في "الصحيحة" "رقم 281"". قلت: فالحديث المذكور ضعيف جدا مرفوعا، ولكنه ثبت عن أبي الدرداء من قوله، أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 82"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 40"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 223"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 165" بإسناد رجاله ثقات. 1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل، 4/ 2088/ رقم 2722" مطولا من حديث زيد بن أرقم مرفوعا: "اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع ". وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب منه، 5/ 519/ رقم 4382"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع، 8/ 255"، وتصدير المصنف للحديث بصيغة التمريض "روي" ليس بجيد، والحديث صحيح ثابت، والله الموفق. 2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "1214". 3 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 62" -ومن طريقه أبو داود في "الزهد" "رقم 196"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 693/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِيهِ زِيَادَةٌ: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّعَايَةُ، وَإِنَّ السُّفَهَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّوَايَةُ" 1. وَرُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ2، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْم؛ قَالَ: حدَّثني عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- قَالُوا: كُنَّا نَتَدَارَسُ الْعِلْمَ فِي مَسْجِدِ قُباء؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "تعلَّموا مَا شِئْتُمْ أَنْ تعلَّموا؛ فلن يأجركم الله حتى تعملوا" 3.   = رقم 1227-ط الجديدة"- والدارمي في "السنن" "1/ 81"، وأحمد في "الزهد" "ص181" بإسناد رجاله ثقات إلى معاذ موقوفا، وفيه انقطاع، يزيد بن جابر لم يدرك معاذا. 1 أخرجه الخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 7، 8"، و"التاريخ" "10/ 94"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 458-459"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 236"، وابن الشجري في "أماليه" "1/ 62" عن معاذ مرفوعا، وله إسنادان، كل منهما ضعيف جدا، وفيه انقطاع في الأول بكر بن خنيس، وهو متروك، وحمزة النصيبي مثله, بل أشد؛ إذ هو متهم بالوضع، وفي الآخر عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عامة ما يرويه مناكير؛ كما قال ابن عدي. والزيادة التي في آخره: "إن العلماء همتهم الرعاية" إنما هي من قول الحسن؛ كما عند الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 39"، وأرسلها في رواية عند ابن عساكر "19/ 78/ 2"، وهي خطأ، ومدارها على أبي محمد الأطرابلسي، وهو مجهول. 2 أشار إليه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694-695"، وأفاد أنه جاء عن أنس مرفوعا وموقوفا، وأسند الموقوف، وفيه وفي المرفوع عباد بن عبد الصمد، قال ابن حبان: "واه، وله عن أنس نسخة أكثرها موضوعة". وقال ابن عبد البر إثر الموقوف: "وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا، وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به، بل هو ممن لا يشتغل بحديثه؛ لأنه متفق على تركه وتضعيفه". وأخرج الموقوف أبو الحسن بن الأخرم في "أماليه". 3 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 694/ رقم 1228" عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم مثله، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "6/ 289": "لم أجد له إسنادا". وانظر: "إتحاف السادة المتقين" "1/ 373". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَكَانَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَبَا الدَّرْدَاءِ؛ فَقَالَ لَهُ: كُلُّ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ تَعْمَلُ بِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا تَصْنَعُ بِازْدِيَادِ حُجَّة اللَّهِ عَلَيْكَ؟ 1. وَقَالَ الْحَسَنُ: "اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَدَعُوا أَقْوَالَهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَعْ قَوْلًا إِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلًا مِنْ عَمَلٍ يُصَدِّقُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلًا حَسَنًا؛ فَرويدا بِصَاحِبِهِ، فَإِنْ وَافَقَ قَوْلَهُ عَمَلُهُ؛ فنِعْم ونعمةَ عَين"2. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إِنَّ النَّاسَ أَحْسَنُوا الْقَوْلَ كُلَّهُمْ, فَمَنْ وَافَقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ؛ [فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ حَظَّهُ، وَمَنْ خَالَفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ] 3؛ فَإِنَّمَا يُوبِّخ نَفْسَهُ"4. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إِنَّمَا يُطْلَبُ الْحَدِيثُ ليُتَّقى بِهِ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَلِذَلِكَ فُضِّل عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ"5. وَذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ قَالَ: "أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَمَا   1 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1232". 2 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" "رقم 77"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1234"، وفيه يحيى بن المختار، قال عنه ابن حجر في "التقريب": "مستور". 3 ساقطة من الأصل، واستشكل الناسخ السياق؛ فكتب في الهامش: قوله: "يوبخ نفسه" كذا في النسخ!! وهو إما تحريف، أو مرتب على كلام نقص من هذه النسخ. 4 قلت: وفي "خ": "يربح نفسه"!! أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 75" -ومن طريقه الفسوي في "المعرفة والتاريخ"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 627"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1233"- ووكيع في "الزهد" "رقم 266" -ومن طريقه أحمد في "الزهد" "2/ 108"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 414-415"- من طريقين عن ابن مسعود، أحدهما حسن. وذكر ابن قتيبة في "عيون الأخبار" "4/ 179" عن زبيد اليامي؛ قال: "أسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة ... " وذكرها. 5 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1152، 1159"، وأبو نعيم "6/ 362، 366"، والبيهقي في "المدخل" "470"، وتمام في "الفوائد" "97- روض"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "298، 299" بإسناد حسن بألفاظ، مضى واحد منها في "ص77". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 يُعْجِبُهُمُ الْقَوْلُ، إِنَّمَا يُعْجِبُهُمُ الْعَمَلُ"1، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحصى، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحقق أَنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ مِنَ الْوَسَائِلِ، لَيْسَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِهِ2. فَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْعِلْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ فَضْلُهُ، وَإِنَّ مَنَازِلَ الْعُلَمَاءِ فَوْقَ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْعُلَمَاءِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى فَضْلِهِ مُطْلَقًا لَا مقيَّدا؛ فَكَيْفَ يُنكر أَنَّهُ فَضِيلَةٌ مَقْصُودَةٌ لَا وَسِيلَةٌ؟ هَذَا وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً مِنْ وَجْهٍ؛ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ أَيْضًا، كَالْإِيمَانِ3؛ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى قَبُولِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ يَثْبُتْ فَضْلُهُ مُطْلَقًا بَلْ مِنْ حَيْثُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، بِدَلِيلِ مَا تقدَّم ذِكْرُهُ آنِفًا، وَإِلَّا؛ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ، وَتَنَاقَضَتِ الْآيَاتُ والأخبار،   1 أخرج ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2062، 2063" عن ابن وهب؛ قال: "قال لي مالك: أدركت أهل هذه البلاد، وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم". قال ابن وهب: "يريد المسائل". قال: "وقال مالك: إنما كان الناس يفتون بما سمعوا وعلموا، ولم يكن هذا الكلام في الناس اليوم". 2 تكلَّم ابن القيم عن العلم والعمل في مواطن عديدة من كتبه؛ منها: "إعلام الموقعين" "1/ 165-169 و3/ 394 و2/ 158"، و"مفتاح دار السعادة" "52-196، 175، 183، 188، 189، 190، 304"، و"الداء والدواء" "3"، و"المدارج" "2/ 60، 293، 464-478 و3/ 260، 302، 325"، و"روضة الطالبين" "68، 156، 195، 305"، و"البدائع" "2/ 62"، و"الزاد" "1/ 152"، و"الصواعق" "1/ 93-96"، و"طريق الهجرتين" "618". 3 في الأصل: "المقصود لنفسه كالإيمان أيضا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَأَقْوَالُ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَمَا ذُكر آنِفًا شَارِحٌ لِمَا ذُكر فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ؛ فَإِنَّهُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْعِلْمِ، وَالْأَعْمَالُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا وَسِيلَةً إِلَى الْبَعْضِ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً فِي أَنْفُسِهَا، أَمَّا الْعِلْمُ؛ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ، وَأَعْلَى ذَلِكَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ، وَلَا تَصِحُّ بِهِ فَضِيلَةٌ لِصَاحِبِهِ حَتَّى يصدِّق بِمُقْتَضَاهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاللَّهِ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ. قِيلَ: بَلْ1 قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ مَعَ التَّكْذِيبِ2؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي قَوْمٍ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النَّمْلِ: 14] . وَقَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 146] . وَقَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الْأَنْعَامِ: 20] . فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعْرِفَةَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ بيَّن أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعِلْمِ؛ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مُغايرٌ لِلْكُفْرِ. نَعَمْ، قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ فَضِيلَةً، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَالْعِلْمِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَالْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ فِي التَّكْلِيفِ، إذا فُرض أنها لم تقع في   1 في "خ": "بلى". 2 يرى بعض أهل العلم أن المعتبر في الإيمان هو التصديق اللغوي، وهو بعينه التصديق المنطقي؛ كما قال السيد في حواشي شرح "التلخيص": إن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة، وذهب فريق إلى أن التصديق اللغوي -وهو الشرعي- أخص من التصديق المنطقي؛ إذ يزيد عليه بقيد الاختيار والتسليم، وهذا ما جرى عليه المصنف في هذه المقدمة. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الْخَارِجِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَا حَسَنٌ، وَصَاحِبُ الْعِلْمِ مُثابٌ عَلَيْهِ وَبَالِغٌ مُبَالِغَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مظنَّة الِانْتِفَاعِ عِنْدَ وُجُودِ مَحَلِّهِ، وَلَمْ يُخرجه ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ وَسِيلَةً، كَمَا أَنَّ فِي تَحْصِيلِ الطِّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَضِيلَةً وَإِنْ لَمْ يَأْتِ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَعْدُ، أَوْ جَاءَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أداؤُها لِعُذْرٍ، فَلَوْ فُرض أَنَّهُ تطهَّر عَلَى عَزِيمَةِ أَنْ لَا يُصلي؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ثَوَابُ الطَّهَارَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ؛ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ، وَقَدْ وَجَدْنَا وَسَمِعْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ اليهود والنصارى يَعْرِفُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَيَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِهِ وفروعه، ولم يكن ذلك نافعا لهم مع الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ1 بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ. فَصْلٌ وَلَا يُنكر فَضْلَ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا جَاهِلٌ، وَلَكِنْ لَهُ قَصْدٌ أَصْلِيٌّ وَقَصْدٌ تَابِعٌ. فَالْقَصْدُ الأصليُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا التَّابِعُ؛ فَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ صَاحِبِهِ شَرِيفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِهِ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الْجَاهِلَ دَنِيءٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ شَرِيفًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ نَافِذٌ فِي الْأَشْعَارِ وَالْأَبْشَارِ2 وَحُكْمُهُ مَاضٍ3 عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، إِذْ قَامَ لَهُمْ مَقَامَ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وأن   1 كالمستشرقين والمتخصصين من الكافرين في علوم الشريعة، وهو مشهور معلوم هذه الأيام. 2 أي: البشر. انظر: "لسان العرب" "ب ش ر". 3 في "ط": "قاض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الْعِلْمَ جَمَالٌ وَمَالٌ وَرُتْبَةٌ لَا تُوَازِيهَا رُتْبَةٌ، وَأَهْلُهُ أَحْيَاءٌ أَبَدَ الدَّهْرِ، ... إِلَى سَائِرِ مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَاقِبِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَآثِرِ الْحَسَنَةِ، وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ؛ فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِلْمِ شَرْعًا، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ1 يَنَالُهُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ لَذَّةً لَا تُوَازِيهَا لَذَّةٌ2؛ إِذْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَالْحَوْزِ لَهُ، وَمَحَبَّةُ الِاسْتِيلَاءِ قَدْ جُبلت عَلَيْهَا النُّفُوسُ ومُيلت3 إِلَيْهَا الْقُلُوبُ، وَهُوَ مطلبٌ خَاصٌّ، بُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ وَالِاسْتِقْرَاءُ الْعَامُّ؛ فَقَدْ يُطلب الْعِلْمُ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ، وَالتَّلَذُّذِ بِمُحَادَثَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْعُلُومُ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَجَالٌ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَطْرَافِهَا مُتسع، وَلِاسْتِنْبَاطِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ فِيهَا طَرِيقٌ مُتَّبَعٌ. وَلَكِنْ كُلُّ تَابِعٍ مِنْ هَذِهِ التَّوَابِعِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْقَصْدِ الْأَصْلِيِّ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ خَادِمًا لَهُ؛ فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً صَحِيحٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الْفُرْقَانِ: 74] . وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، وَقَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ حِينَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي هِيَ مثل المؤمن النخلة: "لأن   1 في "ط": "صاحبها". 2 ذهبت طائفة من الحكماء إلى أن اللذة الدنيوية محصورة في المعارف، وقالوا: ما يتوهم من لذة حسية كقضاء شهوتي البطن والفرج، أو خيالية كالازدهاء بالرئاسة والاستعلاء؛ فهو دفع ألم فقط؛ فالأولى دفع ألم الجوع والعطش ودغدغة المني لأوعيته، والثانية دفع ألم القهر والغلبة. "خ". 3 في "م": "مالت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا"1. وَفِي الْقُرْآنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 84] . فَكَذَلِكَ إِذَا طَلَبَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لَهُ؛ فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً غَيْرُ صَحِيحٍ، كَتَعَلُّمِهِ رِيَاءً، أَوْ ليُماري بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُباهي بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَ الْعِبَادِ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ دُنْيَاهُمْ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا لَاحَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا طَلَبَ زَهِدَ فِي التَّعَلُّمِ، وَرَغِبَ فِي التَّقَدُّمِ، وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِحْكَامُ مَا ابْتَدَأَ فِيهِ، وَأَنِفَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ؛ فَرَضِيَ بِحَاكِمِ عَقْلِهِ، وَقَاسَ بِجَهْلِهِ؛ فَصَارَ مِمَّنْ سُئل فَأَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فضَلَّ وأضلَّ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا تعلَّموا الْعِلْمَ لُتباهوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لتُماروا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا لِتَحْتَازُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذلك؛ فالنار النار" 2.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب الحياء في العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحى من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند" "2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر, رضي الله عنهما. قال "م": "كان ابن عمر حدثا؛ فاستحيا أن يذكر ما جال بخاطره". 2 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 93/ رقم 254"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 90- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 86"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص100"، والخطيب في "الجامع" "1/ 86-87"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 187" من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وصححه الحاكم والمنذري في "الترغيب والترهيب" "1/ 116"، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "1/ 111": "هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم"؛ فهو صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقال: "من تعلم علما ما يُبتغى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ غَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا؛ لَمْ يَجِدْ عَرف الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ؛ فَقَالَ: "هُوَ الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ يُرِيدُ أَنْ يُجلس إِلَيْهِ" 2 الْحَدِيثَ. وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [الْآيَةَ] [الْبَقَرَةِ: 174] . وَالْأَدِلَّةُ فِي المعنى كثيرة.   1 أخرجه أبوداود في "السنن" "كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله، 3/ 323/ رقم 3664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 92-93/ رقم 252"، وأحمد في "المسند" "2/ 338"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 85"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 89- موارد" والآجري في "أخلاق العلماء" "ص107"، والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" "رقم 102"، و"تاريخ بغداد" "5/ 347 و8/ 78"، و"الجامع" "1/ 84"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 190" بسند صحيح، وصححه الذهبي في "الكبائر" "ص120- بتحقيقي". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، سنده ثقات، رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وهو كما قالا. 2 أخرجه الديلمي في "الفردوس"، وقال ابن حجر: "وفيه إبراهيم بن محمد الأسلمي متروك"، قاله المناوي في "فيض القدير" "1/ 189". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 المقدمة الثامنة : الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا -أَعْنِي الذي مدح الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] أَهْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ- هُوَ الْعِلْمُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، الَّذِي لَا يُخلي صَاحِبَهُ جَارِيًا مَعَ هَوَاهُ كَيْفَمَا كَانَ، بَلْ هُوَ الْمُقَيِّدُ لِصَاحِبِهِ بِمُقْتَضَاهُ، الْحَامِلُ لَهُ عَلَى قَوَانِينِهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ1: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الطَّالِبُونَ لَهُ وَلَمَّا يَحْصُلُوا عَلَى كَمَالِهِ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي طَلَبِهِ فِي رُتْبَةِ التَّقْلِيدِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ بِهِ؛ فَبِمُقْتَضَى الحَمل التَّكْلِيفِيِّ، وَالْحَثِّ التَّرْغِيبِيِّ وَالتَّرْهِيبِيِّ، وَعَلَى مِقْدَارِ شِدَّةِ التَّصْدِيقِ يَخِفُّ ثِقَلُ التَّكْلِيفِ؛ فَلَا يكتفي العلم ههنا بِالْحَمْلِ دُونَ أَمْرٍ آخَرَ خَارِجَ مَقُولِهِ؛ مِنْ زَجْرٍ، أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ حَدٍّ، أَوْ تَعْزِيرٍ، أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى، وَلَا احْتِيَاجَ ههنا إِلَى إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَى ذَلِكَ؛ إِذِ التَّجْرِبَةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ قَدْ أَعْطَتْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُرْهَانًا لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلِّقُهُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاقِفُونَ مِنْهُ عَلَى بَرَاهِينِهِ، ارْتِفَاعًا عن حضيض التقليد   1 تكلم ابن تيمية نحو ما عند المصنف في مواطن من "مجموع الفتاوى"، منها: "5/ 270، 274، 3/ 30-34 و4/ 36-39". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الْمُجَرَّدِ، وَاسْتِبْصَارًا فِيهِ، حَسْبَمَا أَعْطَاهُ شَاهِدُ النَّقْلِ، الَّذِي يصدِّقه الْعَقْلُ تَصْدِيقًا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ بَعْدُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَقْلِ لَا إِلَى النَّفْسِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يصِر كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْأَشْيَاءِ الْمُكْتَسَبَةِ، والعلوم المحفوظة، التي يتحكم عليها العقل، و [عليه] 1 يُعْتَمَدُ فِي اسْتِجْلَابِهَا، حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جُمْلَةِ مُودَعَاتِهِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ؛ خَفَّ عَلَيْهِمْ خِفَّةً أُخْرَى زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا2؛ إِذْ هَؤُلَاءِ يَأْبَى لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُصَدَّقُ أَنْ يَكْذِبُوا، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّكْذِيبِ الْخَفِيِّ؛ الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَصِرْ لَهُمْ كَالْوَصْفِ، رُبَّمَا كَانَتْ أَوْصَافُهُمُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ الْبَاعِثَةِ الْغَالِبَةِ أَقْوَى الْبَاعِثِينَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ خَارِجٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي حَقِّهِمْ؛ فَلَا يُقتصر فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، بَلْ ثَم أُمُورٌ أُخر كَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَمُطَالَبَةِ الْمَرَاتِبِ الَّتِي بَلَغُوهَا بِمَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَيْضًا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَيْهَا مِنَ التَّجْرِبَةِ، إِلَّا أَنَّهَا أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ مَوْكُولٍ إِلَى ذَوِي النَّبَاهَةِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَخْذِ فِي الِاتِّصَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ صَارَ لَهُمُ الْعِلْمُ وَصْفًا مِنَ الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ، بِمَثَابَةِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْأُوَلِ، أَوْ تُقاربها، وَلَا يُنظر إلى طريق حصولها؛   1 ساقطة من الأصل. 2 لو عقدنا موازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة؛ لوجدنا الفرق بينهما من جهة الورع والقيام بفريضة الإرشاد واضحا جليا، ولم يكن هذا التفاضل فيما أحسب إلا لأن علماء السلف لا يقنعون بتصور الأحكام العملية حتى ينفذوا منها إلى معرفة أسرارها وأدلتها، وبعد أن كانت هذه الحجة تتدفق بسالكيها تتدفق السيل الجرار؛ ضرب التقليد الصلب أطنابه في النفوس، وأصبحت الرابطة بين العلم والعمل واهية. "خ". قلت: انظر تفصيل ذلك عند ابن رجب في "فضل علم السلف على الخلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحتاج إِلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُخليهم الْعِلْمُ وَأَهْوَاءَهُمْ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، بَلْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ رُجُوعَهُمْ إِلَى دَوَاعِيهِمُ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَوْصَافِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ1، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمُتَرْجَمُ لَهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ؛ كَقَوْلِهِ تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] . [ثُمَّ قَالَ] 2: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 9] . فَنَسَبَ هَذِهِ الْمَحَاسِنَ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ، لَا مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزُّمَرِ: 23] . وَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ، لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 83] . وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ قَدْ بَلَغُوا فِي عِلْمِ السِّحْرِ مَبْلَغَ الرُّسُوخِ فِيهِ، وَهُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ؛ بَادَرُوا إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِيمَانِ حِينَ عَرَفُوا مِنْ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَقٌّ، لَيْسَ بِالسِّحْرِ وَلَا الشَّعْوَذَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَلَا التعذيب الذي توعدهم به فرعون3.   1 في الأصل: "الخليقية". 2 ليست موجودة في الأصل. 3 مبادرة السحرة إلى الانقياد والإيمان تستند مباشرة إلى تحققهم في العلم بصدق موسى -عليه السلام- وصحة رسالته؛ فهي أثر من آثار هذا العلم المترتب على مشاهدة المعجزة وتمييزهم بينها وبين ما هو سحر، وهذا التمييز الذي أومض في قلوبهم بسرعة هو الناشئ عن رسوخهم في علم السحر. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 43] . فَحَصَرَ تَعَقُّلَهَا فِي الْعَالِمِينَ، وَهُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرَّعْدِ: 19] . ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [الرَّعْدِ: 20] . إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْعَامِلُونَ. وَقَالَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ, وَالْإِيمَانُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِلْمِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } إِلَى أَنْ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الْأَنْفَالِ: 2-4] . وَمِنْ هُنَا قَرَنَ الْعُلَمَاءَ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آلِ عِمْرَانَ: 18] . فَشَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَفْقَ عِلْمِهِ1 ظَاهِرَةُ التَّوَافُقِ؛ إِذِ التَّخَالُفُ مُحال، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمُوا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأُولُو الْعِلْمِ أَيْضًا كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ حُفظوا بِالْعِلْمِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَةٌ فِيهَا تخويف أحزنهم2 ذلك وأقلقهم، حتى يسألوا   1 أجرى الشهادة على ظاهرها، والمفسرون يقولون: إنها بمعنى إقامة الأدلة ونصب الدلائل في الكون على ذلك؛ فشهد بمعنى أقام ما يدل عليه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . "د" وفي "ط": "على وفق علمه". 2 في الأصل: "أحزنتهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَنُزُولِ1 آيَةِ الْبَقَرَةِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ ... } الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 284] . وَقَوْلِهِ2: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ... } الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 82] . وَإِنَّمَا الْقَلَقُ والخوف من آثار العلم بالمنزل3.   1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه -سبحانه وتعالى- لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 115-116/ رقم 125" -واللفظ له- وأحمد في "المسند" "2/ 412"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 143" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؛ قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ". قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى؛ فأنزل الله, عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . قال: "نعم ". {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} . قال: "نعم ". {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . قال: "نعم ". {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . قال: "نعم ". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، 8/ 294/ رقم 4629" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، قال أصحابه: وأيُّنا لم يظلم؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ". 3 لأنه لما كان علمهم علما ملجئا لهم إلى الجري على مقتضاه طوعا أو كرها، وعرفوا أنهم قد يحصل منهم ما ليس على مقتضاه؛ لأنه فوق الطاقة البشرية، فلا يكون لهم الأمن من غضب الله كما في الآية الثانية، ولا بد من حسابهم عليه كما في الآية الأولى؛ حصل لهم القلق إلى أن فهموا ما يزيله عنهم. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَالْأَدِلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ إِحْصَائِهَا هُنَا، وَجَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ المخالفة، أو لا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَقَدِ اسْتَوَى أَهْلُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَعَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا مُلجئ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ؛ لَزِمَ أَنْ لَا يَعْصِيَ الْعَالِمُ إِذَا كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِيهِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ تَقَعُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي، مَا عَدَا الْأَنْبِيَاءَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَيَشْهَدُ لِهَذَا فِي أَعْلَى الْأُمُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: 14] . وَقَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 146] . وَقَالَ: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [الْمَائِدَةِ: 43] . وَقَالَ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} . ثُمَّ قَالَ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 102] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَسَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ وَالْمُخَالَفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ صَادًّا عَنْ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقَعْ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ قَوْلُهُ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ"1. وَفِي الْقُرْآنِ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [الْبَقَرَةِ: 44] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 159] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 174] . وَحَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسعر بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ2، وَالْأَدِلَّةُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ غيرُ مَعْصُومِينَ بِعِلْمِهِمْ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَمْنَعُهُمْ عَنْ إِتْيَانِ الذُّنُوبِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْعَلَمَ مَانِعٌ مِنَ الْعِصْيَانِ؟! فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الرُّسُوخَ فِي العلم يأبى أَنْ يُخَالِفَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا صَارَ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لَا يَتَصَرَّفُ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ اعْتِيَادًا3، فَإِنْ تَخَلَّفَ؛ فعلى أحد ثلاثة   1 مضى تخريجه "ص79"، والصواب أنه من قول أبي الدرداء؛ كما بيناه هناك. 2 مضى تخريجه "ص78"، وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1905". 3 من طبيعة العالم الراسخ أن يتدفق غيرة على الحقائق والمصالح حتى يبلغ به التفاني في حب إقامتها أن يكافح الرئيس المستبد حيث حاول العبث بها، ولا يعبأ بما يسومه به من اضطهاد وأذى، ومما يصلح مثلا لهذا أن الملك إسماعيل صاحب دمشق خان السلطان نجم الدين الأيوبي واتفق مع الإفرنج على أن يسلم إليهم في مقابلة نجدتهم له صيداء وغيرها من الحصون؛ فقام في وجهه الإمام عز الدين بن عبد السلام بالإنكار البالغ، واحتمل في سبيل مصارعة الباطل الاعتقال وما كان يشهره عليه ذلك الملك من ضروب التهديد والإرهاب إلى أن تخلص إلى الديار المصرية "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أَوْجُهٍ1: الْأَوَّلُ: مُجَرَّدُ الْعِنَادِ، فَقَدْ يُخالف فِيهِ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْجِبِلِّي؛ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: [ {وَجَحَدُوا بِهَا} الْآيَةَ [النَّمْلِ: 14] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى] 2: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] } 3 [الْبَقَرَةِ: 109] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَالْغَالِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا لِغَلَبَةِ هَوًى، مِنْ حُبِّ دُنْيَا أَوْ جَاهٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَكُونُ وَصْفُ الْهَوَى قَدْ غَمَرَ الْقَلْبَ، حَتَّى لَا يَعْرِفَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرَ مُنْكَرًا. وَالثَّانِي: الْفَلَتَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْغَفَلَاتِ الَّتِي لَا يَنْجُو مِنْهَا الْبَشَرُ؛ فَقَدْ يَصِيرُ الْعَالِمُ بِدُخُولِ الْغَفْلَةِ غَيْرَ عَالِمٍ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ -عِنْدَ جَمَاعَةٍ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} 4 الآية [النساء: 17] .   1 علل شيخ الإسلام ابن تيمية مرد هذا الأمر إلى الإرادة الجازمة والعلم التام، وأنه كلما قل العلم التام، وضعفت الإرادة الجازمة؛ ضعف العمل، إذ هما المؤثر الفعال، وفصل ذلك بتفصيل حسن واف في كتابه "الحسنة والسيئة" وغيره. 2 ليست في الأصل. 3 زيادة من الأصل. 4 ذهب جماعة من المفسرين إلى تأويل آخر؛ فحملوا الجهالة في الآية على معنى السفه وارتكاب ما لا يطابق الحكمة، والأقرب في النظر إبقاؤها على حقيقتها، والمراد عدم العلم بكنه الخاتمة السيئة والعقوبة التي تلحق مرتكب المعصية؛ إذ لو تبصر الهاجم على خرق سياج العفة والعدالة بارتكاب المآثم، وتمثل أمام عينيه ما يحيط به من الخزي والشقاء؛ لملك داعية الهوى، وأحجم عن مواطن اللذائذ الفانية غير مأسوف عليها. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 102] . وَمِثْلُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ؛ كَمَا لَا يَعْتَرِضُ نَحْوُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْجِبِلِّيَّةِ؛ فَقَدْ لَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ، وَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ، لِغَلَبَةِ فِكْرٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَتَرْتَفِعُ فِي الْحَالِ مَنْفَعَةُ الْعَيْنِ وَالْأُذُنُ حَتَّى يُصاب1، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقال: إِنَّهُ غَيْرُ مَجْبُولٍ عَلَى السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ؛ فَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ؛ فَلَمْ يَصِرِ الْعِلْمُ لَهُ وَصْفًا، أَوْ كَالْوَصْفِ مَعَ عَدِّهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى غَلَطٍ فِي اعْتِقَادِ الْعَالِمِ فِي نَفْسِهِ، أَوِ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [الْقَصَصِ: 50] . وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ" , إِلَى أَنْ قَالَ: "اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهالا، [فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ] 2؛ فضلُّوا وأضلُّوا 3 ".   1 أي: فيصاب بسقطة في وهدة؛ لأنه لم يبصرها، أو تؤذيه دابة أو غيرها لم يسمع حركتها أو صوتها من بُعد فيتقيها، كل هذا من غفلة طرأت على غير مقتضى طبيعته؛ فكذلك فلتات العالم "د". 2 ليست في الأصل. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان" "4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص, رضي الله عنهما. وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على "الأوهام التي في مدخل أبي عبد الله الحاكم" "ص55-58"؛ فانظره هناك إن أردت الاستزادة، والله الهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَقَوْلُهُ: "سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ1 فِرْقَةً، أَشَدُّهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتَيِ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ2" الْحَدِيثَ، فَهَؤُلَاءِ وَقَعُوا فِي الْمُخَالَفَةِ بِسَبَبِ ظن   1 لا يقدح في هذا الحديث أن الفرق الأصلية لم يبلغ عددها هذا الحد، والفرق الفرعية تتجاوزه؛ إذ يكفي في صحته أن تبلغ الفرق الإسلامية هذا المقدار ولو في بعض الأزمنة، وقد بلغته بلا ريب، وساقها العلامة عضد الدين في خاتمة كتاب "المواقف" بتفصيل. "خ". قلت: أحصى هذه الفِرَق البغدادي في كتابه "الفرق" "ص25"، وخلط بين الفرق الخارجة عن الإسلام والداخلة فيه مع ابتداع، وذكر ما يزيد على ثمانين فرقة، وقال: "فهذه ثنتان وسبعون"، مع ملاحظة أن فرقا كثيرة نشأت بعد البغدادي لو عايشها لأدخلها في حسابه. 2 أخرجه الطبراني في "الكبير" "18/ 90"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 1072"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2483"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 430"، والبزّار في "المسند" "رقم 172- زوائده"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 307-308"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 179-180"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 207"، والهروي في "ذم الكلام" "ص83"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 813"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1673"، وابن حزم في "إبطال القياس" من طرق عن نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعا. والحديث ضعيف، وأشار إلى ذلك المصنف بقوله "5/ 147": "ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه". ثم قال: "وإن كان غيره قد هوّن الأمر فيه". قلت: الحديث ضعيف، آفته نعيم بن حماد، وقد تكلم الحفاظ فيه بسببه، قال ابن عدي: "وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد، رواه عن عيسى بن يونس، فتكلم الناس بجراه، ثم رواه رجل من أهل خراسان، يقال له: الحكم بن المبارك، يُكنَّى أبا صالح، يقال له: "الخواشتي"، ويقال: إنه لا بأس به، ثم سرقه قوم ضعفاء ممن يعرفون بسرقة الحديث؛ منهم: عبد الوهاب بن الضحاك، والنضير بن طاهر، وثالثهم سويد الأنباري"، وقال البيهقي عقبه: "تفرد به نعيم بن حماد، وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية، وبالله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الْجَهْلِ عِلْمًا؛ فَلَيْسُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَلَا مِمَّنْ صَارَ لَهُمْ كَالْوَصْفِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حِفْظَ1 لَهُمْ فِي الْعِلْمِ؛ فَلَا اعْتِرَاضَ بهم.   = التوفيق". وقال ابن عبد البر: "هذا عند أهل العلم بالحديث حديث غير صحيح، حملوا فيه على نعيم بن حماد، وقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: حديث عوف بن مالك هذا لا أصل له، وأما ما روي عن السلف في ذم القياس؛ فهو عندنا قياس على غير أصل أو قياس يرد به الأصل". قلت: مراد أحمد ويحيى هذا الحديث بلفظه المذكور، وفيه ذكر وذمٌّ للقياس، وإلا؛ فقد أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم 3992"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 63"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 149" بسند جيد من حديث عوف بن مالك مرفوعا: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وإحدى وسبعين في النار، والذي نفسي بيده؛ لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وثنتين وسبعين في النار ". قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: "هم الجماعة ". وأخرجه من حديثه أيضا الحاكم في "المستدرك" "1/ 128-129" من طريق أخرى، ولكن فيها كثير بن عبد الله المزني، لا تقوم به الحجة. ولحديث عوف باللفظ السابق -وليس بلفظ المصنف- شواهد عديدة من حديث أبي هريرة ومعاوية وأنس وعبد الله بن عمرو، وقد صححه جمع من الحفاظ؛ كما بيَّن ذلك بتطويل وتحقيق متين شيخنا الألباني -فسح الله مدته- في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204". وقد ضعّف حديث عوف -بلفظ المصنف- الزركشي فقال في "المعتبر" "ص227": "هذا حديث لا يصح، مداره على نُعيم بن حماد، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه" "13/ 311": بهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل الحديث، وكان يحيى بن معين لا ينسبه إلى الكذب، بل إلى الوهم، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: قلت ليحيى بن معين في حديث نعيم هذا وسألته عن صحته؛ فأنكره. قلت له: من أين يؤتى؟ قال: شبه له. وقال محمد بن علي بن حمزة المروزي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، قال: ليس له أصل. قلت: فنُعيم بن حماد؟ قال: نُعيم ثقة. قلت: كيف يحدّث ثقة بباطل؟ قال: شُبِّه له". 1 في "م": "حظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فَأَمَّا مَنْ خَلَا عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَهُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ حِفْظِ الْعِلْمِ، حَسْبَمَا نَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ؛ حَتَّى إِنَّ الْقَبِيلَةَ لَتَتَفَقَّهُ مِنْ عِنْدِ أَسْرِهَا" أَوْ قَالَ: آخِرِهَا، "حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ أَوِ الْفَاسِقَانِ؛ فَهُمَا مَقْمُوعان ذَلِيلَانِ، إِنْ تكلَّما أَوْ نَطَقَا؛ قُمعا وقُهرا واضطُهدا"1 الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ: "سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَكْثُرُ القُرَّاء، ويَقِلُّ الفُقهاء، ويُقبض الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ الهَرْج, إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي لَا يُجاوز تَرَاقِيهِمْ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يُجادل الْمُنَافِقُ المشرك بمثل ما يقول" 2.   1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 234/ رقم 7807"، والهروي في "ذم الكلام" "ص157"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1026، 1028"، وابن السني وأبو نعيم -كما في "كشف الخفاء" "2/ 192/ رقم 2070"- من طريق علي بن يزيد الألهاني عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا، وإسناده ضعيف؛ لضعف علي بن يزيد الألهاني. قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 262، 271": "رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه علي بن زيد، وهو متروك". 2 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ ق 187" -وكما في "مجمع البحرين" "رقم 273"- من طريق ابن لهيعة، والحاكم في "المستدرك" "4/ 457"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1043" من طريق عمرو بن الحارث، كلاهما عن دراج أبي السمح عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة مرفوعا. قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 187" بعد عزوه للطبراني في "الأوسط": "وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف". قلت: توبع، ودراج صدوق في غير روايته عن أبي الهيثم، وهذا منها؛ فالحديث إسناده حسن. وقال الهيثمي: "الحديث: في "الصحيح" بعضه". قلت: في "الصحيح": "قبض العلم، وكثرة الهرج، وقراءة القرآن من أناس لا يجاوز حناجرهم"، نسأل الله العافية والسلامة، ولو اقتصر المصنف على ما في "الصحيح"؛ لكان أحرى وأولى، والله الموفق، وما في "الصحيح" سيأتي "5/ 173". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَعَنْ عَلِيٍّ: "يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ! اعْمَلُوا بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَلِم ثُمَّ عَمِلَ، وَوَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتُهُمْ، وَيُخَالِفُ عِلْمَهُمْ عَمَلُهُمْ، يَقْعُدُونَ حِلَقًا يُباهي بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أعمالُهم تِلْكَ إِلَى اللَّهِ, عَزَّ وَجَلَّ"1. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعاة، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْعَوي وَلَا يَروي، وَقَدْ يَرْوِي وَلَا يَرْعَوي"2. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا، وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا"3. وَعَنِ الْحَسَنِ: "الْعَالِمُ الَّذِي وَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ، وَمَنْ خَالَفَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ؛ فَذَلِكَ رَاوِيَةُ حَدِيثٍ، سَمِعَ شيئا فقاله"4.   1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 106"، والخطيب في "الجامع" "رقم 31"، وفي "الاقتضاء" "رقم 9" عن يحيى بن جعدة عن علي به، وفيه ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف، ويحيى بن جعدة غير معروف بالرواية عن علي -رضي الله عنه- فالإسناد ضعيف. 2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1238". 3 أخرجه من طرق عن أبي الدرداء الدارمي في "السنن" "1/ 88"، والخطيب في "الاقتضاء" "16، 17"، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1239" بإسناد رجاله ثقات. 4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1241". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "الْعُلَمَاءُ إِذَا عَلِمُوا عَمِلُوا، فَإِذَا عَمِلُوا شُغلوا، فَإِذَا شُغلوا فُقدوا، فَإِذَا فُقدوا طُلبوا، فَإِذَا طُلبوا هَربوا"1. وَعَنِ الْحَسَنِ؛ قَالَ: "الَّذِي يَفُوقُ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ جَدِيرٌ أَنْ يَفُوقَهُمْ فِي الْعَمَلِ"2. وَعَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91] ؛ قَالَ: "عُلِّمتم فَعَلِمتم وَلَمْ تَعْمَلُوا؛ فَوَاللَّهِ مَا ذَلِكُمْ بِعِلْمٍ"3. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "الْعِلْمُ يَهتف بِالْعَمَلِ، فإن أجابه؛ وإلا ارتحل"4. وهذا تفسير كَوْنِ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يُلجئ إِلَى الْعَمَلِ. وَقَالَ الشَّعبيُّ: "كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ"5، وَمِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ6. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الحديث، إنما العلم خشية   1 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1249". 2 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1270". 3 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1273". 4 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1274"، وأسند نحوه عن علي -رضي الله عنه- وابن المنكدر الخطيب في "الاقتضاء" "رقم 40، 41". 5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1284". 6 أخرجه عن وكيع, ابن عساكر في "جزء حفظ القرآن" "11"، وأخرجه الخطيب في "الجامع" "الأرقام 1787، 1788، 1789"، و"الاقتضاء" "رقم 149"، والبيهقي في "الشعب" "رقم 1659، 1741"، مرة بذكر العمل، ومرة بذكر الصوم -عن شيخ لوكيع به- وأخرجه وكيع في "الزهد" "رقم 539" عن شيخ لهم؛ قال: "كنا نستعين على طلب الحديث بالصوم"، وجاء مصرحا في بعض الروايات بأنه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمَّع. وانظر: كلام محقق "الزهد" الشيخ عبد الرحمن الفريوائي حفظه الله ورعاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 اللَّهِ"1. وَالْآثَارُ فِي هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٌ. وَبِمَا ذُكر يتبيَّن الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ؛ فَلَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةٌ -وَالْفِقْهُ فِيمَا رَوَوْا أمرٌ آخَرُ- أَوْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ هَوًى غَطَّى عَلَى الْقُلُوبِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. عَلَى أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ؛ يجرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ ويُلجئ إِلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ: "كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا؛ فجرَّنا إِلَى الْآخِرَةِ"2. وَعَنْ مَعْمَر؛ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ يُقَالُ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يُصيِّره إِلَى اللَّهِ"3. وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ: "طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَلَيْسَ لَنَا فِيهِ نية، ثم جاءت   1 أخرجه أحمد في "الزهد" "185"، وأبو داود في "الزهد" "رقم 182"، والطبراني في "الكبير" "9/ 105/ رقم 8534"، وابن بطة في "إبطال الحيل" "ص21"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 131"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 486"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1400، 1401"، بإسناد كلهم ثقات؛ إلا أن عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود، كما قال أئمة هذا الفن، وبالانقطاع أعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 235"؛ فإسناده ضعيف بسببه. وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" "1/ 416". 2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1375" بسند فيه عبد الله بن غالب مستور، والربيع بن صبيح صدوق، سيئ الحفظ؛ كما في ترجمتيهما في "التقريب". 3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 256"، ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "519"، والخطيب في "الجامع" "774، 775"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1376، 1377، 1378، 1379" بإسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 النِّيَّةُ بَعْدُ"1. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ؛ قَالَ: "كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا؛ فجرَّنا إِلَى الْآخِرَةِ"2، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي كَلَامٍ آخَرَ: "كنتُ أغبطُ الرَّجُلَ يُجتمع حَوْلَهُ، وَيُكْتَبُ عَنْهُ، فَلَمَّا ابْتُلِيتُ بِهِ؛ وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهُ كَفَافًا، لَا عَلَيَّ وَلَا لِي"3. وَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ؛ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً يَقُولُ: "طَلَبْنَا هَذَا الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ فَأَعْقَبَنَا اللَّهُ مَا تَرَوْنَ"4. وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَقَدْ طَلَبَ أَقْوَامٌ الْعِلْمَ مَا أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ فَمَا زَالَ بِهِمْ حَتَّى أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ"5؛ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ. فَصْلٌ: وَيَتَصَدَّى النَّظَرُ هُنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، وَمَا هِيَ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَارِ أَنَّهَا أمرٌ بَاطِنٌ، وَهُوَ الَّذِي عُبَّر عَنْهُ بِالْخَشْيَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ، وَعَنْهُ عَبَّرَ فِي الْحَدِيثِ فِي أَوَّلُ مَا يُرفع مِنَ الْعِلْمِ الْخُشُوعُ6، وَقَالَ مالك: "ليس العلم بكثرة   1 أخرجه الخطيب في "الجامع" "رقم 773"، والبيهقي في "المدخل" "521"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1380"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 61" بإسناد صحيح. 2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1381". 3 أخرج نحوه عن الثوري بإسناد حسن ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 982". 4 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "38"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1382". 5 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1383". 6 أخرجه النسائي في "الكبرى" "كتاب العلم"؛ كما في "تحفة الأشراف" "8/ 211"، وأحمد في "المسند" "6/ 26-27"، والطبراني في "الكبير" "18/ رقم 75"، و"الأوائل" "رقم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّهُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ"1، وَقَالَ أَيْضًا: "الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ نُورٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ: وَهُوَ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرور، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ"2, وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ؛ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ، وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ طَرَفٌ3؛ فَرَاجِعْهُ إِنْ شئت، وبالله التوفيق.   = 81"، وابن أبي عاصم في "الأوائل" "رقم 109"، والبزار في "المسند" "رقم 232- زوائده"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 433/ رقم 4572- الإحسان" في آخر حديث طويل لشداد بن أوس الأنصاري، وإسناده صحيح. وله شاهد عن أبي الدرداء عند الترمذي في "الجامع" "رقم 2653"، والطبراني في "الكبير" بإسناد حسن؛ كما في "الترغيب" "رقم 543- صحيحه"، و"مجمع الزوائد" "2/ 36"، وقال المنذري: "الموقوف أشبه"، وعلق على مقولته شيخنا الألباني: "قلت: بل المرفوع أشبه؛ لأن له شواهد, ولا سيما وهو لا يقال بالرأي". وفي "ط": "العلم ليس ... ". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 469" عن حذيفة، وصححه ووافقه الذهبي. 1 أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "558"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 319"، وابن منده في "الفوائد" "رقم 68"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1398"، عن "جامع ابن وهب"، وأورده البغوي في "شرح السنة" "1/ 284"، وابن الجوزي في "صفوة الصفوة" "2/ 179"، والفلاني في "إيقاظ الهمم" "24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "32"، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 184". 2 أورده ابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 267"، و"الجامع" "70" عن "جامع ابن وهب" وعنه: الفلاني في "إيقاظ الهمم" "ص24"، وأبو شامة في "مختصر المؤمل" "ص32"، وكلمة "والعلم" ساقطة من "ط". 3 انظر: "5/ 24، 260 وما بعد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المقدمة التاسعة : من العلم ما هو من صُلْب1 وَمِنْهُ مَا هُوَ2 مُلَح الْعِلْمِ لَا مِنْ صُلْبِهِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْ صُلْبه وَلَا مُلَحه؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. - الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُعْتَمَدُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الطَّلَب، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الرَّاسِخِينَ، وَذَلِكَ مَا كَانَ قَطْعِيًّا، أَوْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، وَالشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مَنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ محفوظة في أصولها وفروعها3؛ كما قال تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْمَقَاصِدِ التي بها يكون صلاح الدارين،   1 "الصلب؛ بضم، فسكون: عظم الظهر من لدن الكاهل إلى العجب، والصلب أيضا الشديد القوي. والملح؛ بفتح وسكون اللام؛ أي: ملحة التي تستملح, أي: تعد مليحة، أي: حسينة؛ إذ الملح بضم ففتح: هي الأخبار المليحة، وهي الملح بفتح فسكون" "ماء". 2 في "م" و"خ" زيادة: "من". 3 حمل المصنف في المقدمة الأولى الحفظ في الآية على الأصول الكلية، ونفى أن يكون المراد المسائل الجزئية وهو كما يظهر مخالف لعبارته في هذه المقدمة؛ إذ جعل الحفظ شاملا للأصول والفروع، والتحقيق أن الفروع محفوظة بنصب الأدلة الكافية لمن توجه إلى استنباطها ببصيرة صافية وفهم راسخ، فإذا ضل نبؤها على قوم؛ اهتدى إليه آخرون. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَهِيَ: الضَّرُورِيَّاتُ، وَالْحَاجِيَّاتُ، وَالتَّحْسِينَاتُ، وَمَا هُوَ مُكَمِّلٌ لَهَا وَمُتَمَّمٌ لِأَطْرَافِهَا، وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا، وَسَائِرُ الْفُرُوعِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهَا؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ أَصِيلٌ، رَاسِخُ الْأَسَاسِ، ثَابِتُ الْأَرْكَانِ. هَذَا وَإِنْ كَانَتْ وَضْعِيَّةً لَا عَقْلِيَّةً؛ فَالْوَضْعِيَّاتُ قَدْ تُجَارِي الْعَقْلِيَّاتِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا؛ إِذِ الْعِلْمُ بِهَا مُسْتَفَادٌ مِنَ الاستقراء التام1 النَّاظِمِ لِأَشْتَاتِ أَفْرَادِهَا، حَتَّى تَصِيرَ فِي الْعَقْلِ مَجْمُوعَةً فِي كُلِّيَّاتٍ مُطَّرِدَةٍ، عَامَّةٍ، ثَابِتَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ وَلَا مُتَبَدِّلَةٍ، وَحَاكِمَةٍ غَيْرِ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّاتِ2. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوُجُودِ، وَهُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ؛ فَاسْتَوَتْ مَعَ الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَارْتَفَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. فَإِذًا لِهَذَا الْقِسْمِ3 خَوَاصٌّ ثَلَاثٌ، بِهِنَّ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ: إِحْدَاهَا: الْعُمُومُ وَالِاطِّرَادُ؛ فَلِذَلِكَ جَرَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا الْخَاصَّةُ لَا تَتَنَاهَى؛ فَلَا عَمَلَ يُفرض, وَلَا حَرَكَةَ وَلَا سُكُونَ يُدَّعَى، إِلَّا وَالشَّرِيعَةُ عَلَيْهِ حَاكِمَةٌ إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا عَامَّةٌ، وَإِنْ فُرِضَ فِي نُصُوصِهَا أَوْ مَعْقُولِهَا خُصُوصٌ مَا؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عُمُومٍ؛ كَالْعَرَايَا، وَضَرْبِ الدية على العاقلة، والقراض،   1 في النسخ المطبوعة: "العام"، وما أثبتناه من المخطوط الأصل. 2 في "م": "العقلية"، وأثبت "م" هنا في الهامش ما نصه: "من لوازم ذلك وصف الشريعة بثلاثة أوصاف: عمومها، وثباتها، وكونها حاكمة". 3 أصوله وفروعه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَالْمُسَاقَاةِ1، وَالصَّاعِ فِي الْمُصَرَّاةِ2، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُصُولٍ حَاجِيَّةٍ أَوْ تَحْسِينِيَّةٍ أَوْ مَا يُكَمِّلُهَا3، وَهِيَ أُمُورٌ عَامَّةٌ4؛ فَلَا خَاصَّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا وَهُوَ عَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ: الثُّبُوتُ مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ؛ فَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِيهَا بَعْدَ كَمَالِهَا نَسْخًا، وَلَا تَخْصِيصًا لِعُمُومِهَا، وَلَا تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهَا، وَلَا رَفْعًا لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، لَا بِحَسَبِ عُمُومِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَا بِحَسَبِ خُصُوصِ بَعْضِهِمْ، وَلَا بِحَسَبِ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَلَا حَالٍ دُونَ حَالٍ5، بَلْ مَا أُثْبِتَ سَبَبًا؛ فَهُوَ سَبَبٌ أَبَدًا لَا يَرْتَفِعُ، وَمَا   1 فعموم النهي عن الغرر، وعدم مسئولية الشخص عن فعل غيره، وفساد المعاملات المشتملة على الجهالة في الثمن أو الأجرة مثلا، يشمل بظاهره هذه المسائل، ولكن لما كان لها في الواقع علل معقولة تجعل حكمها مغايرا لحكم العمومات المذكورة، وقد أخذت حكمها المعقول على خلاف حكم ما كان يشملها في الظاهر؛ أطلقوا عليها أنها مستثناة، وقالوا: إنها خاصة، وهي في الحقيقة قواعد كلية أيضا انبنت على أصول من مقاصد الشريعة الثلاثة. "د". 2 انظر وجه نظمه في هذا السلك مع أنهم قالوا: إنه حكم تعبدي محض "د". و"المصراة": الناقة -مثلا- يربط صاحبها ضرعها ليجتمع لبنها، فيظن من يريد شراءها أن حلبتها كثير، فإذا اشتراها فحلبها، ثم أراد ردها للتدليس؛ رد معها صاعا من تمر. "م". 3 تندرج صور الوقائع تحت أصل واحد، وتتفق في الحكم إذا كانت متماثلة من كل وجه له مناسبة بالحكم، فإذا اختلف بعض المسائل في الحكم؛ عرفنا أنها لم تكن متماثلة تماثلا تاما، وأن اختلافها في الحكم كان لوجه يفرق بينها في نفس الأمر؛ فوصف بعض الفقهاء العرايا ونحوها بأنها مخالفة للقياس أو خارجة عن الأصل لا يصح إلا إذا أرادوا القياس أو الأصل الذي يتراءى لهم في بادئ النظر "خ". قلت: حقق ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "20/ 555" وتلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس. 4 بعدها في "ط" وحدها كلمة لم نتبينها. 5 لا يرد على هذا اختلاف الأحكام عند اختلاف العرف والعادة؛ فإنه ليس باختلاف في أصل الخطاب، وتحقيقه أن العوائد إذا اختلفت؛ رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يختص بها وينطبق حكمه عليها "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 كَانَ شَرْطًا؛ فَهُوَ أَبَدًا شَرْطٌ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا؛ فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا، أَوْ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا زَوَالَ لَهَا وَلَا تَبَدُّلَ، وَلَوْ فُرِضَ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ؛ لَكَانَتْ أَحْكَامُهَا كَذَلِكَ. وَالثَّالِثَةُ: كَوْنُ الْعِلْمِ حَاكِمًا لَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُفِيدًا لِعَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ؛ فَلِذَلِكَ انْحَصَرَتْ عُلُومُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يُفِيدُ الْعَمَلَ, أَوْ يُصَوِّبُ نَحْوَهُ, لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ, وَلَا تَجِدُ فِي الْعَمَلِ أَبَدًا مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَإِلَّا انْقَلَبَ كَوْنُهَا حَاكِمَةً إِلَى كَوْنِهَا مَحْكُومًا عَلَيْهَا، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ. فَإِذًا؛ كُلُّ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْخَوَاصُّ الثَّلَاثُ؛ فَهُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهَا وَالْبُرْهَانُ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. - وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي مُلَحِ الْعِلْمِ لَا فِي صُلْبِهِ1: مَا لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا وَلَا رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، بَلْ إِلَى ظَنِّيٍّ، أَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى قَطْعِيٍّ إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ خَاصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْخَوَاصِّ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ خَاصَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَهُوَ مُخَيَّلٌ، وَمِمَّا يَسْتَفِزُّ الْعَقْلَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِأَصْلِهِ، وَلَا بِمَعْنَى غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا؛ صَحَّ أَنْ يُعَدَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ. فَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الْأُولَى -وَهُوَ الِاطِّرَادُ وَالْعُمُومُ- فَقَادِحٌ فِي جَعْلِهِ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ يُقَوِّي جَانِبَ الاطراح ويضعف جانب الاعتبار؛ إذ النقص2 فِيهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْوُثُوقِ بِالْقَصْدِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ، وَيُقَرِّبُهُ مِنَ الْأُمُورِ الِاتِّفَاقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ فَلَا يُوثَقُ بِهِ وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّانِيَةِ -وهو الثبوت- فيأباه صُلب العلم وقواعده،   1 انظر: "القواعد" للمقري "2/ 406". 2 في "د": "النقض" بالمعجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ، ثُمَّ خَالَفَ حَكَمُهُ الْوَاقِعَ فِي الْقَضِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ؛ كَانَ حُكْمُهُ خَطَأً وَبَاطِلًا، مِنْ حَيْثُ أَطْلَقَ الْحُكْمَ فِيمَا لَيْسَ بِمُطْلَقٍ، أَوْ عَمَّ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ؛ فَعَدِمَ النَّاظِرُ الْوُثُوقَ بِحُكْمِهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى خُرُوجِهِ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّالِثَةِ -وَهُوَ كَوْنُهُ حَاكِمًا وَمَبْنِيًّا عَلَيْهِ- فَقَادِحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ فِي الْعُقُولِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِهِ فَائِدَةٌ حَاضِرَةٌ، غَيْرَ مُجَرَّدِ رَاحَاتِ النُّفُوسِ, فَاسْتُوِيَ مَعَ سَائِرِ مَا يُتَفَرَّجُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَأَحْرَى فِي الِاطِّرَاحِ، كَمَبَاحِثِ السُّوفِسْطَائِيِّينَ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ. وَلِتَخَلُّفِ بَعْضِ هَذِهِ الْخَوَاصِّ أَمْثِلَةٌ يُلْحَقُ بِهَا مَا سِوَاهَا: أَحَدُهَا: الْحِكَمُ الْمُسْتَخْرَجَةُ لِمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي التَّعْبُدَاتِ1 كَاخْتِصَاصِ الْوُضُوءِ بِالْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ وَالصَّلَاةِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَوْنِهَا عَلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَتَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فِي تِلْكَ الْأَحْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ أَحْيَانِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِالْأَعْمَالِ الْمَعْلُومَةِ، وَفِي الْأَمَاكِنِ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا تَطُورُ نَحْوَهُ2 فَيَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ فَيُطَرِّقُ3 إِلَيْهِ حِكَمًا يَزْعُمُ4 أَنَّهَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْضَاعِ، وَجَمِيعُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنٍّ5.   1 كلام المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد" "2/ 406-408، القاعدة التاسعة والخمسون بعد المائة". 2 أي: لا تحوم جهته من الطور، وهو الحوم حول الشيء. "د". وكتب "م" في الهامش" "يطور: يتجه". 3 أي: يدخل تلك الحكم ويقحمها على تلك الأحكام وينسبها إليه. 4 في "ط": "يزعم فيها أنها". 5 فيكون من باب ما انتفى فيه خاصتان، ومع ذلك؛ فهو مبني على ظني، وربما يستفاد منه أن قوله سابقا: "إلا أنه تخلف عنه خاصة" ليس خاصا بما كان مبنيا على قطعي، وأنه لو كان ظنيا وانتفى فيه خاصة أو أكثر؛ يصح أن يعد من هذا القسم؛ فتأمل. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَتَخْمِينٍ غَيْرِ مُطَّرِدٍ فِي بَابِهِ، وَلَا مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ عَمَلٌ، بَلْ كَالتَّعْلِيلِ بَعْدَ السَّمَاعِ لِلْأُمُورِ الشَّوَاذِّ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُعَدُّ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي دَعْوَى مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَلَا دَلِيلَ لَنَا عَلَيْهِ1. وَالثَّانِي: تَحَمُّلُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَلَى الْتِزَامِ كَيْفِيَّاتٍ لَا يَلْزَمُ مِثْلُهَا، وَلَا يُطْلَبُ الْتِزَامُهَا، كَالْأَحَادِيثِ الْمُسَلْسَلَةِ الَّتِي أُتِيَ بِهَا عَلَى وُجُوهٍ مُلْتَزَمَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ؛ فَالْتَزَمَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِالْقَصْدِ، فَصَارَ تحملها على ذلك القصد تحريا له، بِحَيْثُ يَتَعَنَّى فِي اسْتِخْرَاجِهَا، وَيَبْحَثُ عَنْهَا بِخُصُوصِهَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَإِنْ صَحِبَهَا الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الْأَسَانِيدِ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ" 2؛ فَإِنَّهُمُ الْتَزَمُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ أول حديث يسمعه   1 كالنهي عن اتخاذ التماثيل، يقولون: إن العلة في التحريم خشية أن تجر إلى احترامها، ثم إلى عبادتها؛ لقرب الألف بعبادة الأوثان, فلما أيس الآن من ذلك؛ صار لا مانع مع اتخاذها، فهذا استنباط للعلة بطريق الظن واتباع الهوى. "د". وعلق "خ" هنا ما نصه: "من هذا الصنف ما يصنعه بعض أصحاب الأهواء حين يريدون التملص من بعض ما نهت عنه الشريعة؛ إذ يقصدون إلى أمر كان واقعا في زمن التشريع، ثم ارتفع، يزعمون من غير بينة أنه علة التحريم؛ ليتسنى لهم القول بالإباحة بناء على قاعدة أن الأحكام تدور مع العلل وجودا وعدما". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، 4/ 323-324/ رقم 1924"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في الرحمة، 4/ 285/ رقم 4941"، وأحمد في "المسند" "2/ 160"، والحميدي في "المسند" "رقم 591"، والبخاري في "التاريخ" "9/ 64"، وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" "69"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "775"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 159"، والبيهيق في "الأسماء" = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 التلميذ من شيخه، فإن سمعه من بَعْدَ مَا أَخَذَ عَنْهُ غَيْرَهُ؛ لَمْ يَمْنَعْ ذلك الاستفادة بمقتضاه، [وكذا سَائِرُهَا؛ غَيْرَ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ خَاصَّةً] 1، وَلَيْسَ2 بِمُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهَا؛ حَتَّى يُقال: إِنَّهُ مَقْصُودٌ؛ فَطَلَبُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ مُلَحِ الْعِلْمِ لَا مَنْ صُلْبِهِ. وَالثَّالِثُ: التَّأَنُّقُ3 فِي اسْتِخْرَاجِ الْحَدِيثِ مِنْ طُرق كَثِيرَةٍ، لَا عَلَى قَصْدِ طَلَبِ تَوَاتُرِهِ، بَلْ عَلَى أَنْ يُعَدَّ آخِذًا لَهُ عَنْ شُيُوخٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ جِهَاتٍ شتى، وإن   = "ص423"، والخطيب في "التاريخ" "3/ 260"، وابن أبي الدنيا في "العيال" "1/ 426" من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وحسنه ابن حجر في كتابه "الإمتاع" "ص63"، وذكر تصحيح الترمذي وعلق عليه بقوله: "وكأنه صححه باعتبار المتابعات والشواهد، وإلا؛ فأبو قابوس لم يرو عنه سوى عمرو بن دينار, ولا يعرف اسمه، ولم يوثقه أحد من المتقدمين". قلت: وأقوى هذه الشواهد ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ، 13/ 358/ رقم 7376"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، 4/ 1809/ رقم 2319" عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ: "من لا يرحم الناس؛ لا يرحمه الله عز وجل ". وما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، 10/ 426/ رقم 5997"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2318" عن أبي هريرة مرفوعا: "من لا يَرْحم؛ لا يُرحَم". وانظر: "الأربعين في فضل الرحمة والراحمين" لابن طولون. 1 زيادة من الأصل المخطوط و"خ" و"م"، وسقطت من "د". 2 فيكون انتفى فيه الخاصتان المنتفيتان في المثال قبله. "د". 3 وهو مما انتفى فيه فائدة بناء عمل عليه؛ لأنه ما دام ذلك راجعا إلى كثرة الرواة في بعض طبقاتهم في الحديث لا إلى جميع الطبقات حتى يفيد قوة في الحديث، لا يكون فيه فائدة، ولا ينبني عليه ترجيح للحديث على غيره. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْآحَادِ فِي الصَّحَابَةِ، أَوِ التَّابِعَيْنِ، أَوْ غَيْرِهِمْ؛ فَالِاشْتِغَالُ بِهَذَا مِنَ الْمُلَحِ، لَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ. خَرَّجَ أَبُو عُمَرَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ؛ قال: خرجت حديثا واحدا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ, أَوْ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ طَرِيقٍ -شَكَّ الرَّاوِي- قَالَ: فَدَاخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَحِ غَيْرُ قَلِيلٍ، وَأُعْجِبْتُ بِذَلِكَ؛ فَرَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا! قَدْ خَرَّجْتُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ. قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَخْشَى أن يدخل هذا تحت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} 1 [التَّكَاثُرُ: 1] ، هَذَا مَا قَالَ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ تَخْرِيجَهُ مِنْ طُرُقٍ يَسِيرَةٍ كافٍ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ؛ فَصَارَ الزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ فَضْلًا. وَالرَّابِعُ: الْعُلُومُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الرُّؤْيَا، مِمَّا لَا يَرْجِعُ إِلَى بِشَارَةٍ وَلَا نِذَارَةٍ2؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ بِالْمَنَامَاتِ وَمَا يُتَلَقَّى مِنْهَا تَصْرِيحًا، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً؛ فَأَصْلُهَا الَّذِي هُوَ الرُّؤْيَا غَيْرُ معتبر في   1 ذكرها بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1988"، وذكرها السلفي في "الوجيز" "93"، وابن رشيد في "ملء العيبة" "3/ 215"، والذهبي في "السير" "16/ 181". 2 الأدلة المعتد بها ما يمكن التوصل إلى تمييز صحيحها من فاسدها، وهي اللفظ المروي أو الاستنباط، والرؤيا لا يمكن تمييز صالحها من باطلها كالإلهامات، ومن ثَم أفتى الفقهاء بأن من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- في المنام وأخبره بأن زوجه طالق عليه، أو أن هذا اليوم من رمضان؛ ألغى العمل على مقتضى الرؤيا، وعول على ما يعرفه في اليقظة "خ". قلت: وانظر في هذا: "مجموع ابن تيمية" "24/ 376"، و"الاعتصام" "1/ 261-263"، و"مدارج السالكين" "1/ 51"، و"التنكيل" "2/ 242"، وما سيأتي عند المصنف "4/ 470 وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِهَا1، كَمَا فِي رُؤْيَا الْكِنَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَإِنَّ مَا قَالَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ نَحْتَجَّ2 بِهِ حَتَّى عَرَضْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الْيَقَظَةِ؛ فَصَارَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْيَقَظَةِ لَا مِنَ المنام، وإنما ذُكرت الرؤيا تأنيسا، وعلى هَذَا يُحمل مَا جَاءَ عَنِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالرُّؤْيَا. وَالْخَامِسُ: الْمَسَائِلُ الَّتِي يُختلف فِيهَا؛ فَلَا يَنْبَنِي عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهَا فَرْعٌ عَمَلِيٌّ، إِنَّمَا تُعَدُّ مِنَ الْمُلَحِ، كَالْمَسَائِلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا قَبْلُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ3، وَيَقَعُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْعُلُومِ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا كَثِيرٌ؛ كَمَسْأَلَةِ اشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَصْدَرِ4، وَمَسْأَلَةِ اللَّهُم5، ومسألة أشياء6، ومسألة الأصل في   1 أي: مثل هذه الاستدلالات؛ فلم يجعلها الشرع من الأدلة على الأحكام، وإنما جعلها بشارة للمؤمنين مثلا "د". 2 فهذا من باب الظني غير المطرد، ولا ينبني عليه عمل. "د". 3 انظرها: "ص38". 4 ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتقٌّ من الفعل وفرعٌ عليه، وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه. انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 235"، "شرح الرضى على الكافية" "2/ 178". 5 ذهب الكوفيون إلى أن الميم المشددة في "اللهمَّ" ليست عوضا من "يا" التي للتنبيه في النداء، وذهب البصريون إلى أنها عوض من "ياء" التي للتنبيه في النداء، والهاء مبنية على الضم؛ لأنه نداء. انظر تفصيل المسألة في "الإنصاف" لابن الأنباري "1/ 341"، "لسان العرب" "أل هـ". 6 ذهب الكوفيون إلى أن "أشياء" وزنه "أفْعاء"، والأصل "أفعلاء"، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنه "أفعال"، وذهب البصريون إلى أن وزنه "لفعاء"، والأصل "فعلاء". انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف" لابن الأنباري "2/ 812"، "لسان العرب" "ش ي أ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 لَفْظِ الِاسْمِ1، وَإِنِ انْبَنَى الْبَحْثُ فِيهَا عَلَى أُصُولٍ مُطَّرِدَةٍ، وَلَكِنَّهَا لَا فَائِدَةَ تُجْنَى ثَمَرَةً لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا؛ فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ. وَالسَّادِسُ: الِاسْتِنَادُ إِلَى الْأَشْعَارِ فِي تَحْقِيقِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَكَثِيرًا مَا يَجْرِي مِثْلُ هَذَا لِأَهْلِ التَّصَوُّفِ فِي كُتُبِهِمْ2، وَفِي بَيَانِ مَقَامَاتِهِمْ؛ فَيَنْتَزِعُونَ مَعَانِيَ الْأَشْعَارِ، وَيَضَعُونَهَا لِلتَّخَلُّقِ بِمُقْتَضَاهَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُلَحِ3؛ لِمَا فِي الْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ مِنْ إِمَالَةِ الطِّبَاعِ، وَتَحْرِيكِ النُّفُوسِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ, وَلِذَلِكَ اتَّخَذَهُ الْوُعَّاظُ دَيْدَنا، وَأَدْخَلُوهُ فِي أَثْنَاءِ وَعْظِهِمْ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ؛ فَالِاسْتِشْهَادُ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ شَرْعِيًّا؛ فَمَقْبُولٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَالسَّابِعُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَثْبِيتِ الْمَعَانِي بِأَعْمَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ، بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ تَحْسِينِ الظَّنِّ، لَا زَائِدَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَكُونُ أَعْمَالُهُمْ حُجَّةً حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ4، فَإِذَا أُخِذَ ذَلِكَ بإطلاق فيمن يُحسن   1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم مشتق من الوَسْم وهو العلامة، وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو وهو العلو. انظر تفصيل المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري "1/ 6"، "لسان العرب" "س م و". 2 ذكروا لمأخذ اسم الصوفية وجوها أقربها أنه نسبة إلى الصوف الذي هو لباس العباد أو إلى آل الصوفة على وجه التشبيه بهم، وهم حي من مضر كانوا يخدمون الكعبة، ويتنسكون كما في "أساس البلاغة" و"القاموس". "خ". قلت: وهذه المآخذ ليست بصحيحة، والأسقم منها نسبة الصوفية إلى "أهل الصفة"، وقد بينت خطأ ذلك من وجوه أربعة في مقدمة تحقيقي لكتاب السخاوي "رجحان الكفة"؛ فانظره إن أردت الاستزادة، والله الهادي. 3 لأنها ليست قطعية، ولا مبنية على قطعي غالبا، ولا هي مطردة عامة "د". 4 انظر: "5/ 258 وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الظَّنُّ بِهِ؛ فَهُوَ -عِنْدَمَا يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ1- مِنْ هَذَا الْقِسْمِ؛ لِأَجْلِ مَيْلِ النَّاسِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ صَلَاحٌ وَفَضْلٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ اطِّرَادِ الصَّوَابِ فِي عَمَلِهِ، وَلِجَوَازِ تَغَيُّرِهِ، فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ -إِنْ سَلِمَ- هَذَا الْمَأْخَذَ2. وَالثَّامِنُ: كَلَامُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ3 مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ4؛ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ أَوْغَلُوا فِي خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ، حَتَّى أَعْرَضُوا عَنْ غَيْرِهِ جُمْلَةً، فَمَالَ بِهِمْ هَذَا الطَّرَفُ إِلَى أَنْ تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ الِاطِّرَاحِ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَأَعْرَبُوا عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَشَأْنُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يُطِيقُهُ الْجُمْهُورُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُكَلِّمُونَ بِهِ الْجُمْهُورَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؛ فَفِي رُتْبَتِهِ لَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ -فِي حَقِّ الْأَكْثَرِ- مِنَ الْحَرَجِ أَوْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، بَلْ رُبَّمَا ذَمُّوا بِإِطْلَاقٍ مَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَفِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؛ فَصَارَ أَخْذُهُ بِإِطْلَاقٍ مُوقِعًا فِي مَفْسَدَةٍ، بِخِلَافِ أَخْذِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ وَمُسْتَحْسَنَاتِهِ. وَالتَّاسِعُ: حَمْلُ بَعْضِ الْعُلُومِ عَلَى بَعْضٍ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ؛ حَتَّى تَحْصُلَ الْفُتْيَا فِي أَحَدِهَا بِقَاعِدَةِ الْآخَرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَجْتَمِعَ الْقَاعِدَتَانِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقِيٍّ، كَمَا يُحْكَى عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ؛ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ برع في علم واحد سهل   1 في "م" و"خ": "الفوادح", بالفاء. 2 انظر في هذا والذي يليه "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 430 و11/ 15". 3 وهو مما انتفى فيه الاطراد، وأخذ كلامهم على الاطراد والإطلاق موقع في مفسدة الحرج أو تكليف ما لا يطاق؛ فالبحث في كلامهم وشرحه من الملح "د". 4 الولي في العرف الشرعي وكلام السلف من صفت بصيرته وامتلأ قلبه وثوقا بالله ثم استقام على السنة الصحيحة والآداب الرفيعة، وبهذا المعنى يفسر الولي في مثل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، والحديث القدسي: "من آذى لي وليا؛ فقد آذنته بالحرب ". "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 عَلَيْهِ كُلُّ عِلْمٍ. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي, وَكَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنَ خَالَةِ الْفَرَّاءِ: فَأَنْتَ قَدْ بَرَعْتَ فِي عِلْمِكَ، فَخُذْ مَسْأَلَةً أَسْأَلُكَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِكَ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ, ثُمَّ سَجَدَ لِسَهْوِهِ فَسَهَا فِي سُجُودِهِ أَيْضًا؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّ التَّصْغِيرَ عِنْدَنَا1 لَا يُصَغَّرُ؛ فَكَذَلِكَ السَّهْوُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَا يُسْجَدُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَصْغِيرِ التَّصْغِيرِ؛ فَالسُّجُودُ لِلسَّهْوِ هُوَ جَبْرٌ لِلصَّلَاةِ، وَالْجَبْرُ لَا يُجْبَرُ، كَمَا أَنَّ التَّصْغِيرَ لَا يُصَغَّرُ. فَقَالَ الْقَاضِي: مَا حَسِبْتُ أَنَّ النِّسَاءَ يَلِدْنَ مِثْلَكَ2. فَأَنْتَ تَرَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التَّصْغِيرِ وَالسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الضَّعْفِ؛ إِذْ لَا يَجْمَعُهُمَا فِي الْمَعْنَى أَصْلٌ حَقِيقِيٌّ فَيُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. فَلَوْ جَمَعَهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ؛ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، كَمَسْأَلَةِ الْكِسَائِيِّ مَعَ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ. رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ دَخَلَ على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال   1 كلمة "عندنا" ليست في "م" و"خ". 2 المحاورة بين الفراء ومحمد بن الحسن موجودة في "تاريخ بغداد" "14/ 151-152"، لكن رواها قبل ذلك "14/ 151" على أن بشرا المريسي هو الذي سأل الفراء. وذكرها كذلك ابن خلكان في "وفيات الأعيان" "6/ 179"، وكان ذكرها قبل ذلك "3/ 296" في ترجمة الكسائي أنها جرت بينه وبين محمد بن الحسن، ثم قال: "هكذا وجدت هذه الحكاية في عدة مواضع، وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكور والفراء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 لَهُ أَبُو يُوسُفَ: هَذَا الْكُوفِيُّ قَدِ اسْتَفْرَغَكَ وَغَلَبَ عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا أَبَا يُوسُفَ! إِنَّهُ لَيَأْتِيَنِي بِأَشْيَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا قَلْبِي. فَأَقْبَلَ الْكِسَائِيُّ عَلَى أَبِي يُوسُفَ، فَقَالَ: يَا أَبَا يُوسُفَ! هَلْ لَكَ فِي مَسْأَلَةٍ؟ فَقَالَ: نَحْوٌ أَمْ فِقْهٌ؟ قَالَ: بَلْ فِقْهٌ. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ حَتَّى فَحَصَ بِرِجْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: تُلْقِي عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِقْهًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَا أَبَا يُوسُفَ! مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ، وَفَتَحَ أَنْ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَتْ طَلَقَتْ. قَالَ: أَخْطَأْتَ يَا أَبَا يُوسُفَ. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ الصَّوَابُ؟ قَالَ: إِذَا قَالَ "أَنْ"؛ فَقَدْ وَجَبَ الْفِعْلُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَالَ: "إِنْ"؛ فَلَمْ يَجِبْ وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. قَالَ: فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَهَا لَا يَدْعُ أَنْ يَأْتِيَ الكسائي1.   1 والصواب في المسألة التفريق بين العارف بالعربية والجاهل بها؛ فيقع إن قال: "أن" بخلاف قوله "إن"، وإن كان جاهلا لم يقع شيء، أفاده الأسنوي في "الكوكب الدري" "ص471". والقصة التي ساقها المصنف ذكرها ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الكسائي "13/ 175-176" عن المرزباني أنها مع أبي يوسف أو محمد بن الحسن على الشك. وكتب "م" هنا في الحاشية: "السر في هذا أن "إن" بالكسرة شرطية؛ فيصير الطلاق معلقا، وبالفتح مصدرية؛ فيصير مدخولها علة لوقوع الطلاق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَارِيَةٌ عَلَى أَصْلٍ لُغَوِيٍّ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمَيْنِ. فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ تُرْشِدُ النَّاظِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا، حَتَّى يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْعُلُومِ وَيَذَرُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا يَسْتَفِزُّ النَّاظِرَ اسْتِحْسَانُهَا1 بِبَادِئِ الرَّأْيِ، فَيَقْطَعُ فِيهَا عُمْرَهُ، وَلَيْسَ وَرَاءَهَا ما يتخذه مُعْتَمَدًا فِي عَمَلٍ وَلَا اعْتِقَادٍ، فَيَخِيبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ سَعْيُهُ، وَاللَّهُ الْوَاقِي. وَمِنْ طَرِيفِ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّثَنَاهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ: أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْبَنَّاءِ سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَعْمَلْ إِنَّ فِي {هَذَانِ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} الْآيَةَ [طه: 63] ؟ فَقَالَ فِي الْجَوَابِ: لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْقَوْلُ فِي الْمَقُولِ؛ لَمْ يُؤَثِّرِ الْعَامِلُ فِي الْمَعْمُولِ. فَقَالَ2 السَّائِلَ: يَا سَيِّدِي! وَمَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ عَمَلِ إِنَّ وَقَوْلِ الْكُفَّارِ فِي النَّبِيِّينَ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجِيبُ: يَا هَذَا! إِنَّمَا جِئْتُكَ بِنُوَّارَةٍ يَحْسُنُ رَوْنَقُهَا، فَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّ تَحُكَّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ، ثُمَّ تَطْلُبَ مِنْهَا ذَلِكَ الرَّوْنَقَ, أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ3! فَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ مَا تَرَى، وَبِعَرْضِهِ عَلَى الْعَقْلِ يَتَبَيَّنُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صلب العمل. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا لَيْسَ مِنَ الصُّلْبِ، وَلَا مِنَ الْمُلَحِ: مَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا ظَنِّيٍّ وَإِنَّمَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُرَّ4 عَلَى أَصْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِبْطَالِ   1 تحرفت في "د": "استسحانها" بتقديم السين الثانية. 2 في "م" و"خ" زيادة: "له". 3 أورد المصنف في "الإفادات" "ص110" هذه القصة وسمى شيخه، وهو المقري. 4 أي: يرجع. "ماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مِمَّا صَحَّ كَوْنُهُ مِنَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَالْقَوَاعِدِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهَا فِي الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، أَوْ كَانَ مُنْهَضًا إِلَى إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِعِلْمٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ، فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلَا حَاكِمٍ، وَلَا مُطَّرِدٍ أَيْضًا، وَلَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ؛ لِأَنَّ الْمُلَحَ هِيَ الَّتِي تَسْتَحْسِنُهَا الْعُقُولُ، وَتَسْتَمْلِحُهَا النُّفُوسُ؛ إِذْ لَيْسَ يَصْحَبُهَا مُنَفِّرٌ، وَلَا هِيَ مِمَّا تُعَادِي الْعُلُومَ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ أَصْلٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ هَذَا الْقِسْمِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. هَذَا وَإِنْ مَالَ بِقَوْمٍ فَاسْتَحْسَنُوهُ وَطَلَبُوهُ؛ فَلِشِبْهِ عَارِضَةٍ، وَاشْتِبَاهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، فَرُبَّمَا عَدَّهُ الْأَغْبِيَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ، فَمَالُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَحَقِيقَةُ أَصْلِهِ وَهْمٌ وَتَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْأَهْوَاءِ؛ كَالْإِغْرَابِ بِاسْتِجْلَابِ غَيْرِ الْمَعْهُودِ، وَالْجَعْجَعَةِ بِإِدْرَاكِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ الرَّاسِخُونَ، وَالتَّبَجُّحِ بِأَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْمَشْهُورَاتِ مُطَالَبَ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ ... وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَطْلُوبٌ، وَلَا يَحُورُ1 مِنْهُ صَاحِبُهُ إِلَّا بِالِافْتِضَاحِ2 عِنْدَ الِامْتِحَانِ، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْغَزَّالِيُّ3، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ4، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِبَيَانِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَمِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ مَا انْتَحَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَرَاءَ هَذَا الظَّاهِرِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَيْلِهِ بِعَقْلٍ وَلَا نَظَرٍ، وَإِنَّمَا يُنال مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، تَقْلِيدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ، واستنادهم -في جملة من دعاويهم- إلى   1 أي: يرجع، انظر: "مختار الصحاح" "ح ور"، وبالأصل: "يجوز"، وفي "ط": "يحلا". 2 في "ط": "بافتضاح". 3 انظر: "إحياء علوم الدين" "كتاب العلم، بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة" "1/ 41". 4 انظر: "قانون التأويل" "ص196-197". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَعِلْمِ النُّجُومِ1، وَلَقَدِ اتَّسَعَ الْخَرْقُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى الرَّاقِعِ؛ فَكَثُرَتِ الدَّعَاوَى عَلَى الشَّرِيعَةِ بِأَمْثَالِ مَا ادَّعَاهُ الْبَاطِنِيَّةُ2؛ حَتَّى آل3 ذلك إلى ما لا يُعْقَلُ عَلَى حَالٍ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَشْمَلُ هَذَا الْقِسْمُ مَا يَنْتَحِلُهُ أَهْلُ السَّفْسَطَةِ4 وَالْمُتَحَكِّمُونَ5، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَنْبَنِي عليه،   1 وكتب السحر والشعبذة أكبر دليل على ذلك؛ مثل: "شمس المعارف الكبرى" للبوني، و"الرحمة في الطب والحكمة" المنسوب كذبا للسيوطي، و"الجفر" المنسوب كذبا تارة لعلي -رضي الله عنه- وتارة لجعفر الصادق، وغيرها كثير؛ كما بينته في المجلد الأول من "المجموعة الأولى" من كتابي "كتب حذر العلماء منها"، وهو مطبوع، ولله الحمد. وقد عالج ابن القيم في كتابه: "مفتاح دار السعادة" هذا الموضوع معالجة وافية. وأورد في آخره "2/ 148- إلى آخر الكتاب" رسالة في الرد على المنجمين لأبي القاسم عيسى بن علي بن الجراح البغدادي "ت391هـ" كتبها لما بصره الله رشده وأراه بطلان ما عليه هؤلاء الضلال الجهال، كتبها نصيحة لبعض إخوانه، وهي نفيسة جدا، ولا سيما مع تعقبات ابن القيم عليها، وانظر تفصيلا عن علم الحروف "مبادئه وأشهر أعلامه" في "علم الحروف وأقطابه" لعبد الحميد حمدان-مكتبة مدبولي، القاهرة، "1410هـ". 2 مبدأ هذا المذهب كما حكى السيد في "شرح المواقف": إن طائفة من المجوس تذاكروا ما كان لسلفهم من السطوة والملك، وقالوا: لا سبيل إلى مغالبة المسلمين بالسيف لقوة شوكتهم وسعة ممالكهم، لكنا نقاتلهم بتأويل شريعتهم إلى ما يطابق قواعد ديانتنا، ونستدرج به الضعفاء حتى تختلف كلمتهم ويختل نظام وحدتهم، وأول ما وضعوا في مبادئهم أن للقرآن ظاهرا وهو المعلوم في اللغة، وباطنا وهو المراد. "خ". قلت: وكلام ابن تيمية فيهم كثير جدا، انظر منه ما في "مجموع الفتاوى" "5/ 550-551 و13/ 235"، وسيأتي للمصنف كلام بديع حول الظاهر والباطن في "4/ 231 وما بعدها". 3 ساقطة من الأصل المخطوط، وأشار إلى ذلك الناسخ. 4 السفسطة: شعبة من شعب الفلسفة اليونانية نشأت في المائة الخامسة قبل الميلاد، ومن أشهر مؤسسيها "بروتغورس" القائل: كل واحد مخطئ ومصيب في آن واحد؛ لأن الحقيقة تابعة للشعور الوقتي الذي نحس به، وقد تصدى لنقض مغالطاتهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، ونشأة هذا المذهب هي التي بعثت أرسطو على وضع علم المنطق "خ". 5 أي: مدعو الحكمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَلَا ثَمَرَةَ تُجنى مِنْهُ؛ فَلَا تَعَلُّقَ بِهِ بِوَجْهٍ. فَصْلٌ: وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّانِي، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي خَلْطِ بَعْضِ الْعُلُومِ بِبَعْضٍ؛ كَالْفَقِيهِ يَبْنِي فِقْهَهُ عَلَى مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ مَثَلًا، فَيَرْجِعُ إِلَى تَقْرِيرِهَا مَسْأَلَةً -كَمَا يُقَرِّرُهَا النَّحْوِيُّ- لَا مُقَدِّمَةً مُسَلَّمَةً، ثُمَّ يَرُدُّ مَسْأَلَتَهُ الْفِقْهِيَّةَ إِلَيْهَا، وَالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَيَبْنِي عَلَيْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِيهَا, وَفِي تَصْحِيحِهَا، وَضَبْطِهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ النَّحْوِيُّ؛ صَارَ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ فَضْلًا1 غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا افْتَقَرَ إِلَى مَسْأَلَةٍ [عَدَدِيَّةٍ؛ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَسْلَمَةً] 2 لِيُفَرِّعَ عَلَيْهَا فِي عِلْمِهِ، فَإِنْ أَخَذَ يَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْعَدَدِيُّ فِي عِلْمِ الْعَدَدِ؛ كَانَ فَضْلًا مَعْدُودًا مِنَ المُلَح إِنْ عُدَّ مِنْهَا، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعُلُومِ الَّتِي يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَيَعْرِضُ أَيْضًا لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الثَّالِثِ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَنْ يَتَبَجَّحُ بِذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ ذِكْرِ كِبَارِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ لَا يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ إِلَّا صِغَارَهَا، عَلَى ضِدِّ التَّرْبِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ، فَمِثْلُ هَذَا يُوقِعُ فِي مَصَائِبَ3، وَمِنْ أَجْلِهَا قَالَ عَلِيٌّ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ،   1 أي: زيادة غير مغتفر إليها. "م". 2 ساقطة من الأصل. 3 تلقين كبار المسائل لمن لا يحتملها عقله كانت إحدى الآفات التي نزلت بأسلوب التعليم في معاهدنا؛ فقتلت أوقاتا نفيسة في غير سبيل الله، وعطلت قرائح كانت أحق بأن تسقى بتعليم سائغ فتؤتي أكلها كل حين, وعلاج هذه العلة أن يعلم الأستاذ أن تمييز مراتب التلاميذ في الفهم وترشيحهم بمبادئ العلوم على حسب استعدادهم أعظم ثوابًا في الدار الباقية، وأدعى لإجلال التلاميذ أنفسهم وإخلاصهم له من مفاجأتهم بالخوض في مسائل لا تسعها مداركهم. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ "1، وَقَدْ يَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً عَلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ هَذَا الْكِتَابِ2. وَإِذَا عَرَضَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّالِثِ؛ فَأَوْلَى أَنْ يَعْرِضَ لِلثَّانِي أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ. فَلَا يَصِحُّ لِلْعَالِمِ فِي التَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُرَبِّيًا، وَاحْتَاجَ هُوَ إِلَى عَالِمٍ يُرَبِّيهِ. وَمِنْ هُنَا لَا يُسْمَحُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ نَظَرَ مُفِيدٍ أَوْ مُسْتَفِيدٍ؛ حَتَّى يَكُونَ رَيَّانَ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، مَنْقُولِهَا وَمَعْقُولِهَا، غَيْرَ مُخْلِدٍ إِلَى التَّقْلِيدِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْمَذْهَبِ3، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ هَكَذَا؛ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقَلِبَ عَلَيْهِ مَا أَوْدَعَ فِيهِ فِتْنَةً بِالْعَرَضِ، وَإِنْ كَانَ حِكْمَةً بِالذَّاتِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ للصواب.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/ 225/ رقم 127"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 610"، والخطيب في "الجامع" "رقم 1318"، وآدم بن أبي أياس في "العلم"، وأبو نعيم في "المستخرج"؛ كما في "فتح الباري" "1/ 225" بألفاظ مقاربة منها المذكور، وسيأتي "5/ 168" مرفوعا ولا يصح. 2 انظر: "5/ 167". 3 التعصب للمذهب ينشأ عن قصر النظر وعدم التفقه في الأصول العالية، ولهذا نجد المتبحر في علم الكتاب والسنة، المطلع على مذاهب الفقهاء ومداركها؛ يكاد احترامه للمذهب الذي يتبعه لا يزيد على احترامه للمذاهب الأخرى، وذلك لما يبدو له من رجحانها وتفوقها على مذهبه في كثير من المسائل "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المقدمة العاشرة : إِذَا تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَعَلَى شَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّقْلُ فَيَكُونَ مَتْبُوعًا، وَيَتَأَخَّرَ الْعَقْلُ فَيَكُونَ تَابِعًا، فَلَا يَسْرَحُ الْعَقْلُ فِي مَجَالِ النَّظَرِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُسَرِّحُهُ النَّقْلُ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَخَطِّي مَأْخَذَ النَّقْلِ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ النَّقْلُ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ الفَرَض أَنَّهُ حَدَّ لَهُ حَدًّا، فَإِذَا جَازَ تَعَدِّيهِ؛ صَارَ الْحَدُّ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. وَالثَّانِي: مَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ2، وَلَوْ فَرَضْنَاهُ مُتَعَدِّيًا لِمَا حَدَّهُ الشَّرْعُ؛ لَكَانَ مُحَسِّنًا ومقبحا، هذا خلف.   1 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة بما لا مزيد عليه في "درء تعارض العقل والنقل"، وكذا في المجلد الأول من "مجموع الفتاوى"، وأيضا فيها "13/ 64 وما بعدها". وللمصنف كلام رائع في "الاعتصام" "2/ 318-322، 327-334" حيث قسم العلوم من حيث إدراك العقل لها إلى ثلاثة أقسام، وتكلم عليها بإسهاب. ولابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 331 وما بعدها و2/ 3 وما بعدها، 47 وما بعدها"، و"الصواعق" "3/ 796 إلى نهاية الجزء الرابع"، و"مختصره" "1/ 129 وما بعدها" كلام مسهب قيم متين في هذا الموضوع. 2 هذه مسألة مشهورة في علم الكلام وفي علم أصول الفقه، وهي معروفة بمسألة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 .........................................................................   = "التحسين والتقبيح"، ولم ينج المصنف من بعض الآثار السلبية لها، أعني بالذات تأثره بالنظرة الأشعرية إلى الموضوع، ولننطلق من الشاطبي -فهو منطلق البحث كله- لنرى بعض مظاهر أشعريته في الموضوع، ومن خلاله ستتضح معالم النظرية الأشعرية في التحسين والتقبيح*. وأفضل الكلام على هذه المسألة في هذا الموطن، جامعا الكلام فيها، ولا سيما كلام الشاطبي؛ فأقول: هذه المسألة لها جوانب اتفاق وافتراق بين العلماء. أما محل الاتفاق؛ فالعقل يدرك الحسن والقبح فيما هو ملائم لطبع أو مضاد له، فإذا لاءم الغرض الطبع؛ فحسن؛ كاللذة والحلاوة، وإذا نافره فهو قبيح؛ كالألم والمرارة، وهذا القدر معلوم بالحس والعقل والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم**. أما محل الافتراق والتنازع؛ فهو في الحسن والقبح المتعلق بالشرع، بمعنى كون الفعل سببا للذم والعقاب أو المدح والثواب، وهل يعلم ذلك بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، أم يعلم بهما معا***؟ وحاصل أقوال الناس في هذه المسألة على سبيل الإجمال ثلاثة أقوال أساسية، هي: القول الأول: وهو قول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة وأصحاب مالك والشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، وهو قول عموم الأشاعرة، وحاصل هذا القول: "إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة ألبتة، وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه الصفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع"****، أي: إنهم ينفون الحسن والقبح العقليين ويقولون: إن ذلك لا يعرف إلا بالشرع فقط، مع أنه "من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساويا للخبز والماء والفاكهة ونحوها، وإنما =   * "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216". ** انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 308، 309"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 44"، و"مدارج السالكين" "1/ 230"، و"إرشاد الفحول" "7". *** "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 309". **** انظر: "درء التعارض" "8/ 492"، ونحوه في "مجموع الفتاوى" "11/ 676-677 و8/ 90"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 5"، و"مدارج السالكين" "1/ 91, 230"، و"شفاء الغليل" "435 وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ...........................................................................   = الشارع فرق بينهما؛ فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر, وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث، لا يكون مساويا لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسرقة والجناية؛ حتى يكون إباحة هذا أو تحريم هذا راجعا إلى محض الأمر والنهي المفرق بين المتماثلين ... "*. إلا أن هذا هو مذهب الأشاعرة الذي يصرحون به في كتبهم الاعتقادية والأصولية؛ ففي "المواقف" يقول الإيجي: "القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن بخلافه، ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبت له والمبين، ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر"**. وفي "الإرشاد" "228" للجويني: "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما تلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع". وهذا ما ردده الشاطبي هنا؛ فهو يقول: "إن العقل لا يحسن ولا يقبح"، ويؤكد هذا المعنى في سياق آخر، وعلى وجه أوضح؛ فيقول "3/ 28": "الأفعال والتروك -من حيث هي أفعال وتروك- متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح", وعلى الرغم من مرور الشاطبي على المسألة مرورا سريعا على خلاف ما يفعله المتكلمون والأصوليون؛ فإن التأثير الأشعري بادٍ على كلامه، قارن كلامه السابق بقول الجويني في "الإرشاد" "ص259": "فليس الحسن صفة زائدة على الشرع مدركة به، وإنما هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذلك القول في القبح، فإذا وصفنا فعلا من الأفعال بالوجوب أو الحظر؛ فلسنا نعني بما نثبته تقدير صفة للفعل الواجب يتميز بها عما ليس بواجب، وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا، والمراد بالمحظور: الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظرا وتحريما". واقرأ له قوله الآتي "2/ 534-535": " ... كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة =   * "مفتاح دار السعادة" "2/ 5". ** "المواقف" "323"، وانظر: "إتحاف المريد" "32-33"، و"الاقتصاد في الاعتقاد" "102-110" للغزالي، و"أصول الدين" "262-263" للبغدادي، و"أصول الدين" للرازي "92-94". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 .........................................................................   = مَفْسَدَةٌ كَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالشَّارِعِ، لَا مَجَالَ للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما؛ فهو الواضع لها مصلحة، وإلا؛ فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء العقل فيها بحسن ولا قبح، فإذًا؛ كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس". وهذا بالضبط هو كلام الجويني وغيره من أئمة الأشاعرة، ولهذا القول لوازم فاسدة قد التزموها وقالوا بها، منها كما يقول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 42-52": إنه يجوز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وإنه ليس بقبيح، وإنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وإنه لا يقبح منه، وإنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع، وإنه لا يقبح الشرك ولا عبادة الأصنام، ولا مسبة المعبود سبحانه، وإنه لا يقبح الزواج بالأم والبنت، وغير ذلك من اللوازم التي انبنت على أن هذه الأشياء لم تقبح بالعقل، وإنما جهة قبحها السمع فقط. وهذه كلها لوازم فاسدة تدل على فساد الملزوم، بل ويلزم على قولهم هذا أنه يصح أن يأمر الله بالشرك؛ فلا يكون قبيحا، وبالزنى والسرقة والظلم وسائر المنكرات؛ فلا يكون ذلك قبيحا، ويجوز عندهم أن ينهى سبحانه عن التوحيد والعفة والصدق والعدل؛ فتكون هذه كلها قبيحة، كما قال الإيجي في "المواقف" "323": "ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر". القول الثاني: وهو مذهب المعتزلة على اختلاف بينهم في التفصيلات، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، وهذا القول يقع في مقابل القول الأول؛ إذ الحسن والقبح عند هؤلاء عقليان، لا يتوقف في معرفتهما وأخذهما عن الدليل السمعي، ويجعلون الحسن والقبح صفات ذاتية للفعل لازمة له، ويجعلون الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات، ترى تفصيل ذلك في "مجموع الفتاوى" "8/ 431 و11/ 677"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492"، و"مدارج السالكين" "1/ 238"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 8، 39، 105"، و"شرح الأصول الخمسة" "41، 46"، و"سلم الوصول شرح نهاية السؤل" "1/ 83"، و"إرشاد الفحول" "7". ورتب المعتزلة على هذا الأصل أمورا عديدة، منها: أن القبح في العقل يترتب عليه الذم والعقاب في الشرع، والحسن في العقل يترتب عليه المدح والثواب في الشرع، وأن الله -سبحانه وتعالى- يجب عليه أن يفعل ما استحسنه العقل ويحرم عليه أن يفعل ما استقبحه العقل، وأن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 .........................................................................   = المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به فقط؛ كالصدق، والعفة، والإحسان، والعدل؛ فإن مصالحها ناشئة منها، وغير ذلك من الأمور المترتبة على هذا الأصل الفاسد واللوازم الملازمة له، كما بينه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 59-60 و105". القول الثالث: هو القول الوسط بين هاتين الطائفتين، والطريق القاصد بين الطريقين الجائرين, إذ قال أصحابه, كما في "مفتاح دار السعادة" "2/ 57": "ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حق وباطل، ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه، ونبطل ما معه من الباطل ونرده عليه؛ فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم, لبنا خالصا سائغا للشاربين". وحاصل هذا القول: أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكما في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحا لاستحقاق الأمر والنهي، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن، عملا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات الله سبحانه؛ فلا حكم إلا من الخطاب الشرعي، ولا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم. وهذا هو قول عامة السلف وأكثر المسلمين؛ كما في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 677"، وأهل هذا القول يوافقون الأشاعرة في أنه لا حكم بالثواب والعقاب والأمر والنهي في الفعل إلا جهة الوحي، وأن الحجة إنما تقوم على العباد بالرسالة، وأن الله لا يعذبهم قبل بعثة الرسل، ولا يطالبهم إلا بما بلغهم من أمر، ولا يعاقبهم إلا على ارتكاب ما نهاهم عنه. ويوافقون المعتزلة في أن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه، وأن الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل والشرع، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر، والعقول من تحسين الحسن والأمر به وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يجئ بما يخالف العقل والفطرة، ويوافقونهم في إثبات الحكمة لله تعالى، وأنه سبحانه لا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة، بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة. ومن الجدير بالذكر أن القول بإدراك العقل للمصالح والمفاسد لا يعني أن إدراكه تام مطلق، بل إنه يدرك ويعجز، ويصيب ويخطئ ... وقد بين ابن القيم هذه النقطة؛ فقال في "مفتاح دار = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ...........................................................................   = السعادة" "2/ 117": " ... بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفصيله أو قبحه؛ فيدركه العقل جملة، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما؛ فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد، وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه. فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي الشرائع بتقريره، وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه، وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك؛ فتأتي الشرائع ببيانه؛ فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من هو مفسدة في حقه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل؛ فلا تعلم إلا بالشرع؛ كالجهاد والقتل في الله، ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة، هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون ما تدركه من ذلك؛ فالحاجة إلى الرسل ضرورية، بل هي فوق كل حاجة؛ فليس العالم إلى شيء أحوج منهم إلى المرسلين, صلوات الله عليهم أجمعين ... ". وقد تعرض الشاطبي مرارا لبيان هذا القصور في إدراك العقل للمصالح والمفاسد، ترى ذلك في "الاعتصام" "2/ 321-322"، وكما سيأتي "ص537 و2/ 77 و3/ 210". انظر بسط المسألة في: "مفتاح دار السعادة" "2/ 2-118"، و"مدارج السالكين" "1/ 230-257، 91 و3/ 407، 488، 492"، و"شفاء الغليل" "435"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 90، 91 و428-432 و3/ 114-115 و11/ 675-687 و75/ 8 و16/ 235-363"، و"درء تعارض العقل والنقل" "8/ 492-493"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 300، 322"، و"لوامع الأنوار" "1/ 284-291"، و"روح المعاني" "14/ 94 و15/ 37-42"، و"تيسير التحرير" "1/ 283-387", و"حقيقة البدعة وأحكامها" "2/ 127-133"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص216-229". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَجَازَ إِبْطَالُ الشَّرِيعَةِ بِالْعَقْلِ، وَهَذَا مُحَالٌ بَاطِلٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا تَحُدُّ لِلْمُكَلَّفِينَ حُدُودًا؛ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ، وَاعْتِقَادَاتِهِمْ، وَهُوَ جُمْلَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَإِنْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَعَدِّي حَدٍّ وَاحِدٍ؛ جَازَ لَهُ تَعَدِّي جَمِيعِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ، وَتَعِدِي حَدٍّ وَاحِدٍ هُوَ مَعْنَى إِبْطَالِهِ؛ أَيْ: لَيْسَ هَذَا الْحَدُّ بِصَحِيحٍ، وَإِنْ جَازَ إِبْطَالُ وَاحِدٍ؛ جَازَ إِبْطَالُ السَّائِرِ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ لِظُهُورِ مُحاله. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ؛ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ رَأْيُ الظَّاهِرِيَّةِ1؛ لِأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَحَاصِلُهُ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَعْقُولِ جُمْلَةً، وَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْقِيَاسِ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَوَّلُونَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِلْعَقْلِ التَّخْصِيصُ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي نَحْوِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] ، و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الْأَنْعَامِ: 102] ، وَ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرَّعْدِ: 16] ، وَهُوَ نَقْصٌ مِنْ مُقْتَضَى الْعُمُومِ؛ فَلْتَجُزِ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَاهُ2، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ دون حد النقل كالمجاوزة   1 هم أصحاب داود بن علي الأصفهاني، ولكن الذي صح عن داود أنه يحتج بالقياس الجلي وينكر القياس الخفي فقط، والذي أنكر القياس مطلقا -خفيه، وجليه- طائفة من أصحابه زعيمهم أبو محمد علي بن حزم الأندلسي "خ". 2 في أن كلا منهما تصرف، ومن له النقص له الزيادة، هكذا يفهم هذا الاستدلال مجملا حتى يكون للدليل بعده فائدة جديدة، وهي أنهم* يشتركان في المعنى الخاص المطلوب بناء الإشكال عليه في قوله، ولما لم يعد ... إلخ؛ إلا أن تكون الواو في قوله: ولإن زائدة في النسخ، ثم يبقى النظر في أن أصل الدعوى هي تعدي حد الشرع وإبطاله بالعقل، سواء في ذلك النقص =   * في المطبوع: "أنها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لَهُ؛ فَكِلَاهُمَا إِبْطَالٌ لِلْحَدِّ عَلَى زَعْمِكَ، فَإِذَا جَازَ إِبْطَالُهُ مَعَ النَّقْصِ؛ جَازَ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَلَمَّا لَمْ يُعَدَّ هَذَا إِبْطَالًا لِلْحَدِّ؛ فَلَا يُعَدُّ الْآخَرُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلْأُصُولِيِّينَ قَاعِدَةً قَضَتْ بِخِلَافِ هَذَا الْقَضَاءِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ إِذَا كَانَ جَلِيًّا سَابِقًا لِلْفَهْمِ عِنْدَ ذِكْرِ النَّصِّ؛ صَحَّ تَحْكِيمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي النَّصِّ بِالتَّخْصِيصِ لَهُ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 1؛ فَمَنَعُوا -لِأَجْلِ مَعْنَى التَّشْوِيشِ2- الْقَضَاءَ مَعَ جَمِيعِ الْمُشَوِّشَاتِ، وَأَجَازُوا مَعَ مَا لَا يُشَوِّشُ مِنَ الْغَضَبِ؛ فَأَنْتَ تَرَاهُمْ تَصَرَّفُوا بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ فِي النَّقْلِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَصَّلْتَ, وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإِنْكَارُ تَصَرُّفَاتِ الْعُقُولِ بِأَمْثَالِ هَذَا إِنْكَارٌ لِلْمَعْلُومِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى مَا تقرر.   = والزيادة، وعليه؛ فكان المفهوم أنه يجعل نفس النقص مما يقتضيه العموم تعديا أيضا يعترض به، ويقول: إن ما أصلته هنا ينافيه أصل آخر، وهو تخصيص العقل؛ لأنه نقص, ثم يبني على تخصيص العقل، وكونه نقصا مما حده الشرع، الإشكال بالزيادة على الطريق الذي قرره كما راعى الإشكال بالزيادة والنقص في الإشكال الثالث، وقد وجه همته في الجواب عن الإشكال الثاني إلى طرف النقص فأبطله، ثم قال: "فلا يصح قياس المجاوزة عليه"، وهو يقتضي أنه راعى الاعتراض بالنقص مدرجا في قوله: "وهو نقص" يعني، وهذا إشكال، ثم أخذه مقدمة؛ فقال: فلتجز الزيادة". "د". 1 سيأتي تخريجه "ص411"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما. 2 أنكر هذه الكلمة جماعة من علماء اللغة؛ كأبي منصور، والحريري، وصاحب القاموس، وقالوا: إنها مولدة وصوابها التهويش، ومن المتأخرين من أجاز استعمالها وثوقا بذكر الجوهري لها في "صحاحه"؛ إذ هو مثبت فيقدم على النافي والمتحري للعربية الفصحى لا يكفيه في صحة الكلمة متى أنكرها طائفة من أئمة اللغة ولم يظفر لها بشاهد صحيح أن ترد في كتاب "الصحاح" الذي تركه مؤلفه في المسودة حتى يبيضه تلميذه إبراهيم بن صلاح الوراق، وتسربت فيه أغلاط كثيرة. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَيْسَ الْقِيَاسُ1 مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقُولِ مَحْضًا، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْأَدِلَّةِ، وَعَلَى حَسَبِ مَا أَعْطَتْهُ مِنْ إِطْلَاقٍ أَوْ تَقْيِيدٍ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّا إِذَا دَلَّنَا الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ، وَأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ، وَأَمَرَ بِهَا، وَنَبَّهَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْعَمَلِ بِهَا؛ فَأَيْنَ اسْتِقْلَالُ الْعَقْلِ بِذَلِكَ؟ بَلْ هُوَ مهتدٍ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، يَجْرِي بِمِقْدَارِ مَا أَجْرَتْهُ، وَيَقِفُ حَيْثُ وَقَفَتْهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ2 إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُنْفَصِلَةَ لَا تُخَصَّصُ3، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا تُخَصَّصُ؛ فَلَيْسَ مَعْنَى تَخْصِيصِهَا أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ فِي اللَّفْظِ الْمَقْصُودِ بِهِ ظَاهِرُهُ، بَلْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الْخِطَابِ، بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ؛ فالعقل مثله، فَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْبَقَرَةِ: 284] خَصَّصَهُ الْعَقْلُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ فِي الْعُمُومِ دُخُولُ ذَاتِ الْبَارِئِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ4, بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا عَدَا ذَلِكَ؛ فلم   1 تأمل لتأخذ جواب أصل الإشكال الأول؛ لأنه أوسع من إنكار القياس الذي تصدى للجواب عنه صراحة، أي؛ فالعقل تابع للأدلة وخادم لها، وهو ما ندعيه. "د". 2 انظر: "4/ 44". 3 ادعى المصنف فيما يأتي أن الشارع نقل ألفاظ العموم عن مدلولاتها اللغوية إلى معانٍ أخر، وصار له في هذه العمومات عرف يخالف عرف اللغة؛ فيكون العام الذي يراه الأصوليون مخصوصا بمنفصل مستعملا عنده في المراد منه فقط، وبهذا يخرج عن العام الذي دخله التخصيص، وستطلع إن شاء الله تعالى على ما يطعن في هذه الدعوى. "خ". 4 ودل الاستقراء للشريعة على أنها لا تصادم العقل بقلب الحقائق، وجعل المحال جائزا أو واجبا، وبذلك يكون العقل آخذا تصرفه في التخصيص من النقل وتحت نظره، أما مجرد قياس العقل على الأدلة الشرعية بدون هذه المقدمة؛ فإنه تسليم للإشكال، ونقض للأصل الذي أصله في المسألة؛ فتأمل. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 يَخْرُجِ الْعَقْلُ عَنْ مُقْتَضَى النَّقْلِ بِوَجْهٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُ الْمُجَاوِرَةِ1 عَلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَإِنَّ إِلْحَاقَ كُلِّ مُشَوِّشٍ بِالْغَضَبِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، وَإِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ بِالْقِيَاسِ سَائِغٌ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى التَّخْصِيصِ بِالْغَضَبِ الْيَسِيرِ؛ فَلَيْسَ مِنْ تَحْكِيمِ الْعَقْلِ، بَلْ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى التَّشْوِيشِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغَضَبَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مُشَوِّشٍ؛ فَجَازَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الْخِطَابِ. هَكَذَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، لَكِنْ خَصَّصَهُ الْمَعْنَى. وَالْأَمْرُ أَسْهَلُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَخْصِيصٍ؛ فَإِنَّ لَفْظَ غَضْبَانَ وَزْنُهُ فَعْلَانُ، وَفَعْلَانُ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ يَقْتَضِي الِامْتِلَاءَ مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ؛ فَغَضْبَانُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُمْتَلِئِ غَضَبًا؛ كَرَيَّانَ فِي الْمُمْتَلِئِ رِيًّا، وَعَطْشَانَ فِي الْمُمْتَلِئِ عَطَشًا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ2، فَكَأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا نَهَى عَنْ قَضَاءِ الْمُمْتَلِئِ غَضَبًا؛ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ شَدِيدُ الْغَضَبِ، أَوْ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْغَضَبِ، وَهَذَا هُوَ الْمُشَوِّشُ، فَخَرَجَ الْمَعْنَى عَنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا، وَصَارَ خُرُوجُ يَسِيرِ الْغَضَبِ عَنِ النَّهْيِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ، لَا بحكم   1 كذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة "المجاوزة" بالزاي. 2 ممن صرح بهذا المعنى عز الدين ابن جماعة؛ فقال في "كشف المعاني" "ص85" موجها تقديم الرحمن على الرحيم في البسملة: إن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمه والامتلاء منه، ولا يلزم منه الدوام؛ كغضبان، وسكران، ونومان، وصيغة فعيل لدوام الصفة ككريم، وظريف؛ فمعنى الرحمن الرحيم: العظيم الرحمة، الدائمها. قلت: انظر: "نظم الدرر" "1/ 26" للبقاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الْمَعْنَى، وَقِيسَ عَلَى مُشَوِّشِ الْغَضَبِ كُلُّ مُشَوِّشٍ؛ فَلَا تَجَاوُزَ لِلْعَقْلِ إِذًا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ عَلَى النَّقْلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَتْ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المقدمة الحادية عشرة : لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ1 شَرْعًا هُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ؛ صَارَ ذَلِكَ مُنْحَصِرًا فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، فَمَا اقْتَضَتْهُ؛ فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي طُلِبَ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْلَمَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ غَيْرَ أَنَّ الشَّأْنَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَصْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا انْحَصَرَتْ؛ انْحَصَرَتْ مَدَارِكُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، حَسْبَمَا يَأْتِي إن شاء الله2.   1 "إن المعتبر من العلم هو الذي دل عليه أدلة الشرع حال كونها تستقل -أي: تثبت- بحصر أي بعد، وحيث تحصر عند أحد؛ فإن العلم يحصر عنده بكل مدرك من مداركه" "ماء". 2 انظر: "3/ 165 وما بعد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المقدمة الثانية عشرة : مِنْ أَنْفَعِ طُرُقِ الْعِلْمِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى غَايَةِ التَّحَقُّقِ بِهِ أَخْذُهُ عَنْ أَهْلِهِ الْمُتَحَقِّقِينَ1 بِهِ عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، ثُمَّ عَلَّمَهُ وَبَصَّرَهُ، وَهَدَاهُ طُرُقَ مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ غَيْرَ أَنَّ مَا عَلَّمَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ مِنْهَا ضَرُورِيٌّ2، دَاخِلٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ مِنْ أَيْنَ وَلَا كَيْفَ، بَلْ هُوَ مَغْرُوزٌ فِيهِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، كَالْتِقَامِهِ الثَّدْيَ وَمَصِّهِ لَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَطْنِ إِلَى الدُّنْيَا -هَذَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ، وَكَعِلْمِهِ بِوُجُودِهِ، وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ- مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْقُولَاتِ. وَضَرْبٌ مِنْهَا بِوَسَاطَةِ التَّعْلِيمِ، شَعَرَ بِذَلِكَ أَوْ لَا؛ كَوُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، نَحْوِ مُحَاكَاةِ الْأَصْوَاتِ، وَالنُّطْقِ بِالْكَلِمَاتِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَكَالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي لِلْعَقْلِ فِي تَحْصِيلِهَا مَجَالٌ وَنَظَرٌ في المعقولات.   1 يأتي شرح التحقق "ص140 وما بعدها". 2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-139". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَكَلَامُنَا مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ وَتَبَصُّرٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مُعَلِّمٍ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْعِلْمِ دُونَ مُعَلِّمٍ أَمْ لَا؟ فَالْإِمْكَانُ مُسَلَّمٌ، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لا بد مِنَ الْمُعَلِّمِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ؛ كَاخْتِلَافِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ -وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ الْمَعْصُومَ- وَالْحَقُّ مَعَ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لَا يَشْتَرِطُ الْعِصْمَةَ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَهُمْ مُقِرُّونَ بِافْتِقَارِ الْجَاهِلِ إِلَى الْمُعَلِّمِ، عِلْمًا كَانَ الْمُعَلَّمُ أَوْ عَمَلًا، وَاتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْوُقُوعِ، وَجَرَيَانُ الْعَادَةِ بِهِ كافٍ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ قَالُوا: "إِنَّ الْعِلْمَ كَانَ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْكُتُبِ، وَصَارَتْ مَفَاتِحُهُ بِأَيْدِي الرِّجَالِ". وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْضِي بِأَنْ لَا بُدَّ فِي تَحْصِيلِهِ مِنَ الرِّجَالِ؛ إِذْ لَيْسَ وَرَاءَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ مَرْمًى عِنْدَهُمْ، وَأَصْلُ هَذَا فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ" 1 الْحَدِيثَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالرِّجَالُ هُمْ مَفَاتِحُهُ بِلَا شَكٍّ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِمَّنْ تَحَقَّقَ بِهِ، وَهَذَا أَيْضًا وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ؛ إِذْ مِنْ شُرُوطِهِمْ فِي الْعَالِمِ بَأَيِّ عِلْمٍ اتَّفَقَ؛ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأُصُولِهِ وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ، قَادِرًا عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ مَقْصُودِهِ فِيهِ، عَارِفًا بِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ، قَائِمًا عَلَى دَفْعِ الشُّبَهِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ فِيهِ، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَا اشْتَرَطُوهُ، وَعَرَضْنَا أَئِمَّةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَجَدْنَاهُمْ قَدِ اتَّصَفُوا بِهَا عَلَى الْكَمَالِ. غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ السَّلَامَةُ عَنِ الْخَطَأِ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ فروع كل علم إذا انتشرت   1 مضى تخريجه "ص97"، وهو في "الصحيحين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَانْبَنَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ اشْتَبَهَتْ، وَرُبَّمَا تُصُوِّرَ تَفْرِيعُهَا عَلَى أُصُولٍ1 مُخْتَلِفَةٍ فِي الْعِلْمِ الْوَاحِدِ فَأَشْكَلَتْ، أَوْ خَفِيَ فِيهَا الرُّجُوعُ إِلَى بَعْضِ الْأُصُولِ، فَأَهْمَلَهَا الْعَالِمُ مِنْ حَيْثُ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ تَعَارَضَتْ وُجُوهُ الشَّبَهِ فَتَشَابَهَ الْأَمْرُ، فَيَذْهَبُ عَلَى الْعَالِمِ الْأَرْجَحُ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ, وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ فَلَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ عَالِمًا، وَلَا يَضُرُّ فِي كَوْنِهِ إِمَامًا مُقْتَدًى بِهِ، فَإِنْ قَصَّرَ عَنِ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ؛ نَقَصَ عَنْ رُتْبَةِ الْكَمَالِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ الرُّتْبَةَ الْكَمَالِيَّةَ مَا لَمْ يُكَمِّلْ مَا نَقَصَ. فَصْلٌ: وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي النَّظَرِ2، وَهِيَ ثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا: الْعَمَلُ بِمَا عَلِمَ؛ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ مُطَابِقًا لِفِعْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ؛ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِأَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ، وَلَا أَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي عِلْمٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنٌ عَلَى الْكَمَالِ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ3، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.   1 ذكر صورا ثلاثا: إحداها فرع ينبني على فرع مبني على أصل؛ فيفهم أن كلا من الفرعين له أصل خاص به، فيشكل عليه الأمر، فيهمل الاستنباط ويقف، وقد لا يهتدي في بعض الفروع إلى أصل يرجعها إليه؛ فيقف ويهمل الاستنباط، وقد يكون الفرع من المشتبه بأصلين، ويذهب عن العالم الأرجح من وجوه الترجيح، فيأخذ بالمرجوح في الواقع أو يقف، والتمثيل للثلاثة لا يخفى عليك، وكلها لا تضر في كونه إماما؛ فقد توقف مالك كثيرا، ورجع عما ترجح عنده أولا كثيرا لأحد الأسباب السالفة "د". 2 لأن بعضها سبب للتحقق بالعلم وهي الثانية، وبعضها مرتب عليه وهي الأولى؛ فهي تتفق مع الشروط المتقدمة، من حيث حصول كل وإن اختلفت في الاعتبار. "د". 3 انظر: "5/ 262". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ رَبَّاهُ الشُّيُوخُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ؛ لِأَخْذِهِ عَنْهُمْ، وَمُلَازَمَتِهِ لَهُمْ؛ فَهُوَ الْجَدِيرُ بِأَنْ يَتَّصِفَ بِمَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. فَأَوَّلُ ذَلِكَ مُلَازَمَةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْذُهُمْ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى مَا يَرِدُ مِنْهُ، كَائِنًا مَا كَانَ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَدَرَ؛ فَهُمْ1 فَهِمُوا مَغْزَى مَا أَرَادَ بِهِ أَوَّلًا2 حَتَّى عَلِمُوا وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُعارض، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي لَا يَنْكَسِرُ قَانُونُهَا، وَلَا يَحُومُ النَّقْصُ حَوْلَ حِمَى كَمَالِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْمُلَازَمَةِ، وَشِدَّةِ الْمُثَابَرَةِ. وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ حَيْثُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: "بَلَى ". قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: "بَلَى ". قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: "يابن الْخَطَّابِ! إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أبدا ".   1 لعل قوله: "فهم" زائد أو محرف عن لفظ منه، وعليه يتعين أن يكون الشاهد في قصة عمر بدليل سائر المقدمات التي منها قوله، وفيه قال سهل بن حنيف. وقوله: وَالِانْقِيَادِ لِلْعُلَمَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْإِشْكَالِ، وقوله: ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم ... إلخ، وبه ينتظم المقام كله, ويأخذ بعضه بحجز بعض؛ فالأمر لم يشكل على أبي بكر، بل على عمر، ولكنه صبر حتى لاح البرهان "د". 2 في "م": "أولا"! ولا وجود لها في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فَانْطَلَقَ عُمَرُ وَلَمْ يَصْبِرْ، مُتَغَيِّظًا، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ؛ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَفَتح هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ ". فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ1. فَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ الْمُلَازَمَةِ، وَالِانْقِيَادِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْإِشْكَالِ؛ حَتَّى لَاحَ الْبُرْهَانُ لِلْعِيَانِ. وَفِيهِ قَالَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ يَوْمَ صِفِّينَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، وَاللَّهِ؛ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ2 وَلَوْ أَنَّى أَسْتَطِيعُ أن أرد أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَرَدَدْتُهُ"3، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا عَرَضَ لَهُمْ فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3182، وكتاب التفسير، باب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، 8/ 587/ رقم 4844"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785", وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 222"، وعنده: "فطابت نفسه، ورجع"، وفي سائر النسخ: "ولم يضيعني" في الموطنين والمثبت من "ط". 2 سمي يوم الحديبية يوم [أبي] جندل؛ إذ لم يقع في ذلك اليوم أشد على المسلمين من قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو؛ إذ جاء يوسف في قيوده فارا من مشركي قريش، ورده النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أبيه سهل وفاء بما شرطوه في عقد الصلح من أن يرد عليهم من يأتيه منهم وإن كان على دين الإسلام. "خ". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب منه، 6/ 281/ رقم 3181، وكتاب المغازي، [باب] غزوة الحديبية، 7/ 457/ رقم 4189، وكتاب التفسير، باب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، 8/ 587/ رقم 4844، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 13/ 282/ رقم 7307"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3/ 1411-1412/ رقم 1785"، وأحمد في "المسند" "3/ 485"، والحميدي في "المسند" "رقم 404"، والبيهقي في "السنن" "9/ 222". 1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الْفَتْحِ بَعْدَ مَا خَالَطَهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ؛ لِشِدَّةِ الْإِشْكَالِ عَلَيْهِمْ، وَالْتِبَاسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُمْ سَلَّمُوا وَتَرَكُوا رَأْيَهُمْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَزَالَ الْإِشْكَالُ وَالِالْتِبَاسُ. وَصَارَ مِثْلُ ذَلِكَ أَصْلًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَالْتَزَمَ التَّابِعُونَ فِي الصَّحَابَةِ سِيرَتَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى فَقُهُوا، وَنَالُوا ذِرْوَةَ الْكَمَالِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحَسْبُكَ مِنْ صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّكَ لَا تَجِدُ عَالِمًا اشْتَهَرَ فِي النَّاسِ الْأَخْذُ عَنْهُ إِلَّا وَلَهُ قُدْوَةٌ وَاشْتُهِرَ فِي قَرْنِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَلَّمَا وُجِدَتْ فِرْقَةٌ زَائِغَةٌ، وَلَا أَحَدٌ مُخَالِفٌ لِلسَّنَةِ1 إِلَّا وَهُوَ مُفَارِقٌ لِهَذَا الْوَصْفِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ التَّشْنِيعُ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ2، وَأَنَّهُ لَمْ يُلَازِمِ الْأَخْذَ عَنِ الشُّيُوخِ، وَلَا تَأَدَّبَ بِآدَابِهِمْ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ. وَالثَّالِثَةُ: الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ أَخَذَ عَنْهُ3، وَالتَّأَدُّبُ بِأَدَبِهِ، كَمَا عَلِمْتَ مِنِ اقْتِدَاءِ الصَّحَابَةِ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقْتِدَاءِ التَّابِعِينَ بِالصَّحَابَةِ، وهكذا في كل قرن، وبهذا   1 في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة". 2 هو الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي، كان شافعي المذهب ثم صار ظاهريا، وبلغ من الذكاء وغزارة العلم منزلة فائقة؛ فألف الكتب القيمة، وناضل عن كثير من حقائق الدين بالحجج الباهرة، ولكنه لم يهذب حاشية منطقه؛ فكان يرمي بشرر من عبارات الازدراء والغضاضة من شأن أئمة السلف، ولم يحتمل منه علماء عصره هذه السيرة الشاذة؛ فنهضوا في وجهه ودارت بينه وبينهم المناظرات حتى امتدت إليه يد الدولة وأبعدته عن وطنه، وتوفي بالبادية رحمه الله سنة "456". "خ". 3 أخص من الأمارة الأولى؛ لأن الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه بعض العمل بما علم، وقد يؤخذ من وصفه لمالك بميزته عن أضرابه المجتهدين في هذه الأمارة، أنه لا يلزم من العمل بما علم أن يكون مقتديا بمن أخذ عنه، بل يغلب عليه العمل بما يراه باجتهاده، وإن لم يظهر عليه التأسي بنوع آداب أستاذه؛ تكون أمارة مستقلة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الْوَصْفِ امْتَازَ مَالِكٌ عَنْ أَضْرَابِهِ -أَعْنِي: بِشِدَّةِ الِاتِّصَافِ بِهِ- وَإِلَّا؛ فَالْجَمِيعُ مِمَّنْ يُهْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ، كَذَلِكَ كَانُوا، وَلَكِنَّ مَالِكًا اشْتُهِرَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا تُرِكَ هَذَا الْوَصْفُ؛ رَفَعَتِ الْبِدَعُ رُءُوسَهَا لِأَنَّ تَرْكَ الِاقْتِدَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرٍ حَدَثَ عِنْدَ التَّارِكِ، أَصْلُهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى1. فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ أَهْلِهِ؛ فَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُشَافَهَةُ، وَهِيَ أَنْفَعُ الطَّرِيقَيْنِ وَأَسْلَمُهُمَا؛ لِوَجْهَيْنِ2: الْأَوَّلُ: خَاصِّيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، يَشْهَدُهَا كُلُّ مَنْ زَاوَلَ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءُ؛ فَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ يَقْرَؤُهَا الْمُتَعَلِّمُ فِي كِتَابٍ، وَيَحْفَظُهَا وَيُرَدِّدُهَا عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَفْهَمُهَا، فَإِذَا أَلْقَاهَا إِلَيْهِ الْمُعَلِّمُ فَهِمَهَا بَغْتَةً، وَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا بِالْحَضْرَةِ, وَهَذَا الْفَهْمُ يَحْصُلُ إِمَّا بِأَمْرٍ عَادِيٍّ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالٍ، وَإِيضَاحِ مَوْضِعِ إِشْكَالٍ لَمْ يَخْطُرْ لِلْمُتَعَلِّمِ بِبَالٍ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ، وَلَكِنْ بأمر يهبه الله للمتعلم عِنْدَ مُثُولِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ، ظَاهِرَ الْفَقْرِ بَادِيَ الْحَاجَةِ إِلَى مَا يُلْقَى إِلَيْهِ. وَهَذَا لَيْسَ يُنكر؛ فَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ: "إِنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا أَنْفُسَهُمْ عِنْدَمَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"3، وَحَدِيثُ حنظلة الأسيدي؛ حين شكا إلى   1 انظر: المسألة الثانية من الطرف الثاني من الاجتهاد. 2 لم يذكر إلا وجها واحدا؛ فتأمل. 3 وقع نحوه وما يفيده؛ ففي "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت إذ أدرج في أكفانه/ رقم 1242" بسنده إلى عمر بن الخطاب؛ قال: "والله؛ ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها -أي: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 44]- فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مات. وأخرجه بلفظ المصنف عن أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2387"، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" "6/ 89"، وتتمته: "وكيف لا ننكر أنفسنا والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عِنْدَهُ وَفِي مَجْلِسِهِ كَانُوا عَلَى حَالَةٍ يَرْضَوْنَهَا، فَإِذَا فَارَقُوا مَجْلِسَهُ زَالَ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي؛ لَأَظَلَّتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا" 1. وَقَدْ قَالَ عُمر بْنُ الْخَطَّابِ: "وَافَقْتُ رَبِي فِي ثَلَاثٍ"2، وَهِيَ مِنْ فوائد   1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، 4/ 2106-2107/ رقم 2750"، وأحمد في "المسند" "4/ 346" عن حنظلة الأسيدي، بلفظ: "والذي نفسي بيده؛ لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة". واللفظ المذكور عند الطيالسي في "المسند" "رقم 1345"، وأحمد في "المسند" "4/ 346"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2452". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير، باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، 8/ 168/ رقم 4483, وباب في سورة الأحزاب, 8/ 527/ رقم 4790, وباب في سورة التحريم, 8/ 660/ 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه- 4/ 1865/ رقم 2399"، والنسائي في "التفسير" "الأرقام 18، 435، 623"، والترمذي في "الجامع" "4/ 69"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 322/ رقم 1009"، وأحمد في "المسند" "1/ 23-24، 36"، والدارمي في "السنن" "2/ 44" من قول عمر, رضي الله عنه. وقد جمع موافقات عمر وتكلم عليها في رسالة مفردة السيوطي في "قطف الثمر"، وهي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ؛ إِذْ يُفتح لِلْمُتَعَلِّمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا لَا يُفْتَحُ لَهُ دُونَهُمْ، وَيَبْقَى ذَلِكَ النُّورُ لَهُمْ بِمِقْدَارِ مَا بَقُوا فِي مُتَابَعَةِ مُعَلِّمِهِمْ، وَتَأَدُّبِهِمْ مَعَهُ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِ؛ فَهَذَا الطَّرِيقُ نَافِعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَقَدْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ لَا يَكْتُبُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ1؛ فَقِيلَ لَهُ: فَمَا نَصْنَعُ؟ قَالَ: تَحْفَظُونَ وَتَفْهَمُونَ حَتَّى تَسْتَنِيرَ قُلُوبُكُمْ، ثُمَّ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَى الْكِتَابَةِ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَرَاهِيَةُ الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا تَرَخَّصَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عِنْدَمَا حَدَثَ النِّسْيَانُ، وخِيفَ عَلَى الشَّرِيعَةِ الِانْدِرَاسُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: مُطَالَعَةُ كُتُبِ الْمُصَنِّفِينَ وَمُدَوِّنِي الدَّوَاوِينَ، وَهُوَ أَيْضًا نَافِعٌ فِي بَابِهِ؛ بِشَرْطَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ فَهْمِ مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ، وَمَعْرِفَةِ اصْطِلَاحَاتِ أَهْلِهِ؛ مَا يَتِمُّ لَهُ بِهِ النَّظَرُ فِي الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مُشَافَهَةِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ مِمَّا هُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: "كَانَ الْعِلْمُ   = مطبوعة ضمن "الحاوي للفتاوى"، واعتنى بها عناية جيدة ابن شبة في "تاريخ المدينة"، وذكر طرفا منها ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص97 وما بعدها، ترجمة عمر". وكتب "خ" هنا ما نصه: "بيان الثلاث في بقية هذا الأثر المروي في "صحيح البخاري"، وهي آية الحجاب، وآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، وآية: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ، ولا بدع أن ينطق الفاروق بما يوافق الوحي؛ فإن الشرائع تنزل لبيان الحقائق والإرشاد إلى المصالح، وكثير من القضايا والوقائع لا يلتبس على ذوي البصائر النقية والمدارك الراقية وجه كونها حقا أو مصلحة". 1 كان يكره الكتابة، ويقول: "لا تكتبوا "يعني ما يفتيهم به"؛ فلعله يتغير رأيي، فتذهب الكتابة إلى الأقطار قبل أن يستقر الحكم؛ فيحصل للناس بذلك ضرر، وإلا؛ فقد دون "الموطأ". "د". قلت: وانظر ما سيأتي "5/ 332". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْكُتُبِ، وَمَفَاتِحُهُ بِأَيْدِي الرِّجَالِ"، وَالْكُتُبُ وَحْدَهَا لَا تُفِيدُ الطَّالِبَ مِنْهَا شَيْئًا، دُونَ فَتْحِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مُعْتَادٌ. وَالشَّرْطُ الْآخَرُ1: أَنْ يَتَحَرَّى كُتُبَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُرَادِ؛ فَإِنَّهُمْ أَقْعَدُ2 بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَصْلُ ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ وَالْخَبَرُ. أَمَّا التَّجْرِبَةُ3؛ فَهُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فِي أَيِّ عِلْمٍ كَانَ، فَالْمُتَأَخِّرُ لَا يَبْلُغُ من   1 في النسخ المطبوعة: "والشرط الثاني"، وما أثبتناه في الأصل المخطوط. 2 أي: أثبت. "ماء". 3 قال أبو عبيدة: خاطب الشاطبي بعض مستفتيه؛ فقال في "فتاويه" "120-122": " ... ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة؛ فلم يكن ذلك مني -بحمد الله- محض رأيي، ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهم؛ ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع، لكنها محض النصيحة". وقد بين الونشريسي -رحمه الله تعالى- في "المعيار العرب" "11/ 142" ما أبهمه المصنف؛ فقال: "العبارة الخشنة التي أشار إليها كان رحمه الله ينقلها عن شيخه أبي العباس أحمد القباب، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن الحاج وابن شاس: أفسدوا الفقه". ونقل السراج في "الحلل السندسية" "1/ 2/ 665" عن الشيخ أحمد بابا توضيحا لوجه الفساد المذكور؛ فقال: "كأنه يعني بذلك أن الأخيرين أدخلا جملة من مسائل من "وجيز الغزالي" في المذهب مع مخالفتهما له، كما نبه عليها الناس، والأول بنى فروعا على قواعد أصولية وأدخلها في المذهب كذلك، ومسائل المذهب لا تجري جميعها على قواعد الأصول". وفي "الحلل السندسية" "1/ 3/ 656" و"سلوة الأنفاس" "3/ 245" ذكر لمحاورة جرت بين أبي العباس أحمد بن قاسم القباب "ت حوالي سنة 779هـ" وابن عرفة، وكان قد شرع آنذاك في تأليفه؛ فقال له القباب: "ما صنعت شيئا. فقال ابن عرفة: ولم؟ قال: لا يفهمه المبتدئ، ولا يحتاج إليه المنتهي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الرُّسُوخِ فِي عِلْمٍ مَا يَبْلُغُهُ الْمُتَقَدِّمُ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ عِلْمٍ عَمَلِيٍّ أَوْ نَظَرِيٍّ؛ فَأَعْمَالُ الْمُتَقَدِّمِينَ -فِي إِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ- عَلَى خِلَافِ أَعْمَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَعُلُومُهُمْ فِي التَّحْقِيقِ أَقْعَدُ، فَتَحَقُّقُ الصَّحَابَةِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ لَيْسَ كَتَحَقُّقِ التَّابِعِينَ، وَالتَّابِعُونَ لَيْسُوا كَتَابِعِيهِمْ، وَهَكَذَا إِلَى الْآنِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ، وَأَقْوَالَهُمْ، وَحِكَايَاتِهِمْ؛ أَبْصَرَ الْعَجَبَ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْخَبَرُ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" 1، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ قَرْنٍ مَعَ مَا بَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ" 2، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا مَعَ قِلَّةِ الْخَيْرِ، وَتَكَاثُرِ الشَّرِّ شيئا بعد   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب فضائل أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 7/ 3/ رقم 3651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، 4/ 1962/ رقم 2533" من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- بلفظ: "خير الناس ... ". 2 أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 114"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 98-99/ رقم 233، 235"، من حديث أبي عبيدة، والطيالسي "رقم 228"، ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" "2/ 177/ رقم 873"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 367 و20/ رقم 91"، والبيهقي في "السنن" "8/ 159" و"الدلائل" "6/ 340" و"الشعب" "5/ 16-17/ رقم 5616" من حديث معاذ وأبي عبيدة، وأحمد "4/ 273"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "رقم 234" من حديث حذيفة، والحربي -كما قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 251"- من حديث أبي ثعلبة، جميعهم رفعوه بألفاظ مقاربة. وأخرجه نعيم "رقم 236" موقوفا على عمر، و"رقم 237، 238"، من قول كعب، و"رقم 239" من مذاكرة أبي عبيدة وبشير بن سعيد، والداني في "الفتن" "رقم 334" عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا. وفي أسانيدها مقال، ولها شاهد صحيح -عدا جملة باطلة في آخره- من حديث حذيفة، انظره في "السلسلة الصحيحة" "رقم 5"، وانظر: "ضعيف الجامع" "رقم 1578"، وقال "ماء": "عضوض؛ أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعصفون عضا، والعضوض من أبنية المبالغة، وفي رواية: ملوك عضوض, وهو جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس، أي: سيئ الخلق، وفي حديث أبي بكر, رضي الله عنه: "وسترون بعدي ملكا عضوضا" ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 شَيْءٍ1، وَيَنْدَرِجُ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَ الْإِطْلَاقِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ عَامٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ عام أمطر من عام، ولا عام أخضب مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ، ثُمَّ يَحْدُثُ قَوْمٌ يقيسون الأمور برأيهم2؛ فيهدم الإسلام ويثلم"3.   1 وانظر في ترجيح فعل السلف المتقدمين على غيرهم: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4، 9، 10، 23، 157 و5/ 1-11 و11/ 366-373". 2 يطلق القياس في سياق الذم مضافا إلى الرأي، وإنما يراد به القياس الباطل، وهو ما لم يتحقق فيه شروط الصحة؛ كأن يكون مخالفا لنص، أو لا يقوم بجانبه دليل يشهد بأن المعنى المشترك بين صورتي المقيس والمقيس عليه هو العلة في تقرير الحكم المنصوص عليه. "خ". 3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 65"، والفسوي في "المعرفة" "3/ 393"، وابن أبي زمنين في "السنة" "10"، وابن وضاح في "البدع" "ص33"، والطبراني في "الكبير" "9/ 109"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 182"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 205"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2007، 2008، 2009، 2010"، والهروي في "ذم الكلام" "ق 37/ أ" من طرق مدارها على مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف؛ لضعف مجالد واختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 180": "وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط"، ومع هذا؛ فقد جوده ابن حجر في "فتح الباري" "13/ 20". نعم، هو جيد من طرق أخرى، أخرجه يعقوب بن شيبة، أفاده ابن حجر أيضا "13/ 21". وأوله محفوظ في حديث أنس مرفوعا. أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، 13/ 19-20/ رقم 7068"، وغيره بسنده إلى الزبير بن عدي؛ قال: "أتينا أنس بن مالك؛ فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج؛ فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم, صلى الله عليه وسلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَمَعْنَاهُ مَوْجُودٌ فِي "الصَّحِيحِ" فِي قَوْلِهِ: "وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ؛ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فيَضلون ويُضلون" 1. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ". قِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: "النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الذين يصلحون عند فساد الناس " 2.   1 مضى تخريجه "ص97". 2 الحديث دون ذكر "من هم الغرباء" أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، 1/ 130/ رقم 415" من حديث أبي هريرة وابن عمر, رضي الله عنهم. وأخرجه مع تفسيرهم بـ"النزاع من القبائل" الترمذي في "العلل الكبير" "2/ 854"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1320/ رقم 3988"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 236" -ومن طريقه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 398"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 4975"، والآجري في "الغرباء" "رقم 2"، وابن وضاح في "البدع" "ص65"، والخطابي في "غريب الحديث" "1/ 174-175"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص23"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 64"، وابن حزم في "الإحكام" "8/ 37"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 298"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 208". وقال البخاري, كما نقل عنه الترمذي في "العلل": "وهو حديث حسن"، وصححه البغوي. وأخرجه مع تفسيرهم بـ"الذين يصلحون عند فساد الناس": الداني في "السنن الواردة في الفتن" "رقم 288"، والآجري "رقم 1" من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح. وأخرجه أحمد وابنه عبد الله في "المسند" "1/ 184"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 99/ رقم 756"، والبزار في "المسند" "رقم 56- مسند سعد" -دون زيادة- والدورقي في "مسند سعد" "رقم 87"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 424"، والداني في "الفتن" "رقم 290" بإسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ: "إِنَّ لِلْإِسْلَامِ عُرًى يَتَعَلَّقُ النَّاسُ بِهَا، وَإِنَّهَا تَمْتَلِخُ عُرْوَةً عُرْوَةً"1. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: "تَذْهَبُ السُّنَّةُ سُنَّةً سُنَّةً، كَمَا يَذْهَبُ الْحَبْلُ قُوَّةً قُوَّةً"2. وَتَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} الْآيَةَ [النَّصْرِ: 1] , ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لِيَخْرُجُنَّ مِنْ دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، كَمَا دَخَلُوا فيه أفواجا " 3.   1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 174-ط عمرو سليم، ورقم 190-ط بدر" بسند ضعيف فيه نعيم بن حماد. 2 القائل هو عبد الله بن محيريز، وأسند هذه المقولة عنه الدارمي في "السنن" "رقم 98"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 93"، وابن وضاح في "البدع" "ص66"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 226"، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 144"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "ص12". 3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 41"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 496"، والداني في "الفتن" "رقم 417" مرفوعا -وليس موقوفا كما ذكر المصنف- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: تلا رسول الله, صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ... } وذكره، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي. قلت: وفيه أبو قرة -وتصحف في جميع مصادر التخريج إلى "فروة"؛ فليصحح- مولى أبي جهل، ترجمه ابن أبي حاتم "9/ 428" ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكذا ابن عبد البر في "الاستغناء" "3/ 1516"، ثم ظفرت به موقوفا عند ابن وضاح في "البدع" "رقم 199-ط بدر"، وفيه: "قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة" "وذكره". وهذا إسناد ضعيف لإعضاله، وسقط سنده ومتن الأثر الذي قبله في "ط عمرو عبد المنعم" وهو فيه برقم "182". وله شاهد عن جابر بن عبد الله مرفوعا، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 343"، والداني في "الفتن" "رقم 420"، وابن بطة في "الإبانة" "137"، والثعلبي في "تفسيره" -كما في "تفسير القرطبي" "20/ 231"- وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" "8/ 664"- عن جار لجابر عنه، وسنده ضعيف، قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 281": "رواه أحمد، و [جار] جابر لم أعرفه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: "أَتَدْرُونَ كَيْفَ يَنْقُصُ الْإِسْلَامُ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ، كَمَا يَنْقُصُ صِبْغُ الثَّوْبِ، وَكَمَا يَنْقُصُ سِمَن الدَّابَّةِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "ذَلِكَ مِنْهُ"1. وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [الْمَائِدَةِ: 3] ، بَكَى عُمَرُ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ [لَهُ] 2: "مَا يُبْكِيكَ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ؛ فَلَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا نَقَصَ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "صَدَقْتَ" 3. وَالْأَخْبَارُ هُنَا كَثِيرَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ الْعِلْمُ؛ فَهُوَ إِذًا فِي نَقْصٍ بِلَا شَكٍّ. فَلِذَلِكَ صَارَتْ كُتُبُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَكَلَامُهُمْ وَسِيَرُهُمْ؛ أَنْفَعُ لِمَنْ أَرَادَ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِلْمِ، عَلَى أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، وخصوصا علم الشريعة4، الذي هو   1 أخرجه ابن وضاح في "البدع" "رقم 201-ط بدر، ورقم 184-ط عمرو". وإسناده صحيح. 2 ساقطة من الأصل. 3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140-ط دار الفكر"، وابن جرير في "التفسير" "6/ 52"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154"، وابن وضاح في "البدع" "رقم 202" بإسناد ضعيف، وهو منقطع. قال ابن كثير في "التفسير" "2/ 14": "ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا ". قلت: ومضى تخريجه قريبا. 4 كتب المتقدمين في العلوم الإسلامية مقاصد كانت أو وسائل هي أحكم صنعا وأشد صلة بروح الموضوع من كتب المتأخرين، ولا سيما منذ أصبحت سوق الاختصار نافقة، وقد صرح المصنف في مراسلة دارت بينه وبين بعض أصحابه في هذا الغرض بأنه يعني بالمتأخرين من الفقهاء مثل ابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهما. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، والوَزَر الْأَحْمَى1، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.   1 الوزر: الملجأ. والأحمى: الممنوع. انظر: "لسان العرب" "وز ر"، و"ح م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 المقدمة الثالثة عشرة : كُلُّ أَصْلٍ عِلْمِيٍّ يُتَّخَذُ إِمَامًا فِي الْعَمَلِ؛ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ بِهِ الْعَمَلُ عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ فِي مِثْلِهِ، بِحَيْثُ لَا يَنْخَرِمُ مِنْهُ رُكْنٌ وَلَا شَرْطٌ، أَوْ لَا، فَإِنْ جَرَى؛ فَذَلِكَ الْأَصْلُ صَحِيحٌ، وَإِلَّا؛ فَلَا. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا يُرَادُ -بِالْفَرْضِ- لِتَقَعَ الْأَعْمَالُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وَفْقِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ، كَانَتِ الْأَعْمَالُ قَلْبِيَّةً أَوْ لِسَانِيَّةً، أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَإِذَا جَرَتْ فِي الْمُعْتَادِ عَلَى وَفْقِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ؛ فَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِلَّا؛ لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عِلْمًا لِتَخَلُّفِهِ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ انْقِلَابِ الْعِلْمِ جَهْلًا. وَمِثَالُهُ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الَّذِي نَحْنُ فِي تَأْصِيلِ أُصُولِهِ: أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ فِي أُصُولِ الدِّينِ1 امْتِنَاعُ التَّخَلُّفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَبَرِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطاق، وَأُلْحِقَ2 بِهِ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِمَا فِيهِ حَرَجٌ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، فَإِذًا؛ كَلُّ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ تَخَلَّفَ عَنْ جَرَيَانِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَجَارِي، فَلَمْ يَطَّرِدْ، وَلَا اسْتَقَامَ بِحَسَبِهَا فِي العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه.   1 في الأصل و"ط": "الأصول الدينية". 2 في الأصل و"ط": "لحق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَلَا قَاعِدَةٍ يُسْتَنَدُ إِلَيْهَا. وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي فَهْمِ الْأَقْوَالِ، وَمَجَارِي1 الْأَسَالِيبِ، وَالدُّخُولِ فِي الْأَعْمَالِ. فَأَمَّا فَهْمُ الْأَقْوَالِ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 141] ، إِنْ حُمل عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ؛ لَمْ يَسْتَمِرَّ مُخْبَرُهُ لِوُقُوعِ سَبِيلِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَثِيرًا بِأَسْرِهِ وَإِذْلَالِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا عَلَى مَا يُصَدِّقُهُ الْوَاقِعُ وَيَطَّرِدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَعَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُحمل2.   1 معطوف على الأقوال، والأول معناه أن القول في ذاته بقطع النظر عن أقوال أخرى سبقته أو لحقته يختلف الفهم فيه بين صحيح وغيره، أما الفهم في مجاري الأساليب؛ فإنه ينظر فيه إلى أن فهمه على صحته يقتضي التوفيق بين المساق جميعه وعدم مخالفته السابق واللاحق. "د". 2 كتب بعض الفضلاء* في التعليق على هذا الموضع أنه: "يجوز بقاء الآية على معنى الخبر، ويكون المراد من المؤمنين: جماعة المسلمين العاملين بما يقتضيه الإيمان الراسخ؛ من الاستعداد، والاتحاد، والثبات"، وقال: "إن التاريخ يشهد بأن المسلمين لا يغلبون على أمرهم ما داموا كذلك"**. ولكن هذا يقتضي أمورا قد لا تسلم؛ منها أنهم يعطون من ذلك ما لم يعطه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حياته، وأنت تعلم ما حصل لهم في مكة، وانفرادهم في شعب أبي طالب، وإذلال الكثير منهم، وهجرتهم إلى الحبشة، وغيرها. ومنها: أن تاريخ الحروب الصليبية -وكان في عز الإسلام واستمر قرونا- كان الأمر فيه تارة للمسلمين وتارة عليهم بأخذ بلادهم، والاستيلاء على بيت المقدس، وانكماش دولتهم، وآية: =   * هو الشيخ محمد الخضر حسين, رحمه الله تعالى. ** ونص عبارته الثانية: "والتاريخ الصادق يشهد بأن الممالك الإسلامية لا تزال تتمتع باستقلالها آمنة من أن يغلبها العدو على أمرها وينشب مخالبه في مقاتلها؛ إلا حيث ينفضون أيديهم من وسائل الدفاع، أو يسري بينهم داء التفرق، أو يخالط قلوبهم الفزع واليأس". "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [الْبَقَرَةِ: 233] ، إِنْ حُمل عَلَى أَنَّهُ تَقْرِيرُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ اسْتَمَرَّ وَحَصَلَتِ الْفَائِدَةُ، وَإِنْ حُمل عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَاتِ؛ لَمْ تَتَحَكَّمْ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ1 عَلَى مَا عُلم قَبْلَ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَجَارِي الْأَسَالِيبِ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} إِلَخْ [الْمَائِدَةِ: 93] . فَهَذِهِ صِيغَةُ عُمُومٍ تَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا دُخُولَ كُلِّ مَطْعُومٍ، وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِي اسْتِعْمَالِهِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْخَمْرُ، لَكِنْ هَذَا الظَّاهِرُ يفسد جريان2   = {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ... [النور: 55] لا تدل على المعنى الذي يراد تحميله لهذه الآية، وما في هذه الآية الأخيرة قد أعطيه -عليه السلام- وأصحابه في حياته وبعد وفاته والمسلمون بعدهم؛ لأن تمكين الدين وتبديل الخوف أمنا لا يلزمه كل ما يراد من الآية الأولى باعتبار المعنى الذي يراد تحميلها إياه، وأنت ترى أن آية الوعد قيدت الإيمان بعمل الصالحات؛ بخلاف الآية المذكورة؛ فليس فيها إلا مجرد الإيمان المقابل للكفر، على خلاف آيات الوعد في القرآن؛ فإنها مقيدة بعمل الصالحات، ولا يخفى أن مجرد الإيمان كاف في تطبيق حكم أنه لا يتولى الكافر شئون المسلم في العقود وغيرها؛ فيكون هو الذي ينبغي تنزيل الآية عليه "د". 1 لم يقل: "لم يستمر"؛ لأن الاستمرار حاصل على كلا الفهمين، غايته أنه على الفهم الثاني لم توجد فيه فائدة زائدة؛ لأنه يكون مجرد إخبار بمجرى العادة المعروفة للناس بدون هذه الآية، فلتحقق الفائدة يلزم أن يكون إنشاء لتقرير ما جرت به العادة حكما شرعيا يرجع إليه في تقرير النفقات وغيرها؛ إلا أنه يبقى الكلام في التمثيل به لما ذكره؛ فإنه بصدد التمثيل لما يقتضي تخلف خبر الله ورسوله، أو لما يلزم عليه تكليف بما لا يطاق، أو بما فيه حرج زائد عن المعتاد، وليس في هذا واحد من هذه الثلاثة، بل شيء آخر، وهو أنه لم يفد فائدة جديدة، فلو زاد على الأمور الثلاثة أنه يلزم في خبر الله ورسوله أن يفيد فائدة جديدة؛ لم تكن معروفة، ثم فرع عليه هذا المثال لكان ظاهرا "د". 2 لأن آية تحريم الخمر السابقة في نفس الموضوع تقتضي تحريم الخمر نصا، وهذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الْفَهْمِ فِي الْأُسْلُوبِ، مَعَ إِهْمَالِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ؛ قَالَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] ، فَكَانَ هَذَا نَقْضًا لِلتَّحْرِيمِ، فَاجْتَمَعَ الْإِذْنُ وَالنَّهْيُ مَعًا؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْمُكَلَّفِ امْتِثَالٌ. وَمِنْ هُنَا خَطَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْرِيمِ فِي الْخَمْرِ، وَقَالَ لَهُ: "إِذَا اتَّقَيْتَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"1. إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْمُكَلَّفِ: "اجْتَنِبْ كَذَا"، وَيُؤَكَّدُ النَّهْيُ بِمَا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ فِيهِ جِدًّا، ثُمَّ يُقَالُ: "فإن فعلت؛ فلا جناح عليك".   = الظاهر ينافيها؛ فلا ينتظم السياق إلا بعدم دخول الخمر في العموم الظاهر؛ لئلا يلزم نقض التحريم، واجتماع النهي والإذن؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق فضلا عن إهمال السبب في النزول، وهو أنهم قالوا لما نزل تحريم الخمر: "كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ ". فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، يعني: ليس عليهم وزر لأنهم آمنوا واتقوا وما تعدوا ولا فعلوا ذلك بعد التحريم، وفضلا أيضا عن معارضة النص بالظاهر، ومعلوم أن النص هوالمقدم، ويكفي للتمثيل بالآية أن يكون فيها عدم جريان الفهم في الأسلوب، وإن كان هناك أسباب أخرى، كما أشار إليه بقوله: "مع إهمال السبب"، وبقوله: "بعد"، وأيضا؛ فإن الله أخبر، وكما أشرنا إليه في تقديم النص على الظاهر وتخصيص النص له. "د". 1 أي: ومنه الخمر التي تقتضي صحة الأسلوب تقرير حرمته، ولما كان هذا ضمن الوجوه التي يصح أن يني عمر عليها أن التقوى لا تكون إلا باجتنابها لتقرر تحريمها وعدم دخولها في هذا الظاهر؛ قال: "ومن هنا"، ولم يجزم فيقول: "ولذلك قال عمر"؛ فتأمل "د". قلت: وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة "9/ 546"، وابن المنذر بنحوه؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 174"، وسيأتي عند المصنف بأطول من هذا "ص272"، وأفاد هناك أنه عند القاضي إسماعيل في "الأحكام" وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 842-844"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/ 56"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 154". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ التَّحْرِيمِ كَالْمُنَافِي1 لِقَوْلِهِ: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْمَائِدَةِ: 93] ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِيقَاعُ كَمَالِ التَّقْوَى بَعْدَ تَحْرِيمِهَا إِذَا شُرِبَتْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَرَجِ أَوْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطاق. وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي الْأَعْمَالِ؛ فَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا أَدَّى الْقَوْلُ بِحَمْلِهِ عَلَى عُمُومِهِ إِلَى الْحَرَجِ2 أَوْ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا؛ فَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَلَا اطِّرَادٍ، فَلَا يَسْتَمِرُّ الْإِطْلَاقُ، وَهُوَ الْأَصْلُ أَيْضًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، لِمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِ مَوَارِدِهَا عَلَى عُمُومِهَا أَوْ إِطْلَاقِهَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ، حَتَّى تُقَيَّدَ بِالْقُيُودِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاطِّرَادِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَتَصِحَّ، وَفِي ضِمْنِهِ تَدْخُلُ أَحْكَامُ الرُّخَصِ، إِذْ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهَا، وَالْفَارِقُ بَيْنَ مَا تَدْخُلُهُ الرُّخْصَةُ وَمَا لَا. وَمَنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ فِي تَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لَمْ يَأْمَنِ الْغَلَطَ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَجِدُ خَرْمَ هَذَا الْأَصْلِ فِي أُصُولِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَالطَّوَائِفِ الْمَعْدُودِينَ فِي الْفِرَقِ الضَّالَّةِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِي ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ وَالشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَسَأُمَثِّلُ لَكَ بِمَسْأَلَتَيْنِ وَقَعَتِ الْمُذَاكَرَةُ بِهِمَا مَعَ بَعْضِ شيوخ العصر3:   1 أي: من حيث الكمال؛ كما يفيده كلامه "د". 2 تقتضي قاعدتا تعيين قدر المبيع في البيع وتحديد مدة الانتفاع بالمحل في الإجارة أن لا يجوز الدخول للحمام إلا بشرط تحديد مدة المكث به، وبيان مقدار ما يستعمل من الماء، ولكن وقع استثناء هذه المسألة وأعطيت حكم الإباحة بإطلاق لما في تقدير الماء المستعمل في الحمام، وتحديد مدة المقام به من المشقة القاضية بالرخصة والتيسير. "خ". 3 أفاد التنبكي في "نيل الابتهاج" "ص48" أن الشاطبي "تكلم مع كثير من الأئمة في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَتَبَ إِلِيَّ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغْرِبِ1 فِي فَصْلٍ يَتَضَمَّنُ "مَا يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْآخِرَةِ النَّظَرُ فِيهِ، وَالشُّغْلُ بِهِ"، فَقَالَ فِيهِ: "وَإِذَا شَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْ لَحْظَةٍ فِي صَلَاتِهِ؛ فَرَّغَ سِرَّهُ مِنْهُ، بِالْخُرُوجِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ يُساوي خَمْسِينَ أَلْفًا كَمَا فَعَلَهُ الْمُتَّقُونَ". فَاسْتَشْكَلْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُلْتُ2: أَمَّا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِتَفْرِيغِ السِّرِّ مِنْهُ؛ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّ تَفْرِيغَ السِّرِّ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَاجِبٌ؛ فَلَا أَدْرِي مَا هَذَا الْوُجُوبُ؟ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا بِإِطْلَاقٍ؛ لَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْخُرُوجُ عَنْ ضِيَاعِهِمْ، وَدِيَارِهِمْ، وقُراهم، وَأَزْوَاجِهِمْ، وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ3 مما يقع لهم   = مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم؛ كالقباب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله بن عباد؛ فجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها"، وأفاد ناسخ الأصل كما سيأتي أن ابن عرفة كتب للشاطبي في مسألة "مراعاة الخلاف"، ونقل عن "نوازل البرزالي" ذلك. قلت: وفي "المعيار المعرب" "6/ 387" ما يدل عليه وعلى أن أبا العباس القباب باحثه في ذلك، ثم وجدت في "الاعتصام" "2/ 146" قوله: "فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب -رحمة الله عليه- فكتب إلي ما نصه ... ". وأورد الونشريسي في "المعيار" "12/ 293" مراسلة بين المصنف والشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي النفري في علم التصوف ومدى ضرورة الشيخ في ذلك. 1 هو ابن القباب كما صرح به الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 20". 2 في "ط": "قلت له". 3 وهذا منتهى الحرج للأفراد، وتكليف الجميع به تكليف بما لا يطاق، وهو أيضا مخالف لما يقصده الشرع من المحافظة على الضروريات والحاجيات ... إلخ؛ فهو جار على غير استقامة. "د". وانظر رد المصنف على القشيري في مسألة الاشتراط على المريد أن يخرج من ماله في: "الاعتصام" "1/ 214-215". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بِهِ الشُّغْلُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَى هَذَا فَقَدْ يَكُونُ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَالِ سَبَبًا لِلشُّغْلِ فِي الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ شُغْلِهِ بِالْمَالِ. وَأَيْضًا؛ فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ هُوَ الشَّاغِلُ؛ فَمَاذَا يَفْعَلُ؟ فَإِنَّا نَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُ الشَّغْلُ بِسَبَبِ الْإِقْلَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ لَا يَجِدُ إِلَى إِغَاثَتِهِمْ سَبِيلًا، وَلَا يَخْلُو أَكْثَرُ النَّاسِ عَنِ الشُّغْلِ بِآحَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ أَفَيَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخُرُوجُ عَمَّا سَبَّبَ لَهُمُ الشُّغْلَ فِي الصَّلَاةِ؟ هَذَا مَا لَا يُفْهَمُ، وَإِنَّمَا الْجَارِي عَلَى الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ طَلَبُ مُجَاهَدَةِ الْخَوَاطِرِ الشَّاغِلَةِ خَاصَّةً، وَقَدْ يُندب إِلَى الْخُرُوجِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَشْغَلَهُ، مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ شَرْعًا، وَكَانَ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَقْدُهُ تَأْثِيرًا يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ مَا فَرَّ مِنْهُ أَوْ أَعْظَمَ، ثُمَّ يُنْظَرُ بعدُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الشُّغْلُ: كَيْفَ حَالُ صَاحِبِهَا مِنْ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، أَوِ اسْتِحْبَابِهَا، أَوْ سُقُوطِهَا؟ وله موضع غير هذا. ا. هـ حَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ؛ كَتَبَ إِلَيَّ بِمَا يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ فِيهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِطْلَاقِ الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ غَيْرُ جَارٍ فِي الْوَاقِعِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ؛ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ؛ فَلَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهُ أَصْلًا فِقْهِيًّا أَلْبَتَّةَ. وَالثَّانِيَةُ: مَسْأَلَةُ الْوَرِعِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ1؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَعُدُّونَ الْخُرُوجَ عَنْهُ فِي الْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ مَطْلُوبًا، وَأَدْخَلُوا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ المسائل المختلف فيها.   1 انظر في هذه المسألة: "مجموع ابن تيمية" "10/ 644، 522 و20/ 138، 139", و"الاعتصام" "1/ 214 و2/ 146"، و"بدائع الفوائد" "3/ 257"، و"تهذيب السنن" "1/ 60"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 129-130" -كلها للإمام ابن القيم- و"الإحكام" لابن حزم "6/ 745"، و"إيضاح السالك" للونشريسي "160"، و"فتح الباري" "1/ 27"، و"الفواكه العديدة" "2/ 136"، و"الورع" للصنهاجي "ص37"، و"تمام المنة" "159"، و"رفع الحرج" ليعقوب الباحسين "ص137-182"، وما سيأتي "5/ 107 وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَلَا زِلْتُ مُنْذُ زَمَانٍ اسْتَشْكِلُهُ؛ حَتَّى كَتَبْتُ فِيهَا إِلَى الْمَغْرِبِ، وَإِلَى إِفْرِيقِيَّةَ؛ فَلَمْ يَأْتِنِي جَوَابٌ بِمَا يَشْفِي الصَّدْرَ، بَلْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِشْكَالَاتِ الْوَارِدَةِ؛ أَنَّ جُمْهُورَ مَسَائِلِ الْفِقْهِ1 مُخْتَلَفٌ فِيهَا اخْتِلَافًا يُعْتَدُّ بِهِ، فَيَصِيرُ إِذًا أَكْثَرُ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهُوَ خِلَافُ2 وَضْعِ الشَّرِيعَةِ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ صَارَ الْوَرَعُ مِنْ أَشَدِّ الْحَرَجِ؛ إِذْ لَا تَخْلُو لِأَحَدٍ فِي الْغَالِبِ عِبَادَةٌ، وَلَا مُعَامَلَةٌ، وَلَا أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ التَّكْلِيفِ، مِنْ خِلَافٍ يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ. فَأَجَابَ بَعْضُهُمْ3: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، الْمُخْتَلَفُ   1 جمهور الشيء أكثره، وهي دعوى تحتاج لإحصاء مسائل الشريعة مسألة مسألة، والوقوف على حصول خلاف في أكثرها بين مجتهدين مسلم لهم في الاجتهاد، ومنقول لنا خلافهم بطريق صحيح، ويكون الخلاف معتدا به كما يقول، وسيذكر في كتاب الاجتهاد أن هناك عشرة أسباب تجعل كثيرا من الخلافات غير معتد به خلافا، على أن الورع بعد هذا كله في مراعاة شرط أو ركن لم يقل به آخر، أو في تحريم شيء لم ير حرمته آخر، أو إيجاب شيء لم ير وجوبه آخر، أما الخلافات بين مباح ومندوب، وبين سنة ومباح، وبين طلب تقديم شيء وتأخيره، وهكذا من أمثال هذا الذي لا يترتب عليه حرمة ولا بطلان عبادة؛ فليس مما يقصد دخوله في ورع الخروج من الخلاف، وإذًا؛ فهل بقي بعد هذا أن الورع في ذلك من أشد أنواع الحرج؟ ذلك ما يحتاج إلى دقة نظر. "د". 2 سيأتي بيانه في المتشابه والمحكم في فصول ضافية. "د". 3 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "المراد بهذا البعض هو الشيخ الإمام ابن عرفة التونسي، كما يعلم ذلك بمراجعة أوائل "البرزالي"؛ فإنه ذكر ورود السؤال من بعض فقهاء غرناطة -يعني: المصنف- عن الشيخ ابن عرفة في مسائل عديدة، من جملتها هذه المسألة؛ فذكر عن السائل المذكور البحث فيها من سبعة أوجه: أحدها: أن الورع إما لتوقع العقاب أو ثبوت الثواب، وإلا؛ فليس بورع، أما الأول؛ فالإجماع على عدم تأثيم المخطئ في الفروع، وإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب؛ فالأمر واضح. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فِيهِ اخْتِلَافًا دَلَائِلُ أَقْوَالِهِ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ، وَلَيْسَ أَكْثَرُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ هَكَذَا، بَلِ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ أَقَلُّهَا، لِمَنْ تَأَمَّلَ مِنْ مُحَصِّلِي مَوَارِدِ1 التَّأَمُّلِ, وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ مِنْهَا إِلَّا الْأَقَلَّ، وَأَمَّا الْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ، وَلَوْ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطُّ؛ فَشَدِيدٌ مُشِقٌّ، لَا يُحَصِّلُهُ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ إِلَى كَثْرَةِ استحضار لوازم فعل المنهي   = وأما الثاني: فلأن المخطئ مأجور كالمصيب، وإذا قلنا: إن المصيب أكثر أجرا؛ فلعل الخطأ في الجهة التي إليها المتورع إذ المخطئ غير متعين. وثانيها: أن هذا الخروج لا يتصور، فإن المتورع إذا انكب عن الفعل المختلف فيه بالحل والحرمة؛ فقد رجع "الصحيح لغة: رجح" الضرب المحرم؛ إذ لم ينكب إلا خوف الإثم؛ فإن المنكب لأمر آخر ليس بورع. وثالثها: أن المتورع إن كان مجتهدا يعرض ما أداه إليه اجتهاده، فإن تعارضت الأدلة؛ فالترجيح، وإلا؛ فالوقف أو التخيير، وإن كان مقلدا؛ فإن قلد أحد المجتهدين لم يتمكن له في قضيته تلك أن يقلد الآخر، ولا أن يجمع بينهما لأنهما متضادان، ولا له أن ينظر لأنه ليس من أهل النظر. ورابعها: أن الورع بمثل هذا لم يثبت عن الصحابة والتابعين أنهم استعملوه، بل حديث "أصحابي كالنجوم" 1 مطلق في الاقتداء بهم، من غير تقييد ولا تنبيه على جهة الورع إذا اختلفوا على المقتدي. خامسها: أن ترجيح المتورع لأحد القولين فممنوع؛ لأنه إن كان بدليل فهو منصب المجتهد وحينئذ يكون عملا بأحدهما أو بالقول الثالث، وإن كان بغير دليل؛ فلا يصح باتفاق. سادسا: ما ذكره المصنف هنا وهو أن جمهور مسائل الفقه ... إلخ. سابعها: لأن عامل الورع في مسائل الخلاف الآخذ بالأشد وتتبع الأشد أبدا لمذهب لا يقصر عمن تتبع الرخص في الذم. فإن كان تتبع الرخص غير محمود، بل حكى ابن حزم الإجماع على أنه فسق لا يحل؛ فتتبع الشدائد غير محمود أيضا؛ لأنه تنطع ومشادة في الدين، وأجاب الإمام ابن عرفة عن هذه الأوجه كلها وأجاد في بعضها كل الإجادة، رحمه الله تعالى ونفعنا به، آمين. ا. هـ. 1 في النسخ المطبوعة الثلاث: "مواد".   1 الحديث منكر، كما سيأتي تفصيله "4/ 452". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ" 1، هَذَا مَا أَجَابَ بِهِ. فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ: بِأَنَّ مَا قَرَّرْتُمْ مِنَ الْجَوَابِ غَيْرُ بَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْمُجْتَهِدِ وَحْدَهُ، وَالْمُجْتَهِدُ إِنَّمَا يَتَوَرَّعُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، لَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقْوَالِ؛ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ؛ فَقَدْ نَصَّ صَاحِبُ هَذَا الْوَرَعِ الْخَاصِّ عَلَى طَلَبِ خُرُوجِهِ مِنَ الْخِلَافِ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَفْتَاهُ أَفْضَلَ الْعُلَمَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالْعَامِّيُّ -فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ- لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي دَلِيلُهُ أَقْوَى مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ وَالَّذِي دَلِيلُهُ أَضْعَفُ، وَلَا يَعْلَمُ: هَلْ تَسَاوَتْ أَدِلَّتُهُمْ أَوْ تَقَارَبَتْ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ، وَلَيْسَ الْعَامِّيُّ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا بُنِيَ الْإِشْكَالُ عَلَى اتِّقَاءِ الْخِلَافِ الْمُعْتَدِّ بِهِ، وَالْخِلَافُ الْمُعْتَدُّ بِهِ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ، وَالْخِلَافُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَلِيلٌ2؛ كَالْخِلَافِ فِي الْمُتْعَةِ3، وَرِبَا النَّسَاءِ، ومحاش4 النساء، وما أشبه ذلك.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها, باب منه 4/ 2174/ رقم 2823" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه. 2 أشرنا آنفا إلى أنه أكثر مواضع الخلاف، رجوعا إلى ما سيقرره في موضعه، وأن القليل هو الذي يعتد به خلافا. "د". 3 أبيحت المتعة في صدر الإسلام بداعية قلة النساء وطول مدة الاغتراب في سبيل الجهاد، ثم حرمت تحريما مؤبدا بقوله -عليه الصلاة والسلام- كما في "صحيح مسلم" "رقم 1406 بعد 21": "قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، ومن حكمة تحريمه أنه يحط من شأن المرأة، ويجعلها كالأدوات المبتذلة يتناولها الرجال واحدا بعد آخر، ثم إن المقصد الأعظم من النكاح التناسل، ومصلحة الولد تستدعي أن يتربى بين أبوين يرتبطان بعاطفة وداد روحي وإخلاص في المعاشرة، وهذه الرابطة لا تستقيم حيث يعقد النكاح لأمد معلوم. "خ". 4 جمع محشة، وهي من الألفاظ المكنى بها عن الاست، ومنه حديث ابن مسعود: "محاش النساء عليكم حرام" "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَأَيْضًا؛ فَتَسَاوِي الْأَدِلَّةِ1 أَوْ تَقَارُبُهَا أَمْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَرُبَّ دَلِيلَيْنِ يَكُونَانِ عِنْدَ بَعْضٍ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ، وَلَا يَكُونَانِ كَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضٍ؛ فَلَا يَتَحَصَّلُ لِلْعَامِّيِّ ضَابِطٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَجْتَنِبُهُ مِنَ الْخِلَافِ مِمَّا لَا يَجْتَنِبُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِنَ الِاجْتِنَابِ أَوْ عَدَمِهِ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَاتِّبَاعُ نَظَرِهِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ وحده، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْخِلَافِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ هَذَا الْمُجْتَهِدُ يَدَّعِي أَنَّ قَوْلَ خَصْمِهِ ضَعِيفٌ لَا يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِيمَا إِذَا رَاجَعَ الْمُجْتَهِدَ الْآخَرَ؛ فَلَا يَزَالُ الْعَامِّيُّ فِي حَيْرَةٍ إِنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الأمور، وهو شديد جدا، و "من يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ" 2، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى السَّائِلِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ جَوَابُهُ بَعْدُ. وَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْوَرَعَ شَدِيدٌ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ الْتِزَامَ التَّقْوَى شَدِيدٌ؛ إِلَّا أَنَّ شِدَّتَهُ لَيْسَتْ مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، بَلْ مِنْ جِهَةِ قَطْعِ مَأْلُوفَاتِ النَّفْسِ وَصَدِّهَا عَنْ هَوَاهَا خَاصَّةً. وَإِذَا تَأَمَّلْنَا مَنَاطَ الْمَسْأَلَةِ؛ وَجَدْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْوَرَعِ الْخَاصِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَرَعِ بَيِّنًا، فَإِنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْوَرَعِ سَهْلٌ فِي الْوُقُوعِ، وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ، وَوَرَعُ الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ صعب في الوقوع قبل النظر في   1 يدفع بهذا ما يتوهم وروده على قوله: "ولا يعلم هل تساوت أدلتهم ... " إلخ؛ فقد يقال: يرجع في ذلك إلى المجتهد ليعرف التساوي والتقارب؛ فقال هنا: إنه لا يتأتى الرجوع في ذلك له. "د". 2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ... "؛ أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 مُخَالَفَةِ النَّفْسِ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ مَقْصُودُ السَّائِلِ بِالشِّدَّةِ والحرج، وأنه ليس ما أشرتم إليه. ا. هـ. مَا كَتَبْتُ بِهِ، وَهُنَا وَقَفَ الْكَلَامُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا التَّقْرِيرَ؛ عَرَفَ أَنَّ مَا أَجَابَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ لَا يَطَّرِدُ1، وَلَا يَجْرِي فِي الْوَاقِعِ مَجْرَى الِاسْتِقَامَةِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ فِي وُقُوعِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَنَدَ إِلَيْهِ، وَلَا يُجْعَلَ أَصْلًا يُبْنَى2 عَلَيْهِ3. وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ؛ فَاحْتَفِظْ بِهَذَا الْأَصْلِ؛ فَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْوَرِعِ، وَتَمْيِيزِ المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الِاشْتِبَاهِ4 وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَفِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ مسائل تحققه إن شاء الله.   1 لأنه إنما يجري في المجتهد لا في المقلد، وإجراؤه في المقلد الذي هو أصل السؤال مؤد إلى الحرج "د". 2 في "خ": "ينبني". 3 أنكر جماعة من الفقهاء دخول الورع في بسملة المالكي في الصلاة بحجة أنه لا يخرج من خلاف الإمام الشافعي؛ إلا أن يقرأ البسملة معتقدا وجوبها، كما أنكروا دخوله في مسح الشافعي جميع رأسه خروجا من خلاف المذهب المالكي؛ لأنه لا يتخلص من خلاف هذا المذهب إلا أن يمسح الجميع باعتقاد الوجوب، وحاول شهاب الدين القرافي في "قواعده" تصوير الجمع بين المذهبين في الفرع الثاني؛ فلم يهتد إلى وجه مرضي، ومن المتعذر عليه وعلى غيره أن يجمع بين حكمين متضادين مثل الندب والوجوب في عبادة واحدة "خ". 4 تعارض الأدلة على المجتهد لا تعارض الأقوال على المقلد؛ فلا يلزم عليه الحرج. نعم، سيأتي له أن على المقلد إذا تعارضت عليه الأقوال أن يرجح واحدا منها، ولكنه اعتبر في الترجيح أمورا واضحة لا يبقى معها اشتباه، كأن يأخذ بقول من عرف بأنه يعمل بعلمه مثلا "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 القسم الثاني: كتاب الأحكام مدخل ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ1. كِتَابُ الْأَحْكَامِ: 2 وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ3 وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ؛ فَالْأَوَّلُ يَنْحَصِرُ فِي الْخَمْسَةِ؛ فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يتعلق بها من المسائل، وهي جملة:   1 ما بين المعقوفتين ليس في الأصل ولا في "م" و"خ". 2 "الأحكام: جمع حكم، وإلى تعريف الحكم أشرت في "منور الأفهام" بقولي: فالحكم بالإثبات أو بالنفي ... للأمر يعرف لَدُنْ ذي الرأي أعني أن الحكم يعرف عند أهل العقل بالإثبات للشيء أو بالنفي له، نحو: قام زيد، أو ما قام" "ماء". 3 "تعلق الخطاب بالأفعال؛ إما أن يطلب منها طلبا، أو بأن يبيحها، وهذا هو المسمى بخطاب التكليف، وإما بأن يضع لها سببا أو شرطا أو مانعا، ويسمى خطاب الوضع، وتخصيص هذا النوع من الأحكام باسم الوضع محض اصطلاح. وإلا؛ فالأحكام كلها -أعني: المتعلقات بالأفعال التنجيزية لوضع الشرع- لا مجال للعقل ولا للعادة في شيء منها، قاله في "شرح المقدمات" ... " "ماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: خِطَابُ التَّكْلِيفِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى 1: [فِي الْمُبَاحِ] 2 الْمُبَاحُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ لَا يَكُونُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ، وَلَا مَطْلُوبَ الِاجْتِنَابِ، أَمَّا كونه ليس بمطلوب الاجتناب3؛ فلأمور:   1 استفاد المصنف كثيرا في هذه المسألة من الإمام شمس الدين علي بن إسماعيل الصنهاجي الأبياري المالكي "ت 616هـ" في كتابه المطبوع بعنوان: "الورع"، بتحقيق فاروق حمادة، طبع دار الآفاق الجديدة - بيروت، وبين عبارة المصنف وعبارة الأبياري تطابق إلى حد كبير في كثير من الأحايين؛ فاقتضى التنويه. 2 ما بين المعقوفتين ليس في "د". تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في المباح في "مجموع الفتاوى" "12/ 300 و14/ 108، 109 و15/ 448 و18/ 9، 10 و21/ 314-318، 538-541 و29/ 16-18، 150، 151". 3 ممن حقق النظر في هذه المسألة أبو بكر الأبهري، ونفى دخول الورع في ترك المباح بحجة أن الله سوى بين الفعل والترك، والورع مندوب، والندب مع التسوية متعذر، وتصدى شهاب الدين القرافي للتوفيق بينه وبين مخالفيه قائلا: "لا ورع ولا زهد في المباحات من حيث هي مباحة، ولكن يدخلها الورع والزهد من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد يوقع في المحرمات ويفضي إلى بطر النفس"، وهذا هو المبدأ الذي رتب عليه المصنف بحثه المسهب في هذا المقام "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُبَاحَ عِنْدَ الشَّارِعِ هُوَ الْمُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، مِنْ غَيْرِ مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ، لَا عَلَى الْفِعْلِ وَلَا عَلَى التَّرْكِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الِاسْتِوَاءُ شَرْعًا وَالتَّخْيِيرُ؛ لَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ بِهِ مُطِيعًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِالتَّرْكِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الطَّلَبِ، وَلَا طَلَبَ؛ فَلَا طَاعَةَ1. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُبَاحَ مساوٍ لِلْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَطْلُوبِ التَّرْكِ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مُطِيعًا بِتَرْكِهِ شَرْعًا؛ لِكَوْنِ الشَّارِعِ لَمْ يَطْلُبِ التَّرْكَ فِيهِمَا، كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا شَرْعًا. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ يُفَارِقَانِ الْمُبَاحَ، بِأَنَّهُمَا مَطْلُوبَا الْفِعْلِ؛ فَقَدْ قَامَ الْمُعَارِضُ لِطَلَبِ التَّرْكِ، وَلَيْسَ الْمُبَاحُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا مُعَارِضَ لِطَلَبِ التَّرْكِ فِيهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: كَذَلِكَ الْمُبَاحُ؛ فِيهِ مُعَارِضٌ لِطَلَبِ التَّرْكِ, وَهُوَ التَّخْيِيرُ فِي التَّرْكِ؛ فَيَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلَبِ التَّرْكِ عَيْنًا وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ فِيهِ2. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا تَقَرَّرَ اسْتِوَاءُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُبَاحِ شَرْعًا، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا بِتَرْكِهِ؛ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُطِيعًا بِفِعْلِهِ، مِنْ حَيْثُ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِاتِّفَاقٍ، وَلَا مَعْقُولٍ في نفسه3.   1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16". 2 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص16-17". 3 سيأتي أنه مؤد إلى التناقض "د". قلت: وقارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وَالرَّابِعُ: إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ نَاذِرَ تَرْكِ الْمُبَاحِ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ، بِأَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ الْمُبَاحَ، وَأَنَّهُ كَنَذْرٍ1 فَعَلَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ2: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطيع اللَّهَ؛ فَلْيُطِعْهُ" 3، فَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْمُبَاحِ طَاعَةً لَلَزِمَ بِالنَّذْرِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا، وَلَا يَسْتَظِلَّ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَجْلِسَ، وَأَنْ يَسْتَظِلَّ، وَيُتِمَّ صَوْمَهُ"4. قَالَ مَالِكٌ: أَمَرَهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً؛ فَجَعَلَ5 نَذْرَ تَرْكِ المباح معصية6 كما ترى7.   1 في "م" و"خ": "كناذر". 2 هو تمام الدليل، ومحصله أن النذر إنما يكون في الطاعة كما في الحديث، وقد أجمعوا على أن ناذر ترك المباح نذره لغو؛ فلو كان تركه طاعة وداخلا فيما يُطلب بالحديث الوفاء به؛ لم يجمعوا على عدم لزوم الوفاء به. "د". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية, 11/ 585/ رقم 6700" من حديث عائشة, رضي الله عنها. 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه. 5 حمل المؤلف كلام مالك على ترك المباح وهو الجلوس والاستظلال؛ فقال ما قال، ولكن في الحديث الصحيح في مثله ما يفيد أن الفعل نفسه تعذيب للنفس، وهو حرام؛ حيث يقول: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"؛ فهو نذر لفعل المعصية مباشرة لا بواسطة ترك المباح. "د". قلت: وعبارة مالك في "الموطأ" "2/ 29". 6 ترك الكلام والاستظلال والجلوس لا يبلغ أن يكون معصية بنفسه؛ إلا أن يجر إلى نصب ومشقة، ولكن في نذر المباح قلبا لحقائق الشرع؛ فيدخل صاحبه من هذه الجهة في قبيل الذي يقصدون إلى حقيقة قررها الشارع على وضع خاص، ويخرجون بها على ذلك الوضع المرسوم؛ إما عبثا وتلاعبا، وإما جهلا بالحكم الذي تمكنهم معرفته بسهولة. "خ". 7 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص17-19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا بِتَرْكِهِ -وَقَدْ فَرَضْنَا1 أَنَّ تَرْكَهُ وَفِعْلَهُ عِنْدَ الشَّارِعِ سَوَاءٌ- لَكَانَ أَرْفَعَ دَرَجَةً فِي الْآخِرَةِ مِمَّنْ فَعَلَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا2 أَنَّ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَحَقَّقَ الِاسْتِوَاءُ فِي [جميع الطاعات؛ تَحَقَّقَ الِاسْتِوَاءُ فِي] 3 الدَّرَجَاتِ، وَفِعْلُ الْمُبَاحِ وَتَرْكُهُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ مُتَسَاوِيَانِ، فَيَلْزَمُ تَسَاوِي دَرَجَتِيِ الْفَاعِلِ وَالتَّارِكِ إِذَا4 فَرَضْنَا تَسَاوِيَهُمَا فِي الطَّاعَاتِ، وَالْفَرْضُ5 أَنَّ التَّارِكَ مُطِيعٌ دُونَ الْفَاعِلِ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَرَفَعَ دَرَجَةً مِنْهُ، هَذَا خُلْفٌ وَمُخَالِفٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُظْلَمَ6 الْإِنْسَانُ فَيُؤْجَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لم يطع7؛ فلا   1 لا حاجة لذكره هذا الفرض في صوغ الدليل، وسيذكره في بيان بطلان اللازم؛ فيقول: وفعل المباح وتركه ... إلخ "د". 2 من أين هذه القاعدة، وقد قالوا: إنه تعالى يعطي على القليل كثيرا وأن أمور الثواب ليست في التقدير؛ إلا بمجرد الفضل لا بالوزن؟ فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ؛ فلا مانع أن يكون اثنان متساويين في الطاعات، وأحدهما أرفع من الآخر منزلة، بل قد يكون الأقل عملا أرفع منزلة؛ لأن الكل بمحض الفضل لا بوزان الأعمال؛ فهذا الدليل كما ترى يحوطه الضعف من جهات. "د". 3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ" و"ط". 4 في "د": "وإذا" بزيادة واو. 5 ملخص الدليل: أنه لو كان تارك المباح مطيعا بالترك؛ للزم أن يكون أرفع درجة ممن فعله، واللازم باطل؛ لأنهما متساويان في الدرجة، فما أدى إليه وهو المقدم باطل؛ فعليك بالنظر فيما توسط من كلامه أثناء الدليل، والتعرف عن وجه الحاجة إلى ذلك. "د". 6 أي: نفسه بالحمل عليها ومشاقتها بترك المباح، ثم يدعي أنه يؤجر على ذلك، أي: وهذا لا يقول به أحد. "د". قلت: وهذا التفسير خطأ، وضبط الكلمة منه خطأ [ضبطها بعد بالفتحة، ثم فسرها] ، ولو ضبطها بالضمة؛ لبان المعنى، يدل على ذلك سياق العبارة في "الورع" "ص21". 7 مقابل قوله: "أولا مطيعا" بتركه أي: وإن لم يكن مطيعا بالترك؛ فلا يكون المباح مطلوب الاجتناب، يعني وهو مع هذا الفرض مفروغ منه لا داعي للكلام فيه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 كَلَامَ فِي هَذَا1. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَرْكُ الْمُبَاحِ طَاعَةً؛ لَلَزِمَ رَفْعُ الْمُبَاحِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا الْكَعْبِيُّ2؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَاهُ3 بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ، لَا بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ، لَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّمَا قَالَ الْكَعْبِيُّ مَا قَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى فِعْلِ الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ تَرْكَ حَرَامٍ، بِخِلَافِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى تَرْكِهِ، إِذْ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكُهُ فِعْلَ وَاجِبٍ فَيَكُونَ وَاجِبًا، وَلَا فِعْلَ مَنْدُوبٍ فَيَكُونَ مَنْدُوبًا؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ الْمُبَاحِ بِإِطْلَاقٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ التَّرْكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ؛ فَتَرْكُ الْمُبَاحِ إِذًا فِعْلٌ مُبَاحٌ4. وَأَيْضًا؛ الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد5،   1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص21". 2 يأتي مذهبه ودليله والرد عليه في الفصل اللاحق لهذه المسألة. "د". قلت: ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "10/ 530-548". 3 هنا جزم بالحصر، وسيأتي له جعله استظهارا فقط. "د". 4 وإذًا؛ فليس بمطلوب، وهو مدَّعانا. "د". 5 أي: مقاصد الشريعة من تشريع الأحكام، وهي* حفظ الضروريات والحاجيات؛ فالحكم الشرعي يتوجه إلى الفعل من إيجاب أو غيره حسبما فيه من المصلحة، وكيف يكون الشيء فعله وتركه مصلحة حتى يطلب تركه وفعله؟ "د".   * في المطبوع: "وهو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رُجُوعَ1 التَّرْكِ إِلَى الِاخْتِيَارِ، كَالْفِعْلِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا بِنَفْسِ التَّرْكِ؛ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُطِيعًا، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ2 مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كُلُّهُ مُعَارَضٌ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ سَبَبٌ فِي مَضَارَّ كَثِيرَةٍ: - مِنْهَا: أَنَّ فِيهِ اشْتِغَالًا عَمَّا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَمَلِ بِنَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ، وَصَدًّا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ. - وَمِنْهَا: أَنَّهُ سَبَبٌ فِي الِاشْتِغَالِ عَنِ الْوَاجِبَاتِ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى الممنوعات؛ لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضرواة الْخَمْرِ، وَبَعْضُهَا يَجُرُّ إِلَى بَعْضٍ، إِلَى أَنْ تَهْوِيَ بِصَاحِبِهَا فِي الْمَهْلَكَةِ3، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِذَمِّ الدُّنْيَا، وَالتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الْأَحْقَافِ: 20] . [وَقَوْلِهِ] : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هُودِ: 15] . وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْكُمُ 4 الدُّنْيَا كَمَا فُتِحَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ" 5 الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: "إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ   1 حتى صح أن تعلق به مقاصد الشرع وتبنى عليه الأحكام "د". 2 لأنه يقتضي أن يكون الشيء مقصود الفعل للشارع لحفظ المصلحة، ومقصود الترك له أيضا لحفظها، حتى تعلق بكل منهما حكمه، وهو طلب الفعل والترك؛ فيعد المكلف مطيعا لهما. "د". 3 في "ط": "الهلكة". 4 في الأصل: "لكم". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، 6/ 257/ رقم 3158، وكتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، 7/ 319/ رقم 4015، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، 11/ 243/ رقم 6425"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب منه، 4/ 2273-2274"، وأحمد في "المسند" "4/ 137"، والترمذي في "الجامع" "4/ 640/ رقم 2462"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 1324/ رقم 3797"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 319"، من حديث عمرو بن عوف, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ" 1. وَذَلِكَ كَثِيرٌ شَهِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ كافٍ فِي طَلَبِ تَرْكِ الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ. - وَمِنْهَا: مَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِطُولِ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ جَاءَ: "إِنَّ حَلَالَهَا حِسَابٌ، وَحَرَامَهَا عَذَابٌ"2، وَعَنْ بعضهم3: "اعزلوا عني حسابها"،   1 قطعة من حديث في أوله نحو المذكور عند المصنف آنفا، وسيأتي "2/ 281". أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، 2/ 327/ رقم 1465، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6724" من حديث أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه. 2 أخرجه الديلمي في "الفردوس" "رقم 8192" من طريق الدراقطني في "الأفراد" عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "يابن آدم! ما تصنع الدنيا! حلالها حساب، وحرامها عذاب". وإسناده واه جدا، فيه عمر بن هارون البلخي، قال ابن مهدي وأحمد والنسائي: "متروك الحديث"، وقال يحيى: "كذاب خبيث"، وقال أبو داود: "غير ثقة"، وقال ابن المديني والدارقطني: "ضعيف جدا"، وقال صالح جزرة: "كذاب". وانظر: "الميزان" "3/ 228". وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 17"، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" 7/ 371/ رقم 10622" بسند منقطع عن علي موقوفا بلفظ: "حلالها حساب، وحرامها النار". وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"؛ كما في "إتحاف السادة" للزبيدي "8/ 120 و10/ 25" موقوفا، وقال عن المرفوع: "لم أجده"!! وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 211" عن الحسن قوله، وهو الأشبه، ولكن إسناده ضعيف، فيه أبو عباد الزاهد، لا يحل الاحتجاج به؛ كما قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 158". 3 القائل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال ابن الجوزي في "سيرة عمر" "ص141": "عن الحسن أن عمر أتي بشربة عسل، فذاقها، فإذا ماء وعسل، فقال: "اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مؤنتها"". وذكره الأبياري في "الورع" "ص22"، وقال قبله: "في قول الصديق أو غيره". وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 803، 804" بلفظين آخرين، آخرهما: "استسقى، فأتي رجل بقدح من زجاج -أو قال: من قوارير- فيه عسل، فقال -أي: عمر: "ما رأيت كاليوم إناء أحسن ولا شرابا أحسن". ثم قال: "شرابا هو أيسر في المسألة من هذا"؛ فأتي بماء، فشرب. ونحوه في "الزهد" "ص119" لأحمد، و"الزهد" "رقم 618" لابن المبارك، و"الزهد" "رقم 94، 95" لأبي داود، و"الطبقات الكبرى" "3/ 319" لابن سعد، و"مناقب عمر بن الخطاب" "ص142" لابن الوزي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "رقم 618" لعبد بن حميد بأسانيد بعضها حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 حِينَ أُتِيَ بِشَيْءٍ يَتَنَاوَلُهُ، وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّ طُولَ الْحِسَابِ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنَّ سُرْعَةَ الِانْصِرَافِ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ، وَالْمُبَاحُ صَادٌّ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِذَا تَرَكَهُ أَفْضَلُ شَرْعًا؛ فَهُوَ طَاعَةٌ، فَتَرْكُ الْمُبَاحِ طَاعَةٌ1. فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا فِي مَضَارَّ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ2، وَلَمْ يُتَكَلَّمْ فِيمَا إِذَا كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مَمْنُوعٍ؛ صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، لَا من جهة كونه مباحا,   1 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20". 2 انظر في هذا: "مجموع الفتاوى" "10/ 460-462". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: "كُنَّا نَدَعُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ1؛ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ". وَرُوِيَ مَرْفُوعًا2. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَذَمُّ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ أَنَّهَا تَصِيرُ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيلِ التَّكَالِيفِ. وَأَيْضًا3؛ فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمُبَاحِ فِي سَوَابِقِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ، كَالْمَالِ4 إِذَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، وَالْخَيْلِ5 إِذَا رَبَطَهَا تَعَفُّفًا، وَلَكِنْ نَسِيَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى كَوْنِهِ وَسِيلَةً؛ فَلَيْسَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ بِإِطْلَاقٍ, بَلْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ فَيَكُونُ من تلك الجهة مطوب التَّرْكِ. وَقِسْمٌ يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى مَأْمُورٍ بِهِ؛ كَالْمُسْتَعَانِ بِهِ عَلَى أَمْرٍ أُخْرَوِيٍّ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ" 6، وَفِيهِ: "ذَهَبَ أهل الدثور   1 أي: ما لا بأس به في ذاته؛ حذرا أن يوقعنا فيما هو ذريعة إليه مما فيه بأس. "د". 2 سيأتي نصه وتخريجه "ص189". 3 أعم مما قبله الخاص بالذريعة؛ أي: باللواحق. "د". 4 و5 المثالان من نوع واحد، والظاهر أنهما من أمثلة المقارن، ويصح أن يكونا من اللواحق. "د". وفي "ط": "والخيل إذا ارتبطها". 6 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 299"، وأحمد في "المسند" "4/ 197، 202"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 2، 236"، وأبو يعلى في "المسند" "13/ 320-322/ رقم 7336"، وعنه ابن حبان في "الصحيح" "8/ 6، 7/ رقم 3210، 3211- الإحسان"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 259/ رقم 1315"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 2495"، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" "رقم 43" بإسناد صحيح، وأوله: "يا عمرو"، وجود إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 228" وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بِالْأُجُورِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ... " إِلَى أَنْ قَالَ: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" 1، بَلْ قَدْ جَاءَ أَنَّ فِي مُجَامَعَةِ الْأَهْلِ أَجْرًا، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا لِشَهْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُفُّ بِهِ عَنِ الْحَرَامِ2، وَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ وَسَائِلَ إِلَى مَأْمُورٍ بِهِ؛ كَانَ لَهَا حُكْمُ مَا تُوُسِّلَ بِهَا إِلَيْهِ. وَقِسْمٌ لَا يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى شَيْءٍ؛ فَهُوَ الْمُبَاحُ الْمُطْلَقُ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِذَا فُرِضَ ذَرِيعَةً إِلَى غَيْرِهِ؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ تَرْكَ الْمُبَاحِ طَاعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَا يُنْهَى عَنْهُ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ؛ فَيُقَالُ: بَلْ فِعْلُهُ طَاعَةٌ بِإِطْلَاقٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ تُرِكَ حَرَامٌ3، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا عِنْدَ فِعْلِ الْمُبَاحِ؛ فَقَدْ شَغَلَ النَّفْسَ بِهِ عَنْ جَمِيعِهَا، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى4؛ لِأَنَّ الْكُلِّيَّةَ هُنَا تَصِحُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مُبَاحٍ وَسِيلَةٌ إِلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَنْهِيٍّ عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ؛ فَظَهَرَ أَنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمُبَاحِ طَاعَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّهُ سَبَبٌ فِي طُولِ الْحِسَابِ"؛ فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ5: أَحَدُهَا: أَنَّ فَاعِلَ الْمُبَاحِ إِنْ كَانَ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ؛ لَزِمَ أن يكون التارك   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، 1/ 416-417، رقم 595" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه. 2 سيأتي نصه وتخريجه "ص461". 3 أليس قد يكون فعل المباح ترك واجب؛ فيكون غير تارك للحرام بفعل المباح؟ تأمل. "د". 4 أي: إن هذا المعارِض أقوى من الدليل المعارَض؛ لأنه كلي بخلاف أصل الدليل. "د". 5 قارن مع "الورع" للصنهاجي "ص20-22". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 مُحَاسَبًا عَلَى تَرْكِهِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ التَّرْكُ فِعْلًا، وَلِاسْتِوَاءِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ شَرْعًا، وَإِذْ ذَاكَ يَتَنَاقَضُ الْأَمْرُ عَلَى فَرْضِ الْمُبَاحِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَمَسَّكَ بِأَنَّ حَلَالَهَا حِسَابٌ، ثُمَّ قَضَى بِأَنَّ التَّارِكَ لَا يُحَاسَبُ، مَعَ أَنَّهُ آتٍ بِحَلَالٍ، وَهُوَ التَّرْكُ؛ فَقَدْ صَارَ الْحَلَالُ سَبَبًا لِطُولِ الْحِسَابِ وَغَيْرَ سَبَبٍ لَهُ، لِأَنَّ طُولَ الْحِسَابِ إِنَّمَا نِيطَ بِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ حَلَالًا بِالْفَرْضِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنَ الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحِسَابَ إِنْ كَانَ يَنْهَضُ سَبَبًا لِطَلَبِ التَّرْكِ؛ لَزِمَ أَنْ يُطلب تَرْكُ الطَّاعَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَسْئُولًا عَنْهَا كُلِّهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 6] ، فَقَدِ انْحَتَمَ عَلَى الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يُسْأَلُوا عَنِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنَ الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الطَّاعَاتِ يُعارض طَلَبَ تَرْكِهَا طَلَبُهَا. لِأَنَّا نَقُولُ: كَذَلِكَ الْمُبَاحُ، يُعَارِضُ طَلَبَ تَرْكِهِ التَّخْيِيرُ فِيهِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ فِي قَصْدِ الشَّارِعِ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَلَالِ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ هُوَ أَكْلُ كَذَا مَثَلًا، وَلَهُ مُقَدِّمَاتٌ، وَشُرُوطٌ، وَلَوَاحِقُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا، فَإِذَا رُوعِيَتْ؛ صَارَ الْأَكْلُ مُبَاحًا، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ؛ كَانَ التَّسَبُّبُ وَالتَّنَاوُلُ غَيْرَ مُبَاحٍ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالْمُبَاحُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ لَهُ أَرْكَانٌ، وَشُرُوطٌ، وَمَوَانِعُ، وَلَوَاحِقُ تُرَاعَى، وَالتَّرْكُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالْفِعْلِ، فَكَمَا أَنَّهُ إِذَا تَسَبَّبَ لِلْفِعْلِ كَانَ تَسَبُّبُهُ مَسْئُولًا عَنْهُ، كَذَلِكَ إِذَا تَسَبَّبَ إِلَى التَّرْكِ كَانَ مَسْئُولًا عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْفِعْلَ كَثِيرُ الشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَى أَرْكَانٍ بِخِلَافِ التَّرْكِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهِ قَلِيلٌ، وَقَدْ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقَصْدِ إِلَى التَّرْكِ. لِأَنَّا نَقُولُ: حَقِيقَةُ الْمُبَاحِ إِنَّمَا تَنْشَأُ بِمُقَدِّمَاتٍ، كَانَ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا، وَلَوْ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْحُقُوقَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّرْكِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" 1. وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ2 -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يُبَيِّنْ3 لَكَ هُوَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ -فِي الْمُبَاحِ عَلَى الْخُصُوصِ- لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَالْحِسَابُ يَتَعَلَّقُ بِطَرِيقِ التَّرْكِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِطَرِيقِ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ ثَبَتَ أَنَّ الْحِسَابَ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى طَرِيقِ الْمُبَاحِ؛ فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى نَفْسِ الْمُبَاحِ أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا؛ فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ أَيْضًا سَوَاءٌ. وَأَيْضًا؛ إِنْ كَانَ فِي الْمُبَاحِ مَا يَقْتَضِي التَّرْكَ؛ فَفِيهِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَام} ... إِلَى قَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ: 10-22] .   1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ 1968، وكتاب الآداب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم182". 2 سيأتي بلفظه وتمامه عند المصنف "2/ 247-248"، والمذكور آنفا قطعة منه. 3 في الأصل: "يتبين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ} إلى قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْلِ: 14] . وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَةِ: 13] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى الِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِالْقَصْدِ إِلَى التَّنَاوُلِ وَالِانْتِفَاعِ، ثُمَّ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا؛ فَالتَّرْكُ لَهُ قَصْدًا يُسْأَلُ عَنْهُ: لِم تَرَكْتَهُ، وَلِأَيِّ وَجْهٍ أَعْرَضْتَ عَنْهُ، وَمَا مَنَعَكَ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أُحِلَّ لَكَ؟ فَالسُّؤَالُ حَاصِلٌ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ فِي الْمُبَاحِ الْخَادِمِ لِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ1. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ أَكْثَرُهَا جَدَلِيٌّ، وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمُبَاحِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُحَاسَبًا عَلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا يُحَاسَبُ عَلَى التقصير في الشكر عليه؛ إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى التَّكْلِيفَاتِ، فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ وَعَمِلَ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَقَدْ شَكَرَ نِعَمَ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الْأَعْرَافِ: 32] . أَيْ: لَا تَبِعَةَ فِيهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 7-8] . وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ الْعَرْضُ2، لا الحساب الذي فيه مناقشة.   1 انظر: "ص224 وما بعد". 2 وذلك فيما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، 8/ 697/ رقم 4939"، وذكره تعليقا في "كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، 11/ 400/ رقم 6536"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، 5/ 535/ رقم 3337" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح" - والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير/ رقم 679" عن عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حوسب يوم القيامة عُذب ". قالت: قلت: قال اللَّهِ, عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} . قال: "ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وَعَذَابٌ، وَإِلَّا؛ لَمْ تَكُنِ النِّعَمُ الْمُبَاحَةُ خَالِصَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 6] . أَعْنِي: سُؤَالَ الْمُرْسَلِينَ، وَيُحَقِّقُهُ أَحْوَالُ السَّلَفِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحَاتِ؛ كَمَا سَيُذْكَرُ عَلَى إِثْرِ هَذَا1. والثاني من الأمور العارضة: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ؛ فَإِنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنِ الْمُبَاحَاتِ كَثِيرًا، وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْهُمْ تَوَاتُرًا؛ كَتَرْكِ التَّرَفُّهِ فِي الْمَطْعَمِ، وَالْمَشْرَبِ، وَالْمُرَكْبِ، وَالْمَسْكَنِ، وَأَعْرَقُهُمْ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَسَلْمَانُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَمَّارٌ، وَغَيْرُهُمْ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَانْظُرْ إِلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي كِتَابِ "الْجِهَادِ"، وَكَذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ فِي كِتَابِ "الْأَمْوَالِ"2؛ فَفِيهِ الشِّفَاءُ، وَمَحْصُولُهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمُبَاحَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْمُبَاحِ غَيْرَ طَاعَةٍ؛ لَمَا فَعَلُوهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ3: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ أَوَّلًا حِكَايَاتُ أَحْوَالٍ؛ فَالِاحْتِجَاجُ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ غير نظر   1 ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام في هذا في "مجموع الفتاوى" "10/ 514، 515". 2 انظره بتحقيق رضا محمد سالم شحادة، طبع مركز إحياء التراث العربي - الرباط. 3 ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب في "مجموع الفتاوى" "10/ 150، 151، 514 و20/ 146". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فِيهَا لَا يُجْدِي، إِذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُمْ لِمَا تَرَكُوهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَاحًا؛ لِإِمْكَانِ تَرْكِهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَسَيَأْتِي1 إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ بِمُجَرَّدِهَا غَيْرُ مُفِيدَةٍ فِي الِاحْتِجَاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِمِثْلِهَا فِي النَّقِيضِ. فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ2. وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَيَخْتَصُّ بِالذِّرَاعِ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ3. وَكَانَ يُسْتَعْذَبُ له الماء4.   1 انظر: "1/ 391 و2/ 458، 495". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب الحلوى والعسل، 9/ 557/ رقم 5431، وكتاب الأشربة، باب شرب الحلواء والعسل، 10/ 78/ رقم 5614، وكتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 8/ 139/ رقم 5682"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق/ رقم 1474 بعد 21"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحلواء والعسل/ رقم 1832"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب شراب العسل/ رقم 3715"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب الحلواء/ رقم 3323"، وأحمد في "المسند" "6/ 59" عن عائشة, رضي الله عنها. 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} "6/ 371/ رقم 3340", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها, 1/ 184/ رقم 194"، عن أبي هريرة، وذكر حديث طويلا فيها: "فرفعت إليه الذراع، وكانت تعجبه؛ فنهس منها نهسة". 4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب استعذاب الماء، 10/ 74/ رقم 5611"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب منه/ رقم 998" من حديث أنس؛ قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وينقع له الزبيب والتمر1. ويتطيب بالمسك2.   = وأخرج أبو داود في "السنن" "رقم 3735"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 138"، وأحمد في "المسند" "6/ 108"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 158"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 149/ رقم 5332- الإحسان"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي, صلى الله عليه وسلم" "رقم 245"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 394"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "2/ 125"، والبغوي في "الشمائل" "رقم 1017، 1018"، و"شرح السنة" "رقم 3049" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يستعذب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السقيا". وإسناده قوي، وجوده ابن حجر في "فتح الباري" "10/ 74". وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2207/ رقم 3013" ضمن حديث طويل جدا فيه: "وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الماء في أشجاب له على حمارة من جريد". 1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب نقيع التمر ما لم يسكر، 10/ 62/ رقم 5597" عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعرسه؛ فكانت امرأته خادمهم يومئذ، وهي العروس، فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور. وأخرجه بنحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1950-1951/ رقم 2006"، وخرجته مسهبا في تحقيقي لكتاب ابن حيويه "ت 366هـ" "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص43-44". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الغسل، باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب، 1/ 381/ رقم 270، 271"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام/ رقم 1190" عن عائشة: "أنا طيبت رسول الله ثم طاف في نسائه", وقالت: "وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي, صلى الله عليه وسلم" لفظ البخاري. ولفظ مسلم: "يتطيب بأطيب ما يجد"، وعنده أيضا "برقم 1191"، عنها: "كنت أطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وَيُحِبُّ النِّسَاءَ1. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ، بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرْكَ عِنْدَهُمْ كَانَ غَيْرَ مَطْلُوبٍ، وَالْقَطْعُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ عِنْدَهُمْ شَرْعًا؛ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ مُبَادَرَتَهُمْ لِكُلِّ نَافِلَةٍ وَبِرٍّ وَنِيلِ مَنْزِلَةٍ وَدَرَجَةٍ؛ إِذْ لَمْ يُبَادِرْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى نَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ مُبَادَرَتَهُمْ، وَلَا شَارَكَ أَحَدٌ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ -مِمَّنْ قَرُبَ عَهْدُهُ أَوْ بَعُدَ- فِي رِفْدِهِ2 وَمَالِهِ مُشَارَكَتَهُمْ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ لِلْمُبَاحَاتِ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَ مَطْلُوبًا؛ لَعَلِمُوهُ قَطْعًا، وَلَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، بَلْ قَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ؛ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَثِيرَةٌ، وَانْظُرْ فِي بَابِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى3 فِي "مقدمات ابن رشد".   1 كما يأتي عند المصنف "2/ 240" في حديث: "حُبب إلي ... "، وتخريجه هناك. وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "في البشر داعية فطرية إلى الأنس بالمرأة وملابستها، وليس في هذه الفطرة ما يمس الكمال الروحي بغضاضة متى وقفت بالنفس في غاية معتدلة، وكان تمتع صاحبها بالنساء في دائرة الحكمة والنظام؛ فحبه -عليه الصلاة والسلام- للنساء غريزة بشرية، ولكنها لم تتجاوز حد الاعتدال؛ فتلهيه عن معالي الهمم والجهاد في سبيل العبادة والدعوة إلى صراط الله المستقيم، ومن حكمة انتظامها في جملة دواعيه الفطرية؛ أن يتعلم المسلمون من معاشرته لأزواجه الطاهرات كيف تعاشر المرأة بعواطف المودة والرحمة والاحترام". ا. هـ. وانظر فيما تقدم جميعا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 641 و22/ 124". 2 الرفد: العطاء والصلة. انظر: "لسان العرب" "ر ف د". 3 لم يختلفوا في المفاضلة بين أصحاب الوصفين إلا باعتبار العمل الصالح اللاحق بكل منهما، وهو محل النظر والأخذ والرد بينهم؛ فلا محل للاعتراض الذي أوردها هنا بأن الفقر والغنى لا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح، وسيأتي للمؤلف في التعارض والترجيح آخر الكتاب بحث جيد في هذا المعنى. "د". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَالثَّالِثُ: 1 إِذَا2 ثَبَتَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا مِنْهُ شَيْئًا طَلَبًا لِلثَّوَابِ عَلَى تَرْكِهِ؛ فَذَلِكَ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَقَطُّ لِلْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، بَلْ لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ, وَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبِ التَّرْكِ: - مِنْهَا: أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَانِعٌ مِنْ عِبَادَاتٍ، وَحَائِلٌ دُونَ خَيْرَاتٍ، فَيُتْرَكُ لِيُمْكِنَ الْإِتْيَانُ بِمَا يُثَابُ عَلَيْهِ، مِنْ بَابِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَا هُوَ مَطْلُوبٌ، كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- يَأْتِيهَا الْمَالُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُمْكِنُهَا بِهِ التَّوَسُّعُ فِي الْمُبَاحِ، فَتَتَصَدَّقُ بِهِ، وَتُفْطِرُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقُومُ بِهِ الْعَيْشُ3، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهَا التَّوَسُّعَ مِنْ حَيْثُ كَانَ التَّرْكُ مَطْلُوبًا، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ قَدْ يَكُونُ مُورِثًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَمْرًا لَا يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ؛ فَيَتْرُكُ الْمُبَاحَ لِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ، كَمَا جَاءَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا عَذَلُوهُ فِي رُكُوبِهِ الْحِمَارَ فِي مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ، أُتِيَ بِفَرَسٍ, فَلَمَّا رَكِبَهُ فَهَمْلَجَ4 تَحْتَهُ؛ أخبر أنه أحس من نفسه فنزل   = وفي "م": "الفقير والغني". وكتب "خ" هنا ما نصه: "الفقر والغنى حالان لا يحسبان في مراقي الكمال، ولا يوضعان في ميزان المفاضلة، وإنما التفاضل على قدر العمل الصالح وما يفيض على جوانبه من أشعة الإخلاص وصفاء السريرة؛ فأعظم الرجلين عملا وأقواهما إخلاصا يكون أرفع مقاما في التقوى وأكرم منزلة عند الله من صاحبه، وفي استطاعة الغني أن يكون أفضل من الفقير مما يتيسر له من إقامة المشروعات العظيمة والمساعي التي يعم نفعها ويتجدد أثرها كل حين". وانظر: "5/ 367". 1 ينظر وجه الفرق بينه وبين الأول، غير الإجمال والتفصيل في المقاصد؛ إلا أن يقال: إنه روعي في الأول مجرد كونها حكايات أحوال، وهي لا يؤخذ بها دليلا بمجردها؛ فلا بد من عرضها على قواعد الشرع، ويكون قوله: "لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد"، وهي ما فصلها هنا ليس محل القصد فيما سبق. "د". 2 في "ط": "أنه إذا". 3 سيأتي تخريجه "ص191". 4 أي: سار سيرا حسنا سريعا. انظر: "لسان العرب" "هـ م ل ج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عَنْهُ، وَرَجَعَ إِلَى حِمَارِهِ1، وَكَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْخَمِيصَةِ ذَاتِ الْعَلَمِ، حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلَاةِ فَكَادَ يَفْتِنُهُ2، وَهُوَ المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وَلَكِنَّهُ عَلَّمَ أُمَّتَهُ كَيْفَ يَفْعَلُونَ بِالْمُبَاحِ إِذَا أَدَّاهُمْ إِلَى مَا يُكْرَهُ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ الْمُبَاحُ وَسِيلَةً إِلَى مَمْنُوعٍ؛ فَيُتْرَكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَسِيلَةٌ، كَمَا قِيلَ: "إِنِّي لَأَدَعُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا أُحَرِّمُهَا" 3، وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يَبْلُغُ الرَّجُلُ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ؛ حَذَرًا لما به البأس" 4،   1 انظر: الخبر في "تاريخ المدينة" "3/ 822-823" لابن شبة. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام، 1/ 482-483/ رقم 373"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، 1/ 391/ رقم 556"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام 2/ 72", وابن ماجه في "السنن" "كتاب اللباس، باب لباس رسول الله, صلى الله عليه وسلم 2/ 1176/ رقم 3550"، ومالك في "الموطأ" "1/ 91- مع "تنوير الحوالك""، وأبو عوانة في "المسند" "2/ 24"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 423" من حديث عائشة -رضي الله عنها- وليس عندهم "فكاد يفتنه"، وإنما "إنها ألهتني آنفا عن صلاتي"، وفي رواية عند البخاري: "فأخاف أن تفتنني"، ونقل المصنف العبارة السابقة عن "الأموال" للداودي "ص89". 3 في النسخ الثلاث: "ولا أحرمها"، وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 209" عن ابن عمر، وفيه: "لا أخرقها"، وأورد نحوه عن مجموعة من التابعين، وانظر: "الحلية" "4/ 84، 7/ 284، 288". ثم ظفرت بطرف من الخبر في "زهد أبي داود" "رقم 320" عن مالك بلاغا، ولم يهتد المحقق إلى لفظه بتمامه. 4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 634/ رقم 2451"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، 2/ 1409/ رقم 4215"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 319"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 335"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 484"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 74-76/ رقم 909-912"، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَهَذَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ لِحَاجَتِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْفُلَانِيَّةِ؛ نَظَرَ إِلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ نَحْوَهُ. - وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضُ النَّاسِ مَا يَظْهَرُ "لِغَيْرِهِ" أَنَّهُ مُبَاحٌ، إِذَا تَخَيَّلَ فِيهِ إِشْكَالًا وَشُبْهَةً، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ لَهُ حِلُّهُ، وَهَذَا مَوْضِعٌ مَطْلُوبُ التَّرْكِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ كَقَوْلِهِ: "كُنَّا نَدَعُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ"1، وَلَمْ يَتْرُكُوا كُلَّ مَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكُوا مَا خَشُوا أَنْ يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مَمْنُوعٍ. - وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَ لِأَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةٌ فِي تَنَاوُلِهِ؛ إِمَّا لِلْعَوْنِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ2 يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ كُلُّهُ خَالِصًا لِلَّهِ، لَا يَلْوِي فِيهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ طَالِبَةٌ لَهُ، فَإِنَّ مِنْ خَاصَّةِ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مُبَاحًا لِكَوْنِهِ مُبَاحًا، بَلْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يَجِدَ لِتَنَاوُلِهِ قصد عبادة، أو عونا على   = والدولابي في "الكنى" "2/ 34"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 446" من حديث عطية السعدي. وإسناده ضعيف، مداره على عبد الله بن عقيل عن عبد الله بن يزيد الدمشقي، وروى ابن عقيل عن ابن يزيد أحاديث منكرة؛ كما قال ابن عدي في "الكامل" نقلا عن الدولابي: "ابن يزيد هذا ضعيف"، وضعف هذا الحديث شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 178"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وكتب "خ" هنا ما نصه: "ساق هذا الحديث ابن حزم في كتاب "الإحكام" ولفظه: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما ليس به بأس حذرا لما به بأس"، ثم قال: "وفي سنده أبو عقيل وليس بالمحتج به". 1 مضى ما يشهد له. 2 يغاير ما قبله في أن هذا دائما لا يكون عمله إلا لأحد هذه الأمور: أن تحضره نية عبادة، أو عون ما على عبادة، أو أخذه له من جهة الإذن؛ فيترك الفعل حتى يجد أحد هذه الأمور، ولعل الأخير يدعو إلى الترك في بعض الأحيان، وأن مجرد نية أخذه من جهة الإذن لا تكفي، بل تحتاج لشرط غير ميسور في كل وقت؛ فيوكل هذا لأهله، أما الأول؛ فإنه قد يتفق أن يتركه لأنه لم تحضره نية العون به على عبادة، ولا شك أن الثاني أرقى من صاحب الحال الأول. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 عِبَادَةٍ، أَوْ يَكُونُ أَخْذُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ لَا مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَوْعٌ مِنَ الشُّكْرِ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَصِيرَ مَطْلُوبًا؛ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا؛ فَإِنَّهُ -إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ- مُبَاحٌ كَأَكْلِ بَعْضِ الْفَوَاكِهِ، فَيَدَعُ التَّنَاوُلَ إِلَى زَمَانِ الْحَاجَةِ إِلَى الْغِذَاءِ، ثُمَّ يَأْكُلُ قَصْدًا لِإِقَامَةِ البنية، والعون في الطَّاعَةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَغْرَاضٌ صَحِيحَةٌ، مَنْقُولَةٌ عَنِ السَّلَفِ, وَغَيْرُ قَادِحَةٍ فِي مَسْأَلَتِنَا. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ مَأْخُوذَ الْكُلِّيَّةِ فِي عِبَادَةٍ: مِنْ عِلْمٍ، أَوْ تَفَكُّرٍ، أَوْ عَمِلٍ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ؛ فَلَا تَجِدُهُ يَسْتَلِذُّ بِمُبَاحٍ، وَلَا يَنْحَاشُ1 قَلْبُهُ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ بَالًا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا؛ فَالتَّرْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ الْغَفْلَةَ عَنِ الْمَتْرُوكِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ، بَلْ هُوَ فِي طَاعَةٍ بِمَا اشْتَغَلَ بِهِ، وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ حِينَ أُتيت بِمَالٍ عَظِيمٍ فَقَسَّمَتْهُ، وَلَمْ تُبْقِ لِنَفْسِهَا شَيْئًا, فعُوتبت عَلَى تَرْكِهَا نَفْسَهَا دُونَ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: "لَا تُعنِّيني2، لَوْ كُنْتِ ذَكَّرْتِنِي لَفَعَلْتُ"3، وَيَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا لِلصُّوفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ لِعَدَمِ قِيَامِ النَّفْسِ لَهُ4 هُوَ فِي حُكْمِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ. - وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَرَى بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْمُبَاحِ إِسْرَافًا، وَالْإِسْرَافُ مَذْمُومٌ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْرَافِ حَدٌّ يُوقَفُ دُونَهُ، كَمَا فِي الْإِقْتَارِ؛ فَيَكُونُ التوسط   1 أي: لا يتحرك. انظر: "لسان العرب" "ح وش". 2 لا تعنيني؛ أي: لا تعترضيني. انظر "لسان العرب" "ع ن ن". وفي بعض مصادر التخريج: "لا تعنفيني". 3 أخرجه الدارقطني في "المستجاد" "رقم 36، 37"، وابن سعد في "الطبقات" "8/ 67"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47، 48، 49"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 13"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738" بأسانيد بعضها صحيح. 4 كترك تناول بعض المأكولات؛ لأن نفسه لا تقبل عليها ولا تتلذذ بها، وإن كان الغير على خلاف ذلك. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 رَاجِعًا إِلَى الِاجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَيَرَى الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِهِ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِسْرَافِ، فَيَتْرُكُهُ لِذَلِكَ، وَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهُ مِمَّنْ لَيْسَ ذَلِكَ إِسْرَافًا فِي حَقِّهِ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُبَاحِ، وَلَا يَكُونُ كَمَا ظَنَّ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ فِيهِ فَقِيهُ نَفْسِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّفَقُّهَ فِي الْمُبَاحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْرَافِ وَعَدَمِهِ وَالْعَمَلَ عَلَى ذَلِكَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ، وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ الْمُبَاحُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ، وَلَا مَطْلُوبَ الْفِعْلِ؛ كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ1 لِأَمْرٍ مُبَاحٍ هُوَ مُبَاحٌ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ جُنبا، وَالنَّوَافِلُ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ، وَلَا يَصِيرُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَلَا النَّافِلَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاجِبَيْنِ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا تَنَاوُلُ الْمُبَاحِ مَشْرُوطٌ بِتَرْكِ الْإِسْرَافِ، وَلَا يَصِيرُ ذَمُّ الْإِسْرَافِ فِي الْمُبَاحِ ذَمًّا لِلْمُبَاحِ مُطْلَقًا. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحِكَايَاتِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ عَمَّنْ تَقَدَّمَ؛ فَلَا تَعْدُو هَذِهِ الْوُجُوهَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ فِيهَا مُعَارَضَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّالِثُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعَارِضَةِ: مَا ثَبَتَ مِنْ فَضِيلَةِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْكِ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، وَهُوَ مِمَّا اتُّفِقَ عَلَى مَدْحِ صَاحِبِهِ شَرْعًا، وَذَمِّ تَارِكِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، حَتَّى قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "جُعل الشَّرُّ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وجُعل مِفْتَاحُهُ حُبَّ الدُّنْيَا، وجُعل الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وجُعل مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ"2. وَقَالَ الْكَتَّانِيُّ الصُّوفِيُّ: "الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يُخَالِفُ فِيهِ كُوفِيٌّ، وَلَا مدني،   1 تنظير لا تمثيل. "د". 2 أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 290"، والسلمي في "طبقاته" "ص13"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 247" بإسنادهم إلى الفضل. وكتب "خ" هنا ما نصه: "الزهد حال من أحوال النفس، وهو خلوص القلب من شائبة الحرص على ملاذ هذه الحياة, بحيث لا يستخفه الفرح عند حضورها، ولا يضطرب حسرة عند فواتها، ولا جَرَمَ أن من أحكم هذا الخلق يتمكن من اجتناب الحرام بسهولة، ويترفع عن الوصول إلى هذه الملاذ من طرق تخدش في وجه المروءة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَلَا عِرَاقِيٌّ، وَلَا شَامِيٌّ؛ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْخَلْقِ". قَالَ الْقُشَيْرِيُّ1: يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّهَا غَيْرُ مَحْمُودَةٍ. وَالْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى هَذَا لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، وَالزُّهْدُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَلَالِ، أَمَّا الْحَرَامُ؛ فَالزُّهْدُ فِيهِ لَازِمٌ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، عَامٌّ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ، لَيْسَ مِمَّا يَتَجَارَى فِيهِ خَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ مُقْتَصِرِينَ عَلَيْهِ فَقَطُّ، وَإِنَّمَا تَجَارَوْا فِيمَا صَارُوا بِهِ مِنَ الْخَوَاصِّ، وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْمُبَاحِ، فَأَمَّا الْمَكْرُوهُ؛ فَذُو طَرَفَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمُحَالٌ عَادَةً أَنْ يَتَجَارَوْا فِيهِ هَذِهِ الْمُجَارَاةَ وَهُوَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُمدح شَرْعًا مَعَ اسْتِوَاءِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الزُّهْدَ -فِي الشَّرْعِ2- مَخْصُوصٌ بِمَا طُلب تَرْكُهُ حَسْبَمَا يَظْهَرُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ فَالْمُبَاحُ فِي نَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَإِذَا أَطْلَقَ بَعْضُ الْمُعَبِّرِينَ لَفْظَ الزُّهْدِ عَلَى تَرْكِ الْحَلَالِ؛ فَعَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ أزهد البشر -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَتْرُكِ الطَّيِّبَاتِ جُمْلَةً إِذَا وَجَدَهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، مَعَ تَحَقُّقِهِمْ فِي مَقَامِ الزُّهْدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَرْكَ الْمُبَاحَاتِ [من حيث إنه مباح] 3؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ؛ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، بَلْ هُوَ غَفْلَةٌ لَا يُقَالُ فِيهِ: "مُبَاحٌ"، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: "زُهْدٌ"، وَإِنْ كان تركه بقصد؛ فإما أن يكون   1 في "الرسالة" "ص57"، وأورد فيها مقولتي الفضيل والكتاني السابقتين. 2 انظر تعريفه في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 616-619، 11/ 28، 20/ 142". 3 زيادة من الأصل فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الْقَصْدُ مَقْصُورًا عَلَى كَوْنِهِ مُبَاحًا، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ؛ فَذَلِكَ الْأَمْرُ إِنْ كَانَ دُنْيَوِيًّا كَالْمَتْرُوكِ؛ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ مُبَاحٍ إِلَى مِثْلِهِ لَا زُهْدٌ، وَإِنْ كَانَ أُخْرَوِيًّا؛ فَالتَّرْكُ إِذًا وَسِيلَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ فَهُوَ فَضِيلَةٌ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، لَا مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ التَّرْكِ، وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهُ الْغَزَّالِيُّ؛ إِذْ قَالَ1: "الزُّهْدُ عِبَارَةٌ عَنِ انْصِرَافِ الرَّغْبَةِ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ"، فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُجَرَّدَ الِانْصِرَافِ عَنِ الشَّيْءِ خَاصَّةً، بَلْ بِقَيْدِ الِانْصِرَافِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: "وَلَمَّا كَانَ الزُّهْدُ رَغْبَةً عَنْ مَحْبُوبٍ بِالْجُمْلَةِ؛ لَمْ يُتَصَوَّرْ إِلَّا بِالْعُدُولِ إِلَى شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ مِنْهُ، وَإِلَّا؛ فَتَرْكُ الْمَحْبُوبِ لِغَيْرِ الْأَحَبِّ مُحَالٌ"2. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْسَامَ الزُّهْدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الزُّهْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ عَلَى حَالٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ الْمُعْتَبِرِينَ؛ فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى هَذَا الْمَدَارِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا كَوْنُ الْمُبَاحِ غَيْرَ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ؛ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ3؛ لِأَنَّ كِلَا الطَّرَفَيْنِ مِنْ جِهَتِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى سواء.   1 في "إحياء علوم الدين" "4/ 216". 2 "4/ 217". 3 يجري فيه الدليل الأول لا الثاني، ويجري فيه الثالث باعتبار قوله: "ولا معقول في نفسه"، لا باعتبار قوله: "غير صحيح باتفاق"؛ لأنه في الترك غير متفق عليه، ولا يجري فيه الخامس، ويجري فيه السادس، وقد أعاده هنا بقوله: "أحدها"؛ لأنه احتاج هنا إلى كلام فيه وإلى رد على الكعبي ليس محله هناك، ويجري فيه الشق الأخير من الدليل السابع؛ فصح قوله: "يدل عليه كثير مما تقدم"، وعليك بالنظر في تطبيق ذلك. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَطْلُوبٌ1، بِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ تَرْكُ حَرَامٍ، وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ؛ فكل مباح واجب ... إلى آخر ما قرره الْأُصُولِيُّونَ عَنْهُ، لَكِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ أَنَّ الْمُبَاحَ -مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَسْتَلْزِمُ- مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مَا قَالَهُ النَّاسُ هُوَ الصَّحِيحُ2؛ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لُزُومُ أَنْ لَا تُوجَدَ الْإِبَاحَةُ فِي فِعْلٍ من الأفعال عينا3 ألبتة؛ فلا   1 هذا مذهب الكعبي وأتباعه، وقد اختلفت عبارات الأصوليين في تصوير مأخذه على ثلاثة وجوه: أحدها: أن كل فعل يوصف بأنه مباح عند النظر إليه بانفراده هو واجب باعتبار أنه ترك به حرام. ثانيها: أن المباح مأمور به بناء على أنه حسن؛ فيحسن أن يطلبه الطالب لحسنه. ثالثها: أن المباح من أضداد المحروم؛ فيكون مأمورا به بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده، والقول الفاصل في هدم هذه المآخذ من أساسها هو ما نبه عليه المصنف من أن تمايز الأحكام يرجع إلى قصد الشارع, ومقصود الشارع بخطاب الإباحة أن يكون المباح موكولا إلى خبرة المكلف ولا قصد له في فعله دون تركه ولا في تركه دون فعله. "خ". وانظر في الرد على الكعبي: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 530-548"، و"البرهان" "1/ 294"، و"المحصول" "2/ 207"، و"المستصفى" "1/ 75"، و"المنخول" "116"، و"البحر المحيط" "1/ 155"، و"شرح المنهاج" "1/ 115-117" لشمس الدين الأصبهاني. 2 لم يقل: وعند ذلك يكون الخلاف* لفظيًّا؛ لأنه وإن وافقهم في هذا؛ يرى أن استلزامه للواجب حتم؛ لأن فيه ترك محرم دائما، بخلافه عندهم؛ فإنه يجري عليه ما يجري على الذريعة، وتكون تسميته مباحا لا محصل لها على رأيه؛ فلا يوجد فعل في الخارج مباح أبدا؛ لأنه مهما وقع ما يسمى مباحا؛ فهو واجب، وهو مبنى الرد في الوجه الأول، وسيرتب عليه الوجه الثاني، وهو أن يكون وضع هذا القسم بين الأحكام الشرعية عبثا، ولا يقول هو بذلك كغيره "د". 3 أي: في أي فعل معين. "د".   * في المطبوع: "الخلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يُوصَفُ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِإِبَاحَةٍ أَصْلًا، وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ -قَبْلَ هَذَا الْمَذْهَبِ- لَمْ تَزَلْ تَحْكُمُ عَلَى الْأَفْعَالِ بِالْإِبَاحَةِ، كَمَا تَحْكُمُ عَلَيْهَا بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَإِنِ اسْتَلْزَمَتْ تَرْكَ الْحَرَامِ؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا لِمَا يُسْتَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الْمُبَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ؛ لَارْتَفَعَتِ الْإِبَاحَةُ رَأْسًا عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِ. بَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْإِبَاحَةُ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ عَلَى التَّعْيِينِ؛ كَانَ وَضْعُهَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَبَثًا؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ وَاجِبًا؛ فَلَيْسَ بِمُبَاحٍ، فَيَبْطُلُ قِسْمُ الْمُبَاحِ أَصْلًا وَفَرْعًا؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ شَرْعًا فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَا يَقْضِي عَلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ؛ لَوَجَبَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْبَاقِيَةِ؛ لِاسْتِلْزَامِهَا تَرْكَ الْحَرَامِ؛ فَتَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً، وَتَصِيرُ وَاجِبَةً1. فَإِنِ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ حَسْبَمَا نُقِلَ عَنْهُ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ جِهَةَ الِاسْتِلْزَامِ، [فَلِذَلِكَ نَفَى الْمُبَاحَ؛ فَلْيَعْتَبِرْ جِهَةَ الِاسْتِلْزَامِ] 2 فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ فينفيها، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ؛ فَإِنِ اعْتَبَرَ3 فِي الحرام والمكروه   1 لأن الموجود في الخارج فعل واحد، ولا يصح أن يكون حراما واجبا مثلا؛ إذ المعنى الذي يتقوم به مفهوم الواجب يعاند المعنى الذي يتقوم به مفهوم الحرام، ويستحيل وجود فرد يصدق عليه مفهومان يتقومان من أمرين متناقضين. "خ". 2 غير موجود في الأصل. 3 أي: لتبقى الأحكام الأربعة ولا تنفى؛ حتى يخلص من القول بما يخالف المعقول، وذلك بألا يعتبر فيها جهة الاستلزام، بل جهة النهي أو الأمر. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 جِهَةَ النَّهْيِ، وَفِي الْمَنْدُوبِ جِهَةَ الْأَمْرِ -كَالْوَاجِبِ- لَزِمَهُ اعْتِبَارُ جِهَةِ التَّخْيِيرِ فِي الْمُبَاحِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ مَعْقُولِهِمَا. فَإِنْ قَالَ: يَخْرُجُ الْمُبَاحُ عَنْ كَوْنِهِ [مُبَاحًا] 1 بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، أَوْ بِمَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهِ؛ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ سُلِّم؛ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعْلُومٌ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَإِنْ سُلِّمَ؛ فَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ الْأُخَرُ، فَيَصِيرُ الْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمَنْدُوبُ وَاجِبَاتٍ، وَالْوَاجِبُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَاجِبًا مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَتَحَصَّلُ لَهُ مَقْصُودٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّارِعَ لَا قَصْدَ لَهُ فِي فِعْلِ الْمُبَاحِ دُونَ تَرْكِهِ، وَلَا فِي تَرْكِهِ دُونَ فِعْلِهِ، بَلْ قَصْدُهُ جَعْلُهُ لِخِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ، فَمَا كَانَ مِنَ الْمُكَلَّفِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، فَذَلِكَ قَصْدُ الشَّارِعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ فَصَارَ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، أَيَّهُمَا2 فَعَلَ فَهُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ، لَا أَنَّ لِلشَّارِعِ قَصْدًا فِي الْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ، وَلَا فِي التَّرْكِ بِخُصُوصِهِ. لَكِنْ يَرِدُ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّرَفَيْنِ3 إِشْكَالٌ زَائِدٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّرَفِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ مَا يَقْتَضِي قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى فِعْلِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِلَى تَرْكِهِ عَلَى الْخُصُوصِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَأَشْيَاءُ: - مِنْهَا: الْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا   1 غير موجودة في الأصل. 2 ليست في "م". 3 أي: استواء الفعل والترك في المباح؛ فالإشكال السابق كان على كون الترك ليس مطلوبا، أما هنا؛ فعلى كون كل منهما غير مطلوب، فيقال: كيف وقد طلب الفعل وطلب الترك أيضا؟ فهل مع هذا يقال: إن المباح يستوي طرفاه؟ "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [الْبَقَرَةِ: 168] . وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 51] . وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ النِّعَمَ الْمَبْسُوطَةَ فِي الْأَرْضِ لِتَمَتُّعَاتِ الْعِبَادِ الَّتِي ذُكِرَتِ الْمِنَّةُ بِهَا، وَقُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ؛ فُهِمَ مِنْهَا الْقَصْدُ إِلَى التَّنَعُّمِ بِهَا، لَكِنْ بِقَيْدِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا. - وَمِنْهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مما بث في الأرض من الطييات، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ ضَلَالِهِمْ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الْأَعْرَافِ: 32] ؛ أَيْ: خُلِقَتْ لِأَجْلِهِمْ، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الْأَعْرَافِ: 32] ، لَا تِبَاعة1 فِيهَا وَلَا إِثْمٌ؛ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْقَصْدِ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا دُونَ تَرْكِهَا2. - وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ هَدَايَا مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، وَهَلْ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ عَدَمُ قَبُولِ هَدِيَّةِ السَّيِّدِ؟! هَذَا غَيْرُ لَائِقٍ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَلَا فِي مَجَارِي الشَّرْعِ, بَلْ قَصْدُ الْمُهْدِي أَنْ تُقْبَلَ هَدِيَّتُهُ، وَهَدِيَّةُ اللَّهِ إِلَى الْعَبْدِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عليه؛ فليقبل، ثم ليشكر له عليها.   1 التباعة كالتبعة: ما فيه إثم يتبع به. انظر: "لسان العرب" "ت ب ع". 2 الإنكار في الآية واقع على تحريم الزينة والطيبات؛ أي: الحكم عليها بالحرمة، وهذا الحكم مخالف للواقع, وقول على الله بغير بينة؛ فيكون محظورا، ويستحق صاحبه الإنكار والإنذار، وليس في الآية وجه يمكن الاستئناس به لرجحان استعمال الزينة والطيبات سوى ذكرها على وجه أنها نعمة خلقها الله ليتمتع بها عباده المخلصون. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِيهِ عُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ؛ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" 1، زَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقْتَ بِصَدَقَةٍ فَرُدَّتْ عَلَيْكَ؟ أَلَمْ تَغْضَبْ؟ "2، وَفِي الْحَدِيثِ: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" 3.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 478/ رقم 686"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة, باب في تقصير الصلاة في السفر، 3/ 116-117"، والترمذي في "الجامع" أبواب التفسير، باب سورة النساء/ رقم 3034، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب قصر الصلاة/ رقم 1199/ 1200" من حديث عمر, رضي الله عنه. 2 لم يرد في مسألة القصر كما قال المصنف، وإنما في الفطر. أخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 103" بسند حسن عن بلال بن عبد الله بن عمر؛ أنه سأل أباه عبد الله بن عمر؛ فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نكون في السفر، فيكون الطعام والخبيص، فلعلنا نرحل غدوة، فلا ننزل حتى تغرب الشمس؛ فنحب أن نصوم بعض الذي علينا. فقال ابن عمر: أرأيت لو أنك أهديت لرجل هدية فردها عليك، ألم تجد في نفسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تقبل عزيمته. وأخرجه الديلمي في "الفردوس" "1/ 2/ 226" بسند ضعيف، وفيه أن هذه الزيادة وقعت بين ابن عمر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي إسنادها إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، وأبو بكر بن محمد وهو مجهول، قاله عبد الحق في "الأحكام"؛ كما في "اللسان" "6/ 349"، وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 2196". 3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم، وسيأتي "ص480" وتخريجه هناك أوعب، والله الهادي. وشرح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث شرحا رائعا في رسالة "شرح كلمات الشيخ عبد القادر الجيلاني" ضمن المجلد العاشر من "مجموع الفتاوى" على نقص فيها ترى تمامه في "جامع الرسائل" للشيخ محمد رشاد سالم, رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَغَالِبُ الرُّخَصِ فِي نَمَطِ الْإِبَاحَةِ نُزُولًا عَنِ الْوُجُوبِ؛ كَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، أَوِ التَّحْرِيمِ؛ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النِّسَاءِ: 25] إِلَى آخِرِهَا, وَإِذَا تَعَلَّقَتِ الْمَحَبَّةُ بِالْمُبَاحِ؛ كَانَ رَاجِحَ الْفِعْلِ. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ أَرْجَحَ مِنْ تَرْكِهِ. وَأَمَّا مَا يَقْتَضِي الْقَصْدَ إِلَى التَّرْكِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَمِّ [التَّنَعُّمَاتِ] 1 وَالْمَيْلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَعَلَى الْخُصُوصِ قَدْ جَاءَ مَا يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْكَرَاهَةِ فِي بَعْضِ مَا ثَبَتَتْ لَهُ الْإِبَاحَةُ؛ كَالطَّلَاقِ السُّنِّيِّ2؛ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ: "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ" 3، وَلِذَلِكَ لَمْ   1 ساقطة من الأصل. 2 وهو الذي رسمته السنة بأن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، أما البدعي؛ فليس بمباح حتى يمثل به. "د". 3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق, باب في كراهية الطلاق، 2/ 255/ رقم 2178" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322"- وابن عدي في "الكامل" "6/ 2453" من طريق محمد بن خالد الوهبي عن معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعا. وإسناده ضعيف، شذ محمد بن خالد الوهبي في وصله, فرواه من هو أوثق منه وأكثر عددا فأرسلوه، وهذا البيان: أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 2177", ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "7/ 322": ثنا أحمد بن يونس، والبيهقي أيضا "7/ 322" من طريق يحيى بن بكير، وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 253" من طريق وكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك في "البر والصلة" -كما في "المقاصد الحسنة" "12"- وأبو نعيم الفضل بن دكين -كما قال الدارقطني في "العلل" "4/ ق 52/ ب"-، خمستهم عن معرف بن واصل عن محارب مرسلا دون ذكر "ابن عمر" فيه، وهذا هو الصواب، وهو الذي رجحه أبو حاتم -كما في "العلل" "1/ 431" لابنه- والدارقطني في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 يأتِ بِهِ صِيغَةُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي التَّمَتُّعِ بِالنِّعَمِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [الْبَقَرَةِ: 229] . {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [الْبَقَرَةِ: 230] . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطَّلَاقِ: 1] . {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] .   = "العلل" "4/ ق 52/ ب"، والخطابي في "معالم السنن" "4/ 231"، وإليه مال البيهقي حيث رجح رواية أبي داود عن أحمد بن يونس المرسلة على رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أحمد بن يونس الموصولة -وهي عند الحاكم "2/ 196"، والبيهقي- حيث قال عقبها: "ولا أراه -أي: ابن أبي شيبة- حفظه". وقد جاء الحديث موصولا من حديث ابن عمر، ولكن من طريق المعتمد عليها: "كالقابض على الماء"، أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 2018"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" "رقم 14"، وابن حبان في "المجروحين" "2/ 64" -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" "رقم 1056"- وتمام في "الفوائد" "رقم 798- ترتيبه" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ ق 103/ أ"- وابن عدي في "الكامل" "4/ 1630" من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب به. والوصافي ليس بشيء؛ كما قال ابن معين، وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث؛ فإسناده ضعيف جدا. وفي الباب عن معاذ عند الدارقطني في "السنن" "4/ 35"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 694" بلفظ: "ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق"، وله ألفاظ أخرى، وإسناده ضعيف. وكتب "خ" هنا في الهامش ما نصه: "وهو محمول على الصور التي لا يتحقق فيها الموجد للفراق؛ فإنه يكون وقتئذ من المكروه الذي يناله نصيب من بغض الله لما يترتب عليه من الإساءة للزوجة أو أقاربها، أو الولد الذي تتركه من خلفها، وإنما سمي بالحلال؛ لأن الحلال يطلق على ما يقابل الحرام؛ فيتناول المباح والمكروه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَلَا شَكَّ أَنَّ جِهَةَ الْبُغْضِ فِي الْمُبَاحِ مَرْجُوحَةٌ1. وَجَاءَ: "كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثَلَاثَةً" 2. وَكَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّهْوِ مُبَاحٌ، وَاللَّعِبُ أَيْضًا مُبَاحٌ، وَقَدْ ذُمَّ. فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُنَافِي قَصْدَ الشَّارِعِ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ الْآخَرِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى [أَنَّ] 3 الْمُبَاحَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الطَّلَبُ فعلا   1 أي تجعله مرجوحا، كما أن تعلق الحب بالرخصة المباحة يجعل المباح راجحا. "د". 2 وتتمته: "رميه الصيد بقوسه، وتأديبه فرسه, وملاعبته امرأته؛ فإنه من الحق ". أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 95"، والطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع البحرين" "1/ ق 120/ ب"- بإسناد ضعيف عن أبي هريرة فيه سويد بن عبد العزيز، قال أحمد: "متروك"، وضعفه الجمهور، قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" "5/ 269". وقد وهم فيه سويد، إنما هو عن ابن عجلان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين مرسلا، كما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، 4/ 174/ رقم 1637". أفاده أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان؛ كما في "العلل" "1/ 302/ رقم 905" وزاد ابن أبي حاتم: "قال أبي: ورواه ابن عيينة عن ابن أبي حسين عن أبي الشعثاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أيضا مرسل". قلت: وروايته أخرجها سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 2454-ط الأعظمي". وأخرجه موصولا من طريق آخر عن أبي هريرة القراب في "فضائل الرمي" "رقم 12"، وإسناده ضعيف جدا، فيه عمر بن صبح، متروك، وقد اتهم. انظر: "المجروحين" "2/ 88"، و"الميزان" "3/ 206". وللحديث شواهد بألفاظ مقاربة يصل بها إلى درجة الصحة، خرجتها في "فضائل الرمي" للقراب، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 315". 3 ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وَتَرْكًا عَلَى غَيْرِ الْجِهَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ1. وَالْجَوَابُ مِنْ وِجْهَيْنِ2، أَحَدُهُمَا إِجْمَالِيٌّ، وَالْآخَرُ تَفْصِيلِيٌّ. فَالْإِجْمَالِيُّ أَنْ يُقَالَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُبَاحَ عِنْدَ الشَّارِعِ هُوَ الْمُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ؛ فَكُلُّ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ؛ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ كَوْنِهِ مُبَاحًا، إِمَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ حَقِيقَةً وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُبَاحِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِي أَصْلِهِ, ثُمَّ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَقَدْ يُسَلَّمُ أَنَّ الْمُبَاحَ يَصِيرُ غَيْرَ مُبَاحٍ بِالْمَقَاصِدِ وَالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ3. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ؛ فَإِنَّ الْمُبَاحَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَصْلٍ ضَرُورِيٍّ، [أَوْ حَاجِيٍّ] 4، أَوْ تَكْمِيلِيٍّ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ: قَدْ يُراعى مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ خَادِمٌ لَهُ؛ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا وَمَحْبُوبًا5 فِعْلُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِهَا مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِبَاحَتُهُ بِالْجُزْءِ6، وَهُوَ خَادِمٌ لِأَصْلٍ ضَرُورِيٍّ، وَهُوَ إِقَامَةُ الحياة؛ فهو   1 أي: الخارجة عنه، الآتية بطريق الاستلزام يعني: بل ذلك راجع لنفس المباح؛ فلا تصلح هنا الأجوبة المتقدمة "د". 2 في الأصل: "جهتين". 3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462". 4 ليست في الأصل. 5 في "م" و"خ": "محبوبا ومحبوبا"! 6 يعني أنه باعتبار هذا المأكول بعينه، وهذا الجزئي من الملبس والمشرب بخصوصه مباح، وباعتبار أنه يخدم ضروريا وهو إقامة الحياة -وهي جهة كلية- يكون مطلوبا ويؤمر به، لا من جهة خصوصيته، بل من جهة كليته؛ فليس الأمر آتيا من جهة كونه خوخا أو تفاحا أو خبزا في وقت كذا، بل من الوجهة العامة، ومن هنا يجيء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى غير ذلك من صيغ الأوامر. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَمُعْتَبَرٌ وَمَحْبُوبٌ مِنْ حَيْثُ هَذَا الْكُلِّيِّ الْمَطْلُوبِ؛ فَالْأَمْرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى حَقِيقَتِهِ1 الْكُلِّيَّةِ، لَا إِلَى اعْتِبَارِهِ الْجُزْئِيِّ وَمِنْ هُنَا يَصِحُّ كَوْنُهُ هَدِيَّةً يَلِيقُ فِيهَا الْقَبُولُ دُونَ الرَّدِّ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ مُعَيَّنٌ. وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِمَا يَنْقُضُ أَصْلًا مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، أَوْ لَا يَكُونَ خَادِمًا لِشَيْءٍ كَالطَّلَاقِ2؛ فَإِنَّهُ تَرْكٌ لِلْحَلَالِ الَّذِي هُوَ خَادِمٌ لِكُلِّيِّ إِقَامَةِ النَّسْلِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ، وَلِإِقَامَةِ مُطْلَقِ الْأُلْفَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَاشْتِبَاكِ الْعَشَائِرِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ أَوْ حَاجِيٌّ أَوْ مُكَمِّلٌ لِأَحَدِهِمَا، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بِهَذَا النَّظَرِ خَرْمًا لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَنَقْضًا عَلَيْهِ؛ كَانَ مُبَغَّضًا، وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ؛ إِلَّا لِمُعَارِضٍ أَقْوَى؛ كَالشِّقَاقِ, وَعَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ, وَهُوَ مِنْ حَيْثُ كَانَ جُزْئِيًّا فِي هَذَا الشَّخْصِ، وَفِي هَذَا الزَّمَانِ مُبَاحٌ وَحَلَالٌ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحَلَالُ فِيهَا قَدْ يُتَنَاوَلُ فَيَخْرِمُ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ؛ كَالدِّينِ3 -عَلَى الْكَافِرِ وَالتَّقْوَى عَلَى الْعَاصِي- كَانَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَذْمُومًا، وَكَذَلِكَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ وَالْفَرَاغُ مِنْ كُلِّ شُغْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَحْظُورٍ وَلَا يَلْزَمُ عنه محظور فهو مباح، ولكنه مذموم   1 وهذا غير الاستلزام وغير الأمور الخارجية التي سبق الكلام عليها في الرد على الكعبي. "د". 2 فالطلاق خادم لترك النكاح الحلال الذي يخدم ضروريا كليا هو إقامة النسل؛ فالطلاق خدم ما ينقض أصلا كليا وحاجيا أيضا كما سيقول. "د". 3 فإن المال واقتناءه حلال في ذاته، ولكنه قد يكون فتنة تلحق الشخص؛ فيكون سببا في الكفر أو الاستمرار عليه، وهذا في الكافر، وقد يكون سببا في خرم التقوى وهدمها بالنسبة للمسلم العاصي "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وَلَمْ يَرْضَهُ الْعُلَمَاءُ1، بَلْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ لَا يُرَى الرَّجُلُ فِي إِصْلَاحِ مَعَاشٍ، وَلَا فِي إِصْلَاحِ مَعَادٍ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ زَمَانٍ فِيمَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَلَا أُخْرَوِيَّةٌ. وَفِي الْقُرْآنِ: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] ؛ إِذْ2 يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثَلَاثَةً" 3، وَيَعْنِي بِكَوْنِهِ بَاطِلًا أَنَّهُ عَبَثٌ أَوْ كَالْعَبَثِ، لَيْسَ لَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ وَلَا ثَمَرَةٌ تُجْنَى، بِخِلَافِ اللَّعِبِ مَعَ الزَّوْجَةِ؛ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ يَخْدِمُ أَمْرًا ضَرُورِيًّا وَهُوَ النَّسْلُ، وَبِخِلَافِ تَأْدِيبِ الْفَرَسِ، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ بِالسِّهَامِ؛ فَإِنَّهُمَا يَخْدِمَانِ أَصْلًا تَكْمِيلِيًّا وَهُوَ الْجِهَادُ4، فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنَ اللَّهْوِ الْبَاطِلِ، وجميع هذا بين أَنَّ الْمُبَاحَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ وَلَا التَّرْكِ بِخُصُوصِهِ5. وَهَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ثَابِتٍ فِي الْأَحْكَامِ التكليفية؛ فلنضعه [ها] هنا، وهي:   1 في الأصل: "العقلاء". 2 في الأصل: "قد". 3 مضى تخريجه قريبا. 4 عده هنا من التكميليات، وسيعده في كتاب المقاصد من الضروريات، ولا تعارض بين المقامين؛ إذ لا مانع من جعله ضروريا في حال، وتكميليا في حال؛ فالأول فيما إذا ترتب على تركه هرج وفساد، وفوت حياة دنيوية أو أخروية، والثاني فيما إذا دعت إليه حاجة كون كلمة الإسلام هي العليا، أو توقف عليه كف بعض الأذى عن المسلمين. "د". وكتب "خ" هنا ما نصه: "عد المصنف في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد الجهاد في قسم الضروريات، وهو الذي يقتضيه تعريف الضروري بما لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا؛ فإن هذا المعنى متحقق في الحرب التي يقصد بها دفاع الهاجمين أو مناجزة المتحفزين". 5 هذه هي فائدة الإشكال والجواب عنه، ولم تستفد من أول المسألة، ولا من الجدل الماضي كله، وفي الحقيقة قد أخذ من هنا تقييد الكلام السابق وتنقيحه، وأنه لا بد أن نزيد هذه الكلمة الوجيزة "بخصوصه" "د". قلت: ونحو ما سبق عند البغوي في "شرح السنة" "10/ 383"، وابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" "3/ 371"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "5/ 516, 21/ 48، 30/ 216، 32/ 223". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المسألة الثانية في الإباحة: فَيُقَالُ: إِنَّ الْإِبَاحَةَ1 بِحَسْبِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ يَتَجَاذَبُهَا الْأَحْكَامُ الْبَوَاقِي؛ فَالْمُبَاحُ يَكُونُ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ، مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ2، وَمُبَاحًا بِالْجُزْءِ، مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْكُلِّ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ3 أَوِ الْمَنْعِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: فَالْأَوَّلُ: كَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ4؛ مِنَ الْمَأْكَلِ، وَالْمَشْرَبِ، وَالْمَرْكَبِ، وَالْمَلْبَسِ، مِمَّا سِوَى الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ, وَالْمَنْدُوبِ الْمَطْلُوبِ فِي مَحَاسِنِ الْعِبَادَاتِ، أَوِ الْمَكْرُوهِ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ كَالْإِسْرَافِ؛ فَهُوَ مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ، فَلَوْ تُرِكَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ5 مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ, لَكَانَ جَائِزًا كَمَا لو فعل، فلو ترك جملة؛   1 الإباحة: مصدر أباحه له إباحة؛ أي: أحله له، والمباح: الحلال. "ماء". 2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 461". 3 في "ط": "الكراهية". 4 أي: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واجبا "كما إذا اقتضته ضرورة حفظ الحياة أو دفعت إليه حاجة رفع الحرج"، ولا مندوبا "كما إذا كان داخلا فيما هو من محاسن العادات"، ولا مكروها "كما إذا كان فيه إخلال بمحاسنها، كالإسراف في بعض أحواله" نقول: إن التمتع بهذه الطيبات إذا لم يكن واحدا من هذه الثلاثة يكون مباحا بالجزء مندوبا بالكل، فلو تركه الناس جميعا وأخلوا به, لكان مكروها، فيكون فعله كليا مندوبا إليه شرعا. "د". 5 مقتضاه مع سياق الأحاديث أنه مباح بالجزء مندوب بالكل في حق الشخص الواحد بعينه، وقوله بعد: "لو تركه الناس جميعا؛ لكان مكروها"، يقتضي أن طلبه كفائي، لو قام به البعض سقط عن الباقي، ولو كان قادرا عليه فلم يفعله رأسا؛ لم يكن مكروها، ولعل الأول هو المعول عليه، ويشهد له قوله في الثاني: "إذا اختار أحدها، أو تركها الرجل في بعض الأحيان أو تركها بعض الناس" "د". وفي "ط": "ترك ذلك في بعض ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 لَكَانَ عَلَى خِلَافِ مَا نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؛ فَأَوْسِعُوا على أنفسكم" 1، و: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" 2، وَقَوْلِهِ فِي الْآخَرِ حِينَ حَسَّنَ مِنْ هَيْئَتِهِ: "أَلَيْسَ هَذَا أَحْسَنُ؟ " 3، وَقَوْلِهِ: "إِنَّ اللَّهَ   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء 1/ 475/ رقم 365" عن أبي هريرة ضمن حديث، فيه: "إذا وسع الله فأوسعوا ". وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب الحنطة، 5/ 52-53" عن ابن عباس ضمن حديث آخر، في آخره: "قال علي: أما إذا أوسع الله, فأوسعوا". وأخرج مالك في "الموطأ" "2/ 911" بسند صحيح إلى عمر -رضي الله عنه- قال: "إذا أوسع الله عليكم؛ فأوسعوا على أنفسكم ". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، 5/ 123-124/ رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند" "رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 51"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والحديث حسن، وله شواهد كثيرة؛ منها: حديث عمران بن حصين, أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"، والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 50" بلفظ: "إذا أنعم الله -عز وجل- على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده صحيح. وانظر سائر الشواهد في "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية المرام" "رقم 75". 3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 949" من طريق عطاء بن يسار؛ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية؛ فأشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل، ثم رجع؛ فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان". وإسناده ضعيف بهذا اللفظ؛ لإرساله، وسائر رجاله ثقات. قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 50": "ولا خلاف عن مالك أن هذا الحديث مرسل، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" 1، بَعْدَ قَوْلِ الرَّجُلِ: "إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً"، وَكَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ذَلِكَ؛ لَكَانَ مَكْرُوهًا. وَالثَّانِي: كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَوَطْءِ الزَّوْجَاتِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَوُجُوهِ الِاكْتِسَابَاتِ الْجَائِزَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 275] . {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [الْمَائِدَةِ: 96] . {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [الْمَائِدَةِ: 1] . وَكَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ، كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةٌ بِالْجُزْءِ؛ أَيْ: إِذَا اخْتَارَ أَحَدٌ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا سِوَاهَا؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ، أَوْ تَرَكَهَا الرَّجُلُ في بعض الأحوال أو الأزمان   = وقد يتصل معناه من حديث جابر وغيره". قلت: أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب اللباس، باب في غسل الثوب/ رقم 4062"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب تسكين الشعر, 8/ 183-184"، وأحمد في "المسند" "3/ 357"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 23/ رقم 2026"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1438- موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 186"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 78"، وابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 52-53"، بسند صحيح على شرط الشيخين عن جابر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه، فقال: "أما وجد هذا ما ينقي ثيابه؟! " ورأى رجلا ثائر الشعر، فقال: "ما وجد هذا ما يسكن به شعره؟! ". وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" "1/ 122" للترمذي وغيره، وقال: "بإسناد جيد". قلت: أخشى أن يكون العراقي قد رمز له بـ"ن"؛ فتحرفت إلى "ت"، وعلى كل؛ فعزو الحديث للترمذي خطأ، والله الموفق. 1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان, باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أَوْ تَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ1؛ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ, فَلَوْ فَرَضْنَا تَرْكَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ذَلِكَ؛ لَكَانَ تَرْكًا لِمَا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَكَانَ الدُّخُولُ فِيهَا وَاجِبًا بِالْكُلِّ. وَالثَّالِثُ: كَالتَّنَزُّهِ2 في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، وَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ بِالْحَمَّامِ، أَوْ غَيْرِهَا؛ فَمِثْلُ هَذَا مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ، فَإِذَا فُعِلَ يَوْمًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ مَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهِ, فَإِنْ فُعِلَ دَائِمًا كَانَ مَكْرُوهًا، وَنُسِبَ فَاعِلُهُ إِلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ, وَإِلَى خِلَافِ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَإِلَى الْإِسْرَافِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ. وَالرَّابِعُ: كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً؛ فَإِنَّهَا لَا تَقْدَحُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُعَدَّ صَاحِبُهَا خَارِجًا عَنْ هَيْئَاتِ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَأُجْرِي صَاحِبُهَا مُجْرَى الْفُسَّاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ الْغَزَّالِيُّ: "إِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمُبَاحِ قَدْ تُصَيِّرُهُ صَغِيرَةً، كَمَا أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ على الصغيرة تصيره3 كَبِيرَةً"4، وَمِنْ هُنَا قِيلَ5: "لَا صَغِيرَةَ مَعَ   1 هذا في غير الأكل والشرب مثلا، أما هما؛ فلا، بل الذي يجري فيهما قوله تركها في بعض الأحوال؛ فقوله: "فلو فرضنا ترك الناس كلهم" يعني: أو فرضنا ترك الشخص لمثل الأكل والشرب دائما وكليا لكان ... إلخ، فهو مع كونه ذكر أحوالا كثيرة؛ اكتفى بافتراض الترك في بعضها فقط، مع اعتباره عموم الحكم لما بقي من وجوه الافتراض، ويمكن أن يقال نظيره في القسم الأول. فكأنه قال في القسمين: ولو فرضنا ترك الشخص دائما وكليا, لكان تاركا للمندوب في الأول، وللواجب في الثاني فيما يكون فيه ذلك كالأكل والشرب. "د". 2 في هذا القسم والذي بعده جعل الكلام في الشخص الواحد جزئيا وكليا؛ فتنبه. "د". 3 في "ط": "تصيرها". 4 في "إحياء علوم الدين" "4/ 22"، وانظر منه: "3/ 129"، وهذا النوع الأخير عند المصنف قد يصعب التسليم به، خاصة وأنه أورده بلا أمثلة ولا أدلة، كما يصعب التفريق بينه وبين سابقه؛ ففي كل منهما "المداومة على بعض المباحات"، إلا أن نقول: إنها -أي: تلك المباحات- تصير محرمة بالإدمان عليها والإفراط فيها؛ لأنها حينئذ تصير هوى متبعا، وآفة مستحكمة، ومضيعة للعمر، وفي هذا من موجبات التحريم ما لا يخفى، ومن الأمثلة الجلية على هذا احتراف بعض الناس اليوم لبعض أنواع اللعب, فيصير الإنسان حرفته "لاعب"، وتصير حياته لعبا في لعب، وقريب من هذا ما يداوم عليه بعض الناس من قطع الساعات الطوال من كل أيامهم أو معظمها في المقاهي وما أشبهها من توافه الأمور وسفاسفها، أفاده الريسوني. 5 في "ط": "قالوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الإصرار"1.   1 كتب "خ" هنا ما نصه: "هذه مقالة لبعض الصوفية، وليست بحديث كما تخيله بعض من لا يتحرى في الرواية". وفي "ط": "إصرار". قال أبو عبيدة: وردت المقولة السابقة على أنها حديث مرفوع عن: - ابن عباس، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 853"، وأبو الشيخ، والديلمي، والعسكري في "الأمثال" -كما في "المقاصد" "467"- بسند ضعيف, فيه أبو شيبة الخراساني، أتى بخبر منكر؛ كما قال الذهبي في "الميزان" "4/ 537"، وذكره. - أبي هريرة، أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" بسند واه بمرة، فيه مبشر بن عبيد الدارسي، وهو متروك، أفاده السخاوي. وأخرجه من حديثه أيضا: الثعلبي وابن شاهين في "الترغيب" من طريق آخر لا يفرح بها، فيها بشر بن إبراهيم وضاع مشهور؛ كما في "اللسان" "2/ 18". - عائشة، أخرجه أبو حذيفة إسحاق بن بشر في "المبتدأ"، قاله السخاوي، وزاد: "وإسحاق حديثه منكر" قلت: وهو متهم بالوضع. - أنس، أخرجه البغوي ومن جهته الديلمي، قال السخاوي: "وينظر سنده"، قال محشيه: "نظرت سنده؛ فوجدت فيه راويا مجهولا"؛ فالحديث لم يثبت مرفوعا، وثبت موقوفا على ابن عباس, وليس عن بعض الصوفية، وقد قلد المحشي في عبارته السابقة الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص47"؛ إذ المقولة مقولته!! -أخرج ابن جرير في "التفسير" "رقم 9207"، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 498، النساء: 31"- والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 7150"، وابن المنذر -كما في "المقاصد"- بسند صحيح؛ أن ابن عباس سئل: كم الكبائر؛ أسبع هي؟ قال: "إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع, غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار". وانظر في ضابط الإصرار المصير للصغيرة كبيرة: "الذخيرة" "10/ 223" للقرافي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فَصْلٌ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَنْدُوبًا بِالْجُزْءِ كَانَ وَاجِبًا بِالْكُلِّ1؛ كَالْأَذَانِ فِي الْمَسَاجِدِ الْجَوَامِعِ أَوْ غَيْرِهَا، وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْوِتْرِ، وَالْفَجْرِ2، وَالْعُمْرَةِ، وَسَائِرِ النَّوَافِلِ الرَّوَاتِبِ؛ فَإِنَّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا بِالْجُزْءِ، وَلَوْ فُرِضَ تَرْكُهَا جُمْلَةً لَجُرِّحَ التَّارِكُ لَهَا, أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْأَذَانِ إِظْهَارًا لِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؟ وَلِذَلِكَ يَسْتَحِقُّ أَهْلُ الْمِصْرِ الْقِتَالَ إِذَا تَرَكُوهُ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِهَا يُجَرَّحُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهَا مُضَادَّةً لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَقَدْ تَوَعَّدَ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- من دوام عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ؛ فَهَمَّ أَنْ يُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ3، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُغِيرُ عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِلَّا أَغَارَ4، وَالنِّكَاحُ لَا يَخْفَى مَا فيه مما هو   1 إما كفائيا كالأذان وإقامة الجماعة، وإما عينيا كباقي الأمثلة؛ إلا ما يأتي بعد من النكاح، فوجوبه الكفائي بقدر ما يتحقق منه مقصود الشارع. "د". قلت: وفي بعض الأمثلة المذكورة عند المصنف نزاع في كونها على الكفاية، وانتصر غير واحد من المحققين -كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه- للقول بوجوب صلاة الجماعة والعيدين على الأعيان، والله الموفق. 2 هذا التمثيل غير صحيح, ولا وجه له إلا أن يكون فيه سقط تقديره "وسنة الفجر". 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125/ رقم 644"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، 1/ 451/ رقم 651"، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ناسا في بعض الصلوات؛ فقال: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها؛ فآمر بهم، فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها" يعني: صلاة العشاء، لفظ مسلم. 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب ما يحقن الأذان من الدماء، 2/ 89-90/ رقم 610، وكتاب الجهاد، باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، 6/ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ؛ مِنْ تَكْثِيرِ النَّسْلِ، وَإِبْقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَالتَّرْكُ لَهَا جُمْلَةً مُؤَثِّرٌ فِي أَوْضَاعِ الدِّينِ، إِذَا كَانَ دَائِمًا، أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، فَلَا مَحْظُورَ فِي التَّرْكِ. فَصْلٌ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَكْرُوهًا بِالْجُزْءِ كَانَ مَمْنُوعًا بِالْكُلِّ؛ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ بِغَيْرِ مُقَامَرَةٍ، وَسَمَاعِ الْغِنَاءِ الْمَكْرُوهِ1، فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ مُدَاوَمَةٍ؛ لَمْ تَقْدَحْ فِي الْعَدَالَةِ، فَإِنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا؛ قَدَحَتْ فِي عَدَالَتِهِ، وَذَلِكَ2 دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الْغَزَّالِيِّ3، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ: "إِنْ كَانَ يُكْثِرُ مِنْهُ حتى يشغله عن الجماعة؛ لم   = 111/ رقم 2943، 2944"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان" "1/ 288/ رقم 382" عن أنس بن مالك, رضي الله عنه. وعلق "خ" على الحديث بقوله: "فترك الأذان لم يكن السبب في الإغارة على القوم، وإنما كان كالدليل على أنهم لا زالوا على مناوأة الإسلام التي هي السبب في الإغارة عليهم، ولم يكن عليه السلام ليغير على قوم من العرب إلا بعد أن تبلغهم دعوته، ويجاهروا بعداوته، ويشهد بهذا قوله لعلي بن أبي طالب في هذه الغزوة نفسها: "على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ". 1 والحق أن اللعب بالنرد والشطرنج والغناء حرام، كما هو مقرر عند كثير من المحققين من أهل العلم. انظر: "الفروسية" لابن القيم "ص302 وما بعد-بتحقيقي". 2 وذلك "أي: قدح المداومة على المكروهات في العادة، وإخراج صاحبها عن أهل الشهادة" دليل على أنه اقترف ذنبا. "د". 3 وهو أن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، بل هذا أولى من المداومة على بعض المباحات "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ"، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ هَيْئَةِ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ1، وَالْحُلُولُ بِمَوَاطِنِ التُّهَمِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَصْلٌ: أَمَّا الْوَاجِبُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ إِنَّمَا أَطْلَقُوا الْوَاجِبَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ الْجُزْئِيُّ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا بِالْجُزْءِ؛ فَهُوَ كَذَلِكَ بِالْكُلِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلَكِنْ هَلْ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ أَمْ لَا؟ أَمَّا بِحَسَبِ الْجَوَازِ2؛ فَذَلِكَ ظَاهِرٌ, فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الظُّهْرُ الْمُعَيَّنَةُ فَرْضًا عَلَى الْمُكَلَّفِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا, وَيُعَدُّ مُرْتَكِبَ كَبِيرَةٍ؛ فَيُنَفَّذُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ بِسَبَبِهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ؛ فَالتَّارِكُ لِكُلِّ ظُهْرٍ أَوْ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْقَاتِلُ عَمْدًا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً، مَعَ مَنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ بِالْمُدَاوَمَةِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا بِحَسَبِ الْوُقُوعِ؛ فَقَدْ جَاءَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي تَارِكِ الْجُمْعَةِ: " [مَنْ تَرَكَ الْجُمْعَةَ] 3 ثَلَاثَ مرات طبع الله على قلبه" 4؛ فقيد   1 انظر كتابنا: "المروءة وخوارمها"؛ فقد فصلنا -ولله الحمد- في ذلك. 2 أي: جواز ذلك وإمكان وقوعه شرعا، ويأتي مقابله، وهو الوقوع بالفعل في قوله: "وأما بحسب الوقوع". "د". 3 ساقطة من الأصل، والسياق واضح بدونها. 4 ورد عن أبي الجعد الضمري، بلفظ: "من ترك ثلاث جمع تهاونا؛ طبع الله على قلبه ". أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجمعة، 1/ 277/ رقم 1052"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، 3 = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بِالثَّلَاثِ كَمَا تَرَى، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "مَنْ تَرَكَهَا 1 اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا أَوْ تَهَاوُنًا" 2، مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا3 مُخْتَارًا غَيْرَ مُتَهَاوِنٍ وَلَا مُسْتَخِفٍّ؛ لَكَانَ تَارِكًا لِلْفَرْضِ؛ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ [تَرْكَهَا] 4 مَرَّاتٍ أَوْلَى فِي التَّحْرِيمِ، وَكَذَلِكَ5 لَوْ تَرَكَهَا قَصْدًا لِلِاسْتِخْفَافِ وَالتَّهَاوُنِ، وَانْبَنَى عَلَى ذَلِكَ فِي الْفِقْهِ: أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ. قَالَهُ سَحْنُونٌ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: إِذَا6 تَرَكَهَا مِرَارًا لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لم تجز شهادته7. وكذلك.   = / 277/ رقم 1052"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، 1/ 357/ رقم 1125"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الص لاة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، 2/ 373/ رقم 500"، وأحمد في "المسند" "3/ 424"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 175، 176/ رقم 1875، 1876"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 230"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 280"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 237-238/ رقم 258 و4/ 198/ رقم 2775- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 172"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 213/ رقم 1053"، والدولابي في "الكنى والأسماء" "1/ 21-22"، والمروزي في "فضل الجمعة" "رقم 62" بإسناد قوي، كما قال الذهبي في "الكبائر" "ص208- بتحقيقي"، وصحح الحديث جماعة، انظر: "التلخيص الحبير" "2/ 52". 1 ذكر الحديث بهذه الرواية على ما فيها ليفيد أن الشارع رتب على تكرار الترك ما رتبه على الترك تهاونا واستخفافا، ولا يخفى عظم جرم الاستخفاف؛ فدل على أن جريمة التكرار أكبر من جريمة المرة الواحدة، ولا يخفى عليك حكمة ذلك؛ فإن تكرار الترك لغير عذر وإن لم تشعر النفس فيه بالاستخفاف، ولم يخطر بالبال؛ إلا أنه في الواقع لا بد أن يكون مركوزا في نفس الشخص الذي يتكرر منه الترك؛ لأنه هو السبب الحقيقي للتكرار، كما يشير إليه كلامه بعد. "د". 2 تقدم نحوه في الحديث السابق. 3 أي مرة واحدة؛ لكان تاركا للفرض؛ أي: ولم يرتب عليه الطبع على القلب. "د". 4 ما بين حاصرتين زيادة من الأصل و"م" و"ط". 5 لعل صوابه "كما"، ويكون بيانا لحكمة ذكر الحديث الثاني. "د". 6 في "د": "إذ". 7 بعدها في النسخ المطبوعة: "قاله سحنون"، وليس لها معنى، وهي ليست في الأصل، وأشار إلى ذلك محقق "د" بقوله: "انظر ما معنى إعادتها؟ فلعل هنا تحريفا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنِ ارْتَكَبَ إِثْمًا وَلَمْ يَكْثُرْ مِنْهُ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَبِيرَةً، فَإِنْ تَمَادَى وَأَكْثَرَ مِنْهُ كَانَ قَادِحًا فِي شَهَادَتِهِ، وَصَارَ فِي عِدَادِ مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَاجِبَ لَيْسَ بِمُرَادِفٍ لِلْفَرْضِ؛ فَقَدْ يَطَّرِدُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْوَاجِبَ إِذَا كَانَ وَاجِبًا بِالْجُزْءِ كَانَ فَرْضًا بِالْكُلِّ1، لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَانْظُرْ فِيهِ وَفِي أَمْثِلَتِهِ مُنَزِّلًا عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَسْتَتِبُّ التَّعْمِيمُ؛ فَيُقَالُ فِي الْفَرْضِ2: إِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ الْفَصْلِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَمْنُوعَاتِ: إِنَّهَا تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا بِحَسَبِ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ، وَإِنْ عُدِّتْ فِي الْحُكْمِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَقْتًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ مَا؛ فَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ أُخَرَ، بَلْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهَا, كَالْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ, وَسَائِرِ الصَّغَائِرِ مَعَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ لَهَا تَأْثِيرٌ في كبرها، وقد ينضاف3 الذنب إلى   1 أي: فينزل الواجب منزلة المندوب فيما سبق, ويكون جزئيه واجبا وكليه فرضا، بل يكون هذا أولى من المندوب، وعليه لا يخرج الواجب عن الطريقة التي شرحت في المندوب والمكروه والمباح، واختلافها جزئيا عنهما كليا، وأخذ الكلي حكما* آخر من الأحكام الخمسة غير ما كان في الجزئي. "د". 2 أي: أيضا كما قيل في الواجب والأقسام قبله، لكن بالطريقة التي ذكرها في هذا الفصل، وأن جريمة التكرار أكبر من الترك، وهكذا مما سبق له، لا أنه يأخذ لقبا آخر من ألقاب الأحكام الخمسة لم يكن له قبلا في الجزئية، ومثله يقال في الحرام. "د". 3 في الأصل: "يضاف".   * في المطبوع: "حكم"! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الذَّنْبِ؛ فَيَعْظُمُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ؛ فَلَيْسَتْ سَرِقَةُ نِصْفِ النِّصَابِ كَسَرِقَةِ رُبْعِهِ، وَلَا سَرِقَةُ النِّصَابِ كَسَرِقَةِ نِصْفِهِ، وَلِذَلِكَ عَدُّوا سَرِقَةَ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفَ بِحَبَّةٍ مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ -مَعَ أَنَّ السَّرِقَةَ مَعْدُودَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ- وَقَدْ قَالَ الْغَزَّالِيُّ: "قَلَّمَا يُتَصَوَّرُ الْهُجُومُ عَلَى الْكَبِيرَةِ بَغْتَةً، مِنْ غَيْرِ سَوَابِقَ وَلَوَاحِقَ مِنْ جِهَةِ الصَّغَائِرِ، -قَالَ:- وَلَوْ تُصُوِّرَتْ كَبِيرَةٌ وَحْدَهَا بَغْتَةً، وَلَمْ يَتَّفِقْ عَوْدُهُ إِلَيْهَا، رُبَّمَا كَانَ الْعَفْوُ إِلَيْهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ وَاظَبَ عَلَيْهَا عُمْرَهُ"1. فَصْلٌ: هَذَا وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِالْكُلْيَةِ وَالْجُزْئِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ2. وَلِمُدَّعٍ3 أَنْ يَدَّعِيَ اتِّفَاقَ أَحْكَامِهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِالْكُلْيَةِ وَالْجُزْئِيَّةِ. أَمَّا فِي الْمُبَاحِ؛ فَمِثْلُ قَتْلِ كُلِّ مُؤْذٍ، وَالْعَمَلِ بِالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَشِرَاءِ الْعَرِيَّةِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ بَعْدَ التَّعَبِ، حَيْثُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُتَوَجِّهَ الطَّلَبِ، وَالتَّدَاوِي، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُبَاحٌ4؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِذَا فُعِلَتْ دَائِمًا أَوْ تُرِكَتْ دائما لا يلزم من   1 "إحياء علوم الدين" "4/ 32"، وفي الأصل المخطوط: "غيره" بدل "عمره". 2 أي: في الحكم بين الجزئي والكلي، ويجعل ذلك قاعدة كلية مطردة لا تتخلف "د". 3 أي: له أن ينازع في اطراد القاعدة، ويقول: بل قد يستوي حكم الكلية والجزئية، وذاك في مثل الأمثلة التي ذكرها ووجدها في كل نوع من أنواع الأحكام الخمسة "د". 4 هذا مذهب طائفة من الفقهاء، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأخذ بالتداوي أفضل من تركه، ونظر فريق من المحققين إلى صحة قوانين الطب وكثرة إصابة الأطباء الماهرين في تطبيقها عمليا؛ فقالوا: متى خيف على النفس الوقوع في خطر، وغاب على الظن نفعه؛ كان أمرا واجبا، وأجازوا جميعا حتى الطائفة القائلة بالإباحة تمكين الطبيب من بعض الوسائل المحرمة بحسب الأصل؛ كلمس الأجنبية، والنظر إلى العورة. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فِعْلِهَا وَلَا مِنْ تَرْكِهَا إِثْمٌ، وَلَا كَرَاهَةٌ، وَلَا نَدْبٌ، وَلَا وُجُوبٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ فَعَلُوهُ كُلُّهُمْ. وَأَمَّا فِي الْمَنْدُوبِ؛ فَكَالتَّدَاوِي إِنْ قِيلَ بِالنَّدْبِ فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: "تَدَاوُوا" 1، وَكَالْإِحْسَانِ فِي قَتْلِ الدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ؛ لِقَوْلِهِ: "إِذَا قَتَلْتُمْ؛ فَأَحْسَنُوا الْقِتْلَةَ" 2؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَوْ تَرَكَهَا الْإِنْسَانُ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا3 وَلَا ممنوعا، وكذلك لو فعلها دائما.   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، 4/ 3/ رقم 3855"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، 4/ 382/ رقم 2038"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "1/ 62-63"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 2/ 1137/ رقم 3436"، وأحمد في "المسند" "4/ 278"، والبخاري في "الأدب المفرد" "291"، والحميدي في "المسند" "824"، والطيالسي في "المسند" "1747"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 323"، والطبراني في "الصغير" "1/ 202، 203"، و"الكبير" "1/ 144-151"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 399" بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك، ولفظه: " نعم يا عبد الله! تداووا؛ فإن الله -عز وجل- لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ". قالوا: وما هو؟ قال: "الهرم ". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة، 4/ 23/ رقم 1409" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والنسائي في "المجتبى" "كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة، 7/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 3170"، وأحمد في "المسند" 4/ 123، 124، 125"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 60" من حديث شداد بن أوس مرفوعا، وأوله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم ... ". 3 الجاري على ما تقدم أن يقول: لم يكن ممنوعا، وأيضا؛ فالذي يراد نفيه هنا أن تكون واجبة بالكل، أي: فيكون تركها دائما ممنوعا على وزان ما تقدم، أما كونه ليس مكروها؛ فمن جهة أن ضد المندوب المكروه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَأَمَّا فِي الْمَكْرُوهِ؛ فَمِثْلَ قَتْلِ النَّمْلِ إِذَا لَمْ تُؤْذِ1، وَالِاسْتِجْمَارِ بِالْحُمَمَةِ2 وَالْعَظْمِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُنَقِّي؛ إِلَّا أَنَّ فِيهِ تَلْوِيثًا أَوْ حَقًّا لِلْجِنِّ3، فَلَيْسَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَلَا ثَبَتَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ دَائِمًا يُحَرَّجُ بِهِ وَلَا يُؤَثَّمُ، وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ فِي الْجُحْرِ4، وَاخْتِنَاثُ الْأَسْقِيَةِ فِي الشُّرْبِ5، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.   1 كما في حديث ابن عباس: "نهي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قتل أربع من الدواب: النملة ... " أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب, باب في قتل الذر، 4/ 367، 5267"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله، 2/ 1074/ رقم 3224"، والدارمي في "السنن" "2/ 88-89", والطحاوي في "المشكل" "1/ 371"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 649"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، كلهم من طريق عبد الرزاق -وهو في "المصنف" "رقم 8415"- عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس به. قال أبو زرعة, كما في "العلل" "2/ 302" لابن أبي حاتم: "أخطأ فيه عبد الرزاق، والصحيح من حديث معمر عن الزهري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسل". والحديث صحيح، وله طرق أخرى عن ابن عباس، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 332، 347" -ومن طريقه القطيعي في "جزء الألف دينار" "رقم 58"- وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5617"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 317"، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 142/ رقم 2490". 2 الحممة: الفحمة الباردة، وكل ما احترق من النار. انظر: "لسان العرب" "ح م م". 3 كما في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في "كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، 1/ 255/ رقم 155، وكتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، 7/ 171/ رقم 3860". ولفظ "الحممة" جاء في حديث ابن مسعود، أخرجه أبو داود في "كتاب الطهارة، باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، 1/ 10/ رقم 39" بإسناد صحيح. 4 كما في حديث عبد الله بن سرجس، أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الحجر، 1/ 8/ رقم 29"، وأحمد في "المسند" "5/ 82"، وإسناده ضعيف. 5 كما في حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، 3/ 1600/ رقم 2023"، ونصه: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اختناث الأسقية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَأَمَّا فِي الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ؛ فَظَاهِرٌ أَيْضًا التَّسَاوِي، فَإِنَّ الْحُدُودَ وُضِعَتْ عَلَى التَّسَاوِي؛ فَالشَّارِبُ لِلْخَمْرِ مِائَةَ مَرَّةٍ كَشَارِبِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَاذِفُ الْوَاحِدِ1. كَقَاذِفِ الْجَمَاعَةِ، وَقَاتِلُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَقَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ تَارِكُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ الْمُدِيمِ التَّرْكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ نَصَّ الْغَزَّالِيُّ عَلَى أَنَّ الْغَيْبَةَ، أَوْ سَمَاعَهَا، وَالتَّجَسُّسَ2، وَسُوءَ الظَّنِّ، وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَكْلَ الشُّبَهَاتِ، وَسَبَّ الْوَلَدِ وَالْغُلَامِ، وَضَرْبَهُمَا بِحُكْمِ الْغَضَبِ زَائِدًا عَلَى حَدِّ الْمَصْلَحَةِ، وَإِكْرَامَ السَّلَاطِينِ الظَّلَمَةِ، وَالتَّكَاسُلَ عَنْ تَعْلِيمِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ؛ جَارٍ دَوَامُهَا مَجْرَى الْفَلَتَاتِ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا غَالِبَةٌ فِي النَّاسِ عَلَى الْخُصُوصِ، كَمَا كَانَتِ الْفَلَتَاتُ فِي غَيْرِهَا غَالِبَةً؛ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ دَوَامُهَا كَمَا لَا تَقْدَحُ فِيهَا الْفَلَتَاتُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ اسْتَقَامَتِ الدَّعْوَى فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَسْتَوِي، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَفْعَالُ بِحَسَبِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ. وَلِصَاحِبِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ على الاستواء محتمل.   1 تراجع هذه الأحكام في الفروع. "د". 2 التجسس: البحث عن عورات الناس، واستطلاع معائبهم ولو بقصد مجازاتهم عليها متى كانت تستوجب التأديب والعقوبة، قيل لابن مسعود كما أخرجه أبو داود وغيره: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال: "قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به، أما التجسس بالتنقيب عن أحوال الأمة والسعي بها إلى عدوها ليستعين بمعرفة شئونها الخفية على تمزيق وحدتها ووضع قيد الاستعباد في عنقها؛ فجناية تقتلع أصل العدالة من حيث نشأت، وأمر مرتكبها -كما نص فقهاء المالكية- موكول إلى اجتهاد من بيده الحكم النافذ، وله أن يحمله على أشد العقوبات، ويقضي على حياة تلك النفس السامة قبل أن تقضي على حياة أمة بأجمعها". "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ وَالْجُزْئِيَّ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُكَلَّفِينَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى جَوَازِ التَّرْكِ فِي قَتْلِ كُلِّ مُؤْذٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آحَادِ النَّاسِ خَفَّ الْخَطْبُ، فَلَوْ فَرَضْنَا تَمَالُؤَ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَلَى التَّرْكِ، دَاخَلَهُمُ الْحَرَجُ مِنْ وُجُوهٍ عِدَّةٍ، وَالشَّرْعُ طَالِبٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ قَطْعًا؛ فَصَارَ التَّرْكُ مَنْهِيًّا عَنْهُ نَهْيَ كَرَاهَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ إِذًا مَنْدُوبًا بِالْكُلِّ إِنْ لَمْ نَقُلْ وَاجِبًا، وَهَكَذَا الْعَمَلُ بِالْقِرَاضِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ؛ فَلَا اسْتِوَاءَ إِذًا بَيْنَ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ فِيهِ، وَبِحَسْبِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّاسَ لَوْ تَمَالَئُوا عَلَى التَّرْكِ؛ لَكَانَ ذَرِيعَةً إِلَى هَدْمِ مَعْلَمٍ شَرْعِيٍّ، وَنَاهِيكَ بِهِ، نَعَمْ قَدْ يَسْبِقُ ذَلِكَ النَّظَرُ1 إِذَا تَقَارَبَ مَا بَيْنَ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ، وَأَمَّا إِذَا تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمَا؛ فَالْوَاقِعُ مَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ هَذَا النَّظَرِ جَارٍ فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ؛ فَغَيْرُ وَارِدٍ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ فِي الْحُدُودِ ظَاهِرٌ، وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي بَعْضٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ فَلَا يُسَلَّمُ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ2، وَإِنْ سُلِّمَ؛ فَفِي الْعَدَالَةِ وَحْدَهَا لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَدَحَ دَوَامُ ذَلِكَ فِيهَا لندرت العدالة؛ فتعذرت الشهادة3.   1 أي: نظر الاتفاق في الحكم بين الكلي والجزئي في هذه المسائل إذا كان الكلي قليل الشمول ضعيف العموم؛ فربما يقال: إن الشخص الواحد لو ترك قتل المؤذي أو العمل بالقراض أو المساقاة طول حياته؛ لما خرج عن حكم المباح، وكذا يقال في الباقي، أما إذا اتسع العموم؛ فإن الحكم لا يتفق، ولا يخفى عليك أنه تسليم في شيء مما يوهن القاعدة العامة الكلية التي قررها أول الفصل. "د". 2 وهي اختلاف مراتب الممنوعات بالكلية والجزئية كما سبق. "د". 3 يكتفي الفقهاء بالميسور من شروط العدالة من تعطيل الشهادة المفضي إلى إضاعة الحقوق واختلال شأن الأمن، قال القرافي في باب السياسة من كتاب "الذخيرة": "نص ابن أبي زيد في "النوادر" على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول؛ أقمنا للشهادة عليهم أصلحهم وأقلهم فجورا، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح". ثم قال القرافي: "وما أظن أحدا يخالفه في هذا؛ فإن التكليف شرطه الإمكان". "خ". وانظر: "النوازل" للعلمي "3/ 28". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فَصْلٌ: إِذَا تَقَرَّرَ تَصْوِيرُ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ؛ فَقَدْ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا، وَالْأَمْرُ فِيهَا وَاضِحٌ مَعَ تَأَمُّلِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ التَّقْرِيرِ، بَلْ هِيَ فِي اعْتِبَارِ الشَّرِيعَةِ بَالِغَةٌ مَبْلَغَ الْقَطْعِ لِمَنِ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَلَكِنْ إِنْ طَلَبَ مَزِيدًا فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ؛ فَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جُمَلٌ: - مِنْهَا: مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي التَّجْرِيحِ بِمَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، مِمَّا لَا يُجَرَّحُ بِهِ لَوْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْمُدَاوَمَةِ تَأْثِيرًا؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُدَاوَمِ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُدَاوَمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، لَكِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ، وَأَنَّ الْمُدَاوَمَ عَلَيْهِ أَشَدُّ وَأَحْرَى مِنْهُ إِذَا لَمْ يُدَاوَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرَهُ فِي الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ لِمَنِ اعْتَبَرَهُ كَافٍ. - وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرِيعَةَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ بِاتِّفَاقٍ, وَتَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ الْكُلِّيَّاتُ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ؛ إِذْ مَجَارِي الْعَادَاتِ كَذَلِكَ جَرَتِ الْأَحْكَامُ فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ أَضْعَفُ شَأْنًا فِي الِاعْتِبَارِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ بَلْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَجْرِ1 الْكُلِّيَّاتُ عَلَى حُكْمِ الِاطِّرَادِ، كَالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ, وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، مَعَ وُقُوعِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْآحَادِ، لَكِنِ الْغَالِبُ الصِّدْقُ؛ فَأُجْرِيَتِ الْأَحْكَامُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ حِفْظًا عَلَى الْكُلِّيَّاتِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْجُزْئِيَّاتُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ, وَلَامْتَنَعَ الْحُكْمُ إلا بما هو معلوم، ولا طرح الظَّنُّ بِإِطْلَاقٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ, بَلْ حُكِمَ بِمُقْتَضَى ظن الصدق، وإن برز   1 في "ط": "تجز" بالزي، ولها وجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بَعْدُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ الْغَلَطُ فِي ذَلِكَ الظَّنِّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اطِّرَاحٌ لِحُكْمِ الْجُزْئِيَّةِ1 فِي حُكْمِ الْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ اخْتِلَافِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَأَنَّ شَأْنَ الْجُزْئِيَّةِ أَخَفُّ. - وَمِنْهَا: مَا جَاءَ فِي الْحَذَرِ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، [فَإِنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ] 2 فِي عِلْمِهِ أَوْ عَمَلِهِ -إِذَا لَمْ تَتَعَدَّ لِغَيْرِهِ- فِي حُكْمِ زَلَّةِ غَيْرِ الْعَالِمِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ تَعَدَّتْ إِلَى غَيْرِهِ اخْتَلَفَ حُكْمُهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكَوْنِهَا جُزْئِيَّةً إِذَا اخْتَصَّتْ بِهِ وَلَمْ تَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ تَعَدَّتْ صَارَتْ كُلِّيَّةً بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَوْ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوْلِ؛ فَصَارَتْ عِنْدَ الِاتِّبَاعِ عَظِيمَةً جِدًّا، وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عَلَى فَرْضِ اخْتِصَاصِهَا بِهِ، وَيَجْرِي مجراه كل من عمل عَمَلًا فَاقْتَدَى بِهِ فِيهِ؛ إِنْ صَالِحًا فَصَالِحٌ، وَإِنْ طَالِحًا فَطَالِحٌ، وَفِيهِ جَاءَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً" 3، وَ "إِنَّ نَفْسًا تُقْتَلُ ظُلْمًا؛ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأول كفل منها؛ لأنه   1 وإن كان هذا في أحكام وضعية لا الأحكام الخمسة التكليفية التي الكلام فيها؛ لأن الشهادة وقبولها من الأحكام الوضعية. ا. هـ. إلا أن يقال: إن مجاري العادات تدخلها الأحكام التكليفية أيضا، وأنت ترى أن هذه الأدلة الثلاثة إنما تدل على مجرد أصل الاختلاف بين الفعل الواحد كلا وجزءا، ولكن هل ذلك مطرد ومطرود بمعنى؟ وفي كل الأحكام الخمسة كما هي أصل الدعوى، أو في بعضها فقط؟ ا. هـ. "د". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ". 3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، 2/ 704-705/ رقم 1017"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة، 5/ 75-77"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هوى فاتبع أو إلى ضلالة/ رقم 2675"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة/ رقم 203"، وأحمد في "المسند" "4/ 357-359"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 175-176" من حديث جرير -رضي الله عنه- بلفظ: "من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" 1، وَقَدْ عُدَّتْ سَيِّئَةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةً لِهَذَا السَّبَبِ, وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا صَغِيرَةً، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبْلُغُ الْقَطْعَ عَلَى كَثْرَتِهَا وَهِيَ تُوَضِّحُ مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الْأَفْعَالِ تُعْتَبَرُ بِحَسَبِ الْجُزْئِيَّةِ والكلية، وهو المطلوب. المسألة الثالثة: اختلافات المباح الْمُبَاحُ يُطْلَقُ بِإِطْلَاقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَالْآخَرُ: مِنْ حَيْثُ يُقَالُ: لَا حَرَجَ فِيهِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فهو على أربعة أقسام2:   = من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ". وكتب "خ" هنا ما نصه: "فيدخل في معنى "سن" السنن استنباط الرجل لأصل أو حكم شرعي ينبني عليه عمل صالح, أو ابتكاره مشروعا، أو نظاما له أثر في إصلاح شأن وتأييد قوة الدفاع عن حقوق البلاد كما يتناول إظهاره عملا نافعا يترتب على قيامه به بين الناس اقتداؤهم بأثره، وإن عرف حكمه من قبل، وسبب ورود الحديث كان من هذا القبيل؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله حين جاء رجل من الأنصار بصرة من وَرِق لتنفق على أناس من الأعراب كانوا في حاجه، ثم جاء آخر، وتتابع المسلمون على ذلك، وكذلك يجري معنى سن السنن السيئة على نظير هذا البيان". 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب منه، 7/ 81-82"، وابن أبي عاصم في "الديات" "ص23" وغيرهم من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه. في "د": "لا تقتل ظلما", ولا معنى لزيادة "لا" في هذا الموضع؛ إلا إن كانت: "لا تقتل ... "، والتصحيح من الأصل. 2 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 460-462". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ التَّرْكِ. وَالثَّالِثُ1: أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِمُخَيَّرٍ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ، الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ، الْمَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْكُلِّ، بِمَعْنَى أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ؛ فَرَاجِعَانِ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي. وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ أَنَّ الْمُبَاحَ -كَمَا مَرَّ- يَعْتَبَرُ بِمَا يَكُونُ خَادِمًا لَهُ إِنْ كَانَ خَادِمًا، وَالْخِدْمَةُ هُنَا2 قَدْ تَكُونُ في طرف الترك؛ كترك   1 ستعرف أنه على ما قرره لا يكون هذا التقسيم ظاهرا؛ فلا يتأتى وجود الثالث والرابع. "د". وكتب ناسخ الأصل ما صورته: "قوله: والثالث أن يكون خادما لمخير فيه ... إلخ, فإن قيل عليه: انظر ما قرره في هذه من أن خادم المخير فيه من مطلوب الترك؛ فالكل مع ما يقرره فيما بعدها من أن المخير فيه مطلوب الفعل بالكل؛ إذ مقتضاه أن يكون خادمه مثله. قيل: الذي فيما بعدها هو أن مطلوب الفعل بالكل هو المخير فيه، وذلك يقتضي حصر المطلوب الكلي في المخير، فلا يلزم أن يكون كل مخير مطلوب الفعل؛ فلا تنافي بين كلاميه، ويدل عليه ما ذكره في هذه من أن القسم الثالث مثل الرابع؛ لأنه خادم له؛ فدل هذا على أن المخير فيه تارة يكون خادما لمطلوب الفعل بالكل، وتارة يكون خادما فيه غير خادم لشيء. 2 أي: في موضوع المباح قد تكون في طرف الترك، وقد تكون في طرف الفعل؛ أي: في كل من القسمين الأول والثاني، وإن اقتصر في التمثيل على جانب الترك في القسم الثاني, وجانب الفعل في القسم الأول، وتوضيح ذلك على هذا الفهم أن يقال: ترك سماع الغناء جزئيا خادم لترك = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الدَّوَامِ1 عَلَى التَّنَزُّهِ فِي الْبَسَاتِينِ، وَسَمَاعِ تَغْرِيدِ الْحَمَامِ، وَالْغِنَاءِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ2، وَقَدْ يَكُونُ3 فِي طَرَفِ الْفِعْلِ؛ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَلَالِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَإِنَّ الدَّوَامَ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ مَطْلُوبٌ، مِنْ حَيْثُ هُوَ خَادِمٌ لِمَطْلُوبٍ وَهُوَ أَصْلُ الضَّرُورِيَّاتِ4، بِخِلَافِ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ؛ فَإِنَّهُ5 خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّهَا6، وَهُوَ الْفَرَاغُ من الاشتغال بها، والخادم للمخير فيه   = الدوام المطلوب، ونفس السماع خادم للمطلوب الترك وهو الكلي من اللهو، والتمتع بالطيبات خادم لكلي إقامة الضروري، وترك الجزئي خادم للترك الكلي المنهي عنه. وقد أشار إلى مطلوب الترك كليا فيما يخدمه من جانب الفعل؛ فقال: "بخلاف المطلوب الترك" يعني: الجزئي الذي يخدم كليا مطلوب الترك؛ فإنه يكون خادما لما يضادها وهو الفراغ في الاشتغال بها. ويحتمل أن يكون قوله "هنا"؛ أي: في خصوص مطلوب الفعل كليا، فإنه يكون بالترك؛ كمثال الغناء, وبالفعل كمثال الاستمتاع بالطيبات، وربما رشح هذا الاحتمال قوله بعد المثال الأول: "فإن ذلك هو المطلوب". "د". 1 لو قال: كترك التنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام؛ فإنه مباح خادم لترك الدوام على التنزه وهو المطلوب، لكان جاريا مع بيانه بعد في طرف الفعل، ولظهر غرضه من أن مطلوب الفعل كما يخدمه الفعل يخدمه الترك إذا أجرينا كلامه على الاحتمال الثاني الذي أشرنا إليه. "د". 2 لأنه يخدم كليا مطلوبا هو إقامة الحياة. "د". 3 في النسخ المطبوعة: "تكون"؛ بالتاء المثناة الفوقية. 4 هو إقامة الحياة. "د". 5 أي: فعل جزئيه خادم؛ أي: فالمطلوب الترك كليا يخدمه فعل المباح، وعلى ما قررنا أولا قد يخدمه أيضا، أي: يحققه ويعين على حصوله ترك المباح، وذلك كترك الاستمتاع بالمباح كليا؛ فإنه مطلوب الترك، ويخدمه مباح أهله وترك الاستمتاع بها جزئيا، وإن كان قد اقتصر على بيان خدمته جانب الفعل كما أشرنا إليه. "د". 6 فإن الاشتغال باللهو الجزئي يتكون منه ومن جزئيات اللهو أمثاله فراغ من الاشتغال بالضروريات؛ فاللهو الجزئي خادم للهو الكلي الذي يضاد الضروريات. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عَلَى حُكْمِهِ1. وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَلَمَّا كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ؛ كَانَ عَبَثًا، أَوْ كَالْعَبَثِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ [أَيْضًا] 2؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَادِمًا لِقَطْعِ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ مُصْلِحَةِ دِينٍ وَلَا دُنْيَا، فَهُوَ إِذًا خَادِمٌ [لِمَطْلُوبِ3 التَّرْكِ؛ فَصَارَ مَطْلُوبَ] 4 التَّرْكِ بِالْكُلِّ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِثْلُهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ خَادِمٌ لَهُ؛ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ أَيْضًا. وَتُلَخَّصُ أَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ خَاصَّةً، وَأَمَّا بِالْكُلِّ؛ فَهُوَ إِمَّا مَطْلُوبُ الْفِعْلِ، أَوْ مَطْلُوبُ التَّرْكِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا يَكُونُ هَذَا التَّقْرِيرُ نَقْضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ المباح هو المتساوي الطرفين؟   1 أي: مخير فيه، هذا إذا كان المخدوم المحذوف جزئيا؛ كالمشي المباح لسماع الغناء مثلا؛ فلا ينافي أنه يأخذ -وهو كلي- حكما من الأحكام الباقية غير المباح، كما سبق، وبهذا يمكن تصوير مباح خادم لمخير، لكن قوله بعده: "والقسم الثالث مثله لأنه خادم له" يقتضي أنه خادم لمخير كلي, ويكون قوله في أول المسألة: "والثالث أن يكون خادما لمخير فيه"؛ أي: كلي, وقوله: "والرابع ألا يكون خادما لشيء من ذلك"؛ أي: إنه مباح لا يخدم كليا مطلقا، أو لا يخدم كليا مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، ولا يخفى عليك أن هذا التقسيم بهذا المعنى لا يستقيم مع ما سبق من القاعدة التي أسهب في أدلتها، وهي أن المباح بالجزء لا بد أن يأخذ حكما آخر إذا نظر إليه كليا؛ فكيف يتصور أن يخدم المباح كليا مخيرا فيه أو كليا لا حكم له من الأحكام؟ على أنه سيصرح بأن القسمين الثالث والرابع من باب المطلوب الترك بالكل هو حكمه؛ فيقال: فيما يخدم المطلوب مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه، يقال: مطلوب بالترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د". 2 ليست في الأصل. 3 في الأصل: "المطلوب". 4 ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فَالْجَوَابُ أَنْ لَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ، وَهَذَا النَّظَرُ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهُ بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ هُنَا الْمُبَاحَ بِالْجُزْءِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ؛ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ1، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ الْحَسَنَ مَثَلًا مُبَاحُ اللُّبْسِ، قَدِ اسْتَوَى فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ؛ فَلَا قَصْدَ لَهُ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا مَعْقُولٌ وَاقِعٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُقْتَصَرِ بِهِ عَلَى ذَاتِ الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، وَهُوَ -مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَمُوَارٍ لِلسَّوْأَةِ، وَجَمَالٌ فِي النَّظَرِ- مَطْلُوبُ الْفِعْلِ، وَهَذَا النَّظَرُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ, وَلَا بِهَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ؛ فَهُوَ نَظَرٌ بالكل لا بالجزء. المسألة الرابعة: انواع المباح إِذَا قِيلَ فِي الْمُبَاحِ: إِنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ -وَذَلِكَ فِي أَحَدِ الْإِطْلَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ- فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا إِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بَعْدَ فَهْمِنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ الْقَصْدَ إِلَى التَّفْرِقَةِ: فَالْقِسْمُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ هُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [الْبَقَرَةِ: 223] . وَقَوْلِهِ: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] .   1 يعني مثلا، وإلا؛ فالنظر إليه بالأمور الخارجية يجعله؛ إما من هذا، وإما من المسمى بالمطلوب الترك بالكل كما تقدم في اللهو، وبالجملة؛ فهذه المسألة لم تقرر قاعدة وأصلا زائدة على ما تقدم في المسألة قبلها، بل هي زيادة إيضاح لمسلك فهم مغايرة حكم الكلي للجزئي، وذلك باعتبار ضابط هو الخدمة، فما يخدمه الجزئي يأخذ هو حكمه؛ فيقال فيما يخدم المطلوب: مطلوب بالكل، وما يخدم المنهي عنه يقال: مطلوب الترك بالكل، وكان يمكنه إدماجها في أثناء سابقتها؛ فتأمل. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [الْبَقَرَةِ: 58] . وَالْآيَةُ الْأُخْرَى فِي مَعْنَاهَا؛ فَهَذَا تَخْيِيرٌ حَقِيقَةً. وَأَيْضًا؛ فَالْأَمْرُ فِي الْمُطْلَقَاتِ -إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ- يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ حَقِيقَةً؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 2] . {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الْجُمْعَةِ: 10] . {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْأَعْرَافِ: 160] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَهُ -مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ- وَاضِحٌ فِي التَّخْيِيرِ فِي تِلْكَ الْوُجُوهِ؛ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْكُلِّ؛ فَلَا نَعْلَمُ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ فِيهِ نَصًّا، بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، أَوْ مُشَارٌ إِلَى بَعْضِهِ بِعِبَارَةٍ تُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ التَّخْيِيرِ الصَّرِيحِ؛ كَتَسْمِيَةِ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِمَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ اللَّهْوَ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِيهِ، وَجَاءَ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الْجُمْعَةِ: 11] ، وَهُوَ الطَّبْلُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لُقْمَانَ: 6] . وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ1: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ -حِينَ مَلُّوا مَلَّةً- فَأَنْزَلَ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] . وفي الحديث: "كل لهو باطل " 2.   1 تقدم تخريجه "ص50". 2 تقدم تخريجه "ص202". وكتب "خ" هنا ما نصه: "وذكر القوس بجانب الرمي؛ لأنه المعروف في ذلك العصر، والحكم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَا تَجْتَمِعُ مَعَ التَّخْيِيرِ فِي الْغَالِبِ، فَإِذَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُقَدَّرَةً1، أَوْ كَانَ فِيهَا بَعْضُ الْفُسْحَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ2 أَوْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ؛ فَمَعْنَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "وَمَا سُكِتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ عفو" 3؛ أي: مما عفا عَنْهُ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ فِي الْعَادَةِ،   = من حيث المعنى شامل لسائر أنواع الرماية على اختلاف آلاتها، كما أن العلة في استثناء تأديب الفرس من الباطل، وهي التوسل به إلى القيام بواجب الجهاد تقتضي أن يلحق بالفرس في استحسان العناية بها والتدرب على إدارة عنانها حسب الإرادة كل ما اخترع من المراكب البحرية والبرية والجوية، وتعين اتخاذه في وسائل الدفاع عن البلاد وحماية الحقوق. "خ". قلت: ويلحق بالرمي بالنشاب الأسلحة النارية في أيامنا، ومن الغباوة الجمود على الرمي بالنصل على ظاهر الحديث؛ فإن التحريض عليه ليس إلا للجهاد، وليس فيه معنى وراءه، ولما لم يبق الجهاد بالنشاب والأقواس؛ لم يبق فيه معنى مقصود، فلا تحريض فيها، ومن هذه الغباوة ذهبت سلطنة "بخارى", حيث استفتى السلطان من علماء زمانه بشراء بعض الآلات الكائنة في زمنه؛ فمنعوه، وقالوا: إنها بدعة، فلم يدعوه أن يشتريها، حتى كانت عاقبة أمرهم أنهم انهزموا، وتسلط عليهم الروس، ونعوذ بالله من الجهل، قاله الكشميري في "فيض الباري شرح صحيح البخاري" "3/ 435" ونحوه عند المطيعي في "تكملة المجموع" "15/ 203"، والساعاتي في "الفتح الرباني" "13/ 130". 1 أي: بحال مخصوصة كما ورد: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف"، وكما ورد في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما حضرت زواج الجارية الأنصارية: "أما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" "د". 2 كما ورد في لعب الحبشة في المسجد يوم العيد. "د". 3 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 375"، والبزار في "مسنده" "رقم 123، 2231، 2855- زوائده"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 12" عن أبي الدرداء مرفوعا: "ما أحل الله في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئا ". وإسناده حسن، ورجاله موثقون؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 171"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وقال البزار: "إسناده صالح"، وحسن إسناده شيخنا الألباني في "غاية المرام" "رقم 2". وفي الباب عن سلمان وعائشة وابن عمر ومرسل الحسن وعن ابن عباس موقوفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 إشعار بِأَنَّ فِيهِ مَا يُعْفَى عَنْهُ، أَوْ مَا هُوَ مَظِنَّةٌ عَنْهُ، أَوْ هُوَ مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ فِيمَا تَجْرِي بِهِ الْعَادَاتُ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ؛ أَنَّ الْوَاحِدَ1 صَرِيحٌ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْجُنَاحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ2 يَلْزَمُهُ الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِنْ قِيلَ بِهِ؛ إِلَّا أَنْ قَصْدَ اللَّفْظِ فِيهِ نَفْيُ الْإِثْمِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الْإِذْنُ؛ فَمِنْ بَابِ "مَا لَا يَتِمُّ3 الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ"، أَوْ مِنْ بَابِ "الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ أم لا"، و"النهي عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ4 أَمْ لَا"، وَالْآخَرُ صَرِيحٌ فِي نَفْسِ التَّخْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَلْزَمُهُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ؛ فَقَصْدُ اللَّفْظِ فِيهِ التَّخْيِيرُ خَاصَّةً، وَأَمَّا رَفْعُ الْحَرَجِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ5 قَدْ يَكُونُ مَعَ الْوَاجِبِ؛ كقوله تعالى:   1 أي: من هذين الإطلاقين للمباح، وهو ما لا حرج فيه. "د". 2 أي: وقد لا يلزمه الإذن فيهما، كما سيأتي له أنه يكون مع مخالفة المندوب ومع الواجب الفعل. "د". 3 أي: شبيه بهذه الأبواب وقريب من طريقها لا أنه منها حقيقة كما هو ظاهر. "د". 4 أورد المصنف هذه المسائل الثلاث على سبيل التنظير لوجه استلزام معنى نفي الحرج للإذن في الفعل والترك؛ فاللفظ المعبر به عن رفع الجناح يتضمن الإذن في الفعل والترك، كما أن الأمر بالواجب يتضمن طلب ما لا يتم ذلك الواجب إلا به، والأمر بالشيء يتضمن ترك كل ما هو ضد له، والنهي عن الشيء يتضمن فعل أحد أضداده. "خ". 5 أي: على هذا الفرق بين الإطلاقين، وهذا أظهر الأدلة الثلاثة، وإن كان لا يطلق عليه لفظ المباح حتى يدرج في هذا القسم؛ فالاستدلال من حيث إن كلمة رفع الجناح عامة ولا تقتضي التخيير. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: 158] . وَقَدْ يَكُونُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْمَنْدُوبِ؛ كَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 1 [النَّحْلِ: 106] . فَلَوْ كان رفع الجناح يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ لَمْ يَصِحَّ مَعَ الْوَاجِبِ، وَلَا مَعَ مُخَالَفَةِ الْمَنْدُوبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّخْيِيرُ الْمُصَرَّحُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ وَاجِبًا دُونَ التَّرْكِ، وَلَا مَنْدُوبًا، [وَبِالْعَكْسِ] 2. وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ التَّخْيِيرِ مَفْهُومٌ مِنْهُ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى تَقْرِيرِ الْإِذْنِ فِي طَرَفَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّهُمَا عَلَى سَوَاءٍ فِي قَصْدِهِ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَأَمَّا لَفْظُ رَفْعِ الْجُنَاحِ؛ فَمَفْهُومُهُ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَبَقِيَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ، لَكِنْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي, كَمَا فِي الرُّخَصِ؛ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْآخَرِ، وَبِالْعَكْسِ، فَلِذَلِكَ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ فِي أَمْرٍ وَاقِعٍ: "لَا حَرَجَ فِيهِ"؛ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا3، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَلْيُتَفَقَّدْ هَذَا فِي الْأَدِلَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِيهِ على   1 ليس في الآية لفظ رفع الجناح، ولكن فيها ما يفهمه، ولذلك أدرجها فيما فيه رفع الجناح مع أنه خلاف المندوب، وسيذكر في الدليل الثاني لفظ التخيير ولفظ رفع الحرج؛ فلا يتوهمن أن كلامه قاصر هناك على ما فيه اللفظان، بل غرضه اللفظ الدال على التخيير، وكذا اللفظ الدال على رفع الحرج، ولو لم يكن بعبارة التخيير ولا بعبارة الحرج. "د". 2 ليست في الأصل. 3 الجاري على ما سبق أن يقول: "وقد يكون واجبا أيضا". "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الْإِطْلَاقِ، أَنَّ1 الْمُخَيَّرَ فِيهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْخَادِمُ لِلْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ؛ صَارَ خَارِجًا عَنْ مَحْضِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، بَلِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهِ مُقَيَّدٌ وَتَابِعٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَصَارَ الدَّاخِلُ فِيهِ دَاخِلًا تَحْتَ الطَّلَبِ بِالْكُلِّ؛ فَلَمْ يَقَعِ التَّخْيِيرُ فِيهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْجُزْءُ، وَلَمَّا كَانَ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ؛ وَقَعَ تَحْتَ الْخَارِجِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ بِالْكُلِّيَّاتِ، وَالْقَصْدَ إِلَيْهَا فِي التَّكَالِيفِ؛ فَالْجُزْئِيُّ الَّذِي لَا يَخْرِمُهُ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا هُوَ مُضَادٌّ لَهُ، بَلْ هُوَ مُؤَكِّدٌ لَهُ؛ فَاتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْمُخَيَّرِ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِاتِّبَاعِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ الْكُلِّيِّ، فَلَا ضَرَرَ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى هُنَا؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهِ خَادِمٌ لَهُ. وَأَمَّا قِسْمُ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَيَكَادُ يَكُونُ شَبِيهًا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى الْمَذْمُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَالْمُضَادِّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي طَلَبِ النَّهْيِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُ لِقِلَّتِهِ، وَعَدَمِ دَوَامِهِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِلْخَادِمِ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ بِالْعَرَضِ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ؛ لَمْ يُحْفَلْ2 بِهِ، فَدَخَلَ تَحْتَ الْمَرْفُوعِ الْحَرَجِ؛ إِذِ الْجُزْئِيُّ مِنْهُ لَا يَخْرِمُ أَصْلًا مَطْلُوبًا، وَإِنْ كَانَ فَتْحًا لِبَابِهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ حَتَّى يَجْتَمِعَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَالِاجْتِمَاعُ مُقَوٍّ، وَمِنْ هُنَالِكَ يَلْتَئِمُ الْكُلِّيُّ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُضَادُّ لِلْمَطْلُوبِ فِعْلِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَاتِّبَاعِ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ3 تَحْتَ كُلِّيِّ أَمْرٍ، اقْتَضَتِ الضَّوَابِطُ الشَّرْعِيَّةُ أن لا يكون   1 في الأصل: "وأن". 2 في الأصل: "يجعل". 3 بخلاف المخير؛ فإنه داخل تحت كلي أمر؛ فإنه كلية* مأمور به. "د".   * في المطبوع: " .... تحت على أمر؛ فإن كلية ... "!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 مخيرا فيه؛ تصريحا1 بِمَا تَقَدَّمَ فِي قَاعِدَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَنَّهُ مُضَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ] 2. الْمَسْأَلَةُ الخامسة: وصف المباح إِنَّ الْمُبَاحَ إِنَّمَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ حَظُّ الْمُكَلَّفِ فَقَطُّ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ؛ كَانَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ -كَمَا تَقَدَّمَ- هُوَ مَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، بِحَيْثُ لَا يُقْصَدُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ إِقْدَامٌ وَلَا إِحْجَامٌ؛ فَهُوَ إِذًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي التَّرْكِ، وَلَا حَاجِيٌّ، وَلَا تَكْمِيلِيٌّ، مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَيْلِ حَظٍّ عَاجِلٍ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي يُقَالُ: "لَا حَرَجَ فِيهِ" أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْحَظِّ، وَأَيْضًا3؛ فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ رَاجِعَانِ إِلَى حِفْظِ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ أَوْ حَاجِيٌّ، أَوْ تَكْمِيلِيٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّارِعِ قَصْدُهُ إِلَيْهِ، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَهُوَ مُجَرَّدُ نَيْلِ حَظٍّ، وَقَضَاءِ وَطَرٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى انْحِصَارِ الْأَمْرِ فِي الْمُبَاحِ فِي حَظِّ الْمُكَلَّفِ لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ رَاجِعَانِ إِلَى حَقِّ اللَّهِ لَا إِلَى حَظِّ الْمُكَلَّفِ؟ ولعل   1 في الأصل: "فتصريحا"، وفي "د": "فتصريح"، وكتب المعلق عليه: "ينظر في تصحيح التركيب"، والمثبت من "ط". 2 زيادة من الأصل و"ط". 3 ليس بعيدا عن الدليل الأول؛ فإنه يفيد أن الشارع قصد المأمور به والمنهي عنه لما يترتب على ذلك من حفظ الأمور الثلاثة، بخلاف المباح؛ فلم يقصده بفعل ولا ترك؛ لأنه لا يترتب عليه شيء من ذلك؛ فكان بمجرد اختيار المكلف وتابعا لهواه المحض وحظه الصرف، وهو الدليل الأول بعينه، غايته أن الأول سلك إلى الغرض من جهة المباح مباشرة، وهذا بواسطة الأمر والنهي؛ فهو تصوير آخر لنفس الدليل. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ يَصِحُّ فِيهِ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ، كَمَا صَحَّ فِي بَعْضِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ؛ أَنَّ الشَّرَائِعَ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ؛ فَالْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالتَّخْيِيرُ، جَمِيعًا رَاجِعَةٌ إِلَى حَظِّ الْمُكَلَّفِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْحُظُوظِ، مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَغْرَاضِ؛ غَيْرَ أَنَّ الْحَظَّ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَاخِلٌ تَحْتَ الطَّلَبِ، فَلِلْعَبْدِ أَخْذُهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ؛ فلا يكون ساعيا في حضه, وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَفُوتُهُ حَظُّهُ، لَكِنَّهُ آخِذٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ لَا مِنْ حَيْثُ بَاعِثُ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ الْحَظِّ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ مِنْ حَيْثُ الْحَظُّ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الطَّلَبِ فَطَلَبَهُ1 مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ صَارَ حَظُّهُ تَابِعًا لِلطَّلَبِ، فَلَحِقَ بِمَا قَبْلَهُ فِي التَّجَرُّدِ عَنِ الْحَظِّ، وَسُمِّيَ بِاسْمِهِ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَالثَّانِي: غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الطَّلَبِ؛ فَلَا يَكُونُ آخِذًا لَهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ بِالْفَرْضِ، فَهُوَ قَدْ أَخَذَهُ إِذًا مِنْ جِهَةِ حَظِّهِ، فَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُبَاحِ: إِنَّهُ الْعَمَلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، الْمَقْصُودُ بِهِ مُجَرَّدُ الْحَظِّ الدُّنْيَوِيِّ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، وَالتُّرُوكُ بِالْمَقَاصِدِ2، فَإِذَا عَرِيَتْ عَنِ الْمَقَاصِدِ؛ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عليه في   1 بصيغة الفعل؛ فصح قوله: "صار حظه ... إلخ". "د". 2 أي: النيات. "ماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الْجُمْلَةِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ لَا تَقْصُرُ عَنْ مَبْلَغِ الْقَطْعِ1، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَحْسُوسَةٌ فَقَطُّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا عَلَى حَالٍ؛ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ خَاصَّةً2، أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالْقَاعِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهَا الْمَقَاصِدُ؛ كَانَ مَجَرَّدُهَا فِي الشَّرْعِ بِمَثَابَةِ حَرَكَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَالْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا عَقْلًا وَلَا سَمْعًا؛ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهَا. وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا لَا حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ بِأَنْ يُقَالَ فِيهَا: جَائِزٌ، أَوْ مَمْنُوعٌ، أَوْ وَاجِبٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ كَمَا لَا اعْتِبَارَ بِهَا مِنَ الْبَهَائِمِ. وَفِي الْقُرْآنِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الْأَحْزَابِ: 5] . وَقَالَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . قَالَ: "قد فعلت" 3.   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 256 و26/ 23-29". 2 يمتاز خطاب التكليف عن خطاب الوضع بأنه لا يتعلق إلا بفعل المكلف المكسوب له، وشرط صحته علم المكلف به وقصده إليه، أما خطاب الوضع؛ فقد يتعلق بفعل غير المكلف كوجوب ضمان ما يتلفه الصبي أو الدية، ويتعلق بغيره بما لا كسب له فيه؛ كوجوب الدية على العاقلة في قتل الخطأ، ولا يشترط في نفاذه علم المكلف أو قصده؛ فيتقرر له الإرث بموت من يحق له إرثه، ويطلق عليه الحاكم زوجته بثبوت الضرر وإن كان غائبا. "خ". 3 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2992"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5046" من حديث ابن عباس, رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وَفِي مَعْنَاهُ رُوِيَ الْحَدِيثُ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" 1، وَإِنْ لَمْ يصح سندا؛ فمعناه متفق على صحته.   1 أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 573"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "1/ 90-91" من طريق جعفر بن جسر عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعا: "رفع الله -عز وجل- عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه"، وإسناده ضعيف، فيه جعفر بن جسر في حفظه اضطراب شديد، كان يذهب إلى القدر, وحدث بمناكير، وأبوه مضعف. انظر: "الميزان" "1/ 403-404". وأخرجه الفضل بن جعفر التميمي المعروف بـ"أخي عاصم" في "فوائده" -كما في "التلخيص الحبير" "1/ 283"- من حديث ابن عباس: "رفع الله عن أمتي ... "، وعزاه بلفظ المصنف السيوطي في "الجامع الصغير" "2/ 16" إلى الطبراني من حديث ثوبان، وهو خطأ، ولفظ الطبراني في "الكبير" "2/ 94/ رقم 1430": "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ ... "، وتابع السيوطي على هذا الوهم: المناوي في "الفيض" "4/ 35"، وأقر السيوطي شيخنا الألباني في "صحيح الجامع" "رقم 3515"، ولكنه نبه في "الإرواء" "رقم 82" أنه منكر بلفظ: "رفع عن أمتي.. . ". وأخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، 1/ 659/ رقم 2045" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس رفعه بلفظ: "إن الله تجاوز لي عن أمتي.. . ". وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 95"، والدارقطني في "سننه" "4/ 170-171"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 356"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم 2045"، وابن حزم في "الإحكام" "5/ 149" من طريق الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس مرفوعا. وهذا إسناد صحيح، وقد أعله أحمد في "العلل" "1/ 227" بالنكرة، وأبو حاتم في "العلل" "1/ 431" بالانقطاع؛ فقال: "لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء"!! ورجح شيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 82" صحة هذا الطريق، وعلى كلٍّ؛ الحديث له شواهد عديدة، ولحديث ابن عباس طرق كثيرة يصل معها إلى درجة الصحة، وحسنه النووي في "أربعينه" "رقم 39"، ولأحمد الغماري جزء بعنوان: "شهود العيان بثبوت حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وصححه ابن حبان والضياء المقدسي والذهبي والسخاوي في "المقاصد" "ص229" وجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ" 1؛ فَذَكَرَ "الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيقَ"؛ فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ لَا قَصْدَ لَهُمْ، وَهِيَ الْعِلَّةُ فِي رَفْعِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ. وَالثَّالِثُ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَتَكْلِيفُ مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ2. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الطَّلَبِ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ؛ فَلَا تَكْلِيفَ فِيهِ، قِيلَ: مَتَى صَحَّ [تَعَلُّقُ التَّخْيِيرِ؛ صَحَّ] 3 تَعَلُّقُ الطَّلَبِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْمُخَيَّرِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ قَاصِدٍ، هَذَا خُلْفٌ. وَلَا يُعْتَرَضُ هَذَا بِتَعَلُّقِ الْغَرَامَاتِ وَالزَّكَاةِ بِالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الوضع، وكلامنا في خطاب التكليف، ولا   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق، 4/ 558/ رقم 4398"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق, باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، 6/ 156"، وابن ماجه في السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم, 1/ 657/ رقم 2041"، وأحمد في "المسند" "6/ 100-101، 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 1713"، والدارمي في "السنن" "2/ 171", وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 148"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1496- موارد", والحاكم في "المستدرك" "2/ 59"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين" "رقم 1003" من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وإسناده صحيح. وفي الباب عن علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وأبي قتادة -رضي الله عنهم- ولا يتسع المقام للتفصيل. 2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 344-348 و22/ 100-102". 3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 بِالسَّكْرَانِ1؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاءِ: 43] ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ2؛ وَلِأَنَّهُ فِي عُقُودِهِ وَبُيُوعِهِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَمَا حُجِرَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَفِي سِوَاهُمَا3 لَمَّا أَدْخَلَ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ؛ كَانَ كَالْقَاصِدِ لِرَفْعِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ؛ فَعُومِلَ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ، أَوْ لِأَنَّ الشُّرْبَ سَبَبٌ لِمَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ، فَصَارَ اسْتِعْمَالُهُ4 لَهُ تَسَبُّبًا فِي تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، فَيُؤَاخِذُهُ الشَّرْعُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهَا، كَمَا وَقَعَتْ مُؤَاخَذَةُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ بِكُلِّ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، وَكَمَا يُؤَاخَذُ الزَّانِي بِمُقْتَضَى الْمَفْسَدَةِ فِي اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ غَيْرُ الْإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ فالأصل صحيح، والاعتراض عليه غير وارد.   1 السكران المنتشي وهو من لا يزال حاضر الذهن بحيث يتصور معنى الخطاب يجري في التكليف على حكم العقلاء بإجماع، أما الطافح الذي اختل شعوره وأخذ يقذف بالهذيان؛ فلا ينفذ عليه ما يصدر عنه من إقرار وعقود ومعاملات، ولكن يخاطب بعد الإفاقة بقضاء ما أدركه من الواجبات؛ كالصوم، والصلاة، ويؤاخذ بما يقترفه من الجناية على الأنفس أو الأموال، واختلف الأئمة في حكم طلاقه؛ فنفذه عليه قوم، وعده آخرون لاغية، قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وثبت عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ لا يرى طلاق السكران، وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة"، وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" الثابت عن الصحابة الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم؛ أن السكران لا يقع طلاقه. "خ". 2 الجواب: أن النهي عائد إلى السكر عند إرادة الصلاة كما يقال لمن أراد التهجد: لا تتهجد وأنت شبعان، والمراد: لا تملأ بطنك بالطعام إن كنت تريد التهجد حتى تنهض إليه بنشاط وتقبل عليه بصفاء نفس وارتياح, والنهي على هذا الوجه يقتضي أن لا يتناولوا الخمر حيث يعلمون أن أثرها من السكر يستغرق وقت الصلاة "خ". 3 في "ط": "وفيما سواها". 4 فقد استعمله وهو عاقل يعلم أنه يجر إلى مفاسد كثيرة وإن لم يقصد حصولها فيؤاخذ بها، والزاني ما شددت عليه العقوبة بالجلد والقتل إلا للمآلات التي قد تسبب عن فعله، وهو يعرف هذا التسبب وإن لم يقصده من الفعل، ولا خطر بباله حينه، وسيأتي في المسألة الثامنة من السبب؛ أن إيقاع المسبب بمنزلة إيقاع السبب، قصد ذلك المسبب أو لا. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 المسألة السابعة: المندوب الْمَنْدُوبُ إِذَا اعْتَبَرْتَهُ اعْتِبَارًا أَعَمَّ1 مِنَ الِاعْتِبَارِ الْمُتَقَدِّمِ؛ وَجَدْتَهُ خَادِمًا لِلْوَاجِبِ لِأَنَّهُ إِمَّا مُقَدِّمَةٌ لَهُ، [أَوْ تَكْمِيلٌ لَهُ] 2، أَوْ تِذْكَارٌ بِهِ، كان من جنس الواجب أو لا. فَالَّذِي مِنْ جِنْسِهِ؛ كَنَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ مَعَ فَرَائِضِهَا، وَنَوَافِلِ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ فَرَائِضِهَا. وَالَّذِي مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ كَطَهَارَةِ الْخَبَثِ فِي الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ وَالْمُصَلَّى، وَالسِّوَاكِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الصَّلَاةِ، وَكَتَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَكَفِّ اللِّسَانِ عَمَّا لَا يَعْنِي مَعَ الصِّيَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ لَاحِقٌ بِقِسْمِ الْوَاجِبِ بِالْكُلِّ، وَقَلَّمَا يَشِذُّ عَنْهُ مَنْدُوبٌ يَكُونُ مَنْدُوبًا بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرًا، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مُغْنٍ3 عنه بحول الله.   1 يريد في هذه المقدمة أن يتوسع في أن المندوب بالجزء يكون واجبا بالكل؛ فيجعله شاملا لغير السنن المؤكدة ورواتب النوافل التي اقتصر عليها في الفصل الأول من المسألة الثانية، ويقول: إنه قلما يشذ مندوب عن ذلك. "د". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ". 3 مدار الدليل فيما تقدم أن تركها جملة واحدة يجرح التارك لها، وأيضا؛ فإنه مؤثر في أوضاع الدين, فهل هذا وذاك يجري هنا في المندوبات التي لا كراهة في تركها وليست كالسنن التي بنى عليها القاعدة السابقة؟ فإذا كان لا كراهة في تركها؛ فكيف يجرح التارك لها؟ وكيف تؤثر على أوضاع الدين؟ فالموضع يحتاج إلى فضل نظر في ذاته وفي دعوى أن ما تقدم يغني* هنا. "د".   * في المطبوع: "يعني" بالعين المهملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فَصْلٌ: الْمَكْرُوهُ إِذَا اعْتَبَرْتَهُ كَذَلِكَ مَعَ الْمَمْنُوعِ؛ كَانَ كَالْمَنْدُوبِ مَعَ الْوَاجِبِ، وَبَعْضُ الْوَاجِبَاتِ مِنْهُ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً وَخَادِمًا لِلْمَقْصُودِ1؛ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالْأَذَانِ لِلتَّعْرِيفِ بِالْأَوْقَاتِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ مَعَ الصَّلَاةِ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَ وَسِيلَةً حُكْمُهُ مَعَ الْمَقْصُودِ حُكْمُ الْمَنْدُوبِ مَعَ الْوَاجِبِ يَكُونُ وُجُوبُهُ بِالْجُزْءِ دُونَ2 وُجُوبِهِ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَمْنُوعَاتِ مِنْهُ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً لَهُ؛ كَالْوَاجِبِ حَرْفًا بحرف؛ فتأمل ذلك. المسألة الثامنة: الواجبات أو المندوبات مَا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ وَقْتًا مَحْدُودًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ فَإِيقَاعُهُ فِي وَقْتِهِ لَا تَقْصِيرَ فِيهِ شَرْعًا، وَلَا عَتْبَ، وَلَا ذَمَّ، وَإِنَّمَا الْعَتْبُ وَالذَّمُّ فِي إِخْرَاجِهِ عَنْ وَقْتِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا أَوْ مُوَسَّعًا3؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدَّ الْوَقْتِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى قَصَدَهُ الشَّارِعُ، أَوْ لِغَيْرِ مَعْنًى، وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مَعْنًى؛ فَلَمْ يَبْقَ إلا أن يكون لمعنى، وذلك المعنى   1 في "م": "المقصود". 2 أي: فلا يتأكد الوجوب فيه تأكده في المقصود، وينبني عليه أن إثم تركه والثواب على فعله لا يساوي الواجب المقصود. "د". 3 بنى المسألة على مذهب الجمهور في الموسع، وهو أن هناك وقتا موسعا لبعض المطلوبات لو أوقعها المكلف في أي جزء منه لا إثم فيه، ويريد هنا أن يقول: بل ولا تقصير ولا عتب أيضا، والأفضلية في السبق أول الوقت شيء آخر لا يلزم منه أن يكون إيقاعه آخر الوقت تقصيرا موجبا للعتاب. "د". قلت: وانظر في تحقيق المسألة "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299-302". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 هُوَ أَنْ يُوقَعَ الْفِعْلُ فِيهِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ؛ فَذَلِكَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ ذَلِكَ التَّوْقِيتِ، وَهُوَ يَقْتَضِي -قَطْعًا- مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ عَتْبٌ أَوْ ذَمٌّ؛ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِمُخَالَفَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي إِيقَاعِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَتْبُ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مُوَافِقًا، هذا خلف. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَتْبُ، لَيْسَ مِنَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّا قَدْ فَرَضْنَا الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ مُخَيَّرًا فِي أَجْزَائِهِ إِنْ كَانَ مُوَسَّعًا، وَالْعَتْبُ مَعَ التَّخْيِيرِ مُتَنَافِيَانِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ، هَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ، وَظُهُورُ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى دَلِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ أَصْلُ طَلَبِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِذَا1 كَانَ السَّبْقُ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَطْلُوبًا بِلَا بُدٍّ؛ فَالْمُقَصِّرُ عَنْهُ مَعْدُودٌ فِي الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ، وَلَا شك أن من كان هكذا؛ فالعتب2 لَاحِقٌ بِهِ فِي تَفْرِيطِهِ وَتَقْصِيرِهِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا عَتْبَ عَلَيْهِ؟ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ الله، وآخره عفو الله"3؛ قال:   1 في "د": "إذا" بدون واو، وفي الأصل و"خ": "وإن". 2 تحرفت في "د": "فالمتعب" بتقديم المثناة. 3 أخرجه الدارقطني في "السنن" "1/ 249"، ومن طريقه أحمد عيسى المقدسي في "فضائل جرير" "2/ ق 238/ ب"، وابن الجوزي في "التحقيق" "1/ 647- مع التنقيح" عن جرير بن عبد الله بسند واه بمرة، فيه عبيد بن القاسم، متروك، كذبه ابن معين واتهمه أبو داود بالوضع. وأخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 272"، والدارقطني في "السنن" "1/ 249"، وابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ؛ فَإِنَّ رِضْوَانَهُ لِلْمُحْسِنِينَ، وَعَفْوَهُ عَنِ الْمُقَصِّرِينَ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا؛ فَقَدْ قال في المسافرين يقدمون.   = عدي في "الكامل" "7/ 2606"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 189"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 435"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق يعقوب بن الوليد، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا ... فذكره، قال ابن حبان في "المجروحين" "3/ 138": "ما رواه إلا يعقوب بن الوليد المدني". قلت: وهو متهم بالكذب، قال أحمد: "كان من الكذابين الكبار", وقال الحاكم: "يعقوب بن الوليد هذا شيخ من أهل المدينة، سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب؛ إلا أنه شاهد". قلت: لا يفرح به؛ فالشاهد كالعاضد؛ فما فائدته إذا لم تكن فيه قوة؟! وهذا ساقط ولذا تعقبه الذهبي بقوله: "يعقوب كذاب"، وقال ابن عدي: "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل". وله شاهد من حديث أنس -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509"، وعنه ابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 388" من طريق بقية بن الوليد عن عبد الله مولى عثمان بن عفان حدثني عبد العزيز حدثني محمد بن سيرين عن أنس بن مالك؛ فذكره مرفوعا. قال ابن عدي: "وهذا بهذا الإسناد لا يرويه غير بقية، وهو من الأحاديث التي يحدث بها بقية عن المجهولين؛ لأن عبد الله مولى عثمان، وعبد العزيز الذي ذكر في هذا الإسناد لا يعرفان ... " وتبعه ابن الجوزي. وآخر من حديث أبي محذورة -رضي الله عنه- أخرجه ابن عدي "1/ 255" من طريق إبراهيم بن زكريا ثنا إبراهيم بن أبي محذورة مؤذن مسجد مكة؛ قال: حدثني أبي، عن جدي مرفوعا ... فذكره. قال ابن عدي: "وهذا الحديث بهذا الإسناد يرويه إبراهيم بن زكريا". قلت: وإبراهيم كان يحدث عن الثقات بالبواطيل كما قال ابن عدي، قال ابن حبان: "يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، إن لم يكن بالمتعمد؛ فهو المدلس عن الكذابين ... ". وبالجملة؛ فالحديث ضعيف جدا، بل قال أبو حاتم: "موضوع"؛ كما في "نصب الراية" "1/ 127". وذكر الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 243" أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث؛ فقال: "من روى هذا؟ ليس هذا يثبت". وقد ضعفه جماعة، وورد نحوه في أحاديث فيها مقال، انظر: "تنقيح التحقيق" "1/ 646 وما بعدها"، و"الإرواء" "رقم 259"، وسيأتي تضعيف المصنف له "ص246". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الرَّجُلَ لِسِنِّهِ يُصَلِّي1 بِهِمْ فَيُسْفِرُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ: "يُصَلِّي الرَّجُلُ وَحْدَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْإِسْفَارِ فِي جَمَاعَةٍ"؛ فَقَدَّمَ كَمَا تَرَى حُكْمَ الْمُسَابَقَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْجَمَاعَةَ الَّتِي هِيَ سُنَّةٌ يُعَدُّ مَنْ تَرَكَهَا مُقَصِّرًا؛ فَأَوْلَى أَنْ يُعَدَّ مَنْ تَرَكَ الْمُسَابَقَةَ مُقَصِّرًا. وَجَاءَ عَنْهُ أَيْضًا فِيمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِسِفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، ثُمَّ قَدِمَ أَوْ صَحَّ فِي غَيْرِ شَعْبَانَ مِنْ شُهُورِ الْقَضَاءِ، فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى مَاتَ؛ فَعَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، وَجَعَلَهُ مُفَرِّطًا، كَمَنْ صَحَّ أَوْ قَدِمَ فِي شَعْبَانَ؛ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ الثَّانِي، مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: جَعَلَهُ مُتَرَقِّبًا2 لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ قَضَى فِي شَعْبَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ شَعْبَانَ؛ فَلَا إِطْعَامَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ شَعْبَانَ؛ فَمُفَرِّطٌ وَعَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْحَجِّ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ3؛ كَانَ آثِمًا، فَهَذَا أَيْضًا -رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ- مُضَادٌّ لِمُقْتَضَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. فَأَنْتَ تَرَى أَوْقَاتًا مُعَيَّنَةً شَرْعًا؛ إِمَّا بِالنَّصِّ4، وَإِمَّا بِالِاجْتِهَادِ5، ثُمَّ صَارَ مَنْ قَصَّرَ عَنِ الْمُسَابَقَةِ فِيهَا مَلُومًا مُعَاتَبًا، بَلْ آثِمًا فِي بَعْضِهَا، وَذَلِكَ مضاد لما   1 ليس المراد أنه يطول بهم حتى يسفر، بل المراد أنه يبتدئ الصلاة بعد الإسفار وحينئذ يتم الدليل "د". 2 بل لعله مترتبا؛ أي: إنه لم يعامل معاملة الفور الصرف، ولا التراخي الصرف، بل حالة بين الحالتين؛ فلذا كان الحكم مترددا بين الأمرين كما شرحه بقوله: "فإن قضى ... إلخ" "د". 3 في الأصل: "التراخي". 4 كما في الحديث السابق: "أول الوقت" إلخ "د". 5 كما في المسائل التي نسبها لمالك والشافعي في الصلاة والصوم والحج؛ فأوقاتها معينة بالاجتهاد. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 تَقَدَّمَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصْلَ الْمُسَابَقَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ لَا يُنْكَرُ، غَيْرَ أَنَّ مَا عُيِّنَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الزَّمَانِ؛ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ إِيقَاعَهُ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ مُسَابَقَةٌ؛ فَكَيْفَ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ شَامِلًا لَهُ، أَمْ يُقَالُ: لَيْسَ شَامِلًا لَهُ؟ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ1؛ فَيَكُونُ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ؛ فَقَالَ: "الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا" 2 يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ مُطْلَقًا، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الْأَوْقَاتَ صَلَّى فِي أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ وَأَوَاخِرِهَا، وَحَدَّ ذَلِكَ حَدًّا لَا يُتَجَاوَزُ، وَلَمْ يُنَبِّهْ فِيهِ عَلَى تَقْصِيرٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى التَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ بِالنِّسْبَةِ إلى ما بعد ذلك من أوقات الضروريات3، إِذَا صَلَّى فِيهَا مَنْ لَا ضَرُورَةَ لَهُ؛ إذ قال: "تلك صلاة المنافقين" 4 الحديث؛   1 أي: المتقدم أول المسألة. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، 2/ 9/ رقم 527"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 89/ رقم 85" من حديث ابن مسعود, رضي الله عنه. 3 تقسيم الأوقات إلى اختيارية وضرورية يقول به أكثر علماء الأمصار، وإنما اختلفوا في تحديدها وفي الصلوات التي يكون لها وقتان: اختياري وضروري، وفي أهل العذر الذين يختصون بأوقات الضروريات، ونفى أهل الظاهر أن تكون الأوقات منقسمة إلى اختياري وضروري، وأسباب الخلاف بين الفريقين مفصلة في كتب الخلاف. "خ". 4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 434/ رقم 622"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة العصر، 1/ 112-113/ رقم 413"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في تعجيل العصر، 1/ 301/ رقم 160"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب التشديد في تأخير العصر، 1/ 254"، وأحمد في "المسند "3/ 102-103، 247" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- ولفظه: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس, حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ التَّفْرِيطِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَكُونُ الشَّمْسُ فِيهِ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ. فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَنْ وَصْفِ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُسَارَعَةِ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِيقَاعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَمَّى مُفَرِّطًا، وَمُقَصِّرًا، وَآثِمًا أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْفَوْرِيَّةُ. وَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِوَقْتِ الْعُمْرِ، فَإِنَّهَا لَمَّا قُيِّدَ آخِرُهَا بِأَمْرٍ مَجْهُولٍ؛ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى طَلَبِ الْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَابَقَةِ1 فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مُغَيَّبَةٌ، فَإِذَا عَاشَ الْمُكَلَّفُ مَا فِي مِثْلِهِ يُؤَدَّى ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، فَلَمْ يَفْعَلْ -مَعَ سُقُوطِ الْأَعْذَارِ- عُدَّ وَلَا بُدَّ مُفَرِّطًا، وَأَثَّمَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ هِيَ الْمَطْلُوبُ، لَا أَنَّهُ -عَلَى التَّحْقِيقِ- مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ؛ فَإِنَّ آخِرَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ مِنْهُ مَا فِي الْيَدِ الْآنَ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْلِنَا الْمَذْكُورِ؛ فَلَا تَعُودُ عَلَيْهِ بِنَقْضٍ2. وَأَيْضًا؛ فَلَا يُنْكَرُ اسْتِحْبَابُ الْمُسَابَقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ الْمُؤَخِّرُ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ مُقَصِّرًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ عَلَى حُكْمِ التَّوْسِعَةِ، وَهَذَا كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ فَإِنَّ لِلْمُكَلَّفِ الِاخْتِيَارَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ فِيهَا يَتَفَاوَتُ؛ فَيَكُونُ بَعْضُهَا أَكْثَرَ أَجْرًا مِنْ بَعْضٍ، كَمَا يَقُولُ بِذَلِكَ [مَالِكٌ] فِي الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ، مَعَ وُجُودِ التَّخْيِيرِ فِي الْحَدِيثِ, وَقَوْلُ مَالِكٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَوِ الْقَتْلِ، أَوْ غَيْرِهِمَا، هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الرِّقَابِ شاء، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا،   1 في الأصل: "المبالغة". 2 في "م": "بنقص" بالصاد المهملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وَأَنْفُسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَلَا يَخْرَجُ بِذَلِكَ التَّخْيِيرُ عَنْ بَابِهِ، وَلَا يُعَدُّ مُخْتَارُ غَيْرِ الْأَعْلَى مُقَصِّرًا وَلَا مُفَرِّطًا, وَكَذَلِكَ مُخْتَارُ الْكِسْوَةِ أَوِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمُطْلَقَاتِ الَّتِي لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ أَفْرَادِهَا، مَعَ حُصُولِ الْفَضْلِ فِي الْأَعْلَى مِنْهَا، وَكَمَا أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَلَا يُعَدُّ الْحَاجُّ رَاكِبًا مُفَرِّطًا وَلَا مُقَصِّرًا، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْ قِلَّتِهَا، وَلَا يُعَدُّ مَنْ كَانَ جَارَ الْمَسْجِدِ بِقِلَّةِ1 خُطَاهُ لَهُ مُقَصِّرًا، بَلِ الْمُقَصِّرُ هُوَ الَّذِي قَصَّرَ عَمَّا حُدَّ لَهُ، وَخَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَتِنَا ذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَلَمْ يَصِحَّ, وَإِنْ فَرَضْنَا صِحَّتَهُ؛ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْأَصْلِ الْقَطْعِيِّ, وَإِنْ سَلِمَ؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّأْخِيرِ2 عَنْ جَمِيعِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَأَطْلَقَ لَفْظَ التَّقْصِيرِ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى تَضْعِيفِ الْأُجُورِ، لَا أَنَّ الْمُؤَخِّرَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ. وَأَمَّا مَسَائِلُ مَالِكٍ؛ فَلَعَلَّ اسْتِحْبَابَهُ لِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ، وَتَرْكِ الْجَمَاعَةِ، مُرَاعَاةٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ لِلصُّبْحِ وَقْتَ ضَرُورَةٍ، وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَخَّرَ إِلَيْهِ، وَمَا ذُكِرَ فِي إِطْعَامِ التَّفْرِيطِ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ فِي الْقَضَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ؛ فَلَا اعْتِرَاضَ بِذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَلَى ضَرْبَيْنِ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَلَى ضَرْبَيْنِ, كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ كَالصَّلَاةِ, وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ كَالدُّيُونِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَالنَّصِيحَةِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: أَحَدُهُمَا: حُقُوقٌ محدودة شرعا.   1 في الأصل: "فقلت". 2 في "ط": "على التقصير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَالْآخَرُ: حُقُوقٌ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ. فَأَمَّا الْمَحْدُودَةُ الْمُقَدَّرَةُ؛ فَلَازِمَةٌ لِذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ1، مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ دَيْنًا، حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهَا؛ كَأَثْمَانِ الْمُشْتَرَيَاتِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ، وَفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُتَرَتِّبٌ فِي ذِمَّتِهِ، دَيْنًا عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ التَّحْدِيدُ وَالتَّقْدِيرُ؛ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْقَصْدِ إِلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهِ؛ فَالْخِطَابُ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ2. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَحْدُودَةِ؛ فَلَازِمَةٌ لَهُ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَوْ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ؛ لَكَانَتْ مَحْدُودَةً مَعْلُومَةً؛ إِذِ الْمَجْهُولُ لَا يَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ وَلَا يُعْقَلُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ دَيْنًا، وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى عَدَمِ التَّرَتُّبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ مَجْهُولَةُ الْمِقْدَارِ، وَالتَّكْلِيفُ بِأَدَاءِ مَا3 لَا يُعْرَفُ لَهُ مِقْدَارٌ تَكْلِيفٌ بِمُتَعَذِّرِ الْوُقُوعِ, وَهُوَ مُمْتَنِعٌ سَمْعًا. وَمِثَالُهُ: الصَّدَقَاتُ الْمُطْلَقَةُ, وَسَدُّ الْخَلَّاتِ، وَدَفْعُ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِينَ، وَإِنْقَاذُ الْغَرْقَى، وَالْجِهَادُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المنكر، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات.   1 الذمة كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق والتزامها شرعا، وهذا المعنى إنما يتحقق في البالغ الرشيد؛ فإن قلنا: إن للصبي ذمة أيضا كما يراه بعض الفقهاء؛ اقتصرنا في تعريفها على كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق، فيتناول التعريف الصبي؛ لأنه وإن كان لا يقبل التزام الحقوق من نحو البيع والهبة والحمالة؛ يقبل لزوم بعضها كأرش الجنايات وقيم المتلفات. "خ". قلت: الأرش هو بدل الدم أو بدل الجناية مقابل بآدمية المقطوع أو المقتول، لا بماليته، قاله الكفوي في "الكليات" "ص78". 2 كإبرام الدائن للمدين "د". 3 تحرفت في "د": "بأدائنا" بالنون بدل الميم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الْحَجِّ: 36] ، أَوْ قَالَ: "اكْسُوَا الْعَارِيَ" 1، أَوْ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 195] ؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ طَلَبُ رَفْعِ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ بِحَسَبِهَا، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مِقْدَارٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ حَاجَةٌ؛ تَبَيَّنَ مِقْدَارُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهَا، بِالنَّظَرِ لَا بِالنَّصِّ، فَإِذَا تَعَيَّنَ جَائِعٌ؛ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِطْعَامِهِ وَسَدِّ خَلَّتِهِ، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ أَطْعَمَهُ مَا لَا يَرْفَعُ عَنْهُ الْجُوعَ؛ فَالطَّلَبُ بَاقٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَافٍ وَرَافِعٌ لِلْحَاجَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرَ ابْتِدَاءً، وَالَّذِي هُوَ كَافٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السَّاعَاتِ وَالْحَالَاتِ فِي ذَلِكَ الْمَعَيَّنِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَقْتِ غَيْرَ مُفْرِطِ الْجُوعِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مِقْدَارٍ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِذَا تَرَكَهُ حَتَّى أَفْرَطَ عَلَيْهِ؛ احْتَاجَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقَدْ يُطْعِمُهُ آخَرُ فَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الطَّلَبُ رَأْسًا، [وَقَدْ يُطْعِمُهُ آخَرُ مَا لَا يَكْفِيهِ، فَيُطْلَبُ هَذَا بِأَقَلَّ مِمَّا كَانَ مَطْلُوبًا بِهِ] 2. فَإِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ؛ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّمَّةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ يُطْلَبُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ مَجْهُولًا؛ فَلَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ بِحَسَبِ النَّظَرِ، لَا بِمُقْتَضَى النَّصِّ، فَإِذَا زَالَ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ؛ صَارَ فِي الثَّانِي مُكَلَّفًا بِشَيْءٍ آخَرَ لَا بِالْأَوَّلِ، أَوْ سَقَطَ3 عَنْهُ التَّكْلِيفُ إِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ الْحَاجَةِ الْعَارِضَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ أَمْرٌ؛ لَخَرَجَ إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ؛ لِأَنَّهُ في كل وقت   1 لم أظفر به بهذا اللفظ، وله شواهد كثيرة تؤيد معناه، وأقرب الألفاظ له ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 438/ رقم 17933" ضمن حديث طويل مرسل، فيه: "واكسوهم ولا تعروهم ". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. 3 أي: فكيف يتأتى الاستقرار في الذمة والأمر يختلف باختلاف الحال والزمان بين سقوط المكلف به رأسا، وبين تغير المكلف به قلة وكثرة؟ "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 مِنْ أَوْقَاتِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ مُكَلَّفٌ بِسَدِّهَا، فَإِذَا مَضَى وَقْتٌ يَسَعُ سَدَّهَا بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مَثَلًا، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ جَاءَ زَمَانٌ ثَانٍ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ أَوْ أَشَدُّ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُكَلَّفٌ أَيْضًا بسدها أو لا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا الثَّانِي بِأَوْلَى1 بِالسُّقُوطِ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ لِأَجْلِ سَدِّ الْخَلَّةِ، فَيَرْتَفِعُ التَّكْلِيفُ وَالْخَلَّةُ بَاقِيَةٌ، هَذَا مُحَالٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ ثَانِيًا مِقْدَارُ مَا تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَةُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَحِينَئِذٍ يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ، قِيَمٌ كَثِيرَةٌ بِعَدَدِ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي الشَّرْعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا2 يَكُونُ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَلْزَمُ -إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ- أَنْ يَتَرَتَّبَ؛ إِمَّا فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُعْقَلُ، وَإِمَّا فِي ذِمَمِ جَمِيعِ الْخَلْقِ مُقَسَّطًا؛ فَكَذَلِكَ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الْقِسْطِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ غَيْرَ مُقَسَّطٍ؛ فَيَلْزَمُ فِيمَا قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي ذِمَمِ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ3. وَالرَّابِعُ: لَوْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ لَكَانَ عَبَثًا، وَلَا عَبَثَ فِي التَّشْرِيعِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ دَفْعَ الْحَاجَةِ؛ فَعُمْرَانُ الذِّمَّةِ يُنَافِي هَذَا الْمَقْصِدَ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ إِزَالَةُ هَذَا الْعَارِضِ4 لَا غُرْمُ قِيمَةِ الْعَارِضِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ مُنَافِيًا لِسَبَبِ الْوُجُوبِ؛ كَانَ عَبَثًا غَيْرَ صَحِيحٍ. لَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَازِمٌ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَشْبَاهِهَا؛ إِذِ الْمَقْصُودُ بها سد   1 لو قال: ليس بأضعف سببية في التكليف من الأول؛ لكان أوضح. "د". 2 في "م" و"خ" و"ط" زيادة: "الواجب؛ إما أن". 3 في قوله: "فهذا غير معقول في الشرع". "د". 4 أي: العارض* الوقتي ولا فائدة تعود على إزالته من شغل ذمة الغير به. "د".   * في المطبوع: "المعارض"!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الْخَلَّاتِ، وَهِيَ تَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا ذَكَرْتَ، وَلَكِنِ الْحَاجَةُ الَّتِي تُسَدُّ بِالزَّكَاةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ1 عَلَى الْجُمْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُؤَدَّى اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَيْنُ الْحَاجَةِ؟ فَصَارَتْ كَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ هِبَةٍ؛ فَلِلشَّرْعِ قَصْدٌ فِي تَضْمِينِ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ مُتَعَيِّنَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إِزَالَتِهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا مَالُ زَكَاةٍ مِنْ غَيْرِهِ بَلْ بِأَيِّ مَالٍ ارْتَفَعَتْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ فَالْمَالُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِنَفْسِهِ فِيهَا، فَلَوِ ارْتَفَعَ الْعَارِضُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لَسَقَطَ الْوُجُوبُ، وَالزَّكَاةُ وَنَحْوُهَا لَا بُدَّ مِنْ بَذْلِهَا، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهَا غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَيْهَا فِي الْوَقْتِ، وَلِذَلِكَ عُيِّنَتْ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي بَذْلِ الْمَالِ لِلْحَاجَةِ يَجْرِي حُكْمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ هَذَا الْقِسْمِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْجَهْلُ مَانِعًا مِنَ التَّرَتُّبِ فِي الذِّمَّةِ؛ لَكَانَ مَانِعًا مِنْ أَصْلِ التَّكْلِيفِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ؛ إِذِ التَّكْلِيفُ بِالْمَجْهُولِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَلَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ: أَنْفِقْ مِقْدَارًا لَا تَعْرِفُهُ, أَوْ صَلِّ صَلَوَاتٍ لَا تَدْرِي كَمْ هِيَ، أَوِ انْصَحْ مَنْ لَا تَدْرِيهِ وَلَا تُمَيِّزُهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ أَبَدًا إِلَّا بِوَحْيٍ، وَإِذَا عُلِمَ بِالْوَحْيِ؛ صَارَ مَعْلُومًا لَا مَجْهُولًا، وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَعْلُومِ صَحِيحٌ، هَذَا خُلْفٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْجَهْلَ الْمَانِعَ مِنْ أَصْلِ التَّكْلِيفِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَيَّنٍ عِنْدَ الشَّارِعِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، وَهُوَ يُرِيدُ الرَّقَبَةَ الْفُلَانِيَّةَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ فَهَذَا   1 فيكون القسم الأول وهو الزكاة مثلا متعينا محدودة المقدار ولا زيادة فيها ولا نقص؛ فكانت متقررا وإن كانت الحاجة فيه غير متعينة ولا صاحبها معلوما، وهنا بالعكس، وصاحب الحاجة معلوم، ومقدار ما يلزمه غير معلوم ولا ثابت؛ فالمكلف به هناك معلوم محدود المكلف بسببه غير معلوم، والقسم الثاني بالعكس. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 هُوَ الْمُمْتَنَعُ، أَمَّا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدَ الشَّارِعِ بِحَسَبِ التَّكْلِيفِ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ صَحِيحٌ، كَمَا صَحَّ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخِصَالِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي إِحْدَى الْخِصَالِ دُونَ مَا بَقِيَ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا إِنَّمَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ سَدُّ الْخَلَّاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ1 [فِيهِ] 2 خَلَّةٌ فَلَا طَلَبَ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ وَقَعَ الطَّلَبُ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ مُمْكِنٌ لِلْمُكَلَّفِ مَعَ نَفْيِ التَّعْيِينِ فِي مِقْدَارٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَهُنَا ضَرْبٌ ثَالِثٌ آخِذٌ بِشِبْهٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْأَوَّلِينَ؛ فَلَمْ يَتَمَحَّضْ لِأَحَدِهِمَا، هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، وَلِأَجَلِّ مَا فِيهِ مِنَ الشَّبَهِ بِالضَّرْبَيْنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، هَلْ لَهُ تَرَتُّبٌ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا تَرَتَّبَ؛ فَلَا3 يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ4؛ فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ لَاحِقٌ بِضَرُورِيَّاتِ5 الدِّينِ، وَلِذَلِكَ مُحِضَ بِالتَّقْدِيرِ وَالتَّعْيِينِ، وَالثَّانِي لَاحِقٌ بِقَاعِدَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ، وَلِذَلِكَ وُكِلَ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالثَّالِثُ آخِذٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِسَبَبٍ مَتِينٍ؛ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، والله أعلم.   1 في "د": "يتعين" بياء -آخر الحروف- في أوله. 2 سقطت من النسخ المطبوعة، وأثبتناها من الأصل. 3 بدلها في الأصل: "فقد" 4 ذهب جمهور العلماء إلى أن نفقة الزوجة غير مقدرة، وأمرها موكول إلى ما يقتضيه حال الزوجين، وذلك مما يجعلها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، واقتضى عدم تقديرها أن لا تستقر في الذمة، وأن تسقط بالإعسار، وكذلك يقول المالكية، والمشهور في مذهب الشافعية أنها مقدرة؛ فعلى الموسر مدان، وعلى الأوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد، وينبني على تقديرها أنها تتعلق بالذمة ولا تسقط بالإعسار، وكذلك يقول الشافعية، وحجة الجمهور في القول بعدم تقديرها حديث هند بنت عتبة وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وقد روي عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- ما يوافق مذهب الجمهور. "خ". 5 في "د": "بضروريات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فَصْلٌ: وَرُبَّمَا انْضَبَطَ الضَّرْبَانِ الْأَوَّلَانِ بِطَلَبِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ1؛ فَإِنَّ حَاصِلَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ طَلَبٌ مُقَدَّرٌ عَلَى كُلِّ عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمُكَلَّفِينَ، وَحَاصِلُ الثَّانِي إِقَامَةُ الأوَد الْعَارِضِ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَإِلَّا أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ قَدْ2 يَدْخُلُ فِيهِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ طَلَبُ عَيْنٍ, وَلَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ طَلَبًا مُتَحَتِّمًا فِي الْغَالِبِ إِلَّا عِنْدَ كَوْنِهِ كِفَايَةً؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَحَتَّمْ؛ فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ مَنْدُوبَاتٌ عَلَى الْأَعْيَانِ؛ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ؛ فَآخُذٌ شَبَهًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَيْضًا؛ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِهِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الفقهاء، والله أعلم.   1 فائدة: السنة أيضا قد تكون كفاية، كما مثلوه بتشميت العاطس, وبالأضحية في حق أهل البيت الواحد كما في "المنهاج". "د". قلت: والصواب في التشميت أنه ليس على الكفاية، بل على أعيان الحاضرين السامعين، لما أخرج البخاري في "الصحيح": "حق على كل من سمعه أن يشمته"، والله أعلم. 2 أي: قد يكون مخيرا بالجزء؛ كالصناعات المختلفة التي لها أثر في إقامة العمران، وقد يكون مندوبا بالجزء؛ كالعدل، والإحسان، وسائر النوافل، والنكاح وغيرها مما تقدم في المندوب بالجزء، ولكن هذا الثاني إنما يكون واجبا كفاية إذا نظر إليه كليا في الغالب، وقد يكون متحتما جزئيا؛ كالعدل بالنسبة للأمير نفسه، فهو مطلوب بإقامة العدل جزئيا أيضا طلبا حتما؛ إلا أن قوله: "وفروض الكفايات مندوبة على الأعيان" ليس كليا، بل قد تكون مندوبة, وقد تكون مخيرا فيها؛ كما سبق في فصله, وكما أشرنا إليه في هذه الجملة. وملخصه أن فريضة الكفاية قد يكون مخيرا بالجزء، وقد يكون مندوبا بالجزء، ولا يتحتم إلا بالكل، وقد يتحتم على البعض أيضا نادرا، ويبقى بعد هذا أنه يقتضي أن مؤدى فرض الكفاية إنما يثاب عليه ثواب المندوب، فإذا تركه الكل؛ عوقب عليه الجميع، وقد لا يثاب عليه الفاعل وذلك إذا كان بالجزء مخيرا؛ فتأمل هذا الموضع جيدا. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 المسألة العاشرة: مرتبة العفو يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ1 بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَرْتَبَةُ الْعَفْوِ؛ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، هَكَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ2، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: 3 مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مَعَ الْقَصْدِ إِلَى الْفِعْلِ، وَأَمَّا دُونَ ذَلِكَ؛ فَلَا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ مِنْهَا، مَعَ وِجْدَانِهِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ؛ فَهُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ؛ أَيْ: لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ. وَالثَّانِي: 4 مَا جَاءَ مِنَ النَّصِّ عَلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ لَا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها" 5.   1 لما كان لهذه المرتبة شبه بالحلال؛ لأنه لا طلب يتعلق بها ولا إثم في فعلها، وشبه بالحرام؛ لأن مثلها لو تعلق به حكم لكان اللوم والذم، قال: "يقع بين الحلال والحرام، وليس لها شبه بما يطلب من الواجب والمندوب رأسا". "د". 2 لما لم يحكم عليها إلا بأنها غير الخمسة، ولم يقل: إنها حكم شرعي سادس، أو ليست حكما؛ قال: "على الجملة"، وسيأتي الإشارة إليه آخر المسألة. "د". 3 الدليل قاصر على خصوص بعض النوع الثاني من أنواع مواضع مرتبة العفو المذكورة في الفصل الثاني: ولا يدل على الباقي, وسيأتي في الفصل الأول ما يصح أن يكون دليلا على البعض الباقي من النوع الثاني؛ حيث يقول: "ومنها الترجيح بين الدليلين عند تعارضها" إلخ. "د". 4 هذا الدليل قاصر على النوع الثالث من مراتب العفو الآتية في الفصل الثاني. "د". 5 أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 183-184" والطبراني في "الكبير" "22/ 221-222/ رقم 589"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 9"، والبيهقي في "الكبرى" "10 = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [الْبَقَرَةِ: 222] . {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [الْبَقَرَةِ: 220] . {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةِ: 217] . مَا كَانُوا يُسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ"1. يعني: إن هذا كان الغالب2 عليهم.   = / 12-13"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 17"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 314"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1045/ رقم 2012" من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 150": "له علتان: إحداهما: أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما. والثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني [في "العلل" "رقم 1170"] : "الأشبه بالصواب المرفوع"، قال: "وهو الأشهر". وقد حسن الشيخ, رحمه الله [أي: النووي في "أربعينه" "رقم 30"] هذا الحديث، وكذلك حسنه قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في "أماليه". ا. هـ. قلت: والحديث حسن بشواهده، وتقدم بعضها في "ص229", وانظر التعليق عليها. 1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 51"، والطبراني في "الكبير" "11/ 454/ رقم 12288"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 296" من طريق جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي "ط": "كلهن في القرآن". وإسناده ضعيف، جرير وابن فضيل رويا عن عطاء بعد اختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 159": "فيه عطاء بن السائب وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات". وانظر عن تحرير عدد الأسئلة: "5/ 375". 2 قيده لما سيأتي بعضه أثناء المسألة من مثل سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ؛ فَهُوَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ" 1، وَكَانَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ لَمْ يُحَرَّمْ2؛ فَيَقُولُ: عَفْوٌ، وَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ فَقَالَ: العفو "يعني: لا يؤخذ مِنْهُمْ زَكَاةٌ"3. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: "أَحَلَّ اللَّهُ حَلَالًا, وَحَرَّمَ حَرَامًا، فَمَا أَحَلَّ؛ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ؛ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ عَفْوٌ" 4. وَالثَّالِثُ5: مَا يَدُلُّ عَلَى هذا المعنى في الجملة؛ كقوله تعالى:   1 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب ما لم يذكر تحريمه، 3/ 354-355/ رقم 3800" بإسناد صحيح عن ابن عباس؛ قال: " ... وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه؛ فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وَتَلَا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} " إلى آخر الآية. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 115"، وابن مردويه؛ كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 184"، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 372". وفي الباب عن سلمان -واختلفوا في رفعه ووقفه- وعن غيره، انظره مبسوطا في "سنن سعيد بن منصور" "2/ 320-330/ رقم 94" مع التعليق عليه للشيخ سعد آل حميد، وفقه الله لكل خير. 2 أي: فيه شبهة الحرمة، ولم يرد فيه تحريم بل سكت عنه. "د". 3 إن كان معناه أنه لا تؤخذ منهم زكاة بمقتضى النص؛ فليس مما نحن فيه ولا محل لذكره، وإن كان معناه أنه مما سكت عنه؛ فلا تؤخذ الزكاة لذلك كان لذكره وجه, وقد يقال: إنه يرجع إلى قاعدة أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا. "د". 4 ذكره عن عبيد بن عمير, ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 152". 5 هذا الدليل خاص ببعض النوع الثاني كما في حديث: "أكل عام"، وبالنوع الثالث، وقد انتهى به مقام الاستدلال ولم يجئ فيه بما يدل على النوع الأول، وهو الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض وإن قوي معارضه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1 الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 43] ؛ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ فِي الْإِذْنِ عِنْدَ عدم النص. وقد ثبت من الشَّرِيعَةِ الْعَفْوُ عَنِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ حَسْبَمَا بَسَطَهُ الْأُصُولِيُّونَ, وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 68] . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَكْرَهُ كَثْرَةَ السُّؤَالِ2 فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ، بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ إِذْ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الأفعال معها معفو عنها، وقد قال, صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ" 3. وَقَالَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهَوْا، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" 4.   1 محط الدليل بقية الآية؛ كأنه أذن قبل أن يتبين الذين صدقوا؛ فهو من محل العفو المصدرة به الآية. "د". 2 انظر ما تقدم "ص47". 3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين". 4 أخرجه البخاري "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 13/ 251/ رقم 7288"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، 2/ 975/ رقم 1337"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج، 5/ 110-111"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله, صلى الله عليه وسلم، 5/ 47/ رقم 2679" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، 1/ 3/ رقم 2"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 313، 517"، من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وَقَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 97] ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله! أكل عام [فرض] ؟ فَأَعْرَضَ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكُلَّ عام [فرض] 1؟ فَأَعْرَضَ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكُلَّ عام؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، وَلَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ؛ فَذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ" 2، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى3 مَا تَقَدَّمَ. وَفِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 101] . ثُمَّ قَالَ: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [الْمَائِدَةِ: 101] . أي: عن تلك الأشياء؛ فهو إِذًا عَفْوٌ. وَقَدْ كَرِهَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا وَنَهَى عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ, وَقَامَ يَوْمًا وَهُوَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ؛ فَذَكَرَ السَّاعَةَ، وَذَكَرَ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ؛ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا ". قَالَ أنس: فأكثر الناس من البكار حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي ". فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ؛ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ ". فَلَمَّا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي؛ بَرَكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ عُمَرُ ذلك،   1 ما بين المعقوفتين في الموضعين زيادة من الأصل. 2 المذكور هنا هو صدر الحديث السابق، وتتمته: "فإنما هلك ... ". 3 أي: من قوله: "فإنما هلك" إلخ "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فَنَزَلَتِ الْآيَةُ1، وَقَالَ أَوَّلًا: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ [هَذَا] 2 الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي؛ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ" 3، وَظَاهِرٌ مِنْ هَذَا الْمَسَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ: "سَلُونِي" فِي مَعْرِضِ الْغَضَبِ تَنْكِيلٌ بِهِمْ فِي السُّؤَالِ، حَتَّى يَرَوْا عَاقِبَةَ السُّؤَالِ4، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 101] , وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ5 مَا يُعْفَى عَنْهُ، وَهُوَ مَا نُهِيَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهُ. فَكَوْنُ الْحَجِّ لِلَّهِ هُوَ مُقْتَضَى الْآيَةِ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ لِلْعَامِ الْحَاضِرِ تَقْتَضِيهِ6 أَيْضًا، فَلَمَّا سَكَتَ عَنِ التَّكْرَارِ؛ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي الْحِمْلُ عَلَى أَخَفِّ مُحْتَمَلَاتِهِ, وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْآخَرَ مُرَادٌ؛ فَهُوَ ما يُعفى عَنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا قِصَّةُ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ، لَمَّا شَدَّدُوا بِالسُّؤَالِ -وَكَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا- شَدَّدَ عَلَيْهِمْ7 حَتَّى ذَبَحُوهَا {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] .   1 هذا لفظ البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7294"، وأخرجه أيضا مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورية إليه، 4/ 1832/ رقم 2359" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- ومضى مختصرا "ص45". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 هو جزء من الحديث المتقدم. 4 التي منها نزول تحريم ما لم يحرم، وغيره مما يكرهونه ويسيئهم؛ كالتعرض للفضيحة، وزيادة التكاليف. "د". 5 وهي من قوله: "وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَكْرَهُ كَثْرَةَ السؤال إلى هنا". "د". 6 لأن المطلق يتحقق في فرد واحد مما يطلق عليه "د". 7 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 105". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مَا لَا يَحْسُنُ السُّؤَالُ عَنْهُ وَعَنْ حُكْمِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. فَصْلٌ: وَيَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ مِنْهَا مَا يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. - فَمِنْهَا: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ؛ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، فَكُلُّ فِعْلٍ صَدَرَ عَنْ غَافِلٍ، أَوْ نَاسٍ، أَوْ مُخْطِئٍ؛ فَهُوَ مِمَّا عَفِيَ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَرَضْنَا تِلْكَ الْأَفْعَالَ مَأْمُورًا بِهَا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهَا وَلَا مَأْمُورًا بِهَا وَلَا مُخَيَّرًا فِيهَا؛ فَقَدْ رَجَعَتْ إِلَى قِسْمِ مَا لَا حُكْمَ لَهُ فِي الشَّرْعِ, وَهُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ فَمِنْ شَرْطِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ ذِكْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ فِي الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي وَالْغَافِلِ مُحَالٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ النَّائِمُ وَالْمَجْنُونُ وَالْحَائِضُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. - وَمِنْهَا: الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ1، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ, وَقَدْ جَاءَ في   1 ذهب المتقدمون إلى أن المخطئ في أصول الفقه آثم كالمخطئ في أصول الدين، وجنح المتأخرون إلى أنه غير آثم كالمخطئ في الفروع, ووجه ما ذهب إليه المتقدمون؛ أن القواعد الكلية لقلتها وجلاء شواهدها أقرب مأخذا وأيسر على الراسخ في فهم الكتاب والسنة من الأحكام الجزئية التي تتجاوز حد الحصر ويتوقف استنباطها بحق على النظر في أسباب الوقائع وما يترتب عليها من المصالح أو المفاسد ثم الرجوع إلى النصوص والأصول، وهي كثيرا ما تتجاذب الواقعة؛ فلا يهتدي المجتهد لتخليص الحكم مع معاقدها؛ إلا بحذقه في صناعة التطبيق والترجيح, واستثنى بعض القائلين بتأثيم المخطئ في الأصول كالإمام القرافي المسائل التي لم يدل فيها المتنازعون على قاطعة كالإجماع السكوتي وما يجري على شاكلته. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الْقُرْآنِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 43] . وَقَالَ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 68] . - وَمِنْهَا: الْإِكْرَاهُ، كَانَ مِمَّا يُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ، إِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَفْوِ، كَانَ الْأَمْرُ1 وَالنَّهْيُ بَاقِيَيْنِ عَلَيْهِ أَوْ لَا؛ فَإِنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّ تَرْكَهُ لِمَا تَرَكَ وَفِعْلَهُ لِمَا فَعَلَ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ2. - وَمِنْهَا: الرُّخَصُ كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا، فَإِنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ نُصَّ عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ مُبَاحَةً أَوْ مَطْلُوبَةً؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً؛ فَيَلْزَمُهَا الْعَفْوُ عَنْ نَقِيضِ المطلوب؛ فأكل الميتة -إذا قلنا بإيجابه- فلا بد أَنْ يَكُونَ نَقِيضُهُ وَهُوَ التَّرْكُ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فِي التَّكْلِيفِ بِهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ وَمَرْفُوعٌ عَنِ الْأُمَّةِ. - وَمِنْهَا: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ؛ كَانَ مُقْتَضَى الْمَرْجُوحِ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنِ التَّرْجِيحُ، فَيُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ أَصْلِهِ, وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخِطَابِ بِالنَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا3 بِبَقَاءِ الِاقْتِضَاءِ فِي الدَّلِيلِ الْمَرْجُوحِ وَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الثَّابِتِ، أَمْ قُلْنَا: إِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ؛ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي لُزُومِ الْعَفْوِ. - وَمِنْهَا: الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ دَلِيلٍ لَمْ يَبْلُغْهُ، أَوْ عَلَى مُوَافَقَةِ دَلِيلٍ بَلَغَهُ وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَنْسُوخٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ؛ إِذْ لَا   1 أي: على القولين في ذلك. "د". 2 انظر كلاما حسنا حول الإكراه في آخر "الاستقامة" لشيخ الإسلام ابن تيمية. 3 في "م" و"خ": "قلنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بُدَّ مِنْ بُلُوغِ الدَّلِيلِ إِلَيْهِ وَعِلْمِهِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ, وَإِلَّا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. - وَمِنْهَا: التَّرْجِيحُ1 بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ عند تزاحمهما ولم يمكن الجمع بنهما، لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْعَفْوِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤَخَّرِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمُقَدَّمُ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِمَا، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ شَرْعًا. - وَمِنْهَا: مَا سُكِتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ عَفْوٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ مَعَ وُجُودِ مَظِنَّتِهِ؛ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَفْوِ فِيهِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فِي الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ فَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَلِمَانِعِ مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَيْهِ بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُكَلَّفُونَ؛ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الِاقْتِضَاءُ أَوِ التَّخْيِيرُ، أَوْ لَا تَكُونَ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً، فَإِنْ كَانَتْ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً؛ فَلَا زَائِدَ عَلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً بِجُمْلَتِهَا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالَةٍ مَا، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ مُكَلَّفًا، فَلَا يَصِحُّ خُرُوجُهُ، فَلَا زَائِدَ عَلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الزَّائِدَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ فَلَا اعتبار به.   1 أي: إذا خوطب في وقت واحد بفعل شيئين مما لم يكن إيجادهما معا، كأن خوطب بأن يكلم اثنين بجملتين مختلفتين؛ فيرجح هو تقديم خطاب أحدهما على الآخر، فهذا الترجيح أيضا عفو. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَنَّهُ مُسَمًّى بِالْعَفْوِ, وَالْعَفْوُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُتَوَقَّعُ لِلْمُكَلَّفِ حُكْمُ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ بِهِ قَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ حُكْمٌ آخَرُ لِتَضَادِّ الْأَحْكَامِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ أُخْرَوِيٌّ لَا دُنْيَوِيٌّ، وَكَلَامُنَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَوَجِّهَةِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَفْوُ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ فَإِمَّا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، أَوْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَأَنْوَاعُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مَحْصُورَةٌ1 فِي الْخَمْسَةِ، وَأَنْوَاعُ خِطَابِ الْوَضْعِ مَحْصُورَةٌ أَيْضًا فِي الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُصُولِيُّونَ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا؛ فَكَانَ لَغْوًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الزَّائِدَ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَخْلُوَ بَعْضُ الْوَقَائِعِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ أَمْ لَا؟ فَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا؛ فَلَيْسَ إِثْبَاتُهَا أَوْلَى مِنْ نَفْيِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ2، وَالْأَدِلَّةُ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ؛ فَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنِ الْمُعَارِضِ وَدَعْوَاهُ. وَأَيْضًا إِنْ كَانَتِ اجْتِهَادِيَّةً؛ فَالظَّاهِرُ نَفْيُهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ فَلَيْسَتْ بِمَفْهُومَةٍ، وما تقدم من الأدلة إلى إِثْبَاتِ مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ فَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا, وَلِأَنَّ الْعَفْوَ أُخْرَوِيٌّ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ سُلِّمَ لِلْعَفْوِ ثُبُوتٌ؛ فَفِي زَمَانِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا فِي غَيْرِهِ، وَلِإِمْكَانِ تَأْوِيلِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنْوَاعِهِ فَدَاخِلَةٌ أَيْضًا تحت الخمسة؛   1 هو محل النزاع؛ فلا يصح أن يكون دليلا على إلغاء هذه المرتبة. "د". 2 في الأصل: "بالدليل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى رَفْعِ حُكْمِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْحَرَجِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي؛ إِمَّا الْجَوَازَ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ، وَإِمَّا رَفْعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنَ الذَّمِّ وَتَسْبِيبِ الْعِقَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ رَفْعِ آثَارِهِمَا لِمُعَارِضٍ، فَارْتَفَعَ الْحُكْمُ بِمَرْتَبَةِ الْعَفْوِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْخَمْسَةِ، وَفِي هَذَا الْمَجَالِ أَبْحَاثٌ أُخَرُ. فَصْلٌ: وَلِلنَّظَرِ فِي ضَوَابِطِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَفْوِ -إِنْ قِيلَ بِهِ- نَظَرٌ؛ فإن الاقتصار به على محال النصوص نزعة ظَاهِرِيَّةٌ، وَالِانْحِلَالُ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَرْقٌ لَا يُرَقَّعُ، وَالِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الْمَحَالِّ دُونَ بَعْضٍ تَحَكُّمٌ يَأْبَاهُ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ وَجْهٍ يُقْصَدُ نَحْوُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ1 يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْوُقُوفُ مَعَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ قُصِدَ نَحْوُهُ2 وَإِنْ قَوِيَ مُعَارِضُهُ. وَالثَّانِي: الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَاهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ عَنْ قَصْدٍ لَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ. وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْ حُكْمِهِ رَأْسًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ حُكْمُ الرُّخْصَةِ ظَاهِرًا، فَإِنَّ3 الْعَزِيمَةَ لَمَّا تُوُخِّيَتْ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ أَوِ الْإِطْلَاقِ؛ كَانَ الْوَاقِفُ مَعَهَا وَاقِفًا عَلَى دَلِيلٍ مِثْلِهِ مُعْتَمَدٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالرُّخْصَةِ وَإِنْ   1 في "م" زيادة: "أنه". 2 الواو للحال، وأن زائدة. "د". 3 في "د": "إن" بدون الفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تَوَجَّهَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ؛ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا أَنَّ الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ، وَكِلَاهُمَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ؛ فَالرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ الرُّخْصَةِ وُقُوفٌ مَعَ مَا مِثْلُهُ مُعْتَمَدٌ. لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَصْلُ رَفْعِ الْحَرَجِ وَارِدًا عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ وُرُودَ الْمُكَمِّلِ؛ تَرَجَّحَ جَانِبُ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ بِوَجْهٍ مَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَخْرِمُ أَصْلَ الرُّجُوعِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْمُكَمِّلِ قِيَامُ أَصْلِ التَّكْلِيفِ. وَقَدِ اعْتُبِرَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ هَذَا1؛ فَفِيهِ: إِنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، فَظَنَّ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ بِهِ2 فَأَفْطَرَ؛ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ بِتَأْوِيلٍ, وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ3 غَيْرَ عِلْمِيٍّ، بَلْ هَذَا جَارٍ فِي كُلِّ مُتَأَوِّلٍ؛ كَشَارِبِ الْمُسْكِرِ ظَانًّا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْكِرٍ، وَقَاتِلِ الْمُسْلِمِ ظَانًّا أَنَّهُ كَافِرٌ، وَآكِلِ الْمَالِ الْحَرَامِ عَلَيْهِ ظَانًّا أَنَّهُ حَلَالٌ لَهُ، وَالْمُتَطَهِّرِ بِمَاءٍ نَجِسٍ ظَانًّا أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ. وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: "اجْلِسُوا ". فَجَلَسَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال [له] 4: "تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ" 5. فَظَاهِرٌ من هذا أنه رأى الوقوف   1 أي: الوقوف مع دليل معارض بقوي، وإن كان نفس الدليل غير علمي؛ لأنه مجرد ظن غير مبني على شيء من الشرع. "د". 2 في "ط": "له". 3 الذي بني عليه الفطر أو التأويل غير دليل أو مستند علمي؛ أي: لا يلزم فيه ذلك. "د". 4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط". 5 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "3/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر به. وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف, مرسل، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومخلد = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مَعَ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَإِنْ قُصِدَ غَيْرُهُ؛ مُسَارَعَةً إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ. وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: "اجْلِسُوا ". فَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ ". فَقَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: اجلسوا فجلست. فَقَالَ [لَهُ] 1 النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زادك الله طاعة" 2،   = هو شيخ". قلت: قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام". ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛ فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر. أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/ رقم 1780"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 205-206". وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء عن النبي, صلى الله عليه وسلم". وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي: ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد وكان يدلس تدليس التسوية, وهشام بن عمار كان يتلقن". بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 866/ رقم 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه جاء يوم الجمعة ... "، ثم قال: "ذكره أبو داود في كتاب الجمعة من "السنن""؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -أي: الشاطبي- أن الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك، بل هو -عند أبي داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثير من الأحاديث ويعزوها أو يحكم عليها تقليدا لغيره، وقد أكثر في هذا الكتاب من النقل عن ابن عبد البر, رحمه الله تعالى. 1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"خ" و"ط". 2 أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" "3/ 256-257"، والديلمي في "الفردوس"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" -كما في "الكنز" "رقم 37170، 37171"- بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَظَاهِرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالْأَمْرِ بِالْجُلُوسِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ سَارَعَ إِلَى امْتِثَالِهِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُ جَالِسًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسٍ. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يُصَلِّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ". فَأَدْرَكَهُمْ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ. "فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدَةً من الطائفتين1"2. ويدخل ههنا كُلُّ قَضَاءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ، مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخْطَأَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ بَعْضَ الْقَوَاطِعِ3، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ؛ فَإِنَّهُ وُقُوفٌ مَعَ أَحَدِهِمَا وَإِهْمَالٌ لِلْآخَرِ، فَإِذَا فُرِضَ مُهْمَلًا لِلرَّاجِحِ؛ فَذَلِكَ لِأَجْلِ وُقُوفِهِ مَعَ الْمَرْجُوحِ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِدَلِيلٍ مَنْسُوخٍ أَوْ غَيْرِ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ وقوف مع ظاهر دليل يعتمد   1 تحرفت في "م" إلى: "الطائعتين"؛ بالعين بدل الفاء. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء, 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، 7/ 407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ولفظ مسلم: "أن لا يصلين أحد الظهر ... "! 3 إذا حكم الحاكم في قضية ثم تغير اجتهاده؛ فليس له أن ينقض حكمه بنفسه, ولا يسوغ لغيره نقضه؛ لأنه يؤدي إلى عدم استمرار الأحكام؛ فتفوت المصلحة المقصودة من نصب الحكام وفصل الخصومات قال أبو سفيان للخليفة عثمان بن عفان: "لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك", وإنما يمضي حكم الحاكم في القضايا الموكولة إلى الاجتهاد, فإن خالف نصا جليا أو إجماعا أو قاعدة قطعية؛ وجب نقضه كما ينقض حكم القاضي المقلد إذا خالف الراجح المفتى به في مذهب إمامه. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 مِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَعْنَى الْعَفْوِ الْمَذْكُورِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: "الْوُقُوفُ مَعَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ"؛ فَشُرِطَ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَارِضٍ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ تَخْيِيرٌ عُمل عَلَى وَفْقِهِ، فَلَا عَتبَ يُتوهم فِيهِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ تَلْزَمُهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ؛ فَلَا مَوْقِعَ لِلْعَفْوِ فِيهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: "وَإِنْ قَوِيَ مُعَارِضُهُ"؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يقْوَ مُعَارِضُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، بَلْ1 مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى إِثْرِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ تَرْكٌ لدليل2، وَإِنْ كَانَ إِعْمَالًا لِدَلِيلٍ أَيْضًا؛ فَأَعْمَالُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَقْوَى عِنْدَ النَّاظِرِ أَوْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَإِعْمَالِ الدَّلِيلِ غَيْرِ الْمُعَارِضِ؛ فَلَا عَفْوَ فِيهِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ عَنْ قَصْدٍ لَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ، فَمِنْهُ الرَّجُلُ يَعْمَلُ عَمَلًا عَلَى اعْتِقَادِ إِبَاحَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ تَحْرِيمِهِ أَوْ كَرَاهِيَّتِهِ، أَوْ يَتْرُكُهُ مُعْتَقِدًا إِبَاحَتَهُ إِذَا3 لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ؛ كَقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ الخمر محرمة فيشربها، أو لا يعلم   1 لعل الأصل هكذا: "بل ولا من النوع الذي ... إلخ"؛ أي: إنه إذا كان المعارض ضعيفا لا يكون أيضا من النوع الثاني؛ لأن الثاني ترك لدليل وخروج عن مقتضاه قصدا بتأويل أو بغير قصد, وما نحن بصدده إعمال لدليل ضعيف معارضه؛ فلا هو من الأول الذي لوحظ فيه قوة معارضه، ولا هو من الثاني الذي لوحظ فيه أنه ترك لدليل وخروج عنه بغير قصد أو بقصد، لكن بتأويل، والحاصل أنه لما كان إعمال المعارض بضعيف كان إعمال* لدليل غير معارض صار لا يتوهم فيه مؤاخذة حتى يكون من مواضع العفو. "د". 2 في "د" بعد كلمة "وهنا" -واستظهر المحقق عدم مناسبتها للسياق- فقال: "يشبه أن يكون هنا سقط، والأصل: "وهذا"". 3 في "ط": "إذ".   * كذا في الأصل، والأحسن أن تكون العبارة: "إعمال المعارض بضعيف إعمالا لدليل ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ وَاجِبٌ فَيَتْرُكُهُ، وَكَمَا اتَّفَقَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ حِينَ لَمْ تَعْلَمِ الْأَنْصَارُ طَلَبَ الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ1، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ يَتَبَيَّنُ لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَخْلِيلَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، وَيَرَاهُ مِنَ التَّعَمُّقِ، حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُخَلِّلُ2؛ فَرَجَعَ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَكَمَا اتَّفَقَ لِأَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي الْمُدِّ وَالصَّاعِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ3. وَمِنْ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ4 خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا، وَمِمَّا يُرْوَى مِنَ الْحَدِيثِ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا استكرهوا عليه" 5، فإن صح   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن أبي موسى الأشعري؛ قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار؛ فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل ... 2 ورد ذلك في أحاديث عديدة سردها الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 26-27"، منها حديث لقيط بن صبرة؛ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "إذا توضأت فأسبغ الوضوء, وخلل بين أصابعك"، وهو حديث صحيح؛ كما قال ابن حجر في "الإصابة" "3/ 329"، وقال في "التلخيص الحبير" "1/ 81": "صححه الترمذي والبغوي وابن القطان". قلت: وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن السكن؛ كما قال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "1/ 184"، وقد خرجته وتكلمت عليه بتوسع في تحقيقي لكتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 284". 3 ذكره ابن تيمية في "صحة أصول أهل المدينة" "33"، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 394". 4 أي: يخرج عن مقتضى الدليل خطأ بأن لا يفهم الدليل مثلا على وجهه، أو نسيانا للدليل، أما خطأ المجتهد المعدود سابقا في النوع الأول؛ فقد وقف فيه مع دليل لكن ظهر خطؤه في التمسك به لضعفه بإزاء دليل آخر مثلا؛ فهذا خرج عن الدليل، وذاك وقف مع دليل ظهر خطؤه في الاعتداد به؛ فتنبه لتفرق بين النوعين في جميع الأمثلة فيهما. "د". 5 مضى تخريجه "ص236". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فَذَلِكَ, وَإِلَّا فَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِنْ وُجِدَ الْقَصْدُ: الْإِكْرَاهُ الْمُضَمَّنُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا الْعَفْوُ عَنْ عَثَرَاتِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ إِقَالَتُهُمْ1 فِي الزَّلَّاتِ، وَأَنْ لَا يُعَامَلُوا بِسَبَبِهَا مُعَامَلَةَ غَيْرِهِمْ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ" 2. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "تَجَافُوا عَنْ عُقُوبَةِ ذَوِي الْمُرُوءَةِ وَالصَّلَاحِ" 3، وَرُوِيَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ؛ فَإِنَّهُ قَضَى بِهِ فِي رَجُلٍ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَجَّ رَجُلًا وَضَرَبَهُ؛ فَأَرْسَلَهُ وَقَالَ: أَنْتَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ. وَفِي خَبَرٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ4 بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَأْدَى عَلَيَّ مَوْلًى لِي جَرَحْتُهُ يُقَالُ لَهُ سَلَامٌ الْبَرْبَرِيُّ إِلَى ابْنِ حَزْمٍ، فَأَتَانِي فَقَالَ: جَرَحْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: سمعت خالتي عمرة تقول:   1 على فرض تسليم أصل الحديث وما بعده؛ فليس هذا من العفو الذي فيه الكلام، وهو أنه لا حرج فيه شرعا، يعني: لا إثم, وفيه المغفرة ... إلخ، أما كونه لا يقتص منه لعبده أو لمن شجه؛ فهذا غير موضوع مرتبة العفو التي فيها الكلام من أول المسألة. "د". 2 سيأتي تخريجه قريبا من حديث عائشة -رضي الله عنها- وهو حسن. 3 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 130-ط الهندية، و6/ 150/ رقم 2378-ط المحققة" من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ: "تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة وهم ذوو الصلاح"، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن عبد العزيز ضعفوه، كما قال الذهبي، وباقي رجاله ثقات. وأخرج ابن الأعرابي في "المعجم" "رقم 326"، والسهمي في "تاريخ جرجان" "154" بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعا: "تجاوزوا في عقوبة ذوي الهيئات"، هذا لفظ ابن الأعرابي، ولفظ السهمي: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ". والحديث حسن يحتج به، وسيأتي تخريجه من حديث عائشة, رضي الله عنها. 4 في الأصل والنسخ الثلاث: "عبد الله"، والتصويب من مصادر التخريج الآتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ" 1 فَخَلَّى   1 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 181"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 43" من طرق عن عبد الملك بن زيد عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعا، مع زيادة في آخره: "إلا الحدود ". وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه، 4/ 133/ رقم 4375", والبيهقي في "الكبرى" "8/ 267، 334" من طريقين عن ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد -وهو من ولد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- عن محمد بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة مثله، بزيادة: "عن أبيه". وعبد الملك بن زيد ترجمه ابن حبان في "الثقات" "7/ 95"، وقال عنه النسائي: "ليس به بأس"، وضعفه علي بن الجنيد. ورواه بهذا اللفظ ولكن بإسقاط "عن أبيه" من السند المذكور: أبو بكر بن نافع العمري عن محمد بن أبي بكر به؛ كما عند البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 465"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 599"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 126"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 94- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 334". ولفظ إسحاق وابن حبان: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم ". وأبو بكر بن نافع مولى آل زيد بن الخطاب ضعيف. وتابع أبو بكر بن نافع وعبد الملك بن زيد, عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر؛ كما عند النسائي في "الكبرى"، كما في "تحفة الأشراف" "12/ 413"، والطحاوي في "المشكل" "3/ 127, 128، 129". وتابع المذكورين: عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله؛ كما عند الطحاوي في "المشكل" "3/ 129"، وهو ثقة، وكذا من دونه؛ فإسناده صحيح، وذكر القصة التي أوردها المصنف، وهي سبب إيراده للحديث، لا سبب ورود الحديث. وللحديث شواهد؛ منها حديث ابن عمر مر قريبا, وحديث ابن مسعود مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم"، رواه الخطيب "10/ 85-86"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 234" بسند حسن في الشواهد، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 638"، وحسنه ابن حجر في "أجوبته على = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 سَبِيلَهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ شُئُونِ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} الْآيَةَ [النَّجْمِ: 31، 32] ، لَكِنَّهَا1 أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَكَلَامُنَا فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى دَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَقُومُ هُنَالِكَ مُفِيدًا لِلظَّنِّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِذَا عَارَضَهُ شُبْهَةٌ وَإِنْ ضَعُفَتْ؛ غَلَبَ   = أحاديث المشكاة" "ص1790"، ومن قبله العلائي في "النقد الصحيح" "رقم 5". وانظر كذلك: "عون المعبود" "12/ 39"، و"المقاصد الحسنة" "73". وعلق "خ" في هذا الموطن ما نصه: "هذا الأثر مما نرتاب في صحته، ولا نكاد نفهم كيف يسوغ القاضي أن يعفو من تلقاء نفسه على من اعتدى على شخص بالضرب أو بالجرح، ويخلي سبيله متكئا على أنه من ذوي الهيئات؛ فصورة الواقعة بحسب الوجه الذي حكيت به مخالفة لما جاءت به الشريعة العادلة من التساوي في الحقوق، وأن لا فرق فيها بين شريف ووضيع، ولو كان في يد الحاكم أن يطلق سبيل المعتدي على غيره بضرب أو جرح؛ لكان لعمر بن الخطاب وجه لو أغضى عن لطم جبلة ملك غسان لذلك العامل الضعيف ولم يقل له بملء فمه الطاهر: "الإسلام سوى بينكما"، ولو عفا ابن الخطاب عن جبلة في هذه الواقعة؛ لهدم قاعدة المساواة من أساسها، وتكدرت عليه خواطر الأمة؛ فيضطرب حبل السياسة، ولا يستطيع أن يكون ذلك الرجل الذي مد جناحي خلافته على دول عظيمة في أمد غير بعيد". قلت: توجيه الطحاوي في "المشكل" "6/ 142-154" هذا الحديث يرد على المزبور، وكلامه قوي ولا سيما وقد صح الحديث, ولله الحمد. 1 والعفو بالمعنى الذي نقرره هو أمر أخروي؛ فراجع أمثلته السابقة، حتى إنه عبر عنه فيما سبق آنفا بحصول المغفرة, وهي حكم أخروي بالقصد الأول، وإن كان قد يتبعها عدم الحد في مثل الشرب مثلا، إلا أن هناك أمورا لا شيء فيها دنيويا، كخطأ الاجتهاد مثلا؛ فإن عفوه أخروي صرف. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 حُكْمُهَا، وَدَخَلَ1 صَاحِبُهَا فِي حُكْمِ الْعَفْوِ. وَقَدْ يعد هذا المثال2 مِمَّا خُولِفَ فِيهِ الدَّلِيلُ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا3، وَمِثَالُ مُخَالَفَتِهِ بِالتَّأْوِيلِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ: مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 93] عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ حِينَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنْ كُنْتُ شَرِبْتُهَا فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي. قَالَ عُمَرُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 93] . فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ4. قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تُكَفِّرُ مَا كَانَ مِنْ شُرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنِ اتَّقَى وَآمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَأَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ، بِخِلَافِ مَنِ اسْتَحَلَّهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثِ قدامة أنه حُدَّ.   1 وهل هذا لا يسقط الإثم أيضا، وظاهر أنه يسقطه في غالب صور الشبهة، فإذا استقلت الشبهة بإسقاط الحد؛ لا يكون من مرتبة العفو التي هي موضوعنا. "د". 2 في النسخ المطبوعة: "المجال"، والتصحيح من الأصل. 3 لأنه الضرب الثاني من النوع الثاني؛ إلا أنه يقال عليه: كيف يعد خروجا عن مقتضى الدليل بالتأويل مع أنه وقوف مع الدليل الصريح: "ادرءوا الحدود بالشبهات"؛ فهو لم يخرج عن الدليل العام في الحدود المخصص بها الدليل؛ لأنه بعد تخصصه لا يقال خرج عنه، بل هو إعمال للدليل المخصص الذي أفاد أن دلالة العام لا تشمل هذا الموضع؛ فلا نسلم أن درء الحدود بالشبهات من النوع الثاني بقسميه؛ لأنه لا ترك فيه للدليل* بغير قصد ولا بقصد التأويل. "د". 4 مضى تخريجه "ص158".   * في المطبوع: "الدليل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَمِمَّا وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ زَمَانًا جَاهِلَةً بِالْعَمَلِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا فِيمَا تَرَكَتْ، قَالَ فِي "مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ": لَوْ طَالَ بِالْمُسْتَحَاضَةِ وَالنُّفَسَاءِ الدَّمُ، فَلَمْ تُصَلِّ النُّفَسَاءُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَلَا الْمُسْتَحَاضَةُ شَهْرًا؛ لَمْ يَقْضِيَا مَا مَضَى -إِذَا تأولتا فِي1 تَرْكِ الصَّلَاةِ دَوَامَ مَا بِهِمَا مِنَ الدَّمِ- وَقِيلَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: إِذَا تَرَكَتْ بَعْدَ أَيَّامِ أَقْرَائها يَسِيرًا أَعَادَتْهُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ بِالْوَاجِبِ، وَفِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا إِذَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ جَاهِلَةً لَا تَقْضِي صَلَاةَ تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَاسْتَحَبَّ ابْنُ الْقَاسِمِ لَهَا الْقَضَاءَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ مَعَ الْجَهْلِ وَالتَّأْوِيلِ؛ فَجَعَلُوهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَفْوِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْمُسَافِرُ يَقْدَمُ2 قَبْلَ الْفَجْرِ، فَيَظُنُّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا صَوْمَ لَهُ، أَوْ تَطْهُرُ الْحَائِضُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ فَتَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا حَتَّى تَطْهُرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَلَا كَفَّارَةَ هُنَا، وَإِنْ خَالَفَ الدَّلِيلَ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ، وَإِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ هُوَ3 مَعْنَى الْعَفْوِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ مسكوت عن حكمه فيه نَظَرٌ، فَإِنَّ خُلُوَّ بَعْضِ الْوَقَائِعِ عَنْ حُكْمٍ لِلَّهِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ4، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بصحة   1 تصحفت في "د": "تأولنا" بالنون. 2 تأمل لتدرك الفرق بين هذه الأمثلة وما مضى فيمن سافر أقل من أربعة برد، حيث كان من الأول الواقف مع مقتضى الدليل المعارض بقوي، وبين هذا الخارج عن الدليل متأولا؛ فالفرق غير ظاهر. "د". 3 ولِمَ لم نقل: وإسقاط الإثم أيضا، وكأنه بان على ما سبق له آنفا من أن الكلام في الأحكام الدنيوية، وقد علمت أن هذا لا يطرد في أصل المسألة، وأمثلته الكثيرة لها، بل وتصريحه سابقا بقوله: "ورفع الحرج والمغفرة". "د". 4 لا يحق لأحد بعد التفقه في قوله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} , وَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، أن يذهب إلى أن يكون بعض الوقائع خاليا من الحكم الشرعي على معنى أن الشريعة أهملته إهمالا مطلقا، بحيث لم تصب دليلا أو تضع أمارة تنبه بها المكلف على مقصدها فيه؛ هل هو الإيجاب، أو الحظر، أو رفع الحرج؟ ولم يبق سوى أن من يقول في الوقائع ما يخلو عن الحكم إنما يقصد عدم نصب دليل يخصه أو يخص نوعه، وهو المسكوت عنه الذي عرف بأدلة عامة أن الشريعة تصدت رفع الحرج فيه عن المكلفين، ورأت طائفة إلى أن الأدلة العامة تجعله من قبيل المحظور. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الْخُلُوِّ؛ فَيَتَوَجَّهُ النَّظَرُ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ: "وَمَا سُكِتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ عَفْوٌ" 1، وَأَشْبَاهِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ؛ فَيُشْكِلُ الْحَدِيثُ؛ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ بِحَالٍ، بَلْ هُوَ إِمَّا مَنْصُوصٌ، وَإِمَّا مَقِيسٌ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَالْقِيَاسُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَلَا نَازِلَةَ إِلَّا وَلَهَا فِي الشَّرِيعَةِ مَحَلُّ حُكْمٍ، فَانْتَفَى الْمَسْكُوتُ عَنْهُ إِذًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُصْرَفَ السُّكُوتُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ مَعَ وُجُودِ مَظِنَّتِهِ، وَإِلَى السُّكُوتِ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ مَعَ اسْتِصْحَابِهَا فِي الْوَقَائِعِ، وَإِلَى السُّكُوتِ عَنْ أَعْمَالٍ أُخِذَتْ قَبْلُ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ, عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَالْأَوَّلُ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 5] ، فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ يَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَإِذَا نُظِرَ إِلَى الْمَعْنَى [أُشْكِلَ] 2؛ لِأَنَّ فِي ذَبَائِحِ الْأَعْيَادِ زِيَادَةٌ تُنَافِي أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ؛ فَكَانَ لِلنَّظَرِ هُنَا مَجَالٌ، وَلَكِنَّ مَكْحُولًا سُئِلَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَقَالَ: كُلْهُ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَقُولُونَ وَأَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ، يُرِيدُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُخَصَّ3 عُمُومُهَا، وَإِنْ وُجِدَ هَذَا الْخَاصُّ الْمُنَافِي، وَعَلِمَ اللَّهُ مُقْتَضَاهُ وَدُخُولَهُ تَحْتَ عموم   1 مضى تخريجه "ص225". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. 3 في الأصل: "تخص". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 اللَّفْظِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَحَلَّ مَا لَيْسَ فِيهِ عَارِضٌ وَمَا هُوَ فِيهِ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْعَفْوِ عَنْ وَجْهِ الْمُنَافَاةِ. وَإِلَى نَحْوِ هَذَا يُشِيرُ قَوْلُهُ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ؛ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا" 1 وَحَدِيثُ الْحَجِّ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا، حِينَ قَالَ: "أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَوْ لِلْأَبَدِ؟ "2؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ يُعْطِي أَنَّهُ لِلْأَبَدِ، فكَرِهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُؤَالَهُ، وَبَيَّنَ لَهُ عِلَّةَ تَرْكِ السُّؤَالِ عَنْ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ: "إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا ... " 3 إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ يُحَرَّمْ، ثُمَّ يُحَرَّمُ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ، إِنَّمَا يَأْتِي فِي الْغَالِبِ مِنْ جِهَةِ إِبْدَاءِ وَجْهٍ4 فِيهِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، مَعَ أَنَّ لَهُ أَصْلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي الْحِلِّيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فُرُوعُهُ فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ دَخَلَهَا مَعْنًى يُخَيِّلُ الْخُرُوجَ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَنَحْوُ حَدِيثِ: " ذَرُونِي 5 مَا تَرَكْتُكُمْ" 6 وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَدْرِيجٍ؛ كَالْخَمْرِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مُعْتَادَةَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ؛ فَتُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَزَمَانًا بَعْدَ ذَلِكَ،   1 مضى تخريجه "ص253" وهو حديث حسن. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العمرة، باب عمرة التنعيم، 3/ 606/ رقم 1785"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، 2/ 883-884/ رقم 1216" من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه. 3 مضى تخريجه "ص48"، وهو في "الصحيحين". 4 أي؛ فهو يسكت عنه؛ أي: يترك الاستفصال فيه مع وجود مظنته. "د". 5 فلا تستقصوا*؛ فيترتب على ذلك تفصيل لا يكون فيه مصلحتكم. "د". 6 مضى تخريجه "ص256"، وهو في "الصحيحين".   * في المطبوع: "يستقصوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَلَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الشَّرْعِ لِلنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا حَتَّى نَزَلَ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الْبَقَرَةِ: 219] ؛ فَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَأَنَّ الْأَضْرَارَ فِيهَا أَكْبَرُ مِنَ الْمَنَافِعِ1، وَتُرِكَ الْحُكْمُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا أَرْبَتْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ؛ فَالْحُكْمُ لِلْمَفْسَدَةِ، وَالْمَفَاسِدُ مَمْنُوعَةٌ2؛ فَبَانَ وَجْهُ الْمَنْعِ فِيهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَى الْمَنْعِ -وَإِنْ ظَهَرَ وَجْهُهُ- تَمَسَّكُوا بِالْبَقَاءِ مَعَ الْأَصْلِ الثَّابِتِ لَهُمْ بِمَجَارِي الْعَادَاتِ، وَدَخَلَ لَهُمْ تَحْتَ الْعَفْوِ، إِلَى أَنْ نَزَلَ مَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوه} ؛ فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، وَارْتَفَعَ الْعَفْوُ, وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 93] ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا حُرِّمَتْ قَالُوا: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ3، فَرَفْعُ الْجُنَاحِ هُوَ مَعْنَى4 الْعَفْوِ. وَمِثَالُ5 ذَلِكَ الرِّبَا الْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ بُيُوعُ الْغَرَرِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ؛ كَبَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ، وَالثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، كُلُّهَا كَانَتْ مَسْكُوتًا عَنْهَا، وَمَا سُكِتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ في معنى   1 في الأصل: "النفع". 2 ولذا قال بعضهم: إن التحريم بدأ من هذه الآية؛ لأنه ذكر ما يقتضي الحرمة، لكن لما لم ينص؛ تمسكوا بالأصل بمقتضى العادة، فكان عفوا. "د". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... } ، 8/ 278/ رقم 4620"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر ... 3/ 1570/ رقم 1980" عن أنس, رضي الله عنه. 4 تنبه لهذا؛ فهو يؤيد ما قلناه في معنى العفو، وأن الأصل فيه الحكم الأخروي، والأحكام الدنيوية إن وجدت تكون تابعة له. "د". 5 في النسخ المطبوعة: "ومثل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الْعَفْوِ، وَالنَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِوُجُودِ جُمْلَةٍ مِنْهُ بَاقِيَةٍ إِلَى الْآنَ عَلَى حُكْمِ إِقْرَارِ الْإِسْلَامِ؛ كَالْقِرَاضِ، وَالْحُكْمِ فِي الْخُنْثَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ. وَالثَّالِثُ: كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمَا؛ إِلَّا مَا غَيَّرُوا؛ فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ، وَيُطَلِّقُونَ، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، وَيَمْسَحُونَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَيَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُلَبُّونَ، وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، وَيَأْتُونَ مُزْدَلِفَةَ، وَيَرْمُونَ الْجِمَارَ، وَيُعَظِّمُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَيُحَرِّمُونَهَا، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيُغَسِّلُونَ مَوْتَاهُمْ وَيُكَفِّنُونَهُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَيَقْطَعُونَ السَّارِقَ، وَيَصْلُبُونَ قَاطِعَ الطَّرِيقِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنْ بَقَايَا مِلَّةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ؛ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ؛ فَبَقُوا عَلَى حُكْمِهِ حَتَّى أَحْكَمَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَا أَحْكَمَ، وَانْتَسَخَ مَا خَالَفَهُ؛ فَدَخَلَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ1 فِي حُكْمِ الْعَفْوِ مِمَّا لَمْ يَتَجَدَّدْ فِيهِ خِطَابٌ زِيَادَةً عَلَى التَّلَقِّي مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ نُسِخَ مِنْهَا مَا نُسِخَ، وأُبقي مِنْهَا مَا أُبْقِي عَلَى الْمَعْهُودِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الْبَسْطِ مَوَاقِعُ الْعَفْوِ فِي الشَّرِيعَةِ وَانْضَبَطَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَقْرَبِ مَا يَكُونُ إِعْمَالًا لِأَدِلَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْعَفْوِ؛ هَلْ هُوَ حُكْمٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ حُكْمٌ؛ فَهَلْ يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ التكليف أم خِطَابِ الْوَضْعِ؟ هَذَا مُحْتَمَلٌ كُلُّهُ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ عَمَلِيٌّ؛ لَمْ يَتَأَكَّدِ الْبَيَانُ فِيهِ، فَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ، والله الموفق للصواب.   1 مما استمروا عليه مدة ثم نسخ."د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 المسألة الحادية عشرة: فرض الكفاية طَلَبُ الْكِفَايَةِ, يَقُولُ الْعُلَمَاءُ بِالْأُصُولِ: أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ، لَكِنْ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ, وَمَا قَالُوهُ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّيِّ1 الطَّلَبِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ جُزْئِيِّهِ؛ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ, وَيَنْقَسِمُ أَقْسَامًا، وَرُبَّمَا تَشَعَّبَ تَشَعُّبًا طَوِيلًا، وَلَكِنَّ الضَّابِطَ لِلْجُمْلَةِ مِنْ ذَلِكَ؛ أَنَّ الطَّلَبَ وَارِدٌ عَلَى الْبَعْضِ، وَلَا عَلَى الْبَعْضِ كَيْفَ كَانَ، وَلَكِنْ عَلَى مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ، لَا عَلَى الْجَمِيعِ عُمُومًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 122] ؛ فَوَرَدَ التَّحْضِيضُ عَلَى طَائِفَةٍ لَا عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} 2 الآية [آل عمران: 104] .   1 أي: باعتبار مجموعة فروض الكفايات، وإلا؛ فهذا إنما يتوجه على بعض المكلفين المتأهلين للقيام به، ويتفرع على هذا أنه إذا لم يقم به أحد؛ فإن الإثم لا يعم المكلفين، بل يخص المتأهلين فقط، هذا مراده ومحل استدلاله؛ فعليك بتطبيق أدلته على هذا المعنى، وهذا غير الخلاف بين الأصوليين في أنه متوجه على الكلي الإفرادي؛ كما هو التحقيق، أو المجموعي كما هو مقابله؛ لأن خلافهم يجري هنا أيضا بعد تسليم مسألته هنا؛ فيقال: هل البعض المتأهل لهذا الفرض الوارد عليه الطلب المراد به كل البعض الإفرادي أو المجموعي. "د". 2 هذه الآيات لا تدل على أن الطلب متوجه إلى البعض، بل للمانع أن يقول: المعنى يجب عليكم جميعا أن يكون بعضكم المتأهل لذلك داعيا إلى الخير ... إلخ مثلا، ومعنى توجه الطلب على الجميع أن ينهضوهم لذلك ويعدوهم له، ويعاونوهم بكل المسائل ليتحقق هذا المهم من المصلحة، فإن لم يحصل هذا المهم من المصلحة؛ أثم جميع المكلفين، المتأهل وغيره، وفي مثله {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلخ. "د". قلت: انظر حول تفسير الآيات في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 165-166"، و"بدائع التفسير" "1/ 508 و2/ 384-385" لابن القيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النِّسَاءِ: 102] الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا. وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، وَرَدَ الطَّلَبُ فِيهَا نَصًّا عَلَى الْبَعْضِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ كَالْإِمَامَةِ1 الْكُبْرَى أَوِ الصُّغْرَى، فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ فِيهِ أَوْصَافُهَا الْمَرْعِيَّةُ لَا عَلَى كُلِّ النَّاسِ، وَسَائِرُ الْوِلَايَاتِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يُطْلَبُ2 بِهَا شَرَعًا بِاتِّفَاقٍ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بِهَا وَالْغَنَاءِ فِيهَا3, وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ -حَيْثُ يَكُونُ فرض كفاية- إنما   1 على رأيه يكون الإثم الآن حيث لا خلافة قائمة على من كان فيه الأوصاف المعتبرة للخلافة لا غير، وليست الأمة بآثمة، فإذا فرض أن الشروط المرعية غير متوفرة الآن؛ فلا إثم على أحد، وهذا ما لا يمكن أن يسلم به، والتعين الذي يقوله شيء آخر غير فرض الكفاية الذي هو موضوعنا. "د". 2 بل الذي يقال: إنما تسند إلى من كان أهلا، ولكن المطالب بذلك الجميع. "د". 3 المستحق للولاية من تحقق فيه أمران: أحدهما: القدرة على القيام بأعبائها، وهذا يرجع إلى العلم وجودة الرأي في تدبير شئونها. ثانيهما: الاستقامة، وهي العمل بما عرف من حق ومصلحة، وإجراؤه بعزم ثابت على الرغم من كل هوى يثور في النفس أو خيال يزين له إيثار مرضاة الوجيه أو الغني على الفوز برضا الأمة الذي هو أمارة رضوان الخالق وسلامة العاقبة، هذان الشرطان هما اللذان يصح لمن تحققا فيه أن يتقلد منصبا أو عملا، ولكن جاء في الحديث الصحيح المصرح بأن يكون الإمام الأكبر قرشيا، وحقق آخرون النظر؛ ففهموا أن ذكر القرشية في الحديث لكون شدة العصبية التي هي ملاك المنعة وعزة الجانب كانت بالغة غايتها في قريش، لو انحلت الرابطة القرشية ونهض رئيس غير قرشي، وقد التفت حوله قوة يمكنها أن تذود عن الأمة كل من يتهافت به الجشع على استعبادها؛ لكان جديرا بالإمامة وحقيقا بأن تمد له الشعوب الإسلامية أيديها بالمبايعة والطاعة. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يَتَعَيَّنُ1 الْقِيَامُ بِهِ عَلَى مَنْ فِيهِ نَجْدَةٌ وَشَجَاعَةٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْخُطَطِ الشَّرْعِيَّةِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا مَنْ لَا يُبْدِئُ فِيهَا وَلَا يُعِيدُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَمِنْ بَابِ الْعَبَثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْمُجْتَلَبَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ الْمُسْتَدْفَعَةِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ شَرْعًا. وَالثَّالِثُ: مَا وَقَعَ مِنْ فَتَاوَى2 الْعُلَمَاءِ، وَمَا وَقَعَ أَيْضًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى؛ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ3: "يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ" 3، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ نَهَاهُ عَنْهَا، فَلَوْ فُرِضَ إِهْمَالُ النَّاسِ لَهُمَا؛ لَمْ يَصِحَّ4 أَنْ يُقَالَ بِدُخُولِ أبي ذر في حرج   1 لسنا في فرض العين، فهذا مسلم أنه إنما يتعين على هؤلاء، ولكن علينا جميعا أن يحصل ذلك، وبالجملة؛ فالقيام فعلا بالمصلحة إنما يسند إلى من يتأهل له، وقد يكون الطلب المتوجه إليه في ذلك طلب عين إذا لم يوجد متأهل خلافه، فإن وجد؛ كان الطلب لا يزال كفائيا، كغيره ممن لم يتأهل، ويكون الفرق بين المتأهل وغيره؛ أن غير المتأهل عليه أن يعمل ليقوم بها المتأهل، والمتأهل عليه ذلك، وعليه إذا تعين لها أن يقوم بها. "د". 2 هل فتاوى العلماء تعتبر دليلا في مثل هذا، وهو أصل كبير في الدين ينبني عليه كما قلنا أحكام تشمل الأمة أو لا تشملها؟ "د". 3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826", وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا/ رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه. 4 وهذا صريح فيما قررناه من أنه ينبني على كلامه أن المخاطب بفرض الكفاية خصوص من فيه أهلية له، فلو أهمل؛ لم تأثم الأمة، حتى لو فرض أن المسلمين كان فيهم واحد فقط أهلا للخلافة ولم يتوسدها؛ كان هو الآثم فقط، وهل ينال الخلافة بغير الأمة التي تعهد إليه بها؟ فإذا لم تنهضه الأمة وتبايعه؛ كانت آثمة قطعا. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الْإِهْمَالِ، وَلَا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ" 1، وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي أَنَّهَا غَيْرُ عَامَّةِ الْوُجُوبِ، وَنَهَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْإِمَارَةِ، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: نَهَيْتَنِي عَنِ الْإِمَارَةِ ثُمَّ وُلِّيتَ؟ فَقَالَ لَهُ: "وَأَنَا الْآنَ أَنْهَاكَ عَنْهَا". وَاعْتَذَرَ لَهُ عَنْ وِلَايَتِهِ هُوَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا2. وَرُوِيَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي أَنْ يَقُصَّ؛ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ3، وَهُوَ مِنْ مَطْلُوبَاتِ الْكِفَايَةِ -أعني: هذا النوع من   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} ، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- وتتمته: "فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ". 2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "ص235"، وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 321" مطولا، دون قصة مراجعة الرجل له بذلك بعد توليه الخلافة، وفيه أن اسم الرجل: رافع الطائي. وزاد نسبته في "الإصابة" "1/ 497"، للطبراني وابن خزيمة. 3 أخرج أحمد في "المسند" "3/ 449", وابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر/ رقم 3"، والطبراني في "الكبير" "7/ 177" عن السائب بن يزيد؛ قال: "لم يقص عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- ولا عهد أبي بكر، ولا عهد عمر -رضي الله عنهما- وأول من قص تميم الداري، استأذن عمر أن يقص؛ فأذن له أن يقص قائما على رجليه". وفي إسناده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد عنعن. وأخرج ابن وهب في "الجامع" "1/ 89"، والطبراني في "الكبير" "2/ 49"؛ أن تميمًا الداري استأذن عمر في القصص فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الْقَصَصِ الَّذِي طَلَبَهُ تَمِيمٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَعَلَى هَذَا المَهْيَع2 جَرَى الْعُلَمَاءُ فِي تَقْرِيرِ كَثِيرٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ: أَفَرْضٌ هُوَ؟ فَقَالَ: "أَمَّا عَلَى كُلِّ النَّاسِ؛ فَلَا"3، يَعْنِي بِهِ الزَّائِدَ عَلَى الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ، وَقَالَ أَيْضًا: "أَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِلْإِمَامَةِ؛ فَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَالْأَخْذُ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ فِيهِ"؛ فَقَسَّمَ كَمَا تَرَى، فَجَعَلَ مَنْ فِيهِ قَبُولِيَّةٌ لِلْإِمَامَةِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا جَعَلَهُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ, وَفِي ذَلِكَ بيان أنه ليس على كل   = "إن شئت"، وأشار بيده "يعني الذبح". وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع، عمرو بن دينار لم يسمع عمر، قاله الهيثمي في "المجمع" "1/ 89". وأخرج ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير والذكر" "رقم 5" عن حميد بن عبد الرحمن؛ قال: "إن تميمًا الداري استأذن عمر -رضي الله عنه- أن يقص، فلم يأذن له، ثم استأذنه؛ فقال له عمر: تقول ماذا؟ فقال: أقرأ عليهم القرآن وأذكرهم وأعظهم. قال: فأذن له في الأسبوع يوما واحدا، ثم استأذن عثمان -رضي الله عنه- فأذن، ثم استزاده؛ فزاده يوما واحدا، وقد كان استزاد عمر يوما واحدا؛ فلم يأذن له". وحميد بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، وفي إسناده أيضا عبد الله بن نافع الصائغ، في حفظه لين؛ فإسناده ضعيف، ولكن أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 9-15"، وابن وهب في "الجامع" "1/ 88، 89" من طرق كثيرة عن عمر، تدلل على أن للقصة أصلا. 1 وعن عثمان -رضي الله عنه- كما تقدم، والوارد عن علي أخرجه ابن وهب في "الجامع" "1/ 88". 2 المهيع: الطريق الواسع المنبسط. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع". 3 أخرجه بنحوه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 32، 34، 35"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 45-46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 النَّاسِ1، وَقَالَ سَحْنُونُ: مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَتَقْلِيدِ الْعُلُومِ؛ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آلِ عِمْرَانَ: 104] ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ؟! أَوْ لَا يَعْرِفُ الْمُنْكَرُ كَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ؟! وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالْأَمْرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَبَاقِي الْبَحْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ. لَكِنْ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّجَوُّزِ2؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْفَرْضِ قِيَامٌ بِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ؛ فَهُمْ مَطْلُوبُونَ بِسَدِّهَا عَلَى الْجُمْلَةِ3؛ فَبَعْضُهُمْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا مُبَاشَرَةً، وَذَلِكَ مَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا، والباقون   1 أي: القيام به فعلا، وهذا لا نزاع فيه؛ لأن طبيعة فرض الكفاية أنه يقوم به أحد المتأهلين له. "د". 2 هذا مع قوله سابقا: "فلو فرض إهمال ... إلخ" يقتضي أنه ليس وجوبا حقيقيا بحيث يأثم الجميع بالترك؛ لأن هذا معنى "التجوز" الذي يقوله، يعني أنه* ليس واجبا بمعناه الشرعي؛ فلا يتم قوله بعد: "فلا يبقى للمخالفة وجه"، وإن كان يريد أنه فرض على الجميع حقيقة يأثم الكل بتركه؛ لأن عليهم إقامة القادر على الواجب، يعني: فإذا تركوا أثم الكل صح الكلام، لكن يخالف ما تقدم، ويجعل البحث كله والمسألة جميعها غير منتجة ثمرة في الدين، وتدخل المسائل التي لا هي من صلب العلم ولا من ملحه. "د". 3 يمتاز فرض الكفاية عن فرض العين بأن القصد منه وقوع الفعل المأمور به من غير نظر إلى فاعله، فمتى وقع ذلك الفعل على الوجه الصحيح؛ ارتفع الطلب سواء قام به فرد أو الجماعة بأكملها، أما فرض العين؛ فإن قصد الشارع منه يتوجه إلى الفاعل بعينه، حتى إذا عجز عن القيام بالفعل؛ سقط الطلب جملة، ولم ينتقل إلى غيره؛ لأن مصلحة الفعل في صدوره عن المكلف به المعين لا في وجوده كيف اتفق, كما هو الشأن في فرض الكفاية. "خ".   * في المطبوع: "وأنه" بزيادة واو! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 -وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا- قَادِرُونَ عَلَى إِقَامَةِ الْقَادِرِينَ، فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوِلَايَةِ؛ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِقَامَتِهَا، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا؛ مَطْلُوبٌ بِأَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ إِقَامَةُ ذَلِكَ الْقَادِرِ وَإِجْبَارُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا؛ فَالْقَادِرُ إِذًا مَطْلُوبٌ بِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، وَغَيْرُ الْقَادِرِ مَطْلُوبٌ بِتَقْدِيمِ ذَلِكَ الْقَادِرِ؛ إِذْ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى قِيَامِ الْقَادِرِ إِلَّا بِالْإِقَامَةِ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَرْتَفِعُ مَنَاطُ الْخِلَافِ؛ فَلَا يَبْقَى لِلْمُخَالَفَةِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ. فَصْلٌ: 1 وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ بَعْضِ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيَظْهَرَ وَجْهُهَا وَتَتَبَيَّنَ صِحَّتُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْخَلْقَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِوُجُوهِ مَصَالِحِهِمْ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النَّحْلِ: 78] ، ثُمَّ وَضَعَ فِيهِمُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّرْبِيَةِ؛ تَارَةً بِالْإِلْهَامِ كَمَا يُلْهَمُ الطِّفْلُ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ، وَتَارَةً بِالتَّعْلِيمِ؛ فَطَلَبَ النَّاسَ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِجَمِيعِ مَا يُسْتَجْلَبُ بِهِ الْمَصَالِحُ وَكَافَّةِ مَا تُدْرَأُ بِهِ الْمَفَاسِدُ؛ إِنْهَاضًا لِمَا جُبِلَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالْمَطَالِبِ الْإِلْهَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَصْلِ لِلْقِيَامِ بِتَفَاصِيلِ الْمَصَالِحِ -كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ، أَوِ الْأَقْوَالِ، أَوِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، أَوِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوِ الْعَادِيَّةِ- وَفِي أَثْنَاءِ الْعِنَايَةِ بِذَلِكَ يَقْوَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ، وَمَا أُلْهِمَ لَهُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ فَيَظْهَرُ فِيهِ وَعَلَيْهِ، وَيَبْرُزُ فِيهِ على أقرانه ممن لم يهيأ   1 ذكر تحته مبادئ وأسسا مهمة في التربية غاية، قل أن تجدها عند غيره؛ فلله دره ما أفهمه وأبعد غوره وأغزر علمه! وانظر حول هذه المبادئ: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 129-151". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 تِلْكَ التَّهْيِئَةَ؛ فَلَا يَأْتِي زَمَانُ التَّعَقُّلِ إِلَّا وَقَدْ نَجَمَ1 عَلَى ظَاهِرِهِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِيَّتِهِ، فَتَرَى وَاحِدًا قَدْ تَهَيَّأَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَآخَرَ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ، وَآخَرَ لِلتَّصَنُّعِ بِبَعْضِ الْمِهَنِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا, وَآخَرَ لِلصِّرَاعِ وَالنِّطَاحِ، إِلَى سَائِرِ الْأُمُورِ. هَذَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ غُرِزَ فِيهِ التَّصَرُّفُ الْكُلِّيُّ؛ فَلَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ مِنْ غَلَبَةِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ؛ فَيَرِدُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ مُعَلِّمًا مُؤَدِّبًا فِي حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْتَهِضُ الطَّلَبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَطْلُوبَاتِ بِمَا هُوَ نَاهِضٌ فِيهِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهِمُ الِالْتِفَاتُ إِلَى تِلْكَ الْجِهَاتِ؛ فَيُرَاعُونَهُمْ بِحَسْبِهَا وَيُرَاعُونَهَا [إِلَى] 2 أَنْ تَخْرُجَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ فِيهَا؛ حَتَّى يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَمَالَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْخُطَطِ3، ثُمَّ يُخَلَّى4 بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهَا، فَيُعَامِلُونَهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، إِذَا صَارَتْ لَهُمْ كَالْأَوْصَافِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ، وَتَظْهَرُ نَتِيجَةُ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ. فَإِذَا فُرِضَ -مَثَلًا- وَاحِدٌ مِنَ الصِّبْيَانِ ظَهَرَ عَلَيْهِ حُسْنُ إِدْرَاكٍ، وَجَوْدَةُ فَهْمٍ، وَوُفُورُ حِفْظٍ لِمَا يَسْمَعُ -وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ- مِيلَ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَصْدِ, وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُرَاعَاةً لِمَا يُرْجَى فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ التَّعْلِيمِ فَطُلِبَ بِالتَّعَلُّمِ وَأُدِّبَ بِالْآدَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُمَالَ مِنْهَا إِلَى بَعْضٍ فَيُؤْخَذَ بِهِ، وَيُعَانَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ رَبَّانِيُّو الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ فمال   1 أي: ظهر. انظر: "لسان العرب" "ن ج م". 2 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل. 3 أي: الأمور والأحوال. انظر: "لسان العرب" "خ ط ط". 4 في الأصلي: "تخلي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 بِهِ طَبْعُهُ إِلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَحَبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ تُرِكَ وَمَا أَحَبَّ، وَخُصَّ بِأَهْلِهِ؛ فوجب عليه إِنْهَاضُهُ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ، مِنْ غَيْرِ إِهْمَالٍ لَهُ وَلَا تَرْكٍ لِمُرَاعَاتِهِ، ثُمَّ إِنْ وَقَفَ هُنَالِكَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ طَلَبَ الْأَخْذَ فِي غَيْرِهِ أَوْ طُلِبَ بِهِ؛ فُعِلَ مَعَهُ فِيهِ مَا فُعِلَ فِيمَا قَبْلَهُ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ. كَمَا لَوْ بَدَأَ بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مَثَلًا -فَإِنَّهُ الْأَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ- فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى مُعَلِّمِيهَا؛ فَصَارَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ، وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ, فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهُ فِيمَا طَلَبَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِهِمْ، فَإِنِ انْتَهَضَ عَزْمُهُ بَعْدُ إِلَى أَنْ [صَارَ] 1 يَحْذِقُ الْقُرْآنَ؛ صَارَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ، وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ إِنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ أَوِ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ إِلَى سَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ مِنَ الْعُلُومِ، وَهَكَذَا التَّرْتِيبُ فِيمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ وَتَدْبِيرِ الْأُمُورِ، فَيُمَالُ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيُعَلَّمُ آدَابَهُ الْمُشْتَرَكِةَ، ثُمَّ يُصَارُ بِهِ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ صَنَائِعِ التَّدْبِيرِ؛ كَالْعِرَافَةِ، أَوِ النِّقَابَةِ، أَوِ الْجُنْدِيَّةِ، أَوِ الْهِدَايَةِ، أَوِ الْإِمَامَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا ظَهَرَ لَهُ فِيهِ نَجَابَةٌ وَنُهُوضٌ, وَبِذَلِكَ يَتَرَبَّى لِكُلِّ فِعْلٍ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةِ قَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ سُيِّرَ أَوَّلًا فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ, فَحَيْثُ وَقَفَ السَّائِرُ وَعَجَزَ عَنِ السَّيْرِ؛ فَقَدْ وَقَفَ فِي مَرْتَبَةٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ قُوَّةٌ زَادَ فِي السَّيْرِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ الْكِفَائِيَّةِ، وَفِي الَّتِي يَنْدُرُ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهَا؛ كَالِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْإِمَارَةِ؛ فَبِذَلِكَ تَسْتَقِيمُ أَحْوَالُ الدُّنْيَا وَأَعْمَالُ الْآخِرَةِ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ التَّرَقِّيَ فِي طَلَبِ الْكِفَايَةِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ، وَلَا هُوَ عَلَى الْكَافَّةِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا عَلَى الْبَعْضِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَقَاصِدُ دُونَ الْوَسَائِلِ، وَلَا بِالْعَكْسِ، بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ نَظَرُ وَاحِدٍ حَتَّى يُفَصَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَيُوَزَّعَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ هذا التوزيع، وإلا؛ لم ينضبط الأول فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [وَأَحْكَمُ] 2.   1 ما بين المعقوفتين ليست في الأصل. 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 المسألة الثانية عشرة: للحاجة والضرورة مَا أَصْلُهُ1 الْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ أَوِ الضَّرُورَةِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يَتَجَاذَبُهُ الْعَوَارِضُ الْمُضَادَّةُ لِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ وُقُوعًا أَوْ تَوَقُّعًا، هَلْ يَكُرُّ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ بالنقض, أم2 هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَإِشْكَالٍ؟ وَالْقَوْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو؛ إِمَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَاحِ، أَمْ لَا، وَإِذَا لَمْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ, فَإِمَّا أَنْ يَلْحَقَهُ بِتَرْكِهِ حَرَجٌ أَمْ لَا؛ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ3 ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْعَارِضِ؛ لِأَوْجُهٍ: - مِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْمُبَاحَ قَدْ صَارَ وَاجِبَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا صَارَ وَاجِبًا؛ لَمْ يُعَارِضْهُ إِلَّا مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَيْسَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَرَفُ الْوَاجِبِ أَقْوَى؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عدم معارضة الطوارئ.   1 أي: ما كان أصله مباحا؛ كالأكل والشرب والبيع والشراء والنكاح، ولكنه اضطر إليه الشخص أو احتاج إليه حاجة يلحقه بسببها ضيق شديد وحرج لو ترك فعله، وهو مع كونه مضطرا إليه أو محتاجا إليه تعرض له مفسدة واقعة بالفعل أو متوقعة؛ فهل يعتبر جانب اللاحق من المفسدة فتنقض حكم الإباحة فيصير ممنوعا مع أنه ضروري أو حاجي، أو لا يعتبر الطارئ ويبقى لا حرج في استعماله؟ وقد مثل الضروري في المسألة الخامسة عشرة من كتاب الأدلة بالبيع والشراء الذي لا يسلم غالبا من لقاء المنكر أو ملابسته بسببه، وسيمثل هنا لما في تركه الحرج بمخالطة الناس. "د". 2 في النسخ المطبوعة: "أو". 3 وهي ما إذا اضطر إليه، وما إذا لحقه بتركه حرج، وما ليس واحد منها، وسيذكر الثالث أثناء المسألة الثالثة عشرة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وَالثَّانِي: أَنَّ مَحَالَّ الِاضْطِرَارِ مُغْتَفَرَةٌ فِي الشَّرْعِ، أَعْنِي أَنَّ إِقَامَةَ الضَّرُورَةِ مُعْتَبَرَةٌ، وَمَا يَطْرَأُ عليه من عارضات المفاسد مغتفرة فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الْمُجْتَلَبَةِ، كَمَا اغْتُفِرَتْ مَفَاسِدُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فِي جَنْبِ الضَّرُورَةِ لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ الْمُضْطَرَّةِ، وَكَذَلِكَ النُّطْقُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوِ الْكَذِبِ حِفْظًا لِلنَّفْسِ أَوِ الْمَالِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، فَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؛ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْعَارِضِ لِلْمَصْلَحَةِ الضَّرُورِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْعَوَارِضَ وَلَمْ نَغْتَفِرْهَا؛ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْإِبَاحَةِ1 رَأْسًا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" مِنْ أَنَّ الْمُكَمِّلَ إِذَا عَادَ عَلَى الْأَصْلِ بِالنَّقْضِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ2، وَاعْتِبَارُ الْعَوَارِضِ هُنَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَلَالٌ فِي الْأَصْلِ، فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ وَقَدْ عَارَضَهُ مَوَانِعُ فِي طَرِيقِهِ؛ فَفَقْدُ الْمَوَانِعِ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ، كَاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ، وَإِذَا اعْتُبِرَتْ أَدَّى إِلَى ارْتِفَاعِ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُكَمِّلٍ عَادَ عَلَى أَصْلِهِ بالنقض فباطل؛ فما نحن فيه مثله. والقسم الثَّانِي: أَنْ لَا يُضْطَرَّ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ يَلْحَقُهُ بِالتَّرْكِ حَرَجٌ، فَالنَّظَرُ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَتَرْكَ اعْتِبَارِ الطَّوَارِئِ؛ إِذِ الْمَمْنُوعَاتُ قَدْ أُبِيحَتْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا سَيَأْتِي لِابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ3، وَكَمَا إِذَا كَثُرَتِ الْمَنَاكِرُ فِي الطُّرُقِ4 وَالْأَسْوَاقِ؛ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ فِي الْحَاجَاتِ إِذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّصَرُّفِ حَرَجًا بَيِّنًا، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .   1 الإباحة هنا بمعنى الإذن؛ كما هو ظاهر "د". 2 انظر: "2/ 302 وما بعدها". 3 انظر: "3/ 527". 4 في الأصل: "الطريق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وَقَدْ أُبِيحَ الْمَمْنُوعُ رَفْعًا لِلْحَرَجِ؛ كَالْقَرْضِ الَّذِي فيه بيع الفضة بِالْفِضَّةِ لَيْسَ يَدًا بِيَدٍ، وَإِبَاحَةِ الْعَرَايَا، وَجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ فِي عَوَارِضِ النِّكَاحِ1، وَعَوَارِضِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ، هذا وإن ظهر ببادئ الرأي2 الخلاف ههنا؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ فِي الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى الِانْكِفَافِ وَاعْتِبَارِ الْعَوَارِضِ؛ فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا بَتُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: - إِمَّا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِعَدَمِ الْحَرَجِ لِضَعْفِهِ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ فِي التَّكَالِيفِ، وَالْحَرَجُ الْمُعْتَادُ مِثْلُهُ فِي التَّكَالِيفِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، وَإِلَّا لَزِمَ ارْتِفَاعُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ أَوْ أَكْثَرِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الْأَحْكَامِ3. - وَإِمَّا أَنَّهُمْ عَمِلُوا وَأَفْتَوْا بِاعْتِبَارِ الِاصْطِلَاحِ الْوَاقِعِ4 فِي الرُّخَصِ، فَرَأَوْا أَنَّ كَوْنَ الْمُبَاحِ رُخْصَةً يَقْضِي بِرُجْحَانِ التَّرْكِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ لَمْ يَطْرُقْ فِي طَرِيقِهِ عَارِضٌ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا طَرَقَ الْعَارِضُ؟ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص5.   1 أي: إذا ترتب على النكاح دخول في كسب الشبهات وارتكاب بعض الممنوعات؛ قالوا: إن هذا لا يمنع النكاح، ويعرض للمخالطة وقوع -أو توقع سماع- المنكرات ورؤيتها، ومع ذلك لم تمنع. "د". 2 وعليه يكون خلافا في حال لا خلافا حقيقيا؛ فلذا قال: "ظهر ببادئ الرأي"؛ أي: إن هؤلاء لو بنوا على أن فيه حرجا لقالوا بعدم اعتبار العوارض. "د". 3 انظر: "2/ 214". 4 في الأصل و"ط": "الرابع" ولا معنى لها. 5 وانظر: "4/ 543". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وَرُبَّمَا اعْتَرَضَتْ1 فِي طَرِيقِ الْمُبَاحِ عَوَارِضُ يَقْضِي مَجْمُوعُهَا بِرُجْحَانِ اعْتِبَارِهَا، وَلِأَنَّ مَا يَلْحَقُ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ أَعْظَمُ مِمَّا يَلْحَقُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ، وَإِنَّ الْحَرَجَ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْهُ فِي تَرْكِهِ، وَهَذَا أَيْضًا مَجَالُ اجْتِهَادٍ؛ إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: هَلْ يُوَازِي الْحَرَجُ اللَّاحِقُ بِتَرْكِ الْأَصْلِ الْحَرَجَ اللَّاحِقَ بِمُلَابَسَةِ الْعَوَارِضِ أَمْ لَا؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ نَرْسُمُهَا الْآنَ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وهي: المسألة الثالثة عشرة: سبب فقدان العوارض بالنسبة للأصل فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَقْدُ الْعَوَارِضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْمُكَمِّلِ لَهُ فِي بَابِهِ، أَوْ مِنْ بَابٍ آخَرَ هُوَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الثَّانِي؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا أَوْ مُتَوَقَّعًا، فَإِنْ2 كَانَ مُتَوَقَّعًا؛ فَلَا أَثَرَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ بِالتَّرْكِ وَاقِعٌ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَمَفْسَدَةُ الْعَارِضِ مُتَوَقَّعَةٌ مُتَوَهَّمَةٌ؛ فَلَا تُعَارِضُ الْوَاقِعَ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وَاقِعًا؛ فَهُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَقِيقَةِ3، وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَةُ العوارض فيه أتم من مفسدة الترك الْمُبَاحِ, وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَالنَّظَرُ فِي هَذَا بَابُهُ بَابُ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ، وَإِنْ كَانَ الأول؛ فلا   1 سيذكر القسم الثالث أثناء المسألة الآتية، بعد أن يتكلم في صدرها ما يشرح فيه ما يعترض طريق المباح من مفاسد, قد تكون أرجح من فوت الأصل المحتاج إليه الذي فرض فيه أن يلحقه بالترك له حرج ومشقة، ولكنه صنيع غير مناسب؛ إذ إنه عقد مسألة خاصة ليبين فيها تفاصيل لبعض أحكام القسم الثاني، وأدرج فيها حكم القسم الثالث وتفاصيل أحكامه، وكان الأجدر به أن يسوق ما يتعلق بالقسم الثاني لاحقا لبيانه هنا، دون عقد مسألة خاصة به؛ لأن ما ذكره بالنسبة إلى القسم الثاني في المسألة التالية ليس بأكثر ولا بأهم مما ذكره في بيانه في مسألته الثانية عشرة، وأيضا؛ فإنه مع كونه فرض المسألة في تتميم هذا القسم كما قال هنا جاء فيها بالقسم الثالث برمته في جمل أوسع مما يخص القسم الثاني؛ فالصنيع غير وجيه. "د". 2 في "م": "فإذا". 3 في الأصل: "بالحقيقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يصح التعارض، ولا تُساوَى المفسدتان، بَلْ مَفْسَدَةُ فَقْدِ الْأَصْلِ أَعْظَمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُكَمَّلَ مَعَ مُكَمِّلِهِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِذَا كَانَ فَقْدُ الصِّفَةِ لَا يَعُودُ بِفَقْدِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ1 -بِخِلَافِ الْعَكْسِ- كَانَ جَانِبُ الْمَوْصُوفِ أَقْوَى فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَفِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ؛ فَكَذَا مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ مَعَ مُكَمِّلَاتِهِ كَالْكُلِّيِّ مَعَ الْجُزْئِيِّ، وَقَدْ عُلِمَ2 أَنَّ الْكُلِّيَّ إِذَا عَارَضَهُ الْجُزْئِيُّ فَلَا أَثَرَ لِلْجُزْئِيِّ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا أَثَرَ لِمَفْسَدَةِ فَقْدِ المكمِّل فِي مُقَابَلَةِ وُجُودِ مَصْلَحَةِ المكمَّل. وَالثَّالِثُ: أَنَّ المكمِّل مِنْ حَيْثُ هُوَ مكمِّل إِنَّمَا هُوَ مقوٍّ لِأَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَمُؤَكِّدٌ لَهَا؛ فَفَوْتُهُ إِنَّمَا هُوَ فَوْتُ بَعْضِ الْمُكَمِّلَاتِ، مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْمَصْلَحَةِ باقٍ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا؛ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ، كَمَا أَنَّ فَوْتَ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ لَا يُعَارِضُهُ بَقَاءُ مَصْلَحَةِ الْمُكَمِّلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْقِسْمِ 3 الْأَوَّلِ: وَهُوَ أَنْ لَا يُضْطَرَّ إِلَى أَصْلِ الْمُبَاحِ وَلَا يَلْحَقَ بِتَرْكِهِ حَرَجٌ- فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَفِيهِ تَدْخُلُ قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَّفَقٌ عليه في الاعتبار،   1 أي: وقد يعود إذا كانت صفة لازمة لتحقيق الماهية. "د". 2 وسيأتي في أول باب الأدلة؛ فراجعه لتعرف معنى عدم أثر الجزئي في مقابلة الكلي. "د". انظر: "3/ 172 وما بعد". 3 لعله من التقسيم الأول؛ أي: التقسيم في أول المسألة السابقة. "د". قلت: بل هو كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وَمِنْهُ1 مَا فِيهِ خِلَافٌ، كَالذَّرَائِعِ فِي الْبُيُوعِ وَأَشْبَاهِهَا2، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الذَّرَائِعِ أَيْضًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا قَاعِدَةُ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ. وَمَجَالُ النَّظَرِ فِي هَذَا الْقِسْمِ دَائِرٌ بَيْنَ طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ أَصْلَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَوِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مكمِّل لِمَا هُوَ عَوْنٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الذَّرَائِعِ، وَيُقَابِلُهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ أَصْلُ الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ مكمَّل لَا مكمِّل. وَلِمَنْ يَقُولُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِذْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى ضَرُورِيٍّ؛ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ تَخْيِيرٌ حَقِيقَةٌ تُلْحَقُ بِالضَّرُورِيَّاتِ, وَهِيَ أُصُولُ الْمَصَالِحِ؛ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْخَادِمِ لَهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ إِيَّاهَا؛ فَاعْتِبَارُ الْمُعَارِضِ فِي الْمُبَاحِ3 اعْتِبَارٌ لِمُعَارِضِ الضَّرُورِيِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي التَّفْصِيلِ كَوْنُهُ ضَرُورِيًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَارَ جَانِبُ الْمُبَاحِ أَرْجَحَ مِنْ جَانِبِ مُعَارِضِهِ الَّذِي لَا يَكُونُ مِثْلَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الدَّلِيلِ. وَأَيْضًا، إِنْ فُرِضَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِمُعَارِضِهِ4 المكمِّل، وَأُطْلِقَ هَذَا النَّظَرُ، أَوْشَكَ أَنْ يُصَارَ فِيهِ إِلَى الْحَرَجِ الَّذِي رَفَعَهُ الشَّارِعُ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ؛ إذ عوارض   1 أي: من فروعه. "د". 2 هي البيوع التي ظاهرها الصحة، ولكن يقصد به التوسل لاستباحة الربا، وقد ذهب إلى منعها فريق من أهل العلم؛ كالمالكية نظرًا إلى أن المنهي عنه كالربا يتضمن مفسدة كان من قصد الشارع درؤها وسد الطريق دونها؛ فالوسيلة الموصلة إلى المنهي عنه تعد عملا مناقضا لقصد الشارع عند هؤلاء، وسيوافيك كتاب المقاصد بتحرير الفرق بين الوسيلة التي تعد حيلة باطلة والوسيلة التي تتخذ مخلصا من الوقوع في محظور. "خ". 3 في الأصل: "للمباح". 4 أي: لأجل معارضه؛ فاللام للتعليل. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الْمُبَاحِ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا اعْتُبِرَتْ فَرُبَّمَا ضَاقَ الْمَسْلَكُ وَتَعَذَّرَ الْمَخْرَجُ؛ فَيُصَارُ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ1. وَلَمَّا كَانَ إِهْمَالُ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ هُوَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى ذَلِكَ؛ لَمْ يَسُغِ الْمَيْلُ إِلَيْهِ وَلَا التَّعْرِيجُ عَلَيْهِ. وأيضا، فإن كَانَ هَذَا الْأَصْلُ دَائِرًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا وَتَعَارَضَا عَلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنِ الْمَيْلُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْآخَرِ، وَلَا دَلِيلَ فِي أَحَدِهِمَا إِلَّا وَيُعَارِضُهُ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ؛ فَيَجِبُ الْوُقُوفُ إِذًا، إِلَّا أَنَّ لَنَا فَوْقَ ذَلِكَ أَصْلًا أَعَمَّ2، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ إِمَّا الْإِبَاحَةُ وَإِمَّا الْعَفْوُ، وَكَلَاهُمَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ؛ فَكَانَ هُوَ الرَّاجِحَ. وَلِمُرَجِّحِ3 جَانِبِ الْعَارِضِ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ مُخَيَّرٌ فِي تَحْصِيلِهَا وَعَدَمِ تَحْصِيلِهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَهِيَ كَذَلِكَ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا مَتَى بَلَغَتْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ لَمْ تَبْقَ مُخَيَّرًا فِيهَا، وَقَدْ فُرِضَتْ كَذَلِكَ هَذَا خَلْفُ، وَإِذَا تَخَيَّرَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا؛ فَذَلِكَ قاضٍ بِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي تَحْصِيلِهَا, وَجَانِبُ الْعَارِضِ يَقْضِي بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا، وَكِلَاهُمَا صَادٌّ عَنْ سَبِيلِ التَّخْيِيرِ؛ فَلَا يَصِحُّ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ- أَنْ تَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى اعْتِبَارِ الْعَارِضِ الْمُعَارِضِ دُونَ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْمُتَشَابِهَاتِ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهَا أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، غَيْرَ أَنَّ تَوَقُّعَ مُجَاوَزَتِهَا إِلَى غَيْرِ الْإِبَاحَةِ هُوَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ؛ فَنَهَى عَنْ مُلَابَسَتِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ قطعي مرجوع إليه في أمثال   1 وهو قوله: "وإن كان الأول؛ فلا يصح التعارض ... إلخ". "د". 2 لا يتم الدليل الثالث إلا به. "د" 3 حججه متينة، أما الأول؛ فخطابيات لا تثبت عند بحثها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَيُنَافِي الرُّجُوعَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَأَيْضًا؛ فَالِاحْتِيَاطُ لِلدِّينِ ثَابِتٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، مُخَصَّصٌ لِعُمُومِ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِذَا ثَبَتَ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا, فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْحَظْرِ؛ فَلَا نَظَرَ1 فِي اعْتِبَارِ الْعَوَارِضِ؛ لِأَنَّهَا تَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، فَجَانِبُهَا أَرْجَحُ، وَمَنْ قَالَ: الْأَصْلُ2 الْإِبَاحَةُ أَوِ الْعَفْوُ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ بِاتِّفَاقٍ، بَلْ لَهُ مُخَصِّصَاتٌ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ لَا يُعَارِضَهُ طَارِئٌ وَلَا أَصْلٌ، وَلَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا بِمَفْقُودَةِ الْمُعَارِضِ, وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ لِإِمْكَانِ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ" 3 مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ   1 أي: فلا تحتاج إلى نظر في ذلك، بل لا بد من اعتبارها. "د". 2 في الأصل: "إن أصل". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، 12/ 50/ رقم 6764", ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفرائض باب منه، 3/ 1233/ رقم 1614", وأبو داود في "السنن" "كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر، 3/ 326/ رقم 2909", والترمذي في "الجامع" "أبواب الفرائض، باب إبطال الميراث بين المسلم والكافر، 4/ 423/ رقم 2107"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفرائض, باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، 2/ 911/ رقم 2729"، وأحمد في "المسند" "5/ 200"، ومالك في "الموطأ" "2/ 519"، وغيرهم من حديث أسامة بن زيد, رضي الله عنه. قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 84"، وعزاه للبخاري ومسلم وأصحاب "السنن" الأربعة: "وأغرب ابن تيمية في "المنتقى" فادعى أن مسلما لم يخرجه, وكذلك ابن الأثير في "الجامع" ادعى أن النسائي لم يخرجه". قلت: نعم، هو ليس في "المجتبى" وهو من الكتب الستة، والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي؛ كما في "تحفة الأشراف" "1/ 56، 57, 58"؛ فابن الأثير مصيب، وتعقب ابن حجر للمجد ابن تيمية صحيح، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11] . وَأَوْجُهُ الِاحْتِجَاجِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَثِيرَةٌ، وَالْقَصْدُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ كَمَا تقدم، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 القسم الثاني: خطاب الوضع مدخل ... القسم الثاني من قسمي الأحكام: خطاب الوضع وَهُوَ يَرْجِعُ1 إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ2، وَهُوَ يَنْحَصِرُ3 فِي الْأَسْبَابِ، وَالشُّرُوطِ، وَالْمَوَانِعِ، وَالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَالْعَزَائِمِ وَالرُّخَصِ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ، فَالْأَوَّلُ يُنْظَرُ فِيهِ في مسائل:   1 في "خ": "القسم الثاني الذي يرجع ... ". 2 بدل ما بين المعقوفتين بياض في الأصل. 3 لم يحصره الآمدي فيها وإن اقتصر في بيانه عليها، أما "تحرير الكمال" فقد زاد فيها كثيرا فراجعه، وقال ابن الحاجب: "إن الصحة والبطلان أمر عقلي لا حكم شرعي؛ فنفى أن يكونا حكمين وضعيين، ونفي بعضهم أن يكون هناك أحكام وضعية ورجعها إلى الأحكام التكليفية؛ لأن خطاب الوضع يرجع إلى الاقتضاء أو التخيير؛ إذ معنى جعل الزنى سببا لوجوب الحد وجوب الحد إذا حصل الزنى، وجعل الطهارة شرطا لصحة البيع جواز الانتفاع به عند تحقق الطهارة وحرمته دونها؛ فالاقتضاء والتخيير إما صريح أو ضمني, وفي الحقيقة هو خلاف لا تظهر له ثمرة عملية. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْبَابِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ فِي الْوُجُودِ، الْمُقْتَضِيَةُ لِأُمُورٍ تُشْرَعُ لِأَجْلِهَا، أَوْ تُوضَعُ فَتَقْتَضِيهَا1 عَلَى الْجُمْلَةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْمُكَلَّفِ. وَالْآخَرُ: مَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ مَقْدُورِهِ. فَالْأَوَّلُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا، وَيَكُونُ شَرْطًا، وَيَكُونُ مَانِعًا. فَالسَّبَبُ2 مِثْلُ3 كَوْنِ الِاضْطِرَارِ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ, وَخَوْفِ الْعَنَتِ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَالسَّلَسِ سَبَبًا فِي إِسْقَاطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مَعَ وُجُودِ الْخَارِجِ، وَزَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبَبًا فِي إِيجَابِ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالشَّرْطُ كَكَوْنِ الْحَوْلِ شَرْطًا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَالْبُلُوغِ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ مُطْلَقًا، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ, وَالرُّشْدِ شَرْطًا فِي دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ شَرْطًا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وما كان نحو   1 في "م": "فيقتضيها" بالتحتية بعد الفاء. 2 فسبب منه الوجود والعدم ... لذاته مثل الزوال منحتم أعني أن السبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته؛ كزوال الشمس لوجوب الظهر مثلا. "ماء". 3 ذكر في السبب أمثلة لما يشرع من أجله وما يوضع من أجله كالسلس، ولم يذكر ما يوضع من أجله في الشرط والمانع، إلا أن يقال: إن الحيض مثلا مانع مسقط لحق الوطء ووجوب الصلاة، وعدم الرشد مسقط لحقه في التصرفات. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ذَلِكَ1. وَالْمَانِعُ كَكَوْنِ الْحَيْضِ مَانِعًا مِنَ الْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ وَأَدَاءِ الصِّيَامِ، وَالْجُنُونِ مَانِعًا مِنَ الْقِيَامِ بِالْعِبَادَاتِ وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي؛ فَلَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِمَّا يَدْخُلُ2 تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ3، مِنْ جِهَةِ اقْتِضَائِهِ لِلْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ جَلْبًا أَوْ دَفْعًا؛ كَالْبَيْعِ4 وَالشِّرَاءِ لِلِانْتِفَاعِ، وَالنِّكَاحِ لِلنَّسْلِ، وَالِانْقِيَادِ5 لِلطَّاعَةِ لِحُصُولِ الفوز، وما أشبه ذلك، وهو بين.   1 يتحد السبب والشرط في أن كلًّا منهما يتوقف الحكم الشرعي على تحققه، ويتمايزان بأن مناسبة السبب في ذاته ومناسبة الشرط لغيره، فملك النصاب يتحقق به الغنى الذي يقتضي إنفاق قسط من المال على وجه الشكر للنعمة، وأما مرور الحول؛ فإنما هو مكمل لوصف الغنى، إذ في مدة الحول يتمكن مالك النصاب من تنميته غالبا, فمعنى الشرطية في الحول بالنسبة لوجوب الزكاة واضح، وقد استشكل بعض الأصوليين جعل الأوقات الخمسة أسبابا للصلوات حيث لم يتضح له وجه المناسبة بينها؛ فكان جوابه من بعض الفقهاء بأنها تشتمل على حكمة خفية، وتصدى آخرون لبيان تلك الحكمة بتفصيل لا يسعه هذا المقام. "خ". 2 و4 أي: بقطع النظر عن كونه يترتب عليه مشروعية حكم أو وضعه، وبهذا الاعتبار لا يكون داخلا معنا في بحثنا؛ لأن بحثنا خاص بالأفعال من حيث كونها يشرع الحكم أو يوضع لأجلها؛ فالبيع والشراء وضعا سببًا شرعيًّا في حل الانتفاع، لا لنفس الانتفاع، وكذا النكاح لم يكن سببا شرعيا أو شرطا للنسل. "د". 3 في الأصل و"م": "مأمور به، أو منهي عنه، أو مأذون فيه". 5 أي: فإن الانقياد لفعل الطاعة الذي وإن ترتب عليه مصلحة الفوز في الآخرة؛ إلا أنه لا يعد حصول الفوز حكما شرعيا حتى يكون مما دخل تحت النظر الثاني، ومثله يقال في الانقياد بالنسبة للوصف بالطاعة والعد من الطائعين. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مَا يَدْخُلُ1 تَحْتَ خِطَابِ الْوَضْعِ؛ إِمَّا سَبَبًا، أَوْ شَرْطًا، أَوْ مَانِعًا. أَمَّا السَّبَبُ؛ فَمِثْلُ كَوْنِ النِّكَاحِ سَبَبًا فِي حُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَحِلِّيَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالذَّكَاةِ سَبَبًا لِحِلِّيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَكْلِ، وَالسَّفَرِ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، وَالْقَتْلِ وَالْجُرْحِ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ، وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ أَسْبَابًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وُضِعَتْ أَسْبَابًا لِشَرْعِيَّةِ تِلْكَ الْمُسَبَّبَاتِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ؛ فَمِثْلُ كَوْنِ النِّكَاحِ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْ فِي حِلِّ مُرَاجَعَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالْإِحْصَانِ شَرْطًا فِي رَجْمِ الزَّانِي، وَالطَّهَارَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَالنِّيَّةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وَمَا أَشْبَهَهَا لَيْسَتْ بِأَسْبَابٍ، وَلَكِنَّهَا شُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي صِحَّةِ تِلْكَ الْمُقْتَضَيَاتِ. وَأَمَّا الْمَانِعُ؛ فَكَكَوْنِ نِكَاحِ الْأُخْتِ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ الْأُخْرَى، وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَالْإِيمَانِ مَانِعًا من القصاص للكافر2، والكفر   1 أي: إنه في النظر الأول لوحظ فيه أنه داخل تحت خطاب التكليف بقطع النظر عن كونه سببا أو شرطا مثلا، أما الثاني؛ فالنظر فيه إلى جهة كونه شرطا ... إلخ، مع كونه في كل من النظرين داخلا تحت خطاب التكليف، كما ترشد إليه الأمثلة في كليهما، والضرب الثاني أمثلته جميعها واضحة؛ لأنها أفعال داخلة تحت مقدور المكلف، وشرع أو وضع لأجلها أحكام أخرى؛ فكانت سببا لها أو شرطا أو مانعا. "د". 2 هذا متفق عليه في حكم الكافر الحربي، وأما من دخل في ذمة الإسلام؛ فقد ذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى إلى أنه يقتص له من المسلم في كل حال، واستندوا في ذلك إلى أحاديث أيدوها بالقياس على ما انعقد عليه الإجماع من قطع يد المسلم متى سرق مالًا لبعض أهل الذمة، وقالوا, حيث كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم: فلتكن حرمة دمه مساوية لحرمة دمه. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الطَّاعَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا؛ كَالْإِيمَانِ هُوَ سَبَبٌ فِي الثَّوَابِ، وَشَرْطٌ فِي وُجُوبِ الطَّاعَاتِ أَوْ فِي صِحَّتِهَا، وَمَانِعٌ مِنَ الْقِصَاصِ مِنْهُ لِلْكَافِرِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ لَا تَجْتَمِعُ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا وَقَعَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهِ نَفْسِهِ وَلَا مَانِعًا لَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّدَافُعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِحُكْمٍ، وَشَرَطًا لِآخَرَ، وَمَانِعًا لِآخَرَ، وَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَلَا اجْتِمَاعُ اثْنَيْنِ مِنْهَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَشْرُوعِيَّةُ الْأَسْبَابِ1 لَا تَسْتَلْزِمُ مَشْرُوعِيَّةَ المسبَّبات، وَإِنْ صَحَّ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا عَادَةً، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَسْبَابَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ مِنْ إِبَاحَةٍ, أَوْ نَدْبٍ، أَوْ مَنْعٍ, أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَتَعَلَّقَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بمسبَّباتها، فَإِذَا أَمَرَ بِالسَّبَبِ لَمْ يَسْتَلْزِمِ الْأَمْرُ بِالْمُسَبَّبِ، وَإِذَا نهى عنه لم يستلزم   1 محصل المسألة أن المسببات عن الأمور التكليفية لا يلزم أن تأخذ حكمها من إباحة أو منع مثلا، بل قد تكون المسببات غير داخلة في مقدور العبد؛ كإزهاق الروح، ونفس الإحراق، ووجود الرزق؛ فهذه لا يعقل فيها تعلق حكم شرعي بها فضلا عن نفس الحكم الذي تعلق بسببها، وقد تكون في مقدوره ولكنها تأخذ حكما آخر؛ كأكل لحم الخنزير المسبب عن ذبحه؛ فذبحه ليس بحرام، ولكن مسببه وهو أكل لحمه حرام، ومشتري الحيوان مباح، ولكن مسببه وهو النفقة عليه واجبة، وقد يكون المسبب مقدورا عليه وآخذا حكم السبب، وذلك كتحريم الربا وتحريم ما تسبب عنه، وهو الانتفاع بمال الربا، والذكاة مباحة، ولازمها وهو الأكل من المذبوح مباح، وهكذا؛ فالذي يقرره هنا هو أنه لا استلزام بين حكم السبب وحكم المسبب، بل قد لا يكون للمسبب حكم شرعي رأسا؛ فعليك بتطبيق ما يذكره في المسألة على هذا, والتوفيق بين ما يظهر ببادئ الرأي مخالفا له. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 النَّهْيُ عَنِ الْمُسَبَّبِ، وَإِذَا خَيَّرَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُخَيِّرَ فِي مُسَبَّبِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ مَثَلًا، لَا يَسْتَلْزِمُ1 الْأَمْرَ بِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ، وَالْأَمْرُ بِالنِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِحِلِّيَّةِ البُضْع، وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ الْعُدْوَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْإِزْهَاقِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّرَدِّي فِي الْبِئْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ تَهَتُّكِ الْمُرَدَّى فِيهَا، وَالنَّهْيُ عَنْ جَعْلِ الثَّوْبِ فِي النَّارِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ نَفْسِ الْإِحْرَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: مَا ثَبَتَ فِي الْكَلَامِ مِنْ أَنَّ الَّذِي لِلْمُكَلَّفِ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا الْمُسَبَّبَاتُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَحُكْمُهُ، لَا كَسْبَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي عِلْمٍ آخَرَ، وَالْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ دَالَّانِ عَلَيْهِ؛ فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الرِّزْقِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هُودٍ: 6] . وَقَوْلِهِ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 22] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الْآيَةَ [الطَّلَاقِ: 2] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَمَانِ الرِّزْقِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نفس التسبب إلى   1 أي: فالبيع سبب في حل الانتفاع بالمبيع، وليس الأمر بالبيع سببا في الأمر بحل الانتفاع؛ لأن الحل المسبب ليس إلا حكما لله؛ فلا يتعلق به الحكم الشرعي الذي في السبب، وهو الأمر، ومثله يقال في النكاح؛ ليتم له أن هذه الأمثلة الستة لا يوجد فيها أن الحكم الذي في السبب أخذه المسبب، بل لا حكم في المسبب؛ لأنه ليس من كسب العبد، إلا أنه يبقى أن المناسب أن يقول: زهوق الروح واحتراق الثوب. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الرِّزْقِ، بَلِ الرِّزْقُ الْمُتَسَبَّبُ إِلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْسَ التَّسَبُّبِ؛ لَمَا كَانَ الْمُكَلَّفُ مَطْلُوبًا بِتَكَسُّبٍ فِيهِ عَلَى حَالٍ، وَلَوْ بِجَعْلِ اللُّقْمَةِ فِي الْفَمِ وَمَضْغِهَا، أَوِ ازْدِرَاعِ1 الْحَبِّ، أَوِ الْتِقَاطِ النَّبَاتِ أَوِ الثَّمَرَةِ الْمَأْكُولَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ عَيْنُ الْمُسَبَّبِ إِلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "لَوْ تَوَكَّلْتُمْ على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير" 2 الحديث.   1 ازدرع القوم: اتخذوا زرعا لأنفسهم خصوصا، أو احترثوا؛ كما في "لسان العرب" "ز ر ع". 2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 559" -ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب في التوكل على الله، 4/ 573/ رقم 2344", والنسائي في "الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" "8/ 79", والطيالسي في "المسند" "ص50"، وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم 1"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 69"، والبغوي في شرح السنة" "14/ 301/ رقم 4108"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1444" عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن عمر بن الخطاب مرفوعا. وتابع حيوة عبد الله بن يزيد المقرئ؛ كما عند أبي يعلى في "المسند" "1/ 212/ رقم 247", وعنه ابن حبان في "الصحيح" "2/ 509/ رقم 730- الإحسان"، وأحمد في "المسند" "1/ 30", و"الزهد" "ص18"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 488"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 318"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 69". وإسناده جيد، رجاله رجال الصحيح؛ سوى بكر بن عمرو، روى له البخاري حديثا واحدا متابعة، واحتج به الباقون سوى ابن ماجه، وقال الدارقطني: "يعتبر به"، وقال أبو حاتم: "شيخ"، وقال أحمد: "يروى له"، وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/ 103"، وقال الذهبي في "الميزان" "1/ 347": "كان ذا فضل وتعبد, محله الصدق". ومع هذا؛ فقد تابعه ابن لهيعة، ورواه عنه عبد الله بن وهب، وهو ممن روى عنه قديما قبل احتراق كتبه، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 52"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد, باب التوكل واليقين/ رقم 4164"؛ فإسناده صحيح. قال "د": "بقيته: " تغدو خماصا وتروح بطانا"؛ فهي تغدو وتروح في طلب الرزق والتسبب إليه، والله تعالى يخلق لها الرزق، فلم يقل: تترك كل سبب؛ فيحصل لها الرزق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وَفِيهِ: "اعْقِلْهَا 1 وَتَوَكَّلْ" 2؛ فَفِي هَذَا وَنَحْوِهِ بَيَانٌ لما تقدم.   1 فقد جمع بين طلب عقل الناقة والاعتماد على الله في حفظها المسبب عادة عن عقلها، ولو كان الحفظ مأمورا به؛ كالسبب ما جمع بين العقل والتوكل، بل كان يطلب الحفظ أيضا، أو يسكت عن التوكل على الأقل؛ فالجمع قاضٍ بأن المسبب لا يتعلق به مشروعية. "د". قلت: وفي الأصل و"ط": "قيدها". 2 أخرجه ابن حبان في "الصحيح" "2/ 510 رقم 731- الإحسان"، والحربي في "الغريب" "3/ 1226-1227"، ومحمد بن العباس البزار في "حديثه" "2/ 117/ 2"، وأبو بكر الكلاباذي في "مفتاح معاني الآثار" "ق 251/ 2" -كما في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" "رقم 22"- والحاكم في "المستدرك" "3/ 623", وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "2/ 215/ رقم 970، 971"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق 84/ ب"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 633" من طرق عن يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه بلفظ: "اعقلها وتوكل"، أو: "قيدها وتوكل ". وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 303": "رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح؛ غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري, وهو ثقة"، وقال أيضا "10/ 291": "رواه الطبراني بإسنادين, وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات", وجود إسناده الذهبي في "التلخيص"، وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" "4/ 279" إلى الطبراني وابن خزيمة في "التوكل", وجود إسناده أيضا، ونقل المناوي في "الفيض" "2/ 8" عن الزركشي؛ أنه قال: "إسناده صحيح", وله شواهد من حديث أنس، كما عند أبي داود في "القدر" -كما في "تهذيب الكمال" "3/ ق 1363"- والترمذي في "الجامع" "رقم 2517"، وآخر "العلل" "5/ 762" الملحق مع "الجامع"، وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم 11"، وأبي نعيم في "الحلية" "8/ 390"، والقشيري في "الرسالة" "466-467"، وابن الجوزي في "التلبيس" "279"، وابن عساكر في "التاريخ"، والضياء في "المختارة" -كما في "إتحاف السادة المتقين" "9/ 507"- وفيه المغيرة بن أبي قرة، لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال ابن حجر: "مستور", ونقل الترمذي عن يحيى القطان قوله: "وهذا عندي حديث منكر"، ثم قال الترمذي: "وهذا حديث غريب من حديث أنس، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو هذا". قلت: تقدم حديث عمرو بن أمية، وهو حسن إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَمِمَّا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 58، 59] . {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} 1 [الْوَاقِعَةِ: 63] . {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة: 68] . {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة: 71] .   1 {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ؛ أي: تنبتونه أم نحن المنبتون المثمرون له؟ والآيات الثلاث الأولى واضحة في البيان هنا؛ لأن في كل منها نسبة التسبب للعبد، وإنكار أن يكون له إيجاد للمسبب، بل الموجد هو الله، أما الآية بعدها؛ فليست مما تعلق به كسب للعبد مطلقا، لا في تسبب ولا غيره؛ لأن الإنزال من المزن -وهو محل الغرض- لا شأن لنا به ولا تسببا، فلو كان الكلام في الري المسبب عن الشرب وكانت الآية: "أأنتم تخلقون الري أم نحن الخالقون"؛ لكانت الآية مما نحن فيه؛ فتأمل، وانظر في الآية التي بعدها أيضا، وعليك بالتأمل في صنيعه لتعرف السبب في هذا الأسلوب: جعل الآيات الأولى دليلا وبدأ بها وعلق عليها أولا، ثم ذكر الآيات الأخيرة قائلا: "ومما يبينه" دخولا عليه، وقال بعد الحديثين: "فيهما بيان لما تقدم", وخذ نموذجا لطريق التأمل مثلا: الآية الأولى: فيها نفي التكليف بالمسبب صراحة: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} مع العلم بطلب الرزق والتسبب فيه لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة. الآية الثانية: حصر الرزق في كونه عليه تعالى؛ فطبعا لا يكلف به غيره. الآية الثالثة: جعل الرزق في السماء على ما هو ظاهرها، وليس في متناول العبد؛ فلا يكلف به، مع أنه طلب بالتسبب إلى الرزق. أما الآيات الأخرى؛ فنسب الخلق إليه تعالى لا للعبد, ويلزمه ألا يطلب من العبد؛ فهو ظاهر في أنه لا يكلف به غيره, مع بقاء احتمال أنه سبحانه هو الخالق مع تسبب العبيد فيها ومطالبتهم بذلك التسبب, بخلاف الآيات الأولى؛ ففيها عدم المطالبة بالتسبب صريحة أو كالصريحة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وَأَتَى عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] . {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَرِ: 62] . وَإِنَّمَا جَعَلَ إِلَيْهِمُ الْعَمَلَ لِيُجَازَوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَاسْتِقْرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الشَّرِيعَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ دَخَلَتِ الْأَسْبَابُ الْمُكَلَّفُ بِهَا1 فِي مُقْتَضَى هَذَا الْعُمُومِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، فَصَارَتِ الْأَسْبَابُ هِيَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا مَكَاسِبُ الْعِبَادِ دُونَ الْمُسَبَّبَاتِ، فَإِذًا لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ وَخِطَابُهُ إِلَّا بِمُكْتَسَبٍ؛ فَخَرَجَتِ الْمُسَبَّبَاتُ2 عَنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَقْدُورِهِمْ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهَا؛ لَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الِاسْتِلْزَامَ مَوْجُودٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبَاحَةَ عُقُودِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِهَا تَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ الْخَاصِّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا؟ وَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَا التَّحْرِيمُ؛ كَبَيْعِ الرِّبَا, وَالْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ, اسْتَلْزَمَ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ الْمُسَبَّبِ عَنْهَا، وَكَمَا فِي التَّعَدِّي وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا، وَالذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الْمَشْرُوعِ مُبَاحَةٌ، وَتَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ؛ كَانَتْ مَمْنُوعَةً، وَاسْتَلْزَمَتْ مَنْعَ الِانْتِفَاعِ ... إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٍ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ وَالنَّهْيَ عَنْهَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُسَبَّبَاتِ وَلَا النهي عنها،   1 في الأصل: "فيها". 2 لو أخذ هذا على عموم؛ لكرّ على المسألة بالنقض, وكان الواجب أن يقال بدل "لا تستلزم": لا يترتب حكم شرعي على مسبباتها ولا يتعلق بها حكم مطلقا؛ لأنها كلها خارجة عن مقدوره، مع أن صنيعه الآتي يسلم فيه أن بعضها يتعلق بها حكم، لكن لا على طريق الاستلزام، والواقع أن المسببات كثيرة؛ منها ما هو كالسبب من مقدور المكلف، ومنها ما ليس كذلك، والأول قد يأخذ حكم سببه وقد يأخذ حكما غيره. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وَكَذَلِكَ فِي الْإِبَاحَةِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِلْزَامِ، مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ قَدْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَا جَاءَ بِخِلَافِهِ؛ فَعَلَى حُكْمِ الِاتِّفَاقِ لَا عَلَى حُكْمِ الِالْتِزَامِ. الثَّانِي: أَنَّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِلْزَامٌ، بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَمْثِلَةِ؛ فَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ مباحا والمسبب مأمورا بِهِ؛ فَكَمَا نَقُولُ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ: إِنَّهُ مُبَاحٌ؛ نَقُولُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَ حَيَوَانًا، وَالنَّفَقَةُ مِنْ مُسَبَّبَاتِ الْعَقْدِ الْمُبَاحِ، وَكَذَلِكَ حَفِظُ الْأَمْوَالِ الْمُتَمَلَّكَةِ مُسَبَّبٌ عَنْ سَبَبٍ مُبَاحٍ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الذَّكَاةُ؛ فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ إِذَا وَقَعَتْ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ؛ كَالْخِنْزِيرِ، وَالسِّبَاعِ الْعَادِيَةِ، وَالْكَلْبِ, وَنَحْوِهَا، مَعَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا وَمَكْرُوهٌ فِي الْبَعْضِ. هَذَا فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ؛ فَأَمْرُهَا أَسْهَلُ1؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَحْرِيمِهَا أَنَّهَا فِي الشَّرْعِ لَيْسَتْ بِأَسْبَابٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا لَمْ تَكُنْ2 لَهَا مُسَبَّبَاتٌ؛ فَبَقِيَ الْمُسَبَّبُ عَنْهَا عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْمَنْعِ، لَا أَنَّ3 الْمَنْعَ تَسَبَّبَ عَنْ وُقُوعِ أَسْبَابٍ مَمْنُوعَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ؛ فَالْأَصْلُ مطرد والقاعدة مستتبة، وبالله التوفيق.   1 تقدم أنه يتفق فيها أن تكون مسبباتها ممنوعة؛ كالغصب والسرقة، وقد تكون غير متعلق بها حكم شرعي؛ كالقتل مع الموت مثلا؛ فلا يظهر فرق بين الممنوعة والمأمور بها في درجة عدم الاستلزام. "د". 2 في الأصل: "يكن". 3 يقال مثله في المأمور بها والمباحة ما دام الجميع لا استلزام فيه، وأنه أمر اتفاقي. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ وَلَا الْقَصْدُ إِلَيْهَا1, بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْجَرَيَانُ تَحْتَ الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ لَا غَيْرَ، أَسْبَابًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ أَسْبَابٍ، مُعَلَّلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَاكِمِ الْمُسَبِّبِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ2 مِنْ مَقْدُورِ الْمُكَلَّفِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَيْهِ, فَمُرَاعَاتُهُ مَا هُوَ رَاجِعٌ لِكَسْبِهِ هُوَ اللَّازِمُ، وَهُوَ السَّبَبُ، وَمَا سِوَاهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَيْضًا, فَإِنَّ3 مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَكُونُ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ، وَإِلَى جِهَتِهِ مَيْلٌ، فَيَمْنَعُ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ مُقْتَضَى الطَّلَبِ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُوَلِّي عَلَى الْعَمَلِ مَنْ طَلَبَهُ4، وَالْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَطْلُوبَةٌ؛ إما   1 قال "ماء": "وفي نسخة: إليه". 2 مما سبق يعلم أنه ليس مطردا، وأن من المسببات ما هو من مقدور المكلف، ويتعلق به الخطاب المتعلق بنفس السبب؛ كالانتفاع بالمبيع في عقد البيع. "د". 3 فالولاية الشرعية مثلا لها مسببات كثيرة، وقد يكون القصد إلى بعض هذه المسببات مانعا من التسبب فيها مع كونها مطلوبا شرعيا؛ كالقصد إلى حظوظ نفسه ومنافعه المسببة عن الولاية؛ فلا تكون الولاية حينئذ مطلوبة شرعا, وجعل الشارع من أدلة قصد المكلف لحظوظه فيها طلبه لها, فلذلك منع من طلب الولاية منها، وإذا كان النظر إلى المسبب قد يكون قاضيا بجعل المطلوب شرعا غير مطلوب، بل ويجعل المباح غير مباح؛ فأولى ألا يلزم القصد إلى المسبب, يعني أن القصد إلى المسبب قد يضر؛ فضلا عن لزومه؛ فهو ترقٍّ في الاستدلال، على أنه لا يلزم. "د". 4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام, باب ما يكره من الحرص على الإمارة، 13/ 125/ رقم 7149"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة, باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 3/ 1456/ رقم 1733" عن أبي موسى؛ قال: دخلتُ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 طَلَبَ الْوُجُوبِ، أَوِ النَّدْبِ، وَلَكِنْ رَاعَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ مَا لَعَلَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنِ اعْتِبَارِ الْحَظِّ، وَشَأْنُ طَلَبِ الْحَظِّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ أُمُورٌ تُكْرَهُ، كَمَا سَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى1، بَلْ قَدْ رَاعَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُبَاحِ؛ فَقَالَ: "مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ فَخُذْهُ" 2 الْحَدِيثَ؛ فَشَرَطَ فِي قَبُولِهِ عَدَمَ إِشْرَافِ النَّفْسِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَخْذَهُ بِإِشْرَافٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "مَنْ يَأْخُذُ مَالًا بِحَقِّهِ؛ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ, وَمَنْ يَأْخُذُ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ؛ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ" 3، وَأَخْذُهُ بِحَقِّهِ هُوَ أن لا ينسى   = على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من بني عمي؛ فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمرنا على بعض ما ولاك الله, عز وجل, وقال الآخر مثل ذلك؛ فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله, ولا أحدا حرص عليه ". وكتب "خ" هنا ما نصه: "طلب الرجل الولاية لمقصد غير صحيح؛ كالتباهي بمقامها، أو التمتع بما تجره إليه من المنافع المادية؛ تهمة تنادي بالحذر من عاقبته، فإن من كان هذا شأنه لا يبالي أن يضحي بمصلحتها أو يحتمل الإهانة في سبيل بقائه على منصتها، وعلى مثل هذا الوجه تحمل الأحاديث الواردة في كراهة الحرص على الولاية، أما من سعى إليها ليدبر شئونها بحزم ونصيحة، أو ليتخذ مكانتها وسيلة إلى القيام بأعمال شريفة؛ فله أسوة بقول يوسف, عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ". 1 انظر: "2/ 298-299، 327، 330 وما بعد، 344 وما بعد، 438 وما بعد". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس، 2/ 337/ رقم 1473"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف، 2/ 723/ رقم 1045" عن عمر -رضي الله عنه- وتتمته: "وما لا؛ فلا تتبعه نفسك ". 3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472، وكتاب الوصايا، باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، 5/ 277/ رقم 2750، وكتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 6/ 249-250/ رقم 3143، وكتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المال خضرة حلوة"، 11/ 258/ رقم 6441"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/ 717/ رقم 1035" من حديث حكيم بن حزام, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ آثَارِ عَدَمِ إِشْرَافِ النَّفْسِ، وَأَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ1 هَذَا الْمَعْنَى الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: "نِعْمَ صَاحِبُ المسلم هو لمن أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ" 2، أَوْ كَمَا قَالَ: "وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ, وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 3. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْعُبَّادَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ -مِمَّنْ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ ههنا- أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَخْلِيصِ الْأَعْمَالِ عَنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ، حَتَّى عَدُّوا مَيْلَ النُّفُوسِ إِلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَكَائِدِهَا, وَأَسَّسُوهَا قَاعِدَةً بَنَوْا عَلَيْهَا -فِي تَعَارُضِ الْأَعْمَالِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ- أَنْ يُقَدِّمُوا مَا لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، أَوْ مَا ثَقُلَ عَلَيْهَا؛ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ مَيْلِ النَّفْسِ، وَهُمُ الْحُجَّةُ فِيمَا انْتَحَلُوا؛ لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِجْمَاعٌ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ, وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِحْسَانِ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يراك" 4، وكل تصرف للعبد   1 في الأصل: "ويبين". 2 هو قطعة من حديث في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري، سيأتي تخريجه في الحديث الآتي. 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن -تقدم بيانها "ص309"- وليس عنده: "ويكون عليه شهيدا يوم القيامة" من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، 3/ 327/ رقم 1465"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا, 2/ 727-729" من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ المصنف. 4 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 36-38/ رقم 8" عن عمر, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 تَحْتَ قَانُونِ الشَّرْعِ؛ فَهُوَ عِبَادَةٌ، وَالَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ يَعْزُبُ عَنْهُ -إِذَا تَلَبَّسَ بِالْعِبَادَةِ- حَظُّ نَفْسِهِ فِيهَا, هَذَا مُقْتَضَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِأَنْ يَعْزُبَ عَنْهُ كُلُّ مَا سِوَاهَا، وَهُوَ مَعْنًى بَيَّنَهُ أَهْلُهُ؛ كَالْغَزَالِيِّ1 وَغَيْرِهِ. فَإِذًا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، وَهَذَا أَيْضًا جارٍ فِي الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ كَمَا يَجْرِي فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَا يَقْدَحُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي جَرَيَانِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ2؛ فَإِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ إِبْرَازُ الْمُسَبَّبِ عَنْ سَبَبِهِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ لَهُ؛ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ إِلَّا بِفَوْتِ شَرْطٍ أَوْ جُزْءٍ أَصْلِيٍّ أَوْ تَكْمِيلِيٍّ فِي السَّبَبِ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَضْعُ الْأَسْبَابِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْوَاضِعِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، أَعْنِي الشَّارِعَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَاطِعُونَ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا لِأَنْفُسِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَاتٌ فَقَطْ، بَلْ مِنْ حَيْثُ يَنْشَأُ عَنْهَا أُمُورٌ أُخَرُ، وَإِذَا كَانَ كذلك؛ لزم من القصد إلى وضعها أسباب الْقَصْدُ إِلَى مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ أَوْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَهِيَ مُسَبَّبَاتُهَا قَطْعًا، فَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْبَابَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لأجل   1 انظر: "إحياء علوم الدين" "3/ 66، 67، 69". 2 يعني: مع أنهما من المسببات؛ فيجريان على العبد بدون قصد إليهما. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الْمُسَبَّبَاتِ؛ لَزِمَ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى الْأَسْبَابِ الْقَصْدُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ. وَالثَّالِثُ 1: أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَوْ لَمْ تُقْصَدْ بِالْأَسْبَابِ؛ لَمْ يَكُنْ وَضْعُهَا عَلَى أَنَّهَا أَسْبَابٌ، لَكِنَّهَا فُرِضَتْ كَذَلِكَ؛ فَهِيَ وَلَا بُدَّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهَا أَسْبَابٌ، وَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا إِلَّا لِمُسَبَّبَاتٍ، فَوَاضِعُ الْأَسْبَابِ قَاصِدٌ لِوُقُوعِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ جِهَتِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَتِ الْأَسْبَابُ مَقْصُودَةَ الْوَضْعِ لِلشَّارِعِ؛ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَبَّبَاتُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْأَسْبَابِ2؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَصْدَيْنِ مُتَبَايِنَانِ، فَمَا تَقَدَّمَ هُوَ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ فِي التَّكْلِيفِ بِالْأَسْبَابِ التَّكْلِيفَ بِالْمُسَبَّبَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا تَقَدَّمَ, وَهُنَا إِنَّمَا مَعْنَى الْقَصْدِ إليها أن الشارع [مما] 3 يَقْصِدُ وُقُوعَ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا؛ وَلِذَلِكَ وَضَعَهَا أَسْبَابًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ, وَإِنَّمَا فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْقَصْدَ إِلَى مُجَرَّدِ الْوُقُوعِ خَاصَّةً؛ فَلَا تناقض بين الأصلين.   1 تأمل في هذه المقدمات لتعرف ما يحتاج إليه منها في غرضه وما لا يحتاج إليه، وهل بقيت حاجة إلى قوله: "وإذا ثبت هذا ... " إلخ بعد قوله: فواضع الأسباب قاصد المسببات من جهتها؟ أليس هذا هو الدعوى المطلوبة؟ لكنه جعلها من المقدمات ورتب عليها قوله: "وإذا ثبت هذا ... " إلخ، وهل معنى قصد وضعها مسببات زائد على قصد وقوع المسببات من جهتها؟ "د". قلت: قارن ما عند المصنف بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 179-183، 287". 2 في الأصل: "المسببات". 3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَالثَّانِي1: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ تَوَارُدُ الْقَصْدَيْنِ2 عَلَى شيء واحد؛ لم يكن محالا إذا كان بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ3، كَمَا تَوَارَدَ قَصْدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا عَلَى الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِاعْتِبَارَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ غَيْرُ مُتَدَافِعَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَصْدُ إِلَى الْمُسَبَّبِ؛ فَلِلْمُكَلَّفِ تَرْكُ الْقَصْدِ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَهُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَمَا تَقَدَّمَ4 يَدُلُّ عَلَيْهِ. فَإِذَا قِيلَ لَكَ: لِمَ تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرهما؟ قُلْتَ: لِأَنَّ الشَّارِعَ نَدَبَنِي إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ؛ فَأَنَا أَعْمَلُ عَلَى مُقْتَضَى مَا أُمِرْتُ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُصَلِّيَ وَأَصُومَ وَأُزَكِّيَ وَأَحُجَّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَلَّفَنِي بِهَا. فَإِنْ قِيلَ لَكَ: إِنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ وَنَهَى لِأَجْلِ الْمَصَالِحِ. قُلْتَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَيَّ؛ فَإِنَّ الَّذِي إِلَيَّ التسبب، وحصول   1 هذا لازم لما قبله وليس شيئا جديدا، فإن تباين القصدين إنما جاء من عدم تواردهما باعتبار واحد. "د". 2 في الأصل و"ط": "فرض القصدان". 3 هذا الجواب مبني على أن القصدين: المثبت والمنفي متوجهان إلى شيء واحد، وهو المسببات، ولكن القصد المثبت يتعلق بها من جهة وقوعها، والقصد المنفي من حيث التكليف بها. "خ". 4 أي: في أدلة المسألة الثالثة؛ لأنه إذا كان لا يلزمه؛ فله تركه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الْمُسَبَّبَاتِ لَيْسَ إِلَيَّ؛ فَأَصْرِفُ قَصْدِي إِلَى مَا جُعِلَ إِلَيَّ, وَأَكِلُ مَا لَيْسَ لِي إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا؛ أَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ فَاعِلٍ بِنَفْسِهِ، بَلْ إِنَّمَا وَقَعَ الْمُسَبَّبُ عِنْدَهُ لَا بِهِ, فَإِذَا تَسَبَّبَ الْمُكَلَّفُ؛ فَاللَّهُ خَالِقُ السَّبَبِ، وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ لَهُ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] . {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزُّمَرِ: 62] . {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التَّكْوِيرِ: 29] . {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشَّمْسِ: 7، 8] . وَفِي حَدِيثِ الْعَدْوَى قَوْلُهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ " 1، وَقَوْلُ عُمَرَ فِي حَدِيثِ الطَّاعُونِ: "نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ"، حِينَ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: "أَفِرَارًا مِنْ قَدَرَ اللَّهِ؟ "2، وَفِي الحديث: "جف القلم بما هو   1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطب، باب لا هامة, 10/ 241/ رقم 5770، وباب لا صفر، 10/ 171/ رقم 5717"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام, باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، 4/ 1742-1743/ رقم 2220" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة ". فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب؛ فيدخل بينها فيجربها؟ قال: "فمن أعدى الأول ". 2 جزء من قول عمر في قصة خروجه إلى الشام وسماعه في الطريق عن وقوع الطاعون فيها، واستشارته الصحابة في ذلك، ثم عودته؛ أخرجه مطولا البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، 4/ 1740/ رقم 2219". والقائل لعمر: "أفرارا ... " هو أبو عبيدة بن الجراح وليس عمرو بن العاص؛ كما ذكر المصنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 كَائِنٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ" 1. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا تَنْتَهِي إِلَى الْقَطْعِ, وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي فِعْلِ السَّبَبِ لَا يَزِيدُ2 عَلَى تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمُسَبَّبَ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، هَذَا وَإِنْ كَانَتْ مَجَارِي الْعَادَاتِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ؛ فَكَوْنُهُ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَنَقْضُ3 مَجَارِي الْعَادَاتِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا؛ فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ ناص على طلب القصد   1 قطعة من حديث طويل، أوله: "يا غلام! ألا أعلمك شيئا ينفعك ... "، وفيه: "احفظ الله يحفظك ... "؛ أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم 11560"؛ والبيهقي في "الأسماء والصفات" "رقم 126" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه. وأخرجه من حديث ابن عباس أيضا بلفظ مقارب: الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ رقم 2516" -وقال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 41، 42" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في "الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "رقم 427"، والبيهقي في "الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار, وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره". وانظر: "فتح الباري" "11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث، وهو صحيح. 2 أي: من جهة إيجاد المسبب وعدمه. "د". 3 فكم وجد السبب ولم يوجد المسبب، وكم وجد المسبب بدون سببه العادي، ولله خرق العوائد. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 إلى الْمُسَبَّبِ. فَإِنْ قِيلَ1: قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ وَالْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مَطْلُوبَةُ الْقَصْدِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَإِلَّا؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّكْلِيفِ إِلَّا مُطَابَقَةَ قَصْدِ الْمُكَلَّفِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِذْ لَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ كَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ2 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَإِذَا طَابَقَهُ صَحَّ، فَإِذَا فَرَضْنَا هَذَا الْمُكَلَّفَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْمُسَبَّبَاتِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهَا مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ؛ كَانَ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لَهُ، وَكُلُّ تَكْلِيفٍ قَدْ خَالَفَ3 الْقَصْدُ فِيهِ قَصْدَ الشَّارِعِ فَبَاطِلٌ كَمَا تَبَيَّنَ؛ فَهَذَا كَذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ وُقُوعَ الْمُسَبَّبَاتِ بِالتَّكْلِيفِ بِهَا كَمَا قَصَدَ ذَلِكَ بِالْأَسْبَابِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهَا، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ وُقُوعُ الْمُسَبَّبَاتِ بِحَسَبِ ارْتِبَاطِ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَثَرِ إِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ لِلْأَسْبَابِ4 لِيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ وَيَشْقَى مَنْ شَقِيَ، فَإِذًا قَصْدُ الشَّارِعِ لوقوع المسببات لا ارتباط له   1 هذا الإشكال مبني على المسألة الرابعة، وبه تعلم جودة صنيعه في تقديمها على هذه المسألة. "د". 2 في النوع الرابع من قصد الشارع من كتاب "المقاصد" "ص2/ 289 وما بعدها". 3 ترويج للسؤال يجعل أن للمكلف قصدا غير قصد الشارع، مع أن الفرض أن المكلف لا قصد له في المسبب مطلقا، لا بموافقة ولا بمخالفة. "د". 4 هذا جار على مذهب أهل السنة من أن الآثار صادرة عن قدرة الخالق مباشرة، ولكنه يوجدها عند وجود أسبابها المرتبطة بها في النظام العام ما لم يرد خرق السنن المعروفة لحكمة بالغة، وقالت القدرية: وَهِم المعتزلة أن الله أودع في العبد قدرة تصدر عنها آثارها بطريق الاختيار أو التوليد والسببية، ووافقوا الفلاسفة في قولهم: إن السبب يوجب أثره إلا أن يمنع منه مانع؛ فالسبب والمسبب عندهم مقدوران للعبد؛ إلا أن أحدهما مباشرة والآخر بواسطة. "خ". قلت: قارن لزاما بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 287، 288 و10/ 388-393 و484-488". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 بِالْقَصْدِ التَّكْلِيفِيِّ؛ فَلَا يَلْزَمُ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ1 لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى ذَلِكَ قَصْدٌ إِلَى مَا هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ، [وَلَا يُلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْصِدَ وُقُوعَ مَا هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ] 2؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ بِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ السَّبَبُ خَاصَّةً؛ فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، أَوْ يُطْلَبُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مُوَافَقَةُ قَصْدِ الشَّارِعِ. فَصْلٌ: 3 وَأَمَّا أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ الْقَصْدَ إِلَى الْمُسَبَّبِ؛ فَكَمَا إِذَا قِيلَ لَكَ: لِمَ تَكْتَسِبُ؟ قُلْتَ: لِأُقِيمَ صُلْبِي، وَأَقُومَ فِي حَيَاةِ نَفْسِي وَأَهْلِي، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُوجَدُ عَنِ السَّبَبِ؛ فَهَذَا الْقَصْدُ إِذَا قَارَنَ التَّسَبُّبَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الْجَاثِيَةِ: 12] . وَقَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الرُّومِ: 23] . وَقَالَ: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا 4 مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] .   1 أي: لزوم قصد المكلف، وقد تقدمت أدلته، ولا يجوز أن يعود الضمير على نفس القصد؛ لأن ما دلل به هنا عليه لا يفيده، وأيضا ينابذ الأدلة الآتية على صحة قصد المسبب، على أن قوله بعد "فهو الذي يلزم القصد إليه" يؤيد ما قررناه. "د". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. 3 قارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 175-179، 165، 169". 4 كأنه قال: اقصدوا فضل الله ورزقه بأخذكم في الأسباب من الانتشار في الأرض مثلا، وهو قصد إلى المسبب بالسبب، وحيث كان في مقام الامتنان؛ فهو باق على ظاهره؛ لأن الامتنان إنما يظهر فيما كان من فعله تعالى الذي لا شأن للغير فيه، وإنما يكون ذلك في المسبب لا في السبب. ولو قال: عبر بالقصد الذي هو المسبب مقارنا أو مرتبا على السبب في مقام الامتنان؛ فدل على أنه يصح قصد المسبب بالسبب؛ لكان ظاهرا لأن فيه قصد المسبب بنفسه لا قصد السبب، وعبر عنه بقصد المسبب مجازا؛ لأنه لو كان مجازا وكان المسبب ليس مقصودا حقيقة؛ ما دل على مدعاه ولو في مقام الامتنان، إذا فرضنا أنه يظهر مقام الامتنان في هذه الحالة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فَمِنْ حَيْثُ عَبَّرَ بِالْقَصْدِ إِلَى الْفَضْلِ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الِاكْتِسَابُ، وَسِيقَ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ؛ أَشْعَرَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَهَذَا جَارٍ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ جَارٍ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ 1 جَنَّاتٍ} [الطَّلَاقِ: 11] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِنُ بِصِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّمَا مَحْصُولُ هَذَا أَنْ يُبْتَغَى مَا يُهَيِّئُ اللَّهُ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ وَاللَّجَأِ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ مُسَبَّبًا يَقُومُ بِهِ أَمْرُهُ وَيَصْلُحُ بِهِ حَالُهُ, وَهَذَا لَا نَكِيرَ فِيهِ شَرْعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْلُومَ من الشريعة أنها شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ؛ فَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ إِمَّا لِدَرْءِ مَفْسَدَةٍ، وَإِمَّا لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ لَهُمَا مَعًا؛ فَالدَّاخِلُ تَحْتَهُ مُقْتَضٍ لِمَا وُضِعَتْ لَهُ، فَلَا مُخَالَفَةَ فِي ذَلِكَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَالْمَحْظُورُ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَقْصِدَ2 خِلَافَ مَا قَصَدَهُ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَقْدٌ مخالف؛ فالفعل3 موافق، والقصد   1 ليس فيه ما يدل على القصد من المكلف، ولكن آية {انْتَشِرُوا} و {ابْتَغُوا} ، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا} مثلا ظاهرة فيما أراد، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ... } إلخ، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا} الآية، واضح الدلالة على صحة قصد المسبب في أمور الآخرة. "د". 2 هذا يؤيد ما سبق لنا تعليقه على قوله: "وكل تكليف خالف القصد فيه قصد الشارع باطل". "د". 3 يشير إلى ما يأتي في موافقة ومخالفة قصد المكلف وعمله في المسألة الساسة من النوع الرابع. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 مُوَافِقٌ؛ فَالْمَجْمُوعُ مُوَافِقٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَسْتَتِبُّ هَذَانِ1 الْوَجْهَانِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ قَصْدَ الْمُسَبَّبَاتِ لَازِمٌ فِي الْعَادِيَّاتِ، لِظُهُورِ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى؛ فَهُنَالِكَ يَسْتَتِبُّ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُعَلَّلَ بِهَا رَاجِعَةٌ إِلَى جِنْسِ الْمَصَالِحِ فِيهَا أَوِ الْمَفَاسِدِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعَادِيَّاتِ، وَغَيْرُ ظَاهِرَةٍ فِي الْعِبَادِيَّاتِ, وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ وَالْقَصْدُ إِلَيْهَا مُعْتَبَرٌ فِي الْعَادِيَّاتِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُجْتَهِدِ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِنَّمَا يَتَّسِعُ مَجَالُ اجْتِهَادِهِ بِإِجْرَاءِ الْعِلَلِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ, وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا الْأَحْكَامُ2 وَالْمَعَانِي هِيَ مُسَبَّبَاتُ الْأَحْكَامِ، أَمَّا الْعِبَادِيَّاتُ؛ فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا فَقْدَ ظُهُورِ الْمَعَانِي الْخَاصَّةِ بِهَا، وَالرُّجُوعَ إِلَى مُقْتَضَى النُّصُوصِ فِيهَا؛ كَانَ تَرْكُ   1 المراد بهما قصد المسبب وعدمه بقطع النظر عما سبق من اعتبار عدم اللزوم فيهما؛ لأنه سيبني سؤاله على لزوم القصد في العاديات ولزوم عدم القصد في العبادات. "د". قلت: وقارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 536". 2 سرد ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" "1/ 196-200" عشرات الأمثلة من تعليلات القرآن والسنة، وله تفصيل وتقعيد حسن نحو ما عند المصنف في "مفتاح دار السعادة" "2/ 22"، وسيأتي للمصنف في "2/ 526 وما بعدها" تفصيل مسهب في هذا الموضوع. وانظر: "شفاء الغليل" "205" للغزالي، و"أصول الفقه الإسلامي" "2/ 762" لوهبة الزحيلي، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 312"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص169-207". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 الِالْتِفَاتِ أَجْرَى عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَالْأَمْرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَلِّدِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ حَقَّهُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ؛ إِلَّا فِيمَا كَانَ مِنْ مُدْرَكَاتِهِ وَمَعْلُومَاتِهِ الْعَادِيَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ فِي الِالْتِفَاتِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا نَظَرَ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عَدَّى الْحُكْمَ بِهَا إِلَى مَحَلٍّ هِيَ فِيهِ لِتَقَعَ الْمَصْلَحَةُ الْمَشْرُوعُ لَهَا الْحُكْمُ، هَذَا نَظَرُهُ خَاصَّةً1، وَيَبْقَى قَصْدُهُ إِلَى حُصُولِهَا بِالْعَمَلِ أَوْ عَدَمِ الْقَصْدِ مَسْكُوتًا عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ فَتَارَةً يَقْصِدُ إِذَا كَانَ هُوَ الْعَامِلَ، وَتَارَةً لَا يَقْصِدُ، وَفِي الْوَجْهَيْنِ لَا يَفُوتُهُ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْرٌ؛ كَالْمُقَلِّدِ سَوَاءً، فَإِذَا سَمِعَ قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" 2؛ نَظَرَ إِلَى عِلَّةِ مَنْعِ الْقَضَاءِ؛ فَرَآهُ الْغَضَبَ، وَحِكْمَتُهُ تَشْوِيشُ الذِّهْنِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحِجَاجِ بَيْنَ الْخُصُومِ؛ فَأَلْحَقَ بِالْغَضَبِ الْجُوعَ وَالشِّبَعَ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْوَجَعَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَشْوِيشُ الذِّهْنِ، فَإِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ -وَكَانَ قَاضِيًا- امْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ، فَإِنْ قَصَدَ بِالِانْتِهَاءِ مُجَرَّدَ النَّهْيِ فَقَطْ, مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُهِيَ عَنِ الْقَضَاءِ؛ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ, وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ الْقَاضِي، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ مَا ظَهَرَ قَصْدُ الشرع إِلَيْهِ مِنْ مَفْسَدَةِ عَدَمِ اسْتِيفَاءِ الْحِجَاجِ؛ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ أَيْضًا؛ فَاسْتَوَى قَصْدُ الْقَاضِي إِلَى الْمُسَبَّبِ وَعَدَمُ قَصْدِهِ، وَهَكَذَا الْمُقَلِّدُ فِيمَا فَهِمَ حِكْمَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا لَمْ يَفْهَمْ؛ فَهُوَ   1 أي: فهو ينظر إلى محلات العلل ليثبت فيها مثل الحكم في الأصل، وهذا أمر نظري غير [عملي] * أخذه هو بالعمل في هذا الفرع الذي استنبطه، وعند أخذه في العمل يستوي مع المقلد في مراعاة المسبب وعدم مراعاته. "د". 2 سيأتي تخريجه "ص411", والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.   * سقط من المطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 كَالْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ1 عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَيَصِحَّ الْقَصْدُ إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالْقَصْدُ إِلَيْهَا أَوْ عَدَمُ الْقَصْدِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا تَقَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَلِلدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ مَرَاتِبُ تَتَفَرَّعُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ له ثلاث مراتب: إحداها: أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِلْمُسَبَّبِ أَوْ مُوَلِّدٌ لَهُ؛ فَهَذَا شِرْكٌ أَوْ مُضَاهٍ لَهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ2، وَالسَّبَبُ غَيْرُ فَاعِلٍ بِنَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] . وَفِي الْحَدِيثِ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مؤمن بي وكافر" 3 الحديث؛ فإن   1 قوله: "أو في الآخرة" ليس شكا منه في وجود فوائد ومصالح دنيوية للعبادات، وإنما هو مجرد احتياط لبعض الجزئيات، ولبعض الحالات التي لا تظهر لها مصلحة دنيوية عاجلة، ومما يؤيد ذلك قوله فيا سيأتي "3/ 144" بعد أن ذكر فوائد الصلاة في الدنيا والآخرة: " .... وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا فَوَائِدُ أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ الْعَامَّةُ، وَفَوَائِدُ دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ كُلُّهَا تَابِعَةٌ لِلْفَائِدَةِ الأصلية". 2 انظر في هذا: "الواسطة بين الحق والخلق"، و"مجموع الفتاوى" "8/ 175-179"، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/ 83-84/ رقم 71"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في النجوم، 4/ 16/ رقم 3906"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الاستسقاء، باب كراهية الاستمطار بالكواكب، 3/ 164-165" وغيرهم من حديث زيد بن خالد الجهني, رضي الله عنه. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الْمُؤْمِنَ بِالْكَوْكَبِ الْكَافِرَ بِاللَّهِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْكَوْكَبَ [فَاعِلًا بِنَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَوَلَّى النَّظَرَ فِيهَا أَرْبَابُ الْكَلَامِ] 1. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ عَلَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ يَكُونُ عِنْدَهُ عَادَةً، وَهَذَا هُوَ الْمُتَكَلَّمُ عَلَى حُكْمِهِ قَبْلُ، وَمَحْصُولُهُ طَلَبُ الْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ لَا بِاعْتِقَادِ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ2 كَوْنِهِ مَوْضُوعًا عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُسَبَّبٍ؛ فَالسَّبَبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمُسَبَّبٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُولُهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ مُقْتَضَى عَادَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَا هُوَ مُنَافٍ لِكَوْنِ السَّبَبِ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَظْهَرُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَعِنْدَ عَدَمِهِ؛ فَلَا يَنْفِي وُجُودَ السَّبَبِ كَوْنُهُ خَالِقًا لِلْمُسَبَّبِ، لَكِنْ هُنَا قَدْ يَغْلِبُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فَقْدُ الْمُسَبَّبِ مُؤَثِّرًا وَمُنْكِرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ غَلَبَتْ عَلَى النَّظَرِ فِي السَّبَبِ بِحُكْمِ كَوْنِهِ سَبَبًا، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى كَوْنِهِ مَوْضُوعًا بِالْجَعْلِ لَا مُقْتَضِيًا بِنَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْخَلْقِ فِي الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ عَلَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْمُسَبَّبُ؛ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ اعْتِقَادَ أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْكِيمٍ لِكَوْنِهِ سَبَبًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ كَوْنُهُ سَبَبًا مُحَقَّقًا لَمْ يَتَخَلَّفْ، كَالْأَسْبَابِ الْعَقْلِيَّةِ3، فَلَمَّا لَمْ4 يَكُنْ كذلك؛ تمحض جانب التسبيب   1 ما بين المعقوفتين سقط من "خ"، وكتب محشيها: "هكذا بياض في الأصل وهو غير خفي على المتأمل"، وأثبتها "م" و"ط" أيضا. 2 كلمة "جهة" ليست في "م" و"خ". 3 الأسباب العقلية لا يعترضها مانع ولا يتأخر عنها أثرها في حال؛ كالزيادة في حجم أحد الشيئين علة في كونه أكبر من الآخر، ولهذا لم يستطع المعتزلة أن يعطوا السبب المولد كالتقريب من النار المولد للإحراق حكم العلة العقلية، واضطروا إلى أن قالوا: إنه يوجب الأثر ما لم يمنع منه مانع. "خ". 4 في "خ": "لما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الرَّبَّانِيِّ، بِدَلِيلِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَهُنَا يُقَالُ لِمَنْ حَكَّمَهُ1: فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ عَنْ مَاذَا تَسَبَّبَ؟ وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟! " 2. فَإِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَعَ الْمُسَبَّبَاتِ دَاخِلَةً تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ؛ فَاللَّهُ هُوَ الْمُسَبِّبُ، لَا هِيَ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ السَّبَبِ فِي الْمُسَبَّبِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَاعْتِبَارِهِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ مُسَبِّبُهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ3. فَصْلٌ: وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبِ لَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْتِلَاءٌ لِلْعِبَادِ [وَامْتِحَانٌ لَهُمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ مَوْضُوعَةٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ] 4 وَامْتِحَانًا لَهُمْ؛ فَإِنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ، وَهِيَ عَلَى ضربين:   1 بأن اعتقد أنه إذا وُجد وُجد المسبب، وإذا فُقد فُقد المسبب. "د". 2 مضى تخريجه "ص314"، وكتب "خ" هنا ما نصه: "جاء في الشريعة ما يقتضي الحذر من العدوى؛ كحديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"؛ فالقصد إذًا من حديث: "لا عدوى" إبطال الاعتقاد بأن العدوى من الأسباب المؤثرة على سبيل الوجوب، ونبه في الحديث على وجه إبطال هذا الاعتقاد بالإشارة إلى أن المرض الذي يحدث عند مخالطة بعض المرضى قد يكون مثل الإصابة الأولى ناشئا عن سبب غير سبب العدوى". 3 وبذلك كانت الأسباب جعلية لا عقلية طبعية، تفضي إلى آثارها بذوقها. وانظر: "مدارج السالكين" "3/ 395-401"، و"بدائع الفوائد" "3/ 178-180"، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص285"، و"بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "2/ 412" لفتحي الدريني. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أَحَدُهُمَا: مَا وُضِعَ لِابْتِلَاءِ الْعُقُولِ، وَذَلِكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ1 مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْظُورٌ فِيهِ، وَصَنْعَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا وَرَاءَهَا. وَالثَّانِي: مَا وُضِعَ لِابْتِلَاءِ النُّفُوسِ، وَهُوَ الْعَالَمُ كُلُّهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُوصِلٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُسَخَّرٌ لَهُمْ وَمُنْقَادٌ لِمَا يُرِيدُونَ فِيهِ؛ لِتَظْهَرَ تَصَارِيفُهُمْ تَحْتَ حُكْمِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَلِتَجْرِيَ أَعْمَالُهُمْ تَحْتَ حُكْمِ الشَّرْعِ، لِيَسْعَدَ بِهَا مَنْ سَعِدَ وَيَشْقَى مَنْ شَقِيَ، وَلِيَظْهَرَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ السَّابِقِ وَالْقَضَاءِ الْمُحَتَّمِ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَمُنَزَّهٌ عَنِ الِافْتِقَارِ فِي صُنْعِ مَا يَصْنَعُ إِلَى الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ، لَكِنْ وَضَعَهَا لِلْعِبَادِ لِيَبْتَلِيَهُمْ فِيهَا. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ2 أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هُودٍ: 7] . {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] . {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْكَهْفِ: 7] . {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يُونُسَ: 14] . {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ3 لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12] .   1 أي: جملة وتفصيلا، وكذا يقال فيما بعده، وإن كانت تصاريف كل شخص لا تمس جميع التفاصيل؛ إلا أن الجزئيات مرتبة بالكليات. "د". 2 تصح دليلا على الابتلاء للعقول والنفوس على مقتضى ما قرره. "د". 3 ما قبل هذه الآية يرجع إلى قوله: "لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر ... " إلخ، والآية وما بعدها -عدا الآية الأخيرة- يرجع إلى قوله: "وليظهر مقتضى العلم السابق .... إلخ". "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 142] . {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 154] . {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 152] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْأَسْبَابِ إِنَّمَا هِيَ لِلِابْتِلَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ؛ فَالْآخِذُ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ آخِذٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ وُضِعَتْ مَعَ التَّحَقُّقِ1 بِذَلِكَ فِيهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَصْدِ مُتَعَبِّدٌ لِلَّهِ بِمَا تَسَبَّبَ بِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَسَبَّبَ بِالْإِذْنِ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ لِتَظْهَرَ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ فِيهِ، لَا مُلْتَفِتًا إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا وَإِنِ انْجَرَّتْ مَعَهَا؛ فَهُوَ كَالْمُتَسَبِّبِ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِحُكْمِ قَصْدِ التَّجَرُّدِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُمُورٌ مُحْدَثَةٌ، فَضْلًا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْرِيدَ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ أَنْ لَا يُشْرَكَ مَعَهُ فِي قَصْدِهِ سِوَاهُ2، وَاعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ التَّشْرِيكَ خُرُوجٌ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ بِالْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الِالْتِفَاتِ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بَقَاءٌ مَعَ الْمُحْدَثَاتِ، وَرُكُونٌ إِلَى الْأَغْيَارِ، وَهُوَ تَدْقِيقٌ فِي نَفْيِ الشِّرْكَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فِي مَوْضِعِهِ صَحِيحٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ مَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ الشِّرْكَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] . وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَرِ: 2، 3] . وَسَائِرِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَكَذَلِكَ دَلَائِلُ طَلَبِ الصِّدْقِ فِي التَّوَجُّهِ لِلَّهِ   1 في الأصل: "التحقيق". 2 في الأصل و"ط": "سواها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 رَبِّ الْعَالَمِينَ، كُلُّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ فِي خُلُوصِ التَّوَجُّهِ وَصِدْقِ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مُتَعَبِّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْأَسْبَابِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى اطِّرَاحِ النَّظَرِ فِيهَا مِنْ جِهَتِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْظُرَ فِي مُسَبَّبَاتِهَا؛ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ إِلَى مُسَبِّبِهَا وَوَاضِعِهَا، وَسُلَّمٌ إِلَى التَّرَقِّي لِمَقَامِ الْقُرْبِ مِنْهُ؛ فَهُوَ إِنَّمَا يَلْحَظُ فِيهَا الْمُسَبِّبَ خَاصَّةً. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ1 الشَّرْعِيِّ مُجَرَّدًا عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَوَجُّهُهُ فِي الْقَصْدِ إِلَى السَّبَبِ تَلْبِيَةً لِلْأَمْرِ2 لِتَحَقُّقِهِ بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي السَّبَبِ أَوْ أَمَرَ بِهِ؛ لَبَّاهُ مِنْ حَيْثُ قَصْدُ الْآمِرِ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُسَبِّبُهُ, وَأَنَّهُ أَجْرَى الْعَادَةَ بِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَمْ يُجْرِهَا كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَخْرِقُهَا إِذَا شَاءَ، وَعَلَى أَنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وَعَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي صِدْقَ التَّوَجُّهِ بِهِ إِلَيْهِ؛ فَدَخَلَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَصَارَ هَذَا الْقَصْدُ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَوَخَّى قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي غَيْرِهِ, وَقَدْ عَلِمَ قَصْدَهُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ، فَحَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا فِي ضِمْنِ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ، مِمَّا عَلِمَ وَمِمَّا لَمْ يَعْلَمْ؛ فَهُوَ طَالِبٌ لِلْمُسَبَّبِ مِنْ طَرِيقِ السَّبَبِ، وَعَالِمٌ بِأَنَّ اللَّهَ هو المسبب, وهو المبتلى به، ومتحقق   1 هو وقوله بعد "وعلى أنه ابتلاء" إشارة للمعنى الأول في هذا الفصل، وقوله: "يقتضي صدق توجهه هو المعنى الثاني في الفصل"، وقوله: "وَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُسَبِّبُهُ وَأَنَّهُ أَجْرَى العادة به ولو شاء ... إلخ" إشارة للمعنى الثالث فيما فيه الالتفات للمسبب، وقد صرح بهذه المعاني بعد؛ فقال: "فهو طالب للمسبب ... إلخ"؛ فقوله: "شاملا لجميع ما تقدم"؛ أي: من المرتبة الثالثة من القسم الأول والمرتبتين المذكورتين في هذا الفصل، ويبقى الكلام معه في عد هذه المرتبة الثالثة هنا مندرجة تحت هذا الفصل الذي موضوعه ترك الالتفات إلى المسبب؛ فإن هذه المرتبة مزيج من القسمين كما عرفت، كما يبقى تصحيح الجمع بين الالتفات إلى المسبب وعدم الالتفات إليه، معا في حال واحدة من شخص واحد. "د". 2 في الأصل العبارة: "تتوجه في القصد إلى السبب ... تلبية إلى الأمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فِي صِدْقِ التَّوَجُّهِ بِهِ إِلَيْهِ؛ فَقَصْدُهُ مُطْلَقٌ وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ قَصْدُ الْمُسَبَّبِ، لَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، مُصَفًّى مِنَ الْأَكْدَارِ1. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الدُّخُولُ فِي الْأَسْبَابِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي طَلَبِ رَفْعِ [ذَلِكَ] التَّسَبُّبِ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ الْمُتَسَبِّبُ قَاصِدًا لِوُقُوعِ الْمُسَبَّبِ أَمْ لَا؛ فَإِنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْأَمْرَانِ: فَقَدْ يَقْصِدُ بِالْقَتْلِ الْعُدْوَانِ إِزْهَاقَ الرُّوحِ فَيَقَعُ، وَقَدْ يَقْصِدُ بِالْغَصْبِ انْتِفَاعَهُ بِالْمَغْصُوبِ فَيَقَعُ، عَلَى مُقْتَضَى [الْعَادَةِ لَا عَلَى] 2مُقْتَضَى الشَّرْعِ، وَقَدْ لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ يَعْزُبُ عَنْ نَظَرِهِ الْقَصْدُ إِلَى الْمُسَبَّبِ وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ لِعَارِضٍ يَطْرَأُ، غَيْرِ الْعَارِضِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ3 وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ فَلَا يُطْلَبُ رَفْعُ التَّسَبُّبِ فِي الْمَرَاتِبِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا. أَمَّا الْأُولَى: فَإِذَا فَرَضْنَا نَفْسَ التَّسَبُّبِ مباحا أو مطلوبا على الجملة؛   1 ذلك أن التعلق بالمسببات قد ينسي المسبب الحقيقي، أو ينسي شكره على ما أعطى من نتائج وثمرات، وقد يكون مرهقا لصاحبه؛ لشدة همه وفرط حرصه على المسببات، وخوفه من عدم حصولها، أو حزنه لعدم مجيئها على ما يؤمل، قاله الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص160". 2ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. 3تقدم له ذكر الغفلة التي تعتري العالم حتى تجعله غير عالم بما يفعل، ومثله بمن يطرأ عليه غفلة ترفع منه منفعة العين فيصاب, ولكن هذا العارض لما كان يمنع نفس التكليف، وأصل كلامه أنه منهي عنه ومكلف بعدم التسبب، قال: "غير العارض المتقدم الذكر"، وقوله: "ولا اعتبار به"؛ أي: بهذا العارض هنا لأنه لا يزال معه منهيا عن التسبب ومكلفا. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ لِكَوْنِ السَّبَبِ هُوَ الْفَاعِلَ مَعْصِيَةٌ قَارَنَتْ مَا هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَطْلُوبٌ، فَلَا يُبْطِلُهُ؛ إِلَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ مُفْسِدَةٌ، وَإِنَّ الْمُقَارِنَ لِلْمَعْصِيَةِ تُصَيِّرُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحِ بِالْمُدْيَةِ الْمَغْصُوبَةِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّسَبُّبَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى جَرَيَانِ الْعَادَاتِ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهَا وُقُوعَ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ؛ كَانَ تَرْكُ التَّسَبُّبِ كَإِلْقَاءٍ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ هُوَ هُوَ، وَكَذَلِكَ إِذَا بلغ [اعتقاده] مَبْلَغَ الْقَطْعِ الْعَادِيِّ؛ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَسَبَّبَ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالُوا فِي الْمُضْطَرِّ: إِنَّهُ1 إِذَا خَافَ الْهَلَكَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ أَوِ الِاسْتِقْرَاضُ أَوْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ نَفْسَهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَسْرُوقٌ: "وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ؛ دَخَلَ النَّارَ"2. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَالتَّسَبُّبُ أَيْضًا ظَاهِرٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِيهَا بَحْثٌ: هَلْ يَكُونُ صَاحِبُهَا بِمَنْزِلَةِ3 صَاحِبِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ لَا؟ هَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَإِطْلَاقُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ، وَأَحْوَالُ الْمُتَوَكِّلِينَ مِمَّنْ دَخَلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ التَّصَوُّفِ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ تَسَاوِي الْمَرْتَبَتَيْنِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَطَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُ فِي ذَلِكَ4؛ فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ تَكُونُ علمية وتكون حالية5، والفرق بين العلم   1 سقط من "ط". 2 "استدراك1". 3 لأن الفرق بينهما لا يترتب عليه فرق في غلبة الظن بوقوع المسبب عند السبب؛ فيجيء فيه التفصيل المذكور من وجوب التسبب وعصيانه بتركه. "د". 4 انظر: "إحياء علوم الدين" "4/ 261 وما بعدها". 5 يعلم الإنسان حقيقة التوكل أو الصبر أو الخشية، ولا شك أن علمه بهذه الحقائق وما شاكلها غير اتصافه بها، فإذا ارتقى قلبه إليها، وانصبغت نفسه بأثرها حتى غلب عليها حاله؛ انتقل من حكم العمل بالعلم وحده إلى حكم العمل بالحال المصاحب للعلم؛ فالحال ثمرة العلم، ولا يكمل إلا إذا تصرف في صاحبه على مقتضى قانون العلم المثمر إليه. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وَالْحَالِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَإِذَا كَانَتْ عِلْمِيَّةً؛ فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ1؛ إِذْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ فَاعِلَةٍ بِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ2 فِيهَا مُسَبِّبُهَا سُبْحَانَهُ، لَكِنَّ عَادَتَهُ فِي خَلْقِهِ جَارِيَةٌ بِمُقْتَضَى الْعَوَائِدِ الْمُطَّرِدَةِ، وَقَدْ يَخْرِقُهَا إِذَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَادَةً؛ اقْتَضَتِ الدُّخُولَ فِي الْأَسْبَابِ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْأَسْبَابُ فِيهَا بِيَدِ خَالِقِ الْمُسَبَّبَاتِ؛ اقْتَضَتْ أَنَّ لِلْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا وَبِدُونِهَا؛ فَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ غَلَبَ الطَّرَفُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْعَادِيُّ؛ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ3، وَإِنْ غَلَبَ الثَّانِي؛ فَصَاحِبُهُ مَعَ السَّبَبِ أَوْ بِدُونِهِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنَّهُ إِذَا جَاعَ مَثَلًا فَأَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ؛ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ أَتَسَبَّبَ أَمْ لَا؛ إِذْ هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ أَنَّ السَّبَبَ كَالْمُسَبَّبِ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ -وَالْحَالُ هَذِهِ- أَنَّ تَرْكَهُ لِلسَّبَبِ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛ بَلْ عَقْدُهُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَاحِدٌ؛ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 4 [البقرة: 195] ؛ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَبُّبُ فِي رَفْعِ ذَلِكَ؛ لأن علمه5   1 أي: فهي بمنزلتها، وتشترك معها في المآل؛ فحكمها حكمها. "د". 2 في الأصل: "الدليل"، وهناك إشارة لخطئها مع عدم ذكر الصحيح، والله أعلم. 3 أي: ويكون صاحبها لم يرتق فيها عن الحالة العلمية إلى التحقق بها وصيرورتها صفة له كالطبعية، يجري في أفعاله على مقتضاها دون كلفة ولا حمل لنفسه عليها. "د". 4 في "صحيح مسلم" وغيره أن أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- رد على من فهموا أن حمل الغازي الواحد على جماعة العدو من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وبين لهم أن الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي نزلت فيه الآية هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها، والتحقيق أنه يجوز للواحد الحمل على الكتيبة متى غلب على ظنه أن يكون لإقدامه أثر نافع؛ كالفتك ببعض رجال العدو، أو إرهابهم, أو تشجيع غيره من المسلمين. "خ". 5 أي: الذي صار حالة له كالأوصاف الطبيعية. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 بِأَنَّ السَّبَبَ فِي يَدِ الْمُسَبِّبِ أَغْنَاهُ عَنْ تطلب المسبب من جهته على التعيين، بَلِ السَّبَبُ وَعَدَمُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَكَمَا أَنَّ أَخْذَهُ لِلسَّبَبِ لَا يُعَدُّ إِلْقَاءً بِالْيَدِ إِذَا كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ، كَذَلِكَ فِي التَّرْكِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ آخِذَ السَّبَبِ أَخَذَهُ بِإِسْقَاطِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْمُسَبِّبِ؛ لَكَانَ إِلْقَاءً بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ، وَلَيْسَ فِي السَّبَبِ نَفْسِهِ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا سببا، فلذلك إِذَا تُرِكَ السَّبَبُ لَا لِشَيْءٍ1؛ فَالسَّبَبُ وَعَدَمُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَقْدِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِ الْإِيقَانِ2. وَكُلُّ أَحَدٍ فَقِيهُ نَفْسِهِ، وَقَدْ مَرَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ3، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، [وَعَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ] " 4، وَحَكَى عِيَاضٌ5 عَنِ الْحَسَنِ بْنِ نَصْرٍ السُّوسِيِّ -مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ- أَنَّ ابْنَهُ قَالَ لَهُ فِي سَنَةٍ غَلَا فِيهَا السِّعْرُ: يَا أَبَتِ! اشْتَرِ طَعَامًا؛ فَإِنِّي أَرَى السِّعْرَ قَدْ غَلَا. فَأَمَرَ بِبَيْعِ مَا كَانَ فِي دَارِهِ مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: لَسْتَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْتَ قَلِيلُ الْيَقِينِ، كَأَنَّ الْقَمْحَ إِذَا كَانَ عِنْدَ أَبِيكَ يُنْجِيكَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْكَ! مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ؛ كَفَاهُ اللَّهُ. وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْفِقْهِ؛ الْغَازِي إذا حمل وحده على جيش الكفار؛   1 أي: لا لسبب آخر. "د". 2 تكلم ابن تيمية على نحو ما عند المصنف، ولكن على وجه آخر. انظر: "مجموع الفتاوى" "8/ 520-523". 3 في المسألة الخامسة. 4 مضى تخريجه "ص315"، وهو حديث صحيح، وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط". 5 في "ترتيب المدارك" "6/ 36-ط المغربية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فَالْفُقَهَاءُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ، أَوِ الْهَلَكَةُ، أَوْ يَقْطَعُ بِإِحْدَاهُمَا؛ فَالَّذِي اعْتَقَدَ السَّلَامَةَ جَائِزٌ لَهُ مَا فَعَلَ، وَالَّذِي اعْتَقَدَ الْهَلَكَةَ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [الْبَقَرَةِ: 195] . وَكَذَلِكَ دَاخِلُ الْمَفَازَةِ بِزَادٍ أَوْ بِغَيْرِ زَادٍ؛ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ فِيهَا جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلَكَةَ لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُصُولُ إِلَى الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ؛ أُمِرَ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يَتَيَمَّمُ [فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ لَا مَاءَ يَتَيَمَّمُ] ، [وَكَذَلِكَ رَاكِبُ الْبَحْرِ1 وَعَلَى هَذَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ أَوْ يُمْنَعُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُصُولُ إِلَى الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ] 2، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَرِيضِ زِيَادَةُ الْمَرَضِ أَوْ تَأَخُّرِ الْبُرْءِ أَوْ إِصَابَةُ الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ، أَفْطَرَ ... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ3 عَلَى غَلَبَاتِ الظُّنُونِ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَاتُ الظُّنُونِ تَخْتَلِفُ؛ فَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَمَسْأَلَتُنَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. فَمَنْ تَحَقَّقَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنِ السَّبَبِ كَالدُّخُولِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ضَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى الرِّزْقَ؛ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَبُّبُ فِيهِ, وَلِذَلِكَ نَجِدُ أَصْحَابَ الْأَحْوَالِ يَرْكَبُونَ الْأَهْوَالَ، وَيَقْتَحِمُونَ الْأَخْطَارَ، وَيُلْقُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَا هُوَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَهْلُكَةٌ؛ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مَوَاطِنِ الْغَرَرِ وَأَسْبَابِ الْهَلَكَةِ، يَسْتَوِي مَعَ مَا هُوَ عِنْدَنَا مِنْ مَوَاطِنِ الْأَمْنِ وأسباب النجاة.   1 إذا غلب على ظنه السلامة في ركوب السفينة ركبها، وإلا؛ منع من ركوبها. "د". وانظر في المسألة: "5/ 354" مع التعليق عليه. 2 ينظر في هذا. "د". قلت: انظر في المسألة: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب "1/ 38"، و"الخلافيات" للبيهقي "2/ 519-525" مع تعليقي عليها, وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 3 في الأصل: "المبنيات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ1 عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْإِبَّيَانِيِّ2: "أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ عَطِيَّةُ الْجَزَرِيُّ الْعَابِدُ؛ فَقَالَ لَهُ: أَتَيْتُكَ زَائِرًا وَمُوَدِّعًا إِلَى مَكَّةَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَا تُخْلِنَا مِنْ بَرَكَةِ دُعَائِكَ. وَبَكَى، وَلَيْسَ مَعَ عَطِيَّةَ رَكْوَةٌ وَلَا مِزْوَدٌ، فَخَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ, ثُمَّ أَتَاهُ بِأَثَرِ ذَلِكَ رَجُلٌ؛ فَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! عِنْدِي خَمْسُونَ مِثْقَالًا وَلِي بَغْلٌ؛ فَهَلْ تَرَى لِي الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى تُوَفِّرَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ. قَالَ الرَّاوِي: فَعَجِبْنَا مِنَ اخْتِلَافِ جَوَابِهِ لِلرَّجُلَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمَا. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: عَطِيَّةُ جَاءَنِى مُوَدِّعًا غَيْرَ مُسْتَشِيرٍ، وَقَدْ وَثِقَ بِاللَّهِ، وَجَاءَنِي هَذَا يَسْتَشِيرُنِي وَيَذْكُرُ مَا عِنْدَهُ؛ فَعَلِمْتُ ضَعْفَ نِيَّتِهِ، فَأَمَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُمْ". فَهَذَا إِمَامٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَفْتَى لِضَعِيفِ النِّيَّةِ بِالْحَزْمِ فِي اسْتِعْدَادِ الْأَسْبَابِ، وَالنَّظَرِ فِي مُرَاعَاتِهَا، وَسَلَّمَ لِقَوِيِّ الْيَقِينِ فِي طَرْحِ الْأَسْبَابِ3؛ بِنَاءً -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَغَلَبَاتِ الظُّنُونِ فِي السَّلَامَةِ والهلكة، وهي مَظَانُّ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي النَّازِلَةِ الْوَاحِدَةِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ؛ فَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ؛ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ له؛ الدخول في السبب, أم تركه؟   1 في "ترتيب المدارك" "2/ 351 - ط مكتبة دار الحياة - بيروت". 2 قال عياض في "ترتيب المدارك" "2/ 347": "بكسر الهمزة وتشديد الباء ويقال: صوابه تخفيفهما". وانظر: "التبصير" "1/ 36"، و"الأنساب" "1/ 128" مع الحاشية. 3 تهافت على هذا المسلك طوائف زين لهم الكسل أن يفسروا به معنى فضيلة التوكل؛ فنفضوا أيديهم من العمل واستعاضوا عنه البطالة والتطلع بما في أيدي الناس؛ فكانوا حملا ثقيلا على أعناق العاملين، ومن البلية أن هذا التحريف الباطل لكلمة التوكل قد ضرب وباؤه في القلوب، وكان من أكبر العلل التي قعدت بالشعوب الإسلامية عن القيام بوسائل المنعة حتى هوت إلى درك الشقاء والتخبط في أسر الذلة والاضطهاد. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَسْبَابَ فِي حَقِّهِ لَا بُدَّ مِنْهَا، كَمَا أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ وَإِنْ قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْأَسْبَابِ فِي حَقِّهِ؛ فَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا أَسْبَابٌ، لَكِنَّهَا أَسْبَابٌ غَرِيبَةٌ، وَالتَّسَبُّبُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْهُورَةِ؛ فَالْخَارِجُ مَثَلًا لِلْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ؛ إِمَّا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ مَنْ يَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِي الْبَادِيَةِ وَفِي الصَّحْرَاءِ، وَإِمَّا مِنْ حَيَوَانِ الصَّحْرَاءِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْأَرْضِ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَسْبَابٌ جَارِيَةٌ، يَعْرِفُهَا أَرْبَابُهَا الْمَخْصُوصُونَ بِهَا؛ فَلَيْسَ هَذَا الرَّجُلُ خَارِجًا عَنِ الْعَمَلِ بِالْأَسْبَابِ، وَمِنْهَا الصَّلَاةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] . وَرُوِيَ أَنَّهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يَجِدُوا قُوتًا"1، وإذا كان كذلك؛ فالسؤال غير وارد.   1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ 487"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 176"، والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 9705"، وسعيد بن منصور في "سننه" وابن المنذر في "تفسيره"؛ كما قال السيوطي في "حصول الرفق" "رقم 29" من طريق معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام؛ قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق؛ أمرهم بالصلاة، وتلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ". ورجاله ثقات؛ كما في "مجمع الزوائد" "7/ 67"، إلا أنه منقطع، محمد بن حمزة لم يسمع من جده عبد الله بن سلام. وله شاهد من مرسل ثابت البناني؛ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أصابه خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه! يا أهلاه! صلوا ". أخرجه أحمد في "الزهد" "10"، وابن أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 79"- وهو مرسل؛ فالحديث ضعيف. وأخرج عبد الرزاق نحوه بإسناد ضعيف، وانظر: "الدر المنثور" "5/ 613"، و"الفتح السماوي بتخريج أحاديث تفسير البيضاوي" "2/ 824-825". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وَالثَّانِي, عَلَى تَسْلِيمِ وُرُودِهِ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعلم قَطْعًا أَنَّهُمْ حَازُوا هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ وَاسْتَيْقَنُوهَا حَالًا وَعِلْمًا، وَلَكِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَدَبَهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَا يُعْتَدُّ بها مقاما يقام1 فِيهِ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ" 2؟! وَأَيْضًا؛ فَأَصْحَابُ هَذِهِ الْحَالَةِ هُمْ أَهْلُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَعَهَا التَّسَبُّبَ تَأَدُّبًا بِآدَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَتْرُكُوا الْأَفْضَلَ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَرْتَبَةُ الِابْتِلَاءِ؛ فَالتَّسَبُّبُ فِيهَا أَيْضًا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ صَارَتْ عِنْدَ صَاحِبِهَا تَكْلِيفًا يُبْتَلَى بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَسْبَابِ الْعِبَادِيَّةِ دُونَ الْعَادِيَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْأَسْبَابَ الْعِبَادِيَّةَ لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّرْكُ اعْتِمَادًا عَلَى الَّذِي سَبَّبَهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَصْرُوفَةً إِلَيْهِ؛ كَذَلِكَ الْأَسْبَابُ الْعَادِيَّةُ، وَمِنْ هُنَا لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ مَنْزِلَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: "لَا، اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ". ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [اللَّيْلِ: 5] إِلَى آخِرِهَا3؛ فَكَذَلِكَ الْعَادِيَّاتُ؛ لِأَنَّهَا عبادات، فهي عنده جارية على الأحكام   1 في الأصل: "يقدم"، وفي النسخ المطبوعة: "يقوم"، والمثبت من "ط". 2 مضى تخريجه "ص304" وهو حديث حسن. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا، 11/ 494/ رقم 6605"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابه: رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، 4/ 2040/ رقم 2647" بألفاظ، المذكور لفظ مسلم برقم "2647" بعد "7"، ولكن ليس فيه لفظة "منفوسة"، وهي فيه برقم "2647" بعد "1"، لكن بلفظ مغاير عن هذا السياق، وهو من حديث علي, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الْمَوْضُوعَةِ، وَنَظَرُ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي الْأَسْبَابِ مِثْلُ نَظَرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ، يَعْتَبِرُ فِيهَا مُجَرَّدَ الْأَسْبَابِ وَيَدَعُ الْمُسَبَّبَاتِ لِمُسَبِّبِهَا. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: فَالتَّسَبُّبُ فِيهَا صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا وَإِنْ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَبَبٌ، وَلَا إِلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ بَابٍ أَحْرَى؛ فَلَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ رَاقٍ بِهِ وَمُلَاحَظٌ لِلْمُسَبِّبِ مِنْ جِهَتِهِ، بِدَلِيلِ الْأَسْبَابِ الْعِبَادِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا صَارَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ لِكَوْنِهَا سُلَّمًا إِلَى الْمُتَعَبِّدِ إِلَيْهِ بِهَا؛ فَلَا فَارِقَ بَيْنَ الْعَادِيَّاتِ وَالْعِبَادِيَّاتِ؛ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَأْخُوذٌ فِي تَجْرِيدِ الْأَغْيَارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَرُبَّمَا رَمَى مِنَ الْأَسْبَابِ بِمَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، وَضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَجَالَ فِيهَا، فِرَارًا مِنْ تَكَاثُرِهَا عَلَى قَلْبِهِ؛ حَتَّى يَصِحَّ لَهُ اتِّحَادُ الْوِجْهَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ؛ فَلَا شَكَّ فِي أَخْذِهَا فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ؛ إِذْ مِنْ جِهَتِهَا يَصِحُّ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا السَّادِسَةُ: فَلَمَّا كَانَتْ جَامِعَةً لِأَشْتَاتِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا؛ كَانَ مَا يَشْهَدُ لِمَا قَبْلَهَا شَاهِدًا لَهَا؛ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ آخَرَ؛ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ أَكَانَ التَّكْلِيفُ ظَاهِرَ الْمَصْلَحَةِ أَمْ غَيْرَ ظَاهِرِهَا؛ كُلُّ ذَلِكَ تَحْتَ قَصْدِ الْعَبْدِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهِ بَعْضُ الْوُجُودِ أَوْ جميعه؛ كان قصد فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ شَامِلًا لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِيقَاعُ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبِ، قُصِدَ ذَلِكَ الْمُسَبَّبُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جعل مسبب عَنْهُ فِي مَجْرَى الْعَادَاتِ؛ عُدَّ كَأَنَّهُ فَاعِلٌ لَهُ مُبَاشَرَةً، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قَاعِدَةُ مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ إِذْ أُجْرِيَ فِيهَا نِسْبَةُ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا، كَنِسْبَةِ الشِّبَعِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالْإِرْوَاءِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْإِحْرَاقِ إِلَى النَّارِ، وَالْإِسْهَالِ إِلَى السَّقَمُونْيَا1، وَسَائِرِ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا2؛ فَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَتَسَبَّبُ عَنْ كَسْبِنَا مَنْسُوبَةً إِلَيْنَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ كَسْبِنَا، وَإِذْ كَانَ هَذَا مَعْهُودًا مَعْلُومًا؛ جَرَى عُرْفُ الشَّرْعِ فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ. وَأَدِلَّتُهُ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ أَوِ الْمَمْنُوعَةِ؛ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا 3} [الْمَائِدَةِ: 32] . وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" 4. وَفِيهِ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً؛ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" 5. وَكَذَلِكَ: "مَنْ سَنَّ سنة سيئة".   1 السقمونيا: نبات يستخرج منه دواء مسهل للبطن؛ كما في "المعجم الوسيط" "س ق م". 2 في الأصل: "الأسباب إلى مسبباتها". 3 هذا مبني على أن المراد بالقتل والإحياء المسبب، وهو في الآيتين زهوق الروح والحياة؛ فيكون فيه نسبة المسبب وهو الحياة والموت إلى المتسبب، وقد سبق له في المسألة الثانية جعل القتل سببا لا مسببا، ويمكن إرادته هنا؛ فلا يكون فيه دليل. "د". 4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين". 5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَفِيهِ1: "إِنَّ الْوَلَدَ لِوَالِدَيْهِ سِتْرٌ مِنَ النَّارِ" 2، و "إن مَنْ غَرَسَ غَرْسًا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ؛ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أكلت الطير؛ فهو له صدقة، ولا يرزؤ هـ 3 أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً" 4، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ، وَالْعَالِمُ يَبُثُّ الْعِلْمَ؛ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ كُلِّ مَنِ انْتَفَعَ بِهِ5. وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى، مَعَ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ الَّتِي حَصَلَ بِهَا النَّفْعُ أَوِ الضُّرُّ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْمُتَسَبِّبِ.   1 من هنا إلى آخر المسألة واضح فيه نسبة المسبب إلى المتسبب، وهو يدل على مدعاه. "د". 2 لم أظفر به بهذا اللفظ، ولكن أخرج أحمد في "المسند" "4/ 386" ضمن حديث عمرو بن عبسة السلمي, مرفوعا: "وأيما رجل مسلم قدم لله -عز وجل- من صلبه ثلاثة لم يبلغوا الحنث أو امرأة؛ فهم له سترة من النار ". وقد خرجته في تحقيقي لرسالة السيوطي "التعلل والإطفا" "رقم 21"، وهو صحيح. 3 أي: لا ينقصه ويأخذ منه. 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، 3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة؛ إلا كان له به صدقة". وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1552" عن جابر بلفظ: " ما من مسلم يغرس غرسا؛ إلا كان من أكل منه ... " تتمته باللفظ الذي أورده المصنف. 5 قال الشيخ ابن عرفة في حديث: "أو علم ينتفع به" إنما تدخل التآليف في الأعمال التي لا ينقطع ثوابها إذا اشتملت على فوائد زائدة "يعني: على ما في الكتب السابقة"، وإلا؛ فهي إضاعة للورق، وهذا تلميح منه إلى انحطاط درجة من ليس له من المعلومات سوى ما يتلقاه بتقليد، وشرف من رزق فكرا يتجول في حدائق العلم حتى يعود بثمر جديد. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالدَّاخِلُ فِي السَّبَبِ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لِمُسَبَّبِهِ، لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ مُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ بِجَمِيعِ التَّفَاصِيلِ, وَتَارَةً يَدْخُلُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ يَقْتَضِيهَا فِعْلُهُ، وَمَا نَهَى عَنْهُ؛ فَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِمَفْسَدَةٍ يَقْتَضِيهَا فِعْلُهُ, فَإِذَا فَعَلَ؛ فَقَدْ دَخَلَ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِيمَا تَحْتَ السَّبَبِ مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ عَدَمُ عِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ بِمَقَادِيرِهِمَا, فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ فِي إِيقَاعِ [الْمَأْمُورِ بِهِ مَصْلَحَةً عَلِمَهَا اللَّهُ، وَلِأَجْلِهَا أَمَرَ بِهِ، وَالنَّهْيَ قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ فِي إِيقَاعِ] 1 الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَفْسَدَةً عَلِمَهَا اللَّهُ، وَلِأَجْلِهَا نَهَى عَنْهُ؛ فَالْفَاعِلُ مُلْتَزِمٌ لِجَمِيعِ مَا يُنْتِجُهُ ذَلِكَ السَّبَبُ مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ جَهِلَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُثَابُ أَوْ يُعَاقَبُ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَتَعَاطَاهُ، لَا عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ لَكِنَّ الْفِعْلَ يُعْتَبَرُ شَرْعًا بِمَا يَكُونُ عَنْهُ2 مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ وَقَدْ بَيَّنَ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَمَيَّزَ بَيْنَ مَا يَعْظُمُ مِنَ الْأَفْعَالِ مَصْلَحَتُهُ؛ فَجَعَلَهُ رُكْنًا، أَوْ مَفْسَدَتُهُ؛ فَجَعَلَهُ كَبِيرَةً وَبَيَّنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَسَمَّاهُ فِي الْمَصَالِحِ إِحْسَانًا وَفِي الْمَفَاسِدِ صَغِيرَةً، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَمَيَّزُ مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ، وَمَا هُوَ مِنْ فُرُوعِهِ وَفُصُولِهِ وَيُعْرَفُ مَا هُوَ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرُ، وَمَا هُوَ مِنْهَا صَغَائِرُ، فَمَا عَظَّمَهُ الشَّرْعُ فِي الْمَأْمُورَاتِ؛ فَهُوَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَمَا جَعَلَهُ دُونَ ذَلِكَ؛ فَمِنْ فُرُوعِهِ وَتَكْمِيلَاتِهِ، وَمَا عَظُمَ أَمْرُهُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ؛ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ, وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَذَلِكَ على مقدار المصلحة أو المفسدة3.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "والنهي كذلك قد ... ". 2 أي: يقيم الفعل بما يترتب عليه. 3 سيأتي للمصنف بيان فيه ضابط أدق للفرق بين الضروريات والحاجيات؛ وذلك في المسألة السابعة عشرة في النوع الرابع من القسم الأول من المقاصد، وفي "الاعتصام" "2/ 38-39" للمصنف نحو ما ذكر هنا مع تفصيل زائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ أَنَّ الْمُسَبِّبَاتِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ، وَأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِهِ، إِذَا اعْتُبِرَ يَنْبَنِي عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُتَعَاطِيَ السَّبَبِ إِذَا أَتَى بِهِ بِكَمَالِ شُرُوطِهِ1 وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، ثُمَّ قُصِدَ أَنْ لَا يَقَعَ مُسَبَّبُهُ؛ فَقَدْ قَصَدَ مُحَالًا، وَتَكَلَّفَ رَفْعَ مَا لَيْسَ لَهُ رَفْعُهُ، وَمَنَعَ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ مَنْعُهُ. فَمَنْ عَقَدَ نِكَاحًا عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، أَوْ بَيْعًا أَوْ شَيْئًا مِنَ الْعُقُودِ، ثُمَّ قَصَدَ أَنْ لَا يَسْتَبِيحَ بِذَلِكَ الْعَقْدِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ وَقَعَ قَصْدُهُ عَبَثًا، وَوَقَعَ الْمُسَبَّبُ الَّذِي أَوْقَعَ سَبَبَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْقَعَ طَلَاقًا أَوْ عِتْقًا قَاصِدًا بِهِ مُقْتَضَاهُ فِي الشَّرْعِ, ثُمَّ قَصَدَ أَنْ لَا يَكُونَ مُقْتَضَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ قَصْدٌ بَاطِلٌ، وَمِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ؛ إِذَا صَلَّى، أَوْ صَامَ، أَوْ حَجَّ كَمَا أُمِرَ، ثُمَّ قَصَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ مَا أَوْقَعَ مِنَ الْعِبَادَةِ لَا يَصِحُّ لَهُ، أَوْ لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ لَغْوٌ. وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ، وَفِيهِ جَاءَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية: [المائدة: 87] 2.   1 وضع الأصل من أول الأمر على أنه تعاطى السبب بكمال شروطه ثم قصد ألا يقع ... إلخ، وفي تمثيلاته أيضا في العادات والعبادات لاحظ ذلك ليسلم له الأصل من الإشكالات الآتية؛ فأنت تراه جعل القصد المخالف لقصد الشارع لاحقا لتمام العمل لا مقارنا، إلا أنه يبقى الكلام في قوله في الطلاق والعتق؛ "قاصدا به مقتضاه في الشرع", إن كان مراده أنه لم يغلط ولم يسبق لسانه فواضح، وإن كان مراده ما هو ظاهره من أنه لا بد من قصد المعنى؛ فالفقه عند المالكية غير ذلك، بل لو كان هازلا لوقع الطلاق والعتق، ولم يكن له رفعه. "د". 2 فقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ..} إلخ بعد ذكر التحريم يفيد أن التحريم السابق المنهي عنه لغو؛ كأنه قال: وكلوا من هذا الطيب الذي حرمتموه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَمِنْ هُنَا كَانَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَبَثًا؛ مِنَ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ, وَالْمَلْبُوسِ، وَالنِّكَاحِ، وَهُوَ غَيْرُ نَاكِحٍ فِي الْحَالِ وَلَا قَاصِدٍ لِلتَّعْلِيقِ فِي خَاصٍّ1 -بِخِلَافِ الْعَامِّ- وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ مَا تَوَلَّى اللَّهُ حِلِّيَّتَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الْمُكَلَّفِ ظَاهِرٌ مِثْلُ مَا تَعَاطَى الْمُكَلَّفُ السَّبَبَ فِيهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ, عليه الصلاة والسلام: "إنما الو لاء 2 لِمَنْ أَعْتَقَ" 3، وَقَوْلُهُ: "مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ" 4 الْحَدِيثَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِوُقُوعِ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَصْدُ هَذَا الْقَاصِدِ مُنَاقِضٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَكُلُّ قَصْدٍ ناقض قصد الشارع فباطل5؛   1 احتاج إليه على مذهب مالك لا على مذهب الشافعي؛ فالتعليق عنده كله لغو. "د". 2 فالشارع جعل الولاء لمن أعتق مسببا عن عتقه؛ فمن وقع العتق منه ثبت له الولاء، فمن أراد رفعه قَصَدَ مُحَالًا وَتَكَلَّفَ رَفْعَ مَا لَيْسَ لَهُ رفعه، وهو دليل على أصل المسألة, وإن كان في موضوع خاص بالولاء. "د". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق، 12/ 39/ رقم 6751، 6754"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1141/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها. 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، 4/ 376/ رقم 2168"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1042/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها. وهو وما قبله دليل على أن ما جعله الله مسببا عن شيء، فقصد العبد رفع هذا المسبب لغو؛ إلا أن الأول خاص، وهذا عام في الولاء وغيره. "د". 5 من الفروع الموضحة لهذه القاعدة أن الزوج لا يملك إسقاط الرجعة لأنها حق أثبته الله شرعا، فمن قال لزوجته: أنت طالق ولا رجعة لي عليك؛ نفذ طلاقه وبقي حق الرجعة في يده لأنها من الحقوق التي رتبها الشارع على الطلاق غير البائن، وما قرره الشارع لا يملك المكلف رفعه بحال. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فَهَذَا الْقَصْدُ بَاطِلٌ، وَالْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُكَلَّفِ وَقَصْدَهُ شَرْطٌ فِي وَضْعِ الْأَسْبَابِ1، فَإِذَا كَانَ اخْتِيَارُهُ مُنَافِيًا لِاقْتِضَاءِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا؛ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَسْبَابَ لَمْ يَتَعَاطَهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى كَمَالِهَا، بَلْ مَفْقُودَةُ الشَّرْطِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ جِهَةِ فَقْدِ الشَّرْطِ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْمُسَبَّبَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْأَسْبَابِ غَيْرَ وَاقِعَةٍ لِفَقْدِ الِاخْتِيَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَصْدَ الْمُنَاقِضَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَتَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ مَثَلًا بِقَصْدِ أَنْ لَا تَكُوَنَ مُبِيحَةً مُنَاقِضَةً لِقَصْدِ الشَّارِعِ ظَاهِرَةٌ، مِنْ حَيْثُ كَانَ قصد الشارع التحليل2 بِوَسَاطَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ فَيَكُونُ إِذًا تَعَاطِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَاطِلًا وَمَمْنُوعًا؛ كَالْمُصَلِّي قَاصِدًا بِصَلَاتِهِ مَا لَا تُجْزِئُهُ لِأَجْلِهِ, وَالْمُتَطَهِّرِ يَقْصِدُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَبِيحًا لِلصَّلَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ وَالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْفَرْضَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَوْقِعِ الْأَسْبَابِ بِالِاخْتِيَارِ لِأَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا, لَكِنْ مَعَ عَدَمِ اخْتِيَارِهِ لِلْمُسَبَّبِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي مَوْقِعِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا سَابِقٌ عَلَى الْآخَرِ؛ فَلَا يَتَنَافَيَانِ؛ كَمَا إِذَا قَصَدَ الْوَطْءَ وَاخْتَارَهُ وَكَرِهَ خَلْقَ الْوَلَدِ، أَوِ اخْتَارَ وَضْعَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ وَكَرِهَ نَبَاتَهُ، أَوْ رَمَى بِسَهْمٍ صَوَّبَهُ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ كَرِهَ أن يصيبه، وما أشبه   1 فإن الأفعال والتروك إذا عريت عن القصد كانت لغوا, كما تقرر في المسألة السادسة من كتاب الأحكام. "د". 2 في جميع النسخ "التحصيل" والمثبت من "ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ذلك، فكما يمكن اجتماعها1 فِي الْعَادِيَّاتِ؛ فَكَذَلِكَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ فَاعِلَ السَّبَبِ فِي مَسْأَلَتِنَا قَاصِدٌ أَنْ يَكُونَ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ مُنْتِجًا غَيْرَ مُنْتَجٍ, وَمَا وَضَعَهُ سَبَبًا فَعَلَهُ هُنَا عَلَى أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَا يَكُونُ لَهُ مُسَبَّبٌ، وَهَذَا لَيْسَ لَهُ؛ فَقَصْدُهُ فِيهِ عَبَثٌ بِخِلَافِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي قَاعِدَةِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ؛ فَإِنَّ فَاعِلَ السَّبَبِ فِيهِ قَاصِدٌ لِجَعْلِهِ سَبَبًا لمسب لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ مُسَبَّبًا لَهُ، كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِمَنْعِهِ؛ فَإِنَّهُ قَاصِدٌ بِنِكَاحِهِ التَّحْلِيلَ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَضَعِ الشَّارِعُ النِّكَاحَ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ؛ فَقَارَنَ هَذَا الْقَصْدُ الْعَقْدَ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا شرعيا2؛ فلم يكن محللا لِلنَّاكِحِ وَلَا لِلْمُحَلَّلِ لَهُ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَخَذَ السَّبَبَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ3، وَالْآخَرَ أَخَذَهُ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَا يُنْتِجُ؛ فَالْأَوَّلُ لَا يُنْتِجُ لَهُ شَيْئًا، وَالْآخَرُ يُنْتِجُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْإِنْتَاجُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَا عَدَمِهِ، فَهَذَا لَمْ يُخَالِفْ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَبَبٌ، وَلَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مُسَبَّبُهُ، وَهَذَا كَذِبٌ أَوْ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَالْأَوَّلُ تَعَاطَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِالسَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّارِعِ؛ فَاعْرِفِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ فَهُوَ دَقِيقٌ. وَيُوَضِّحُهُ4 أَنَّ الْقَصْدَ فِي أَحَدِهِمَا مُقَارِنٌ لِلْعَمَلِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ، وَالْآخِرِ تَابِعٌ لَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ.   1 أي: اختيار السبب وقصده ليكون سببا، وقصده عدم المسبب، وقوله: "العاديات"؛ أي: الأمثلة الثلاثة. "د". 2 في الأصل: "مرعيا". 3 أي: مع أنه ليس بسبب, أي: قصد به ما لم يجعل سببا له، والثاني بعد ما تعاطى السبب كاملا قصد ألا يقع مسببه وطلب رفع الواقع كما يقولون. "د". 4 أي: يوضح المقام في ذاته لا الحاصل المتقدم. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَكُونُ هَذَا فِي الْحُكْمِ كَالرَّفْضِ فِي الْعِبَادَاتِ؟ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ رَفْضٌ لِكَوْنِهِ سَبَبًا شَرْعِيًّا؛ فَالطَّهَارَةُ مَثَلًا سَبَبٌ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، فَإِذَا قُصِدَ أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ فَهُوَ مَعْنَى رَفْضِ النِّيَّةِ فِيهِ، وقد قالوا: إن رفض النية ينهض سَبَبًا فِي إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ؛ فَرَجَعَ الْبَحْثُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِبْطَالٌ لِأَنْفُسِ الْأَسْبَابِ1 لَا إِبْطَالُ الْمُسَبَّبَاتِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الرَّفْضُ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ إِذَا كَانَ قَاصِدًا بِهَا امْتِثَالَ الْأَمْرِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ بِنْيَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بِعِبَادَتِهِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا؛ كَالْمُتَطَهِّرِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ، ثُمَّ يَنْسَخُ تِلْكَ النِّيَّةَ بِنْيَةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنَظُّفِ مِنَ الْأَوْسَاخِ الْبَدَنِيَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَا تَمَّتِ الْعِبَادَةُ وَكَمُلَتْ عَلَى شُرُوطِهَا؛ فَقَصْدُهُ أَنْ لَا تَكُونَ عِبَادَةً وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ إِجْزَاءٍ أَوِ اسْتِبَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهَا؛ بَلْ هِيَ عَلَى حُكْمِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَصْدُ؛ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ. وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ كَلَامَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرَّفْضِ، وَقَالَ إِنَّهُ يُؤَثِّرُ، ولم يفصل2   1 أي: فيعود الإشكال الأول. "د". 2 بل جعل رفض الوضوء ولو بعد تمامه وقبل أداء الصلاة به مبطلا له. "د". قلت: من نسب القول إلى مالك بأن رفض النية له أثر في بطلان الطهارة بعد تمامها لم يأخذه من نص كلامه، وإنما قاسوه على قوله: "من تصنع لنوم؛ فعليه الوضوء، وإن لم ينم". قالو: هذه عبادة يبطلها الحدث؛ فصح رفضها. والقول بهذا قول عند الشافعية، والصحيح المشهور في مذهبهم أنها لا تبطل، ومن الغريب أن يحكي القرافي في "الذخيرة" "1/ 244-ط المصرية، و2/ 520-ط دار الغرب" أن رفض الصلاة والصوم يؤثر ولو بعد الكمال، ويقول: "هذا هو المشهور عندهم"؛ إلا أنه استشكل هذا بأنه يقتضي إبطال جميع الأعمال، ولعل القول الفصل في هذه المسألة ما قاله ابن رشد: "من ادعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض؛ فعليه الدليل". انظر: "مواهب الجليل" "1/ 241"، و"المجموع" "1/ 388"، و"نهاية الأحكام في بيان ما للنية من الأحكام" "45 وما بعدها"، و"مقاصد المكلفين" "239-240"، وانظر رفض النية في أثناء العبادة: "المحلى" "6/ 174" و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"المجموع" "6/ 331-332" وما سيأتي "3/ 16". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ فِي رَفْضِ الْوُضُوءِ وَخِلَافَهُمْ فِيهِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ هُنَا لَهَا وَجْهَانِ فِي النَّظَرِ: فَمَنْ نَظَرَ1 إِلَى فِعْلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي؛ قَالَ: إِنَّ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِهَا لَازِمٌ وَمُسَبَّبٌ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ فَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ إِلَّا بِنَاقِضٍ طَارِئٍ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى حُكْمِهَا -أَعْنِي: حُكْمَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، مُسْتَصْحِبًا إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ, وَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ- فَيُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ الْأُولَى الْمُقَارِنَةِ لِلطَّهَارَةِ، وَهِيَ بِالنِّيَّةِ الْمُنَافِيَةِ مَنْسُوخَةٌ؛ فَلَا يَصِحُّ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ الْآتِيَةِ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالرَّفْضِ الْمُقَارِنِ لفعل، وَلَوْ قَارَنَ الْفِعْلَ لَأَثَّرَ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا، فَلَوْ رَفَضَ نِيَّةَ الطَّهَارَةِ بَعْدَمَا أَدَّى بِهَا الصَّلَاةَ وَتَمَّ حُكْمُهَا؛ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَفَضَ تِلْكَ الصَّلَاةَ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ أَتَى بِهَا عَلَى مَا أمر به، فإن قال به [أحد] فِي مِثْلِ هَذَا2؛ فَالْقَاعِدَةُ ظَاهِرَةٌ فِي خِلَافِ مَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ. هَذَا حُكْمُ الْأَسْبَابِ إِذَا فُعِلَتْ بِاسْتِكْمَالِ شَرَائِطِهَا وَانْتِفَاءِ موانعها، وأما إذا   1 مآل الفرق بين النظرين أن من اعتبر الوضوء عبادة تامة مستقلة بنفسها بقطع النظر عن الصلاة وإن كانت شرطا فيها؛ قال: لا يؤثر الرفض بعدما تمت، ومن نظر إلى أن الوضوء شرط في صحة الصلاة وكأنه جزء منها؛ لم يجعل تمامه إلا بأداء الصلاة، فرفضه قبل الصلاة رفض له قبل تمامه؛ فيؤثر فيه. "د". 2 أي: فإن قال: إن الوضوء يبطل حتى إذا كان رفضه بعد تمام الصلاة به؛ فيكون مخالفا للقاعدة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 لَمْ تُفْعَلِ الْأَسْبَابُ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَلَا اسْتَكْمَلَتْ شَرَائِطَهَا، وَلَمْ تَنْتِفْ مَوَانِعُهَا؛ فَلَا تَقَعُ مُسَبَّبَاتُهَا شَاءَ الْمُكَلَّفُ أَوْ أَبَى لِأَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَيْسَ وُقُوعُهَا أَوْ عَدَمُ وُقُوعِهَا لِاخْتِيَارِهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْهَا أَسْبَابًا مُقْتَضِيَةً إِلَّا مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، فَإِذَا لَمْ تَتَوَفَّرْ؛ لَمْ يَسْتَكْمِلِ السَّبَبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا شرعيا، سواء علينا أقلنا: إن الشرط وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ أَجْزَاءُ أَسْبَابٍ أَمْ لَا؛ فَالثَّمَرَةُ وَاحِدَةٌ. وَأَيْضًا، لَوِ اقْتَضَتِ الْأَسْبَابُ مُسَبَّبَاتِهَا وَهِيَ غَيْرُ كَامِلَةٍ بِمَشِيئَةِ الْمُكَلَّفِ، أَوِ ارْتَفَعَتِ اقْتِضَاءَاتُهَا وَهِيَ تَامَّةٌ؛ لَمْ يَكُنْ لِمَا وَضَعَ الشَّارِعُ منها فائدة، ولكان وضعه لها عَبَثًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً هُوَ أَنْ تَقَعَ مُسَبَّبَاتُهَا شَرْعًا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا غَيْرَ أَسْبَابٍ شَرْعًا أَنْ لَا تَقَعَ مُسَبَّبَاتُهَا شَرْعًا، فَإِذَا كَانَ اخْتِيَارُ الْمُكَلَّفِ يَقْلِبُ حَقَائِقَهَا شَرْعًا؛ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَضْعٌ مَعْلُومٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهَا مَوْضُوعَةً فِي الشَّرْعِ عَلَى وَضْعٍ مَعْلُومٍ، هَذَا خَلْفٌ مُحَالٌ؛ فَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِثْلُهُ, وَبِهِ يَصِحُّ أَنَّ اخْتِيَارَاتِ الْمُكَلَّفِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ1. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، أَوْ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ، أَوْ بِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ لِذَاتِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ -وهو الذي لم يستكمل الشروط ولا   1 ليس في يد المكلف أن يتصرف فيما وضع من الأسباب التي تترتب عليها مصالح تعود إلى غيره بإجماع، فإن كان الوضع الشرعي قائما على مراعاة حظ ذلك المكلف خاصة؛ فهذا هو الذي يطرقه الاختلاف وتتفاوت الأنظار في تحقيق أمره، ومن هذا نشأ الخلاف في بعض مسائل يلتزم فيها المكلف ما لا يلزمه شرعا كمن التزم عدم القيام بعيب يجده في المبيع، والذي يرى أن التزامه لغو يبني الحكم على أن الشارع جعل القيام بالعيب حقا للمشتري؛ فالتزامه لإسقاطه لا يؤثر في وضعه الشرعي وله التمسك به حيث أراد. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 انْتَفَتْ مَوَانِعُهُ- يُفِيدُ حُصُولَ الْمُسَبَّبِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ1 مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ عِنْدَهُ تُفِيدُ مِنْ أَوَّلِهَا شُبْهَةَ مِلْكٍ عِنْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَأَيْضًا؛ فَتُفِيدُ الْمِلْكَ بِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُفِيتُ الْعَيْنَ, وَكَذَلِكَ الْغَصْبُ وَنَحْوُهُ يُفِيدُ عِنْدَهُ الْمِلْكَ وَإِنْ لَمْ تَفُتْ عَيْنُ الْمَغْصُوبِ فِي مَسَائِلَ، وَالْغَصْبُ أَوْ نَحْوُهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مِنْ أَصْلِهِ؛ فَيَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَحْصُلُ بِهِ الْمُسَبَّبُ، إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ مُطْلَقًا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ عامة، إفادة الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ2 لِأُمُورٍ أُخَرَ خَارِجَةٍ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ3، وَبَيَانُ ذلك لا يسع ههنا، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَصْلٌ: وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ أَنَّ الْفَاعِلَ لِلسَّبَبِ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُسَبَّبَ لَيْسَ إِلَيْهِ إِذَا وَكَلَهُ إِلَى فَاعِلِهِ وَصَرَفَ نَظَرَهُ عَنْهُ؛ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّبْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَحْظُورَةِ، وَالشُّكْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْمَرَضِيَّةِ, وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْبَعْضِ، عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ! أَمَّا الْإِخْلَاصُ؛ فَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ -إِذَا لَبَّى الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي السَّبَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا سِوَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ- خَارِجٌ عَنْ حُظُوظِهِ، قَائِمٌ بِحُقُوقِ رَبِّهِ، وَاقِفٌ   1 أي: وكما قاله أبو حنيفة وغيره في عدم الحد، وفي ثبوت النسب في نكاح المحارم. فقالوا: إن هذا ليس حكم العقد، وإنما هو شيء آخر، وهو حكم الشبهة بصورة العقد، ولم يقل به الأئمة الثلاثة، بل أوجبوا الحد وعدم ثبوت النسب. "د". 2 في الأصل: "هي". 3 من هذه الأمور مراعاة الخلاف في البيوع التي اختلف أهل العلم في إجازتها. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 مَوْقِفَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبِ وَرَاعَاهُ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ، فَصَارَ تَوَجُّهُهُ إِلَى رَبِّهِ بِالسَّبَبِ, بِوَاسِطَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ فِي الْإِخْلَاصِ. وَأَمَّا التَّفْوِيضُ؛ فَلِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسَبَّبَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ مَا كُلِّفَ بِهِ, وَلَا هُوَ مِنْ نَمَطِ مَقْدُورَاتِهِ؛ كَانَ رَاجِعًا بِقَلْبِهِ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ فَصَارَ مُتَوَكِّلًا وَمُفَوِّضًا، هَذَا فِي عُمُومِ التَّكَالِيفِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ، وَيَزِيدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْدَ التَّسَبُّبِ خَائِفًا وَرَاجِيًا1، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ2 يَلْتَفِتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ بِالدُّخُولِ فِي السَّبَبِ؛ صَارَ مترقبا له ناظرا إلى ما يئول إِلَيْهِ تَسَبُّبُهُ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى إِعْرَاضِهِ عَنْ تَكْمِيلِ السَّبَبِ اسْتِعْجَالًا لِمَا يُنْتِجُهُ؛ فَيَصِيرُ تَوَجُّهُهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَقَدْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إِلَى مَا طُلِبَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَهُنَا تَقَعُ حِكَايَةُ مَنْ سَمِعَ أَنَّ "مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"3؛ فَأَخَذَ -بِزَعْمِهِ- فِي الْإِخْلَاصِ لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ، فَتَمَّ الْأَمَدُ وَلَمْ تَأْتِهِ الْحِكْمَةُ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا أَخْلَصْتَ لِلْحِكْمَةِ وَلَمْ تُخْلِصْ لِلَّهِ. وَهَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي مُلَاحَظَاتِ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ، رُبَّمَا غطت ملاحظاتها   1 أي: جامعا بين الأمرين, بخلافه إذا نظر إلى المسبب دائما؛ فإنه يغلب عليه جانب الرجاء، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من تضعضع همته وفتور نفسه عن الأعمال التكليفية. "د". 2 هل هذا غير ما شرحه في الفصل التالي؟ ولا يخفى أن قوله: "فإن كان" مقابل لقوله: "إذا علم أن المسبب ... إلخ"؛ فالكلام هنا شامل للعادي والعبادي، كما هو شامل لهما في الفصل التالي؛ فكان يمكن الاستغناء بما يأتي عن هذا، على أنه لا خصوصية لبيان ابتناء مقام التفويض على ما سبق في ذكر الإعراض عن تكميل السبب، بل هذا شأن آخر يترتب على النظر للمسبب، ونسبته لموضوع التفويض كنسبته لمقام الصبر والشكر والإخلاص، وهي الأمور التي بناها على قطع النظر عن المسبب. "د". 3 سيورده المصنف "3/ 148"، ويصرح بأنه حديث، وهو ضعيف، ضعفه جماعة من الحفاظ كما سيأتي إن شاء الله تعالى مفصلا، والصحيح أنه من قول مكحول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فَحَالَتْ بَيْنَ الْمُتَسَبِّبِ وَبَيْنَ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ، وَبِذَلِكَ يَصِيرُ الْعَابِدُ مُسْتَكْثِرًا لِعِبَادَتِهِ، وَالْعَالَمُ مُغْتَرًّا بِعِلْمِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ؛ فَلِأَنَّهُ إذا كان ملتفتا1 إِلَى أَمْرِ الْآمِرِ وَحْدَهُ، مُتَيَقِّنًا2 أَنَّ بِيَدِهِ مِلَاكَ الْمُسَبَّبَاتِ وَأَسْبَابِهَا، وَأَنَّهُ عَبْدٌ مَأْمُورٌ؛ وَقَفَ مع أمر الآمر، ولم يكن له عن3 ذَلِكَ مَحِيدٌ وَلَا زَوَالٌ، وَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ حَدِّ الْمُرَاقَبَةِ، وَمِمَّنْ عَبَدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِذَا وَقَعَ الْمُسَبَّبُ كَانَ مِنْ أَشْكَرِ الشَّاكِرِينَ؛ إِذْ لَمْ يَرَ لِتَسَبُّبِهِ فِي ذَلِكَ الْمُسَبَّبِ وِرْدا وَلَا صَدَرا4، وَلَا اقْتَضَى مِنْهُ فِي نَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَإِنْ كَانَ عَلَامَةً وَسَبَبًا عَادِيًّا؛ فَهُوَ سَبَبٌ بِالتَّسَبُّبِ5 وَمُعْتَبَرٌ فِي عَادِيِّ التَّرْتِيبِ، وَلَوْ كَانَ مُلْتَفِتًا إِلَى الْمُسَبَّبِ؛ فَالسَّبَبُ قَدْ يُنْتِجُ وَقَدْ يُعْقِمُ، فَإِذَا أَنْتَجَ فَرِحَ، وَإِذَا لَمْ يُنْتِجْ؛ لَمْ يَرْضَ بِقَسْمِ اللَّهِ وَلَا بِقَضَائِهِ، وَعَدَّ السَّبَبَ كَلَا شَيْءٍ، وَرُبَّمَا مَلَّهُ فَتَرَكَهُ، وَرُبَّمَا سَئِمَ مِنْهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، وَهُوَ خِلَافُ عَادَةِ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ سَائِرَ الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ وَجَدَهَا فِي تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَعْظَمَ نفع الْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّ تَارِكَ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ لِلَّهِ إنما همه السبب   1 تحرفت في "د": "ملفتا". 2 في الأصل: "يقينا". 3 هكذا في الأصل, وفي النسخ المطبوعة: "من". 4 الورد والصدر من أورد الماشية الماء وأصدرها عنه، والمعنى هنا: لم ير لنفسه شيئا أولا ولا آخرا. انظر: "لسان العرب" "ور د"، و"ص د ر". 5 في الأصل: "التسبب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الَّذِي دَخَلَ فِيهِ؛ فَهُوَ عَلَى بَالٍ مِنْهُ فِي الْحِفْظِ لَهُ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَالنَّصِيحَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْمُسَبَّبَ مِنَ السَّبَبِ؛ لَكَانَ مَظِنَّةً لِأَخْذِ السَّبَبِ عَلَى غَيْرِ أَصَالَتِهِ، وَعَلَى غَيْرِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ فِيهِ؛ فَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى الْإِخْلَالِ بِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَرُبَّمَا شَعَرَ بِهِ وَلَمْ يُفَكِّرْ فِيمَا عَلَيْهِ فِيهِ، وَمِنْ هُنَا تَنْجَرُّ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ أَصْلُ الْغِشِّ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، نَعَمْ وَالْعِبَادِيَّةِ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ فِي الْخِصَالِ الْمُهْلِكَةِ. أَمَّا فِي الْعَادِيَّاتِ؛ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَغُشُّ إِلَّا اسْتِعْجَالًا لِلرِّبْحِ الَّذِي يَأْمُلُهُ فِي تِجَارَتِهِ، أَوْ لِلنِّفَاقِ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ فِي صِنَاعَتِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوضَعَ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، بَعْدَ مَا يُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ؛ فَالتَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ سَبَبٌ لِلْمَحَبَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ يُوضَعُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ؛ فَرُبَّمَا الْتَفَتَ الْعَابِدُ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ النَّوَافِلُ، ثُمَّ يَسْتَعْجِلُ وَيُدَاخِلُهُ طَلَبُ مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ السَّبَبُ، وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ، وَكَفَى بِذَلِكَ فَسَادًا. فَصْلٌ: -وَمِنْهَا: أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْحَالَةِ مُسْتَرِيحُ النَّفْسِ، سَاكِنُ الْبَالِ، مُجْتَمَعُ الشَّمْلِ، فَارِغُ الْقَلْبِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا، مُتَوَحِّدُ الْوُجْهَةِ1؛ فَهُوَ بِذَلِكَ طَيِّبُ الْمَحْيَا، مُجَازَى فِي الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97] 2.   1 أي: جاعل وجهه إلى الله في كل ما يفعل وما يقول من عبادة وعادة. "ماء". 2 محل شاهده فيما ذكره منها كما سيأتي في بيان معنى الحياة الطيبة، أما بقية الآية؛ فراجع إلى قوله: "مجازى في الآخرة", ولا يتعلق به غرضه هنا. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ؛ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ: "هِيَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، وَصِدْقُ الْمَقَامِ مَعَ اللَّهِ، وَصِدْقُ الْوُقُوفِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ"1. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: "الْعَيْشُ مَعَ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ". وَأَيْضًا؛ فَفِيهِ كِفَايَةُ جَمِيعِ الْهُمُومِ، بِجَعْلِ هَمِّهِ هَمًّا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ نَاظِرًا إِلَى الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ؛ فَإِنَّهُ نَاظِرٌ إِلَى كُلِّ مُسَبَّبٍ فِي كُلِّ سَبَبٍ يَتَنَاوَلُهُ، وَذَلِكَ مُكْثِرٌ وَمُشَتَّتٌ. وَأَيْضًا؛ فَفِي النَّظَرِ إِلَى كَوْنِ السَّبَبِ مُنْتِجًا أَوْ غَيْرَ مُنْتِجٍ تَفَرُّقُ بَالٍ، وَإِذَا أَنْتَجَ؛ فَلَيْسَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَصَاحِبُهُ مُتَبَدِّدُ الْحَالِ، مَشْغُولُ الْقَلْبِ فِي أَنْ لَوْ كَانَ الْمُسَبَّبُ أَصْلَحَ مِمَّا كَانَ؛ فَتَرَاهُ يَعُودُ تَارَةً بِاللَّوْمِ عَلَى السَّبَبِ، وَتَارَةً بِعَدَمِ الرِّضَى بِالْمُسَبَّبِ, وَتَارَةً عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ يُشِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ 2؛ فَإِنَّ اللَّهَ هو الدهر" 3 وأمثاله.   1 ذكره عنه القرطبي في "التفسير" "10/ 174". 2 أي: لا تسبوا الدهر؛ لعدم مؤاتاتكم بمطالبكم ومسببات أعمالكم على ما تشتهونه، فإن الله هو الفاعل للمسببات الواقعة من الدهر. "د". 3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، 4/ 1763/ رقم 2246 بعد 5" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بهذا اللفظ. قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 304" شارحا الحديث: "المعنى: لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب, ولا تنسبوها إليه؛ فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر، فإنكم إذا سببتم الدهر؛ وقع السب على الفاعل لا على الدهر؛ لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر؛ فتقول: أصابه الدهر في ماله، ونابته قوارع الدهر ومصائبه؛ فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر؛ فيقولون: لعن الله الدهر، ومحا الله الدهر، وأشباه ذلك، وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه؛ فكأنهم إنما سبوا الفاعل، والفاعل هو الله وحده؛ فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَأَمَّا الْمُشْتَغِلُ بِالسَّبَبِ مُعْرِضًا عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِهِ؛ فَمُشْتَغِلٌ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِالسَّبَبِ أَيِّ سَبَبٍ كَانَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَمًّا وَاحِدًا خَفِيفٌ عَلَى النَّفْسِ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هُمُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بَلْ هَمٌّ وَاحِدٌ ثَابِتٌ، خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَمٍّ وَاحِدٍ مُتَغَيِّرٍ مُتَشَتِّتٍ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ "مَنْ جَعَلَ هَمَّهُ هَمًّا وَاحِدًا؛ كَفَاهُ اللَّهُ سَائِرَ الْهُمُومِ، وَمَنْ جَعَلَ هَمَّهُ أُخْرَاهُ؛ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ" 1.   1 أخرج ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 2/ 1375/ رقم 4105"، وأحمد في "المسند" "5/ 183"، و"الزهد" "33"، والدارمي في "السنن" "1/ 75"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 163", وابن حبان في "الصحيح" "رقم 67، 68- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "5/ 158", وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "1/ 354"، وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 352"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 184" من طرق عن شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا، وفيه: "من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا؛ إلا ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته؛ جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ". لفظ أحمد. وأوله: "نضر الله امرأ سمع منا ... ". وأخرجه جماعة غير المذكورين بهذا اللفظ دون القطعة السابقة. وإسناده صحيح، صححه البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "3/ 270-271/ رقم 1454"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "4/ 121"، وشيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 404". وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 220-221" -ومن طريقه ابن ماجه في "السنن" "رقم 257-4106"- وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" "ص29"، والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" "رقم 317"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 105"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2521-2522"، والدارقطني في "العلل" "رقم 688"، و"الأفراد" "ق 207/ أ-مع أطراف الغرائب"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1128" بإسناد ضعيف جدا عن ابن مسعود مرفوعا: "من جعل الهموم هما واحدا؛ كفاه الله هم آخرته، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا؛ لم يبال الله في أي أوديتها وقع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ مَنْ قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ؛ فَالْقَلِيلُ مِنَ الْعِلْمِ يَكْفِيهِ1، وَمَنْ طَلَبَهُ لِلنَّاسِ؛ فَحَوَائِجُ النَّاسِ كَثِيرَةٌ". وَقَدْ لَهِجَ الزُّهَّادُ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ، وَفَرِحُوا بِالِاسْتِبَاقِ فِيهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ2: "لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ؛ لَقَاتَلُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ". ورُوي فِي الْحَدِيثِ: "الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُريح القلب والبدن"3، والزهد   = وفي إسناده نهشل بن سعيد يروي المناكير، وقيل: بل يروي الموضوعات. قاله البوصيري، وقال أبو حاتم في "العلل" "2/ 122-123": "هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث"، وبنهشل أعله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 54". وللحديث شواهد عن أنس وابن عمر وأبي هريرة وأبي الدرداء وابن عباس, ومن مرسل سليمان بن حبيب المحاربي ومن مرسل محمد بن المنكدر، وهو صحيح بها، وأحسنها حديث زيد المتقدم، وانظر: "الزهد" لابن أبي عاصم "باب ما ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت همته ونيته الآخرة؛ أتته الدنيا وهي راغمة"، ص62 وما بعدها"، و"زهد وكيع" "رقم 359، 360" والتعليق عليه. 1 أي: من طلبه ليعمل هو به؛ فما يتعلق به منه قليل لا يشتت عليه باله. "د". 2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم 81"، وابن الجوزي في "الصفة" "4/ 127"، و"سلوة الأحزان" "رقم 98"، وأبو نعيم "7/ 370". 3 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "2/ ق 78" -وكما في "مجمع البحرين" "8/ 228/ رقم 5016"- والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "4/ 394"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 367" -ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "7/ 348/ رقم 10538"، وابن الجوزي في "الواهيات" "2/ 803/ رقم 1343"- عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف جدا مسلسل بالضعفاء، فيه: علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف، وأشعث بن براز، تصحف على الهيثمي في "المجمع" "10/ 286" إلى "ابن نزار"؛ فقال: "لم أعرفه"!! وهو ضعيف جدا، قال البخاري: "منكر الحديث"، وضعفه ابن معين وغيره، وقال النسائي: "متروك الحديث"، كذا في "الميزان" "1/ 262"، وقال ابن عدي: "الضعف بيّن على رواياته"، ونقل تضعيفه عن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل, وأعله العقيلي بيحيى بن بسطام = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 لَيْسَ عَدْمَ ذَاتِ الْيَدِ، بَلْ هُوَ حَالٌ لِلْقَلْبِ يُعَبَّرُ عَنْهَا -إِنْ شِئْتَ- بِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الْوُقُوفِ مَعَ التَّعَبُّدِ [بِالْأَسْبَابِ] 1، مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِلْمُسَبَّبَاتِ الْتِفَاتًا إِلَيْهَا فِي الْأَسْبَابِ؛ فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ يُنَبِّهُكَ عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّ النَّظَرَ2 فِي الْمُسَبَّبِ قَدْ يَكُونُ على التوسط، كما سيأتي ذكره   = الراوي له عن الأشعث، وقال عنه: "حديثه غير محفوظ"، وهو قد تفرد به، كما أفاده الطبراني. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ أحمد: علي بن زيد ليس بشيء، قال يحيى: علي وأشعث ليسا بشيء". وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 131"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 347-348/ رقم 10536" عن طاوس مرسلا، وفيه محمد بن مسلم الطائفي، وهو ضعيف لسوء حفظه، وأخرجه أيضا "برقم 289" بسنده عن الفضيل بن عياض؛ قال: يذكر عن النبي, صلى الله عليه وسلم ... وسرده. وهو معضل، وفيه إبراهيم بن الأشعث ضعيف من قبل حفظه. وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 188/ رقم 278"، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا، وفيه زيادة: "والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن، والبطالة تقسي القلب". وإسناده ضعيف جدا، فيه أحمد بن الفرج الحمصي، وهو ضعيف، ومثله بكر بن خنيس، وفيه أيضا بقية وقد عنعن، وهو مدلس. وأخرجه البيهقي في "الشعب" "7/ 368/ رقم 10609" من طريق ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 155" عن عمر قوله، وهو الأشبه، وفيه عنعنة بقية. والخلاصة: الحديث ضعيف مرفوعا، وقد ضعفه شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1292". 1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 أي: ومما يبني على أن للمسبب ليس من مقدور المكلف، ولا هو مكلف به؛ أنه إذا اتفق للمكلف نظره للمسبب فيحسن به أن يكون نظره على التوسط والاعتدال، ولا يجهد نفسه في العناية به، حتى إذا زاد عن ذلك؛ نبه على القصد والاعتدال، وإن كان ذلك ناشئا من مقام العبد من المقامات السنية؛ كالشفقة على عبادة الله وكثرة الخوف من عدم قيامه بواجبهم عليه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى1، وَذَلِكَ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ حَيْثُ مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَهُوَ أَسْلَمُ لِمَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُ الْبَشَرُ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ لِلْمُتَسَبِّبِ؛ إِمَّا شَدَّةُ التَّعَبِ، وَإِمَّا الْخُرُوجُ عَمَّا هُوَ لَهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ. أَمَّا شِدَّةُ التَّعَبِ؛ فَكَثِيرًا مَا يَتَّفِقُ لِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ فِي السُّلُوكِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ التَّسَبُّبِ كَثِيرَ الْإِشْفَاقِ أَوْ كَثِيرَ الْخَوْفِ، وَأَصْلُ هَذَا تَنْبِيهُ اللَّهِ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ -حَالَةَ دُعَائِهِ الْخَلْقَ بِشِدَّةِ الْحِرْصِ- عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِهِ الرُّجُوعُ إِلَى التَّوَسُّطِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} الآية، إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 33-35] . وَقَوْلِهِ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 3] . وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 41] . وَقَوْلِهِ: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ... } الْآيَةَ, إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هُودٍ: 12] . وَقَوْلِهِ: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النَّحْلِ: 127] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُشِيرُ إِلَى الْحَضِّ عَلَى الْإِقْصَارِ مِمَّا كَانَ يُكَابِدُ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْوُقُوفِ مَعَ مَا أَمَرَ بِهِ مِمَّا هُوَ تَسَبُّبٌ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، بِقَوْلِهِ2: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [الرعد: 7] ،   1 وللمصنف كلام بديع على الوسطية بوجه عام في "2/ 279 وما بعدها". 2 أفرد هذه الآيات عما قبلها وعلق عليها بأن المطلوب منك التسبب، وليس في هذه الآيات الحض على الإقصار مما يكابد كما كان ذلك في الآيات السابقة، وهو وجيه؛ إلا أنه يبقى الكلام في الآيتين الأخيرتين؛ فإن آية {لَيْسَ لَكَ ... } إلخ ترجع في المعنى إلى مثل آية: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} ، ولكن هذه أصرح في طلب الرجوع والوقوف عند حد وظيفته، بخلاف آية: {لَيْسَ لَكَ} ؛ فلم يذكر فيها ما كلف به من ربه، والآية الأخيرة أبعدت الآيات المذكورة هنا عما يريده منها؛ إذ إنها ليس فيها ما يفهم من طلب إقصاره مما يكابد، ولا طلب رجوعه إلى التسبب. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [هُودٍ: 12] ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَجَمِيعُهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْكَ التَّسَبُّبُ، وَاللَّهُ هُوَ الْمُسَبِّبُ1، وَخَالِقُ الْمُسَبَّبِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 128] ، وَهُوَ يُنَبِّهُكَ عَلَى شِدَّةِ مَقَاسَاتِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ؛ طَمَعًا فِي أَنْ تَقَعَ نَتِيجَةُ الدَّعْوَةِ، وَهِيَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي بِهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ؛ حَتَّى جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 128] . وَمَعَ هَذَا؛ فَقَدَ نُدِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى أَمْرٍ هُوَ أَوْفَقُ وَأَحْرَى بِالتَّوَسُّطِ فِي مَقَامِ النُّبُوَّةِ، وَأَدْنَى مِنْ خِفَّةِ مَا يَلْقَاهُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَجْرَى فِي سَائِرِ الرُّتَبِ الَّتِي دُونَ النُّبُوَّةِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ مَقَامُ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شَرَفِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي لَا يُدَانِيهِ فِيهَا أَحَدٌ؛ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْكَامِهِ فِيمَا دُونَهَا مِنَ الْمَرَاتِبِ اللَّائِقَةِ بِالْأُمَّةِ، كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي أَحْكَامِ أُمَّتِهِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ دُونَ أُمَّتِهِ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَمَّا هُوَ لَهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَلِأَنَّهُ إِذَا قَصَدَ عَيْنَ الْمُسَبَّبِ أَنْ يَكُونَ أَوْ لَا يَكُونَ؛ كان مخالفا لمقصود الشرع؛ إذ قد تبين أن المسبب ليس   1 وليس هذا مما فيه أن الالتفات إلى المسبب التفات إلى حظوظ -وهو عليه السلام بريء من مثله- لأن ذلك منه غاية الرحمة لعباد الله، لا نظر إلى حظه في ذلك. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 لِلْمُكَلَّفِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ بِهِ، بَلْ هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ قَصَدَهُ؛ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ إِفْرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِوُقُوعِهِ بِحَسَبِ غَرَضِهِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَقَدْ صَارَ غَرَضُ الْعَبْدِ وَقَصْدُهُ مُخَالِفًا بِالْوَضْعِ لِمَا أُرِيدَ بِهِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْأَدَبِ، وَمُعَارَضَةٌ لِلْقَدَرِ، أَوْ مَا هُوَ يَنْحُو ذَلِكَ النَّحْوَ. وَقَدْ جَاءَ فِي "الصَّحِيحِ" التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقُولِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ؛ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدر الله وما شاء الله فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" 1. فَقَدْ نَبَّهَكَ عَلَى أَنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي السَّبَبِ، كَأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ أَوْ لَازِمٌ عَقْلًا، بَلْ ذَلِكَ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ إِذْ لَا يُعِينُهُ وُجُودُ السَّبَبِ، وَلَا يُعْجِزُهُ فُقْدَانُهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ نُفُوذَ الْقَدْرِ الْمَحْتُومِ هُوَ مَحْصُولُ الْأَمْرِ، وَيَبْقَى السَّبَبُ: إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ عَمِلَ فِيهِ بِمُقْتَضَى التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي مَقْدُورِهِ، اسْتَسْلَمَ اسْتِسْلَامَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ؛ فَلَا يَنْفَتِحُ [عَلَيْهِ] 2 بَابُ الشَّيْطَانِ، وَكَثِيرًا مَا يُبَالِغُ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، حَتَّى يصير منه   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، 4/ 2052/ رقم 2664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب في القدر/ رقم 79، وكتاب الزهد، باب التوكل واليقين/ رقم 4168"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 623، 624"، وأحمد في "المسند" "2/ 366، 370"، والطحاوي في "المشكل" "رقم 259، 260، 261، 262"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 356"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 89"، و"الأسماء والصفات" "1/ 263" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه. 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 إِلَى مَا هُوَ مَكْرُوهٌ شَرْعًا؛ مِنْ تَشْوِيشِ الشَّيْطَانِ، وَمُعَارَضَةِ الْقَدَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّ تَارِكَ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَزْكَى عَمَلًا، إِذَا كَانَ عَامِلًا فِي الْعِبَادَاتِ، وَأَوْفَرُ أَجْرًا فِي الْعَادَاتِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَظِّهِ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُلْتَفِتًا إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، فَإِنَّهُ عَامِلٌ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى الْحُظُوظِ؛ لِأَنَّ نَتَائِجَ الْأَعْمَالِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعِبَادِ مَعَ أَنَّهَا خَلْقُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مَصَالِحُ أَوْ مَفَاسِدُ تَعُودُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: "إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ, ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" 1، وَأَصْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فُصِّلَتْ: 46] ؛ فَالْمُلْتَفِتُ إِلَيْهَا عَامِلٌ بِحَظِّهِ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ [عَامِلٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ] 2، وَلِهَذَا بَسْطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ3. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى أَيِّ مَعْنًى يُفْهَمُ إِسْقَاطُ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبَاتِ، وَكَيْفَ يَنْضَبِطُ مَا يُعَدُّ كَذَلِكَ مِمَّا لَا يعد كذلك؟   1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 656-657/ رقم 2495" -وقال: "هذا حديث حسن"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم 4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في "التاريخ" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص65، 159، 213-214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 125-126" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه. 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 انظر: "2/ 227". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فَالْجَوَابُ: أَنَّ تَرْكَ الْحُظُوظِ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا بِمَعْنَى عَدَمِ الْتِفَاتِ الْقَلْبِ إِلَيْهَا1 جُمْلَةً وَهَذَا قَلِيلٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَخْتَصُّ بِهَذَا أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ2؛ فَهُوَ يَقُومُ بِالسَّبَبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ لَهُ مُسَبَّبٌ أَمْ لا، وقد يكون غير ظاهر   1 في الأصل و"ط": "إليه". 2 الصوفي من يزن أفعاله وأقواله بميزان الشريعة ويأخذ نفسه بالاستقامة على آدابها؛ حتى تستنير بصيرته، وتكون الأخلاق العالية مثل الإخلاص وخشية الله والغيرة على الحق أقطابا تدور عليها سائر تصرفاته ومعاملاته؛ وكذلك كان الصوفية إلى أن خرج في لباسهم قوم نطقوا بكلمات تعبر عن الحلول والاتحاد، وظهر في أثرهم آخرون بمحدثات تتبرأ منها الفضيلة، وانخرط فريق منهم في أعوان الحاكم المغتصب؛ فكانوا لسانه الذي ينطق، وقلمه الذي يكتب، وقد كسا هؤلاء الطوائف الثلاث التصوف صبغة مكروهة اتخذها المتجافون عن الطرق المنسوبة إليه سندا لحكمهم عليها بأنها منابت أخلاق ذميمة وبدع سيئة وعقائد غير خالصة. "خ". قلت: لم يرد في الكتاب ولا في السنة لفظة "التصوف"، والوارد "التزكية"، وهي إحدى مهمتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ حصر الله بعثة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أمرين اثنين: {يُزَكِّيهِمْ} ، و {يُعَلِّمُهُمُ} ؛ فالواجب النزول عند الأسامي والألقاب الشرعية، وقد ألمح المصنف إلى فساد الصوفية في عصره في كتابه "الاعتصام" "1/ 120-121-ط ابن عفان"؛ فقال نقلا عن أبي القاسم القشيري: "ثم ظهرت البدع، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا؛ فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف". ثم قال عقبه: "هذا معنى كلامه؛ فقد عد هذا اللقب لهم مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم. وفي غرضي -إن فسح الله في المدة، وأعانني بفضله، ويسر لي الأسباب- أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد, صلى الله عليه وسلم. وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا، وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 -بِمَعْنَى أَنَّ الْحَظَّ لَا يَسْقُطُ جُمْلَةً مِنَ الْقَلْبِ؛ إِلَّا أَنَّهُ الْتَفَتَ إِلَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ- وَيَكُونُ هَذَا مَعَ الْجَرَيَانِ عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ مُجْرِيهَا كَيْفَ شَاءَ، وَيَكُونُ أَيْضًا مَعَ طَلَبِ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ؛ أَيْ: يَطْلُبُ مِنَ الْمُسَبَّبِ مُقْتَضَى السَّبَبِ؛ فَكَأَنَّهُ يَسْأَلُ الْمُسَبَّبَ بَاسِطًا يَدَ السَّبَبِ، كَمَا يَسْأَلُهُ الشَّيْءَ بَاسِطًا يَدَ الضَّرَاعَةِ, أَوْ يَكُونُ مُفَوِّضًا فِي الْمُسَبَّبِ إِلَى مَنْ هُوَ إِلَيْهِ؛ فَهَؤُلَاءِ قَدْ أَسْقَطُوا النَّظَرَ فِي الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، وَإِنَّمَا الِالْتِفَاتُ لِلْمُسَبَّبِ بِمَعْنَى الْجَرَيَانِ مَعَ السَّبَبِ؛ كَالطَّالِبِ لِلْمُسَبَّبِ مِنْ نَفْسِ السَّبَبِ، أَوْ كَالْمُعْتَقِدِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمُسَبَّبِ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُخَوِّفُ الَّذِي هُوَ حرٍ بِتِلْكَ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ وَسَائِطُ هِيَ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ؛ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا مُقَرَّرٌ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْحُظُوظِ1. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ مُرَتَّبَةٌ2 عَلَى فِعْلِ الْأَسْبَابِ شَرْعًا، وَأَنَّ الشَّارِعَ يَعْتَبِرُ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْخِطَابِ بِالْأَسْبَابِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ -إِذَا اعْتَبَرَهُ- أُمُورٌ: - مِنْهَا: أَنَّ الْمُسَبَّبَ إِذَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُتَسَبِّبِ3 شَرْعًا، [أَوِ] 4 اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ فِي تَعَاطِي السَّبَبِ مُلْتَفِتًا إِلَى جِهَةِ الْمُسَبَّبِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي حِسَابِهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا يَكُونُ التَّسَبُّبُ مَأْمُورًا بِهِ كَذَلِكَ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَكَمَا يَكُونُ التَّسَبُّبُ فِي الطَّاعَةِ مُنْتِجًا مَا لَيْسَ فِي ظَنِّهِ من الخير؛ لقوله تعالى:   1 انظر: المسألة الثالثة والرابعة من النوع الرابع من كتاب المقاصد "2/ 305 وما بعد". 2 كما تقدم في المسألة الرابعة "ص311". 3 في "د": "المسبب". 4 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبتناه من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [الْمَائِدَةِ: 32] . وَقَوْلِهِ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" 1، وَقَوْلِهِ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ أَنَّهَا تَبْلُغُ مَا بَلَغَتِ" 2 الْحَدِيثَ3. كَذَلِكَ يَكُونُ التَّسَبُّبُ فِي الْمَعْصِيَةِ مُنْتِجًا مَا لَمْ يَحْتَسِبْ مِنَ الشَّرِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [الْمَائِدَةِ: 32] . وَقَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا؛ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا" 4، وَقَوْلِهِ: "وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا" 5، وَقَوْلِهِ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ" 6 الْحَدِيثَ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ.   1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، 11/ 308/ رقم 6478" بلفظ: " ... من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم ". وأخرجه أيضا برقم "6477" مقتصرا على الشق الثاني بلفظ " ... بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق ". وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، 4/ 557/ رقم 2314"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2/ 1313/ رقم 3970"، وأحمد في "المسند" "2/ 334، 355، 533" من حديث ابن مسعود مقتصرين على الشق الثاني بلفظ مقارب. 3 الدليل في بقيته، وهو: "يرفع الله بها في الجنة" "د". 4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين". 5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح، "و" الدليل في بقية الحديث. "د". 6 جزء من حديث صحيح, أوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ... " مضى تخريجه أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وَقَدْ قَرَّرَ الْغَزَالِيُّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ "الْإِحْيَاءِ" وَفِي غَيْرِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَدْ قَالَ فِي "كِتَابِ الْكَسْبِ": "تَرْوِيجُ الدِّرْهَمِ الزَّائِفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ فِي أَثْنَاءِ النَّقْدِ ظُلْمٌ؛ إِذْ بِهِ يَسْتَضِرُّ الْمُعَامَلُ إِنْ لَمْ يَعْرِفْ، وَإِنْ عَرَفَ؛ فَيُرَوِّجُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَلَا يَزَالُ يَتَرَدَّدُ فِي الْأَيْدِي، وَيَعُمُّ الضَّرَرُ، وَيَتَّسِعُ الْفَسَادُ, وَيَكُونُ وِزْرُ الْكُلِّ وَوَبَالُهُ رَاجِعًا إِلَيْهِ, فَإِنَّهُ الَّذِي فَتَحَ ذَلِكَ الْبَابَ". ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً" 1 إِلَخْ. ثُمَّ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ إِنْفَاقَ دِرْهَمٍ زَائِفٍ أَشَدُّ مِنْ سَرِقَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ قَالَ: "لِأَنَّ السَّرِقَةَ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ تَمَّتْ وَانْقَطَعَتْ، وَإِظْهَارَ الزَّائِفِ بِدْعَةٌ أَظْهَرَهَا فِي الدِّينِ، وَسَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً يُعْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ؛ فَيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَمِائَتَيْ سَنَةٍ، إِلَى أَنْ يَفْنَى ذَلِكَ الدِّرْهَمُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَا فَسَدَ وَنَقَصَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِسَبَبِهِ، وَطُوبَى لِمَنْ مَاتَ وَمَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ، وَالْوَيْلُ الطَّوِيلُ لِمَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِائَةَ سَنَةٍ وَمِائَتَيْ سَنَةٍ، يُعَذَّبُ بِهَا فِي قَبْرِهِ، وَيُسْأَلُ عَنْهَا إِلَى انْقِرَاضِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] ؛ أَيْ: نَكْتُبُ أَيْضًا مَا أَخَّرُوهُ مِنْ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوهُ2، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَةِ: 13] ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ أَثَرَ أَعْمَالِهِ، مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيئة عمل بها غيره"3.   1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح. 2 فسر بعض أهل العلم الآثار بالخطا مستندا لما يروى من أن الآية نزلت في قوم كانت منازلهم بعيدة عن المسجد؛ فأرادوا أن ينتقلوا إلى منازل قريبة منه، وهذه الرواية على فرض صحتها لا تمنع من إبقاء الآثار في الآية على عمومها حتى يدخل فيها آثار خيانة الأمم الغافلة، وتمكين يد العدو من ناصيتها؛ فأي أذية أو إهانة تقع على نفس مسلمة إلا كان على من فتح له سبيل التسلط أو جرك القلم في مساعدته كفل منها؟! والوارد في الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرأ لأولئك القوم هذه الآية ولم يصرح بأنها نزلت في حقهم. "خ". 3 انظر: "الإحياء" "2/ 73-74". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 هَذَا مَا قَالَهُ هُنَاكَ، وَقَاعِدَةُ إِيقَاعِ السَّبَبِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبِ قَدْ بَيَّنَتْ1 هَذَا. وَلَهُ فِي "كِتَابِ الشُّكْرِ" مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا؛ حَيْثُ قَدَّرَ النِّعَمَ أَجْنَاسًا وَأَنْوَاعًا، وَفَصَّلَ فِيهَا تَفَاصِيلَ جَمَّةً، ثُمَّ قَالَ: "بَلْ أَقُولُ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَلَوْ فِي نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ بِأَنْ فَتَحَ بَصَرَهُ حَيْثُ يَجِبُ غَضُّ البصر؛ فقد كفر [كل] 2 نعمة الله في السموات وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا, فَإِنَّ كُلَّ مَا خَلَقَ الله حتى الملائكة, والسموات، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالنَّبَاتِ بِجُمْلَتِهِ نِعْمَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِبَادِ قَدْ تَمَّ بِهَا3 انْتِفَاعُهُ". ثُمَّ قَرَّرَ شَيْئًا مِنَ النِّعَمِ الْعَائِدَةِ إِلَى الْبَصَرِ مِنَ الْأَجْفَانِ، ثُمَّ قَالَ: "قَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْأَجْفَانِ، وَلَا تَقُومُ الْأَجْفَانُ إِلَّا بِعَيْنٍ، وَلَا الْعَيْنُ إِلَّا بِالرَّأْسِ، وَلَا الرَّأْسُ إِلَّا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ, وَلَا الْبَدَنُ إِلَّا بِالْغِذَاءِ، وَلَا الْغِذَاءُ إِلَّا بِالْمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَطَرِ وَالْغَيْمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَلَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْ ذلك إلا بالسموات، ولا السموات إِلَّا بِالْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، يَرْتَبِطُ الْبَعْضُ مِنْهُ بِالْبَعْضِ ارْتِبَاطَ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ". قَالَ: وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ: "أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا النَّاسُ؛ إِمَّا أَنْ تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم"4.   1 في الأصل: "تبين". 2 زيادة من "الإحياء". 3 في الأصل: "به". 4 قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 122": "لم أجد له أصلا"، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "6/ 360": "لم أجد له إسنادا"، وكذا أودعه السويدي في كتابه "الموضوعات في الإحياء" "ص101". وأخرج أبو يعلى في "مسنده" "7/ 143/ رقم 4110" عن أنس مرفوعا: "ما من بقعة يذكر الله عليها بصلاة أو بذكر؛ إلا استبشرت بذلك إلى منتهاها من سبع أرضين، وفخرت على ما حولها من البقاع، وما من عبد يقوم بفلاة من الأرض يريد الصلاة إلا تزخرفت له الأرض ". وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وشيخه يزيد الرقاشي, كلاهما ضعيف، وضعفه المناوي في "فيض القدير" "5/ 475". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وكذلك1 وَرَدَ: "إِنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ" 2، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِتَطْرِيفَةٍ وَاحِدَةٍ جَنَى عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إلا أَنْ يُتْبِعَ السَّيِّئَةَ بِحَسَنَةٍ تَمْحُوهَا؛ فَيَتَبَدَّلُ اللَّعْنُ بِالِاسْتِغْفَارِ؛ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ"3، ثُمَّ حَكَى غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَضَى فِي كَلَامِهِ. فَإِذَا نَظَرَ الْمُتَسَبِّبُ إِلَى مَآلَاتِ الْأَسْبَابِ؛ فَرُبَّمَا كَانَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ إِذْ يَبْدُو لَهُ يَوْمَ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ، والعياذ بالله.   1 في الطبعات الثلاث: "ولذلك"، والمثبت من "الإحياء". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 5/ 50/ رقم 2685"، والطبراني في "الكبير" "8/ 278/ رقم 17911، 17912"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 183" عن أبي أمامة مرفوعا: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلم الناس الخير". وفي سنده سلمة بن رجاء، صدوق يغرب. وله شواهد عن علي وعائشة وابن عباس مرفوعا وموقوفا، وأبي الدرداء ومن مرسل مكحول والحسن، والحديث حسن. وانظر: "المجالس الخمسة" للسلفي "رقم 8- بتحقيقي". 3 "إحياء علوم الدين" "3/ 122-123". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ مَعَ أَسْبَابِهَا رُبَّمَا ارْتَفَعَتْ عَنْهُ إِشْكَالَاتٌ تَرِدُ فِي الشَّرِيعَةِ، بِسَبَبِ تَعَارُضِ أَحْكَامِ أَسْبَابٍ تَقَدَّمَتْ مَعَ أَسْبَابٍ1 أُخَرَ حَاضِرَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُتَعَاطِيَ السَّبَبِ قَدْ يَبْقَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ تَابَ مِنْهُ؛ فَيَظُنُّ أَنَّ الْمُسَبَّبَ يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِرُجُوعِهِ عَنِ السَّبَبِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ. مِثَالُهُ: مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً ثُمَّ تَابَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا؛ فَالظَّاهِرُ الْآنَ أَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالْخُرُوجِ فَأَخَذَ فِي الِامْتِثَالِ، غَيْرُ عاصٍ وَلَا مُؤَاخَذٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا عَاصِيًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي تَوَسُّطِهِ مُكَلَّفًا بِالْخُرُوجِ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ، وَلَا يُمْكِنُ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ النَّهْيِ فِي نَفْسِ الْخُرُوجِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْهُ حُكْمُ النَّهْيِ فِي الْخُرُوجِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ2: هُوَ عَلَى حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِانْفِصَالِهِ عَنِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَرَدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَالْإِمَامُ أَشَارَ فِي "الْبُرْهَانِ" إِلَى تَصَوُّرِ هَذَا وَصِحَّتِهِ3 بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ عِصْيَانٌ؛ فَانْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّسَبُّبِ وَإِنِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ4، ونظر ذلك بمسائل، وهو   1 أي: مع أحكام أسباب "د". 2 يراجع المقام في كتب الأصول كالتحرير، وابن الحاجب في مسألة يستحيل كون الشيء الواحد واجبا حراما من جهة واحدة ... إلخ. "د". 3 بقوله في "البرهان" "2/ 97". 4 أي: ولا تتم التوبة إلا بعد الخروج فعلا؛ لأن من شرط قبولها رد التبعات والمظالم. "د". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ التَّسَبُّبِ أَنْتَجَ مُسَبَّبَاتٍ خَارِجَةً عَنْ نَظَرِهِ، فَلَوْ نَظَرَ الْجُمْهُورُ إِلَيْهَا؛ لَمْ يَسْتَبْعِدُوا اجْتِمَاعَ الِامْتِثَالِ مَعَ اسْتِصْحَابِ1 حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الِانْفِصَالِ عَنِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَهَذَا أَيْضًا2 يَنْبَنِي عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ خَارِجٌ عَنْ نَظَرِهِ3، فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ؛ وَجَدَ نَفْسَ الْخُرُوجِ ذَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَجْهُ كَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا فِي الْخُلُوصِ عَنِ التَّعَدِّي بِالدُّخُولِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ. وَالثَّانِي: كَوْنُهُ نَتِيجَةَ دُخُولِهِ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ من كسبه بهذا الاعتبار؛ إذ ليس   = وكتب "خ" هنا ما نصه: "اعترف إمام الحرمين بانتفاء النهي عمن شرع في الخروج من الأرض المغصوبة تائبا؛ حيث قال: هو مرتبك في المعصية بحكم الاستصحاب مع انقطاع تكليف النهي، والوجه الذي اعترضوا به هذه المقالة أن وصف المعصية والعقاب إنما يرتبطان بالنهي؛ فيجب ارتفاعهما حيث انتفى النهي إذ لم يعهد في موارد الشريعة فعل يوصف بكونه معصية ويستحق صاحبه العقاب من غير أن يتعلق به نهي، والظاهر من مقام التوبة في نظر ... فشارع أن حكمها يسري إلى كل ما يترتب على السبب من أثر لا قدرة للمكلف على اجتنابه، فمن سن سنة سيئة، ثم تاب توبة نصوحا، وأصلح وبين جهد استطاعته؛ لا يضره من بقي عاملا بها بعد ذلك البيان". 1 لا أن النهي حاصل مع الأمر حتى يرد ما تقدم: "د". 2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: قوله: "وهذا أيضا ... " إلخ، معناه أن مسألة أبي هاشم والجمهور تنبني على أن الداخل في أرض غصبا؛ هل هو محمول على أنه ملتفت إلى ما تسبب عن دخوله وهو الخروج، فيكون مؤاخذا به في الدنيا، فيعد فاعل حرام كما هو مؤاخذ به في الآخرة وهو مذهب أبي هاشم، أو غير محمول على ذلك؛ فيكون ذا وجهين كما قال؟! وعلى هذا؛ فضمير "في نظره" راجع إلى المكلف الداخل، وقوله: "وما ذلك"؛ أي: والمسبب خارجا، والمراد بالمسبب بالفتح: الخروج. وهذا إيضاح ذلك مأخوذا من كلام المصنف في آخر المسألة حيث ... 3 كما تقدم أنه ليس له رفعه وليس من نمط مقدوراته. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 لَهُ قُدْرَةٌ عَنِ الْكَفِّ عَنْهُ. وَمِنْ هَذَا مَسْأَلَةُ مَنْ تَابَ عَنِ الْقَتْلِ بَعْدَ رَمْيِ السَّهْمِ عَنِ الْقَوْسِ، وَقَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الرَّمِيَّةِ، وَمَنْ تَابَ مِنْ بِدْعَةٍ بَعْدَ مَا بَثَّهَا فِي النَّاسِ وَقَبْلَ أَخْذِهِمْ بِهَا، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلَ رُجُوعِهِمْ عَنْهَا، وَمَنْ رَجَعَ عَنْ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ بَعْدَ تَعَاطِي السَّبَبِ عَلَى كَمَالِهِ، وَقَبْلَ تَأْثِيرِهِ وَوُجُودِ مَفْسَدَتِهِ، أَوْ بَعْدَ وُجُودِهَا وَقَبْلَ ارْتِفَاعِهَا إِنْ أَمْكَنَ ارْتِفَاعُهَا؛ فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى الْمُكَلَّفِ هُنَا الِامْتِثَالُ مَعَ بَقَاءِ الْعِصْيَانِ، فَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ؛ كَانَ عَاصِيًا مُمْتَثِلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَتَوَارَدَانِ عَلَيْهِ فِي هَذَا التَّصْوِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعِصْيَانِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ1 لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ؛ فَلَا نَهْيَ إِذْ ذَاكَ، وَمِنْ جِهَةِ الِامْتِثَالِ مُكَلَّفٌ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ وَمُمْتَثِلٌ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا أَرَادَهُ الْإِمَامُ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي هَاشِمٍ لَا يَرِدُ مَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ2 إِذَا تَأَمَّلْتَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْعَادَةِ تَجْرِي عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ فِي الِاسْتِقَامَةِ أَوِ الِاعْوِجَاجِ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ تَامًّا وَالتَّسَبُّبُ عَلَى مَا يَنْبَغِي؛ كَانَ الْمُسَبَّبُ كذلك، وبالضد.   1 بل هو باقٍ من أثر التكليف في السبب وهو الدخول، وإيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب؛ فهو مؤاخذ بالمسبب وإن لم يكن مقدورا له. "د". 2 أي: بخلاف ما إذا قيل: إن النهي يتوجه عليه حين الخروج، كما يتوجه عليه الأمر به؛ لأنه يكون تكليفا بما لا يطاق كما قال، والذي رفع الإشكال هو الابتناء على القاعدة القائلة: إن المسببات معتبرة شرعا بفعل الأسباب، ومرتبة عليها؛ فيبني عليه أن المسببات ما دامت موجودة تأخذ حكم الأسباب وإن عدمت، وهو ما أشار إليه العضد شارح ابن الحاجب. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ومن ههنا إِذَا وَقَعَ خَلَلٌ فِي الْمُسَبَّبِ نَظَرَ الْفُقَهَاءُ إِلَى التَّسَبُّبِ: هَلْ كَانَ عَلَى تَمَامِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ عَلَى تَمَامِهِ؛ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ لَوْمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَمَامِهِ؛ رَجَعَ اللَّوْمُ وَالْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ وغيره مِنَ الصُّنَّاعِ إِذَا ثَبَتَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَحَدِهِمْ؛ إِمَّا بِكَوْنِهِ غَرَّ مِنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِصَانِعٍ، وَإِمَّا بِتَفْرِيطٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ؛ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي الْمُسَبَّبَاتِ1 أَوْ وُقُوعِهَا عَلَى غَيْرِ وِزَانِ التَّسَبُّبِ قَلِيلٌ؛ فَلَا يُؤَاخَذُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَبْذُلِ الْجَهْدَ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ فِيهَا كَثِيرٌ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ. فَمَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَلَامَةً عَلَى الْأَسْبَابِ فِي الصِّحَّةِ أَوِ الْفَسَادِ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى2؛ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى قَانُونٍ عَظِيمٍ يَضْبُطُ بِهِ جَرَيَانَ الْأَسْبَابِ عَلَى وِزَانِ مَا شُرِعَ، أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا جُعِلَتِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ فِي الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُنْخَرِمًا؛ حُكِمَ عَلَى الْبَاطِنِ بِذَلِكَ، أَوْ مُسْتَقِيمًا؛ حُكِمَ عَلَى الْبَاطِنِ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ أَصْلٌ عَامٌّ فِي الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّاتِ وَالتَّجْرِيبِيَّاتِ، بَلِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ نَافِعٌ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ جِدًّا، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَفَى بِذَلِكَ عُمْدَةً أَنَّهُ الْحَاكِمُ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِ، وَكُفْرِ الْكَافِرِ، وَطَاعَةِ الْمُطِيعِ، وَعِصْيَانِ الْعَاصِي، وَعَدَالَةِ الْعَدْلِ، وَجَرْحَةِ الْمُجَرَّحِ، وَبِذَلِكَ تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ وَتَرْتَبِطُ الْمَوَاثِيقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، بَلْ هُوَ كلية التشريع، وعمدة التكليف   1 في الأصل: "التسببات". 2 أي: من الجهات السابق إبطال النظر إليها؛ ككونها من مقدور المكلف أو كسبه، وكذا الجهات التي أشار إلى أن الأفضل عدم النظر إلى المسبب باعتبارها، وهي كثير فيما تقدم؛ أي: فالنظر في المسببات هنا ليس مقصودا لذاته، بل لاكتشاف حال السبب: هل أخذه العبد على طريق5 الكمال؟ لتبنى عليه أحكام شرعية. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِقَامَةِ حُدُودِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ1 قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً، وَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً. وَمَعْنَى كَوْنِهَا خَاصَّةً أن تكون بحسب وقوع السَّبَبِ؛ كَالْبَيْعِ الْمُتَسَبَّبِ بِهِ إِلَى إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ، وَالنِّكَاحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ حلِّية الِاسْتِمْتَاعِ، وَالذَّكَاةِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ حِلُّ الْأَكْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جَانَبُ النَّهْيِ؛ كَالسُّكْرِ النَّاشِئِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِزْهَاقِ الرُّوحِ الْمُسَبَّبِ عَنْ حَزِّ الرَّقَبَةِ. وَأَمَّا الْعَامَّةُ؛ فَكَالطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ فِي الْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ، وَالْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَحِيمِ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْمَعَاصِي الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَنْهَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ؛ كَنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ قَطْعُ الرِّزْقِ، وَالْحُكْمِ بِغَيْرِ الْحَقِّ النَّاشِئِ2 عَنْهُ الدَّمُ، وَخَتْرِ3 الْعَهْدِ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ، وَالْغُلُولِ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ قَذْفُ الرُّعْبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ4، ولا شك أن أضداد   1 يحتاج الفرق بين مضمون هذا الفصل ومضمون صدر المسألة إلى دقة نظر؛ لأن الغرض من كل منهما أن المتسبب إذا نظر إلى المسبب وأنه يجر خيرا كثيرا، أو شرا له آثار كبيرة؛ فإنه يزداد إقداما على فعل السبب وإتقانا له، أو يخاف من السبب؛ فلا يدخل فيه، إلا أنه في الأول من طريق أنه سن سنة اتبعه فيها غيره، فوزر فعل غيره لاحق له؛ فالشر الكثير ليس من فعله مباشرة، أما هنا؛ فإن فعله مما يترتب عليه فساد كبير في الأرض أو خير كثير من إقامة العدل، إذا كان حاكما مثلا وإن لم يكن اقتدى به غيره فيه؛ فهذا نوع آخر من النظر إلى المسبب غاير الأول باعتبار تنوع آثار المسبب. "د". 2 في النسخ المطبوعة: "الفاشي"، والتصحيح من الأصل و"ط". 3 الختر: الغدر، وفي حاشية الأصل: "الغدر والخديعة أو أقبح الغدر". 4 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 362-363/ رقم 927- رواية أبي مصعب، و1/ 460- رواية يحيى" عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن ابن عباس؛ قال: "ما ظهر = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ..........................................................................   = الغلول في قوم قط؛ إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم قط؛ إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان؛ إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق؛ إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد؛ إلا سلط الله عليهم العدو". قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "14/ 211": "وقد روينا هذا الحديث عن ابن عباس متصلا"، وقال قبل ذلك: "مثل هذا لا يكون إلا توقيفا؛ لأن مثله لا يروى بالرأي". ثم أخرجه "14/ 212" متصلا عن ابن عباس قوله مختصرا، وقال: "حديث مالك أتم، وكلها تقضي القول بها والمشاهدة بصحتها". قلت: قوله "كلها"؛ أي: شواهده، وقد ساق له شاهدا من حديث ابن عمر مرفوعا، وآخر عن بريدة مرفوعا أيضا. أما حديث ابن عمر؛ فقد أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 4019"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 333-334" من طريق ابن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عنه مرفوعا بلفظ: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان؛ إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله؛ إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم, فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم". وإسناده ضعيف، فيه ابن أبي مالك، وهو: خالد بن يزيد بن عبد الرحمن، ضعيف، واتهمه ابن معين، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه": "هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه"، وتعقبه شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 106"؛ فقال: "قلت: الأب لا بأس به، وإنما العلة من ابنه". وبه أعله ابن حجر في "بذل الماعون" "ص210". وأخرجه ابن أبي الدنيا في "العقوبات" "ق 62/ ب"، وابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 211-212" من طريق نافع بن عبد الله عن فروة بن قيس المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر نحوه مرفوعا، وإسناده ضعيف، نافع وفروة لا يعرفان. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 .........................................................................   = وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 540" من طريق حفص بن غيلان عن عطاء به، وإسناده حسن، ابن غيلان وثقه الجمهور، وضعفه بعضهم. وأخرجه الروياني في "مسنده" "ق 247/ أ" عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا. وإسناده ضعيف، عطاء هو ابن أبي مسلم الخراساني، صدوق، لكنه مدلس، وقد عنعن، وابنه عثمان ضعيف. وأما حديث بريدة، فقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 126"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 346"، وابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 212"، وابن حجر في "بذل الماعون" "ص211-212" عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعا مختصرا بلفظ: "ما نقض قوم العهد قط؛ إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط؛ إلا سلط الله -عز وجل- عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة؛ إلا حبس الله عنهم القطر ". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وبشير تكلم فيه، وقد خولف؛ فقال البيهقي عقبه: "كذا ورواه بشير بن المهاجر"، ثم ساقه بإسناده من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن ابن عباس قوله، وإسناده صحيح. وعد ابن حجر في "بذل الماعون" "ص212" طريق بشير -وعزاها لأبي يعلى- أصح طرق هذا الحديث، ثم قال: "وله علة غير قادحة". ثم ساق طريق ابن واقد، وقال: "ويحتمل أن يكونا محفوظين، وإلا؛ فهذه الطريق أرجح، لاحتمال أن يكون بشير بن المهاجر سلك الجادة". قلت: وتابع بشيرا على رفعه وجعله من "مسند بريدة": الفضيل بن غزوان، كما عند الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع البحرين" "1/ ق 122/ أ"- وتمام في "الفوائد" "رقم 519- ترتيبه" بإسناد رواته ثقات؛ كما قال المنذري في "الترغيب" "1/ 543"، والهيثمي في "المجمع" "3/ 66"، وكان ابن حجر قد أشار أن له شاهدا عند الطبراني من حديث عمرو بن العاص، وعند تمام في "الفوائد" "رقم 520" عن ابن عباس مرفوعا، وهو منكر جدا، كما في "الميزان" "4/ 165"، و"اللسان" "6/ 79". والخلاصة: الحديث صحيح، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 106، 107". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَسَبَّبُ عَنْهَا أَضْدَادُ مُسَبَّبَاتِهَا. فَإِذَا نَظَرَ الْعَامِلُ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَنْ عَمَلِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ أَوِ الشُّرُورِ؛ اجْتَهَدَ فِي اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ، رَجَاءً فِي اللَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ، وَلِهَذَا جَاءَ الْإِخْبَارُ فِي الشَّرِيعَةِ بِجَزَاءِ الْأَعْمَالِ، وَبِمُسَبَّبَاتِ الْأَسْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَالْفَوَائِدُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ كَثِيرَةٌ. فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: تَقَرَّرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُسَبَّبَاتِ يَسْتَجْلِبُ مَفَاسِدَ، وَالْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي التَّسَبُّبِ، وَتَبَيَّنَ الْآنَ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُسَبَّبَاتِ يَسْتَجِرُّ مَصَالِحَ، وَالْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ كَانَ تَنَاقُضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَوْضِعِ الِالْتِفَاتِ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَصَالِحَ، مِنَ الِالْتِفَاتِ الَّذِي يَجُرُّ الْمَفَاسِدَ، بِعَلَامَةٍ يُوقَفُ عِنْدَهَا، أَوْ ضَابِطٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ1، وَلَكِنَّ ضَابِطَهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ مِنْ شَأْنِهِ التَّقْوِيَةُ لِلسَّبَبِ، وَالتَّكْمِلَةُ لَهُ، وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِكْمَالِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَصْلَحَةَ2، وإن كان   1 أي: في تفاصيل المسائل والفصول السابقة؛ لأنه بين النظر في المسبب بالاعتبار الذي يجر إلى المفاسد، وبالاعتبار الذي يجر إلى المصالح. "د". 2 من مواضع الالتفات إلى المسبب مقام الدعوة إلى الأسباب؛ فإن الحكمة تقتضي بيان ما ينتج عنها من أثر نافع وعاقبة حميدة، فلو بذل رئيس القوم وسعه في اتخاذ وسائل المنعة ومظاهر القوة امتثالا لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، غير ملتفت إلى ما يتصل بها من عزة الجانب والتقلب في نعمة الاستقلال؛ لأدى الواجب بإخلاص فائق، فإن أخذ يدعو الناس على القيام بهذه الوسائل؛ فلا غنى له عن إرسال نظره إلى ما ينتج عن إقامتها من عز وسعادة، ثم إلى ما يحدث عن إضاعتها من النزول إلى درك الخزي والشقاء. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُرَّ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِبْطَالِ، أَوْ بِالْإِضْعَافِ، أَوْ بِالتَّهَاوُنِ بِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَفْسَدَةَ. وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا شَأْنُهُ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُقَوِّي السَّبَبَ أَوْ يُضْعِفُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ زَمَانٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ عَلَيْهَا الْمُكَلَّفُ. وَالثَّانِي: مَا شَأْنُهُ ذَلِكَ لَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ دُونَ بَعْضٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ فِي التَّقْوِيَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ مَقْطُوعًا بِهِ. وَالثَّانِي: مَظْنُونًا أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ؛ فَيَكُونُ مَوْضِعَ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ؛ فَيُحْكَمُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ، وَيُوقَفُ عِنْدَ تَعَارُضِ الظُّنُونِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُجْمَلَةٌ غَيْرُ مُفَسَّرَةٍ، وَلَكِنْ إِذَا رُوجِعَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي؛ ظَهَرَ مَغْزَاهُ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَاهُ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِينَ, فَإِنَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ رَاجِعٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأَعْمَالِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فَصْلٌ: وَقَدْ يَتَعَارَضُ الْأَصْلَانِ مَعًا عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَيَمِيلُ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ: فَقَدْ1 قَالُوا فِي السَّكْرَانِ إِذَا طَلَّقَ، أَوْ أَعْتَقَ، أَوْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ أَوِ الْقِصَاصُ: عُومِلَ مُعَامَلَةَ مَنْ فَعَلَهَا عَاقِلًا، اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الثَّانِي2، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْأَوَّلِ، عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٍ فِي الْفِقْهِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَرَخُّصِ3 الْعَاصِي بِسَفَرِهِ، بِنَاءً عَلَى الْأَصْلَيْنِ أَيْضًا، وَاخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ4، وفي قطع التتابع5 بالسفر   1 في "م": "وقد". 2 وهو اعتبار المسببات في الخطاب بالأسباب، وهو المذكور في صدر هذه المسألة، والأصل الأول هو أن المسببات غير مقدورة للمكلف، ولا هو مخاطب بها، وأيضا الأصل القائل: إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب وهي المسألة الثامنة يتعارض مع ظاهر الأصل الأول على المجتهد. "د". 3 أي: فاعتبار المسبب مرتبا على السبب آخذا حكمه يقتضي ألا رخصة، وإذا اعتبر المسبب منفصلا عن السبب؛ فمنع تحقق السفر المدة المشترطة يرخص له؛ لأنه مسافر وعصيانه في قصده السفر؛ أي: عصيانه بالتسبب لا أثر في الترخص. "د". 4 أي: فإذا اعتبر أنه صائم بالفعل وقد أبطل عمله؛ فيجب عليه القضاء بقطع النظر عن كون تسببه والدخول فيه لم يكن واجبا؛ لأنا لا نعتبر المسبب مرتبا على السبب حتى يأخذ حكمه، وإذا اعتبر ذلك؛ فقد كان التسبب غير واجب، فيبقى المسبب كذلك؛ فلا يجب القضاء. "د". 5 حيث كان مسافرا بدون ضرورة ولكن طرأت عليه ضرورة تلجئه للفطر؛ فهل تعتبر الضرورة ولا ينقطع التتابع؟ لأن المسبب له شأن آخر غير شأن السبب؛ فيعتبر منفصلا في أحكامه عن السبب، أو أن له حكمه، وقد كان مسافرا بدون عذر، فينجر عليه حكمه ولا يعتبر عذره الذي طرأ، فينقطع التتابع. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الِاخْتِيَارِيِّ إِذَا عَرَضَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ أَفْطَرَ مِنْ أَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ1 إِذَا اضْطُرَّ بِسَبَبِ السَّفَرِ الَّذِي عَصَى بِسَبَبِهِ، وَعَلَيْهِمَا يَجْرِي الْخِلَافُ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا بَيْنَ أَبِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِ، فِيمَنْ تَوَسَّطَ2 أَرْضًا مَغْصُوبَةً. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْأَسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَفَاسِدِ لَا لِلْمَصَالِحِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ أَسْبَابٌ لِلْمَصَالِحِ لَا لِلْمَفَاسِدِ. مِثَالُ ذَلِكَ3: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِقَامَةِ الدِّينِ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْمَادِ الْبَاطِلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ -فِي الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ- لِإِتْلَافِ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَلَا نَيْلٍ مِنْ عِرْضٍ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ مَوْضُوعٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَفْسَدَةٍ فِي الْمَالِ أَوِ النَّفْسِ، وَدَفْعُ الْمُحَارِبِ مَشْرُوعٌ لِرَفْعِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، وَالطَّلَبُ بِالزَّكَاةِ مَشْرُوعٌ لِإِقَامَةِ ذَلِكَ الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقِتَالِ، كَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ لِمَصْلَحَةِ الزَّجْرِ عَنِ الْفَسَادِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى إِتْلَافِ النُّفُوسِ، وَإِهْرَاقِ الدِّمَاءِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَفْسَدَةٌ، وَإِقْرَارُ حُكْمِ الْحَاكِمِ4 مَشْرُوعٌ لِمَصْلَحَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَإِنْ أدى إلى   1 على النحو الذي قررناه في ترخص العاصي بسفره. "د". 2 فإذا قلنا: يعتبر المسبب وحده بقطع النظر عن السبب؛ فلا إثم عليه بالخروج عن الأرض، وإن قلنا: إن السبب ملاحظ فيه، وقد تسبب؛ فالإثم باقٍ حتى يخرج. "د". 3 انظر حول المثال المذكور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/ 126، 129-134، 165-168". 4 أي: عدم نقضه، ولو كان خطأ؛ فلا ينقض إلا إذا خالف إجماعا أو نصا, أو خالف القواعد الشرعية. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الْحُكْمِ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، هَذَا فِي الْأَسْبَابِ المشروعة. وأما في الأسباب1 الممنوعة؛ كالأنكحة2 الْفَاسِدَةُ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنْ أَدَّتْ إِلَى إِلْحَاقِ الْوَلَدِ، وَثُبُوتِ الْمِيرَاثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ مَصَالِحُ3، وَالْغَصْبُ مَمْنُوعٌ لِلْمَفْسَدَةِ اللَّاحِقَةِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ4، وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُلْكِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْفَوْتِ. فَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ النَّاشِئَةَ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، [وَالْمَصَالِحَ النَّاشِئَةَ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ] 5 لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنْهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ مُنَاسِبَةٍ لَهَا6. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهَا7 إِذَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً؛ فَإِمَّا أَنْ تُشْرَعَ لِلْمَصَالِحِ، أَوْ لِلْمَفَاسِدِ، أَوْ لَهُمَا مَعًا، أَوْ لِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُشْرَعَ لِلْمَفَاسِدِ لِأَنَّ السَّمْعَ يَأْبَى ذَلِكَ، فَقَدْ ثبت الدليل الشرعي على أن [تلك] 8   1 في "ط": "وكذلك الأسباب ... ". 2 في النسخ المطبوعة: "فالأنكحة". 3 أي: هذه المسببات التي أدت إليها الأسباب الممنوعة هي في الحقيقة مصالح، والمراد بالمصالح ما يعتد به الشارع؛ فيبني عليه الحكم الشرعي المترتب على الصحيح من نوعه؛ كالملك في الغصب يرتب عليه أثره من صحة تصرفات المالك، وكميراث الولد الملحق بالنكاح الفاسد، وكالأحكام الأخرى للأولاد من ولايات ومن حقوق الأولاد على آبائهم وحقوق آبائهم عليهم، وهكذا؛ فلا يقال: كيف يعتبر انتقال الملك من المغصوب إلى الغاصب مصلحه مع أنه عين المفسدة بعدم استقرار ملك المالكين وخروجه من أيديهم بطرق غير مشروعة؟ "د". 4 بل ومفسدة في الأرض من حيث عدم استقرار الأملاك والتعدي المترتب عليه مفاسد اجتماعية عظمى. "د". 5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 6 أي: حدثت لاحقة لها وجاءت تبعا. "د". 7 أي: الأسباب مطلقا. "د". 8 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جِيءَ بِالْأَوَامِرِ فِيهَا جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الْعُقُولِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي السَّمْعِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُشْرَعَ لَهُمَا مَعًا بِعَيْنِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَلَا لِغَيْرِ شَيْءٍ لِمَا ثَبَتَ مِنَ السَّمْعِ أَيْضًا1؛ فَظَهَرَ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْمَصَالِحِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَمِرُّ فِيمَا مُنِعَ؛ إِمَّا أَنْ يُمْنَعَ لِأَنَّ فِعْلَهُ مؤدٍّ إِلَى مَفْسَدَةٍ، أَوْ إِلَى مَصْلَحَةٍ، أَوْ إِلَيْهِمَا، أَوْ لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ جارٍ إلى آخره؛ فإذًا لا سبب مشروعا إِلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَجْلِهَا شُرِعَ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنِ السَّبَبِ الْمَشْرُوعِ. وَأَيْضًا؛ فَلَا سَبَبَ ممنوعا إِلَّا وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ لِأَجْلِهَا مُنِعَ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنِ السَّبَبِ الْمَمْنُوعِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا وُضِعَ لَهُ فِي الشَّرْعِ إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا، وَمَا مُنِعَ لِأَجْلِهِ إِنْ كَانَ مَمْنُوعًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَثَلًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشَّارِعُ إِتْلَافَ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَتْبَعُ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لِرَفْعِ الْحَقِّ وَإِخْمَادِ الْبَاطِلِ؛ كَالْجِهَادِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ إِتْلَافَ النُّفُوسِ، بَلْ إِعْلَاءَ الْكَلِمَةِ، لَكِنْ يَتْبَعُهُ فِي الطَّرِيقِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ نَصْبِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي مَحَلٍّ يَقْتَضِي تَنَازُعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَشَهْرَ السِّلَاحِ، وَتَنَاوُلَ الْقِتَالِ، وَالْحُدُودُ وَأَشْبَاهُهَا يَتْبَعُ الْمَصْلَحَةَ فِيهَا الْإِتْلَافُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ سَبَبٌ لرفع2 التَّشَاجُرِ، وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ؛ حَتَّى تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ ظَاهِرَةً، وَكَوْنُ الْحَاكِمِ مُخْطِئًا رَاجِعٌ إِلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي النَّظَرِ، أَوْ كون   1 أي: من أن التكاليف لم تكن عبثا. "د". 2 في النسخ المطبوعة: "لدفع"، وما أثبتناه من الأصل و"ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الظَّاهِرِ عَلَى خِلَافِ الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ1 فِي أَمْرِ الْحَاكِمِ، وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ2 -إِذَا كَانَ لَهُ مَسَاغٌ مَا- بِسَبَبِ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْفَسْخَ يُؤَدِّي إِلَى ضِدِّ مَا نُصِبَ لَهُ الْحَاكِمُ، مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَرَفْعِ التَّشَاجُرِ؛ فَإِنَّ الْفَسْخَ ضِدُّ3 الْفَصْلِ. وَأَمَّا قِسْمُ الْمَمْنُوعِ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا نَشَأَ مِنَ الْحُكْمِ بِالتَّصْحِيحِ لِذَلِكَ النِّكَاحِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فَاسِدًا، حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ4، وَالْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؛ لِأَنَّ لِلْيَدِ الْقَابِضَةِ هَنَا حُكْمَ الضَّمَانِ شَرْعًا، فَصَارَ الْقَابِضُ كَالْمَالِكِ لِلسِّلْعَةِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ لَا بِسَبَبِ الْعَقْدِ، فَإِذَا فَاتَتْ عَيْنُهَا؛ تَعَيَّنَ الْمِثْلُ أَوِ الْقِيمَةُ، وَإِنْ بَقِيَتْ عَلَى غَيْرِ تَغَيُّرٍ وَلَا وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْفَوْتِ؛ فَالْوَاجِبُ مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ مِنَ الْفَسَادِ، فَإِذَا حَصَلَ فِيهَا تَغَيُّرٌ أَوْ نَحْوُهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُفِيتٍ لِلْعَيْنِ؛ تَوَارَدَتْ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ: هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْفَوْتِ جُمْلَةً بِسَبَبِ التَّغَيُّرِ أَمْ لَا؟ فَبَقِيَ حُكْمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَسْخِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْفَسْخِ حَمْلًا عَلَى صَاحِبِ السِّلْعَةِ إِذَا ردت عليه متغيرة5 مثلا، كما   1 أي: وليس بمقصود في توليته الحكم أن يخطئ، ولكن الخطأ جاء تابعا ولاحقا، وهو مفسدة ليست بناشئة عن نفس توليته القضاء، ولكنها نشأت عن أمر آخر وهو تقصيره في النظر أو استبهام الأمر عليه، فقد يصادفه أن ظاهر الأمر الذي يمكنه الاطلاع عليه غير باطنه الذي يعسر الاطلاع عليه؛ فلا يكلف به. "د". 2 هذه فائدة جديدة لا يتوقف عليها البيان المطلوب، وهو أن المصلحة التي شرع لها تنصيب القاضي قد يكون في طريقها مفسدة طرأت بسبب آخر. "د". 3 في "م" زيادة: "هذا" بين المعقوفتين. 4 وسيأتي في موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع والنزول؛ حتى إن المجتهد يتغير رأيه ويجعل للواقعة بعد النزول حكما ما كان يقول به قبله. "د". 5 أي: بنقص، أما بزيادة؛ فيكون الحمل -لو ردت- على المشتري من هذه الجهة، ومن الجهة التي أشار إليها المؤلف. "د". قلت: وفي الأصل: "ردت إليه متغيرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أَنَّ فِيهَا حَمْلًا عَلَى الْمُشْتَرِي، حَيْثُ أَعْطَى ثَمَنًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا تعنَّى فِيهِ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْمَبِيعِ؛ فَكَانَ الْعَدْلُ النَّظَرَ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ، فَاعْتُبِرَ فِي الْفَوْتِ حَوَالَةُ الْأَسْوَاقِ، وَالتَّغَيُّرُ الَّذِي لَمْ يَفُتِ الْعَيْنَ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ عَدَمَ الْفَسْخِ، وَتَسْلِيطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الِانْتِفَاعِ؛ لَيْسَ سَبَبُهُ الْعَقْدَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، بَلِ الطَّوَارِئَ الْمُتَرَتِّبَةَ بَعْدَهُ. وَالْغَصْبُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَيْضًا, فَإِنَّ عَلَى الْيَدِ الْعَادِيَةِ حُكْمَ الضَّمَانِ شَرْعًا1، وَالضَّمَانُ2 يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ؛ فَاسْتَوَى فِي هَذَا الْمَعْنَى مَعَ الْمَالِكِ بِوَجْهٍ مَا، فَصَارَ لَهُ بِذَلِكَ شُبْهَةُ مِلْكٍ، فَإِذَا حَدَثَ فِي الْمَغْصُوبِ حَادِثٌ تَبْقَى مَعَهُ الْعَيْنُ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ صَارَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ، نَظَرًا إِلَى حَقِّ صَاحِبِ الْمَغْصُوبِ، وَإِلَى الْغَاصِبِ؛ إِذْ لَا يَجْنِي عَلَيْهِ غَصْبُهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي الْغُرْمِ عُقُوبَةً3 لَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يُظْلَمُ بِنَقْصِ حَقِّهِ؛ فَكَانَ فِي   1 أسباب الضمان ثلاثة: الإتلاف، والتسبب، ووضع اليد غير المؤتمنة، وقد جعل بعض الفقهاء الغاصب ضامنا للرقبة دون الغلة مستندا إلى حديث: "قضى أن الخراج بالضمان"، وهذا الحديث قضية معينة لا يلحق بها إلا ما ماثلها من الصور، ولا وجه في النظر الصحيح يقضي باستواء المبطل والمحق، كما أن تضمينه الرقبة بأرفع القيم أقرب إلى العدل من تضمينه قيمتها يوم الغصب فقط؛ إذ هو مأمور بإرجاعها إلى صاحبها في كل الأحوال ومن جملتها ارتفاع قيمتها إلى غايتها القصوى. "خ". 2 في الأصل زيادة: "لا". 3 لا يظهر فيما إذا كان التغير بارتفاع الأسواق، ولا في كل ما كانت زيادتها لا ترجع إلى تكاليفه أو صنعه، بل كان ناشئا عن حالتها هي بأن كانت عشراء فولدت مثلا، فيزيد ثمنها كثيرا، فهذا وأمثاله لا يظهر أن يقال فيه: إنه تغير يعتد به مفوتا، ويلزم الغاصب بخصوص القيمة يوم الغصب؛ لأن هذا حمل على خصوص صاحبها، ولذلك جرى الخلاف في مثله. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ بَيْنَ هَذَيْنِ؛ فَالسَّبَبُ فِي تَمَلُّكِ الْغَاصِبِ الْمَغْصُوبَ لَيْسَ نَفْسَ الْغَصْبِ، بَلِ التَّضْمِينَ أَوَّلًا، مُنْضَمًّا إِلَى مَا حَدَثَ بَعْدُ فِي الْمَغْصُوبِ؛ فَعَلَى هَذَا النَّوْعِ أَوْ شَبَهِهِ يَجْرِي النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلْمَفَاسِدِ، وَالْأَسْبَابَ الْمَمْنُوعَةَ لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلْمَصَالِحِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِحَالٍ. فَصْلٌ: وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُفْهَمُ حُكْمُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. فَفِي الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَقْضِيَ فُلَانًا حَقَّهُ إِلَى زَمَانِ كَذَا، ثُمَّ خَافَ الْحِنْثَ بِعَدَمِ الْقَضَاءِ، فَخَالَعَ1 زَوْجَتَهُ حَتَّى انْقَضَى الْأَجَلُ وَوَقَعَ الْحِنْثُ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، ثُمَّ رَاجَعَهَا؛ أَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مَذْمُومًا وَفِعْلُهُ مَذْمُومًا؛ لِأَنَّهُ احْتَالَ بِحِيلَةٍ أَبْطَلَتْ حَقًّا، فَكَانَتِ الْمُخَالَعَةُ1 مَمْنُوعَةً وَإِنْ أَثْمَرَتْ عَدَمَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ الْمُخَالَعَةِ، بَلْ بِسَبَبِ أَنَّهُ حَنِثَ وَلَا زَوْجَةَ لَهُ فَلَمْ يُصَادِفِ الْحِنْثُ مَحَلًّا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّخْمِيِّ فِيمَنْ قَصَدَ بِسَفَرِهِ التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ كُرِهَ لَهُ هَذَا الْقَصْدُ؛ لِأَنَّ فِطْرَهُ بِسَبَبِ الْمَشَقَّةِ اللَّازِمَةِ لِلسَّفَرِ، لَا بِسَبَبِ نَفْسِ السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ، وَإِنْ عَلَّلَ الْفِطْرَ بِالسَّفَرِ؛ فَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَشَقَّةِ لَا لِنَفْسِ السَّفَرِ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي كُرِهَ لَهُ السَّفَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ كَسْبِهِ، وَالْمَشَقَّةُ خَارِجَةٌ عَنْ كَسْبِهِ؛ فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ هِيَ عَيْنَ الْمَكْرُوهِ لَهُ, بَلْ سببها، والمسبب هو السبب في الفطر.   1 في "ط": "فصالح، المصالحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فَأَمَّا لَوْ فَرَضْنَا1 أَنَّ السَّبَبَ الْمَمْنُوعَ لَمْ يُثْمِرْ مَا يَنْهَضُ سَبَبًا لِمَصْلَحَةٍ، أَوِ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يُثْمِرْ مَا يَنْهَضُ سَبَبًا لِمَفْسَدَةٍ؛ فَلَا يَكُونُ عَنِ الْمَشْرُوعِ مَفْسَدَةٌ تُقْصَدُ شَرْعًا؛ وَلَا عَنِ الْمَمْنُوعِ2 مَصْلَحَةٌ تُقْصَدُ شَرْعًا، وَذَلِكَ كَحِيَلِ3 أَهْلِ العِينة فِي جَعْلِ السِّلْعَةِ وَاسِطَةً فِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ إِلَى أَجَلٍ4؛ فَهُنَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ: طَرَفٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ سَبَبًا ثَابِتًا عَلَى حَالٍ؛ كَالْحِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَطَرَفٌ تَضَمَّنَ سَبَبًا قَطْعًا أَوْ ظَنًّا؛ كَتَغْيِيرِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَيُمَلَّكُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَعْلُومِ، وَوَاسِطَةٌ لَمْ ينتفِ فِيهَا السَّبَبُ أَلْبَتَّةَ، وَلَا ثَبَتَ قَطْعًا5؛ فهو محل أنظار المجتهدين.   1 أي: فالأمثلة المتقدمة جميعها مثمرة لذلك. "د". 2 في "د": "المنوع" بنقصان ميم. 3 فالحيلة مدخول فيها على أنها عقدة واحدة في صورة عقدتين؛ فليس هناك شيئان أحدهما يعتبر سببا ممنوعا أنتج مسببا هو سبب في مصلحة يعتد بها، بخلاف سائر الأمثلة السابقة؛ فتأمل. "د". 4 استدل المالكية والحنفية والحنابلة على تحريم بيع العِينة بأحاديث لم تكن لها القوة الكافية في الاحتجاج، ولكن أيدوها من جهة النظر بأنها عقدة ربا، وإنما استعير لها اسم البيع وألقي عليها ثوب المعاملة الجائزة، ولا عبرة بالصورة ما دامت الحقيقة التي تترتب عليها المفسدة قائمة، ومدرك الشافعية في إجازتها أنها تشتمل على عقدين, كل منهما منفصل عن الآخر، والتفاوت بين الثمنين في العقدين لا أثر له، وهي وإن كانت وسيلة إلى ما يقصد من الربا وهو الفضل؛ لم تكن وسيلة إلى عين الربا الذي هو مقابلة الدينار بالدينارين مباشرة، كما أن النكاح وسيلة إلى ما يقصد بالزنى وهو التلذذ بالوطء؛ لا إلى نفس الزنى الذي هو التلذذ على وجه غير مشروع. "خ". قلت: أحاديث تحريم بيع العينة صحيحة، وسيأتي تخريج ذلك "3/ 114". 5 يحسن مراعاة الظن أيضا ليتقابل مع سابقه الذي اعتبره فيه؛ حتى تصح المقابلة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فَصْلٌ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا نَظَرْنَا1 إِلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ بِهَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ، فَإِنْ تُؤُملت مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ كَانَ الْحُكْمُ آخَرَ، وَتَرَدَّدَ النَّاظِرُونَ2 فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحَلًّا لِلتَّرَدُّدِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ إِيقَاعَ الْمُكَلَّفِ الْأَسْبَابَ فِي حُكْمِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اقْتَضَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ فِي حُكْمِ الْوَاقِعِ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا شَرْعِيًّا، فَلَا يَقَعُ لَهُ مُقْتَضًى؛ فَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ كَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ3 بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ سَبَبِهِ، وَالْمُحْتَالُ للحِنْث بِمُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ لَا يُخَلِّصُهُ احْتِيَالُهُ مِنَ الْحِنْثِ، بَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ إِذَا رَاجَعَهَا، وَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ لِمُرَاجَعَةِ زَوْجَتِهِ بِنِكَاحِ المحلل، وما أشبه ذلك؛ فههنا إِذَا رُوجِعَ الْأَصْلَانِ كَانَتِ الْمَسَائِلُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَصْلٌ قَالَ بِمُقْتَضَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: 4 مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْأَصْلِ نَظَرٌ فِي مُسَبَّبَاتِ الْأَسْبَابِ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَشْرُوعَةً أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ؛ أَيْ: مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ نَظَرِ الشَّرْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ أَسْبَابٌ عادية لمسببات عادية؛ فإنها إذا نظر إليها من   1 في "م" و"خ": "نظر". 2 في "م": "الناظر". 3 في "د": "واقعلة" بزيادة لام. 4 يقصد به إيضاحا للأصل السابق في المسألة، ويدفع به ما يقال: كيف لا تكون الأسباب الممنوعة سببا للمصالح، والعاقل لا يفعلها إلا وهي سبب في مصالحه وأغراضه؟ ومحصله أنه ليس المراد بالمصلحة ما هي ملائمة لطبعه أو منافرة، بل ما يعتد بها الشارع ويرتب عليها مقتضياتها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 هَذَا الْوَجْهِ؛ كَانَ النَّظَرُ فِيهَا آخَرَ؛ فَإِنَّ قَصْدَ التَّشَفِّي بِقَصْدِ1 الْقَتْلِ مُتَسَبِّبٌ فِيمَا هُوَ عِنْدَهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ, وَكَذَلِكَ تَارِكُ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ إِنَّمَا تَرَكَهَا فِرَارًا مِنْ إِتْعَابِ النَّفْسِ، وَقَصْدًا إِلَى الدَّعة وَالرَّاحَةِ بِتَرْكِهَا؛ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ تَارِكٌ بِإِطْلَاقٍ، مُتَسَبِّبٌ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ لَهَا، كَمَا كَانَ النَّاسُ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَاتِ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ هُنَا هي المعتبرة بملاءمة الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتِهِ؛ فَلَا كَلَامَ هُنَا فِي مِثْلِ هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْأَسْبَابُ -مِنْ حَيْثُ هِيَ أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ لِمُسَبَّبَاتٍ- إِنَّمَا شُرِعَتْ لِتَحْصِيلِ مُسَبَّبَاتِهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ، أَوِ الْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ. وَالْمُسَبَّبَاتُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَسْبَابِهَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا شُرِعَتِ الْأَسْبَابُ2 لَهَا؛ إِمَّا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ3، وَهِيَ مُتَعَلِّقُ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ4 أَوِ الْمَقَاصِدِ5 الأُوَل أَيْضًا، وَإِمَّا بِالْقَصْدِ الثَّانِي وَهِيَ مُتَعَلِّقُ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ6، وكلا الضربين مبين في كتاب "المقاصد".   1 في الأصل: "بسبب". 2 أي: علما أو ظنا بدليل مقابليه، وما جاء له في بيانه لهذا القسم. "د". 3 قصد الشارع في الأمور من جلب المصالح ودفع المفاسد. "ماء". 4 سيأتي أنها ما لم يكن فيها حظ للمكلف بالقصد الأول، وأنها هي الواجبات العينية والكفائية، ومقابلها ما كان فيه حظ للمكلف ولم يؤكد الشارع في طلبها إحالة على ما جبل عليه طباعه من سد الخلات ونيل الشهوات، وبيانه في المسألة الثانية من النوع الرابع من المقاصد الشرعية. "د". 5 مغايرة في العبارة. "د". 6 وهو قصد أحدنا لما قصد الشارع ... وهو تابع للقصد الأول. "ماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وَالثَّانِي: مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ الْأَسْبَابَ لَمْ تُشْرَعْ لَهَا، أَوْ لَا يُعْلَمُ وَلَا يُظَنُّ أَنَّهَا شُرِعَتْ لَهَا، أَوْ لَمْ تُشْرَعْ لَهَا؛ فَتَجِيءُ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ السَّبَبَ شُرِعَ لِأَجْلِهِ؛ فَتَسَبُّبُ الْمُتَسَبِّبِ فِيهِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَتَى الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِمَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى مَا أَذِنَ أَيْضًا فِي التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّا1 فَرَضْنَا أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ مَثَلًا التَّنَاسُلَ أَوَّلًا2، ثُمَّ يَتْبَعُهُ اتِّخَاذُ السَّكَنِ، وَمُصَاهَرَةُ أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِشَرَفِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَوِ الْخِدْمَةِ، أَوِ الْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِهِ، أَوِ التَّمَتُّعِ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ النِّسَاءِ، أَوِ التَّجَمُّلِ بِمَالِ الْمَرْأَةِ، أَوِ الرَّغْبَةِ فِي جَمَالِهَا، أَوِ الْغِبْطَةِ بِدِينِهَا، أَوِ التَّعَفُّفِ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَصَارَ إِذًا مَا قَصَدَهُ هَذَا الْمُتَسَبِّبُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَذَا كَافٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" أَنَّ الْقَصْدَ الْمُطَابِقَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ هَذَا التَّسَبُّبِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْقَصْدَ إِلَى الِانْتِفَاعِ مُجَرَّدًا لَا يُغْنِي دُونَ قَصْدِ حِلِّ الْبُضْعِ بِالْعَقْدِ أَوَّلًا؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَصْدُ، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ أولا   1 لعله سقط هنا كلمة "إذا"، وبعد قوله: "دلت عليه الشريعة" سقطت هذه الجملة: "وقصد الشخص المتسبب بالنكاح التناسل وحده أو هو مع بعض المنافع المذكورة، أو مجرد بعض المنافع غير التناسل" صار إذا ... إلخ، وبهذا يلتئم الكلام. "د". 2 فالتناسل مقصد أصلي, كما في الحديث: "تزوجوا الوَلُود الوَدُود؛ فإني مكاثر بكم الأمم"؛ فجاء بصيغة الأمر على طريقة ما لم يكن من حظ المكلف كما يأتي شرحه في كتاب "المقاصد"، وبقيتها تبع، فالسكن كما في آية {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} والمال والجمال ... إلخ كما في الحديث: "تنكح المرأة لأربع خصال: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها"، والقيام على المصالح كما في حديث جابر بن عبد الله في تزوجه المرأة الثيب للقيام على مصالح أخواته، وهكذا الباقي؛ فكلها مقاصد للنكاح أقرها الشرع. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الْحِلُّ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مُجَرَّدَ الِانْتِفَاعِ؛ فَقَدْ تَخَلَّفَ قَصْدُهُ عَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ؛ فَيَكُونُ مُجَرَّدُ الْقَصْدِ إِلَى الِانْتِفَاعِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِمَا إِذَا1 أَرَادَ التَّمَتُّعَ بِفُلَانَةٍ كَيْفَ اتَّفَقَ، بِحِلٍّ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ، وقصده أنه لو أمكنه [بالزنى] لَحَصَّلَ مَقْصُودَهُ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا وَالْحَالُ هَذِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِحَلِّهِ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ حِلَّهَا؛ فَقَدْ خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَالْحُكْمُ فِي كُلِّ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ جار هذا المجرى. لأنا نقول: [بل] هُوَ2 عَلَى مَا فُرِضَ فِي السُّؤَالِ صَحِيحٌ وَذَلِكَ أَنَّ حَاصِلَ قَصْدِ هَذَا الْقَاصِدِ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا قَصَدَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ جَائِزٍ؛ فَأَتَاهُ مِنْ وَجْهٍ قَدْ جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ، بَلْ قَصَدَ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِإِذْنِ مَنْ إِلَيْهِ الْإِذْنُ، وَأَدَّى مَا الْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّى فِيهِ، لَكِنْ مُلْجَأً إِلَى ذَلِكَ؛ فَلَهُ بِهَذَا التَّسَبُّبِ الْجَائِزِ مُقْتَضَاهُ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي قَصْدِهِ إِلَى الْمَحْظُورِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ3 عَزْمٍ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا؛ أَثِمَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ4، وَإِنْ كَانَ خَاطِرًا عَلَى غَيْرِ عَزِيمَةٍ؛ فَمُغْتَفَرٌ كَسَائِرِ الْخَوَاطِرِ، فَلَمْ يَقْتَرِنْ إِذًا بِالْعَقْدِ مَا يُصَيِّرُهُ بَاطِلًا؛ لِوُقُوعِهِ كَامِلَ الْأَرْكَانِ، حَاصِلَ الشُّرُوطِ، مُنْتَفِيَ الْمَوَانِعِ، وَقَصْدُ الْقَاصِدِ لِلْعِصْيَانِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ خارج عن قصده5 الاستباحة   1 في "م": "إذ". 2 أي: العقد. "د". 3 في "م" و"خ": "عنده" بزيادة الضمير. 4 من باشر امرأة معتقدا أنها أجنبية فإذا بها زوجته؛ كان فاسقا، وكتب عليه إثم هذه النية السيئة وإن لم يحتمل خطيئة الزنى؛ لأن نفس الوطء كان مباحا، وهذه الصورة المنكرة أشد من مجرد العزم الذي لم ينفذه صاحبه في صورة عمل كأنه يتركه ناسيا أو مغلوبا على قصده، والظاهر أن موضع الخلاف يختص بهذا العزم الذي لم يكن له أثر في الظاهر، ولا يتعدى إلى تلك الصورة التي تمثل فيها العزم بمظهر فظيع. "خ". 5 أي: منفصل عنه ولا يضره لانفكاكه عنه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 بِالْوَجْهِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ، وَهَذَا الْقَصْدُ الثَّانِي مَوْجُودٌ1 عِنْدَهُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ بِوَضْعِ السَّبَبِ؛ فَصَحَّ التَّسَبُّبُ، وَأَمَّا إِلْزَامُ قَصْدِ الْحِلِّ؛ فَلَا يَلْزَمُ، بَلْ يَكْفِي الْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ السَّبَبِ الْمَشْرُوعِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ وُقُوعِ الْحِلِّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ النَّاشِئَ عَنِ السَّبَبِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ2 تَحْتَ التَّكْلِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُشْرَعْ لِأَجْلِهِ ابْتِدَاءً3؛ فَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ التَّسَبُّبَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُشْرَعْ أَوَّلًا لِهَذَا الْمُسَبَّبِ الْمَفْرُوضِ، وَإِذَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ؛ فَلَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ حِكْمَتُهُ فِي جَلْبِ مَصْلَحَةٍ وَلَا دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قُصِدَ بِالسَّبَبِ؛ فَهُوَ إِذًا بَاطِلٌ، هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثانٍ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ الْمَفْرُوضِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ فَصَارَ كَالسَّبَبِ الَّذِي لَمْ يُشْرَعْ أَصْلًا, وَإِذَا كَانَ التَّسَبُّبُ غَيْرَ الْمَشْرُوعِ أَصْلًا؛ لَا يَصِحُّ، فَكَذَلِكَ مَا شُرِعَ إِذَا أُخِذَ لِمَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّ كَوْنَ الشَّارِعِ لَمْ يَشْرَعْ هَذَا السَّبَبَ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ الْمُعَيَّنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّسَبُّبِ مَفْسَدَةً لَا مَصْلَحَةً، أَوْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَشْرُوعَ لَهَا السَّبَبُ مُنْتَفِيَةٌ بِذَلِكَ الْمُسَبَّبِ؛ فَيَصِيرُ السَّبَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَبَثًا، فَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ الْخَاصِّ؛ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ4، فَإِذَا قُصِدَ بالنكاح   1 أي: حكما كما يقتضيه فرض السؤال، وكما يشير إليه قوله: "وأما إلزام قصد الحل ... إلخ". "د". 2 فهو مسبب لا يلزم قصده ولا عدم قصده؛ لأنه فعل غيره. "د". 3 أي: إنه ليس من مقاصد الشرع بهذا السبب، وإن كان قد يترتب على مسببه، كالطلاق والعتق بالنسبة لعقد النكاح والبيع؛ فالطلاق لا يكون إلا عن نكاح، والعتق لا يكون إلا عن ملك، كما لا يكون هدم البيت إلا عن بناء يهدم، ولكن الطلاق، والعتق، وهدم البيت؛ لم تقصد بالنكاح والبيع وبناء البيت. "د". 4 في الأصل: "أوضح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 مَثَلًا التَّوَصُّلُ إِلَى أَمْرٍ فِيهِ إِبْطَالُهُ كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، أَوْ بِالْبَيْعِ التَّوَصُّلُ إِلَى الرِّبَا مَعَ إِبْطَالِ الْبَيْعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُهَا؛ كَانَ هَذَا الْعَمَلُ بَاطِلًا لِمُخَالَفَتِهِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْمَالِ وَالتَّسَبُّبَاتِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا وَالنَّاكِحُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ؟ وَإِنْ كَانَ قَصَدَ رَفْعَ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ؛ فَمَا قَصَدَهُ إِلَّا ثَانِيًا عَنْ قَصْدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي مِلْكِ نِكَاحٍ، فَهُوَ قَصَدَ نِكَاحًا يَرْتَفِعُ بِالطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحُ مِنْ شَأْنِهِ وَوَضْعِهِ الشَّرْعِيِّ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ؛ فَيَصِحُّ، لَكِنْ كَوْنُهُ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ التَّحْلِيلَ لِلْأَوَّلِ أَمْرٌ آخَرُ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا، فَإِنَّهُ إِذَا اقْتَرَنَ أَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا؛ فَلَا تَأْثِيرَ لِأَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ؛ لِانْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ تَحْقِيقًا، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ1. وَفِي الْفِقْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا: فَقَدِ اتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَالْعِتْقِ قَبْلَ الْمِلْكِ؛ فَيَقُولُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلْعَبْدِ: إِنِ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِنَّ تَزَوَّجَ، وَالْعِتْقُ إِذَا اشْتَرَى، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يُبِيحَانِ2 لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ. وَفِي "الْمَبْسُوطَةِ" عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ يَخَافُ الْعَنَتَ؛ قَالَ: "أَرَى لَهُ جَائِزًا أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَلَكِنْ إِنْ تَزَوَّجَ طُلِّقَتْ عَلَيْهِ"3، مَعَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ وَهَذَا الشِّرَاءَ لَيْسَ فِيهِمَا شَيْءٌ مما قصده   1 أي؛ فهو مما يتوجه فيه النهي لوصف منفك، لا للذات ولا لوصف ملازم، ومعروف أن فيه خلافا في فساده وعدمه. "د". 2 أي: فيحكمان بصحة التسبب مع أنه مما علم أن السبب لم يشرع له. "د". 3 انظر: "المدونة" "2/ 132-ط العلمية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الشَّارِعُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَلَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي؛ إِلَّا الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ، وَلَمْ يُشْرَعِ النِّكَاحُ لِلطَّلَاقِ، وَلَا الشِّرَاءُ لِلْخُرُوجِ عَنِ1 الْيَدِ، وَإِنَّمَا شُرِعَا لِأُمُورٍ أُخَرَ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مِنَ التَّوَابِعِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِمَا؛ فَمَا جَازَ هَذَا إِلَّا لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ ثانٍ عَنْ حُصُولِ النِّكَاحِ أَوِ الْمِلْكِ وَعَنِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ؛ فَالنَّاكِحُ قَاصِدٌ بِنِكَاحِهِ الطَّلَاقَ، وَالْمُشْتَرِي قَاصِدٌ بِشِرَائِهِ الْعِتْقَ، وَظَاهِرُ هَذَا الْقَصْدِ الْمُنَافَاةُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ2؛ إِمَّا جَوَازُ التَّسَبُّبِ بِالْمَشْرُوعِ إِلَى مَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ السَّبَبُ، وَإِمَّا بُطْلَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا؛ فَفِي "الْمُدَوَّنَةِ" فِيمَنْ نَكَحَ وَفِي نَفْسِهِ أَنْ يُفَارِقَ3 أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِذَا4 تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيَمِينٍ؛ لَزِمَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَدْ فَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ5: إِنَّ النِّكَاحَ حَلَالٌ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ أَقَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفَارِقَ فَارَقَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَهُوَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّا عَلِمْنَا أَوْ سَمِعْنَا. قَالَ: وَهُوَ عِنْدَنَا نِكَاحٌ ثَابِتٌ، الَّذِي6 يَتَزَوَّجُ يُرِيدُ أَنْ يَبُرَّ فِي يَمِينِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ لِلَذَّةٍ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا، لَا يُرِيدُ حَبْسَهَا وَلَا يَنْوِي ذَلِكَ، عَلَى ذَلِكَ نِيَّتُهُ وَإِضْمَارُهُ فِي تَزْوِيجِهَا؛ فَأَمْرُهُمَا وَاحِدٌ، فَإِنْ شاءا أَنْ يُقِيمَا أَقَامَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ حَلَالٌ. ذَكَرَ هَذِهِ فِي "الْمَبْسُوطَةِ". وَفِي "الْكَافِي" فِي الَّذِي يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ السَّفَرِ: "أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ جوازه".   1 في "ط": "من". 2 في "ط": "لازم". 3 لكنه لم يحدد مدة على ما يأتي لمالك. "د". قلت: وانظر "الذخيرة" "4/ 404". 4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "فإذًا إذا". 5 في "ط": "قال فيها مالك". قلت: أي: في "المدونة" "2/ 131-ط العلمية". 6 أي: نكاح الذي ... إلخ. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُبَالَغَةَ مَالِكٍ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُجِيزُهُ بِالنِّيَّةِ؛ كَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ الْإِقَامَةِ مَعَهَا مُدَّةً وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَجَازَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ، وَمَثَّلَ بِنِكَاحِ الْمُسَافِرِينَ، قَالَ: "وَعِنْدِي أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ1 بِقَلْبِهِ النِّكَاحَ الْأَبَدِيَّ2؛ لَكَانَ نِكَاحًا نَصْرَانِيًّا، فَإِذَا سَلِمَ لَفْظُهُ؛ لَمْ تَضُرُّهُ نِيَّتُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَتَزَوَّجُ عَلَى حُسْنِ العشرة ورجاء الأُدْمَة3، فَإِنْ وَجَدَهَا وَإِلَّا فَارَقَ، كَذَلِكَ يَتَزَوَّجُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِصْمَةِ، فَإِنِ اغْتَبَطَ ارْتَبَطَ، وَإِنْ كَرِهَ فَارَقَ"، وَهَذَا كَلَامُهُ فِي كِتَابِ "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ"، وَحَكَى اللَّخْمِيُّ عَنْ مَالِكٍ [فَمَنْ نَكَحَ] 4 لِغُرْبَةٍ أَوْ لِهَوًى لِيَقْضِيَ أَرَبَه وَيُفَارِقَ؛ فَلَا بَأْسَ. فَهَذِهِ مَسَائِلُ دَلَّتْ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا، وَأَشَدُّهَا5 مَسْأَلَةُ حِلِّ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ النِّكَاحَ رَغْبَةً فِيهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَلَمْ يُشْرَعِ النِّكَاحُ لِمِثْلِ هَذَا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَجَمِيعُهَا صَحِيحٌ مَعَ الْقَصْدِ الْمُخَالِفِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلنِّكَاحِ أولا، ثم   1 فرق بين أن ينوي النكاح الأبدي وبين ألا ينوي النكاح إلا لمدة، وهو ما يشترطه مالك، والتنظير أيضا نابٍ؛ لأنه متزوج على الأبدية إن حسنت عشرتها، فليس فيه دخول على التوقيت القطعي، وهو نكاح المتعة. "د". 2 بعدها في "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي "1/ 171": "حتى لا مثنوية فيه". 3 "استدراك2". 4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل. 5 وإنما كان هذا أشدها؛ لأنه قصد ألا يدخل بها ولا يرتب المسببات مطلقا على سببها وهو العقد، ولكنه في الأمثلة الأخرى يرتب المسبب ويتمتع، لكن لا على الوجه المعروف للشرع في النكاح مثلا، وظاهر أن الكلام في الأمثلة التي بعد قوله: "وفي مذهب مالك من هذا كثير"، ولا يدخل في المفضل عليه المسائل السابقة من المحلوف بطلاقها والمعلق حريته على مشتراه؛ فلا تظهر الأفضلية في الشدة، بل قد يقال العكس؛ لأن النكاح المقصود به بر اليمين يمكنه أن يرتب عليه حكمته ويستمسك بها بخلاف المحلوف بطلاقها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الْفِرَاقِ ثَانِيًا: وَهُمَا قَصْدَانِ غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ، [وَإِلَّا] فَإِنْ جَعَلْتَهُمَا مُتَلَازِمَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى1 بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ2؛ فَعَلَى الْجُمْلَةِ يَلْزَمُ: إِمَّا بُطْلَانُ هَذَا كُلِّهِ، وَإِمَّا بُطْلَانُ مَا تَقَدَّمَ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِجْمَالِيٌّ، وَالْآخَرُ تَفْصِيلِيٌّ. فَأَمَّا الْإِجْمَالِيُّ؛ فَهُوَ أَنْ نَقُولَ: أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَا اعْتَرَضَ بِهِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَهَا وَلَا هِيَ مِنْهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ بِالْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ فِيهَا، فَمَا اتَّفَقُوا مِنْهَا عَلَى جَوَازِهِ؛ فَلِسَلَامَتِهِ مِنْ مُقْتَضَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَلِدُخُولِهِ عِنْدَ الْمَانِعِينَ تَحْتَهَا، وَلِسَلَامَتِهِ عِنْدَ الْمُجِيزِينَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَا يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُمْ3، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ مَا وُجِدَ إِلَى غَيْرِهِ سَبِيلٌ، وَهَذَا جَوَابٌ يَكْفِي الْمُقَلِّدَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَيُورَدُ عَلَى الْعَالَمِ4 مِنْ بَابِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لِيَتَوَقَّفَ، وَيَتَأَمَّلَ، وَيَلْتَمِسَ الْمَخْرَجَ، وَلَا يَتَعَسَّفَ بإطلاق الرد. وأما التفصيلي؛ فنقول: إن هذا الْمَسَائِلَ لَا تَقْدَحُ فِيمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا مَسْأَلَةُ   1 مسألة نكاح المحلل. "د". 2 من هذا الأصل وهو أن الدليل يقتضي أن هذا التسبب غير صحيح. "د". 3 العالم المتين لا يرضى لنفسه التناقض في الكلام ولبعد غوصه ودقة ملاحظته قد يبدو لبعض الناظرين أنه وقع في زلة التناقض، وهو بريء منها، وليس مع هذا بمعصوم من أن يبني على أصل مرة ويغفل عنه مرة أخرى، فيأخذ بعض الفروع المندرجة تحته ويرجع بها إلى أصل آخر؛ فيقع في التناقض من حيث لا يقصد ولا يدري؛ فغرض المصنف من هذه الجملة أخذ طالب العلم إلى التؤدة والأناة في تفهم أقوال العلماء، وأن لا يسارع إلى رميها بالخطأ كما يصنع كثير ممن وقفوا على الشاطئ الأدنى من العلم وتخبطهم الغرور بالإثم؛ فعاثوا في أعراض العلماء بألسنة حداد. "خ". 4 أي: المجتهد، أي: يعرض عليه ليتنبه، وذلك من تحسين الظن به. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 التَّعْلِيقِ؛ فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ1: "إِنَّهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى الْإِمَامَيْنِ، وَإِنَّ مَنْ قَالَ بِشَرْعِيَّةِ النِّكَاحِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ قَبْلَ الْمِلْكِ؛ فَقَدِ الْتَزَمَ الْمَشْرُوعِيَّةَ مَعَ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ شَرْعًا". قَالَ: "وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَلْبَتَّةَ، لَكِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إِجْمَاعًا؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ تَحْصِيلًا لِحِكْمَةِ الْعَقْدِ". قَالَ: "فَحَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى شَرْعِيَّتِهِ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ حِكْمَتِهِ، وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَقَاصِدِهِ". قَالَ: "وَهَذَا مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْحَابِنَا". انْتَهَى قَوْلُهُ. وَهُوَ عَاضِدٌ2 لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ آخَرَ نُدْرِجُهُ أَثْنَاءَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلضَّرُورَةِ إِلَيْهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وَذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لِحِكْمَةٍ لَا يَخْلُو أَنْ يُعْلَمَ أَوْ يُظَنَّ وُقُوعُ الْحِكْمَةِ بِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ عُلِمَ أَوْ ظُنَّ ذَلِكَ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَلَا ظُنَّ ذَلِكَ؛ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ ارْتَفَعَتِ الْمَشْرُوعِيَّةُ أَصْلًا، فَلَا أَثَرَ لِلسَّبَبِ شَرْعًا أَلْبَتَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، مِثْلَ الزَّجْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ العاقل إذا جنى، والعقد   1 في "الفروق" "3/ 171، الفرق الخامس والستون والمائة". 2 لأن فيه تسليما للقاعدة مآلا، وإنما الإشكال في التفريع كما قال: "وكان يلزم ألا يصح العقد ... إلخ"، وقال: "وهذا موضع مشكل على أصحابنا"؛ أي: حيث فرعوا ما ينافي مع القاعدة التي سلموها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالطَّلَاقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ1، وَالْعِتْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ2، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ، وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ قَدْ فُرِضَ أَنَّهُ لِحِكْمَةٍ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ إِثْبَاتِ الْمَصَالِحِ حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَلَوْ سَاغَ شَرْعُهُ مَعَ فُقْدَانِهَا جُمْلَةً؛ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مَشْرُوعًا، هَذَا خَلْفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْحُدُودُ وُضِعَتْ لِغَيْرِ قَصْدِ الزَّجْرِ، وَالْعِبَادَاتُ لِغَيْرِ قَصْدِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ امْتِنَاعُ وُقُوعِ حُكْمِ الْأَسْبَابِ -وَهِيَ الْمُسَبَّبَاتُ- لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ، مَعَ قَبُولِ الْمَحَلِّ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ؛ فَهَلْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْخَارِجِيُّ فِي شَرْعِيَّةِ السَّبَبِ، أَمْ يَجْرِي السَّبَبُ عَلَى أَصْلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ؟ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَالْخِلَافُ فِيهِ سَائِغٌ، وَلِلْمُجِيزِ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَقْدَحُ فِيهَا قَضَايَا الْأَعْيَانِ وَلَا نَوَادِرُ3 التَّخَلُّفِ، وَسَيَأْتِي4 لِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي موضعه, إن شاء الله.   1، 2 أي: بدون تعليق. "د". 3 في الأصل: "موارد". 4 في كتاب المقاصد في المسألة العاشرة؛ أي: فحيث إن المحل قابل في ذاته؛ فتخلف الحكمة في هذا الفرد بخصوصه لأمر خارج لا يضر في اطراد الحكم، كالملك المترفه مثلا، لا مشقة في سفره ومع ذلك يطرد معه حكم السفر من قصر وفطر؛ ولذلك يقال فيمن علق الطلاق على النكاح: المحل قابل للحكمة والمانع خارج؛ فيجري التسبب على أصله. وهذا الدليل عام في المسائل الفقهية لا يخص موضع تخلف الحكمة عن سببها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وَالثَّانِي, وَهُوَ الْخَاصُّ بِهَذَا الْمَكَانِ: أَنَّ الْحِكْمَةَ إِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ بِمَحَلِّهَا وَكَوْنِهِ قَابِلًا لَهَا فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ بِوُجُودِهَا فِيهِ، فَإِنِ اعْتُبِرَتْ بِقَبُولِ الْمَحَلِّ فَقَطْ؛ فَهُوَ الْمُدَّعَى، وَالْمَحْلُوفُ بِطَلَاقِهَا فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ قَابِلَةٌ لِلْعَقْدِ عَلَيْهَا مِنَ الْحَالِفِ وَغَيْرِهِ؛ فَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ فِي الْمَنْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَإِنِ اعْتُبِرَتْ بِوُجُودِهَا فِي الْمَحَلِّ1؛ لَزِمَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْمَنْعِ فُقْدَانُهَا مُطْلَقًا، لِمَانِعٍ أَوْ لِغَيْرِ مَانِعٍ، كَسَفَرِ الْمَلِكِ الْمُتَرَفِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ لَهُ فِي السَّفَرِ، أَوْ هُوَ مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ، فَكَانَ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي حَقِّهِ مُمْتَنِعَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِبْدَالُ الدِّرْهَمِ بِمِثْلِهِ، وَإِبْدَالُ الدِّينَارِ بِمِثْلِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي نَجِدُ الْحُكْمَ فِيهَا جَارِيًا عَلَى أَصْلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْحِكْمَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وَلَا يُقَالُ2: إِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ بِإِطْلَاقٍ، وَإِبْدَالَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ.   1 أي: فعلا. "د". 2 أي: ردا على اعتبار مجرد قابلية المحل، وعلى الاستناد في ذلك إلى أن الحكمة غير موجودة فعلا في مسألة الملك المترفه المسافر، وكذا في مسألة إبدال الدينار بمثله، وأمثال ذلك؛ أي: لا يقال: نحن لا نقارن خصوص الملك المترفه بمسألة نكاح المحلوف بطلاقها، بل إنما يلزم أن نقارن السفر مطلقا بنكاح المحلوف بطلاقها، يعني: والسفر في ذاته مظنة المشقة وإن لم توجد في بعض الأفراد النادرة؛ كالملك مثلا, أما مسألة نكاح المحلوف بطلاقها؛ فليست مظنة وجود الحكمة في أي فرد، فضلا عن الفرد النادر، وعلى ذلك لا يصح أن تجعل هذه المسألة من هذا الباب، يعني: فعلى فرض أن المحل قابل؛ فهو قبول ذهني صرف لا يحتمل تحققه، بخلاف مسألة الملك والدينار؛ فالمحل قابل ويتحقق وجود الحكمة في السفر المطلق؛ لأن المقيس عليه السفر بإطلاق، وغالبه تتحقق فيه الحكمة، أما هنا؛ فلا تتحقق الحكمة في مسألة المحلوف بطلاقها ولا في فرد. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 مَظِنَّةٌ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِإِطْلَاقٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا؛ فَلْيَجُزِ التَّسَبُّبُ بِإِطْلَاقٍ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا بِإِطْلَاقٍ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَظِنَّةٍ لِلْحِكْمَةِ، وَلَا تُوجَدُ فِيهَا عَلَى حَالٍ. لِأَنَّا نَقُولُ1: إِنَّمَا نَظِيرُ السَّفَرِ بِإِطْلَاقٍ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِإِطْلَاقٍ، فَإِنْ قُلْتُمْ بِإِطْلَاقِ الْجَوَازِ مَعَ عَدَمِ اعْتِبَارِ [وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ] 2 الْمُقَيَّدَةِ؛ فَلْتَقُولُوا بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا؛ لِأَنَّهَا صُورَةٌ مُقَيَّدَةٌ مِنْ مُطْلَقِ صُوَرِ نِكَاحِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْقَرَابَةِ الْمُحَرَّمَةِ، كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِإِطْلَاقٍ3؛ فَالْمَحَلُّ غَيْرُ قَابِلٍ بِإِطْلَاقٍ، فَهَذَا مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ4؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ بَعْضُ الْأَسْبَابِ مَشْرُوعًا وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الْحِكْمَةُ وَلَا مَظِنَّتُهَا، إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ فِي نَفْسِهِ قَابِلًا؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ فِي نَفْسِهِ مَظِنَّةٌ لِلْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ وُقُوعًا، وَهَذَا مَعْقُولٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اعْتِبَارَ وُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي مَحَلٍّ عَيْنًا لَا يَنْضَبِطُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا ثَانِيًا عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ، فَنَحْنُ قَبْلَ وُقُوعِ السَّبَبِ جَاهِلُونَ بِوُقُوعِهَا أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهَا؛ فَكَمْ مِمَّنْ طَلَّقَ عَلَى أَثَرِ إِيقَاعِ النِّكَاحِ، وَكَمْ مِنْ نِكَاحٍ فُسِخَ إِذْ ذَاكَ لِطَارِئٍ طَرَأَ أَوْ مَانِعٍ مَنَعَ، وَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ وُقُوعَ الْحِكْمَةِ؛ فَلَا يصح   1 أي: فالمقارنة على ما صورتم غير مستقيمة؛ لأنه يلزم أن يقارن المطلق بالمطلق, والمطلق هنا نكاح الأجنبية حلف بطلاقها أو لا، هذا هو الذي يقارن بالسفر مطلقا، فإذا قلتم بإطلاق الجواز في السفر ولو لم تتحقق المشقة في مثل مسألة الملك؛ فلتقولوا بإطلاق الجواز في زواج الأجنبية وإن لم تتحقق الحكمة من النكاح في المحلوف بطلاقها. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفيه: "اعتباره مقيدة"، وفي "ط" بدله "الصورة". 3 في "د": "بإطلا" من غير قاف. 4 أي: إذا لم يكن المحل غير قابل، بل كان قابلا وإن منع منه مانع خارج؛ صح التسبب، وتحمل عليه المسائل المتقدمة التي استشكلها القرافي؛ فينحل الإشكال. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 تَوَقَّفُ مَشْرُوعِيَّةِ السَّبَبِ عَلَى وُجُودِ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَقَدْ فَرَضْنَا وُقُوعَ السَّبَبِ بَعْدَ وُجُودِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُحَالٌ؛ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى اعْتِبَارِ مَظِنَّةِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ1 كَافِيًا2. وَلِلْمَانِعِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ؛ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ شَرْعًا بكونه قابلا في الذهن   1 إنما قال: "على الجملة"؛ ليصح الكلام، فتدخل مسألة الملك مثلا ونكاح الأجنبية المحلوف بطلاقها، أما على التفصيل؛ فإن اعتباره ينقض كثيرا من المسائل المحكوم فيها باطراد السبب، وهي ما لم توجد فيها مظنته في خصوص المحل مهما كان قابلا وجاء المانع من أمر خارج. لكن يبقى الكلام في تحديد المعنى الذي أفاده هذا الدليل الثالث، وبالتأمل فيه نجده دليلا ثانيا على عدم صحة اعتبار الحكمة بوجودها في المحل، وقد استدل عليه أولا بأنه يلزمه باطل، وهو كون المسائل الشرعية المذكورة في قصر وفطر الملك وإبدال الدرهم بالدرهم باطلة مع أنها متفق عليها، ثم استدل عليه هنا بأمر عقلي، وهو أن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور باطل، فما أدى إليه -وهو اعتبار وجودها في المحل- باطل؛ فلا بد من اعتبار مظنة قبول المحل إجمالا، وعليه؛ فهو وإن كان دليلا ثالثا على أصول الموضوع، وهو أن الاعتبار بقبول المحل ولو منع من الحكمة أمر خارج، إلا أنه يشترك مع الدليل الثاني في الفرض الذي بنيا عليه، وهو اعتبار الحكمة بوجودها في المحل، وهذا الفرض كان أحد فرضين أدرجهما تحت قوله: "والدليل الثاني"؛ فحصل بهذا الصنيع شيء من الغموض في وضع هذا الدليل الثالث وتوجهه، فما جعله الدليل الثاني في الحقيقة تحته الدليلان الثاني والثالث، بقي شيء آخر وهو قوله: "وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة"، هذا غير ظاهر؛ فإن المفروض هو أن اعتبار السبب بعد وجود الحكمة لا وجوده، ولا يحصل الدور إلا بناء على ما فرضه من توقف كل من الوجودين على الآخر؛ لأن توقف وجود الحكمة على وقوع السبب ثم توقف اعتبار السبب ومشروعيته على وجود الحكمة لا دور فيه, فلا يتم هذا الدليل إذا لوحظ فيه مسألة الدور، ولكنه يمكن تمامه بما قاله قبل الكلام في مقدمات الدور. "د". 2 وقعت العبارة في الأصل هكذا: "اعتبار أن مظنة ... كافٍ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 خَاصَّةً1، وَإِنْ فُرِضَ غَيْرُ قَابِلٍ فِي الْخَارِجِ، فَمَا لَا يُقْبَلُ2 لَا يُشْرَعُ التَّسَبُّبُ فِيهِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ تُوجَدُ حِكْمَتُهُ فِي الْخَارِجِ، فَمَا لَا تُوجَدُ حِكْمَتُهُ فِي الْخَارِجِ؛ لَا يُشْرَعُ أَصْلًا، كَانَ فِي نَفْسِهِ قَابِلًا لَهَا ذِهْنًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهِيَ حِكَمُ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ فَمَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَا هُوَ مَظِنَّةُ مَصْلَحَةٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ؛ فَقَدْ سَاوَى مَا لَا يَقْبَلُ3 الْمَصْلَحَةَ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ، مِنْ حَيْثُ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ، وَإِذَا اسْتَوَيَا؛ امْتَنَعَا أَوْ جَازَا، لَكِنَّ جَوَازَهُمَا يُؤَدِّي إِلَى جَوَازِ مَا اتُّفِقَ عَلَى مَنْعِهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بمنعهما مطلقا، وهو المطلوب. والثاني: أَنَّا لَوْ أَعْمَلْنَا السَّبَبَ هُنَا، [مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَا تَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ وَلَا تُوجَدُ بِهِ؛ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ التَّسَبُّبَ هُنَا يَصِيرُ] 4 عَبَثًا، وَالْعَبَثَ لَا يُشْرَعُ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَصَالِحِ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ [مَعْنَى] 4 كَلَامِ الْقَرَافِيِّ5. وَالثَّالِثُ: أَنَّ جَوَازَ مَا أُجِيزَ مِنْ تِلْكَ المسائل إنما هو باعتبار6 وجود   ــ 1 كنكاح المحلوف بطلاقها مثلا؛ فإن فرض حصول الحكمة فيها عقلا مع وجود هذا التعليق غير محال. "د". 2 أي: ذهنا، وأما ما يقبل ولو ذهنا فقط؛ فيشرع فيه التسبب. "د". 3 وذلك كنكاح القرابة المحرمة المتفق على منعه. "د". 4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل. 5 أي في قوله: "وكان يلزم ألا يصح العقد ألبتة". "د". قلت: انظر "الفروق" "3/ 171". 6 أي: فلا بد من وجود مظنة الحكمة تفصيلا، وهي موجودة كذلك في مسألة الملك، والمشقات متفاوتة في الأشخاص والأحوال، حتى الملك المترفه يحصل له مشقة في السفر تناسبه، وإذا فرض أنه لم يحصل له مشقة؛ فلا يضر لأن الضابط هو المظنة وهي متحققة فيه، دون مسائل النكاح والعتق المتقدمة؛ لأنه لا يوجد فيها مظنة الحكمة مطلقا، بل مقطوع فيها بعدم ترتب الحكمة عليها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْمَشَقَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتَرَفِّهِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، بَلِ الظَّنُّ بِوُجُودِهَا غَالِبٌ؛ غير أن المشقة تختلف اختلاف النَّاسِ وَلَا تَنْضَبِطُ، فَنَصَبَ الشَّارِعُ الْمَظِنَّةَ فِي مَوْضِعِ الْحِكْمَةِ؛ ضَبْطًا لِلْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا جَعَلَ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ ضَابِطًا لِمُسَبَّبَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَجَعَلَ الِاحْتِلَامَ مَظِنَّةَ حُصُولِ الْعَقْلِ الْقَابِلِ لِلتَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ فِي نَفْسِهِ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا إِبْدَالُ الدِّرْهَمِ بِمِثْلِهِ؛ فَالْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَدْ لَا تُتَصَوَّرُ عَقْلًا، فَإِنَّهُ مَا مِنْ مُتَمَاثِلَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا افْتِرَاقٌ وَلَوْ فِي تَعْيِينِهِمَا، كَمَا أَنَّهُ مَا مِنْ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ وَلَوْ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهُمَا عَنْهُمَا، وَلَوْ فُرِضَ التَّمَاثُلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَهُوَ نَادِرٌ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَالْغَالِبُ الْمُطَّرِدُ اخْتِلَافُ الدِّرْهَمَيْنِ وَالدِّينَارَيْنِ وَلَوْ بِجِهَةِ الْكَسْبِ1؛ فَأَطْلَقَ الْجَوَازَ لِذَلِكَ، [وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ] 6 كَذَلِكَ؛ فَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَسْأَلَتِنَا. فَصْلٌ: وَقَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ2 هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ النِّكَاحِ لِلْبِرِّ فِي الْيَمِينِ وَمَا ذكر معها3؛ فإنه موضع فيه احتمال   1 أي: البريء من الشبهة وغير البريء؛ أي: فإن لم يوجد اختلاف في ذات الدينارين وأوصافهما اللازمة؛ فقد يوجد بأوصاف أخرى لاحقة لهما كما أشار إليه. "د". 2 بناء على القول بإجراء السبب على أصله ولو لم توجد الحكمة بالفعل متى كان المحل قابلا في ذاته وكان المانع خارجا عنه. "د". 3 هذه المسائل أيسر كثيرا من مسألة التعليق؛ لأن التعليق لا يتأتى فيه تحقق الحكمة بوجه، أما هذه؛ فإنها لا مانع من تحقق الحكمة فيها ووجود منافع النكاح ومقاصده الشرعية، غايته أنه لابسها قصد قضاء اللذة ولو لم ينو التمسك بها، أو حل اليمين، يعني: والغلب أنه لا يتمسك بها أو قضاء شهوته مدة إقامته حتى إذا سافر فارق، وهكذا من المقاصد التي لا تناسب الزوجية أو لا تتفق مع المعتبر فيها، وكلها لا تنافي تحقق المقاصد المشروعة بالنكاح؛ فصار الفرق أن كلا من التعليق وهذه المسائل المحل فيها قابل لحصول الحكمة، لكن يوجد في الأولى مانع من الحصول وفي هذه المسائل لا مانع منه. "د". قلت: وانظر في هذه المسائل "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 534، 535، و29/ 13-21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 لِلِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ وَجْهُ الصِّحَّةِ هُوَ الْأَقْوَى، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ الْقَابِلِ لَهُ -كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ- لَمْ يُمْنَعْ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ -لَمَّا كَانَ لَهُ نِيَّةُ الْمُفَارَقَةِ أَوْ كَانَ مَظِنَّةً لِذَلِكَ- أَشْبَهَ النِّكَاحَ الْمُؤَقَّتَ؛ لَمْ يَجُزْ، هَذَا وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ يَحْكِ فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْبِرِّ خِلَافًا؛ فَقَدْ غَمَزَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْصَانُ، وَهَذَا كَافٍ فِيمَا فِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ؛ فَالْمَوْضِعُ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ وَجَدْنَا نِكَاحَ الْبِرِّ نِكَاحًا مَقْصُودًا لِغَرَضِهِ الْمَقْصُودِ، لَكِنْ عَلَى أَنْ يَرْفَعَ حُكْمَ الْيَمِينِ، وَكَوْنُهُ مَقْصُودًا بِهِ رَفْعُ الْيَمِينِ يَكْفِي بِأَنَّهُ قُصِدَ لِلنِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَقَاصِدِهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ رَفْعَ الْيَمِينِ، وَهَذَا غَيْرُ قَادِحٍ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لِقَضَاءِ الوَطَر مَقْصُودٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْوَطَرِ مِنْ مَقَاصِدِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ1، وَنِيَّةُ الْفِرَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الطَّلَاقِ الَّذِي جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ، وَقَدْ يَبْدُو لَهُ فَلَا يُفَارِقُ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ؛ فَإِنَّهُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بانٍ عَلَى شَرْطِ التَّوْقِيتِ. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا يُقْصَدُ بِالنِّكَاحِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَحْلِيلُهَا لِلْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ بِصُورَةِ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، لَا بِحَقِيقَتِهِ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ غرضا   1 في الأصل: "الشرع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 مِنْ أَغْرَاضِهِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا. وَأَيْضًا، فَمِنْ حَيْثُ كَانَ لِأَجْلِ الْغَيْرِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْبَقَاءُ مَعَهَا عُرْفًا أَوْ شَرْطًا؛ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا يُمْكِنُ اسْتِمْرَارُهُ. وَأَيْضًا؛ فَالنَّصُّ1 بِمَنْعِهِ عَتِيدٌ2، فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ تَرَاوُضٌ3 وَلَا شَرْطٌ، وَكَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْقَاصِدَ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُصَحِّحُ هَذَا النِّكَاحَ اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ قاصد للاستمتاع عَلَى الْجُمْلَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقَ؛ فَقَدْ قَصَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ مَا يُقْصَدُ بِالنِّكَاحِ مِنْ أَغْرَاضِهِ الْمَقْصُودَةِ، وَيَتَضَمَّنُ4 ذَلِكَ الْعَوْدَ إِلَى الْأَوَّلِ إِنِ اتُّفِقَ، على قول، ولا يتضمنه على قول،   1 "لعن الله المحلل والمحلل له"، ولعل هذا هو الوجه الوجيه، وإلا؛ فالتعليق أشد منه بعدا عن صحة التسبب؛ لأنه لا يترتب عليه مقصد من مقاصد النكاح، بخلاف نكاح التحليل الذي لا بد فيه من الوطء، وقد يبدو له؛ فلا يفارق كما حصل كثيرا، فيكون كقضاء الوطر، ولكن ورد النص فيه بخصوصه لمعنى خاص ومفسدة أخلاقية رأى الشارع دفعها بتحريمه، وأنت إذا تأملت قوله بعد: "إذا لم يكن تَرَاوُضٌ وَلَا شَرْطٌ وَكَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْقَاصِدَ؛ فإن بعض العلماء يصحح النكاح اعتبارا بأنه ... إلخ" تعلم وجه ما قلنا، وأن مسألة المنع لا ترجع إلى عدم وجود منافع النكاح الشرعية؛ لأنها حاصلة على الجملة، ولا إلى القصد؛ لأنه مع حصول القصد من الزوج وهو صاحب الشأن صح النكاح، فالكلام في هذا التراوض المهين للزوج والزوجة والمحلل المؤدي إلى انحطاط الأخلاق وقبول الجميع ما يشبه الزنى بمن تعتبر زوجة للأول وحرما له حتى في هذا الوقت نفسه في نظرهم، وهذا أمر يصح أن يرجع فيه للوجدان ليعلم مقدار ما يصيب الكرامة وعزة النفس من جزائه. "د" قلت: سيأتي تخريج حديث: "لعن الله المحلل ... " "ص429". 2 أي: حاضر مهيأ. انظر: "لسان العرب " "ع ت د". 3 أي: كلام بين الطرفين للاتفاق. انظر: "لسان العرب" "ر وض". 4 أي: يتضمن نكاح التحليل -مع مقاصد النكاح الأصلية- قصده أن تعود إلى الزوج الأول إن كان هناك اتفاق وشرط، وقال بعضهم: بل لا يتضمن حتى مع الشرط، وإنما هو أمر تبعي وليس مقصودا أصليا؛ فلا يمنع صحة العقد. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وَذَلِكَ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ؛ فَلَا يَخْلُو مِنْ وَجْهٍ مِنَ النظر. ومما يدل على أن يحل الْيَمِينِ إِذَا قُصِدَ بِالنِّكَاحِ لَا يَقْدَحُ فِيهِ؛ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ قُرْبَةٍ؛ مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَيَصِحُّ مِنْهُ قُرْبَةً، وَهَذَا مِثْلُهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنَ الْيَمِينِ وَشَبَهِهِ قَادِحًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لَكَانَ قَادِحًا فِي أَصْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِبَادَةِ التَّوَجُّهُ بِهَا إِلَى الْمَعْبُودِ قَاصِدًا بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ، فَكَمَا تَصِحُّ1 الْعِبَادَةُ الْمَنْذُورَةُ أَوِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا إِلَّا حَلَّ الْيَمِينِ -وَإِلَّا لَمْ يَبَرَّ فِيهِ- فَكَذَلِكَ هُنَا، بَلْ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً يَمْلِكُهَا؛ فَالْعَقْدُ بِبَيْعِهَا صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا حَلَّ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ إِنْ حَلَفَ أَنْ يَصِيدَ أَوْ يَذْبَحَ هَذِهِ الشَّاةَ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَحْكَامَ الْمَشْرُوعَةَ لِلْمَصَالِحِ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَحَالِّهَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مَظِنَّةً2 لَهَا خَاصَّةً. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْعَادِيَّةَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُنَاقِضَةً لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْمُوَافَقَةِ، وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ سيأتي إن شاء الله تعالى.   1 في الأصل: "فهكذا تقع". 2 أي على الجملة، وإلا؛ فنكاح حل اليمين مظنة ألا يترتب عليه شيء من مقاصد النكاح المذكورة فيما سبق وأمثالها، وإن كان يترتب، وقلنا "على الجملة"؛ أي: باعتبار أنه مطلق نكاح أجنبية مستوف للأركان والشروط، وقوله: "خاصة" توكيد للحصر المستفاد من إنما. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ 1 مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِالسَّبَبِ مُسَبَّبًا لَا يُعْلَمُ وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ أَوْ غَيْرُ مَقْصُودٍ [لَهُ] 2، وَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، وَهُوَ مَحَلُّ إِشْكَالٍ وَاشْتِبَاهٍ، وَذَلِكَ أَنَّا لَوْ تَسَبَّبْنَا لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ الْمَفْرُوضِ, كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ3 يَكُونُ التَّسَبُّبُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَإِذَا دَارَ الْعَمَلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى التَّسَبُّبِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. لَا يُقَالُ: إِنَّ السَّبَبَ قَدْ فُرِضَ مَشْرُوعًا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فلِم لَا يُتَسَبَّبُ بِهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا فُرِضَ مَشْرُوعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مَفْرُوضٍ مَعْلُومٍ، لَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّسَبُّبُ [بِهِ] مُطْلَقًا إِذَا عَلِمَ شَرْعِيَّتَهُ لِكُلِّ مَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَلَيْسَ مَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ هَذَا، بَلْ عَلِمْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ شُرِعَتْ لِأُمُورٍ تَنْشَأُ عَنْهَا، وَلَمْ تُشْرَعْ لِأُمُورٍ، وَإِنْ كَانَتْ تَنْشَأُ عَنْهَا وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا؛ كَالنِّكَاحِ؛ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِأُمُورٍ كَالتَّنَاسُلِ وَتَوَابِعِهِ، وَلَمْ يُشْرَعْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلتَّحْلِيلِ وَلَا مَا أَشْبَهَهُ، فَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِأُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ؛ كَانَ مَا جُهِلَ كَوْنُهُ مَشْرُوعًا لَهُ مَجْهُولَ الْحُكْمِ؛ فَلَا4 تَصِحُّ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِقْدَامِ حَتَّى يُعْرَفَ الْحُكْمُ. وَلَا يُقَالُ: الْأَصْلُ الْجَوَازُ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فالأصل في الأبضاع المنع، إلا بأسباب   1 يظهر أن هذا الموضع يدخل تحت قاعدة الأمور المشتبهات. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه: "مقصود للشارع". 3 في "د": "الأولى". 4 في "ط": "فلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 مَشْرُوعَةٍ، وَالْحَيَوَانَاتُ الْأَصْلُ فِي أَكْلِهَا الْمَنْعُ حَتَّى تَحْصُلَ الذَّكَاةُ الْمَشْرُوعَةُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بَعْدَ تَحْصِيلِ أَشْيَاءَ لَا مُطْلَقًا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَبَيَّنَ مُسَبَّبٌ1 لَا نَدْرِي: أَهْوَ مِمَّا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالتَّسَبُّبِ الْمَشْرُوعِ أَمْ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ؟ وَجَبَ التَّوَقُّفُ حَتَّى يُعْرَفَ الْحُكْمُ فِيهِ، وَلِهَذَا قَاعِدَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ2 مِنْ مُسَبَّبَاتِ الْأَسْبَابِ وَمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" [وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَمَا أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ ضِمْنًا، كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَيْضًا أَحْكَامٌ ضِمْنًا؛ كَالْقَتْلِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَالدِّيَةُ فِي مَالِ الْجَانِي أَوِ الْعَاقِلَةِ، وَغُرْمُ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ المقتول عبدا3، والكفارة، وكذلك [الإتلاف و] التَّعَدِّي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالْعُقُوبَةُ، وَالسَّرِقَةُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الضَّمَانُ وَالْقَطْعُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ، الْمُسَبِّبَةِ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ، الْمُسَبِّبَةِ لِهَذِهِ الأسباب4 في خطاب الوضع.   1 في الأصل و"ط": "تسبب". 2 في "ط": "للشارع". 3 لم يرد في قتل الحر بالعبد وعدم قتله نص صريح صحيح، وإذا قطعنا النظر عن الأحاديث الصريحة المروية في نفي القصاص وإثباته حيث لم تبلغ مبلغ الصحة الكافية في تقرير الأحكام؛ بقي بيد الجمهور مفهوم الخطاب في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، وفي يد الإمام النخعي وتابعيه بعض أدلة عامة كحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ". "خ". 4 كذا في النسخ المطبوعة وفي الأصل، وفي هامشه: "لعله تصحيف والصواب الأشياء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وَقَدْ يَكُونُ هَذَا السَّبَبُ الْمَمْنُوعُ يُسَبِّبُ مَصْلَحَةً1 مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَيْسَ ذَلِكَ سَبَبًا فِيهَا؛ كَالْقَتْلِ2 يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِيرَاثُ الْوَرَثَةِ، وَإِنْفَاذُ الْوَصَايَا، وعتق المدبرين، وحرية أمهات الأولاد و [كذلك] 3 الْأَوْلَادُ4، وَكَذَلِكَ الْإِتْلَافُ بِالتَّعَدِّي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُتَعَدِّي لِلْمُتْلَفِ، تَبَعًا لِتَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ، وَالْغَصْبُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ إِذَا تَغَيَّرَ فِي يَدَيْهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَعْلُومِ بِنَاءً عَلَى تَضْمِينِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ؛ فَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ التَّسَبُّبَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَفْسَدَةٍ عَلَيْهِ، لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْصَدَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا قُصِدَ؛ فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْمُسَبَّبَ الَّذِي مُنِعَ لِأَجْلِهِ لَا غَيْرَ ذلك؛ كالتشفي5   1 أي: يترتب عليه أمر معتد به شرعا له أحكامه ومستتبعاته، وإن كان السبب الممنوع لم يقصد به ذلك في نظر الشارع، كما تقدم في النكاح، يترتب عليه الطلاق وإن لم يكن في مقاصده؛ لأنه لا طلاق إلا في ملك عصمة، إلا أن هذا يمكن أن يقال في كل ما تضمنته الأسباب الممنوعة لأنها غير مقصودة بالتسبب، بخلاف المشروعة؛ فبعض ما ينبني عليها مقصود بالتسبب. "د". 2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: "قوله: "ليس ذلك سببا فيها، كالقتل ... إلخ" يريد: إن الميراث وما معه مسبب عن الموت المسبب عن القتل". 3 سقطت من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، "وكذلك الأولاد" ليست في "ط". 4 كتب الناسخ في هامش الأصل: "إن صحت الرواية بهذا؛ فالمراد أولاد أمهات الأولاد من غيره إذا خلقوا بعد صيرورتها أم ولد". 5 هل يعتبر شفاء النفس من غيظها بقتل من غاظها مصلحة؟ وكذا مطلق الانتفاع بالمسروق والمغصوب بقطع النظر عما يترتب عليهما من الملك، الظاهر أن ذلك كله لا يسمى مصلحة، أعني أمرا معتدا به شرعا، له أحكام؛ كالملك فهو مصلحة لها توابع كثيرة، وعليه؛ فلا يظهر وجه لإدراج هذا في الضرب الثاني الذي يترتب عليه مصلحة، وكان يجمل به أن يجعله أمرا ثالثا غير الضربين المذكورين، يرشدك إلى أن التشفي وما معه ليس مصلحة بالمعنى المقصود، قوله: "فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام المصلحية" يعني كملك المغصوب، فيؤخذ منه أن التشفي ليس حكما مصلحيا. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فِي الْقَتْلِ، وَالِانْتِفَاعِ الْمُطْلَقِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ، فَهَذَا الْقَصْدُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ التَّبَعِيَّةِ الْمَصْلَحِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهَا إِذَا كَانَتْ حَاصِلَةً حَصَلَتْ مُسَبَّبَاتُهَا؛ إِلَّا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا فِي حِرْمَانِ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا التَّشَفِّي، أَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً عِنْدَ مَنْ قَالَ بِحِرْمَانِهِ1، وَلَكِنْ2 قَالُوا: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ أَتْلَفَهُ؛ فَإِنَّ مِنْ أَحْكَامِ [ذَلِكَ] التَّغَيُّرِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ فَصَاحِبُهُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِيهِ، وَيَجُوزُ لِلْغَاصِبِ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ، عَلَى كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ3 عِنْدَ آخَرِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَصْدَ هَذَا الْمُتَسَبِّبِ لَمْ يُنَاقِضْ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي تُرَتُّبِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا تَرَتَّبَتْ عَلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ أَوِ التَّغَيُّرِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، وَإِنَّمَا نَاقِضَةٌ فِي إِيقَاعِ السَّبَبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْقَصْدُ إِلَى السَّبَبِ بِعَيْنِهِ لِيَحْصُلُ بِهِ غَرَضٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ الْقَصْدِ إِلَى هَذَا الْمُسَبَّبِ بِعَيْنِهِ الَّذِي هُوَ نَاشِئٌ عن الضمان أو القيمة أو   1 هذا مذهب جمهور الفقهاء واقفين على عموم قوله, عليه الصلاة والسلام: "ليس لقاتلٍ ميراثٌ"، وفهم الإمام مالك أن العلة في حرمان القاتل من الميراث هي المعاملة بنقيض قصده حتى لا يتخذ الناس القتل ذريعة لاستعجال الإرث قبل أوانه؛ فخص الحديث بالمتعمد للقتل، وقضى بصحة إرث المخطئ على عادته في رعاية المصالح، وحمل الأحاديث على ما يطابقها. "خ". 2 بالتأمل يعرف الفرق بين القتل والغصب، حيث أجروا قاعدة سد الذرائع في الأول دون الثاني؛ فمرتبة النفس في حفظ الضروريات غير مرتبة المال، وأيضا في الغصب لا يضيع على المغصوب منه شيء؛ فيمكن تدارك حفظ ماله بالقيمة، ولا يتأتى ذلك في النفس بعد القتل، ويمكن لكل قاتل ادعاء قصد التشفي ولو كان قاصدا للتوابع كالميراث؛ لأنه أمر مستور عنا، فلو أخذ بهذا؛ لطاحت نفوس وهدرت دماء وراء ستار قصد التشفي فقط. "د". 3 في الأصل: "كراهة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 مَجْمُوعِهِمَا، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَصْبَ يَتْبَعُهُ لُزُومُ الضَّمَانِ عَلَى فَرْضِ تَغَيُّرِهِ؛ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ بِسَبَبِ التَّغَيُّرِ النَّاشِئِ عَنِ الْغَصْبِ، وَحِينَ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ وَتَعَيَّنَتْ؛ صَارَ الْمَغْصُوبُ لِجِهَةِ الْغَاصِبِ مِلْكًا لَهُ1، حِفْظًا لِمَالِ الْغَاصِبِ أَنْ يَذْهَبَ بَاطِلًا بِإِطْلَاقٍ؛ فَصَارَ مِلْكُهُ تَبَعًا لِإِيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ، لَا بِسَبَبِ الْغَصْبِ؛ فَانْفَكَّ الْقَصْدَانِ، فَقَصْدُ الْقَاتِلِ التَّشَفِّيَ غَيْرُ قَصْدِهِ لِحُصُولِ الْمِيرَاثِ، وَقَصْدُ الْغَاصِبِ الِانْتِفَاعَ غَيْرُ قَصْدِهِ لِضَمَانِ الْقِيمَةِ وَإِخْرَاجُ الْمَغْصُوبِ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ جَرَى الْحُكْمُ التَّابِعُ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ الْقَاتِلُ وَالْغَاصِبُ عَلَى مَجْرَاهُ، وَتَرَتَّبَ نَقِيضُ مَقْصُودِهِ2 فِيمَا قَصَدَ مُخَالَفَتَهُ، وَذَلِكَ عِقَابُهُ، وَأَخْذُ الْمَغْصُوبِ مِنْ يَدِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ إِلَّا مَا سُدَّتْ فِيهِ الذَّرِيعَةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ تَوَابِعَ السَّبَبِ، وَهِيَ الَّتِي تَعُودُ عَلَيْهِ بِالْمَصْلَحَةِ ضِمْنًا؛ كَالْوَارِثِ يَقْتُلُ الْمَوْرُوثَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمِيرَاثُ، وَالْمُوصَى لَهُ يَقْتُلُ الْمُوصِي لِيَحْصُلَ لَهُ الْمُوصَى بِهِ، وَالْغَاصِبُ يَقْصِدُ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ فَيُغَيِّرُهُ لِيَضْمَنَ قِيمَتَهُ   1 أي: فقصد الغاصب بالغصب إلى مجرد الانتفاع بقطع النظر عن الملك غير القصد من الغاصب بالغصب إلى الملك، وحيث إن الأخير لم يحصل منه؛ فلا يقال: كيف يملك بسبب الغصب وقد ناقض قصد الشارع حيث لم يجعل الغصب سببا في الملك؟ فإنه إنما ناقض في فعل السبب الممنوع، وسبب الملك هنا ليس هو الغصب الممنوع، بل السبب التغير والضمان وإن ترتبا عليه، فلم ينبن الملك على سبب ناقض فيه قصد الشارع، ويبقى الكلام فيما لو قصد بالغصب التملك ولم يغيره بنفسه، بل حصل فيه موجب فوت المغصوب بدون إرادته، هل يكون حكمه صحة تملكه بالقيمة أم لا؟ لم يفرقوا في الفروع بين القصدين متى حصل موجب الفوت، كما أنهم لم يفرقوا في قتل العمد بين القصدين التشفي وغيره في حرمانه من توابع السبب التي تعود على القاتل بالمصلحة. "د". 2 وهو مطلق الانتفاع بلا مقابل. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وَيَتَمَلَّكَهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا التَّسَبُّبُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشارع لم يضع1 تِلْكَ الْأَشْيَاءَ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ لِيَحْصُلَ بِهَا فِي خِطَابِ الْوَضْعِ مَصْلَحَةٌ؛ فَلَيْسَتْ إِذًا بِمَشْرُوعَةٍ فِي ذَلِكَ التَّسَبُّبِ، وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّسَبُّبِ الْمَخْصُوصِ كَوْنُهُ مُنَاقِضًا فِي الْقَصْدِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ عَيْنًا2، حَتَّى لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا قَصَدَهُ الْمُتَسَبِّبُ، فَتَنْشَأُ مِنْ هُنَا قَاعِدَةُ "الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ"، وَيُطْلَقُ الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِهَا إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْقَصْدُ الْمَفْرُوضُ، وَهُوَ مُقْتَضَى3 الْحَدِيثِ فِي حِرْمَانِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ، وَمُقْتَضَى الْفِقْهِ فِي حَدِيثِ الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ الْمُفْتَرِقِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ4، وَكَذَلِكَ مِيرَاثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ, أَوْ تَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ عَلَى مَنْ نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ، إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا، أَوْ يَعْتَبَرُ جَعْلُ الشَّارِعِ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ قَصْدُ هَذَا الْقَاصِدِ؛ فَيَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ مَعَ الْأَوَّلِ، هَذَا مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ اتِّسَاعُ نَظَرٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ فَلْنَقْبِضْ عَنَانَ الْكَلَامِ فيه.   1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "يمنع". 2 فقد قصد بالسبب بعينه إلى المسبب بعينه الذي لم يجعله الشارع من أسبابه؛ فليس الغصب والسرقة مثلا من أسباب الملك في نظر الشارع، ولكنه قصد إلى ذلك؛ فيكون قصده بعينه مناقضا لقصد الشارع بعينه. "د". 3 وإن كان الحديث لم يفرق في القصد، بل قال: "القاتل لا يرث"، فإذا كان قاصدا الميراث بالقتل؛ فظاهر، وإن لم يظهر قصده؛ عومل بذلك أيضا سدا للذريعة، ولو قال: "مقتضى الفقه في الحديثين"؛ كان أحسن. "د". قلت: وسيأتي تخريج حديث: "القاتل لا يرث" في "2/ 521"، وهو صحيح بشواهده كما فصلناه هناك، والله الهادي. 4 سيأتي لفظه وتخريجه "ص424". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 النَّوْعُ الثَّانِي فِي الشُّرُوطِ: وَالنَّظَرُ فِيهِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى: أَنَّ الْمُرَادَ1 بِالشَّرْطِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا كَانَ وَصْفًا مُكَمِّلًا لِمَشْرُوطِهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الْمَشْرُوطُ، أَوْ فِيمَا اقْتَضَاهُ الْحُكْمُ فِيهِ2؛ كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الْحَوْلَ أَوْ   1 الشرط من عدمه انعدام ... وليس في وجوده إلزام "منور الأفهام-ماء". 2 يؤخذ من شراح ابن الحاجب أنه كما أن المانع نوعان: مانع للسبب، ومانع للحكم؛ فكذا الشرط شرط للسبب وشرط للحكم، وإن الشرط مطلقا في الحقيقة يرجع إلى أنه مانع، لكن بجهة عدمه، والمسمى مانعا منعه بجهة وجوده، وإن شرط السبب يشتمل عدمه على أمر ينافي حكمة السبب، مثاله البيع سبب في ثبوت الملك، وحكمته حل الانتفاع، وشرطه القدرة على تسليم المبيع، وعدم القدرة يقتضي العجز عن الانتفاع، وهو يخل بحكمة حل الانتفاع، وشرط الحكم اختلفت عبارتهم فيه: فمن قائل: إن عدمه يقتضي حكمه تنافي حكمة الحكم، وعند تطبيقه يتعسر وجود حكمتين مطردتين متنافيتين، فلذلك قال غيره: شرط الحكم ما اشتمل عدمه على حكمة تنافي نفس الحكم، ومثلوه بالصلاة؛ فهي سبب الحكم وهو ترتب الثواب وعدم العقاب، وحكمة الصلاة التوجه لجناب القدس، وشرطها الطهارة؛ فعدم الطهارة يشتمل على أمر هو مخالفة الشارع في جعله الطهارة شرطا للثواب، وهذا ينافي الحكم وهو حصول الثواب وعدم العقاب، وإن كانت حكمة الصلاة -وهي مطلق التوجه لجناب القدس- موجودة فيما هو مسمى الصلاة ولو دون الطهارة. وعليه؛ فشرط السبب عدمه يخل بحكمة السبب؛ فيخل بتسبب الحكم عنه أيضا، وشرط الحكم يخل بالحكم وإن كانت حكمة السبب موجودة؛ فلنعد إلى بيان كلام المؤلف ومقارنته بما قالوه: يقول: إن الشرط "ما كان مكملا للمشروط فيما اقتضاه المشروط"؛ أي: فيما ترتب على المشروط من الحكمة، أي: وإذا كان مكملا له في حكمته؛ فعدم الشرط مخل بحكمته، ولا يخفى أن هذا هو شرط السبب. ثم قال: "أو فيما اقتضاه الحكم فيه"؛ أي: يكون الشرط مكملا للمشروط = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ...........................................................................   = لا في حكمته هو بل في الحكمة التي اقتضاها الحكم الحاصل بسبب هذا المشروط، وإذا كان كذلك؛ فعدمه يقتضي حكمة تخل بحكمة الحكم، ولا يخفى أن هذا هو شرط الحكم على الرأي الأول الذي اعترض بأنه يتعسر تطبيقه على كل شرط للحكم؛ لاستدعائه حكمتين متنافيتين: إحداهما في عدم الشرط، والأخرى في الحكم، وهو ما لم يذكروا له مثالا فضلا عن اطراده. وقد علمت مثاله على الرأي الثاني، وهو يريد بإدماج النوعين في تعريف واحد جعل الشرط نوعا واحدا كما سيأتي له ذلك في المانع أيضا، ويجعل ذلك اصطلاحه، أما أمثلته؛ فالمثال الأول لشرط السبب لأن ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، وحكمته التي اقتضاها وصف الغنى، وشرط هذا السبب المكمل له في هذه الحكمة الحول وبعبارة أخرى إمكان النماء؛ لأن استقرار حكم الملك إنما يكون بالتمكن من الانتفاع به في وجود المصالح؛ فقدر له حول جعل مناطا لهذا التمكن الذي يظهر به وجه كونه غنيا، فعدم الشرط وهو التمكن ينافي حكمة السبب وهي الغنى، وعليه؛ فمتى اختلت حكمة السبب لعدم الشرط؛ فلا يترتب الحكم أيضا، فقوله: "أو لحكمة الغنى" تنويع في العبارة، أي: إن ما يقتضيه الملك هو الحكمة التي هي وصف الغنى، وكذا يقال في أمثاله الآتية بعد. ومثاله الثاني لشرط الحكم؛ فالزنى سبب لحكم هو الرجم، وحكمته حفظ النسل وبقاء النوع الإنساني، أي: حكمة ترتب الحكم عليه وشرعيته عنده حفظ النسل، وشرطه الإحصان، فإذا عدم الإحصان؛ كان معذورا، فعدم الحكم وهو الرجم مع بقاء حكمة السبب وهي حفظ النسل؛ لأن حفظ النسل يحصل برجم المحصن وغير المحصن، ولا يخفى عليك أنه لا يظهر في مثاله هذا تطبيقه على ما جرى عليه من أن شرط الحكم مكمل لحكمة الحكم التي اقتضاها؛ لأنه لا يوجد فيه حكمتان متنافيتان بين عدم الشرط والحكم، أما على الرأي الثاني؛ فظاهر كما صورناه. ومثاله الثالث من شرط السبب؛ فالقتل العمد العدوان سبب في القصاص، وحكمته المترتبة من شرعية الحكم عنده الزجر واستتباب الأمن، وشرطه التكافؤ بحيث لا يقتل الأعلى بالأدنى، فإذا عدم الشرط وهو التكافؤ؛ اختلت حكمة السبب وهي الزجر، واستتباب الأمن؛ لأنه يترتب على قتل الأعلى بالأدنى مفسدة، ونزاع وهرج؛ لأنه لا تقبله النفوس، فعدم الشرط مخل بحكمة السبب؛ فلا حكم أيضا. ومثاله الرابع من شرط السبب أيضا؛ فالصلاة سبب للثواب، وحكمتها الانتصاب للمناجاة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ...........................................................................   = بالخضوع والأدب، والطهارة شرطها، وعدم الطهارة ينافي حكمة الخضوع والأدب؛ لا يترتب الحكم وهو الثواب. وقوله: "سواء علينا.. إلخ" يشير به إلى ما قالوه في تقسم الحكم الوضعي إلى ما جعله الشارع علة وما جعله سببا وما جعله علامة وما جعله ركنا ... إلخ، كما جاء في "تحرير الكمال"، وشرحه أن الذي وضعه الشارع لحكم فكان ذلك الحكم موقوفا عليه، إن كانت المناسبة ظاهرة بين ما وضع وبين الحكم المشروع لذلك الموضوع، يعني بحيث تتلقاه العقول السليمة بالقبول والتسليم بأن هذا يترتب عليه عند العقل هذا الحكم؛ فيسمى وضع العلة كالقتل العمد العدوان الموجب لانتشار العدوان، وجعله الشارع علة للقصاص لإبطال انتشار القتل المذكور؛ فالعقول السليمة تقبل ترتب هذا الحكم على هذه العلة؛ لأن ملاءمته ظاهرة، وأما إن كانت المناسبة غير ظاهرة إلا بوسائط، وفي الجملة بحيث يقال: إن هذا الموقوف عليه يفضي إلى الحكم في الجملة؛ فيسمى وضع السبب كملك النصاب، فإنه يفضي إلى الغنى في الجملة، وهو يفضي إلى طلب الزكاة، وإن كان جعله الشارع دلالة على الحكم وليس فيه مناسبة ظاهرة ولا إفضاء؛ فهو وضع العلامة كالأوقات للصلاة ... إلخ ما قال؛ فالمؤلف يقول: "إن المنظور إليه في الشرط إنما هو أن يكون مكملا للمشروط؛ سواء أكان الشرط وصفا لما يسمونه سببا يعني كالمثال الثاني، وهو ملك النصاب؛ فالشرط وهو التمكن من النماء وصف له؛ فتقول: يشترط في النصاب أن يكون متمكنا من نمائه، وكما تقول: يشترط في الملك أن يكون تاما، أم كان الشرط وصفا لما يسمونه علة كما في شرط التكافؤ في القتل العمد، فتقول: يشترط في القتل العمد لترتب القصاص أن يحصل من مكافئ للمقتول، أم كان وصفا لما يسمى مسببا؛ كما تقول: يشترط في الملك المسبب من صيغة البيع كونه برضى المتعاقدين، أم كان وصفا لما يسمى معلولا؛ كما تقول: يشترط في القصاص المعلول للقتل العمد أن يكون من الحاكم أو جماعة المسلمين، أم وصفا لمحالها؛ كما تقول: يشترط في القتل الذي يوجب القصاص أن يصدر من عاقل؛ فهو وصف لمحل القتل الذي هو العلة، أم وصفا لمحل المسبب كما تقول: يشترط في ملك المبيع بالعقد أن يكون منتفعا به؛ فكونه منتفعا به قائم بالمبيع الذي تعلق به الملك، يعني: فالمدار على أن يكون الشرط مكملا للمشروط في حكمته أو حكمة الحكم الذي ترتب عليه، وهذا شامل لكل الشروط مهما نظرت إليها بكونها وصفا لأي شيء مما ذكروه من هذه الأنواع، كما أنه شامل أيضا للشروط التي هي أوصاف حقيقية كما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 إِمْكَانَ النَّمَاءِ مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى الْمِلْكِ أَوْ لِحِكْمَةِ الْغِنَى، وَالْإِحْصَانَ مُكَمِّلٌ لِوَصْفِ الزِّنَى فِي اقْتِضَائِهِ لِلرَّجْمِ، وَالتَّسَاوِي فِي الْحُرْمَةِ مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى الْقِصَاصِ أَوْ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ، وَالطَّهَارَةَ وَالِاسْتِقْبَالَ وَسِتْرَ الْعَوْرَةِ مُكَمِّلَةٌ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَوْ لِحِكْمَةِ الِانْتِصَابِ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْخُضُوعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ وَصْفًا لِلسَّبَبِ أَوِ الْعِلَّةِ، أَوِ الْمُسَبَّبِ أَوِ المعلول, أو لمحالها، أو لغي ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُقْتَضَى الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ ذَلِكَ الْمَشْرُوطِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُ، بِحَيْثُ1 يُعْقَلُ الْمَشْرُوطُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الشُّرُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَنْعَكِسْ، كَسَائِرِ الْأَوْصَافِ مَعَ الْمَوْصُوفَاتِ حَقِيقَةً أَوِ اعْتِبَارًا، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ هنا؛ فإنه تقرير اصطلاح.   = تقول: يشترط في وجوب الصلاة العقل والبلوغ، أو اعتبارية كما تقول: يشترط لصحتها طهارة الحدث ولصحة الشهادة الحرية؛ فالأولان وصفان حقيقيان والأخيران اعتباريان ثبوتهما بمجرد اعتبار الشارع. وبهذا البيان تعلم أنه لم يخالف اصطلاحهم إلا في العبارة، وجعل النوعين للشرط مندرجين في عبارة واحدة، مع أنك ترى فيها النوعين صريحين، ولكنه يريد أن يجعل الشرط شرطا للسبب مطلقا؛ إلا أنه تارة يكون مكملا لحكمته هو، أو مكملا لحكمة الحكم المترتب عليه والمآل واحد، وسيأتي له في المانع جعله قسما واحدا وهو مانع السبب فقط كما هو صريح تعريفه له وإدراجه الأمثلة التي ذكروها للنوعين تحته، وسيأتي الكلام معه فيه. لا يقال: إنه لم يذكر في الشرط أن عدمه ينافي أو لا ينافي، وإنما اعتبر كونه مكملا، وهم قد اعتبروا فيه المنافاة؛ فاصطلاحه بعيد عن اصطلاحهم، لنا نقول أولا: إن عدم المكمل ينافي كمال المكمل؛ سواء أكان سببا، أم حكما؛ فهو آيل إلى كلامهم، وثانيا، فإن الشرط والمانع من باب واحد كلاهما يعد مانعا، ولا فرق إلا أن هذا مانع بجهة عدمه، وقد صرح في المانع بالتنافي بين مقتضى المانع وعلة الحكمة كما يأتي؛ فلا معنى لاعتبار التنافي في أحد المانعين دون الآخر، وبالجملة؛ فقد أراد أن يخالف الاصطلاح كما يقول، وأوجز حتى صار الكلام ألغازا؛ فاضطرنا إلى هذا الإطناب، والله أعلم. "د". 1 في "ط": "وبحيث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 المسألة الثانية: وَإِذْ ذُكِرَ اصْطِلَاحُ هَذَا الْكَتَابِ فِي الشَّرْطِ؛ فَلْيُذْكَرِ اصْطِلَاحُهُ فِي السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالْمَانِعِ. فَأَمَّا السَّبَبُ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ: مَا وُضِعَ1 شَرْعًا لِحُكْمٍ لِحِكْمَةٍ يَقْتَضِيهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ، كَمَا كَانَ حُصُولُ النِّصَابِ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالزَّوَالُ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالسَّرِقَةُ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَالْعُقُودُ أَسْبَابًا فِي إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ أَوِ انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ؛ فَالْمُرَادُ بِهَا: الْحِكَمُ وَالْمَصَالِحُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ2 بِهَا الأوامر أو   1 أي: وصف ظاهر منضبط بخلاف العلة؛ فلا يلزم فيها الوصفان، كما سيقول, وقوله: "لحكم"؛ أي: وضعي أو تكليفي؛ فإباحة الانتفاع حكم تكليفي، وانتقال الأملاك حكم وضعي. "د". قلت: انظر السبب ومباحثه عند الأصوليين في "شرح الكوكب المنير" "1/ 359، 445"، و"التمهيد" للكلوذاني "1/ 68"، و"المستصفى" "1/ 94"، و"جمع الجوامع" "1/ 94"، و"أصول السرخسي" "2/ 301"، و"التلويح على التوضيح" "3/ 102"، و"شرح تنقيح الفصول" "81"، و"مختصر المنتهى" "2/ 7- مع العضد والحواشي"، و"نشر البنود" "1/ 42"، و"إرشاد الفحول" "6، 7". 2 أي: شرعت عندها، وظاهر كلامه قصرها على ما تعلق به حكم تكليفي، مع أن الواقع أن العلة أعم، فدفع حاجة المتعاقدين في البيوع مثلا حكمة تعلق بها انتقال الملك. "د". قلت: انظر في مناقشة تعريف المصنف وما يؤخذ عليه: "مباحث العلة في القياس" "ص92"، وانظر عن العلة: "نبراس العقول" "215 وما بعدها"، و"المسودة" "385"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 15"، و"المستصفى" "2/ 230"، و"الإحكام" "3/ 276" للآمدي، و"اللمع" "58"، و"أصول السرخسي" "2/ 174"، و"تيسير التحرير" "3/ 302"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 231"، و"شرح العضد" "2/ 209"، و"الإبهاج" "3/ 28"، و"فواتح الرحموت" "3/ 249"، و"إرشاد الفحول" "207". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الْإِبَاحَةُ، وَالْمَفَاسِدُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا النَّوَاهِي؛ فَالْمَشَقَّةُ عِلَّةٌ فِي إِبَاحَةِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَالسَّفَرُ هُوَ السَّبَبُ الْمَوْضُوعُ سَبَبًا لِلْإِبَاحَةِ؛ فَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ الْعِلَّةُ هِيَ الْمَصْلَحَةُ نَفْسُهَا أَوِ الْمَفْسَدَةُ لَا مَظِنَّتُهَا1، كَانَتْ ظَاهِرَةً أَوْ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ، مُنْضَبِطَةً أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وَهُوَ غَضْبَانُ" 2؛ فَالْغَضَبُ سَبَبٌ، وَتَشْوِيشُ الْخَاطِرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ هُوَ الْعِلَّةُ3، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ هُنَا لَفْظُ السَّبَبِ عَلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ لِارْتِبَاطِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَأَمَّا الْمَانِعُ؛ فَهُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِعِلَّةٍ تُنَافِي عِلَّةَ مَا مَنَعَ4؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُطْلَقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَبَبٍ مُقْتَضٍ لِحُكْمٍ لِعِلَّةٍ فِيهِ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَانِعُ وَهُوَ مُقْتَضٍ عِلَّةً تُنَافِي تِلْكَ الْعِلَّةَ؛ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَبَطَلَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مُخِلًّا بِعِلَّةِ السَّبَبِ الَّذِي نُسِبَ لَهُ الْمَانِعُ5؛ فيكون رفعا   1 أما المظنة؛ فهي التي جعلها الشارع سببا للحكم بحيث ينضبط به؛ كالسفر مثلا. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ رقم 7158"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقية، باب كراهية قضاء القاضي وهو غضبان، 3/ 1342-1343/ رقم 1717"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، 8/ 237-238"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، 2/ 776/ رقم 2316" من حديث أبي بكرة, رضي الله عنه. 3 ولما كان التشويش وصفا غير منضبط، وكان الغضب مظنته، وكان وصفا ظاهرا؛ ضبط به وجعل سببا. "د". 4 جرى على أن المانع مطلقا يقتضي علة تنافي علة السبب حتى فيما يسميه الأصوليون مانع الحكم؛ كما تراه في تعريفه وسائر بيانه، وهو اصطلاح له كما صدر به المسألة، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن إذا كان مبنيا على أمر معقول، وستأتي مناقشته في هذا الأمر. "د". 5 المعروف في الأصول أن المانع ينقسم إلى مانع الحكم، وهو ما يستلزم حكمة تقتضي بقاء نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب؛ كالأبوة مع القتل العمد العدوان، وإلى مانع السبب وهو كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب كالدين مع ملك النصاب. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 لِحُكْمِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ كَانَ حُضُورُهُ مَعَ مَا هُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ سَبَبَيْنِ أَوْ حُكْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، وَهَذَا بَابُهُ كِتَابُ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ، فَإِذَا قُلْنَا: الدَّيْنُ مَانِعٌ مِنَ الزَّكَاةِ؛ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي افْتِقَارَ الْمِدْيَانِ إِلَى مَا يُؤَدِّي بِهِ دَيْنُهُ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِيمَا بِيَدِهِ مِنَ النِّصَابِ؛ فَحِينَ تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ انْتَفَتْ حِكْمَةُ وُجُودِ النصاب، وهي الغنى الذي هو عِلَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ؛ فَسَقَطَتْ1، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْأُبُوَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِصَاصِ؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ عِلَّةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ الْقَتْلِ2 الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ3، وَمَا أَشْبَهَ ذلك مما هو كثير.   1 هذا أحد مدارك جمهور أهل العلم القائلين بعدم وجوب الزكاة على من عليه دين يستغرق النصاب أو ينقصه، وذهب الشافعية إلى وجوبها عليه نظرا إلى أن الزكاة حق متعلق بعين المال؛ فتقدم على الدين الذي هو متعلق بالذمة، وهذا مذهب المالكية أيضا في زكاة الحرث والماشية، وأما زكاة العين؛ فوافقوا فيها الجمهور بناء على أن تفويضها إلى أمانة المزكي جعلها كالدين المتعلق بالذمة، وترجح جانب صاحب الدين لتقدم حقه على حق مستحق الزكاة؛ ولأنه حق لمعين؛ فيقدم على الحق الثابت لغير معين. "خ". وفي "ط": "علة في وجوب ... ". 2 جرى في المانع على أنه لا بد فيه من علة تنافي علة السبب، وجعله نوعا واحدا، وأدرج ما يسمونه مانع الحكم في مانع السبب، ومثل لمانع السبب بالمثالين اللذين جعلوا الأول منهما مثالا لمانع السبب, والثاني مثالا لمانع الحكم، وظاهر أن مثال الأبوة الذي جعلوه مثالا لمانع الحكم فيه حكمة المانع -وهي: كون الأب سببا لوجود الابن- هذه لا تخل بتحقق حكمة السبب وهي الزجر؛ إذ الزجر والانكفاف وضرورة استتباب الأمن لا تزال قائمة إذا اقتص من الوالد فلم يخل بها حكمة الأبوة حتى يكون في هذا ما يخل بحكمة السبب كما يريد، بل فيه تعارض سببين؛ فكان مقتضى تقريره في المانع ألا تعد الأبوة مانعا؛ فأنت ترى أن قصره المانع على ما نافت حكمته حكمة السبب أخرج هذا النوع من المانع، وصير تعريف المانع قاصرا، وعليه؛ فاصطلاحه مبني على اطراد أن كل مانع فيه علة تنافي علة السبب؛ فعليه تحقيق ذلك، وما لم يتحقق لا يكون هناك وجه للعدول عن كلام الأصوليين في جعلهم المانع نوعين. "د". 3 هذه العلة هي كون الأب سببا في وجوب الابن؛ فلا يليق أن يكون الابن سببا في عدمه، قال أبو بكر بن العربي: حضرت فخر الإسلام ببغداد يناظر القاضي أبا ثعلب الواسطي؛ فقال القاضي أبو ثعلب: لا يقتل الأب بابنه لأنه سبب وجوده؛ فلا يكون سبب عدمه. فقال فخر الإسلام: هذا يبطل بما إذا زنى بابنته؛ فإنه سبب وجودها ويقتل بزناه بها. وفي الزنى مفسدة أعظم وأعم من مفسدة القتل؛ فيصح أن يكون لها تأثير في اختلاف حكمهما، ومن أدلة المسألة حديث ابن عباس: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد" "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 المسألة الثالثة: الشُّرُوطُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْعَقْلِيَّةُ؛ كَالْحَيَاةِ فِي الْعِلْمِ، وَالْفَهْمِ فِي التَّكْلِيفِ. وَالثَّانِي: الْعَادِيَّةُ؛ كَمُلَاصِقَةِ النَّارِ الْجِسْمَ الْمُحْرَقَ, فِي الْإِحْرَاقِ، وَمُقَابَلَةِ الرَّائِي لِلْمَرْئِيِّ وَتَوَسُّطِ الْجِسْمِ الشَّفَّافِ فِي الْإِبْصَارِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: الشَّرْعِيَّةُ؛ كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْإِحْصَانِ فِي الزِّنَى، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، فَإِنْ حَدَثَ التَّعَرُّضُ لِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَمِنْ حَيْثُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَيَصِيرُ إِذْ ذَاكَ شَرْعِيًّا بهذا الاعتبار؛ فيدخل تحت القسم الثالث. المسألة الرابعة: افْتَقَرْنَا إِلَى بَيَانِ أَنَّ الشَّرْطَ مَعَ الْمَشْرُوطِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ وَلَيْسَ بِجُزْءٍ، وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ الِاسْتِقْرَاءُ فِي الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَوْلَ هُوَ الْمُكَمِّلُ لِحِكْمَةِ1 حُصُولِ النِّصَابِ وَهِيَ الْغِنَى فَإِنَّهُ إِذَا مَلَكَ فَقَطْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إِلَّا بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ؛ فَجَعَلَ الشَّارِعُ الْحَوْلَ مَنَاطًا لِهَذَا التَّمَكُّنِ الَّذِي ظَهَرَ بِهِ وَجْهُ الْغِنَى، والحنث في اليمين مكمل   1 في "ط": "الحول مكمل لحكمة ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 لِمُقْتَضَاهَا؛ فَإِنَّهَا لَمْ يُجْعَلْ لَهَا كَفَّارَةٌ إِلَّا وَفِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا جِنَايَةٌ مَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَقْرِيرِهَا؛ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَتَحَقَّقُ مُقْتَضَى الْجِنَايَةِ إِلَّا عِنْدَ الْحِنْثِ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَمُلَ مُقْتَضَى الْيَمِينِ وَالزُّهُوقُ1 أَيْضًا مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى إِنْفَاذِ الْمَقَاتِلِ الْمُوجِبِ2 لِلْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَمُكَمِّلٌ لِتَقَرُّرِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ فِي مَالِ الْمَرِيضِ مَرَضًا مُخَوِّفًا3، وَالْإِحْصَانُ مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى جِنَايَةِ الزِّنَى الْمُوجِبَةِ لِلرَّجْمِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا. وَرُبَّمَا يُشْكِلُ هَذَا التَّقْرِيرُ بِمَا يُذْكَرُ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، وَالْإِيمَانَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّقَرُّبَاتِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ إِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَالتَّكْلِيفُ مُحَالٌ عَقْلًا أَوْ سَمْعًا، كَتَكْلِيفِ الْعَجْمَاوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مُكَمِّلٌ؟ بَلْ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ مُكَمِّلٌ لِلْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ الْكَافِرِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا يَصِحُّ أَنْ يُكَمِّلَهَا الْإِيمَانُ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا. وَيَرْتَفِعُ هَذَا الْإِشْكَالُ4 بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مِنَ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ5، وكلامنا في الشروط الشرعية.   1 خروج أي روح. "ماء". 2 إن اعتبر الزهوق مكملا لحكمة المشروط وهو القتل؛ كان من النوع الأول للشرط، وإن كان مكملا لحكمة الزجر المترتبة على القصاص؛ كان من النوع الثاني. "د". 3 فمجرد المرض المذكور سبب في تقرر حقوقهم، ولكن شرطه الموت. "د". 4 أي: في العقل خاصة، أما الإيمان؛ فجوابه يأتي بعده بعدم التسليم بشرطيته. "د". 5 ولكنا قلنا: إذا اعتبرها الشرع من حيث تعلق بها حكم شرعي؛ صارت شرعية تدخل تحت قسم الشروط الشرعية، وتنالها أحكامها؛ إلا أن يقال: إن كلامنا في الشرعية الصرفة التي ليست في الأصل عادية ولا عقلية، ولكن هذا لا يتناسب مع اعتباره الزهوق شرطا، وقد سلمه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطٌ مُكَمِّلٌ لِمَحَلِّ التَّكْلِيفِ1 وَهُوَ الْإِنْسَانُ، لَا فِي نَفْسِ التَّكْلِيفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ مُكَمِّلٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَاتِ التَّوَجُّهُ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ؟ وَهَذَا فَرْعُ الْإِيمَانِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُ الشَّيْءِ وَقَاعِدَتُهُ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا شَرْطًا فِيهِ؟ هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمَنْ أَطْلَقَ هُنَا لَفْظَ الشَّرْطِ؛ فَعَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ. وَأَيْضًا، فَإِنْ سُلِّمَ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ فَفِي الْمُكَلَّفِ لَا فِي التَّكْلِيفِ, وَيَكُونُ شَرْطَ صِحَّةٍ عِنْدَ بَعْضٍ، وَشَرْطَ وُجُوبٍ عِنْدَ بَعْضٍ -فِيمَا عَدَا التَّكْلِيفَ بِالْإِيمَانِ- حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَسْأَلَةِ خطاب الكفار بالفروع. المسألة الخامسة: الْأَصْلُ الْمَعْلُومُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ السَّبَبَ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفَ التَّأْثِيرِ عَلَى شَرْطٍ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ الْمُسَبَّبُ دُونَهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ شَرْطُ الْكَمَالِ وَشَرْطُ الْإِجْزَاءِ؛ فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْكَمَالِ مَعَ فَرْضِ تَوَقُّفِهِ عَلَى شَرْطٍ، [كَمَا لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْإِجْزَاءِ مَعَ فَرْضِ تَوَقُّفِهِ عَلَى شَرْطٍ] 2، وَهَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ وُقُوعُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ؛ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ، وَقَدْ فُرِضَ كَذَلِكَ، هَذَا خَلْفٌ. وَأَيْضًا، لَوْ صَحَّ ذَلِكَ؛ لَكَانَ مُتَوَقِّفَ الْوُقُوعِ عَلَى شَرْطِهِ غَيْرَ مُتَوَقِّفِ الْوُقُوعِ عَلَيْهِ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ مِنْ حَيْثُ هُوَ [شَرْطٌ] 3 يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ المشروط   1 أي: فيكون في التعبير بشرط التكليف تساهل، والغرض هو ما ذكر. "د". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. 3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 إِلَّا عِنْدَ حُضُورِهِ, فَلَوْ جَازَ وُقُوعُهُ دُونَهُ؛ لَكَانَ الْمَشْرُوطُ وَاقِعًا وَغَيْرَ وَاقِعٍ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْأَمْرُ أَوْضَحُ مِنَ الْإِطْنَابِ فِيهِ. وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَصْلٌ آخَرُ، وَعُزِيَ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا حَضَرَ سَبَبُهُ وَتَوَقَّفَ حُصُولُ مُسَبَّبِهِ عَلَى شَرْطٍ؛ فَهَلْ يَصِحُّ وُقُوعُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ؛ اعْتِبَارًا بِاقْتِضَاءِ السَّبَبِ، أَوْ بِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ، فَمَنْ رَاعَى السَّبَبَ وَهُوَ مقتضٍ لِمُسَبَّبِهِ؛ غلَّب اقْتِضَاءَهُ وَلَمْ يُرَاعِ تَوَقُّفَهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَمَنْ رَاعَى الشَّرْطَ وَأَنَّ تَوَقُّفَ السَّبَبِ عَلَيْهِ مَانِعٌ مِنْ وُقُوعِ مُسَبَّبِهِ؛ لَمْ يُرَاعِ حُضُورَ السَّبَبِ بِمُجَرَّدِهِ، إِلَّا أَنْ يَحْضُرَ الشَّرْطُ فَيَنْتَهِضُ السَّبَبُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي اقْتِضَائِهِ. وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مُطْلَقًا1، وَيُمَثِّلُونَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ، مِنْهَا: إِنَّ حُصُولَ النِّصَابِ سَبَبٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَدَوَرَانَ الْحَوْلِ شَرْطُهُ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ عَلَى الْخِلَافِ. وَالْيَمِينَ سَبَبٌ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالْحِنْثَ شَرْطُهَا، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْفَاذَ الْمَقَاتِلِ سَبَبٌ فِي الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَالزُّهُوقَ شَرْطٌ، وَيَجُوزُ الْعَفْوُ قَبْلَ الزُّهُوقِ وَبَعْدَ السَّبَبِ, وَلَمْ يَحْكُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خِلَافًا. وَفِي الْمَذْهَبِ: إِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ أَمْرَ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا بِيَدِ زوجة هي في ملكه،   1 تعرض القرافي في الثالث والثلاثين من "قواعده" [1/ 196] لهذا المبحث، وذكر أن الحكم الذي يتقدم على سببه وشرطه غير معتبر إجماعا، والذي يتأخر عن السبب ويتقدم عن الشرط يختلف العلماء في كثير من صوره؛ هل هو معتبر أو لا؟ ثم ضرب لذلك أمثلة وأهمها ما تصدى المصنف للجواب عنه في هذا التحرير. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 إِنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ أَوْ أَبْقَتْ، فَاسْتَأْذَنَهَا1 فِي التَّزْوِيجِ فَأَذِنَتْ لَهُ، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا أَرَادَتْ هَذِهِ أن تطلق عليه، قال مَالِكٌ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا قَدْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ جَرَيَانِ السَّبَبِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حُصُولِ الشَّرْطِ وَهُوَ التَّزَوُّجُ. وَإِذَا أَذِنَ الْوَرَثَةُ عِنْدَ الْمَرَضِ الْمُخَوِّفِ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ جَازَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَتَقَرَّرُ مِلْكُهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَالْمَرَضُ هُوَ السَّبَبُ لِتَمَلُّكِهِمْ، وَالْمَوْتُ شَرْطٌ؛ فَيُنَفَّذُ إِذْنُهُمْ عِنْدَ مَالِكٍ -خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ- وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الشَّرْطُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِإِنْفَاذِ إِذْنِهِمْ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ؛ فَالسَّبَبُ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْقَرَابَةُ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَوْتَ شَرْطٌ. وَفِي الْمَذْهَبِ: مَنْ جَامَعَ فَالْتَذَّ وَلَمْ يُنْزِلْ فَاغْتَسَلَ فأنزل2 فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ ثَانِيَةً قَوْلَانِ، وَنَفْيُ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْغُسْلِ انْفِصَالُ الْمَاءِ عَنْ مَقَرِّهِ، وَقَدِ اغْتَسَلَ، فَلَا يَغْتَسِلُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، هَذِهِ حُجَّةُ سَحْنُونَ وَابْنِ الْمَوَّازِ؛ فَالسَّبَبُ هُوَ الِانْفِصَالُ، وَالْخُرُوجُ شَرْطٌ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ، إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ تُدَارُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُعَارَضَةِ لِلْأَصْلِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْضِي بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَالثَّانِي يَقْضِي بِأَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَرُبَّمَا صَحَّ بِاتِّفَاقٍ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَفْوِ قَبْلَ الزُّهُوقِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ الْأَصْلَانِ مَعًا بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَعْلُومُ صِحَّةُ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ في   1 المذكور في كتب المذهب أنه إذا ملكها أمر امرأة يتزوجها، ثم أسقطت حقها الذي ملكها إياه بأن قالت مثلا: أسقطت حقي، ثم تزوج بالمرأة التي جعل لزوجته حق تطليقها، فإذا أرادت أن تتمسك بهذا الحق؛ فليس لها ذلك على المشهور المعتمد، ومقابله ضعيف، وبتنزيل كلام المؤلف عليه يظهر الكلام هنا، والجواب الآتي، أما مجرد الإذن له على ما هو ظاهر كلامه؛ فإنه لا يسقط حقها ولا يتم معه الجواب الآتي، ولا يخفى عليك أن قوله: "بناء على ... إلخ" ليس من مقول مالك "د". 2 في "ط": "ثم أنزل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 كَلَامِهِمْ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي: أَمَّا أَوَّلًا؛ فَنَفْسُ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ كافٍ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ1 الْأَصْلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ جَارِيَةٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ؛ فَإِنَّا نَقُولُ: مَنْ أَجَازَ تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ قَبْلَ [حُلُولِ] 2 الْحَوْلِ مُطْلَقًا -مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَذْهَبِنَا- فَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الِانْحِتَامِ؛ فَالْحَوْلُ كُلُّهُ كَأَنَّهُ وَقْتٌ -عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ- لِوُجُوبِ3 الزَّكَاةِ مُوَسَّعٌ، وَيَتَحَتَّمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَسَائِرِ أَوْقَاتِ التَّوْسِعَةِ، وَأَمَّا الْإِخْرَاجُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَسِيرٍ -عَلَى مَذْهَبِنَا- فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الشَّيْءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، فَشَرْطُ الْوُجُوبِ حَاصِلٌ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي شَرْطِ الْحِنْثِ: مَنْ أَجَازَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي الِانْحِتَامِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، لَا شَرْطٌ فِي وُجُوبِهَا. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الزُّهُوقِ؛ فَهُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ إِذِ الْعَفْوُ بَعْدَهُ لَا يُمْكِنُ4؛ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ قَبْلَهُ إِنْ وَقَعَ، وَلَا يَصِحُّ5 أَنْ يَكُونَ شَرْطًا إِذْ ذَاكَ فِي صحته، ووجه صحته أنه   1 أي: بإطلاق ليصح التناقض. "د". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، واستظهرها ناسخ المخطوط. 3 ومثل هذا الجواب للسعد في "حاشيته" على ابن الحاجب في مسألة الأداء والقضاء. "د". 4 وهو ظاهر متى كان الاعتراض في خصوص عفو المجروح. "د". 5 لو كان تفريعا بالفاء؛ لكان أوضح. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَجْرُوحِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ؛ فَجَازَ عَفْوُهُ عَنْهُ مُطْلَقًا1 كَمَا يَجُوزُ عَفْوُهُ عَنْ سَائِرِ الْجِرَاحِ، وَعَنْ عِرْضه إِذَا قُذِفَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُدْرَكَ حُكْمِ الْعَفْوِ لَيْسَ مَا قَالُوهُ2 أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْمَجْرُوحِ وَلَا لِأَوْلِيَائِهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ أَوْ أَخْذُ دِيَةِ النَّفْسِ كَامِلَةً قَبْلَ الزُّهُوقِ بِاتِّفَاقٍ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوهُ؛ لَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ3. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَمْلِيكِ الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّهَا لَمَّا أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا فِيمَا شَرَطَتْ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ تَزَوُّجِهِ؛ لَمْ يَبْقَ لَهَا مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَتْ تَمْلِكُهُ بِالتَّمْلِيكِ قَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا4 فِيهِ بَعْدَ مَا جَرَى سَبَبُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِتُزَوُّجِهِ تَأْثِيرٌ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِسْقَاطِ، وَهُوَ فِقْهٌ ظَاهِرٌ. وَمَسْأَلَةُ إِذْنِ الْوَرَثَةِ بَيِّنَةُ5 الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ سَبَبٌ فِي صِحَّةِ الْمِلْكِ لَا فِي تَعَلُّقِهِ، وَالْمَرَضَ سَبَبٌ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَوْرُوثِ لَا فِي تَمَلُّكِهِمْ لَهُ؛ فَهُمَا سَبَبَانِ، كل واحد منهما يَقْتَضِي حُكْمًا لَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ، فَمِنْ حَيْثُ   1 أي: زاد عن ثلث ماله أم لا؛ فلا شأن للورثة بذلك. "د". 2 أي: فيما سبق من بنائه على أن مجرد حصول السبب قاضٍ بترتب المسبب, وإن لم يحصل الشرط اعتبارا باقتضاء السبب. "د". 3 ومعلوم أن الزهوق شرط في القصاص والدية، وقد اتفقوا على أنه إن لم يحصل هذا الشرط؛ فلا يتأتى القصاص ولا أخذ دية النفس، فاتفاقهم دليل على أن مجرد حصول السبب بدون الشرط لا يترتب عليه المسبب، ولو كان هناك من يقول باعتبار السبب وحده بدون الشرط؛ لكان قائلا بصحة استيفاء الدية والقصاص قبل تحقق الشرط وهو الزهوق، ولم يقل بذلك أحد؛ فدل على اعتبار الجميع للشرط في تحقق حكم المسبب. "د". 4 أي: فليس تزوج المرأة شرطا في صحة التمليك؛ لأن الملك تم بمجرد الصيغة، غايته أن أثره إنما يكون بعد التزوج، فإذا أسقطت الملك؛ فليس إسقاطا قبل حصول الشرط في الملك. "د". 5 في الأصل: "مبينة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 كَانَ الْمَرَضُ سَبَبًا لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يكن ملك كَانَ إِذْنُهُمْ وَاقِعًا فِي [مَحَلِّهِ] لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِ الْمَوْرُوثِ صَارَتْ لَهُمْ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكِ, فَإِذَا أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُطَالَبَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي الْحَالِ الَّذِي أَنْفَذُوا تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِيهِ حَالَةَ الْمَرَضِ كَالْأَجَانِبِ1، فَإِذَا حَصَلَ الْمَوْتُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ كَالثُّلُثِ وَ [قَوْلُ] 2 الْقَائِلِ بِمَنْعِ الْإِنْفَاذِ يَصِحُّ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَوْتَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَذِنُوا قَبْلَ التَّمْلِيكِ3 وَقَبْلَ حُصُولِ الشَّرْطِ؛ فَلَا يَنْفُذُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْإِنْزَالِ فَيَصِحُّ4 بِنَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي هَذَا الْغُسْلِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ لَذَّةٍ. فَعَلَى الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا التَّخْرِيجُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشرط.   1 فقد أسقطوا المقدار الذي ترتب لهم على مرض مورثهم، وصاروا كالأجانب لا يقبل منهم بعد الموت كلام فيما تصرف فيه زائدا على الثلث؛ كحال الأجانب في ذلك، وكل هذا خارج عن تقرر ملك لهم في حالة المرض. "د" وفي "ط": "صاروا في المال ... ". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ط" و"م". 3 أي: قبل تمامه بحصول شرطه. "د". وفي "ط": "قبل التملك أو قبل ... ". 4 أي: تبنى على أن الجماع ليس من شرط وجوب الغسل فيه الإنزال، وفرض المسألة الجماع؛ فدعوى أن الإنزال شرط ليست بصحيحة في هذا الفرض، أو يقال: إن عدم وجوب الغسل مبني على ما هو أعم من ذلك، وهو أن كل إنزال لم يقترن بلذة يكون كالعدم لا حكم له، ولو لم يكن ناشئا عن الجماع، اللهم إلا ما كان في النوم؛ فإنهم وإن لم يشترطوا مقارنته للذة إلا أنه لما كانت الحالة حالة نوم وغفلة عن ضبط اللذة مع كون الغالب أن المني لا يكون إلا مع لذة؛ طردوا الباب في النوم حتى فيما لم يشعر فيه باللذة، وهذا إنما يصح إذا سلمنا أنه يشترط مقارنة اللذة في اعتبار الإنزال موجبا، مع أنهم صرحوا في غير الجماع بأن الإنزال بسبب اللذة موجب للغسل، وإن لم يقارنها، بل تأخر عنها؛ فتأمل، ثم رأيت أن ما قلناه ليس متفقا عليه بل هو المعتمد، ومقابله يشترط في الإنزال الموجب للغسل أن يكون بلذة مقارنة، حتى إذا التذ وبعد انقضاء اللذة خرج منه المني؛ فإنه لا يطالب بالغسل مطلقا، سواء اغتسل قبل خروجه -وإن لم يطالب به- أو لم يغتسل؛ فكلام المؤلف مبني على هذا. راجع الزرقاني وحاشية العدوي عليه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المسألة السادسة: الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَشْرُوطَاتِ شَرْعًا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ إِمَّا مَأْمُورًا بِتَحْصِيلِهَا -كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَأَخْذِ الزِّينَةِ لَهَا وَطَهَارَةِ الثَّوْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ- وَإِمَّا مَنْهِيًّا عَنْ تَحْصِيلِهَا -كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ الَّذِي هُوَ شرط لمراجعة الزوج الأول والجمع بين المتفرق وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِنُقْصَانِ الصَّدَقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ- فَهَذَا الضَّرْبُ وَاضِحٌ قَصْدُ الشَّارِعِ فِيهِ, فَالْأَوَّلُ مَقْصُودُ الْفِعْلِ وَالثَّانِي مَقْصُودُ التَّرْكِ وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ الْمُخَيَّرُ فِيهِ -إِنِ اتَّفَقَ1- فَقَصْدُ الشَّارِعِ فِيهِ جَعْلُهُ لِخِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ فَيَحْصُلُ الْمَشْرُوطُ, وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ فَلَا يَحْصُلُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَالْإِحْصَانِ فِي الزِّنَى وَالْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ, فَهَذَا الضَّرْبُ لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرْطٌ وَلَا فِي عَدَمِ تَحْصِيلِهِ فَإِبْقَاءُ النِّصَابِ حَوْلًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ لَيْسَ بِمَطْلُوبِ الْفِعْلِ أَنْ يُقَالَ يَجِبُ عَلَى [صَاحِبِهِ] 2 إِمْسَاكُهُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ, وَلَا مَطْلُوبِ التَّرْكِ أن يقال:   1 كالنكاح الذي يكون به محصنا؛ فهو مباح وشرط في ترتب حكم الرجم على الزنى. "د". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"خ" و"ط"، وسقطت من "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ خَوْفًا أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ, وَكَذَلِكَ الْإِحْصَانُ, لَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ1 لِيَجِبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ إِذَا زَنَى, وَلَا مَطْلُوبُ التَّرْكِ لِئَلَّا يَجِبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ إِذَا زَنَى. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَطْلُوبًا, لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ, وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ, هَذَا خَلْفٌ, وَالْحُكْمُ فِيهِ ظَاهِرٌ2. فَإِذَا تَوَجَّهَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَى فِعْلِ الشَّرْطِ أَوْ إِلَى تَرْكِهِ, مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ, وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَلَا يَخْلُو أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ3، مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مُخَيَّرًا فِيهِ أَوْ لَا, فَإِنْ كَانَ ذلك, فلا إشكال فيه؛ وتنبني   1 أي: ليس مطلوب التحصيل بفعل سببه وهو النكاح، وإلا؛ فالإحصان وصف لا يفعل. "د". 2 في "م": "ظاهرة"؛ فضبط الجملة الأستاذ محيي الدين تبعا لذلك: "والحِكَمُ فيه ظاهرة". 3 لا يقال: موضوع المسألة عام في الضربين، وقد خصه بخطاب التكليف؛ فيكون خاصا بالضرب الأول في المسألة قبلها، وهذا لا يناسب فرض المسألة كما لا يناسب الأمثلة الآتية. لأنا نقول: إن خطاب الوضع يدخل تحت قوله: "أو مخيرا فيه"، وكذا تحت ما قبله من المأمور به والمنهي عنه، من حيث إن خطاب الوضع في المسائل الآتية يحصل مسببا عن فعل المخير فيه مثلا كما تقدمت أمثلته؛ فإن الحول في الزكاة يحصل من إمساك المال مدة الحول، وهو فعل مخير فيه، له أن ينفق أو يمسك, والإحصان مرتب على النكاح المخير فيه, وجمع المتفرق وتفريق المجتمع مخير فيه, وكل منهما مترتب عليه خطاب الوضع؛ فالكلام جارٍ مع فرضه المسألة؛ فإن فعل الشرط؛ لأنه مأمور به أو تركه؛ لأنه منهي عنه، أو فعله لأنه مخير فيه، وكان قصده قضاء حاجته، لا إبطال مسبب شرعي، فلا كلام في ترتب أحكام الشرط عليه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الْأَحْكَامُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَسْبَابُ عَلَى حُضُورِهِ، وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ فَقْدِهِ؛ كَالنِّصَابِ إِذَا أُنْفِقَ قَبْلَ الْحَوْلِ لِلْحَاجَةِ إِلَى إِنْفَاقِهِ، أَوْ أَبْقَاهُ لِلْحَاجَةِ إِلَى إِبْقَائِهِ، أَوْ يَخْلِطُ مَاشِيَتَهُ بِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى الْخُلْطَةِ، أَوْ يُزِيلُهَا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى، أَوْ يَطْلُبُ التَّحَصُّنَ بِالتَّزْوِيجِ لِمَقَاصِدِهِ، أَوْ يَتْرُكُهُ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الْجَارِيَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ1 فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ شَرْطًا قَصْدًا لِإِسْقَاطِ حُكْمِ الِاقْتِضَاءِ [فِي السَّبَبِ] 2 أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ؛ فَهَذَا عَمَلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَسَعْيٌ بَاطِلٌ؛ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعًا. فَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الباب قوله, صلى الله عليه وسلم3: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق   1 أي: فإن فعل ما يحقق الشرط أو فعل ما يخل به بهذا القصد؛ فإنه يكون باطلا لا يترتب عليه أثره، وظاهره أن ذلك جار فيما ترتب عليه ما لا يعد هربا من الأثر؛ كأن يجمع لتلزمه الزكاة أو يفرق لتلزمه أيضا، وكذا إذا أبقى النصاب بقصد وجوب الزكاة، أو فعل موجب الإحصان ليرجم إذا زنى ظاهره أن هذا لا يترتب عليه أثره؛ لأنه قصد إلى الشرط من جهة كونه شرطا بنية إسقاط حكم الاقتضاء السابق على فعل ما يحقق الشرط حتى لا يترتب عليه أثره، وهو عدم الزكاة في المثالين الأول والثاني، وعدم الرجم في المثال الثالث، ولا يخفى أن هذا الظاهر غير واضح؛ لأنه متى بقي النصاب إلى الحول عنده ولو بهذا القصد لزمته الزكاة، وكذا يقال في بقية الأمثلة؛ فهل تقيد المسألة بما إذا كان الفعل أو الترك قصدا إلى إسقاط أثر شرعي لا يراه في مصلحته، وهربا مما ينافي مقاصد الناس في المألوف عند العقلاء؛ فيكون الحكم في المسائل السابقة وأمثالها اعتبار الحالة الواقعة ولو كان القصد مندرجا فيما يقوله المؤلف؟ "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 فهو فعل منهيا عنه ليخل بشرط الزكاة أو زيادتها، وفي المثال الثاني فعل منهيا عنه ليخل بشرط الخيار، وفي المثال الثالث فعل منهيا عنه وهو إدخال فرس معروف فيها أنها تسبق الخيل ليحقق شرط حوز الرهان وهو السبق؛ فهو مخل بقصد المسابقة ومقترن بقصد حصول الشرط، وكذا يقال في شرط الولاء: إنه فعل منهيا عنه بقصد إسقاط حكم الاقتضاء ألا يترتب عليه أثره، وكذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 بين مجتمع خشية الصدقة" 1.   = البيع، وشرط ألا يبيعه المشتري مطلقا أو لغيره مثلا؛ فهذا إسقاط لما يترتب على البيع من حق المشتري في سائر تصرفات الملك، وما بعده قيد فيه السلف الذي لا يكون إلا لله وليس فيه مشاحة ولا ربح بالبيع الذي فيه ذلك؛ فقد خرج السلف بذلك عن مقتضاه، وشرط في شرط كشرط أن يكون الولاء للبائعين في مسألة بريرة حيث اشترطوا في بيعها أن تعتقها، واشترطوا في عتقها أن يكون الولاء لهم، والفقهاء استثنوا من عدم جواز البيع والشرط مسألة شرط العتق فقد أجازوها؛ فيتصور فيها شرط في شرط، وكذا فعل اليمين المنهي عنها ليرتب عليها حقا له لم يكن؛ فقد فعل شرطا يترتب عليه القضاء له بغير حقه، وقد فعله من جهة كونه شرطا بالقصد المعلوم، وجعل الشارع اليمين على نية المستحلف حتى لا يمكن الحالف من فعل شرط بهذا القصد الباطل، وآية {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ ... } إلخ من هذا أيضا، فإذا فعل ما يقتضي نشوزها وعدم قيامها بحدود الله؛ فقد فعل منهيا عنه بقصد حصوله على غرضه من الفدية، وآية شهادة الزور؛ فالشهادة يحقق بها شرطا لحكم القاضي للمشهود له بقصد إسقاط حكم الاقتضاء قبل الشهادة، والتيس المستعار يريد تحقيق شرط عودها للأول بهذا القصد. "د". وفي "م": "قوله, عليه السلام"، وفي "خ": "قوله, عليه الصلاة والسلام". 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" من حديث أنس, رضي الله عنه. وأخرجه من حديث ابن عمر ضمن قطعة من آخر حديث طويل, أبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، 2/ 244-225/ رقم 1568"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، 2/ 66-67/ رقم 617"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الإبل، 1/ 573، 574/ رقم 1798"، وأحمد في "المسند" "2/ 15"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 121، 122"، وابن زنجويه في "الأموال" "رقم 1519"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 392"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 88"، وابن حزم في "المحلى" "6/ 32، 40" من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه ابن عمر به، وإسناده ضعيف لضعف سفيان في رواية عن الزهري. ولكن للحديث شواهد عديدة اعتنى بسردها ابن زنجويه في "الأموال" "2/ 861-863"، وانظر: "التلخيص الحبير" "2/ 151، 155"، و"فتح الباري" "3/ 314". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1: "الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ" 2. وَقَالَ: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ تُسْبَقَ؛ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ تُسْبَقَ؛ فهو قمار"3.   1 في "م": "عليه السلام"، وفي "خ": "عليه الصلاة والسلام". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب كم يجوز الخيار، 4/ 326/ رقم 2107، وباب إذا لم يوقت الخيار هل يجوز البيع، 4/ 327-328/ رقم 2109"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، 3/ 1163/ رقم 1531"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب في خيار المتبايعين/ رقم 3454، 3455"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع, باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا/ رقم 1245", والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، 7/ 248-249"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب البيعان بالخيار ما لم يفترقا، 2/ 736/ رقم 2181"، ومالك في "الموطأ" "2/ 2671"، وأحمد في "المسند" "2/ 4، 9، 73", وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 617"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 268، 272" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بألفاظ متعددة منها هذا. 3 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 505"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 960/ رقم 2876"، وأبو داود في "السنن" "3/ 30/ رقم 2579"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 499"، والدراقطني في "السنن" "4/ 305"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 365-366"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 114"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 20"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 395-396/ رقم 2654"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 354"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 175"، والحربي في "غريب الحديث" "2/ 373"، والطبراني في "المعجم الصغير" "1/ 285/ رقم 470- الروض الداني"، وابن المنذر في "الإقناع" "2/ 506"، وأبو عبيد في "غريب الحديث" "2/ 143"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1208-1209"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 259/ رقم 5864"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ 103/ 2" من طريقين "سفيان بن حسين وسعيد بن بشير" بأسانيد متفرقة عن الزهري عن سعيد بن المسيب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ...........................................................................   = عن أبي هريرة به. وهذا إسناد ضعيف، والحديث معلول، أعله جهابذة الجرح والتعديل. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" "2/ 252/ رقم 2249" له: "سألت أبي عن حديث رواه يزيد بن هارون وغيره عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا: "أيما رجل أدخل فرسا بين فرسين وهو يأمن أن يسبق؛ فهو قمار" قال أبي: هذا خطأ، لم يعمل سفيان بن حسين شيئا لا يشبه أن يكون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحسن أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيب من قوله، وقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد من قوله". وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه", كما في "التلخيص الحبير" "4/ 163"، و"الفروسية" "230- بتحقيقي" لابن القيم: "سألت يحيى بن معين عن حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فرسا بين فرسين ... " الحديث؛ فقال: باطل وخطأ على أبي هريرة". وقال أبو داود في "سننه" بعد أن أخرجه "رقم 2580": "رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من أهل العلم، قالوا: "من أدخل فرسا"، وهذا أصح عندنا. هذا لفظ أبي داود؛ فلا ينبغي أن يقتصر المخرج له من "السنن" على قوله: رواه أبو داود، ويسكت عن تعليله له. وقد رواه مالك في "الموطأ" "2/ 468"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 20" "عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب؛ أنه قال: "من أدخل فرسا"؛ فجعله من كلام سعيد نفسه. وكذلك رواه الأساطين الأثبات, من أصحاب الزهري معمر بن راشد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد الأيلي، وهؤلاء أعيان أصحاب الزهري، كلهم رووه عن سعيد بن المسيب من قوله. وممن أعله أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث" "2/ 143"، وأعله أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" "14/ 87"، وقال: "هذا حديث انفرد به سفيان بن حسين من بين أصحاب ابن شهاب، ثم أعله بكلام أبي داود". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حِينَ اشْتَرَطَ أَهْلُهَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ: "مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ" 1 الْحَدِيثَ. وَنَهَى عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] عَنْ بَيْعِ وَشَرْطٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ2، وَسَائِرُ أَحَادِيثِ الشُّرُوطِ المنهي عنها.   = وقال بعض الحفاظ فيما نقل ابن القيم في "الفروسية" "231-232- بتحقيقي": "يبعد جدا أن يكون الحديث عند الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا، ثم لا يرويه واحد من أصحابه الملازمين له، المختصين به, الذين يحفظون حديثه حفظا، وهم أعلم الناس بحديثه، وعليهم مداره، وكلهم يروونه عنه كأنما من قول سعيد نفسه، وتتوفر هممهم ودواعيهم على ترك رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم الطبقة العليا من أصحابه، المقدمون على كل من عداهم ممن روى عن الزهري، ثم ينفرد برفعه من لا يدانيهم ولا يقاربهم؛ لا في الاختصاص به، ولا في الملازمة له، ولا في الحفظ، ولا في الإتقان، وهو معدود عندهم في الطبقة السادسة من أصحاب الزهري على ما قال أبو عبد الرحمن النسائي، وهو سفيان بن حسين؛ فمن له ذوق في علم الحديث لا يشك ولا يتوقف أنه من كلام سعيد بن المسيب لا من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يتأتى له الحكم برفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بل إما أن يرويه ويسكت عنه، أو ينبه عليه". قال ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: رفع هذا الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب". قال: "وهذا مما يعلم أهل العلم بالحديث أنه ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه، وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه عن سعيد بن المسيب؛ مثل: الليث بن سعد، وعقيل، ويونس، ومالك بن أنس، وذكره في "الموطأ" عن سعيد بن المسيب نفسه، ورفعه سفيان بن حسين الواسطي، وهو ضعيف لا يحتج بمجرد روايته عن الزهري لغلطه في ذلك". ونحوه في "مجموع الفتاوى" "18/ 63-64". 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل, 4/ 376/ رقم 2168"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1042/ رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها. 2 في الأصل و"ط": "عن شرطين في شرط"، وفي النسخ الثلاث المطبوعة: "وعن شرط = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وَمِنْهُ حَدِيثُ: "مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مسلمٍ بِيَمِينِهِ" 1. وَحَدِيثُ: إِنَّ "الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ المستحلِف" 2. وَعَلَيْهِ جَاءَتِ الْآيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 77] . وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 229] . وَآيَةُ شَهَادَةِ الزُّورِ وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا مِنْ هَذَا أَيْضًا. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 29] . وَمَا جَاءَ مِنَ3 الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .   = في شرط"! والصواب: "وعن شرطين في بيع"؛ كما أثبتناه. وسيأتي النهي عن ذلك في حديث بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ... ". انظره وتخريجه "ص469". وما بين المعقوفتين سقط من "م"، وكتب "خ" هنا ما نصه: "لم يجر البيع والسلف لاتهام المتعاقدين على قصد السلف بزيادة، ولأن فيه الجمع بين عقدين متضادين؛ فإن السلف معروف، والبيع موضوع للتجارة، ومبني على المشاحَّة". 1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، 1/ 122/ رقم 137" بلفظ: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار". 2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الأيمان، باب يمين الحالف على نية المستحلف، 3/ 1247/ رقم 1653، بعد 21" من حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 3 فِي "ط": "وما في معناه من". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وَمَا جَاءَ مِنْ أَحَادِيثِ لَعْنِ المحلِّل والمحلَّل لَهُ1 وَالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ. وَحَدِيثِ التَّصْرِيَةِ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ عَلَى أَنَّهَا غَزِيرَةُ الدَّرِّ2. وَسَائِرِ أَحَادِيثِ النهي عن الغش3.   1 أخرج الترمذي في "الجامع" "2/ 294"، وأبو داود في "السنن" "2/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 622"، والنسائي في "المجتبى" "6/ 149"، وأحمد في "المسند" "1/ 450"، والدارمي في "السنن" "2/ 294"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 295"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 269"، والدارقطني في "السنن" "3/ 251"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 207" من حديث ابن مسعود: "لعن المحلل والمحلل له ". وقال الذهبي في "الكبائر" "ص213- بتحقيقنا" بعد أن أورد حديث: "لعن الله المحلل والمحلل له"، قال: "جاء ذلك من وجهين جيدين عنه, صلى الله عليه وسلم". وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 170": "صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري". وانظر غير مأمور: "الاقتراح" "207"، و"تحفة المحتاج" "2/ 372". 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم/ 3/ 361/ رقم 2148"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة، 3/ 1158/ رقم 1524" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع، فمن ابتاعها بعد ذلك؛ فهو بخير النظرين من بعد أن يحلبها؛ إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر"، وفي رواية لمسلم: "من اشترى مصراة؛ فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها؛ رد معه صاعا من تمر لا سمراء ". وهي في البخاري معلقة، دون "لا سمراء". 3 أخرج ابن حبان في "الصحيح" "2/ 326/ رقم 567- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10234"، و"الصغير" "1/ 261"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 189"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 253، 254" بإسناد حسن عن ابن مسعود مرفوعا: "من غشنا فليس منا ". وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 101"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3455"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1315"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2224"، وأحمد في "المسند" "2/ 242، 417"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 57"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 139"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 564"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 8، 9"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 230" من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وَالْخَدِيعَةِ. وَالْخِلَابَةِ1. وَالنَّجْشِ2. وَحَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ حين طلقها وتزوجها3 عبد الرحمن بن   1 وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع، 4/ 337/ رقم 2117", ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع، 3/ 1165/ رقم 1533"؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن يخدع في البيع: " متى بايعت؛ فقل: لا خلابة"، وهذا الرجل هو حبان بن منقذ، وقيل: بل والده، وهذا هو الصحيح، وانظر: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 596"، وتعليقنا عليه. 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النجشي، 4/ 355/ رقم 2142"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه" من حديث ابن عمر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النجش". قال "د": "تصرية الشاة وما معها من مسائل الغش والخديعة والخلابة والنجش -ويجمعها في الحقيقة جنس الغش- قد فعل بها أمرا يقتضي زيادة الثمن عما إذا كانت غير مغشوشة، ولو كان ما فعله بهذا القصد صحيحا؛ لرتب الشارع عليه ملكه للزيادة وحل الانتفاع بها، ولكنه لا يرتب ذلك لأنه فعل شرط الزيادة بهذا القصد السيئ ولا بد؛ فلا تكون الزيادة ملكا له، ولا يحل انتفاعه بها، وللمشتري رد المبيع واسترداد الثمن". 3 في جميع الأمثلة السابقة وجد الشرط فعلا، ولكن بقصد غير صحيح, فكان سعيا باطلا من هذه الجهة، أما في مسألة امرأة رفاعة؛ فليس فيها تحقق الشرط وهو نكاح الزوج الآخر، وأنه فعل بقصد سيئ كالتحليل مثلا حتى يلغى الأثر المترتب على الشرط, ويبقى الأمر كما كان قبل فعله، وإنما الذي في المسألة أن الشرط لم يتحقق بدليل قوله, عليه السلام: "لا، حتى تذوقي عسيلته ... " إلخ، أي: إنه لم يتحقق المس مع الانتشار بدليل أنها لما عادت إليه -عليه السلام- بعد مدة تقول: إنه قد مسني؛ فقال لها: "كذبت بقولك الأول، فلن أصدقك في الآخر"؛ فلا يظهر وجه إدراج المسألة في هذا الباب. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الزُّبَيْرِ1. وَالْأَدِلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى عَلَيْهَا هنا.   1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، 5/ 249/ رقم 2639"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 1055-1056/ رقم 1433"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 731-732/ رقم 2309"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثا والنكاح الذي يحلها به، 6/ 148"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها، 2/ 293/ رقم 1127"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا فتتزوج فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ 1/ 621-622/ رقم 1932"، وأحمد في "المسند" "6/ 42، 96" من حديث عائشة قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ". وأخرج مالك في "الموطأ" "2/ 531" عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير: أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب، وذكر نحوه. وهو مرسل عند أكثر رواة "الموطأ"، ورواه ابن وهب وابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، جميعهم عن مالك؛ فقالوا: عن الزبير بن عبد الرحمن عن أبيه موصولا، وهو صاحب القصة. "فائدة": الزبير ضبطها الحافظ في "التقريب" "3860" بفتح الزاي، وفي حاشية الأصل بكسر الباء وفتح الزاي المشددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ1 يُصَيِّرُ مَا انْعَقَدَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ جَلْبًا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعًا لِمَفْسَدَةٍ، عَبَثًا لَا حِكْمَةَ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ بِهِ2، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا ثَبَتَ فِي قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ، وَأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّبَبَ لَمَّا انْعَقَدَ وَحَصَلَ فِي الْوُجُودِ؛ صَارَ مُقْتَضِيًا شَرْعًا لِمُسَبَّبِهِ، لَكِنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ3، هُوَ تَكْمِيلٌ لِلسَّبَبِ؛ فَصَارَ هَذَا الْفَاعِلُ أَوِ التَّارِكُ بِقَصْدِ رَفْعِ حُكْمِ السَّبَبِ قَاصِدًا لِمُضَادَّةِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِهِ سَبَبًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ [أَنَّ] 4 مُضَادَّةَ قَصْدِ الشَّارِعِ بَاطِلَةٌ؛ فَهَذَا الْعَمَلُ بَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي سَبَبٍ تَوَقَّفَ اقْتِضَاؤُهُ لِلْحُكْمِ عَلَى شَرْطٍ، فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ بِحُكْمِ الْقَصْدِ إِلَى فَقْدِهِ؛ كَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْقَصْدِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَنْهَضِ5 السَّبَبُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا؛ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ بِدُونِهِ بِالْفَرْضِ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّ السَّبَبَ إِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا مُقْتَضِيًا عِنْدَ وُجُودِ الشُّرُوطِ، لَا عِنْدَ فَقْدِهَا، فَإِذَا لَمْ يَنْتَهِضْ سَبَبًا؛ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ كَمَنْ أَنْفَقَ النِّصَابَ قَبْلَ حُلُولِ الحول لمعنى   1 ما تقدم من الآيات والأحاديث استدلال بالنقل والاستنباط منه، وهذا وما بعده استدلال بطريق العقل المبني على ما استقرئ من مقاصد الشرع في شرع الأحكام للمصالح، فلو جرى العمل باعتبار هذا الشرط الذي قصد به هذا القصد؛ لبطلت تلك المصالح التي يبنيها الشاع على تلك الأسباب، فمثلا لو اعتبر التفريق والجمع بهذه النية، ولو اعتبر الإنفاق قبل الحول بقليل ليهرب من الزكاة في المسألتين؛ لأمكن لكل واحد أن يخلص من وجوب الزكاة بفعل هذا الشرط أو تركه مثلا، وضاعت المصلحة المترتبة على الزكاة، وكذا يقال في سائر الأمثلة. "د". 2 في "ط": "فيه". 3 كمرور الحول مثلا في النصاب، فإذا أنفق بعضه بقصد رفع الزكاة؛ كان قصده رفع الزكاة عن هذا النصاب المملوك له مضادا لقصد الشارع إيجاب الزكاة فيه. "د". 4 سقط من الأصل. 5 في الأصل و"ط": "ينتهض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 مِنْ مَعَانِي الِانْتِفَاعِ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يقتضِ إِيجَابَهَا لِتَوَقُّفِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الَّذِي ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا، فَمِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ يُقَالُ: إِنَّهُ مُوَافِقٌ1، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ. فَالْجَوَابُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَجْرِي فِيمَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ رَفْعَ حُكْمِ السَّبَبِ، وَأَمَّا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ شَهِدَ لَهُ بِالْإِلْغَاءِ عَلَى الْقَطْعِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِذَا عُرِضَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقِ2 أَوِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ قَدْ نُهِيَ عَنْهَا إِذَا قُصِدَ بِهَا إِبْطَالُ3 حُكْمِ السَّبَبِ، بِالْإِتْيَانِ بِشَرْطٍ يُنْقِصُهَا حَتَّى تُبْخَسَ الْمَسَاكِينُ؛ فَالْأَرْبَعُونَ شَاةً فِيهَا شَاةٌ بِشَرْطِ الِافْتِرَاقِ، وَنِصْفُهَا بِشَرْطِ اخْتِلَاطِهَا بِأَرْبَعِينَ أُخْرَى مَثَلًا، فَإِذَا جَمَعَهَا بِقَصْدِ إِخْرَاجِ النِّصْفِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ مِائَةً مُخْتَلِطَةً بِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ، فَفَرَّقَهَا قَصْدًا أَنْ يُخْرِجَ وَاحِدَةً؛ فَكَذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِشَرْطٍ أَوْ رَفَعَ شَرْطًا يَرْفَعُ عَنْهُ مَا اقْتَضَاهُ السَّبَبُ الْأَوَّلُ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفِقُ نِصَابَهُ بِقَصْدِ رَفْعِ مَا اقْتَضَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ" 4؛ فَنَهَى عَنِ الْقَصْدِ إِلَى رفع شرط الخيار الثابت   1 هو مضاد لقصد الشارع كما ذكر في الدليل السابق، وموافق له من جهة أن قصد الشارع أن السبب إنما يقتضي مسببه عند وجود الشرط لا عند فقده، يعني: فكان يقتضي ذلك على أكثر الفروض أن يقال: إنه فعل منهيا عنه وأثم مثلا، ولكنه لا تجب عليه الزكاة؛ فإثمه من جهة المضادة لقصد الشارع وعدم وجوب الزكاة لفقد الشرط الذي قصد الشارع توقف تأثير السبب على حصوله. "د". 2 في الأصل: "المفترق". 3 وتقدمت القاعدة الأصولية وهي أنه ليس لأحد أن يرفع حكم السبب؛ لأن المسبب من فعل الله لا من فعل المكلف، ولما كان هذا الشرط يقصد به رفع المسبب؛ كان لاغيا وكأنه لم يكن. "د". 4 قطعة من حديث صحيح مضى تخريجه "ص425". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 لَهُ بِسَبَبِ الْعَقْدِ، وَعَنِ الْإِتْيَانِ بِشَرْطِ الْفَرَسِ الْمُحَلِّلَةِ1 [لِلْجُعْلِ] 2 بِقَصْدِ أَخْذِهِ، لَا بِقَصْدِ الْمُسَابَقَةِ مَعَهُ، وَمِثْلُهُ مَسَائِلُ الشُّرُوطِ؛ فَإِنَّهَا شُرُوطٌ يُقْصَدُ بِهَا رَفْعُ أَحْكَامُ الْأَسْبَابِ الْوَاقِعَةِ3؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْكِتَابَةِ4 اقْتَضَى أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى جَمِيعِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَمَنْ شَرَطَ أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ مِنَ الْبَائِعِينَ؛ فَقَدْ قَصَدَ بِالشَّرْطِ رَفْعَ حُكْمِ السَّبَبِ فِيهِ، وَاعْتَبِرْ هَكَذَا سَائِرَ مَا تَقَدَّمَ تَجِدْهُ كَذَلِكَ؛ فَعَلَى هَذَا الْإِتْيَانُ بِالشُّرُوطِ أَوْ رَفْعُهَا بِذَلِكَ الْقَصْدِ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ5، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ   1 في النسخ المطبوعة: "المحلية". 2 سقط من الأصل. 3 قيد به لما سبق له من أن المسبب الذي لا يرفع هو مسبب سبب وقع بالفعل؛ فارجع إليه. "د". 4 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: قوله: "فإن العقد على الكتابة ... إلخ" كلام غير صحيح؛ فإن بيع الكتابة منعه أبو حنيفة والشافعي، وأجازه مالك، لكنه يقول: "الولاء لعاقدها لا لمشتريها" عكس ما قاله المصنف، وكلامه يشير إلى أن حديث بريرة محمول على بيع كتابتها لا رقبتها، وهو حمل فاسد كما ذكرناه من كون الولاء في بيع الكتابة عند من يجيزها للعاقد، والذي في الحديث خلافه. وأيضا؛ فإن الكتابة إذا كانت نقدا إنما تباع بعرض، والذي في القصة خلافه، والمحققون من المالكية يحملون بيعها على بيع رقبتها بعد "عجزها"، فمن اشترطه من بائعي الرقبة: الولاء على المشتري أن أعتق، فقد قصد رفع حكم السبب فيه؛ فكان الصواب التمثيل على هذا الوجه، وكان المصنف اعتمد على ما في "بداية المجتهد" للحفيد ابن رشد، حيث نقل عن المالكية حمل الحديث على بيع الكتابة وهو كلام فاسد بما أوضحناه، والله تعالى أعلم. وممن أشار إلى فساده بالوجه الأول الأبي في "شرح مسلم"، وبالوجه الثاني ابن قيم الجوزية في كتاب "الهدي". ا. هـ. كاتبه. 5 أي: فقوله, في الاعتراض السابق: إنه موافق من جهة ومخالف من جهة؛ غير صحيح، فإنه مخالف من كل جهة؛ لأنه متى كان المنهي عنه هو فعل الشرط نفسه؛ فيكون باطلا وكأنه لم يحصل؛ فبقي الحكم كما كان قبل فعله. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 كَانَ مُضَادًّا لِقَصْدِ الشَّارِعِ1؛ فَيَكُونُ بَاطِلًا. فَصْلٌ: هَذَا الْعَمَلُ هَلْ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ بِإِطْلَاقٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا، وَهُوَ أن نقول2: لا تخلو أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْحَاصِلُ فِي مَعْنَى الْمُرْتَفِعِ، أَوِ الْمَرْفُوعُ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ مَعْنًى، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْحُكْمُ الَّذِي اقْتَضَاهُ السَّبَبُ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ هَذَا الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ بَاطِلٌ ضَائِعٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا حُكْمَ لَهُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ وَهَبَ الْمَالَ قَبْلَ الْحَوْلِ لِمَنْ رَاوَضَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَكَالْجَامِعِ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ3 رَيْثَمَا يَأْتِي السَّاعِي ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى التَّفْرِقَةِ، أَوِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ كَذَلِكَ ثُمَّ يَرُدُّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ, وَكَالنَّاكِحِ لِتَظْهَرَ صُورَةُ الشَّرْطِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمَعْمُولَ فِيهِ لَا مَعْنًى لَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ تُقْصَدُ شَرْعًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ، وَالنَّظَرُ فِيهَا مُتَجَاذِبٌ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: 4 أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُجَرَّدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ كافٍ؛ فَإِنَّهُ هو الباعث5 على   1 أي: مضاد له عينا، وسيأتي لهذا ذكر في الفصل بعده. "د". 2 في "ط": "يقال". 3 في "ط": "المتفرق". 4 ضعيف في النظر إن لم يكمل بما سبق من أنه منهي عنه ومضاد لقصد الشارع قطعا؛ فيكون باطلا، أما مجرد أن الشرط أمر خارجي ... إلخ؛ فإنه لا يفيد، ولو جعل ما بعده مكملا له لا دليلا مستقلا، وكان هو روح الدليل لصح، ولكن قوله: "وأيضا" يقتضي استقلاله في نظره بالاستدلال، وكلامه في التطبيق على الأمثلة بعد يقتضي أن محل الاستدلال وروحه ما بعد قوله: "وأيضا"؛ فتأمل. "د". 5 لا يخفى ما فيه من التسامح. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ مُكَمِّلٌ، وَإِلَّا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ جُزْءَ الْعِلَّةِ1، وَالْفَرْضُ بِخِلَافِهِ، وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ فِيهِ قَدْ صَارَ غَيْرَ شَرْعِيٍّ؛ فَصَارَ الْعَمَلُ فِيهِ مُخَالِفًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ مَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ، وَاتَّحَدَ مَعَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ؛ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ حُكْمٌ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: إِنْ أَنْفَقَ النِّصَابَ قَبْلَ الْحَوْلِ فِي مَنَافِعِهِ أَوْ وَهَبَهُ هِبَةً بَتْلة لَمْ2 يَرْجِعْ فِيهَا، أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ، أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ -وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَصْدِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّكَاةِ- لَكِنَّهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى مَا كَانَ عليه قبول الْحَوْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ عَلِمْنَا -حِينَ نَصَبَ الشَّارِعُ ذَلِكَ السَّبَبَ لِلْحُكْمِ- أَنَّهُ قَاصِدٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهِ، فَإِذَا أَخَذَ هَذَا بِرَفْعِ حُكْمِ السَّبَبِ مَعَ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا؛ كَانَ مُنَاقِضًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَكَوْنُ الشَّرْطِ -حِينَ رُفع أَوْ وُضع- عَلَى وَجْهٍ يَعْتَبِرُهُ الشَّارِعُ عَلَى الْجُمْلَةِ3 قَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْقَصْدُ الْفَاسِدُ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْتَهِضَ شَرْطًا شَرْعِيًّا، فَكَانَ كَالْمَعْدُومِ بِإِطْلَاقٍ، وَالْتَحَقَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُجَرَّدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ غَيْرُ كَافٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاعِثًا؛ قَدْ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ مُقَيَّدًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَإِذًا لَيْسَ كَوْنُ السَّبَبِ بَاعِثًا بِقَاطِعٍ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ إِيقَاعَ الْمُسَبَّبِ بِمُجَرَّدِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَهُ إِذَا وَقَعَ شَرْطُهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْقَاصِدُ لِرَفْعِ حُكْمِ السَّبَبِ مَثَلًا بِالْعَمَلِ فِي رَفْعِ الشَّرْطِ لَمْ يُنَاقِضْ قصدُه قصدَ الشَّارِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا قَصَدَ لِمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الشَّارِعِ لِلْإِيقَاعِ أَوْ عَدَمِهِ، وَهُوَ الشَّرْطُ أَوْ عَدَمُهُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ القصد آيلا لمناقضة   1 في ط: "علة". 2 أي: بائنة قاطعة. انظر: "لسان العرب" "ب ت ل". 3 فالشارع يعتبر إنفاق النصاب قبل الحول في منافعه، والهبة البتلة، وجمع المتفرق مثلا بهذا القصد نافذا؛ فيرتب في الهبة ملك الموهوب له، ولا يرد ما أنفقه في قضاء مصالحه، وهكذا لا يلزمه بتفريق المجتمع؛ فتكون التصرفات صحيحة في الجملة، لا من كل وجه؛ لأنه بهذا القصد الفاسد يكون آثما، وأيضا لا يرتب عليه الحكم الذي أراده وهو الفرار من الزكاة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قَصْدِ الشَّارِعِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا عَيْنًا؛ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الشُّرُوطِ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَمَّا كَانَ مُؤَثِّرًا وَحَاصِلًا وَوَاقِعًا؛ لَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ الْمَمْنُوعُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فِي وَضْعِهِ شَرْطًا شَرْعِيًّا أَوْ سَبَبًا شَرْعِيًّا، كَمَا كَانَ تَغَيُّرُ الْمَغْصُوبِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا فِي مَنْعِ صَاحِبِهِ مِنْهُ وَفِي تَمَلُّكِ الْغَاصِبِ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بِقَصْدِ الْعِصْيَانِ سَبَبًا فِي ارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي صِحَّةُ مَا يَقُولُ اللَّخْمِيُّ فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، أَوْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ قَصْدًا لِلْإِفْطَارِ، أَوْ أَخَّرَ صَلَاةَ حَضَرٍ عَنْ وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ لِيُصَلِّيَهَا فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ أَخَّرَتِ امْرَأَةٌ صَلَاةً بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا رَجَاءَ أَنْ تَحِيضَ فَتَسْقُطُ عَنْهَا، قَالَ: فَجَمِيعُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى هَذَا فِي السَّفَرِ صِيَامٌ، وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَلَا عَلَى الْحَائِضِ قَضَاؤُهَا، وَعَلَيْهِ أَيْضًا يَجْرِي الْحُكْمُ فِي الْحَالِفِ: لَيَقْضِينَّ فُلَانًا حَقَّهُ إِلَى شَهْرٍ، وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ؛ فَخَافَ الْحِنْثَ فَخَالَعَ زَوْجَتَهُ لِئَلَّا يَحْنَثَ، فَلَمَّا انْقَضَى1 الْأَجَلُ رَاجَعَهَا؛ فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِوُقُوعِ الْحِنْثِ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ ماضٍ شَرْعًا وَإِنْ قَصَدَ بِهِ قَصْدَ الْمَمْنُوعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ فَيُبْطِلُ الْعَمَلَ فِي الشَّرْطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ كَمَسْأَلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، وَمَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ نَافِذٌ مَاضٍ وَلَا يُحِلُّهَا ذَلِكَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ حَقُّ اللَّهِ؛ لِغَلَبَةِ حُقُوقِ اللَّهِ فِي النِّكَاحِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَيَنْفُذُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ كَالسَّفَرِ لِيَقْصُرَ أو ليفطر أو نحو ذلك.   1 في الأصل: "قضى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وهذا كُلُّهُ مَا لَمْ يَدُلُّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى خِلَافِهِ؛ صِيرَ إِلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ نَقْضًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ دَالٌّ عَلَى إِضَافَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ إِلَى حَقِّ اللَّهِ، أَوْ إِلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، وَيَبْقَى بَعْدُ مَا إِذِ1 اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ مَحَلَّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ؛ فَيَغْلِبُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ لِلْمُجْتَهِدِ، والله أعلم. المسألة الثامنة: الشُّرُوطُ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا2 عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِحِكْمَةِ الْمَشْرُوطِ وَعَاضِدًا لَهَا3 بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ مُنَافَاةٌ لَهَا عَلَى حَالٍ؛ كَاشْتِرَاطِ الصِّيَامِ فِي الِاعْتِكَافِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهُ، وَاشْتِرَاطِ الْكُفْءِ وَالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ4 بِإِحْسَانٍ فِي النِّكَاحِ، وَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ وَالنَّقْدِ أَوِ النَّسِيئَةِ فِي الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَاشْتِرَاطِ الْعُهْدَةِ فِي الرَّقِيقِ، وَاشْتِرَاطِ مَالِ الْعَبْدِ وَثَمَرَةِ الشَّجَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَا اشْتِرَاطُ الْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْإِحْصَانُ فِي الزِّنَى، وَعَدَمُ الطَّوْل فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَالْحِرْزُ فِي الْقَطْعِ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِحِكْمَةِ كُلِّ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُكْمًا، فَإِنَّ5 الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ انْقِطَاعًا إِلَى الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ لائق   1 في "ماء": "إذا". 2 في المسألتين السادسة والسابعة قيد الشروط بقوله: "المعتبرة في المشروطات شرعا"، وهنا أطلقها حتى يتأتى التقسيم إلى الأقسام الثلاثة؛ فالكلام هنا عام فيما اشترطه الشارع وما اشترطه الشخص نفسه من شرط ملائم أو منافٍ أو لا ملائم ولا منافٍ. "د". 3 مقويا لها. "ماء". 4 في "ط": "أو التسريح". 5 في الأصل: "فإن كان الاعتكاف ... " بزيادة "كان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بِلُزُومِ الْمَسْجِدِ؛ كَانَ لِلصِّيَامِ فِيهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ، وَلَمَّا كَانَ غَيْرُ الْكُفْءِ مَظِنَّةً لِلنِّزَاعِ وَأَنَفَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ عُصْبَتِهِمَا وَكَانَتِ الْكَفَاءَةُ أَقْرَبَ إِلَى الْتِحَامِ الزَّوْجَيْنِ وَالْعُصْبَةِ، وَأَوْلَى بِمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ كَانَ اشْتِرَاطُهَا مُلَائِمًا لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ، وَهَكَذَا الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ، وَسَائِرُ تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ تَجْرِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ فَثُبُوتُهَا شَرْعًا وَاضِحٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَقْصُودِ الْمَشْرُوطِ وَلَا مُكَمِّلٍ لِحِكْمَتِهِ، بَلْ هُوَ عَلَى الضِّدِّ مِنَ الْأَوَّلِ، كَمَا إِذَا اشْتَرَطَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهَا إِذَا أَحَبَّ، أَوِ اشْتَرَطَ فِي الِاعْتِكَافِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمَسْجِدِ إِذَا أَرَادَ بِنَاءً عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ1، أَوِ اشْتَرَطَ فِي النِّكَاحِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ أَنْ لَا يَطَأْهَا وَلَيْسَ بِمَجْبُوبٍ وَلَا عِنِّين، أَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ، أَوْ إِنِ انْتَفَعَ؛ فَعَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ شَرَطَ الصَّانِعُ عَلَى الْمُسْتَصْنِعِ أَنْ لَا يضمن المستأجر عليه إن تلف، أو أن يُصَدِّقَهُ فِي دَعْوَى التَّلَفِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا إِشْكَالَ فِي إِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ منافٍ لِحِكْمَةِ السَّبَبِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهُ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ منافٍ لِمَا شُرِعَتْ لَهُ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْمُنَاجَاةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِطُ فِي الِاعْتِكَافِ الْخُرُوجَ مُشْتَرِطٌ مَا يُنَافِي حَقِيقَةَ الاعتكاف من لزوم المسجد، واشترط النَّاكِحِ أَنْ لَا يُنْفِقَ يُنَافِي اسْتِجْلَابَ الْمَوَدَّةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ، وَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ لَا يَطَأَ أَبْطَلَ حِكْمَةَ النِّكَاحِ الْأَوْلَى وَهِيَ التَّنَاسُلُ، وَأَضَرَّ بِالزَّوْجَةِ؛ فَلَيْسَ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الدَّوَامِ وَالْمُؤَالَفَةِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بَاطِلَةً؛ فَهَلْ تُؤَثِّرُ فِي الْمَشْرُوطَاتِ أَمْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ يستمد2 من المسألة التي قبل هذه.   1 من لزوم المسجد. "د". 2 فهي شروط تقتضي رفع حكمة السبب، ويقصد بها رفع المسبب الواقع، وتقدم تفصيل ذلك "د". قلت: مما ينبغي أن يلاحظ أن عقد الزواج لا يبطل بالشروط الفاسدة؛ لأنه ليس عقد معاوضة، بل يبطل الشرط وحده، ويبقى العقد صحيحا منتجا لآثاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ فِي الشَّرْطِ مُنَافَاةٌ لِمَشْرُوطِهِ وَلَا مُلَاءَمَةٌ1 وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ؛ هَلْ يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمُنَافَاةِ؛ أَوْ بِالثَّانِي مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ ظَاهِرًا؟ وَالْقَاعِدَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي أَمْثَالِ هَذَا التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، فَمَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ دُونَ أَنْ تَظْهَرَ الْمُلَاءَمَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا التَّعَبُّدُ دُونَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَالْأَصْلَ فِيهَا أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ؛ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي اخْتِرَاعِ التَّعَبُّدَاتِ؛ فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الشُّرُوطِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْعَادِيَّاتِ يُكْتَفَى فِيهِ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي دُونَ التَّعَبُّدِ، وَالْأَصْلَ فِيهَا الْإِذْنُ حَتَّى يدل الدليل على خلافه2، والله أعلم.   1 موافقة. "ماء". 2 تقسيم الشروط إلى ثلاثة أقسام يذكره المالكية في البيع، ويقولون: ما كان من مقتضيات العقد أو مصلحاته؛ صح فيه البيع والشرط، وما كان منافيا للعقد، أو مؤديا إلى غرر فسد فيه البيع والشرط، وما لا يفيد مصلحة في البيع ولا مفسدة، ولا يؤثر في زيادة الثمن أو نقصه؛ صح فيه البيع وبطل الشرط، ويضاف إلى هنا قسم رابع وهو ما إذا تمسك المشترط بالشرط بطل البيع، وإن أسقطه كان البيع ماضيا، وبهذا التفصيل أمكنهم الجمع بين ما روي في هذا الصدد من الأحاديث المتعارضة في بادئ النظر. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي الْمَوَانِعِ: وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَوَانِعُ1 ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ2 اجْتِمَاعُهُ مَعَ الطَّلَبِ. وَالثَّانِي: مَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْفَعُ أَصْلَ الطَّلَبِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْفَعُهُ, وَلَكِنْ يَرْفَعُ انْحِتَامَهُ. وَهَذَا قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُخَيَّرًا3 فِيهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا إثم على مخالف الطلب.   1 الموانع جمع مانع، وإلى تعريف المانع أشرت بقولي في "منور الأفهام". ومانع وجوده منه العدم ... كالحيض عكس ما إذا يرى انعدم "ماء". 2 أي: عقلا، وقوله: "أحدهما يرفع أصل الطلب"؛ أي: وهو ما أمكن اجتماعه مع الطلب عقلا وامتنع الاجتماع شرعا، والقسمان الباقيان يصح فيهما الاجتماع عقلا وشرعا. "د". قلت: انظر تفصيل ما عند المصنف مع تعليق عليه في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "2/ 431-436"، وقارن ما عنده بـ"بداية المجتهد" "2/ 159"، و"الفتاوى الكبرى" "3/ 239" لابن تيمية، و"إعلام الموقعين" "4/ 6 وما بعدها"، و"المدخل الفقهي" "1/ 522". 3 يعني: ليس واجبا وإن كان مطلوبا شرعا كما يوضحه فيما بعد. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ1: فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ زَوَالِ الْعَقْلِ بِنَوْمٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ أَصْلِ الطَّلَبِ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ إِمْكَانُ فَهْمِهِ لِأَنَّهُ إِلْزَامٌ يَقْتَضِي الْتِزَامًا، وَفَاقِدُ الْعَقْلِ لَا يُمْكِنُ إِلْزَامُهُ2 كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ طَلَبٌ3 يَقْتَضِي اسْتِجْلَابَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ؛ فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْغَيْرِ، كَرِيَاضَةِ الْبَهَائِمِ وَتَأْدِيبِهَا, وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ4. وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَهُوَ رَافِعٌ لِأَصْلِ الطَّلَبِ وَإِنْ أَمْكَنَ حُصُولُهُ مَعَهُ، لَكِنْ إِنَّمَا يَرْفَعُ مِثْلُ هَذَا الطَّلَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَا يُطْلَبُ بِهِ5 أَلْبَتَّةَ؛ كَالصَّلَاةِ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا يُطْلَبُ بِهِ6 بَعْدَ رَفْعِ الْمَانِعِ؛ فَالْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِيهِ مَشْهُورٌ، لَا حَاجَةَ بنا7 إِلَى ذِكْرِهِ هُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ حَالَةَ وُجُودِ الْمَانِعِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ8 كذلك؛   1 بلا تخالف فيها بين العلماء. "ماء". 2 في الأصل: "التزامه". 3 أي: بسبب عمل صدر من غير العاقل؛ كإتلاف البهيمة مال الغير، وكالصبي يقتل غيره مثلا، فضمان المتلف وغيره من الأحكام لا يتعلق بالبهيمة والصبي، وإنما يتعلق بربها وبولي الصبي. "د". 4 وهي مسألة الفهم شرط التكليف، راجع ابن الحاجب. "د". 5 يعني: اتفاقا. "د". وفي "ط": "مثل هذا أصل الطلب ... ". 6 كقضاء الصوم على الحائض؛ فهل هو بأمر جديد ولم تكن مأمورة به وقت الحيض؟ وهو المعتمد، راجع مسألة الأداء والقضاء في ابن الحاجب. "د". 7 في النسخ المطبوعة: "لنا"، وما أثبتناه من الأصل و"ط". 8 الدليلان الأولان عامان في رفع أصل الطلب لما لا يطلب بعد وما يطلب، بخلاف الثالث؛ فخاص بما لا يطلب. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 لَاجْتَمَعَ الضِّدَّانِ؛ لَأَنَّ الْحَائِضَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالنُّفَسَاءَ كَذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِهَا أَيْضًا1؛ لَكَانَتْ مَأْمُورَةً حَالَةَ كَوْنِهَا مَنْهِيَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ2، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَتْ مَأْمُورَةً أَنْ تَفْعَلَ, وَقَدْ نُهِيَتْ أَنْ تَفْعَلَ؛ لَزِمَهَا شَرْعًا أَنْ تَفْعَلَ وَأَنْ لَا تَفْعَلَ مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا؛ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ بِشَيْءٍ لَا يَصِحُّ لَهَا فِعْلُهُ حَالَةَ وُجُودِ الْمَانِعِ وَلَا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْمُورَةٍ بِالْقَضَاءِ بِاتِّفَاقٍ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَكَالرِّقِّ وَالْأُنُوثَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجِهَادِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قد لصق بهم مانع مع انْحِتَامِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ، الْجَارِيَةِ فِي الدِّينِ مَجْرَى التَّحْسِينِ3 وَالتَّزْيِينِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ غَيْرُ مقصودين بالخطاب فيها إلا   1 في الأصل: "أيضا بها". 2 وهو الصلاة, أي: ومن جهة واحدة؛ فليست كالصلاة في الأرض المغصوبة؛ فلهذا صحت الاستحالة. "د". 3 جعل الجهاد من النوع الثالث التحسيني، ولم يجعله من المقاصد الضرورية ولا الحاجية، وقد عده هو في تحرير الأصول من الضروري وقال: "محل كونه كذلك إذا كانوا حربا علينا لا لكفرهم؛ ولذا لم تقتل المرأة والصبي والراهب وقبلت الجزية؛ فالدين لا يحفظ مع كونهم حربا علينا لأنه مفضٍ إلى قتل المسلم أو فتنته عن دينه". ا. هـ. فيبقى الكلام فيما إذا لم يكونوا حربا بل كانوا لا يتعرضون لنا وهم في بلاد بعيدة عن بلاد المسلمين، وليس هناك عهد بيننا وبينهم؛ فهل يكون قتالهم في هذه الحالة من الضروري أم من التحسيني؟ الظاهر هذا، ويكون الجهاد منه ما لا يتم حفظ الدين إلا به، ومنه ما لا يكون كذلك؛ فيكون تحسينيا من باب الأخذ بالأحوط، ليحمل كلامه هنا وهناك على هذا التفصيل. "د". وكتب "خ" هنا ما نصه: "ساق المصنف الجهاد هنا مساق التحسينات، وسيصرح في كتاب المقاصد بأنه من قبيل الضروريات وهو الصواب؛ إذ لا يستقيم الدين ولا يحفظ العرض إلا بإقامته على وجه صحيح، بل دلت التجارب الطويلة على أن في إضاعته إتلافا للأموال، وسقوطا في هاوية الفقر، وإلقاء بالأنفس المسلمة في قبضة من لا يرى سفك دمها الطاهر جناية تستحق عقابا، بل يسوقها إلى حروب لا تنال منها إلا موتة خاسرة وخزيا لا ينمحي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بِحُكْمِ التَّبَعِ، فَإِنْ تَمَكَّنُوا مِنْهَا؛ جَرَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مَجْرَاهَا مَعَ الْمَقْصُودِينَ بِهَا، وَهُمُ الْأَحْرَارُ الذُّكُورُ، وَهَذَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا؛ فَالْحُكْمُ مِثْلُ1 الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَكَأَسْبَابِ الرُّخَصِ، هِيَ مَوَانِعُ مِنَ الِانْحِتَامِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْعَزِيمَةَ مَيْلًا إِلَى جِهَةِ الرُّخْصَةِ؛ كَقَصْرِ الْمُسَافِرِ، وَفِطْرِهِ، وتركه2 للجمعة، وما أشبه ذلك. المسألة الثانية: 3 الْمَوَانِعُ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْمُكَلَّفِ لَهَا وَلَا رَفْعَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ مِنْهَا دَاخِلٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ -مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ- وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ كَالِاسْتِدَانَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ انْتِهَاضِ سبب الوجوب بالتأثير لوجود إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ وُجِدَ النِّصَابُ؛ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَقْدِ الْمَانِعِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ مِنْ وُجُوبِهِمَا4، وَمِنَ الِاعْتِدَادِ بِمَا طَلَّقَ فِي حَالِ كُفْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي مَنَعَ مِنْهَا الْكُفْرُ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنَ انتهاك حرمة الدم والمال والعرض إلا   1 أي: من رفع أصل الطلب، وهل يندرج فيه أيضا؟ بحيث يقال: إنه وجد مانع شرعي من توجه الطلب؛ لأن امتثال أمر السيد بأعمال أخرى في وقت هذه العبادات يعد مانعا شرعا، وحينئذ؛ فينتقل هذا النوع الثالث إلى النوع الثاني. "د". 2 في "د": "تركه" بدون الواو. 3 يحاذى بها وبما بعدها المباحث المتقدمة في المسألتين السادسة والسابعة في الشروط. "د". 4 أي: على الخلاف بين الجمهور والحنفية في تكليف الكفار بالفروع. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 بِحَقِّهَا؛ فَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ جِهَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ خَارِجٌ عَنْ مَقْصُودِ الْمَسْأَلَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ خِطَابِ الْوَضْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَانِعٌ، وَلَا فِي عَدَمِ تَحْصِيلِهِ؛ فَإِنَّ المِدْيَان لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِرَفْعِ الدَّيْن إِذَا كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ لِتَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، كَمَا أَنَّ مَالَكَ النِّصَابِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِتَحْصِيلِ الِاسْتِدَانَةِ لِتَسْقُطَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ ارْتَفَعَ مُقْتَضَى السَّبَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ وَضْعَ السَّبَبِ مُكَمَّلَ الشُّرُوطِ، يَقْتَضِي قَصْدَ الْوَاضِعِ إِلَى تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ، وَقَدْ فُرِضَ كَذَلِكَ، هَذَا خَلْفٌ، وَإِذَا ثَبَتَ قَصْدُ الْوَاضِعِ إِلَى حُصُولِ الْمُسَبَّبِ؛ فَفَرْضُ الْمَانِعِ مَقْصُودًا لَهُ أَيْضًا إِيقَاعُهُ قَصْدٌ إِلَى رَفْعِ تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَى نَفْسِ التَّرَتُّبِ، هَذَا خَلْفٌ، فَإِنَّ الْقَصْدَيْنِ مُتَضَادَّانِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا قَاصِدٌ إِلَى رَفْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاصِدًا إِلَى ذَلِكَ؛ لَمْ يُثْبِتْ فِي الشَّرْعِ مَانِعًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاصِدًا إِلَى رَفْعِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَانِعٌ؛ لَمْ يَثْبُتْ حُصُولُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرُ؛ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ السَّبَبِ، وَقَدْ فُرِضَ كَذَلِكَ، وَهُوَ عَيْنُ التَّنَاقُضِ. فَإِذَا تَوَجَّهَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَى إِيقَاعِ الْمَانِعِ أَوْ إِلَى رفعه؛ ففي ذلك تفصيل، وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المسألة الثالثة: فَلَا يَخْلُو أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ مَأْمُورًا بِهِ، أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَوْ مُخَيَّرًا فِيهِ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَظَاهِرٌ؛ كَالرَّجُلِ يَكُونُ بِيَدِهِ1 لَهُ نِصَابٌ، لَكِنَّهُ يَسْتَدِينُ لِحَاجَتِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَتَنْبَنِي الْأَحْكَامُ عَلَى مُقْتَضَى حُصُولِ الْمَانِعِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَهُ مَثَلًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَانِعًا، قَصْدًا لِإِسْقَاطِ حُكْمِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا اقْتَضَاهُ؛ فَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ أُمُورٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ, جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا} الْآيَةَ [الْقَلَمِ: 17] ؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ بِعِقَابِهِمْ عَلَى قَصْدِ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ، بِتَحَرِّيهُمُ الْمَانِعَ مِنْ إِتْيَانِهِمْ وَهُوَ وَقْتُ الصُّبْحِ الَّذِي لَا يُبَكِّرُ فِي مِثْلِهِ الْمَسَاكِينُ عَادَةً2، وَالْعِقَابُ إِنَّمَا يَكُونُ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ. وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] 3: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الْبَقَرَةِ: 231] ، نَزَلَتْ بِسَبَبِ مُضَارَّةِ الزَّوْجَاتِ بِالِارْتِجَاعِ أَنْ لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا4،   1 كلمة "بيده" ليست في "م" و"خ". 2 يعني: فالمانع عادي، وليس بشرعي حتى ينطبق عليه تعريف المانع الذي هو موضوع هذه المباحث، وهو ما اقتضى حكمة تنافي حكمة السبب، وعليه فما وجه ذكره هنا؟ إلا أن يقال: إن العقاب على تحصيل المانع العادي يفيد أن تحصيل المانع الشرعي قصدا مثله؛ فإن القصد في كل الوصول إلى موجب الحرمان. "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 4 هذا إنما يظهر حسبما كان عليه الأمر قبل نزول آية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ؛ فقد كانوا يطلقون ويرتجعون لا إلى حد، يضارون الزوجات بذلك، فلا يضمنها الرجل إليه ولا يدعها تتزوج طول حياتها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وَأَنْ1 لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا إِلَّا بَعْدَ طُولٍ؛ فَكَانَ الِارْتِجَاعُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ إِذْ هُوَ مَانِعٌ مِنْ حَلِّهَا لِلْأَزْوَاجِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا 2 فَبَاعُوهَا"، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" 3. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ4: "لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُسَمُّونَهَا بغير اسمها " 5.   1 في "م": "أو". 2 قال "ماء": "فجملوها؛ بالجيم، والميم المشددة؛ أي: أذابوها". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب المغازي، باب منه، 8/ 20/ رقم 4296" مختصرا، وليس فيه اللفظ المذكور، "وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} ، 8/ 295/ رقم 4633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581"، وأحمد في "المسند" "3/ 324، 326"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، 3/ 279/ رقم 3486"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع الخنزير، 7/ 309"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في بيوع جلود الميتة والأصنام، 3/ 591/ رقم 1297"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب ما لا يحل بيعه، 2/ 732/ رقم 2167" مطولا من حديث جابر بن عبد الله، وفيه اللفظ المذكور. 4 في "م": "عليه السلام". 5 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب الخمر يسمونها بغير اسمها، 2/ 1123/ رقم 3385"، وابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" "رقم 8" عن بلال بن يحيى العبسي عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة مرفوعا بلفظ: " ... باسم يسمونها إياه ". وإسناده جيد، رجاله رجال الشيخين؛ غير بلال بن يحيى، قال ابن معين: "ليس به بأس"، ووثقه ابن حبان. وتابعه شعبة، ولكنه أبهم الصحابي، وذلك لا يضر، وأسقط "ثابت بن السمط"، ولفظه لفظ المصنف. أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 237" بإسناد صحيح. وللحديث شواهد من حديث أبي مالك الأشعري وسيأتي تخريجه "3/ 113"، وعائشة، وأبي أمامة الباهلي، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم, رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وَفِي رِوَايَةٍ: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ" 1 الْحَدِيثَ. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ، وَالزِّنَى بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ"2. فَكَأَنَّ الْمُسْتَحِلَّ هُنَا رَأَى أن المانع   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، 10/ 51/ رقم 5590"؛ فقال: وقال هشام بن عمار عن صدقة بن خالد عن ابن جابر عن عطية بن قيس عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري به. وقد وصله جماعة؛ منهم: ابن حبان في "الصحيح" "15/ 154/ رقم 6754- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3417"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "3/ 272 و10/ 221"، وابن حجر في "تغليق التعليق" "5/ 17-19"، وهو حديث صحيح. وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 91". وكتب "خ" هنا ما نصه: "الحر: هذا اللفظ مضبوط في معظم الروايات من "صحيح البخاري" بالحاء المهملة والراء الخفيفة، قال ابن العربي: روايته بالمعجمتين تصحيف، وإنما رويناه بالمهملتين، وهو الفرج، والمعنى: يستحلون الزنى". قلت: وهو في الأصل المخطوط و"ماء" بالمعجمتين؛ فاقتضى التنويه. 2 أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" "1/ 218" ثنا عبد العزيز بن محمد المسكي نا ابن الجنيد نا سويد عن ابن المبارك عن الأوزاعي رفعه. وإسناده ضعيف؛ لأنه معضل، الأوزاعي ثقة من أتباع التابعين, رحمه الله تعالى. وكتب "خ" هنا ما نصه: "استحلال القتل باسم الإرهاب هو ما يرتكبه السلطان الجائر في طمس أعلام العدالة، وإطفاء نور الحرية, من اضطهاد بغاة الإصلاح والدعاة إلى الحق ورفعهم على أعواد المشانق، أو ضرب السيوف على أعناقهم بدعوى حماية الملك والذود عن "حرم" السياسة"!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ثهو الِاسْمُ؛ فَنَقَلَ الْمُحَرَّمَ إِلَى اسْمٍ آخَرَ، حَتَّى يَرْتَفِعَ ذَلِكَ الْمَانِعُ فَيَحِلَّ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النِّسَاءِ: 12] ؛ فَاسْتَثْنَى الْإِضْرَارَ، فَإِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدِينٍ لِوَارِثٍ، أَوْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ قَاصِدًا حِرْمَانَ الْوَارِثِ أَوْ نَقْصَهُ بَعْضَ حَقِّهِ بِإِبْدَاءِ هَذَا الْمَانِعِ مِنْ تَمَامِ حَقِّهِ؛ كَانَ مُضَارًّا، وَالْإِضْرَارُ مَمْنُوعٌ بِاتِّفَاقٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الْآيَةَ [النَّحْلِ: 91] . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عَجِبْتُ مِمَّا يَقُولُونَ فِي الْحِيَلِ وَالْأَيْمَانِ، يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ، [وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النَّحْلِ: 91]] 1. وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ 2 " 3. وَفِيهِ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ -يَعْنِي: الْوَبَاءَ- بِأَرْضٍ؛ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه" 4.   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 في الأرض المباحة بئر للشخص، وفي الأرض كلأ مباح يريد أن يمنع الناس منه بإيجاده مانعا لهم من رعيه، وهو بخله بسقيهم من فضل ماء بئره، فنهي عن ذلك. "د". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى، 5/ 31/ رقم 2253"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم فضل بيع الماء، 3/ 1198/ رقم 1566" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 10/ 178 = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وَالْأَدِلَّةُ هُنَا فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ, رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي الشُّرُوطِ جارٍ مَعْنَاهُ فِي الْمَوَانِعِ، وَمِنْ هُنَالِكَ يُفْهَمُ حُكْمُهَا، وَهَلْ يَكُونُ الْعَمَلُ بَاطِلًا أَمْ لَا؛ فَيَنْقَسِمُ إِلَى الضَّرْبَيْنِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ الْمُسْتَجْلِبُ مَثَلًا فِي حُكْمِ الْمُرْتَفِعِ، أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْحُكْمُ مُتَوَجِّهٌ، كَصَاحِبِ النِّصَابِ اسْتَدَانَ لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، بِحَيْثُ قَصَدَ أَنَّهُ إِذَا جَازَ الْحَوْلُ رَدَّ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ الْمَانِعُ وَاقِعًا شَرْعًا؛ كَالْمُطَلِّقِ خَوْفًا مِنَ انْحِتَامِ الْحِنْثِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ -عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ في الشروط- ولا فائدة في التكرار.   = -179/ رقم 5728"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، 3/ 1737/ رقم 2218" من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- وهو أشهر ما ورد في الباب، وفيه عن سعد بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وزيد بن ثابت وشرحبيل بن حسنة وجد عكرمة بن خالد وأم أيمن -رضي الله عنهم- وأخرج ذلك بتفصيل حسن شيخ المحدثين ابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضل الطاعون" "ص250 وما بعدها". قال: "د": "وهذا الحجر الصحي الذي يتبجح باختراعه خدمة للإنسانية أهل هذا العصر فيه في كلتا جهتيه قصد إلى المانع لكونه مانعا؛ فقدومهم على أرضه رفع للمانع من إصابتهم عادة؛ فنهوا عنه، وخروجهم من أرضه تحصيل للمانع من إصابتهم وهو بعدهم عنه، وحكمة الأول ظاهرة، وحكمة الثاني من الوجهة الدينية الصرفة الفرار من قدر الله والركون إلى محض الأسباب، وإن كان عمر قال في مثله: "نَعَمْ، نَفِرُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ الله"، ومن الوجهة الشرعية الصحية: خشية تلويث الجهات الأخرى بالجراثيم التي ربما تكون علقت بهم أو بأمتعتهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 النَّوْعُ الرَّابِعُ: فِي الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ 1 وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الصِّحَّةِ، وَلَفْظُ الصِّحَّةِ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ تَرَتُّبُ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَقُولُ فِي الْعِبَادَاتِ: إِنَّهَا صَحِيحَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ، وَمُبْرِئَةٌ لِلذِّمَّةِ، وَمُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ فِيمَا فِيهِ قَضَاءٌ، وما أشبه ذلك2 من العبارات الْمُنْبِئَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَكَمَا نَقُولُ فِي الْعَادَاتِ3: إِنَّهَا صَحِيحَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مُحَصِّلَةٌ شَرْعًا لِلْأَمْلَاكِ, وَاسْتِبَاحَةِ4 الْأَبْضَاعِ، وَجَوَازِ الِانْتِفَاعِ، وَمَا يُرْجَعُ5 إِلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِهِ تَرَتُّبُ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَتَرَتُّبِ الثَّوَابِ؛ فَيُقَالُ: هَذَا عَمَلٌ صَحِيحٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُرْجَى6 به الثواب في الآخرة؛ ففي   1 اعلم أن الصحة والبطلان ليسا على التحقيق من الأحكام الوضعية في شيء، بل من الأمور العقلية؛ لأنه بعد ورود أمر الشارع بالفعل ومعرفة شرائطه وموانعه لا يحتاج إلى توقيف من الشارع، بل يعرف بمجرد العقل صحته أو بطلانه، ولذا أسقطهما كثير من الأصوليين؛ فلم يعدوهما في الأحكام. "د". 2 كموافقة أمر الشرع كما قالوه. "د". 3 المعاملات. "ماء". 4 ولا يقال: حصول الانتفاع وحصول التوالد والتناسل؛ لأنها قد تترتب على الباطل، وقد تتخلف عن الصحيح. "د". 5 كصحة تصرفاته الشرعية فيما ابتاعه بيعا صحيحا مثلا. "د". 6 لم يقل: يحصل الثواب في الآخرة تفاديا مما اعترض به عليه من أن الثواب قد لا يترتب على الصحة الصحيحة كما سيأتي. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الْعِبَادَاتِ ظَاهِرٌ، وَفِي الْعَادَاتِ1 يَكُونُ فِيمَا نَوَى بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَقَصَدَ بِهِ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُخَيَّرِ إِذَا عَمِلَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ خَيَّرَهُ، لَا مِنْ حَيْثُ قَصَدَ مُجَرَّدَ حَظِّهِ فِي الِانْتِفَاعِ، غَافِلًا عَنْ أَصْلِ التَّشْرِيعِ؛ فَهَذَا أَيْضًا يُسَمَّى عَمَلًا صَحِيحًا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقًا غَرِيبًا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ؛ فَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ عُلَمَاءُ التَّخَلُّقُ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مِمَّا يُحَافِظُ عَلَيْهِ السَّلَفُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَتَأْمَلْ مَا حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ من ذلك2. المسألة الثانية: فِي مَعْنَى الْبُطْلَانِ، وَهُوَ مَا يُقَابِلُ مَعْنَى الصِّحَّةِ؛ فَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَقُولُ فِي الْعِبَادَاتِ: إِنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ، وَلَا مُبْرِئَةٍ لِلذِّمَّةِ، وَلَا مَسْقَطَةٍ لِلْقَضَاءِ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّ هُنَا نَظَرًا؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْعِبَادَةِ بَاطِلَةً إِنَّمَا هُوَ لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ فِيهَا، حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى نَفْسِ الْعِبَادَةِ3؛ فَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبُطْلَانِ إِطْلَاقًا؛ كَالصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، أَوْ نَاقِصَةً رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِهَا مِنَ الْأَصْلِ، وَقَدْ تَكُونُ رَاجِعَةً إِلَى وَصْفٍ خَارِجِيٍّ مُنْفَكٍّ عَنْ حقيقتها وإن كانت   1 كما تقدم له في النكاح أنه مندوب بالجزء وهو عادي؛ فلا ثواب إلا بهذه النية، وكما سيأتي في الواجب العادي كأداء الديون والنفقة على الأولاد ورد الودائع. "د". 2 "إحياء علوم الدين" "4/ 370 وما بعد"، أثناء "بيان تفصيل الأعمال المتعلقة بالنية"، ثم انظر في "الإخلاص" "حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب عليه, 4/ 384". 3 كخلل في بعض شروطها أو أركانها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 مُتَّصِفَةً بِهِ؛ كَالصَّلَاةِ1 فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مَثَلًا؛ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ: فِي اعْتِبَارِ الِانْفِكَاكِ؛ فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِلشَّارِعِ، وَلَا يَضُرُّ حُصُولُ الْمُخَالَفَةِ مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ. أَوْ فِي اعْتِبَارِ الِاتِّصَافِ؛ فَلَا تَصِحُّ بَلْ تَكُونُ فِي الْحُكْمِ بَاطِلَةً2 مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمُوَافِقَةَ إِنَّمَا هِيَ الْمُنْفَكَّةُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَيْسَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا. وَنَقُولُ أَيْضًا فِي الْعَادَاتِ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، بِمَعْنَى عَدَمِ حُصُولِ فَوَائِدِهَا بِهَا شَرْعًا؛ مِنْ حُصُولِ أَمْلَاكٍ، وَاسْتِبَاحَةِ فُرُوجٍ، وَانْتِفَاعٍ بِالْمَطْلُوبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادِيَّاتُ فِي الْغَالِبِ رَاجِعَةً إِلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا؛ كَانَ النَّظَرُ فِيهَا رَاجِعًا إِلَى اعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ هِيَ أُمُورٌ مَأْذُونٌ فِيهَا أَوْ مَأْمُورٌ بِهَا شَرْعًا. وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَاعْتَبَرَهُ قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَأَهْمَلُوا النَّظَرَ فِي جِهَةِ الْمَصَالِحِ، وَجَعَلُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ مُخَالَفَةً لِقَصْدِهِ بِإِطْلَاقٍ؛ كَالْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ سَوَاءً، وَكَأَنَّهُمْ مَالُوا إِلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ -وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" بَيَانُ أَنَّ فِي كُلِّ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَعَبُّدًا- وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَمُوَاجَهَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ بِالْمُخَالَفَةِ يَقْضِي بِالْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ مُقْتَضَى خِطَابِهِ، وَالْخُرُوجُ فِي الْأَعْمَالِ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ يَقْضِي بِأَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ بَاطِلٌ؛ فَهَذَا كَذَلِكَ، كَمَا لَمْ تَصِحَّ.   1 وكصوم الأيام المنهية. "د". 2 والبطلان والفساد مترادفان عند غير الحنفية، أما عندهم؛ فيقولون في مثله فاسد لا باطل، وبنوا على الفرق إمكان تصحيح الفاسد لا الباطل كما يأتي "ص455" من هذا الجزء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع. فِي اعْتِبَارِ الِانْفِكَاكِ؛ فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ على الموافقة للشارع، ولا على اعتبار المصلحة، بمعنى أن المعنى أن الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الْعَمَلُ بَاطِلًا يُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ حَاصِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ، بِحَيْثُ1 لَا يُمْكِنُ التَّلَافِي فِيهِ؛ بَطَلَ الْعَمَلُ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِيمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي أَنْ لَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ لِبَادِئِ الرَّأْيِ؛ فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنْ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْإِقْدَامِ وَإِنْ ظَنَّهَا الْعَامِلُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ وَلَا2 كَانَ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ لَكِنْ أَمْكَنَ تَلَافِيهِ، لَمْ يَحْكُمْ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ كَمَا يقول مالك3   1 كبيع الملاقيح، فإن المعنى الذي بطل البيع من أجله حاصل مستديم؛ لأن بيع ما في بطون الأمهات منعدم فيه ركن البيع، ولا يتأتى تلافي تصحيحه. "د". 2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "يحصل مدة كان"، وكتب "د": "لعل الأصل: "وإن كان حاصلا مدة أو في حكم الحاصل" يعني: مدة أيضا؛ فيكون مقابلا للقسم قبله، وتنطبق عليه التفاريع الآتية، فإن المفوت غالبا للعتق وهو البيع في حكم الحاصل، ولكن أثره لم يدم، بل ارتفع بالعتق، وأمكن تلافي مفوت العتق بسبب عتق المشتري، وإنما قلنا: "في حكم الحاصل"؛ لأن التفويت إنما يظهر أثره بعد موت السيد، فهناك كان يغلب عتقه، أعني إذا لم يوجد مانع، كبعض الصور التي يسترق فيها المدبر ولا ينفذ عتقه، أما الكتابة الفاسدة لفقد شرط مثلا؛ فالمعنى الذي لأجله بطلت حاصل بالفعل، لكن لمدة، وهي ما قبل خروجه حرا بسببها, وأمكن التلافي بسبب الحرية؛ فجعل الأمر في المثال وما قبله منزلا على المصلحة، وهي تشوف الشارع للحرية مع إمكان التلافي بإهدار بقاء الموجب للبطلان، ومثالا الغصب والبيع والسلف مما فيه حصول المعنى الموجب للبطلان فعلا، ولكنه لمدة وهي ما قبل الإجازة، وإسقاط الشرطين اللذين أمكن بهما إهدار الموجب للبطلان". قلت: وانظر نحو ما ذكره المصنف في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 283 و29/ 281-292 و32/ 87-88". قلت: وفي حاشية الأصل: "هنا تحريف في لفظ مرة". 3 انظر: "الموطأ" "2/ 423- رواية أبي مصعب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ: إِنَّهُ يُرَدُّ إِلَّا أَنْ يعتقه المشتري فَلَا يُرَدُّ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ إِنَّمَا مُنِعَ لِحَقِّ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ، أَوْ لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِتْقِ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ مِنْ سَيِّدِهِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ يُفِيتُهُ فِي الْغَالِبِ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَإِذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي حَصَلَ قَصْدُ الشَّارِعِ فِي الْعِتْقِ؛ فَلَمْ يُرَدُّ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ تُرَدُّ مَا لَمْ يَعْتِقِ الْمُكَاتَبُ, وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْغَاصِبِ لِلْمَغْصُوبِ، مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ رَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ، فَإِذَا أَجَازَهُ جَازَ، وَمِثْلُهُ الْبَيْعُ وَالسَّلَفُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِذَا1 أَسْقَطَ مُشْتَرِطُ السَّلَفِ شَرْطَهُ؛ جَازَ مَا عَقَدَاهُ، وَمَضَى عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَقَدْ يَتَلَافَى بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ شَرْعًا2، كَمَا فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ3، وَعَلَى مُقْتَضَاهُ جَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي تَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ4؛ كَنِكَاحِ الشَّغَارِ، وَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَنَحْوَهُمَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ بَاطِلَةٌ عَلَى وَجْهٍ؛ فَيُزَالُ ذَلِكَ الْوَجْهُ فَتَمْضِي الْعُقْدَةُ، فَمَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ نَهْيَ الشَّارِعِ كَانَ لِأَمْرٍ، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ الْأَمْرُ ارْتَفَعَ النَّهْيُ؛ فَصَارَ الْعَقْدُ مُوَافِقًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِمَّا عَلَى حُكْمِ الِانْعِطَافِ5 إِنْ قَدَّرْنَا رُجُوعَ الصِّحَّةِ إِلَى الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، أَوْ غَيْرِ حُكْمِ الِانْعِطَافِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ تَصْحِيحَهُ وَقَعَ الْآنَ لَا قَبْلُ, وَهَذَا الْوَجْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ مُغَلَّبَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّعَبُّدِ. وَالثَّانِي مِنَ الْإِطْلَاقَيْنِ: أَنْ يُرَادَ بِالْبُطْلَانِ عَدَمُ ترتب آثار العمل عليه في   1 في الأصل: "إذا". 2 ما قبله كان بإسقاط مشترط السلف، أما هذا؛ فإن أهل بريرة لم يسقطوه، بل بقوا متمسكين به، ولكن أسقطه الشارع كما في الحديث. "د". 3 مضى تخريجه "ص340". 4 الباطل عندهم هو ما يكون غير مشروع ألبتة؛ كبيع الملاقيح، لا ما كان النهي باعتبار وصف عارض؛ فإنه يسمى فاسدا، والثاني يمكن تصحيحه بإهدار الوصف الموجب للفساد، كإسقاط الزيادة في الربا، ولا يحتاج لعقد جديد؛ كالأمثلة التي ذكرها. "د". 5 وانسحاب آثار العقد الأول على ما تم بعد زوال الوصف. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 الْآخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ. فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ؛ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَزَاءٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِهَا، وَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا. فَالْأَوَّلُ: كَالْمُتَعَبِّدِ رِئَاءَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ. وَالثَّانِي: كَالْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} 1 الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 264] . وَقَالَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 2 [الزُّمَرِ: 65] . وَفِي الْحَدِيثِ: "أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لم يتب"3.   1 فقد قضت الآية بأنها كالعدم في الآخرة؛ لأنها كتراب على حجر صلد نزل عليه وابل فلم يترك له أثرا، وظاهر أن هذا باعتبار الآخرة. "د". 2 فالعبادة التي حصل فيها الإشراك مع الله باطلة بالمعنيين؛ أي: في الدنيا والآخرة. "د". 3 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812، 4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور -كما في "نصب الراية" "4/ 16"- والدارقطني في "السنن" "3/ 52"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 320-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته "أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها؛ فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية؛ فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منها بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة؛ فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أن يتوب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 على تأويل من جعل الإبطال حقيقة1.   = وفي رواية البيهقي: إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي العالية بنت أيفع؛ كما عند الدارقطني. وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما". وأعله الشافعي في "الأم" "3/ 33-ط الشعب"، وابن حزم في "المحلى" "9/ 60" بجهالة العالية. وأم محبة لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية؛ فمتعقب بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق" كما في "نصب الراية" "4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" "8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد الهادي، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 216"، وقال: "وهذا حديث فيه شعبة، وإذا وجد شعبة في حديث؛ فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله؛ فقد استوثق لدينه"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260". قال "د": "ولا يتجه جواب بعضهم هنا عن الشافعية بأن إنكار عائشة راجع إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين". 1 يعني: ويكون من الإطلاق الثاني. "د". وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل هذا الحديث أن امرأة ذكرت لعائشة -رضي الله عنها- شيئا باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من ذلك؛ فقالت عائشة: بئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم ... إلخ" الحديث. وحيث كانت صورة العقد المشتمل عليها الحديث جائزة عند الشافعية؛ أجابوا عنه بوجوه، أحدها: القدح في سنده بجهالة الراوي، ثانيها: القدح في متنه بأن الأعمال الصالحة لا يحبطها إلا الردة، ومحال أن تلزم عائشة زيدا برأيها وتكفره باجتهاده، ثالثها: أن إنكار عائشة على فرض صحة الحديث عائد إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين، رابعها: أن الحديث يتضمن اختلاف صحابيين في حكم، وإذا اختلف الصحابة في شيء؛ أخذنا بقول الذي يعضده القياس، وهو قول زيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وَتَكُونُ أَعْمَالُ الْعَادَاتِ بَاطِلَةً أَيْضًا بِمَعْنَى عَدَمِ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَتْ بَاطِلَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؛ فَالْأَوَّلُ كَالْعُقُودِ الْمَفْسُوخَةِ شَرْعًا، وَالثَّانِي كَالْأَعْمَالِ الَّتِي يَكُونُ الْحَامِلُ عَلَيْهَا مُجَرَّدَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ فِيهَا؛ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَأَشْبَاهِهَا، وَالْعُقُودِ الْمُنْعَقِدَةِ بِالْهَوَى وَلَكِنَّهَا وَافَقَتِ الْأَمْرَ أَوِ الْإِذْنَ الشَّرْعِيَّ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، لَا بِالْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ؛ فَهِيَ أَعْمَالٌ مُقَرَّةٌ شَرْعًا لِمُوَافَقَتِهَا لِلْأَمْرِ أَوِ الْإِذْنِ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الدُّنْيَا؛ فَرُوعِيَ فِيهَا هَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ حَيْثُ وَافَقَتْ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهِ, وَتَبْقَى جِهَةُ قَصْدِ الِامْتِثَالِ مَفْقُودَةً؛ فَيَكُونُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ مَفْقُودًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا الْهَوَى الْمُجَرَّدَ، إِنْ وَافَقَتْ قَصْدَ الشَّارِعِ بَقِيَتْ بِبَقَاءِ حَيَاةِ الْعَامِلِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا فَنِيَتْ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَبَطَلَتْ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النَّحْلِ: 96] . {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20] . {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الْأَحْقَافِ: 20] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ، أَوْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ فَمِنْ هُنَا أَخَذَ مَنْ تَقَدَّمَ بِالْحَزْمِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ أَنْ يُضِيفُوا إِلَيْهَا قَصْدًا يَجِدُونَ بِهِ أَعْمَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَانْظُرْ في "الإحياء"1 وغيره.   1 انظره "4/ 374" أثناء "بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 المسألة الثالثة: مَا ذُكِرَ مِنْ إِطْلَاقِ الْبُطْلَانِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي يَحْتَمِلُ تَقْسِيمًا، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ الْعَادِيِّ؛ إِذْ لَا يَخْلُو الْفِعْلُ الْعَادِيُّ -إِذَا خَلَا عَنْ قَصْدِ التَّعَبُّدِ- أَنْ يُفْعَلَ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَالْمَفْعُولُ بِقَصْدٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مُجَرَّدَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْظُرَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْمُوَافَقَةِ فَيَفْعَلَ، أَوْ فِي الْمُخَالَفَةِ فَيَتْرُكَ؛ إِمَّا اخْتِيَارًا، وَإِمَّا اضطرار؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُفْعَلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ كَالْغَافِلِ وَالنَّائِمِ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ اقْتِضَاءٍ وَلَا تَخْيِيرٍ، فَلَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، فَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ تَكْلِيفٍ؛ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُفْعَلَ لِقَصْدِ نَيْلِ غَرَضِهِ مُجَرَّدًا؛ فَهَذَا أَيْضًا لَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ, كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ التَّكْلِيفِ أَوْ وَقَعَ وَاجِبًا؛ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا تَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ بِحُكْمِ الطَّبْعِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هاجر إليه" 1، ومعنى الحديث   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها: "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 9/ رقم 1", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله, صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907"، والترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء، 4/ 179/ رقم 1647"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات، 2/ 651/ رقم 2201"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء، 1/ 58"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية، 2/ 1413/ رقم 4227"، وأحمد في "المسند" "1/ 25، 43" من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يصح إلا من حديثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَقْطُوعٌ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. فَهَذَا الْقِسْمُ وَالَّذِي قَبْلَهُ بَاطِلٌ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ الثَّانِي. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ مَعَ اسْتِشْعَارِ الْمُوَافَقَةِ اضْطِرَارًا؛ كَالْقَاصِدِ لِنَيْلِ لَذَّتِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ بِالزِّنَى لِامْتِنَاعِهَا أَوْ لِمَنْعِ أَهْلِهَا؛ عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدَ نِكَاحٍ لِيَكُونَ مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى مَا قَصَدَ؛ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ بِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ إِلَّا مُضْطَرًّا، وَمِنْ حَيْثُ كَانَ مُوَصِّلًا إِلَى غَرَضِهِ لَا مِنْ حَيْثُ أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَاطِلٍ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الزَّكَاةُ1 الْمَأْخُوذَةُ كُرْهًا؛ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ الأول, إذ كانت مسقطة للقضاء [أ] 2 ومبرئة لِلذِّمَّةِ، وَبَاطِلَةً عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، أَوِ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُدُودُ كَفَّارَاتٍ فَقَطْ3؛ فَلَمْ يُخْبِرِ الشَّارِعُ عَنْهَا أَنَّهَا مُرَتِّبَةٌ ثَوَابًا على   1 قال: "ومثل ذلك" لأنه أتى به لمجرد الفائدة المناسبة، وإلا؛ فهذا ليس من موضوع المسألة؛ لأن الزكاة من العبادات. "د". 2 زيادة من الأصل. 3 إقامة الحدود من خطاب التكليف المسبب عن خطاب الوضع بفعل المحدود عليه، وهذا بالنسبة للإمام، أما بالنسبة لمن أقيمت عليه؛ فلا خطاب يتوجه عليه فيها، فلا ينتظر أن تكون له نية؛ لأن إقامة الحد ليس من فعله؛ إلا أنه يبقى الكلام فيما إذا طلبها كماعز -رضي الله عنه- والغامدية والجهنية, طلبوا إقامة الحد للطهر من الزنى؛ فتم الرجم، وقال عليه الصلاة والسلام لخالد حين سب الماعزية*: "مهلا يا خالد؛ فقد تابت توبة لو قالها صاحب مَكْس لغفر له"، ولما صلى =   * في المطبوع: "الخالدية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 حَالٍ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كَوْنُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَفْعَلَ لَكِنْ مَعَ اسْتِشْعَارِ الْمُوَافَقَةِ اخْتِيَارًا؛ كَالْفَاعِلِ لِلْمُبَاحِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا لَمْ يَفْعَلْهُ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ النَّظَرُ فِيهِ فِي الْمُبَاحِ، أَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ يَفْعَلُهُ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ، أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَتْرُكُهُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ أَيْضًا؛ فَهُوَ مِنَ الصَّحِيحِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ, كَمَا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ أَوْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَصْدًا لِلْمُخَالَفَةِ؛ فَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ، فَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي فِعْلِ الْمُبَاحِ أَوْ تَرْكِهِ مِنْ حَيْثُ خَاطَبَهُ الشَّرْعُ بِالتَّخْيِيرِ، فَاخْتَارَ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ لِمُجَرَّدِ حَظِّهِ؛ فَتَحْتَمِلُ فِي النَّظَرِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ، بَاطِلًا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي تَصَوُّرِ الْمُبَاحِ بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ، لَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ مَعًا، بِنَاءً عَلَى تَحَرِّيهِ فِي نَيْلِ حَظِّهِ مِمَّا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، دُونَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ الْحَدِيثُ فِي الْأَجْرِ فِي وَطْءِ الزَّوْجَةِ، وَقَوْلِهِمْ: أَيَقْضِي شَهْوَتَهُ ثُمَّ يُؤْجَرُ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ! " 1، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي كِتَابِ "المقاصد" من هذا الكتاب.   = على الجهنية؛ قال له عمر, رضي الله عنه: أتصلي عليها وقد زنت؟ قال له عليه الصلاة والسلام: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله, عز وجل"، والظاهر أنه يترتب عليه المغفرة لا غير؛ لأنه الذي ورد في الحديث في هؤلاء الذين جادوا بأنفسهم لله، وقد يقال: إن الطلب غير إقامة الحد الذي هو من فعل الغير؛ فليس فيه إلا التكفير، أما الطلب من المحدود كما حصل من هؤلاء؛ فعمل آخر مستقل له فضله ونيته، كما يدل على قوله: "أن جادت بنفسها لله"، وهذا عمل ديني خطير؛ فلا يحرم ثوابه. "د". 1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/ 697/ رقم 1006". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ مَعًا, فِي الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ، وَصَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَاطِلًا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي, فِي الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْكُلِّ، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ قِسْمَيِ الْأَحْكَامِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ، وَالْأَوَّلُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إِطْلَاقِ الصِّحَّةِ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ عِبَادَةً؛ فَلَا تَقْسِيمَ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ عَادَةً؛ فَإِمَّا أَنْ يَصْحَبَهُ مَعَ قَصْدِ التَّعَبُّدِ قَصْدُ الْحَظِّ، أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْحَظِّ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَصْحَبُهُ حَظٌّ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ. وَالثَّانِي: 1 كَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الَّذِي لَهُ الحكم، وما سواه في حكم   = وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل الحديث في "صحيح مسلم": "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام: أكان عليها فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " ". ثبت عليه الصلاة والسلام الأجر لوضع الشهوة في حلال مقارنا له على وجه التمثيل بثبوت الوزر بوضعها في حرام، وهذا ما يسميه الأصوليون قياس العكس، وهو الاستدلال بنقيض العلة على الحكم، والتحقيق أنه بطريق أضعف من قياس الشبه؛ فلا يستقل بتفصيل الحكم، والحديث خبر آحاد، وهو لا يكفي في تقرير الأصول الواجب إقامتها على أدلة تفيد القطع، ومن الجائز أن يكون ثبوت الأجر لوضع الشهوة في الحلال متلقى من طريق الوحي، وتكون مقارنته بوضعها في حرام واردة لغرض آخر كتقريب المعنى إلى فهم المخاطب، لا للتنبيه على دخول هذا النوع في المقاييس المعتد بها في أصول الأحكام". 1 وهو ما يكون قصد الحظ فيه مغلوبا؛ فالنشر على عكس اللف. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 الْمُطَّرِحِ. وَالثَّالِثُ: مُحْتَمِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي أَيْضًا؛ إِعْمَالًا لِلْجَانِبِ الْمَغْلُوبِ، وَاعْتِبَارًا بِأَنَّ جَانِبَ الْحَظِّ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَادِيَّاتِ بِخِلَافِ الْعِبَادِيَّاتِ، وَأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؛ إِعْمَالًا لِحُكْمِ الْغَلَبَةِ، وَبَيَانُ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 النَّوْعُ الْخَامِسُ فِي الْعَزَائِمِ وَالرُّخَصِ: 1 وَالنَّظَرُ فِيهِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَزِيمَةُ2 مَا شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ ابْتِدَاءً. وَمَعْنَى كَوْنِهَا "كُلِّيَّةً" أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُكَلَّفُونَ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ؛ كَالصَّلَاةِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ فِي كُلِّ شَخْصٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالْجِهَادُ، وَسَائِرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْكُلِّيَّةِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا مَا شُرِعَ لِسَبَبٍ مَصْلَحِيٍّ فِي الْأَصْلِ؛ كَالْمَشْرُوعَاتِ الْمُتَوَصَّلِ بِهَا إِلَى إِقَامَةِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ, مِنَ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْجِنَايَاتِ، وَالْقِصَاصِ، وَالضَّمَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ جَمِيعُ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ. وَمَعْنَى "شَرْعِيَّتِهَا ابْتِدَاءً" أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الشَّارِعِ بِهَا إنشاء الأحكام   1 جرى المصنف في جعل الرخصة من خطاب الوضع على طريقة بعض الأصوليين كالآمدي, وعدها آخرون من قبيل الحكم الشرعي وهو الذي يقتضيه صنيع من قسمها إلى واجب ومندوب ومباح، وخلاف الأولى كما فعل تاج الدين ابن السبكي في "جمع الجوامع" [1/ 162- مع "حاشية العطار"] . "خ". 2 المحققون على أنه لا تطلق العزيمة إلا فيما كانت فيه الرخصة مقابلة لها, أما ما لا رخصة فيه بحال؛ فلا يطلق عليه عزيمة, وإن كان حكما ابتدائيا كليا؛ فالتعريف للعزيمة شامل لها، وذلك خلاف رأي المحققين. "د". قلت: انظر كلام ابن القيم على الرخصة والعزيمة في "المدارج" "2/ 57-59، 282"، و"الزاد" "3/ 88"، و"روضة المحبين" "ص163-165"، و"الوابل الصيب" "ص9، 17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 التَّكْلِيفِيَّةِ1 عَلَى الْعِبَادِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ فَلَا يَسْبِقُهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ سَبَقَهَا وَكَانَ مَنْسُوخًا بِهَذَا الْأَخِيرِ؛ كَانَ2 هَذَا الْأَخِيرُ كَالْحُكْمِ الِابْتِدَائِيِّ، تَمْهِيدًا لِلْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ. وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا مَا كَانَ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَارِدًا عَلَى سَبَبٍ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ تَكُونُ مفقودة قبل ذلك, فإذا وجد اقْتَضَتْ أَحْكَامًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 108] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 198] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 187] . وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 203] . وَمَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ تَمْهِيدٌ لأحكام وردت [شيئا] 3 بعد شيء بحسب   1 لا ينافي هذا وما يأتي له في المسألة الثانية من أن حكم الرخصة الإباحة جعله العزيمة والرخصة أحكاما وضعية؛ فإن الصوم والصلاة مثلا يتعلق بهما حكم تكليفي هو الوجوب مثلا، وحكم وضعي هو كونهما عزيمة أو رخصة، قال في "التحرير": "للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبا أو ندبا أو أباحة، وهي من أحكام التكليف، وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسبه تخفيف الحكم مع قيام الدليل على الأصل، وهو من أحكام الوضع؛ فإيجاب الجلد للزاني من أحكام الاقتضاء من وجه، ومن أحكام الوضع من حيث كونه مسببا عن الزنى"، وعليه مشى الأبهري. "د". 2 في "ط": "كان منسوخا ... وكان هذا ... ". 3 سقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذَا يَشْمَلُهُ اسْمُ الْعَزِيمَةِ، فَإِنَّهُ شَرْعٌ ابْتِدَائِيٌّ حُكْمًا1، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنَ الْعُمُومَاتِ وَسَائِرِ الْمَخْصُوصَاتِ كُلِّيَّاتٌ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا؛ كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] 2: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 229] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى3: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النِّسَاءِ: 19] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التَّوْبَةِ: 5] . وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ4، هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْعَزَائِمِ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَحْكَامٍ كُلِّيَّةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ. وَأَمَّا الرُّخْصَةُ؛ فَمَا شُرِعَ لِعُذْرٍ شَاقٍّ، اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ5، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ. فَكَوْنُهُ "مَشْرُوعًا لِعُذْرٍ" هُوَ الْخَاصَّةُ الَّتِي6 ذَكَرَهَا عُلَمَاءُ الأصول.   1 لعل أصل العبارة: "فإنه حكم كلي شرع ابتداء"، ولا داعي للفظ "حكما"؛ لأن الابتداء حقيقي في جميع هذه الأمثلة، إلا في آية {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ} ؛ فإنها من قبيل الناسخ، وهو ابتدائي حكما كما تقدم له. "د". 2 سقط من الأصل. 3 كلمة "تعالى" ليست في "م" و"خ" و"ط" و"ج". 4 أخرجه البخار في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان والنساء في الحرب، 6/ 148/ رقم 3014، 3015"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، 3/ 1364/ رقم 1744" من حديث عبد الله بن عمرو. وورد عن جماعة من الصحابة حتى عده بعضه متواترا، وتفصيل ذلك يطول, ولا يتسع المقام له، والله الموفق. 5 في قول كل العلماء. "ماء". 6 ظاهر صنيعه أنه يريد الاستدراك على الأصوليين بأن تعريفهم غير مانع، وأنه لولا زيادته كلمة "شاقة"؛ لاختل التعريف، ودخل في الرخصة القراض وما معه، ولكن الواقع أنهم لم يقتصروا على هذه الخاصة، بل قالوا: "ما شرع لعذر مع قيام الدليل المحرم لولا العذر"، ولا يخفى أن هذه الخاصة التي ذكروها لا تبقي شيئا من القراض وما معه داخلا في الرخصة؛ لأن معنى قيام الدليل المحرم بقاؤه معمول به لولا العذر، ولا شيء من ذلك في القراض وما معه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وَكَوْنُهُ "شَاقًّا"؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعُذْرُ مُجَرَّدَ الْحَاجَةِ، مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَوْجُودَةٍ؛ فَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ رُخْصَةً؛ كَشَرْعِيَّةِ الْقِرَاضِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لِعُذْرٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ عَجْزُ صَاحِبِ الْمَالِ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ حَيْثُ لَا عُذْرَ وَلَا عَجْزَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ، وَالْقَرْضُ، والسلَم؛ فَلَا يُسَمَّى هَذَا كُلُّهُ رُخْصَةً وَإِنَّ كَانَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا دَاخِلًا تَحْتَ أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّاتِ، وَالْحَاجِيَّاتُ لَا تُسَمَّى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاسْمِ الرُّخْصَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعُذْرُ رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ تَكْمِيلِيٍّ، فَلَا يُسَمَّى رُخْصَةً أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا، أَوْ يَقْدِرُ بِمَشَقَّةٍ؛ فَمَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْجُلُوسِ، وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، لَكِنْ بِسَبَبِ الْمَشَقَّةِ اسْتُثْنِيَ فَلَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ الْقِيَامُ؛ فَهَذَا رُخْصَةٌ مُحَقَّقَةٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُتَرَخِّصُ إِمَامًا؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ -ثُمَّ قَالَ:- وَإِنْ صَلَّى جَالِسًا؛ فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ" 1؛ فَصَلَاتُهُمْ جُلُوسًا وَقَعَ لِعُذْرٍ، إِلَّا أَنَّ الْعُذْرَ فِي حَقِّهِمْ لَيْسَ الْمَشَقَّةَ، بَلْ لِطَلَبِ الْمُوَافِقَةِ2 لِلْإِمَامِ وَعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ عَلَيْهِ؛ فَلَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا رُخْصَةً، وَإِنْ كَانَ مستثنى لعذر.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 688، وكتاب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، 2/ 584/ رقم 1113، وكتاب السهو، باب الإشارة في الصلاة، 3/ 108/ رقم 1236"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 309/ رقم 412" من حديث عائشة, رضي الله عنها. 2 هذا هو الأصل التكميلي؛ فصلاة الإمام جالسا رخصة، وموافقتهم له ليس برخصة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وَكَوْنُ هَذَا الْمَشْرُوعِ لِعُذْرٍ "مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ" يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الرُّخَصَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ ابْتِدَاءً؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ كُلِّيَّاتٍ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ عَرَضَ لَهَا ذَلِكَ؛ فَبِالْعَرَضِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَجَزْنَا لَهُ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ؛ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتْ آيَاتُ الصَّوْمِ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ثانٍ عَنِ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 173] . وَكَوْنُهُ "مُقْتَصِرًا بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ" خَاصَّةً مِنْ خَوَاصِّ الرُّخَصِ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْهُ1، وَهُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ مَا شُرع مِنَ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ وَمَا شُرِعَ مِنَ الرُّخَصِ؛ فَإِنَّ شَرْعِيَّةَ الرُّخَصِ جُزْئِيَّةٌ يُقتصر فِيهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا انْقَطَعَ سَفَرُهُ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ مِنْ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَإِلْزَامِ الصَّوْمِ، وَالْمَرِيضُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يصلِّ قَاعِدًا، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لَمْ يَتَيَمَّمْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الرُّخَصِ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ يُشْبِهُ الرُّخْصَةَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ فِي حَقِيقَةِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ أَيْضًا وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ، فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَرِضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى الِاقْتِرَاضِ، وَأَنْ يُسَاقِيَ حَائِطَهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقَارِضَ بِمَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التِّجَارَةِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ ابْتِدَائِيٍّ، وَالرُّخْصَةُ راجعة   1 يلوح أنه حكم مفرع على الرخصة لازم لها، ولا يتوقف تعريفها عليه؛ لأنه تم بالقيود قبله، بدليل أنه أخرج به القرض وما معه وهو نفس ما أخرجه بقيد المشقة؛ فإن كان مراده أنه لا بد منه في التعريف؛ فغير ظاهر، وإن كان مراده أنه وصف ملازم وحكم ثابت للرخصة؛ فظاهر، وهو مفهوم من تعريفها بما شرع لعذر شاق؛ لأن موضع الحاجة هو العذر الشاق؛ فعند زوال هذا العذر لا يوجد محل الرخصة؛ فلا يتأتى الترخص حينئذ. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 إِلَى جُزْئِيٍّ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْكُلِّيِّ. فَصْلٌ: وَقَدْ تُطْلَقُ الرُّخْصَةُ عَلَى مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِكَوْنِهِ لِعُذْرٍ شَاقٍّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَرْضُ، وَالْقِرَاضُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَرَدُّ الصَّاعِ مِنَ الطَّعَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ، وَبَيْعُ العريَّة بِخَرْصِهَا تَمْرًا، وَضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا ليس عندك"1،   1 أخرج أحمد في "المسند" "2/ 174، 178-179، 205"، والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/ رقم 3504"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما ليس عندك/ رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/ 737-738/ رقم 2188"، والدارمي في "السنن" "2/ 253"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن" "3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ". وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي: "نهى عن سلف وبيع". وكتب "خ" ما نصه: "أبقى أكثر أهل العلم هذا الحديث وهو قوله, عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك" على ما يقتضيه لفظه من العموم، وجعلوا السلم مستثنى منه بالأدلة الدالة على جوازه، وذهب ابن القيم في "إعلام الموقعين" إلى أن المراد من الحديث النهي عن بيع العين المعينة وهي لم تزل في ملك الغير، أو بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وصرح بأن جعل السلم داخلا في الحديث من قبيل التوهم، والفرق بين طريقة الجمهور وهذه الطريقة أن ابن القيم يجعل الحديث من قبيل العام الذي أريد به الخصوص، والجمهور يجعلونه من العام المخصوص، ويقولون مع هذا: إن بين السلم وبين بقية الصور الممنوعة وجها من الفرق يستدعي الاختلاف في الحكم؛ فكلام ابن القيم إنما يطعن في قول من صرح بأن السلم مخالف للقياس، ونفي أن يكون هناك فارق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين المضمون في الذمة المقدور على تسليمه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 "وأرخَصَ فِي السَّلَمِ" 1، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَنَدٌ إِلَى أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ؛ فَقَدِ اشْتَرَكَتْ مَعَ الرُّخْصَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُهَا فِي التَّسْمِيَةِ، كَمَا جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، وَهُنَا أَيْضًا يَدْخُلُ مَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ جُلُوسًا اتِّبَاعًا لِلْإِمَامِ الْمَعْذُورِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْإِمَامِ كَذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنَّ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ تُسْتَمَدَّانِ مِنْ أَصْلِ التكميلات2 لا   1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم، 4/ 429/ رقم 2240، 2241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب السلم، 3/ 1226-1227/ رقم 1604"، وأحمد في "المسند" "1/ 282"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في السلف في الطعام والتمر، 3/ 602-603/ رقم 1311"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب السلف في الثمار، 7/ 290"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والتجارات، باب في السلف, 3/ 741-742/ رقم 3463", وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات, باب السلف في كيل معلوم، 2/ 765/ رقم 2280"، والدارمي في "السنن" "2/ 260"، وابن الجارود في "المنتقى" "614، 615"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 18" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من أسلف، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، وعند الدارقطني في "السنن" "3/ 3": "وهم يسلمون" بدل "يسلفون". 2 أي: التكميلات للتحسينيات؛ فإن الجماعة على العموم من أصل التحسينيات، وموافقة الإمام في الجلوس مكمل لها، كما أن قسمة الجيش إلى فرقتين تؤديان الصلاة مع الإمام تكميل لها أيضا، وليس في المسألتين خاصة المشقة حتى يندرجا في سلك الرخصة بالمعنى الأول. "د". وفي "ط": "التكميليات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 مِنْ أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ؛ فَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ1 الرُّخْصَةِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ مَعَهَا فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الرُّخْصَةِ وَإِنِ اسْتُمِدَّتْ مِنْ أَصْلِ الضَّرُورِيَّاتِ، كَالْمُصَلِّي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ؛ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِ ضَرُورِيَّةٌ لَا حَاجِيَّةٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَاجِيَّةً إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لَكِنْ بِمَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ فِيهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ. فَصْلٌ: وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ التَّكَالِيفِ الْغَلِيظَةِ وَالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 157] . فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي اللُّغَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى اللِّينِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: "أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- صَنَعَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فيه"2،   1 أي: بغير الإطلاق الأول؛ لأن مثل هذا لا يتعلق به حكم آخر يسمى عزيمة، بل إن صلاته جالسا هي العزيمة؛ فالرخصة بالإطلاق الأول إنما تكون في أصل الحاجيات لا غير، فما كان من التحسينيات أو الضروريات لا تطلق عليه الرخصة بالمعنى الأول، وإن أطلقت عليه بالمعنى الذي في هذا الفصل. "د". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، 10/ 513/ رقم 6101، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 276/ رقم 7301" من حديث عائشة قالت: صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا ترخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب، فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؛ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَعْنَى1 الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ" 2، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ3؛ فَكَانَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ السَّمْحَةِ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ رُخْصَةً، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حَمَلَتْهُ4 الْأُمَمُ السَّالِفَةُ مِنَ الْعَزَائِمِ الشَّاقَّةِ. فَصْلٌ: وَتُطْلَقُ الرُّخْصَةُ أَيْضًا عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ مُطْلَقًا5، مِمَّا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَيْلِ حُظُوظِهِمْ وَقَضَاءِ أَوْطَارِهِمْ؛ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ الْأُولَى هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 56] . وَقَوْلُهُ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} الْآيَةَ [طه: 132] . وما كان نحو ذلك مما دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ مِلْكُ اللَّهِ6 عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ؛ فَحَقٌّ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي عِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عِبَادُهُ وَلَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ لَدَيْهِ، وَلَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَهَبَ لَهُمْ حَظًّا يَنَالُونَهُ؛ فَذَلِكَ كَالرُّخْصَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ تَوَجُّهٌ إِلَى غَيْرِ الْمَعْبُودِ، وَاعْتِنَاءٌ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَتْهُ الْعُبُودِيَّةُ. فَالْعَزِيمَةُ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُوَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، كَانَتِ الْأَوَامِرُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَالنَّوَاهِي كَرَاهَةً أو تحريا، وترك7 كل   1 في "ط": "بمعنى". 2 سيأتي تخريجه في "ص480". 3 انظر: "ص506-507". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "حمله". 5 عن القيود والاعتبارات التي لوحظت في الإطلاقات الثلاثة السابقة؛ فهو أوسع الإطلاقات الأربعة، ولكنه على ما ترى منظور فيه إلى الخاصة من أرباب الأحوال. "د". 6 في "ط": "ملك لله". 7 هو محل الفرق بين هذا الإطلاق وغيره. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 مَا يَشْغَلُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ الْآمِرِ مَقْصُودٌ أَنْ يَمْتَثِلَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْإِذْنَ فِي نَيْلِ الْحَظِّ الْمَلْحُوظِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ رُخْصَةٌ؛ فَيَدْخُلُ فِي الرُّخْصَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَا كَانَ تَخْفِيفًا وَتَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ فَالْعَزَائِمُ حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالرُّخَصُ حَظُّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ؛ فَتَشْتَرِكُ الْمُبَاحَاتُ مَعَ الرُّخَصِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، مِنْ حَيْثُ كَانَا مَعًا تَوْسِعَةً1 عَلَى الْعَبْدِ، وَرَفْعَ حَرَجٍ عَنْهُ، وَإِثْبَاتًا لِحَظِّهِ، وَتَصِيرُ الْمُبَاحَاتُ -عِنْدَ هَذَا النَّظَرِ- تَتَعَارَضُ مَعَ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْأَوْقَاتِ؛ فَيُؤْثِرُ حَظَّهُ2 فِي الْأُخْرَى عَلَى حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ يُؤْثِرُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ؛ فَيَكُونُ رَافِعًا لِلْمُبَاحِ مِنْ عَمَلِهِ رَأْسًا، أَوْ آخِذًا لَهُ حَقًّا لِرَبِّهِ؛ فَيَصِيرُ حَظُّهُ مُنْدَرِجًا تَابِعًا لِحَقِّ اللَّهِ، وحق الله هو المقدم المقصود؛ فَإِنَّ [عَلَى] 3 الْعَبْدِ بَذْلَ الْمَجْهُودِ، وَالرَّبُّ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَعْتَبِرُهُ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، وَيَعْتَبِرُهُ أَيْضًا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ رَقَى عَنِ الْأَحْوَالِ، وَعَلَيْهِ يُرَبُّونَ التَّلَامِيذَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمُ الْأَخْذَ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ وَاجْتِنَابَ الرُّخَصِ جُمْلَةً، حَتَّى آلَ الْحَالُ بِهِمْ أَنْ عدوا أصل   1 شامل للرخصة بالمعنى المعروف، وبالمعنى الذي أريد هنا، وقوله: "ورفع حرج عنه" خاص بمحل الرخص المعروف، وقوله: "وإثباتا لحظه" هذا ما زاده هنا على ما سبق، وهو تلك المباحات التي تشغل عن مقام العبودية. "د". 2 أي: فتارة يقدم المندوب على المباح؛ فيؤثر حظه في الآخرة على حظه في الدنيا، وفي هذه الحالة يصح أن يقال أيضا: إنه آثر حق ربه المطلوب بفعل هذا المندوب على حظ نفسه وهو المباح، وتارة يقدم المباح على المندوب، لكن بقصد أن من حق الله عليه ألا يعرض عن رخصته وتفضله عليه بالتوسعة بهذا المباح، وحينئذ يكون آخذا للمباح لا من جهة حظ نفسه بل من جهة أنه حق لربه وإن كان في ضمنه حصل حظ نفسه بالمباح؛ إلا أنه تابع؛ فعلى التقدير الأول يكون رفع المباح وباعده عن عمله رأسا، وعلى الثاني يكون فعل المباح لكن على أنه حق لربه لا لحظ نفسه. "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الْحَاجِيَّاتِ كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا مِنَ الرُّخَصِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى حَظِّ الْعَبْدِ مِنْهَا1، حَسْبَمَا بَانَ لَكَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ الْأَخِيرِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ تَقْرِيرٌ فِي هَذَا النَّوْعِ, إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ: وَلَمَّا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ الْأَرْبَعَةُ؛ ظَهَرَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَمَا هُوَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، فَأَمَّا الْعَامُّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ؛ فَذَلِكَ الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ الثَّانِي؛ فَلَا كَلَامَ عليه هنا؛ إذا لَا تَفْرِيعَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ إِطْلَاقٌ شَرْعِيٌّ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ، فَلَمَّا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ؛ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ، إِلَّا أَنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى الْأَوَّلِ يَتَبَيَّنُ بِهِ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْرِيعٍ خَاصٍّ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكْمُ الرُّخْصَةِ الْإِبَاحَةُ مُطْلَقًا1 مِنْ حَيْثُ هِيَ رُخْصَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَوَارِدُ النُّصُوصِ عَلَيْهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 173] . وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 3] . وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} الآية   1 وأما ما يرجع إلى حق الله منها؛ فليس من الرخص كما أشرنا إليه. "د". 2 أي: من غير تفصيل حتى فيما يتوهم فيه الوجوب أو الندب. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 [النِّسَاءِ: 101] . وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النَّحْلِ: 106] الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا1. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ مُجَرَّدًا لِقَوْلِهِ: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 173] ، وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، وَلَمْ يَرِدْ فِي جَمِيعِهَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِقْدَامَ عَلَى الرُّخْصَةِ، بَلْ إِنَّمَا أَتَى بِمَا يَنْفِي الْمُتَوَقَّعَ فِي تَرْكِ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ الْإِثْمُ وَالْمُؤَاخَذَةُ، عَلَى حَدِّ مَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ بِحَقِّ الأصل؛ كقوله تعالى: {لَا جُنَا حَ 2 عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [الْبَقَرَةِ: 236] . {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ تَغُوا 3 فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 198] . {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 235] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِمُجَرَّدِ رفع الجناح، وبجواز الإقدام خاصة.   1 المشتمل على عقوبة من كفر وهو الغضب والعذاب العظيم، وقد استثنى منه من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يعني: فلا غضب ولا عذاب، أي: فلا إثم عليه؛ فالترخيص للمؤمن بالقول في هذه الحالة إنما رفع عنه فيه الحرج والإثم، وهو معنى الإباحة على أحد المعنيين السابقين في الكلام على المباح. "د". 2 أي: لا تبعة مهر؛ فلا تطالبون به إلا بالمس ولو بدون فرض للمهر، أو بفرض له ولو مع عدم المس, وهذا المعنى هو الظاهر، وقيل: لا وزر، فكأنه لما كثر ذم الطلاق؛ فهموا أنه لا يجوز، فقال: لا جناح، ولكن هذا المعنى كما ترى إذا نظر فيه إلى بقية الكلام، وكلام المؤلف مبني على المعنى الثاني. "د". 3 لما تحرجوا عن التجارة في موسم الحج؛ لأنها تستدعي جدالا وقد نهوا عن الجدال، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت الآية. "د". "استدراك3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ1} [الْبَقَرَةِ: 185] . وَفِي الْحَدِيثِ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمِنَّا الْمُقْصِرُ2, وَمِنَّا الْمُتِمُّ، وَلَا يَعِيبُ3، بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ" 4. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذلك كثيرة.   1 أي: إن فطر فعليه عدة، لكنه لم يأتِ فيه بما يقتضي جواز الإقدام عليه، وظاهر أن الاستدلال بهذا المقدار من الآية ضعيف، لكن ما بعدها وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} معناه: أنه لا يريد حرجكم؛ فهو يرفع عنكم إثم الإفطار في المرض والسفر، وبهذا يظهر ما يستدل عليه المؤلف، أما مجرد عدم ذكر حكم الإفطار من وجوب أو حرمة؛ فلا يفيد المطلوب، وتأمل. "د". 2 من أقصر على لغة فيه. "د". 3 وذلك يدل على الإباحة. "د". 4 أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 189"، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "3/ 141"، وابن الجوزي في "التحقيق" "2/ 1161- مع التنقيح" عن عائشة بلفظ: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم" بإسناد فيه سعيد بن محمد بن ثواب، وهو مجهول الحال، وقد استنكر هذا الحديث الإمام أحمد؛ كما قاله ابنه عبد الله في "العلل" "3/ 29". والذي صح من فعلها -رضي الله عنها- في "الصحيحين" وغيرهما، ولذا قال البيهقي: "والصحيح عن عائشة أنها كانت تتم موقوفا". قلت: ويتأيد ذلك أن عروة لما ذكر إتمامها؛ قال: "تأولت ما تأول عثمان"، فلو كان عندها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رواية؛ لم يقل عروة: إنها تأولت. واللفظ المذكور عند المصنف أخرجه أبو بكر الأثرم من حديث أنس؛ غير أنه لا يصح، تفرد به زيد العمي وليس بشيء، وإنما الحديث المعروف: "فمنا الصائم ومنا المفطر"، كذا في "تنقيح التحقيق" "2/ 1164". وانظر تفصيل ذلك في: "نصب الراية" "2/ 192"، و"الإرواء" "رقم 563". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وَالثَّانِي: أَنَّ الرُّخْصَةَ أَصْلُهَا التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُكَلَّفِ وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ؛ حَتَّى يَكُونَ مِنْ ثِقَلِ التَّكْلِيفِ فِي سَعَةٍ وَاخْتِيَارٍ، بَيْنَ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَالْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، وَهَذَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الْبَقَرَةِ: 29] . {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 1 [الْأَعْرَافِ: 32] . {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النَّازِعَاتِ: 33] . بَعْدَ تَقْرِيرِ نِعَمٍ كثيرة. وأصل الرخصة2 السهولة، ومادة "ر خ ص" لِلسُّهُولَةِ وَاللِّينِ؛ كَقَوْلِهِمْ: شَيْءٌ رَخْصٌ3: بَيِّنُ الرُّخُوصَةِ، وَمِنْهُ الرُّخْصُ ضِدُّ الْغَلَاءِ، وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ فَتَرَخَّصَ هُوَ فِيهِ: إِذَا لَمْ يَسْتَقْصِ لَهُ فِيهِ، فَمَالَ هُوَ إِلَى ذَلِكَ، وَهَكَذَا سَائِرُ اسْتِعْمَالِ الْمَادَّةِ4. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ5 الرُّخَصُ مَأْمُورًا بِهَا نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا؛ كانت عَزَائِمَ لَا رُخَصًا، وَالْحَالُ بِضِدِّ ذَلِكَ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْحَتْمُ وَاللَّازِمُ الَّذِي لَا خِيرَةَ فِيهِ،   1 في الأصل زيادة "و". 2 أي: وقد ورد إطلاق الشارع هذه المادة بهذا المعنى؛ كما في الحديث: "إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وكثيرا ما يرجعون في بيان المعاني الشرعية إلى معرفة المعاني اللغوية، لكن ما هنا حكم شرعي، وكون الأحكام الشرعية من إباحة أو غيرها يرجع فيها إلى مناسبات ومعانٍ لغوية هو كما ترى يشبه أن يكون استئناسا لا دليلا في مسألة أصولية، والمؤلف وإن كان من عادته أن يجمع على مدعاه ما يتيسر له من أدلته قوية وغيرها؛ إلا أنه في العادة يجعل هذه بعد تلك ويظهر على أسلوبه أن غرضه منها الاستئناس، لا أنها من صلب الأدلة كظاهر صنيعه هنا. "د". 3 في "ط": "يرخص". 4 انظر: "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس. 5 في "م": "كان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وَالْمَنْدُوبُ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَنْدُوبَاتِ: إِنَّهَا شُرِعَتْ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ رُخْصَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعْتَرَضٌ؛ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْمَسْأَلَةِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ الْجُنَاحِ وَالْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ لِلشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُبَاحًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا أَوَّلًا؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: 158] ، وَهُمَا مِمَّا يَجِبُ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا، وقال تعالى: {وَمَنْ تَأَ خَّرَ 1 فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [الْبَقَرَةِ: 203] ، وَالتَّأَخُّرُ مَطْلُوبٌ طَلَبَ النَّدْبِ، وَصَاحِبُهُ أَفْضَلُ عَمَلًا مِنَ الْمُتَعَجِّلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ حَيْثُ تَوَهَّمُوا الْجُنَاحَ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ2؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب،   1 قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ؛ فإنه كما جاء في "روح المعاني" رد على الجاهلية حيث كان بعضهم يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله، 3/ 497-498/ رقم 1643" بسنده إلى عروة؛ قال: "سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت "لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما"، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كان يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذلك؛ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وَهِيَ تَوَهُّمُ الْجُنَاحِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 1 [الْبَقَرَةِ: 198] . وَقَوْلِهِ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا 2 مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النُّورِ: 61] إِلَى آخِرِهَا3. وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النُّورِ: 61] . "اسْتِدْرَاكٌ4". {وَلا جُنَاحَ 4 عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 235] . جَمِيعُ هَذَا وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مُتَوَهَّمٌ فِيهِ الْجُنَاحُ وَالْحَرَجُ، وَإِذَا اسْتَوَى الْمَوْضُوعَانِ5؛ لَمْ يَكُنْ فِي النَّصِّ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ وَالْجُنَاحِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ ودليل خارجي.   1 انظر ما قدمناه: "ص475- الاستدراك". 2 كان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعام فيقول: إني لأجنح أن آكل منه "والجنح: الحرج"، ويقول: المسكين أحق به مني؛ فنزلت الآية. ا. هـ. تيسير "د". 3 في "م": "آخره". وانظر: "أسباب النزول" "ص223-224" للواحدي. 4 لم أرَ في كتب التفسير والحديث وأسباب النزول ذكرًا لسبب نزول هذه الآية أو ما يفيد أنهم توهموا الحرج؛ فلذا قال: "هذا وما كان مثله متوهم فيه الحرج"، وهو يشمل ما حصل فيه التوهم بالفعل، ونزلت الآيات لنفي ذلك التوهم، وما كان شأنه ذلك وإن لم يحصل فيه توهم بالفعل حتى كان سببا للنزول، فيكون ذكر هذه الآية وجيها، لكنه لا يناسب قوله في الدخول على هذه الآيات: "مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب وهي توهم الجناح؛ كقوله تعالى ... إلخ"؛ فعله يريد التوهم ولو شأنا وإن لم يكن سببا للنزول. "د". 5 في الأصل و"ط": "الموضعان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى رُخَصٍ مَأْمُورٍ بِهَا؛ فَالْمُضْطَرُّ إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْغَاذِيَةِ1 وَنَصُّوا عَلَى طَلَبِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَقِيلَ فِي قَصْرِ الْمُسَافِرِ: إِنَّهُ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ 2 " 3، وَقَالَ رَبُّنَا تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] إِلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ حُكْمَ الرُّخَصِ الْإِبَاحَةُ دُونَ التَّفْصِيلِ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: إِنَّهُ لَا يُشَكُّ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ يَقْتَضِي الْإِذْنَ فِي التَّنَاوُلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِذَا خُلِّينَا وَاللَّفْظَ كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْإِذْنِ فِي الْفِعْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنْ كَانَ لِرَفْعِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ سَبَبٌ خَاصٌّ؛ فَلَنَا أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ لَا عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ شَرْعًا أَنَّ فِيهِ إِثْمًا، بِنَاءً عَلَى اسْتِقْرَارِ عَادَةٍ تَقَدَّمَتْ، أَوْ رَأْيٍ عَرَضَ، كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمُ الْإِثْمَ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ بِالثِّيَابِ، وَفِي بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ، حَتَّى نَزَلَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الْأَعْرَافِ: 32] ، وَكَذَلِكَ فِي الأكل من بيوت الآباء   1 في "ماء": "العادية". 2 أي: والمباح الصرف لا تتعلق به محبة الله تعالى، وأيضا إرادته تعالى لنا اليسر ومحبته لذلك تقتضي أن الرخص محبوبة له تعالى، وأقل ذلك أن تكون مطلوبة طلب المندوب. "د". 3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضا من حديث ابن عمر, ابن حبان في "صحيحه" "914- موارد"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 73"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 140"، وابن منده في "التوحيد" "3/ 223-224/ رقم 716، 717"، وله شواهد من حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع، انظرها في "الإرواء" "رقم 564". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وَالْأُمَّهَاتِ وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ، وَفِي التَّعْرِيضِ بِالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: 158] ، يُعْطِي مَعْنَى الْإِذْنِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ وَاجِبًا1؛ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 158] ، أَوْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ فَيَكُونُ التَّنْبِيهُ هُنَا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِذْنِ الَّذِي يَلْزَمُ الْوَاجِبَ مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ الْإِقْدَامِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ جَوَازِ التَّرْكِ أَوْ عَدَمِهِ. وَلَنَا أَنْ نَحْمِلَهُ2 عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ، وَيَكُونُ قوله في مثل الآية3: {مِنْ شَعَائِرِ} [البقرة: 158] قَرِينَةً صَارِفَةً لِلَّفْظِ عَنْ مُقْتَضَاهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، أَمَّا مَا لَهُ سَبَبٌ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ؛ فَيَسْتَوِي مَعَ مَا لَا سَبَبَ لَهُ فِي مَعْنَى الْإِذْنِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى4، وَسَائِرِ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ   1 ويكون مثاله أن يجاب سائل فاتته صلاة العصر مثلا وظن أنه لا يجوز قضاؤها عند الغروب؛ فيقال له: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت، فالغرض إجابته بمقدار ما يدفع شبهته، لا بيان أصل وجوب العصر عليه. "د". 2 أي: فيكون المراد منه الطلب والوجوب، ولوحظ في هذا التعبير السبب وهو كراهة المسلمين الطواف؛ لمكان إساف ونائلة "الصنمين اللذين كانا يتمسح بهما أهل الجاهلية فوق الصفا والمروة" فنزلت الآية بطلب السعي، ولوحظ في التعبير تحرج المسلمين وكراهتهم، ويكون قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} صارفا للفظ {لَا جُنَاحَ} عن أصل وضعه من رفع الإثم فقط. "د". 3 في النسخ المطبوعة: "ويكون مثل قوله في الآية", وما أثبتناه من الأصل و"ط". 4 إلا أنه لا يوجد فيها قرينة لفظية لصرف اللفظ عن ظاهره إذا اعتبرنا السبب وجعلناها للطلب، نعم فيها قرينة حالية وهي نفس السبب، وهو أن بعضهم كان يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 مُتَنَافِيَيْنِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ الْوُجُوبُ أَوِ الندب إلى عزيمة أصلية1، لا إلى الرخصة بِعَيْنِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُضْطَرَّ الَّذِي لَا يَجِدُ مِنَ الْحَلَالِ مَا يَرُدُّ بِهِ نَفْسَهُ أُرْخِصَ لَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ؛ قَصْدًا لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ وَرَدًّا2 لِنَفْسِهِ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ فَإِنْ خَافَ التَّلَفَ وَأَمْكَنَهُ تَلَافِي نَفْسِهِ بِأَكْلِهَا؛ كَانَ مَأْمُورًا بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ غَيْرِهِ مِنْ مِثْلِهَا إِذَا أَمْكَنَهُ تَلَافِيهِ، بَلْ هُوَ مِثْلُ مَنْ صَادَفَ شَفَا جُرُفٍ يَخَافُ الْوُقُوعَ فِيهِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ3 الزَّوَالَ عَنْهُ مَطْلُوبٌ، وَأَنَّ إِيقَاعَ نَفْسِهِ فِيهِ مَمْنُوعٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى رُخْصَةً؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ ابْتِدَائِيٍّ، فَكَذَلِكَ مَنْ خَافَ التَّلَفَ إِنْ تَرَكَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ هُوَ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ؛ فَلَا يُسَمَّى رُخْصَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ سُمِّيَ رُخْصَةً مِنْ جِهَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ نَفْسِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ إِحْيَاءَ النَّفْسِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَطْلُوبٌ طَلَبَ الْعَزِيمَةِ، وَهَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّخْصَةَ مَأْذُونٌ فِيهَا لِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهَا؛ فَلَمْ تَتَّحِدِ الْجِهَتَانِ، وَإِذَا تعددت الجهات؛ زال التدافع، وذهب التنافي،   1 قال الآمدي: أكل الميتة حال الاضطرار وإن كان عزيمة من حيث هو واجب استبقاء للمهجة فرخصة من جهة ما في الميتة من الخبث المحرم، وواضح من كلامه أنه رخصة من جهة وعزيمة من جهة أخرى، ولكن كلاهما حالة الاضطرار, وكلام المؤلف يخالفه؛ إذ جعله رخصة في غير الاضطرار، وهو وقت الحرج والمشقة الزائدة بألم الجوع الذي لا يصل إلى التلف، وعزيمة إذا وصلت المسألة لتلف النفس لرجوعها لأصل كلي وهو وجوب المحافظة على النفس، هذا ما يقتضيه بيانه الأول، لكنه قال آخرا: "وَإِنْ سُمِّيَ رُخْصَةً مِنْ جِهَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ عن نفسه" فكأنه في حالة خوف التلف يصح أن يكون عزيمة ورخصة من جهتين، وحينئذ يرجع إلى كلام الآمدي، ويوضحه الحاصل بعده؛ إلا أنه لا يبقى لقوله أولا: "وذلك أن المضطر إلى قوله: فإن خاف" فائدة في هذا المقام. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ردا" من غير واو. 3 مكررة في "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ1. وَأَمَّا جَمْعُ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَنَحْوُهُ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِالطَّلَبِ رُخْصَةٌ، بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ مُتَعَبَّدٌ بِهَا عِنْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ -رِضَى اللَّهِ عَنْهَا- فِي الْقَصْرِ: "فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ"2 الْحَدِيثَ، وَتَعْلِيلُ الْقَصْرِ بِالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ يُسَمَّى رُخْصَةً3 عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ الْعَامِّ، وَإِلَّا؛ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا رُخْصَةً لِخِفَّتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ يَكُونَ شَرْعُ الصَّلَاةِ خَمْسًا رُخْصَةً؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي السَّمَاءِ خَمْسِينَ, وَيَكُونُ الْقَرْضُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالْقِرَاضُ، وَضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ رُخْصَةً، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَكُلُّ مَا خَرَجَ4 عَنْ مُجَرَّدِ الْإِبَاحَةِ فَلَيْسَ بِرُخْصَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ" 5؛ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إن شاء الله تعالى.   1 تردد ابن دقيق العيد كإمام الحرمين في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة؟ والحق ما أشار إليه المصنف، من أن وصف العمل بالوجوب والرخصة معا لا يصح إلا مع اختلاف الجهة؛ فإساغة الغصة بالخمر كتناول الميتة للمضطر هو من حيث الدليل المانع رخصة، ومن حيث الوجوب عزيمة. "خ". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب تقصير الصلاة إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090", ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 478/ رقم 685" من حديث عائشة, رضي الله عنها. 3 أي: بل لا بد فيه من قيد "مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع" كما سبق له، وإذا كان الذي فرض أولًا هو الركعتين فقط؛ فيكون هو الأصل فلا رخصة. "د". 4 أي: وهذا هو مدعاه في رأس المسألة؛ فثبت. "د". 5 مضى تخريجه في "ص480". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وَأَيْضًا؛ فَالْمُبَاحَاتُ مِنْهَا مَا هُوَ مَحْبُوبٌ1، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُبْغَضٌ؛ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ؛ فَلَا تَنَافِيَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] 2} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَمَا كَانَ نَحْوَهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الرُّخَصِ الْمُبَاحَةِ تَيْسِيرُ وَرَفْعُ حَرَجٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الرُّخْصَةَ إِضَافِيَّةٌ لَا أَصْلِيَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ فِي الْأَخْذِ بِهَا فَقِيهُ نَفْسِهِ، مَا لَمْ يُحَدَّ فِيهَا حَدٌّ شَرْعِيٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ الْمَشَقَّةُ3، وَالْمَشَاقُّ تختلف بالقوة والضعف و4 بحسب الْأَحْوَالِ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْعَزَائِمِ وَضَعْفِهَا، وَبِحَسَبَ الْأَزْمَانِ، وَبِحَسَبِ الْأَعْمَالِ؛ فَلَيْسَ سَفَرُ الْإِنْسَانِ رَاكِبًا مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي رِفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، وَأَرْضٍ مَأْمُونَةٍ، وَعَلَى بُطْءٍ، وَفِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَقِصَرِ الْأَيَّامِ؛ كَالسَّفَرِ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ5 عَلَى شَدَائِدِ السَّفَرِ وَمَشَقَّاتِهِ يختلف؛ فرُبَّ   1 فلا يلزم من كونه محبوبا ألا يكون مباحا، وأن يكون مطلوبا كما هو مبنى الاعتراض. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". 3 أسباب التخفيف في الشريعة حسبما دل عليه الاستقراء سبعة، وهي: المرض، والسفر، والنسيان، والإكراه، والجهل، والحرج، وعموم البلوى، والضعف المعنوي؛ كالأنوثة، والرقية، وجميعها تدور حول المشقة. "خ". 4 لو حذفت الواو وجعل ما بعدها من الحيثيات أسبابا للقوة والضعف في المشقة؛ لكان أوجه. "د". 5 ما قبله بيان لاختلاف المشقة قوة وضعفا باختلاف الأزمان والأحوال الخارجة عن صفات الشخص، وهذا بيان لاختلاف العزائم، ويصح أن يكون راجعا لاختلاف الأحوال بقطع النظر عن قوة الإرادة وضعفها، ويكون مرجعه التعود وعدمه ولا دخل لقوة العزيمة فيه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 رَجُلٍ جَلْدٍ ضَرِيَ عَلَى قَطْعِ الْمَهَامِهِ1 حَتَّى صَارَ لَهُ ذَلِكَ عَادَةً لَا يَحْرَجُ بِهَا وَلَا يَتَأَلَّمُ بِسَبَبِهَا، يَقْوَى عَلَى عِبَادَاتِهِ، وَعَلَى أَدَائِهَا عَلَى كَمَالِهَا وَفِي أَوْقَاتِهَا، وَرَبُّ رَجُلٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَيَخْتَلِفُ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ الْجُبْنِ وَالشَّجَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَى ضَبْطِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ لِلْمَشَقَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّخْفِيفَاتِ ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ، وَلَا حَدٌّ مَحْدُودٌ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ الشَّرْعُ فِي جُمْلَةٍ مِنْهَا السَّبَبَ مَقَامَ الْعِلَّةِ؛ فَاعْتَبَرَ السَّفَرَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَظَانِّ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ، وَتَرَكَ كُلَّ مُكَلَّفٍ عَلَى مَا يَجِدُ، أَيْ: إِنْ كَانَ قَصْرٌ أَوْ فِطْرٌ؛ فَفِي السَّفَرِ، وَتَرَكَ كَثِيرًا مِنْهَا مَوْكُولًا إِلَى الِاجْتِهَادِ كَالْمَرَضِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقْوَى فِي مَرَضِهِ عَلَى مَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ الْآخَرُ؛ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ مَشْرُوعَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَهَذَا لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَإِذًا؛ لَيْسَتْ أَسْبَابُ الرُّخَصِ بِدَاخِلَةٍ تَحْتَ قَانُونٍ أَصْلِيٍّ، وَلَا ضَابِطٍ مَأْخُوذٍ بِالْيَدِ، بَلْ هُوَ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ فِي نَفْسِهِ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُضْطَرِّينَ مُعْتَادًا لِلصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ، وَلَا تَخْتَلُّ حَالُهُ بِسَبَبِهِ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ، وَكَمَا ذُكِرَ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ؛ فَلَيْسَتْ إِبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لَهُ عَلَى وِزَانِ مَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ2، هَذَا وَجْهٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ الْمُكَلَّفِ حَامِلٌ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى يَخِفَّ عَلَيْهِ مَا يَثْقُلُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ أخبار المحبين الذين صابروا   1 ضري: تعود. والمهامه: جمع مهمه: المفازة البعيدة. انظر: "لسان العرب" "ض ر ا"، "م هـ م". 2 أي: فمن تختل حاله يجب عليه الترخص، ومن لا تختل وتلحقه المشقة فقط يكون مخيرا، هذا مراده؛ فلذا لم يقل: "فلا يترخص في أكلها" بعد وصفه بالمضطر. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الشَّدَائِدَ، وَحَمَلُوا أَعْبَاءَ الْمَشَقَّاتِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ إِتْلَافِ مُهَجِهِمْ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، وَطَالَتْ عَلَيْهِمُ الْآمَادُ وَهُمْ عَلَى أَوَّلِ أَعْمَالِهِمْ، حِرْصًا عَلَيْهَا وَاغْتِنَامًا لَهَا، طَمَعًا فِي رِضَى الْمَحْبُوبِينَ، وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ تِلْكَ الشَّدَائِدَ وَالْمَشَاقَّ سَهْلَةٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ لَذَّةٌ لَهُمْ وَنَعِيمٌ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَأَلَمٌ أَلِيمٌ؛ فَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَشَاقِّ تَخْتَلِفُ بِالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، وَذَلِكَ يَقْضِي بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَيْهَا يَخْتَلِفُ بِالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ. وَالثَّالِثُ: مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنَ الشَّرْعِ؛ كَالَّذِي جَاءَ فِي وِصَالِ الصِّيَامِ، وَقَطْعِ الْأَزْمَانِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِالرِّفْقِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ، ثُمَّ فَعَلَهُ1 مِنْ بَعْدُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِلْمًا بِأَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ مَفْقُودٌ فِي حَقِّهِمْ؛ وَلِذَلِكَ أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مَعَ وِصَالِهِمُ الصِّيَامَ لَا يَصُدُّهُمْ ذَلِكَ عَنْ حوائجهم، ولا يقطهم عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِهِمْ؛ فَلَا حَرَجَ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي حَقِّ مَنْ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ضَرُورَاتِهِ وَحَاجَاتِهِ2، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ إِضَافِيًّا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ كَذَلِكَ، لَكِنْ هَذَا الْوَجْهُ اسْتِدْلَالٌ بِجِنْسِ الْمَشَقَّةِ3 عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَهُوَ غير منتهض إلا أن يجعل   1 سيأتي "ص526". 2 ما قرره المصنف من التفصيل في حكم الوصال منقول عن عبد الله بن الزبير وجماعة من التابعين، وقال جمهور أهل العلم بمنعه على وجه التحريم لحديث ابن عمر؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، وحديث أبي هريرة: "إياكم والوصال"، وقوله, عليه الصلاة والسلام: "إني لست كهيئتكم أو لست مثلكم" صريح في أن الوصال من خصائصه. "خ". 3 لأن المشقة هنا نوع آخر غير السابق؛ فالمشقة فيما تقدم تقتضي الترخص، وهنا المشقة تمنع مفارقة الحكم الأصلي وهو النهي عن الوصال، وعدم المشقة يجعلهم يترخصون بفعل المنهي عنه، وهو أيضا ليس حكما سهلا انتقل إليه من حكم صعب، فليست من مواضع الرخصة؛ إلا أنه على كل حال وُجد فيه نوع من المشقة ينبني عليه حكم في اجتهادهم، فالاستدلال به على أن المشقة في النوع الأول تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص يكون استدلالا بجنس المشقة لا بنفس نوع المشقة؛ فيكون من الاستدلال بالمطلق على المقيد من حيث هو مقيد، أو بالعام على الخاص من حيث هو خاص، وذلك لا يصح كما يأتي، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ؛ فيفيد مجرد أن المشقة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وإن كان لا يفيد أن ذلك في موضوع الرخصة المعروفة؛ فتنبه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ؛ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَجْمُوعِ صَحِيحٌ, حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي فَصْلِ الْعُمُومِ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ1: الْحَرَجُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْمُكَلَّفِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ بِسَبَبِهِ عَلَى التَّفَرُّغِ لِعَادَةٍ وَلَا لِعِبَادَةٍ، أَوْ لَا يُمْكِنُ2 لَهُ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرَ بِهِ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ، بَلْ يَكُونُ مَغْلُوبَ صَبْرِهِ وَمَهْزُومَ عَزْمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ محل الرخصة، إلا أن يُطْلَبُ فِيهِ الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ وُجُوبًا3 أَوْ نَدْبًا عَلَى حَسَبِ تَمَامِ الْقَاطِعِ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ عَدَمِ تَمَامِهِ، وَإِذَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا4؛ فَلَا تَكُونُ رُخْصَةً كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ عَزِيمَةً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَلَا حَرَجَ5 فِي الْعَمَلِ وَلَا مَشَقَّةَ، إِلَّا [مَا] 6 فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ حَرَجًا يَنْتَهِضُ عِلَّةً لِلرُّخْصَةِ، وَإِذَا انْتَفَى مَحَلُّ الرُّخْصَةِ فِي الْقِسْمَيْنِ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ ارْتَفَعَتِ الرُّخْصَةُ مِنْ أَصْلِهَا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى وجودها معلوم، هذا خلف؛   1 هذا السؤال وإن كان واردا على أصل وجود الرخصة، وكان يناسبه أول الباب، لكن لمناسبة الكلام في المشقة؛ صح أن يذكر هنا. "د". 2 في "ط": "يكمل". 3 أي: فيما يعجز فيه عن أصل العبادة والعادة، وقوله: "أو ندبا"؛ أي: إذا كان لا يعجز ولكنه لا يكون كاملا على حسب ما أمر به. "د". 4 في الأصل: "به". 5 فرض فيه أنه مغلوب صبره ومهزوم عزمه؛ فكيف مع هذا يقال: لا مَشَقَّةَ إِلَّا مَا فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ؟ وَذَلِكَ ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة؛ فوضع السؤال هكذا غير وجيه؛ فتأمل. "د". 6 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 فَمَا انْبَنَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مُنْقَلِبٌ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرُّخَصُ كُلُّهَا مَأْمُورًا بِهَا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، إِذْ مَا مِنْ رُخْصَةٍ تُفْرَضُ إِلَّا وَهَذَا الْبَحْثُ جارٍ فيها, فإذا كان مشترك الإلزام؛ لم ينتهض دَلِيلًا1، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِلْزَامَاتِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ إِنْ سَلَّمَ؛ فَلَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ انْحِصَارَ الرُّخَصِ فِي الْقِسْمَيْنِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ لِإِمْكَانِ قِسْمٍ ثَالِثٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْحَرَجُ مُؤَثِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَلَا يَكُونَ الْمُكَلَّفُ رَخِيَّ الْبَالِ عِنْدَهُ2، وَكُلُّ أَحَدٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ حَرَجًا فِي الصَّوْمِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ عَنْ سَفَرِهِ، وَلَا يُخِلُّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، وَلَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَعْرِضُ مِنَ الرُّخَصِ، جارٍ فِيهِ هَذَا التَّقْسِيمُ، وَالثَّالِثُ هُوَ مَحَلُّ الْإِبَاحَةِ؛ إِذْ لَا جَاذَبَ [لَهُ] 3 يَجْذِبُهُ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَالْآخَرُ: أَنَّ طَلَبَ الشَّرْعِ لِلتَّخْفِيفِ حَيْثُ طَلَبُهُ4 لَيْسَ مِنْ جهة كونه   1 لأنه يقال للسائل: الاعتراض مشترك، فما هو جوابكم هو جوابنا، يعني ومثله لا يذكر في طريق الإلزام. "د". 2 هو الذي قال فيه: "مغلوب صبره، مهزوم عزمه". "د". قلت: وفي الأصل: "البال عنه". 3 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"خ" و"ط"، وليست في "د". 4 راجع لقوله: "وَإِذَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا؛ فَلَا تَكُونُ رُخْصَةً"؛ فالجواب الأول: يراعى أن هناك محلا للرخصة التي الكلام فيها وهي المباحة؛ لوجود قسم ثالث لم يذكره في السؤال، على ما فيه مما أشرنا إليه، والجواب الثاني: ترق على هذا يقول: الرخصة موجودة حتى في المأمور به، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 رُخْصَةً، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْعَزِيمَةِ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا، أَوْ كَوْنِهَا تُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا؛ فَالطَّلَبُ مِنْ حَيْثُ النَّهْيُ عَنِ الْإِخْلَالِ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ بِنَفْسِ الرُّخْصَةِ، وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَمَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ1، وَنَحْوَ ذَلِكَ2؛ فَالرُّخْصَةُ3 بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ مِنْ حَيْثُ هِي رُخْصَةٌ، فَلَيْسَتْ بِمُرْتَفِعَةٍ مِنَ الشَّرْعِ بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ جِهَتَيِ الطَّلَبِ وَالْإِبَاحَةِ، والله أعلم.   = ولكن الطلب من جهة غير جهة كونه رخصة؛ فجهة العزيمة ظاهرة من نفس الطلب وجهة الرخصة أنه حكم سهل انتقل إليه من حكم صعب مع بقاء دليل الصعب معمولا به في الجملة، وإنما قلنا في الجملة؛ لأنه ليس معمولا به في حق الشخص الذي طولب بالرخصة، ولا يخفى عليك أنهم اشترطوا بقاء العمل به في حق الشخص نفسه، وإلا لخرج عن كونه رخصة إلى كونه عزيمة، قال الأبهري: "إن المكلف إذا لم يبق مكلفا عند طرو العذر لم تثبت رخصة في حقه؛ لأن الرخصة إنما تكون في الأحكام التكليفية، والتكليف شرط لها فلا يكون عدم تحريم إجراء كلمة الكفر على لسان المكره رخصة؛ لأن الإكراه يمنع التكليف، ومثله يقال في الإكراه على إفطار رمضان، وإتلاف مال الغير عدم تحريمه ليس رخصة، يعني لأن الدليل القائم على التحريم ليس باقيا بالنسبة لهذا الشخص، فلا رخصة إلا حيث يبقى دليل الصعب معمولا به بالنسبة للشخص نفسه، وبهذا تعلم ما في هذا الجواب الثاني، هذا ولا يذهب عنك أنه عرف الرخصة بما ينطبق على هذا فقال: "ما شرع من الأحكام لعذر شاق استثناء عن حكم كلي"؛ فلا يرد عليه ما تقدم. "د". 1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، 1/ 393/ رقم 560"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن، 1/ 22/ رقم 89"، وأحمد في "المسند" "6/ 43، 54، 73" من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان ". 2 كالصلاة في الأرض المغصوبة، يعني: فهناك جهتان تسلط على إحداهما الطلب والعزيمة، وعلى الأخرى الرخصة، كما توجه النهي والطلب في الصلاة في هذه المسائل على جهتين مختلفتين، ولامانع من ذلك ما دامت الجهة لم تتحد؛ فالغرض تقريب الجواب بذكر شبيه بالمقام. "د". 3 هذا التفريع ظاهر على الجواب الأول، أما الثاني؛ فلم يبين فيه إلا أن الترخيص له جهة غير جهة الطلب، أما كونه مباحا في هذه الحالة؛ فإنه لم يبينه هنا اعتمادا على ما سبق، ولذا قال: "وقد مر بيان ... إلخ". "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْإِبَاحَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّخْصَةِ؛ هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ، أَمْ مِنْ قَبِيلِ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؟ فَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نُصُوصِ الرُّخَصِ أنه بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ، لَا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 173] ، وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 3] ؛ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ التَّنَاوُلَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ يَرْفَعُ الْإِثْمَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [الْبَقَرَةِ: 184] ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلَهُ الْفِطْرُ، وَلَا فَلْيُفْطِرْ1، وَلَا يَجُوزُ لَهُ2، بَلْ ذَكَرَ نَفْسَ الْعُذْرِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَفْطَرَ؛ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النِّسَاءِ: 101] عَلَى الْقَوْلِ3 بِأَنَّ الْمُرَادَ الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلَكُمْ أَنْ   1 هذا ليس ظاهرا؛ لأن الكلام في أنه لم يذكر لفظا يدل على التخيير بين الفعل والترك؛ فلا يتوهم أن يؤتى هنا بلفظ الأمر أو النهي، وهو أيضا خلاف صنيعه السابق واللاحق. "د". 2 في "خ" و"ط": "لك", ومكانها في الأصل بياض. 3 نسب إلى طاوس والضحاك أن القصر يرجع لأحوال الصلاة من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه شاء، وحينئذ يبقى الشرط في الآية على ظاهره {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ} إلا أنه على هذا أيضا تكون رخصة؛ فلماذا قيد بقوله: "على القول ... إلخ"؟ "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 تَقْصُرُوا، أَوْ: فَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْصُرُوا1. وَقَالَ [تَعَالَى] 2 فِي الْمُكْرَهِ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ... } الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النَّحْلِ: 106] ؛ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ؛ فَلَا غَضَبَ عَلَيْهِ، وَلَا عَذَابَ يَلْحَقُهُ إِنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلَهُ أَنْ يَنْطِقَ أَوْ إِنْ شَاءَ فَلْيَنْطِقْ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَكْذِبُ امْرَأَتِي؟ قَالَ لَهُ: "لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ ". قَالَ لَهُ: أَفَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا؟ قَالَ: "لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ 3 " 4، وَلَمْ يقل له نعم، ولا افعل إن   1 في الأصل و"م": "أن تقصروا". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 يقتضي أن الوعد وهو عارف أنه لا يقدر على الوفاء، رخصة للزوج بالنسبة لامرأته. "د". 4 أخرجه الحميدي في "مسنده" "رقم 329"، ثنا سفيان ثنا صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار؛ قال: جاء رجل إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يا رسول الله: هل علي جناح أن أكذب أهلي؟ قال: "لا؛ فلا يحب الله الكذب"، قال: يا رسول الله! أستصلحها وأستطيب نفسها. قال: "لا جناح عليك ". هكذا وقع فيه عن عطاء بن يسار مرسلا، وهو قد أورده تحت "أحاديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط, رضي الله عنها"؛ فلا أدري أسقط اسمها من السند أو الناسخ، أم الرواية عند الحميدي هكذا مرسلا؟ والسند صحيح إلى عطاء بن يسار، قاله شيخنا في "السلسلة الصحيحة" "رقم 498". قلت: وأخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" من رواية صفوان بن سليم عن عطاء مرسلا، وهو في "الموطأ" عن صفوان بن سليم معضلا من غير ذكر عطاء، قاله الزبيدي في "شرح الإحياء" "7/ 524". إلا أن الحديث صحيح وله شواهد عديدة، انظرها في "السلسلة الصحيحة" "رقم 498، 545". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 شِئْتَ1. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ؛ أَنَّ الْجُمْهُورَ أَوِ الْجَمِيعَ يَقُولُونَ: مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ مَأْجُورٌ وَفِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي تَرْجِيحَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ؛ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ2 من المواضع   1 ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الكذب لا يجوز في شيء، وحملوا الكذب الذي وردت الرخصة به في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل لزوجته على معنى التورية والتعريض، ومن شهد رجلا يحرك لسانه بالكذب الصريح ولو ليتخذه وسيلة إلى قضاء مصلحة؛ فإنه يحس كيف أخذ مقام ذلك الرجل ينحط في نفسه، وكيف ابتدأت الثقة به تتداعى إلى انحلال، وهذا ما ينبهك على أن الشريعة لا تأذن بالكذب؛ إلا أن تضيق على الرجل دائرة المعاريض، ويضطر إليه في مثل تخليص النفس البريئة من ظالم يريد إتلافها، ولعل السياسي يرى أنه أحرى بهذه الرخصة حيث يضطر إليها في إحياء أمة أو إنقاذها من قارعة الاستعمار، والمخلص من الكذب في حديث الزوجة أن يعدها بالعطية في قوة العازم وينوي في ضميره التعليق على تقدير الله ومشيئته. "خ". 2 تقدم له في مباح المباح أن الصبر على عدم ذكر الكلمة مندوب، إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "فكذلك غيره" الذي يقتضي أن الجمهور أو الكل قائلون بأن ترك الرخصة أفضل، مع أن أبا حنيفة يقول بوجوب القصر والفطر، وتسمى رخصة إسقاط بحيث لا يصح منه الإتمام والصيام، والشافعي يقول: إذا زادت المسافة عن مرحلتين؛ كانا أفضل من الصيام والإتمام، قال عياض في "الإكمال": "كون القصر سنة هو المشهور من مذهب مالك وأكثر أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف"، ونص المالكية على أن رخصة الجمع بين الظهرين والعشاءين للمسافر رخصة جائزة والجائز بمعنى التخيير؛ فانظر هذا مع ما قاله المؤلف. "د". قلت: وقد صرح بعض المالكية أن الجمع بين الظهرين والعشاءين سنة، فقال ابن العربي في "القبس" "1/ 326-327": "لا يطمئن إلى الجمع ولا يفعله إلا جماعة مطمئنة النفوس بالسنة، كما لا يكع -أي: يبتعد وينحي- عنه إلا أهل الجفاء والبداوة". انظر: "التاج والإكليل" "2/ 156"، و"الفواكه الدواني" "1/ 271"، و"أسهل المدارك" "1/ 237"، وكتابي "الجمع بين الصلاتين في الحضر" "ص117". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الْمَذْكُورَةِ وَسِوَاهَا. وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ الَّتِي بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ؛ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [الْبَقَرَةِ: 223] ، يُرِيدُ: كَيْفَ شِئْتُمْ: مُقْبِلَةً، وَمُدْبِرَةً، وَعَلَى جَنْبٍ؛ فَهَذَا تَخْيِيرٌ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [الْبَقَرَةِ: 35] ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِسْمِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمُبَاحَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: يَنْبَنِي عَلَيْهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ العارض في مسألتنا أنا إن قلنا: [إن] 1 الرُّخْصَةُ مُخَيَّرٌ فِيهَا حَقِيقَةً؛ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مَعَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا مُبَاحَةٌ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهَا؛ إِذْ رَفْعُ الْحَرَجِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ مَعَ الْوَاجِبِ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُعَيَّنِ الْمَقْصُودِ شَرْعًا، فَإِذَا عَمِلَ بِهَا؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْعَمَلِ بِهَا فَرْقٌ، لَكِنَّ الْعُذْرَ رَفَعَ التَّأْثِيمَ عَنِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهَا إِنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الِانْتِقَالَ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا بَسْطٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: التَّرَخُّصُ الْمَشْرُوعُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ مَشَقَّةٍ لَا صَبْرَ عَلَيْهَا طَبْعًا؛ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَعْجِزُ مَعَهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِهَا مثلا، أو عن الصوم لفوت   1 ما بين المعقوفتين زيادة من "م" و"خ" و"ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 النَّفْسِ. أَوْ شَرْعًا؛ كَالصَّوْمِ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ عَلَى إِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ مَشَقَّةٍ بِالْمُكَلَّفِ قُدْرَةٌ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَأَمْثِلَتُهُ ظَاهِرَةٌ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ؛ فَالتَّرَخُّصُ فِيهِ مَطْلُوبٌ، وَمِنْ هُنَا جَاءَ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" 1، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ أَوْ: "وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ" 2، وَ: "إِذَا حَضَرَ 3 الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؛ فابدءوا بِالْعَشَاءِ" 4 إِلَى مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَالتَّرَخُّصُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُلْحَقٌ بِهَذَا الْأَصْلِ5، وَلَا كلام أن الرخصة ههنا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعَزَائِمِ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ بِوُجُوبِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ خَوْفَ التَّلَفِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَمَاتَ؛ دَخَلَ النَّارَ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَرَاجِعٌ إِلَى حُظُوظِ الْعِبَادِ، لِيَنَالُوا مِنْ رِفْقِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ بِحَظٍّ؛ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:   1 سيأتي تخريجه في "ص517". 2 مضى تخريجه "ص489"، والحديث صحيح. 3 في الأصل و"ط": "حضرت". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، 2/ 159/ رقم 671، وكتاب الأطعمة، باب إذا حضر العشاء؛ فلا يعجل عن عشائه، 9/ 584/ رقم 5465". 5 فهو راجع إلى حق الله؛ لأنه لا يتأتى الحضور في الصلاة والإتيان بها على كمالها مع هذه الأمور. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَصَّ بِالطَّلَبِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ حَالُ الْمَشَقَّةِ أَوْ عَدَمُهَا؛ كَالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ؛ فَهَذَا أَيْضًا لَا كَلَامَ فِيهِ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِالْعَزَائِمِ، مِنْ حَيْثُ صَارَ مَطْلُوبًا مُطْلَقًا طَلَبَ الْعَزَائِمِ، حَتَّى عَدَّهُ النَّاسُ سُنَّةً لَا مُبَاحًا، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ رُخْصَةً؛ إِذِ الطَّلَبُ الشَّرْعِيُّ فِي الرُّخْصَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا رُخْصَةً؛ كَمَا يَقُولُهُ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، فَإِذَا هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ عَلَيْهَا حَدُّ الرُّخْصَةِ، وَفِي حُكْمِ الْعَزِيمَةِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَطْلُوبَةً طَلَبَ الْعَزَائِمِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِالطَّلَبِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّخْفِيفِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَلِلْمُكَلَّفِ الْأَخْذُ بِأَصْلِ الْعَزِيمَةِ وَإِنْ تَحَمَّلَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً، وَلَهُ الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ ظَاهِرَةٌ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا، فَإِنْ تَشَوَّفَ أَحَدٌ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَنَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلِأَنَّ الْمَشَقَّةَ إِذَا أَدَّتْ إِلَى الْإِخْلَالِ بِأَصْلٍ كُلِّيٍّ؛ لَزِمَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ أَصْلُ الْعَزِيمَةِ، إِذْ قَدْ صَارَ إِكْمَالُ الْعِبَادَةِ هُنَا وَالْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا يُؤَدِّي إِلَى رَفْعِهَا مِنْ أَصْلِهَا1، فَالْإِتْيَانُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهَا2 مِنْهَا -وَهُوَ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ- هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ من هذا الكتاب.   1 أي: عدم تحصيلها، هذا فيما كان العجز* فيه بالطبع، أما ما كان العجز فيه شرعا كأمثلته المتقدمة؛ فيكون رفعا للكمال لا للأصل، وتأمله؛ فإن الحضور في الصلاة ليس ركنا لقوله: "إتمام أركانها"؛ إن كان معناه هو معنى استيفاء أركانها السابق له؛ فظاهر، وإن كان معناه الإكمال الزائد على أصل الركن؛ فلا يتأتى فيه ظاهر دليله. "د". 2 في الأصل: "عليه".   * في المطبوع: "المعجز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِذَا فُرِضَ اخْتِصَاصُ الرُّخْصَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ [الْعَمَلِ بِهَا عَلَى الْخُصُوصِ؛ خَرَجَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَحْكَامِ الرُّخْصَةِ فِي نَفْسِهَا، كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ مَالِكٍ] 1 [الدَّلِيلُ عَلَى] 2 طَلَبِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ؛ فَهَذَا وَشَبَهُهُ مِمَّا اخْتُصَّ عَنْ عُمُومِ حُكْمِ الرُّخْصَةِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاضِحٌ فِي الْإِذْنِ3 فِي الرُّخْصَةِ، أَوْ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ عَنْ فَاعِلِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: حَيْثُ قِيلَ4 بِالتَّخْيِيرِ5 بَيْنَ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ والأخذ بالرخصة؛ فللترجيح   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط. 3 ما تقدم له من الأدلة واضح في رفع الإثم لا في الإذن، غايته أنه في آخر المسألة الرابعة بنى على كل من الوجهين فائدته؛ فراجعها. "د". 4 وأما إذا قيل برفع الإثم عن فاعلها؛ فالظاهر أن الرجحان أخذًَا للعزيمة مما تقدم له في آخر المسألة الرابعة من مسائل المباح، حيث قال: "وَأَمَّا قِسْمُ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَيَكَادُ يكون شبيها باتباع الهوى المذموم؛ لأنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة" غير أن رجحان العزيمة يحتاج إلى تقييد بما إذا لم تصر الرخصة مطلوبة شرعا؛ كالجمع بمزدلفة مثل. "د". 5 مع كونه لم يرتض هذا، وأقام الدليل على أن الإباحة في الرخصة بمعنى رفع الحرج، ولم يقم على هذا التخيير دليلا فرع عليه ما أطال به في المسألتين السادسة والسابعة، ويبقى الكلام في المراد بالترجيح بعد فرض التخيير: هل المراد به أنه هو الأحب والمثاب عليه في نظر الشارع؟ ويدل على هذا ما يأتي له في أدلة ترجيح الأخذ بالعزيمة المفيد أنهم لما أخذوا بها مدحهم الله، وأن الأمر بالمعروف مستحب، وإن أدى إلى الإضرار بالمال ... إلخ، وإذا كان كذلك؛ فكيف يتأتى أن يكون هنا تخيير؟ وقد تقدم له في المسألة الأولى في المباح بمعنى المخير فيه سبعة أدلة على أنه لا فرق بين الفعل والترك في نظر الشارع بالنسبة للمباح المخير فيه، وما عورضت به الأدلة دفعه كله، وحقق أنه لا فرق بين الفعل والترك؛ فلم يبق إلا أن يكون غرضه بالترجيح هنا أمرا آخر = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ، وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ، فَلْنَذْكُرْ جُمَلًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ طَرَفٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ. فَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ؛ فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَوْلَى لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَزِيمَةَ هِيَ الْأَصْلُ الثَّابِتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَوُرُودُ الرُّخْصَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضًا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مَقْطُوعًا بِهِ فِي الْوُقُوعِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُتَرَخِّصٍ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ إِلَّا فِي الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ1، وَمَا سِوَاهُ لَا تَحَقُّقَ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ؛ فَإِنَّ مِقْدَارَ الْمَشَقَّةِ الْمُبَاحَ مِنْ أَجْلِهَا التَّرَخُّصُ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّفَرَ قَدِ اعْتُبِرَ فِي مَسَافَتِهِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فَأَكْثَرَ، كَمَا اعْتُبِرَ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ، وَعِلَّةُ الْقَصْرِ الْمَشَقَّةُ، وَقَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَشَقَّةِ، وَاعْتُبِرَ فِي الْمَرَضِ أَيْضًا أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَفْطَرَ لِوَجَعِ أُصْبُعِهِ، كَمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَجَالِ الظُّنُونِ لَا مَوْضِعَ فِيهِ لِلْقَطْعِ، وَتَتَعَارَضُ فِيهِ الظُّنُونُ، وَهُوَ مَحَلُّ التَّرَجُّحِ2 وَالِاحْتِيَاطِ؛ فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا كُلِّهِ أَنْ لَا يُقْدَمَ عَلَى الرُّخْصَةِ مَعَ بَقَاءِ احتمال في السبب.   = غير كونه محبوبا للشارع ومطلوبا ومثابا عليه؛ فلينظر ما هو معنى كونه أولى وأرجح في نظر الشارع غير هذه المعاني؛ حتى لا يتنافى كلامه هنا مع كلامه في المباح فيا سبق؛ فقد يقال: إن مراده بالترجح الأخذ بما هو أحوط فقط وإن لم يكن بالغا مبلغ الاستحباب والثواب عليه؛ كما يشير إليه قوله: "وهو محل الترجح والاحتياط"، ولكن يبقى الكلام في الأدلة الآتية، وسيأتي له في آخر المسألة السابعة قبل الفصل الأول أن الأحروية في الأخذ بالعزيمة تارة تكون بمعنى الندب وتارة تكون بمعنى الوجوب؛ فتنبه للتوفيق بين كلامه في هذه المواضع؛ فإنه يحتاج إلى فطنة وقوة ذاكرة للجمع بين أطراف الكلام في هذا المقام الذي طالت جولته فيه. "د". 1 وهو ما ألحق بالعزائم بقسميه، وقوله: "وما سواه" هو القسم الثالث. "د". 2 في "ماء": "الترجيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 والثاني: إِنَّ الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ فِي التَّكْلِيفِ كُلِّيٍّ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ عَلَى الْأَصَالَةِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالرُّخْصَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى جُزْئِيٍّ بِحَسَبِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ، وَبِحَسَبِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فِي أَهْلِ الْأَعْذَارِ، لَا فِي كُلِّ حَالَةٍ وَلَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ؛ فَهُوَ كَالْعَارِضِ الطَّارِئِ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي مَوْضِعِهَا أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ وَأَمْرٌ جُزْئِيٌّ؛ فَالْكُلِّيُّ مُقَدَّمٌ؛ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّ يَقْتَضِي مَصْلَحَةً جُزْئِيَّةً، وَالْكُلِّيَّ يَقْتَضِي مَصْلَحَةً كُلِّيَّةً، وَلَا يَنْخَرِمُ نِظَامٌ فِي الْعَالَمِ بِانْخِرَامِ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُدِّمَ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْكُلِّيَّةَ يَنْخَرِمُ نِظَامُ كُلِّيَّتِهَا، فَمَسْأَلَتُنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعَزِيمَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَمْرٌ كُلِّيٌّ ثَابِتٌ عَلَيْهِ، وَالرُّخْصَةُ إِنَّمَا مَشْرُوعِيَّتُهَا أَنْ تَكُونَ جُزْئِيَّةً، وَحَيْثُ يَتَحَقَّقُ الْمُوجَبُ، وَمَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيهِ1 لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ صُورَةٍ تُفْرَضُ إِلَّا وَالْمُعَارِضُ الْكُلِّيُّ يُنَازِعُهُ؛ فَلَا يُنْجِي مِنْ طَلَبِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا الرُّجُوعُ إلى الكلي، وهو العزيمة. والثالث: مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْأَمْرِ2 بِالْوُقُوفِ مَعَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُجَرَّدًا، وَالصَّبْرِ عَلَى حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَإِنِ انْتَهَضَ مُوجِبُ الرُّخْصَةِ، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 173] ؛ فَهَذَا مَظِنَّةُ التَّخْفِيفِ، فَأَقْدَمُوا3 عَلَى الصَّبْرِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ؛ فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ به4.   1 وهو القسم الثالث. "د". 2 وهل مع الأمر يكون مجرد احتياط، أم يقتضي هذا الأمر أن يكون أفضل مثابا عليه؟ وكيف يبنى هذا على التخيير؟ "د". 3 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فأقاموا". 4 ومنه: {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} ، وأي ثواب أجزل من رضوان الله؟ وفي الآية بعدها: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} ؛ فكلتا الآيتين فيهما الجزاء والثواب، ولا يكون مع التخيير، وبالجملة لو ترك الأدلة التي فيها طلب الأخذ بالعزيمة والثواب عليها؛ لكان موافقا لأصل الموضوع من بناء المسألة على التخيير. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ... } إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ حَيْثُ قَالَ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 10-23] ؛ فَمَدَحَهُمْ بِالصِّدْقِ مَعَ حُصُولِ الزِّلْزَالِ الشَّدِيدِ وَالْأَحْوَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي بَلَغَتِ الْقُلُوبُ فِيهَا الْحَنَاجِرَ1 وَقَدْ عَرَضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يُعْطُوا الْأَحْزَابَ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ؛ لِيَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ فَيَخِفَّ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ؛ فَأَبَوْا مِنْ ذَلِكَ، وَتَعَزَّزُوا بِاللَّهِ وَبِالْإِسْلَامِ2؛ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ الرَّأْيُ مِنَ الصَّحَابَةِ, رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ- اسْتِئْلَافُهُمْ بِتَرْكِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِمَّنْ مَنَعَهَا مِنْهُمْ؛ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ الْأُمَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ مَا يَكُونُ؛ فَأَبَى أَبُو بكر -رضي الله عنه-   1 جمع حنجور بالضم؛ أي: الحلقوم. "ماء". 2 أخرج البزار في "مسنده" "رقم 1803- زوائده"، والطبراني بإسناد فيه محمد بن عمرو -وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات؛ كما في "مجمع الزوائد" "6/ 132"- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء الحارث الغطفاني إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يا محمد! شاطرنا تمر المدينة. فقال صلى الله عليه وسلم: "حتى أستأمر السعود ". فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة؛ فقال: "إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث سألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا في أمركم بعد ". فقالوا: يا رسول الله! أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك؟ فرأينا نتبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا؛ فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو ذا تسمعون ما يقولون ". قالوا: غدرت يا محمد، فرد عليهم حسان بن ثابت بأبيات من الشعر. وانظر: "شرح الزرقاني على المواهب" "3/ 131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فَقَالَ: "وَاللَّهِ لِأُقَاتِلَنَّهُمْ1 حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي"، وَالْقِصَّةُ مشهورة2.   1 في "د": "لأقاتلهن". 2 انظر تفصيل ذلك عند البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، 3/ 262/ رقم 1399، 1400، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة، 12/ 275/ رقم 6924، 6925" مع كلام الشارح ابن حجر في الموطن الثاني، والتعليل المذكور في عدم قتال مانعي الزكاة اجتهاد من المصنف، والمذكور في الروايات والشرح خلافه؛ فراجعه، والله الموفق والهادي. وكتب "خ" هنا ما نصه: "لا يظهر في هذه القضية معنى الرخصة والعزيمة بعد قول أبي بكر -رضي الله عنه- في محاجة عمر: "إن الزكاة حق المال"، وقول عمر, رضي الله عنه: "ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر فعرف أنه الحق"، وإذا كان رأي أبي بكر الصديق هو الحق، ورأي غيره خطأ؛ كان العمل على الرأي الخطأ بعد أن انكشف أمره باطلا شرعا، والباطل لا يدخل في معنى الرخصة بحال". وكتب "د" ما نصه: "ولا يخفى على المطلع على أخبار هذه الردة أنه لم يبق مذعن لأحكام الإسلام من قبائل العرب إلا قريش وثقيف والأنصار، واضطرمت نار الفتنة في سائر الجزيرة، فتجمع القبائل قرب المدينة، وأرسلوا وفودهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤدوا الزكاة؛ لأنهم اعتبروها كإتاوة لا تتفق مع عزة نفوس العرب، وقام متنبئون من العرب ذكورا وإناثا، فارتد معهم كثير ممن لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم وهكذا أصبح أكثر القبائل بين باغ ومرتد، بل شاع تسمية الكل مرتدين "ردة عامة أو خاصة"، وكان جيش المسلمين إذ ذاك مع أسامة بالشام؛ فكاد يجمع الصحابة على أنه ليس من المصلحة حرب جزيرة العرب كلها، وأن الضرورة تقضي باستئلاف مانعي الزكاة بعدم طلبها منهم؛ فأرادوا أن يأخذوا إذ ذاك بالرخصة في عدم حرب هؤلاء البغاة حتى لا يتعرض الإسلام لطعنة نجلاء تقضي عليه في مهده، وأن يتربصوا حتى يقوى أمر المسلمين بانطفاء هذه الفتن، ثم يكون الرجوع للجهاد لإعلاء كلمة الله الذي هو واجب ضروري من أقوى العزائم؛ فأبى أبو بكر وتشدد وأقسم، وحاجهم؛ فحجهم، ورجعوا إلى رأيه، وقال عمر كلمته المشهورة؛ فمعنى الحق في كلام عمر أنه الأوفق بالمصلحة، وهذا لا ينافي أنه اجتهد ورأى المصلحة في الحرب، واجتهدوا بقبول الرخصة خوفا على الإسلام؛ فحل الخلاف الترجيح بين الأخذ بالعزيمة كما هو رأيه أو الأخذ بالرخصة المتحقق سببها كما هو رأي غيره، ومعلوم أن أسباب الرخص ظنية، والظنون تتعارض كما قال المؤلف، ثم انشرح صدرهم لموافقته؛ فكان رأيه الأوفق؛ فأذعن البغاة، وشرد المتنبئون، وسكنت الجزيرة، وسار الإسلام في طريقه. وبهذا تبين أن هذا المثال كسابقه من الأمثلة التي يستدل بها على ترجيح الأخذ بالعزيمة مع انتهاض موجب الرخصة؛ فلم يكن رأي الصحابة خطأ في وجود سبب الرخصة، حتى يقال: إنه لا يظهر في هذه القصة معنى الرخصة والعزيمة كما اعترض به بعضهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الْآيَةَ [النَّحْلِ: 106] ؛ فَأَبَاحَ التَّكَلُّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَفْضَلُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، أَوْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ1، وَهَذَا جارٍ فِي قَاعِدَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ أَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَحَبٌّ، وَالْأَصْلَ مُسْتَتِبٌّ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، لَكِنْ يَزُولُ الِانْحِتَامُ وَيَبْقَى تَرَتُّبُ الْأَجْرِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ قَوْلُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ خَيْرًا لِأَحَدِكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا " 2؛ فَحَمَلَهُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَلْحَقَ مَنِ الْتَزَمَ هَذَا الْعَقْدَ مَشَقَّاتٌ كَثِيرَةٌ فَادِحَةٌ، وَلَمْ يَأْخُذُوهُ إِلَّا عَلَى عُمُومِهِ حتى اقتدى   1 في "ط": "جمهورها". 2 أخرج أبو يعلى في "المسند" "1/ 156/ رقم 167" -ومن طريقه الضياء في "المختارة" "1/ 181-182/ رقم 89"- وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 42" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: قلت: يا رسول الله! أليس قد قلت لي: إن خيرا أن لا تسأل أحدا من الناس شيئا؟. قال: "إنما ذاك أن تسأل، وما أتاك الله من غير مسألة؛ فإنما هو رزق رزقكه الله ". قال الهيثمي في "المجمع": "هو في "الصحيح" باختصار، ورواه أبو يعلى، ورجاله موثقون". قلت: ليس في "الصحيح" ما أورده المصنف، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 1473، 7193، 7164"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1045"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 105"، والحميدي في "المسند" "رقم 21"، وأحمد في "المسند" "1/ 21"، والدارمي في "السنن" "1/ 388"، وغيرهم كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 بِهِمُ الْأَوْلِيَاءُ، مِنْهُمْ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ؛ فَاتَّفَقَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ1 وَغَيْرُهُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا النَّمَطُ مِمَّا يُنَاسِبُ اسْتِثْنَاؤُهُ2 مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَقِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا3 حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَدَقُوهُ، وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لَهُ فِي مَوْطِنٍ كَانَ مَظِنَّةً لِلِاعْتِذَارِ، فَمُدِحُوا لِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ وَمَدَحَهُمْ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ مَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَلَكِنْ ظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ؛ فَفَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْقَبُولِ، وَسَمَّاهُمْ صَادِقِينَ لِأَخْذِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ دُونَ التَّرَخُّصِ4.   1 في "رسالته" المشهورة "ص80"، وستأتي في "2/ 497". 2 فيكون رخصة، ولكنهم لم يأخذوا بها، وما ذاك إلا لأولوية العزيمة. "د". 3 أخرج قصتهم بتفصيل البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418، وكتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وأحمد في "المسند" "3/ 454، 456-459"، وغيرهم. 4 كان من السهل التمسك بالأعذار العامة في حق الثلاثة؛ إذ كان الوقت قيظا والسفر بعيدا، وكان أوان جني الثمار، ولا داعي لأعذار خاصة، وقد قال كعب: إنه أوتي جدلا لم يؤته غيره، فكان يتأتى له أن يحسن الاعتذار مع لزوم الصدق، وهلال بن أمية كان شيخا مسنا؛ فعذره الخاص مقبول أيضا، وقد اعتذر بضعة وثمانون؛ فقبل منهم عليه الصلاة والسلام واستغفر لهم، ولم يثبت أن هؤلاء جميعا منافقون وإن كانت عبارة كعب في رواية القصة ربما يؤخذ منها أن أكثرهم كانوا كذلك؛ فالثلاثة لم يرتضوا المواربة بالأعذار العامة أو الأعذار الخاصة الضعيفة، وتحملوا مشاق الصدق وأثره؛ فمكثوا في البلاء خمسين يوما يبكون وينتحبون، وكان لهم منجى منه بعذر عام أو خاص صادق ولو ضعيفا، فكان يقبل منهم ويستغفر لهم، فتركوا الرخصة لهذه العزيمة؛ كما قال المؤلف. "د". وكتب "خ" ما نصه: "لا يظهر في هذه الواقعة وجه للرخصة حتى يعقد بينها وبين اعترافهم بالذنب موازنة، ويقال: إن أولئك الثلاثة رجحوا جانب العزيمة؛ إذ ليس لهم أعذار صادقة يقدمونها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أنهم لفقوا أعذارا ابتدعوها؛ لكانوا قد أضافوا إلى ذنب التخلف عن الغزو ذنب الكذب المذموم، واعتذارات كاعتذارات المنافقين وإن كانت نافعة لهم في الدنيا لا تدخل في قبل الرخصة؛ إذ الرخصة رفع الحرج الذي لا يلحقه العقاب عاجلا وآجلا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وَقِصَّةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ1 وَغَيْرِهِ2 مِمَّنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا يَقْدِرُ عَلَى دُخُولِ مَكَّةَ إِلَّا بِجِوَارٍ، ثُمَّ تَرَكُوا الْجِوَارَ رِضًى بِجِوَارِ اللَّهِ، مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَلَكِنْ هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ فِي اللَّهِ؛ فَصَبَرُوا إِيمَانًا بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمَرِ: 10] . وَقَالَ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آلِ عِمْرَانَ: 186] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ وَ] 3 السلام: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35] . وَقَالَ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشُّورَى: 41] . ثُمَّ قَالَ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشُّورَى: 43] . وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 284] ؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا, فَقَالُوهَا؛ فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَنَزَلَتْ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا   1 ذلك أنه -رضي الله عنه- بعد رجوعه من الحبشة دخل في جوار الوليد بن المغيرة، ثم رد جواره ورضاه بما عليه النبي, صلى الله عليه وسلم. انظر: "الإصابة" "2/ 464". 2 كقصة أبي بكر لما قبل من ابن الدغنة ترك جواره وبقي مستعلنا بشعائر الإسلام اعتمادا على جوار الله، مع تألب الكفار عليه ألا يستعلن القرآن خشية على من كان يسمعه من نسائهم وشبانهم أن يميلوا إلى الإسلام. "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 285] 1. وَجَهَّزَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسَامَةَ فِي جَيْشٍ إِلَى الشَّامِ قُبَيْلَ مَوْتِهِ2، فَتَوَقَّفَ خُرُوجُهُ بِمَرَضِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ثُمَّ جَاءَ مَوْتُهُ؛ فَقَالَ النَّاسُ لِأَبِي بَكْرٍ: احْبِسْ أُسَامَةَ بِجَيْشِهِ تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَنْ حَارَبَكَ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ لَكَ3. فقال: لو لعبت4 الْكِلَابُ بِخَلَاخِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولكن سأل   1 أين الرخصة هنا متى كانت آية {آمَنَ الرَّسُولُ} ناسخة؟ وكذا لو قيل: إنها محكمة على معنى "إن تبدوا ما استقر في أنفسكم من الأخلاق الذميمة؛ كالكبر، والحسد، وكتمان الشهادة، أو تخفوه؛ يحاسبكم به الله" فلا رخصة أيضا، إنما يكون موضع رخصة إذا بقي الحكم الصعب معمولا به ورفع الحرج في فعله عند المشقة، وأين هذا؟ فإذا كان مناط دليله ما ذكره بقوله: "فشق عليهم فقيل لهم قولوا: سمعنا فقالوها ... إلخ" يعني: فليس كلامه فيما بين الآيتين بل في الآية مع بقية القصة التي ذكرها، قلنا أيضا: نعم، يكون تكليفا شاقا، ولكن أين الرخصة التي كان يمكنهم الأخذ بها في مقابلته فتركوها؛ لأنه أفضل من الترخص؟ "د". قلت: ومضى تخريج "سبب النزول" "ص93"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "14/ 130، 131". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، 7/ 510/ رقم 4261"، من حديث عبد الله بن عمر, رضي الله عنهما. وانظر: "مسند الحب ابن الحب" "رقم 1، 2" لابن المرزبان، و"طبقات ابن سعد" "4/ 67"، و"مسند أحمد" "5/ 205، 206، 209"، و"سنن أبي داود" "رقم 2616"، و"مسند الطيالسي" "رقم 526"، و"سنن ابن ماجه" "رقم 2843". 3 قامت القبائل المرتدة بمحاربة المسلمين حول المدينة واشتد الأمر عليهم جدا، وفي الوقت نفسه لا يترخص باستبقاء جيش أسامة وفيه وجوه الصحابة وأعيانهم وأقوى المقاتلة من المؤمنين، لا شك أن هذا كان محل الرخصة في بقاء الجيش، ولكنه أخذ بالعزيمة والعزم؛ فكان خيرا رضي الله عنه، قال ابن مسعود: "لقد قمنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أن من الله علينا بأبي بكر، حتى أجمعنا على ألا نقاتل على بنت مخاض؛ فعزم الله لأبي بكر على قتالهم". "د". 4 المثبت من "ط"، وفي غيره: "لعب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 أُسَامَةَ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ عُمَرَ؛ فَفَعَلَ، وَخَرَجَ فبلغ الشام ونكى1 فِي الْعَدُوِّ بِهَا؛ فَقَالَتِ الرُّومُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَضْعُفُوا بِمَوْتِ نَبِيِّهِمْ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ هَيْبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لَهُمْ2. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ مِمَّا يَقْتَضِي الْوُقُوفَ مَعَ الْعَزَائِمِ وَتَرْكَ التَّرَخُّصِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ عَرَفُوا أَنَّهُمْ مُبْتَلَوْنَ، وَهُوَ: الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ الطَّارِئَةَ وَأَشْبَاهَهَا مِمَّا يَقَعُ لِلْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ؛ هِيَ مِمَّا يَقْصِدُهَا الشَّارِعُ3 فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ، أَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي التَّشْرِيعِ إِنَّمَا هُوَ جارٍ عَلَى تَوَسُّطِ مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَكَوْنُهُ شَاقًّا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِمَّا هُوَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْجُزْئِيَّةَ لَا تَخْرِمُ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى حَيْثُ تُسْتَثْنَى نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْعَزِيمَةِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْمِلِ الْعُلَمَاءُ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ الْخَاصَّةِ بِالسَّفَرِ فِي غَيْرِهِ؛ كَالصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ، مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ، فَإِذًا؛ لَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ الْعَزِيمَةِ مَعَ عَوَارِضِ الْمَشَقَّاتِ الَّتِي لَا تَطَّرِدُ وَلَا تَدُومُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جارٍ أَيْضًا فِي الْعَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا ذَلِكَ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَادِيَّةً؛ فَصَارَ عَارِضُ الْمَشَقَّةِ -إِذَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا أَوْ دَائِمًا- مَعَ أَصْلِ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ، كَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ أَيْضًا؛ فَلَا يخرج عن ذلك الأصل.   1 أي: قتل فيهم وجرح. انظر: "لسان العرب" "ن ك ا". 2 انظر: "البداية والنهاية" "6/ 308-309". 3 ولا ينافيه ما يأتي في كتاب "المقاصد" من أن الشارع لم يقصد من التكليف بالشاق الإعنات فيه، بل ما يأتي في المسألتين السادسة والسابعة من النوع الثاني من المقاصد يوضح هذا المقام. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَكُونُ اجْتِهَادِيًّا وَفِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] 1} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 184] . وَ "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ" 2. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَسِوَاهُ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ. لِأَنَّا نَقُولُ: حَالَةُ الِاضْطِرَارِ قَدْ تُبَيِّنُ أَنَّهُ الَّذِي يَخَافُ مَعَهُ فَوْتَ الرُّوحِ3، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ أَيْضًا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْمَشَقَّةِ4 الَّتِي يَعْجِزُ مَعَهَا عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ، بِحَيْثُ تَرْجِعُ الْعَزِيمَةُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ منتفٍ سَمْعًا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاقِّ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ تَحْتَ تِلْكَ النُّصُوصِ، وَفِيهِ تَضْطَرِبُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ -وَهُوَ رُوحُ هَذَا الدَّلِيلِ- هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ الطَّارِئَةَ تَقَعُ لِلْعِبَادِ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَرَدُّدِ الْمُتَرَدِّدِينَ، حَتَّى يَظْهَرَ لِلْعَيَانِ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، مِمَّنْ هُوَ فِي شَكٍّ، وَلَوْ كَانَتِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا يَخْرِمُ كُلِّيَّاتِهَا كُلُّ مَشَقَّةٍ عَرَضَتْ؛ لَانْخَرَمَتِ الْكُلِّيَّاتُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ؛ فَالِابْتِلَاءُ في   1 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة. 2 مضى تخريجه في "ص480". 3 أي: أو العضو. "د". 4 تقدم أن ذلك فيما لم يحد فيها حد شرعي، كالسفر مثلا وجمع العشاءين بمزدلفة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 التَّكَالِيفِ وَاقِعٌ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ؛ فَيُبْتَلَى الْمَرْءُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] . {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الْآيَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 1-3] . {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آلِ عِمْرَانَ: 186] . {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] . {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 141] . {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 155] إِلَى آخِرِهَا. فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ صَبَرُوا لَهَا، وَلَمْ يَخْرُجُوا بِهَا عَنْ أَصْلِ مَا حملوه إلى غيره، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} [البقرة: 155] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَلْوَى قَلِيلَةُ الْوُقُوعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُمْهُورِ الْأَحْوَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحْوَالِ التَّكْلِيفِ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ مِنَ الشَّرْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ طَلَبَ الِاصْطِبَارَ عَلَيْهَا، وَالتَّثَبُّتَ فِيهَا، حَتَّى يَجْرِيَ التَّكْلِيفُ عَلَى مَجْرَاهُ الْأَصْلِيِّ؛ كَانَ التَّرَخُّصُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَالْمُضَادِّ لِمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ تَكْمِيلِ الْعَمَلِ عَلَى أَصَالَتِهِ لِتَكْمِيلِ الْأَجْرِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ التَّرَخُّصَ إِذَا أُخِذَ بِهِ فِي مَوَارِدِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى انْحِلَالِ عَزَائِمِ الْمُكَلَّفِينَ فِي التَّعَبُّدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ؛ كَانَ حَرِيًّا1 بِالثَّبَاتِ في التعبد والأخذ بالحزم فيه.   1 في "م": "حرى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ "الْخَيْرَ عَادَةٌ، وَالشَّرَّ لَجَاجَةٌ" 1، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، وَالْمُتَعَوِّدُ لِأَمْرٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى غَيْرِهِ؛ كَانَ خَفِيفًا فِي نَفْسِهِ أَوْ شَدِيدًا، فَإِذَا اعْتَادَ التَّرَخُّصَ؛ صَارَتْ كُلُّ عَزِيمَةٍ فِي يَدِهِ كَالشَّاقَّةِ الْحَرِجَةِ، وَإِذَا صَارَتْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقُمْ بِهَا حَقَّ قِيَامِهَا، وَطَلَبَ الطَّرِيقَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْمُتَوَقَّعُ فِي أُصُولٍ كُلِّيَّةٍ، وَفُرُوعٍ جُزْئِيَّةٍ، كَمَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِالْهَوَى فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَمَسْأَلَةِ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ. وَبَيَانُ الثَّانِي ظَاهِرٌ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّهُ. وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَسْبَابَ الرُّخَصِ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً وَمُتَوَهَّمَةً لَا مُحَقَّقَةً، فَرُبَّمَا عَدَّهَا شَدِيدَةً وَهِيَ خَفِيفَةٌ فِي نَفْسِهَا؛ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّعَبُّدِ، وَصَارَ عَمَلُهُ ضَائِعًا وَغَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَصْلٍ, وَكَثِيرًا مَا يُشَاهِدُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ الْأُمُورَ صَعْبَةً، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ إِلَّا بِمَحْضِ التَّوَهُّمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِخَوْفِ لُصُوصٍ أَوْ سِبَاعٍ، إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ عِنْدَ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ عَدَّهُ مُقَصِّرًا؛ لِأَنَّ هَذَا يَعْتَرِي فِي أَمْثَالِهِ مُصَادَمَةُ الْوَهْمِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى اللُّصُوصَ أَوِ السِّبَاعَ وَقَدْ مَنَعَتْهُ مِنَ الْمَاءِ؛ فَلَا إِعَادَةَ هُنَا، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مُقَصِّرًا، وَلَوْ تَتَبَّعَ الْإِنْسَانُ الْوَهْمَ؛ لَرَمَى به في مهاوٍ   1 أي: البقاء عليه والعودة إليه تمادٍ من صاحبه لأنه ممقوت بخلاف الخير، انظر: "لسان العرب" "ل ج ج"، وسيأتي "2/ 150" على أنه حديث، وهو في "مجمع الأمثال" للميداني "1/ 247/ رقم 1325" على أنه مثل. وفي حاشية الأصل: "في القاموس: اللجاجة: الخصومة"، ثم ذكر آخر المادة أنه يقال في مواده لجاجة؛ أي: خفقا من الجوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 بَعِيدَةٍ، وَلَأَبْطَلَ عَلَيْهِ أَعْمَالًا كَثِيرَةً، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ1 وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَقَدْ تَكُونُ شَدِيدَةً، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ مَطْلُوبٌ بِالصَّبْرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَفِي "الصَّحِيحِ": "مَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ" 2، وَجَاءَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ في وقوف الواحد للاثنين بعدما نُسِخَ وُقُوفُهُ لِلْعَشَرَةِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الْأَنْفَالِ: 66] ، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لَمَّا نَزَلَتْ: "نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ"3، هَذَا بمعنى الخبر، وهو موافق للحديث والآية.   1 كل من يهاب المصاعب وتساور فكره الأوهام لا يرتفع شأنه في عمل الخير ولا يبعد شأوه في مجال الصلاح والتقوى، وكم من إنسان يقضي حياته الطويلة دون أن يقوم فيها بعمل ذي بال, ولا علة لوقوعه في هذا الخسران سوى تغلب الوهم وانحلال العزم عند ما يلاقي مشقة أو تتمثل أمامه المخاوف، وكذلك الجماعات لا تقع في خزي وخمول أو يضيع من يدها استقلالها إلا أن تلقى أمرها إلى رأي من أسلمه فساد النشأة وقلة التجارب إلى خور العزيمة، والانقياد إلى الأوهام. "خ". 2 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1469، وكتاب الرقائق، باب الصبر عن محارم الله، 13/ 303/ رقم 6470"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، 2/ 729/ رقم 1053" من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: "ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله" لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "ومن يتصبر ". 3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} ، 8/ 312/ رقم 4653"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب التولي يوم الزحف/ رقم 2646"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 1049"، وابن المبارك في "الجهاد" "237"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 76"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 40"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص157" عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ؛ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة؛ نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم". لفظ البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وَالسَّادِسُ: إِنَّ مَرَاسِمَ الشَّرِيعَةِ مُضَادَّةٌ لِلْهَوَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَكَثِيرًا مَا تَدْخُلُ الْمَشَقَّاتُ وَتَتَزَايَدُ مِنْ جِهَةِ مُخَالِفَةِ الْهَوَى، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ضِدُّ اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ؛ فَالْمُتَّبِعُ لِهَوَاهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي نَفْسِهِ شَاقًّا أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ يَصُدُّهُ عَنْ مُرَادِهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ قَدْ أَلْقَى هَوَاهُ وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْهُ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ؛ خَفَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ بِحُكْمِ الِاعْتِيَادِ يُدَاخِلُهُ حُبُّهُ، وَيَحْلُو لَهُ مُرُّهُ، حَتَّى يَصِيرَ ضِدَّهُ ثَقِيلًا عَلَيْهِ، بعدما كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ فَصَارَتِ الْمَشَقَّةُ وَعَدَمُهَا إِضَافِيَّةً تَابِعَةً لِغَرَضِ الْمُكَلَّفِ؛ فَرُبَّ صَعْبٍ يَسْهُلُ لِمُوَافِقَةِ الْغَرَضِ، وَسَهْلٍ يَصْعُبُ لِمُخَالَفَتِهِ. فَالشَّاقُّ عَلَى الإطلاق في هذا المقام إنما هو1 مَا لَا يُطِيقُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ2؛ كَانَ مُطِيقًا لَهُ بِحُكْمِ الْبَشَرِيَّةِ، أَمْ لَا، هَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ, إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ إِضَافِيٌّ، لَا يُقَالُ فِيهِ: [إِنَّهُ] 3 مَشَقَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا إِنَّهُ لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِذَا كَانَ دَائِرًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَصْلُ الْعَزِيمَةِ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ؛ فَالرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ حَقٌّ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الرُّخْصَةِ يُنْظَرُ فِيهِ بِحَسَبِ كُلِّ شَخْصٍ، وَبِحَسَبِ كُلِّ عَارِضٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ قَطْعِيٌّ، وَكَانَ أَعْلَى ذَلِكَ الظَّنَّ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْ مَعَارِضَ؛ كَانَ الْوَجْهُ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَصْلِ،   1 في "د": "المقام وهو"، وفي "م": "المقام هو". 2 وهو الذي أشار إليه أول المسألة الخامسة بقوله: "أو شرعا كالصوم ... " إلخ. "د". 3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل و"ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ حَقٌّ، وَلَا تَكُونُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ حَتَّى تَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُهَا، فَتَلْحَقُ حِينَئِذٍ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ، هَذَا إِذَا لَمْ يأتِ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ مُطْلَقًا؛ كَفِطْرِهِ عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ وَ] السَّلَامُ1 فِي السَّفَرِ2 حِينَ أَبَى النَّاسُ مِنَ الْفِطْرِ وَقَدْ شَقَّ الصَّوْمُ عليهم؛ فهذا ونحوه أمر آخر يرجع إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْوُقُوفَ مَعَ الْعَزَائِمِ أَوْلَى، وَالْأَخْذَ بِهَا فِي مَحَالِّ التَّرَخُّصِ أَحْرَى. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلِ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ3، أَمْ ثَمَّ انْقِسَامٌ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِتَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْمَشَقَّاتِ؛ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَالْمَشَقَّاتُ4 الَّتِي هِيَ مَظَانُّ التَّخْفِيفَاتِ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ على ضربين: أحدهما: أن تكون حقيقية، وهي5 مُعْظَمُ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّرَخُّصُ؛ كَوُجُودِ الْمَشَقَّةِ الْمَرَضِيَّةِ وَالسَّفَرِيَّةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ تَوَهُّمِيَّةً مُجَرَّدَةً، بحيث لم يوجد السبب المرخص   1 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 2 سيأتي نصه في التعليق على "ص523" وتخريجه هناك. 3 بقطع النظر عن قوله قبله: "وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُقُوفَ مع العزائم أولى"؛ فهو سؤال من يريد التثبت من الموضوع بأكمله، بالجواب المبني على التفصيلات التي يذكرها بعد ما ذكر تفاصيل كثيرة لم تنضبط بضابط مملوك باليد؛ فغرضه التمهيد لإعضاء هذا الضابط. "د". 4 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "في المشقات". 5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وهو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 لِأَجْلِهِ، وَلَا وُجِدَتْ حِكْمَتُهُ1, وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهَا شَيْءٌ، لَكِنْ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَزِيمَةِ يُدْخِلُ عَلَيْهِ فَسَادًا لَا يُطِيقُهُ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُحَقَّقًا لَا مَظْنُونًا وَلَا مُتَوَهَّمًا، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَرُجُوعُهُ إِلَى الرُّخْصَةِ مَطْلُوبٌ، وَرَجَعَ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي لَمْ يَقَعِ الْكَلَامُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي -وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا- فَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ، وَالْأَصْلُ الْبَقَاءُ عَلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، وَمَتَى قَوِيَ الظَّنُّ ضَعُفَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ، وَمَتَى ضَعُفَ الظَّنُّ قَوِيَ؛ كَالظَّانِّ2 أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ الْمَرَضِ الَّذِي مِثْلُهُ يُفْطِرُ فِيهِ، وَلَكِنْ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ مَثَلًا فَلَمْ يُطِقِ الْإِتْمَامَ، أَوِ الصَّلَاةِ مَثَلًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فَقَعَدَ فَهَذَا هُوَ الْأَوَّلُ إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ مَا لا3 يقدر عليه، وإما   1 إذا لم يوجد السبب؛ فلا توجد حكمته، فما فائدة ذكره؟ وهو لم يدرج في التوهمية صورة وجوب السبب فعلا مع عدم وجود حكمته، أو وجودها غير خارجة عن مجاري العادات، بل قصرها على ما لم يتحقق فيه السبب، وهذا متعين، وإلا كل مثل السفر مع الترفه مما لا يصح فيه القصر والفطر أو مما يختلف فيه، وليس كذلك. "د". 2 المثال لقوة الظن وضعفه باعتبار الفرضين، وقوله: "دَخَلَ فِي الصَّوْمِ مَثَلًا، فَلَمْ يُطِقِ الْإِتْمَامَ، فلم يقدر؛ فقعد"، أي: إنه جرب نفسه في هذا المرض قبل هذا اليوم في الصوم، أو قبل هذه الصلاة في صلاة سابقة؛ فلم يطق, فصار لذلك عنده ظن قوي في الصلاة الحاضرة أو اليوم الحاضر بأنه لا يقدر، وليس الغرض أنه فعل ذلك في نفس هذا اليوم للصوم أو نفس هذه الصلاة فعجز؛ لأنه حينئذ يكون العجز محققا لا مظنونا؛ فيختل نظم كلامه، وهو ظاهر، فقوله: "فهذا هو الأول"؛ أي: حكمه حكمه، وقول: "إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه"؛ أي: ولو بظن قوي كمثاله. "د". 3 سقطت من ناسخ الأصل، واستظهرها ثم قال: "وبه يستقيم الكلام"، وفي "ط": "عليه غير ما يقدر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ مَأْخُوذٍ1 مِنَ الْكَثْرَةِ وَالسَّبَبُ مَوْجُودٌ عَيْنًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمَرَضَ حَاضِرٌ، وَمِثْلُهُ لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصِّيَامِ وَلَا عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عَادَةً، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَهَذَا قَدْ يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَا يَقْوَى قُوَّتَهُ، أَمَّا لُحُوقُهُ بِهِ؛ فَمِنْ جِهَةِ وُجُودِ السَّبَبِ، وَأَمَّا مُفَارَقَتُهُ لَهُ؛ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ لَمْ يُوجَدْ2 عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعِبَادَةِ، وَهُوَ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فِي الْعَزِيمَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ قُدْرَتُهُ عليها أو3 عدم قُدْرَتِهِ؛ فَيَكُونُ الْأَوْلَى هُنَا الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ، إِلَى أَنْ يَظْهَرَ بَعْدَ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ تَوَهُّمِيَّةً، بِحَيْثُ لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ وَلَا الْحِكْمَةُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِلسَّبَبِ عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي أَنَّهُ يُوجَدُ بَعْدُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُوجَدَ أَوْ لَا، فَإِنْ وُجِدَ فَوَقَعَتِ الرُّخْصَةُ مَوْقِعَهَا؛ فَفِيهِ خِلَافٌ، أَعْنِي فِي إِجْزَاءِ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ لَا فِي جَوَازِ الْإِقْدَامِ ابْتِدَاءً؛ إِذْ لَا يَصِحُّ4 أَنْ يُبْنَى حُكْمٌ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، بَلْ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهُ وَإِنْ وُجِدَ السَّبَبُ وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ؛ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ نَفْسُ السَّبَبِ؟ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي نَحْوِ الظَّانِّ أَنَّهُ تَأْتِيهِ الْحُمَّى غَدًا بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِ فِي أَدْوَارِهَا؛ فَيُفْطِرُ قَبْلَ مَجِيئِهَا، وَكَذَلِكَ الطَّاهِرُ إِذَا بَنَتْ عَلَى الْفِطْرِ ظَنًّا أَنَّ حَيْضَتَهَا سَتَأْتِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بعض العلماء على   1 أي: مأخوذ أثره وما يترتب عليه من كثرة التجارب في هذا السبب الحاصل بالفعل، وتكون التجارب من غيره، أو من نفسه في زمن بعيد لا يقاس عليه، حتى يغاير ما قبله. "د". 2 أي: بمقتضى ظن قوي جاء له من تجربة في نفسه، وإنما عنده ظن بسبب كثرة التجارب في غيره، أو في نفسه لكن في زمن مضى بعيدا بحيث يحتمل تغير الحال. "د". 3 في النسخ المطبوعة: "وعدم"، والمثبت من الأصل و"ط". 4 أي: فلا يجوز الإقدام عليه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي إِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 68] ؛ فَإِنَّ هَذَا إِسْقَاطٌ لِلْعُقُوبَةِ لِلْعِلْمِ1 بِأَنَّ الْغَنَائِمَ سَتُبَاحُ لَهُمْ وَهَذَا غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَرَتُّبُ الْعَذَابِ هُنَا لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى تَرَتُّبٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ اللَّاحِقَةِ لِلْإِنْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشُّورَى: 30] . وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّبَبِ عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ؛ فَلَا إِشْكَالَ هُنَا. وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ الظُّنُونَ وَالتَّقْدِيرَاتِ غَيْرَ الْمُحَقَّقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قِسْمِ التَّوَهُّمَاتِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ؛ فَإِنَّهَا تُقَدِّرُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا؛ فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ إِلَّا فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ2 أَوْلَى مَا لَمْ يؤدِّ ذَلِكَ إِلَى دَخْلٍ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَوْ دِينِهِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إِلَّا مَنْ يُطِيقُهُ، فَأَنْتَ تَرَى بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لَا يَلْحَقُ بِهَا تَوَهُّمُهَا بَلْ حُكْمُهَا أَضْعَفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِذًا لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ؛ كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ لَازِمٍ، إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْمَظِنَّةُ -وَهِيَ السَّبَبُ3- مَقَامَ الْحِكْمَةِ؛ فَحِينَئِذٍ يكون   1 على أحد التفاسير في الآية، وعده في "روح المعاني" [10/ 34] تكلفا فراجعه. "د". 2 حتى مع المخلة الفادحة، هذا غير واضح، وسيأتي له في الفصل التالي أن الرخص المحبوبة ما ثبت الطلب فيه وهو ما فيه المشقة القادحة التي ينزل عليها مثل قوله, عليه الصلاة والسلام: "وليس من البر الصيام في السفر "؛ فكيف تكون مطلوبة والصبر على العزيمة أولى؟ "د". 3 أي: الذي وضعه الشارع كالسفر. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 السَّبَبُ مُنْتَهِضًا عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى اللُّزُومِ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ عَلَى كَمَالِهَا؛ فَالْأَحْرَى الْبَقَاءُ مَعَ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا؛ فَالْمَشَقَّةُ التَّوَهُّمِيَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْمَشَقَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ, وَالْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ فِي الْوُقُوعِ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنًا. وَأَمَّا الرَّاجِعَةُ إِلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ خُصُوصًا؛ فَإِنَّهَا ضِدُّ الْأُولَى؛ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ وَضْعِ الشَّرَائِعِ إِخْرَاجُ النُّفُوسِ عَنْ أَهْوَائِهَا وَعَوَائِدِهَا، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي شَرْعِيَّةِ الرُّخْصَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَنْ هَوِيَتْ نَفْسُهُ أَمْرًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَذَرَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ لِيَتَرَخَّصَ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 49] ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ الْأَصْفَرِ؛ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ1، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 81] ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ الصَّحِيحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات؛ فَبَيَّنَ أَهْلَ الْأَعْذَارِ هُنَا، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الْجِهَادَ، وَهُمُ الزَّمْنى، وَالصِّبْيَانُ، وَالشُّيُوخُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالْعُمْيَانُ، وَنَحْوُهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَةً أَصْلًا, وَلَا وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَقَالَ فِيهِ: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] ، وَمِنْ جُمْلَةِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُبْقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بَقِيَّةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ؟ [التَّوْبَةِ: 41] وَقَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الْآيَةَ [التوبة: 39] ؛ فما ظنك بمن كان   1 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 308" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "14/ 287-288" عن يزيد بن رومان والزهري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر وغيرهم به. وهذه مقاطيع لا تثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 عُذْرُهُ هَوَى نَفْسِهِ؟! نَعَمْ، وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ تَابِعَةً لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِي شَهَوَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَتَنَعُّمَاتِهِمْ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إِلَى مَفْسَدَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهَا عَنْهُ التَّمَتُّعُ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْدُودِ لَهُ؛ فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهُ ابْتِدَاءً رُخْصَةَ السَّلَم، والقِرَاض، وَالْمُسَاقَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَانِعٌ فِي قَاعِدَةٍ أُخْرَى1، وَأَحَلَّ لَهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَمَتَى جَمَحَتْ نَفْسُهُ إِلَى هَوًى قَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا وَإِلَيْهِ سَبِيلًا فَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ بَابِهِ؛ كَانَ هَذَا هَوًى شَيْطَانِيًّا وَاجِبًا عليه الانكفاف2 عَنْهُ؛ كَالْمُولَعِ بِمَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَلَا رُخْصَةَ لَهُ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا هِيَ عَيْنُ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الرُّخَصِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ لَهَا فِي الشَّرْعِ مُوَافِقَةً إِذَا وُزِنَتْ بِمِيزَانِهَا. فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَشَقَّةَ مُخَالَفَةِ الْهَوَى لَا رُخْصَةَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِيهَا الرُّخْصَةُ بِشَرْطِهَا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا؛ فَالْأَحْرَى بِمَنْ يُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَخَلَاصَ نَفْسِهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرَوِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ النَّدْبِ، وَتَارَةً تَكُونُ من باب الوجوب، والله أعلم.   1 هذا مبني على ما يقوله بعض الفقهاء من أن الأصل في هذه الأبواب المنع؛ ظنا منهم أن القرض والمساقاة من نوع الإجارة، وقد اختل منهما شرط صحتهما الذي هو العلم بالعوض والمعوض، وأن السلم من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده, الوارد في حقه النهي، وقد حقق ابن القيم نقلا عن أستاذه ابن تيمية أن القرض والمساقاة ليسا من الإجارة في شيء؛ إذ الإجارة ما يقصد منها العمل المعلوم المقدور على تسليمه, وأما القرض والمساقاة؛ فإنهما من قبيل المشاركة؛ هذا بماله، وهذا ببدنه، وكذلك السلم غير داخل في حديث نهي الإنسان عن بيع ما ليس عنده؛ إذ المراد من الحديث النهي عن بيع العين أو ما في الذمة مما لا يقدر على تسليمه. "خ". 2 كذا في "ط", وفي غيره: "الانفكاك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 فَصْلٌ: - وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: الِاحْتِيَاطُ فِي اجْتِنَابِ الرُّخَصِ فِي الْقِسْمِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الْتِبَاسٍ، وَفِيهِ تَنْشَأُ خُدَعُ الشَّيْطَانِ، وَمُحَاوَلَاتُ النَّفْسِ، وَالذَّهَابُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى عَلَى غَيْرِ مَهْيَع1، وَلِأَجْلِ هَذَا أَوْصَى شُيُوخُ الصُّوفِيَّةُ تَلَامِذَتَهُمْ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، وَجَعَلُوا مِنْ أُصُولِهِمُ الْأَخْذَ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ مَلِيحٌ, مِمَّا أَظْهَرُوا مِنْ فَوَائِدِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يَرْتَكِبُ مِنَ الرُّخَصِ مَا كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، أَوْ صَارَ شَرْعًا مَطْلُوبًا كَالتَّعَبُّدَاتِ، أَوْ كَانَ ابْتِدَائِيًّا كَالْمُسَاقَاةِ2 وَالْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ حَاجِيٌّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فاللَّجَأ إِلَى الْعَزِيمَةِ. - وَمِنْهَا: أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى الْأَدِلَّةِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى مَرَاتِبِهَا؛ فَقَوْلُهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ3: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ" 4؛ فَالرُّخَصُ الَّتِي هِيَ مَحْبُوبَةٌ مَا ثَبَتَ الطَّلَبُ فِيهَا، فَإِنَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ الَّتِي قَالَ فِي مِثْلِهَا رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصيام في السفر" 5، كان موافقا لقوله   1 طريق مهيع: واضحة بينة. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع". 2 لا داعي لهذا؛ فإنه من الإطلاق الذي قال فيه: إنه "لا تفريع يترتب عليه وإنما ذكر لمعرفة أنه إطلاق شرعي لا غير". "د". 3 في "م": "عليه السلام". 4 مضى تخريجه في "ص480". 5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر "، 4/ 183/ رقم 1946" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "6/ 308/ رقم 1864"- والبيهقي في "السنن" "4/ 242" من طريق آدم، وأبو داود في "الصوم، 2/ 796/ رقم 2407"، والدارمي في "الصوم، ص405"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 62" من طريق أبي الوليد، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" "رقم 1721" = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] . بعدما قَالَ فِي الْأُولَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 184] . وَفِي الثَّانِيَةِ: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النِّسَاءِ: 25] . فَلْيَتَفَطَّنِ النَّاظِرُ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّقَائِقِ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ فِي الْمَجَارِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَمِنْ تَتَبَّعَ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ تَبَيَّنَ لَهُ مَا ذُكِرَ أَتَمَّ بَيَانٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، هَذَا تَقْرِيرُ وَجْهِ النَّظَرِ فِي هَذَا الطَّرَفِ. فَصْلٌ: وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ لَيْسَ بِأُولَى مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا 1: إِنَّ أَصْلَ الْعَزِيمَةَ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا؛ فَأَصْلُ التَّرَخُّصِ قَطْعِيٌّ   = -ومن طريقه البيهقي في "السنن" "4/ 242"- والنسائي في "الصيام، 4/ 177/ رقم 2262"، وأحمد في "مسنده" "3/ 319" من طريق يحيى بن سعيد، وأيضا النسائي في "الصيام، 4/ 177/ رقم 2262" من طريق خالد بن الحارث بدون القصة، والدارمي في "الصوم، ص405" عن هشام بن القاسم، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 62" من طريق روح بن عبادة، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 14"، وعنه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم 1115"، والفريابي في "الصيام" "رقم 78، 79"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 254/ رقم 3017" عن غندر، كلهم عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد عن محمد بن عمرو عن جابر بن عبد الله مرفوعا. وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة كما تراه مبسوطا عند الفريابي في "الصيام" "ص69-76". 1 هذا معارض للوجه الأول من الوجوه الستة التي أقامها على ترجيح العزيمة، وهذا الوجه لا يفيد ترجح الرخصة، إنما يفيد -كما قال- أن العزيمة ليست بأولى؛ لأن غلبة الظن في وجود سبب الرخصة لا تجامع القطع في العزيمة الذي كان مناط الترجيح في ذلك الوجه. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 أَيْضًا، فَإِذَا وَجَدْنَا الْمَظِنَّةَ اعْتَبَرْنَاهَا كَانَتْ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَجْرَى الظَّنَّ فِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ مَجْرَى الْقَطْعِ، فَمَتَى ظُنَّ وُجُودُ سَبَبِ الْحُكْمِ اسْتَحَقَّ السَّبَبُ لِلِاعْتِبَارِ؛ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ الظَّنِّيَّةَ تَجْرِي فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مَجْرَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْقَاطِعَ إِذَا عَارَضَ الظَّنَّ سَقَطَ اعْتِبَارُ الظَّنِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي بَابِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِحُكْمِ الْآخَرِ جُمْلَةً، أَمَّا إِذَا كَانَا جَارِيَيْنِ مَجْرَى الْعَامِّ مَعَ الْخَاصِّ، أَوِ الْمُطْلَقِ مَعَ الْمُقَيَّدِ؛ فَلَا، وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الثَّانِي لَا مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعَزَائِمَ وَاقِعَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِشَرْطِ أَنْ لَا حَرَجَ، فَإِنْ كَانَ الْحَرَجُ؛ صَحَّ اعْتِبَارُهُ وَاقْتَضَى الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ قَدْ تَنْسَخُ حُكْمَ الْقَطْعِ السَّابِقِ، كَمَا إِذَا كَانَ الْأَصْلُ التَّحْرِيمَ فِي الشَّيْءِ، ثُمَّ طَرَأَ سَبَبٌ مُحَلِّلٌ ظَنِّيٌّ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الصَّائِدِ أَنَّ مَوْتَ الصَّيْدِ بِسَبَبِ ضَرْبِ الصَّائِدِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ أَوْ يُعِينَ عَلَى مَوْتِهِ غَيْرَهُ؛ فَالْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّنِّ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا؛ فَاسْتِصْحَابُهُ مَعَ هَذَا الْمُعَارِضِ الظَّنِّيِّ لَا يُمْكِنُ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ بَقَاءُ الْقَطْعِ بِالتَّحْرِيمِ مَعَ وُجُودِ الظَّنِّ هُنَا، بَلْ مَعَ الشَّكِّ؛ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ لَا تُبْقِي لِلْقَطْعِ الْمُتَقَدِّمِ حُكْمًا، وَغَلَبَاتُ الظُّنُونِ مُعْتَبِرَةٌ؛ فَلْتَكُنْ مُعْتَبِرَةً فِي التَّرَخُّصِ. وَالثَّانِي 1: إِنَّ أَصْلَ الرُّخْصَةِ وَإِنْ كَانَ جُزْئِيًّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَزِيمَتِهَا؛   1 معارض للوجه الثاني في ترجيح العزيمة، وهو أيضا إنما يفيد أنه لا ترجح للعزيمة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فذلك غير مؤثر وإلا لزم أن يقدح فِيمَا أُمِرَ بِهِ1 بِالتَّرَخُّصِ، بَلِ الْجُزْئِيُّ إِذَا كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّيٍّ؛ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ، أَوْ مِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ لِلْإِطْلَاقِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ صِحَّةُ تَخْصِيصِ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ؛ فَهَذَا أَوْلَى2، وَأَيْضًا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ الرُّجُوعَ إِلَى التَّخْصِيصِ وَهُوَ بِظَنِّيٍّ، دُونَ أَصْلِ الْعُمُومِ وَهُوَ قَطْعِيٌّ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَمَا لَا يَنْخَرِمُ الْكُلِّيُّ بِانْخِرَامِ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ -كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ- فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَنْخَرِمَ بِالرُّخَصِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ فَكَذَلِكَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ 3: إِنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] . وَسَائِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] . {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] . {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الْأَحْزَابِ: 38] .   1 في "ط": "منه". 2 لأنه تخصيص قطعي بقطعي، فإن ورود الرخصة مقطوع به أيضا، وقوله: "وأيضا" يعني بعد تسليم أن النظر في الرخصة إلى سببها، وهو موضع اجتهاد وظن لا قطع؛ فإن التخصيص كله يرجع إليه، ولو كان بظني في مقابلة عموم قطعي، وقد راعى في هذا معارضة كل ما سبق في الوجه الثاني تفصيلا. "د". 3 وهذا معارض للثالث، وهو أن الأدلة جاءت بالوقوف عند حد الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُجَرَّدًا، وَالصَّبْرِ عَلَى حُلْوِهِ وَمُرِّهِ وإن انتهض موجب العزيمة، أي: إن هذا يعارضه الأدلة الدالة على التيسير ورفع الحرج عن الأمة والامتنان به عليها، وهذا أيضا إنما يفيد أن العزيمة ليست بأولى كأصل دعواه، ثم أضرب عنه في آخر الدليل بما يقتضي ترجح الرخصة، ويكون فيه المدعى وزيادة. "د". وانظر في تفصيل ما ذكره المصنف هنا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 622". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 157] . وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الدِّينُ "الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ"1 لِمَا فِيهَا مِنَ التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ، وَأَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَسَائِلِ2 قَبْلَ هَذَا أَدِلَّةُ إِبَاحَةِ الرُّخَصِ، وَكُلُّهَا وَأَمْثَالُهَا جَارِيَةٌ هُنَا، وَالتَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الرُّخَصِ دُونَ بَعْضٍ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَشَقَّةَ إِذَا كَانَتْ قَطْعِيَّةً؛ فَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ الظَّنِّيَّةِ. فَإِنَّ الْقَطْعَ مَعَ الظَّنِّ مُسْتَوَيَانِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِي التَّعَارُضِ، وَلَا تَعَارُضَ فِي اعْتِبَارِهِمَا مَعًا ههنا، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ دُونَ الرُّخْصَةِ أَوْلَى، بَلْ قَدْ يُقَالُ: الْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ الْعَبْدِ مَعًا؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَاقِعَةٌ لَكِنْ عَلَى مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ، لَا أَنَّهَا سَاقِطَةٌ رَأْسًا بِخِلَافِ الْعَزِيمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ حَقَّ اللَّهِ مُجَرَّدًا، وَاللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا الْعِبَادَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى حَظِّ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَالرُّخْصَةُ أَحْرَى لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا. وَالرَّابِعُ 3: إِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ؛ فَالْأَخْذُ بِهَا مُطْلَقًا مُوَافَقَةٌ لقصده، بخلاف الطرف الآخر؛ فإنه   1 كما ورد في "مسند أحمد" "6/ 116، 233" من حديث عائشة مرفوعا بسند حسن، قاله ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 43"، وفيه: "وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"، ونحوه في "هدي الساري" "120"، وقد خرجتها في تعليقي على "الجواب الذي انضبط ... " للسخاوي "44/ 46"، وانظر تعليقي عليه "2/ 122". 2 في الأصل: "المسألة". 3 معارض للوجه الرابع، وقوله: "بخلاف الطرف الآخر" يقتضي ترجيح الرخصة؛ ففيه المدعى وزيادة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 مَظِنَّةُ التَّشْدِيدِ، وَالتَّكَلُّفِ، وَالتَّعَمُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْآيَاتِ [وَالْأَحَادِيثِ] 1؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] . وَقَوْلِهِ: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] . وَفِي الْتِزَامِ الْمَشَاقِّ تَكْلِيفٌ2 وَعُسْرٌ، وَفِيهَا3 رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: "لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا؛ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" 4، وَفِي الْحَدِيثِ: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" 5. وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّبَتُّلِ وَقَالَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي" 6 بِسَبَبِ مَنْ عَزَمَ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وقيام الليل، واعتزال النساء، إلى أنواع [من] الشِّدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأُمَمِ؛ فَخَفَّفَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 و3 سياق الأصل و"ط": "تكلف وعسر، وفيما روي". 4 مضى تخريجه "ص45"، وإسناده صحيح. 5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند" "1/ 386"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 201/ رقم 4608"، والطبراني في "الكبير" "10/ 216". 6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 9/ 104/ رقم 5036"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، 2/ 1020/ 1401" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ: حسبك، 9/ 94/ رقم 5052" دون لفظة: "من رغب ... "، وهي ثابتة من طريق سند البخاري؛ كما عند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 97". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وَقَدْ تَرَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّرَخُّصِ خَالِيًا1 وَبِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ؛ كَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ2، وَالصَّلَاةِ جَالِسًا حِينَ جُحِشَ شِقُّه3، وَكَانَ -حِينَ بَدَّنَ4- يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ؛ قَامَ فَقَرَأَ شَيْئًا ثُمَّ رَكَعَ5، وَجَرَى أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- ذَلِكَ الْمَجْرَى من غير عَتْب ولا لوم،   1 إنما ذكره؛ لأنه لو كان ترخصه بمرأى من الناس فقط لقيل: إن ذلك للتشريع؛ فلا يقوم حجة على أن العزيمة لا تفضل الرخصة. "د". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه، 2/ 569"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 480/ رقم 690" عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان، 8/ 3/ رقم 4275"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، 2/ 784/ رقم 1113" عن ابن عباس؛ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح في رمضان؛ فصام حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 689، وكتاب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، 3/ 584/ رقم 1114"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 308/ رقم 411" من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسا فصرع عنه، فجحش شقه، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد؛ فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا صلى جالسا, فصلوا جلوسا أجمعون ". 4 يقال: بَدَّنَ الرجل؛ بفتح الدال مشددة؛ إذا أسن، وتوضحها رواية في البخاري: "حتى أسن"، وفي رواية أخرى: "حتى إذا كبر" "خ". 5 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا صلى قاعدا ثم صح، 2/ 589/ رقم 1118, 1119، وكتاب التهجد، باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره، 3/ 33/ رقم 1148"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز النافلة قائما وقاعدا، 1/ 505/ رقم 731، 732" من حديث عائشة، رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 كَمَا قَالَ: "وَلَا يَعِيبُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ"، وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَالْخَامِسُ 1: أَنَّ تَرْكَ التَّرَخُّصِ مَعَ ظَنِّ سَبَبِهِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الِاسْتِبَاقِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَرَاهِيَةِ الْعَمَلِ، وَتَرْكِ الدَّوَامِ، وَذَلِكَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَهَّمَ التَّشْدِيدَ أَوْ طُلِبَ [بِهِ] أَوْ قِيلَ لَهُ فِيهِ؛ كَرِهَ ذَلِكَ وملَّه، وَرُبَّمَا عَجَزَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَصْبِرُ أَحْيَانًا وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَصْبِرُ فِي بَعْضٍ، وَالتَّكْلِيفُ دَائِمٌ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَتِحْ لَهُ مِنْ بَابِ التَّرَخُّصِ إِلَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ2، وَسُدَّ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ عَدَّ الشَّرِيعَةَ شَاقَّةً، وَرُبَّمَا سَاءَ ظَنُّهُ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَائِلُ رَفْعِ الْحَرَجِ، أَوِ انْقَطَعَ أَوْ عَرَضَ لَهُ بَعْضُ مَا يَكْرَهُ شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الْحُجُرَاتِ: 7] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [الْمَائِدَةِ: 87] . قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَشْدِيدًا على النفس3؛ فسمي   1 معارض للخامس. "د". 2 أي: تحقيقا أو بظن قوي يلحق به، كما سبق في ضابط المسألة السابعة. "د". 3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب في تفسير سورة المائدة، 5/ 255-256/ رقم 3054"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 520/ رقم 12350"، والطبراني في "المعجم الكبير" "11/ 350/ رقم 11981"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1817"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "3/ ق 24/ أ"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص198"، جميعهم من طريق الضحاك بن مخلد عن عثمان بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس؛ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 اعْتِدَاءً لِذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى   = أن رجلا أتى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رسول الله! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت علي اللحم؛ فأنزل الله، وذكر الآية. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب"، ثم قال: "ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا". قلت: إسناده ضعيف، فيه عثمان بن سعد، متكلم فيه من قبل حفظه، ومع ضعفه يكتب حديثه، وقد خولف كما قال الترمذي، وهذا البيان: أخرج ابن جرير في "التفسير" "10/ 514، 515، 520-521/ رقم 12337، 12338، 12340، 12351" من طريق يزيد بن زريع وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، ثلاثتهم عن خالد الحذاء عن عكرمة؛ قال: كان أناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء؛ فنزلت هذه الآية. وإسناده صحيح؛ إلا أنه مرسل. وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 192", ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "رقم 12341" عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة وذكر نحوه، وإسناده صحيح وهو مرسل. وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 771-ط المحققة"، وأبو داود في "مراسيله" "رقم 201" من طريقين عن خالد بن عبد الله عن حصين عن أبي مالك به. وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 514/ رقم 12336" من طريق آخر عن حصين به، وإسناده صحيح، وهو مرسل، أبو مالك هو غزوان الغفاري الكوفي، مشهور بكنيته، من الثالثة؛ كما في "التقريب" "5354". وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "3/ 139" لعبد بن حميد أيضا من مرسل أبي مالك. فلم يثبت في سبب النزول إلا المراسيل، نعم، ثبت في "صحيح البخاري" "رقم 4615، 5071، 5075"، و"صحيح مسلم" "رقم 1404" عن ابن مسعود؛ قال: كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس لنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 تَمَلُّوا" 1، "وَمَا خُيِّر عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ وَ] السَّلَامُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا "2، الْحَدِيثَ. وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهُوا؛ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ: "لَوْ تَأَخَّرَ الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ" 3 كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا،   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782"، والنسائي في "المجتبى" "4/ 151" من طريق معاذ بن هشام، وأحمد في "المسند" "6/ 128" من طريق عبد الوهاب، و"6/ 249" من طريق عبد الصمد، و"6/ 249-250"، وابن خزيمة في "صحيحه" "3/ 283/ رقم 2079" من طريق أبي عامر، والفريابي في "الصيام" "رقم 6" من طريق خالد بن الحارث، والطيالسي في "مسنده" "رقم 1475" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "4/ 210"- جميعهم عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به، وزادوا على المذكور: "وأحب الصلاة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دُووم عليه وإن قلت، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها"، هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم بعد المذكور: "وكان يقول: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل ". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب صفة -النبي صلى الله عليه وسلم- 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/ 524/ رقم 6126، وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزير والأدب، 12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب مباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام، 4/ 1813/ رقم 2327" من حديث عائشة, رضي الله عنها. وما بين المعقوفتين سقط من "م". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، 4/ 205-206/ رقم 1965، وكتاب الحدود، باب كم التعزير والأدب، 12/ 175-176/ رقم 6848، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 225/ رقم 7242، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 275/ رقم 7299"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصل في الصوم، 2/ 774/ رقم 1103" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وَقَالَ: "لَوْ مُدَّ لَنَا فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ" 1، وَقَدْ قَالَ [عَبْدُ اللَّهِ بْنُ] عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. وَفِي الْحَدِيثِ: هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؟ خذوا من العمل ما تطيقون" 3 الحديث؛   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 224-225/ رقم 7241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 775-776/ رقم 1104"، وأحمد في "المسند" "3/ 124، 253"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 82"، والفريابي في "الصيام" "28"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 282" من حديث أنس, رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، 4/ 217-218/ رقم 1975"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813-814/ رقم 11159"، والمذكور لفظ البخاري. ولمسلم في رواية: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من أهلي ومالي"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله, صلى الله عليه وسلم". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/ 218". قال ناسخ الأصل ما صورته: "الحولاء بالمد: اسمها، وتويت أبوها بتاءين فوقيتين مصغر، ابن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي من رهط خديجة, رضي الله عنها. وقوله عليه السلام: "لا تنام الليل" إنكار للفعل، وقد رواه مالك بلفظ: فكره ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانظره. ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 فَأَنْكَرَ فِعْلَهَا كَمَا تَرَى. وَحَدِيثُ إِمَامَةِ مُعَاذٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفتَّان أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ " 1، وَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ" 2 الحديث. وحديث الحبل المربوط بين ساريتين، [إذ] سَأَلَ عَنْهُ عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ وَ] 3 السَّلَامُ، قَالُوا: حبل لزينب، تصلي, فإذا كسلت أو فترت؛ أَمْسَكَتْ بِهِ. فَقَالَ: "حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فإذا كسل أو فتر؛ قعد" 4.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، 2/ 192/ رقم 700، 701، وباب من شكا إمامه إذا طول، 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 10/ 515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، 2/ 197-198/ رقم 702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، 1/ 340/ رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري, رضي الله عنه. 3 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1150"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 784"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/ 218"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 200/ رقم 1180 و1181" من حديث أنس, رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ؛ فَتَرَكَ الرُّخْصَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ 1 فِي السَّفَرِ" 2، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ ثَبَتَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ أَوْلَى، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْلَى؛ فَالْعَزِيمَةُ لَيْسَتْ بِأَوْلَى3. وَالسَّادِسُ 4: إِنَّ مَرَاسِمَ الشَّرِيعَةِ إِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةً لِلْهَوَى، كَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهَا أَيْضًا إِنَّمَا أَتَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ، وَالْهَوَى لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَرَاسِمِ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا؛ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا نَصَبَ لَنَا الشَّرْعُ سَبَبًا لِرُخْصَةٍ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ, فَأَعْمَلْنَا مقتضاه وعلمنا بِالرُّخْصَةِ؛ فَأَيْنَ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي هَذَا؟ وَكَمَا أَنَّ5 اتِّبَاعَ الرُّخَصِ يَحْدُثُ بِسَبَبِهِ الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، كَذَلِكَ اتِّبَاعُ التَّشْدِيدَاتِ وَتَرْكُ الْأَخْذِ بِالرُّخَصِ يَحْدُثُ بِسَبَبِهِ الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَالْمُتَّبِعُ لِلْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ سَوَاءً، فإن كانت غلبة الظن في العزائم   1 أخذه هنا على عمومه ليصح دليلا هنا، وفيما سبق حمله على أن المراد منه ما كان فيه المشقة الفادحة؛ فكان بذلك مناسبا للطرفين "د". 2 مضى تخريجه "ص517". 3 سيقول في الوجه السادس: "ليس أحدهما بأولى من الآخر" بناء على هذا الوجه من المعارضة. "د". 4 هذا معارض لما سبق في السادس. "د". 5 يعارض به ما تقدم له في الوجه الخامس من أدلة ترجيح العزيمة؛ إلا أنه صرح فيه بالوجهين المتعارضين، كأنه يقول: كما يلزمنا هذا يلزمكم مثله عند التشدد بالأخذ بالعزائم، بكل منهما يحدث بسببه ما ذكرتم؛ فما هو جوابكم فهو جوابنا، وأما قوله: "وليس أحدهما بأولى من الآخر"؛ فهو عين الدعوى فرعها على ما ذكره من الاشتراك في الإلزام، وكذا قوله: "والمتبع ... إلخ"؛ فلم يبق إلا دعوى مخالفة الإجماع في التفريق بينهما؛ فأين هذا الإجماع؟ وعلى فرض وجوده ما فائدة هذه المباحث، وهل تعد حينئذ من مُلَح العلم أم تنزل عن ذلك؟ "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 معتبرة؛ فكذلك فِي الرُّخَصِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحْرَى مِنَ الْآخَرِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الطَّرَفِ. فَصْلٌ: 1 وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ فِي تَرْكِ التَّرَخُّصِ إِذَا تَعَيَّنَ سَبَبُهُ2 بِغَلَبَةِ ظَنٍّ أَوْ قَطْعٍ، وَقَدْ يَكُونُ التَّرَخُّصُ أَوْلَى فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَلَبَةُ ظَنٍّ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَنْعِ التَّرَخُّصِ. [وَأَيْضًا] 3؛ فَتَكُونُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَخْذِ بِالتَّخْفِيفِ مَحْمُولَةً عَلَى عُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضِ الْمَوَارِدِ دُونَ بَعْضٍ، وَمَجَالُ النَّظَرِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ صَاحِبَ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا جَعَلَ الْمُعْتَبَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي هِيَ الْمَشَقَّةُ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْمَظِنَّةُ، وَصَاحِبَ الطَّرِيقِ الثَّانِي إِنَّمَا جَعَلَ الْمُعْتَبَرَ الْمَظِنَّةَ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ؛ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ؛ فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَتِ4 الْعِلَّةُ غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَظِنَّةٌ مُنْضَبِطَةٌ؛ فَالْمَحَلُّ مَحَلُّ اشْتِبَاهٍ، وَكَثِيرًا مَا يُرْجَعُ هُنَا إِلَى أَصْلِ الِاحْتِيَاطِ؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مُعْتَبَرٌ حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ في موضعه.   1 يقابل الفصل الأول، يذكر فيه ما ينبني على أن أحدهما ليس بأولى من الآخر كما بين في ذلك ما ينبني على ترجح العزيمة. "د". 2 أي: الترخص، يعني: ولم توجد الحكمة. "د". 3 مقابل لقوله هناك: "وَمِنْهَا أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى الْأَدِلَّةِ فِي رَفْعِ الحرج على مراتبها". "د". وما بين المعقوفتين سقط من "م". 4 أي: فإذا كانت المظنة منضبطة كالسفر؛ فالأمر ظاهر، وإذا كانت غير منضبطة، والعلة التي هي المشقة غير منضبطة أيضا كالمرض؛ فالواجب الاحتياط على كلا الطريقين، فلا يدخل تحت النظرين السابقين، وهو ظاهر؛ لأنه لم يجعل هذا موضع النزاع في الأولوية، بل لم يدخله في أصل موضوع الرخصة في تقريراته السابقة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: الْحَاصِلُ مِمَّا تَقَدَّمَ إِيرَادُ أَدِلَّةٍ مُتَعَارِضَةٍ، وَذَلِكَ وَضْعُ إِشْكَالٍ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَهَلْ لَهُ مَخْلَصٌ أَمْ لَا؟ قِيلَ: نَعَمْ، مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوكَلَ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ؛ فَإِنَّمَا أَوْرَدَ هُنَا اسْتِدْلَالَ كُلِّ فَرِيقٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ تَرْجِيحٌ، فَيَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ، حَتَّى يَتَرَجَّحَ لَهُ أَحَدُهُمَا مُطْلَقًا، أَوْ يَتَرَجَّحَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَالْآخِرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَوْ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" فِي تَقْرِيرِ أَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ وَأَحْكَامِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تُؤُمِّلَ الْمَوْضِعَانِ؛ ظَهَرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَجْهُ الصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: كُلُّ أَمْرٍ شَاقٍّ جَعَلَ الشَّارِعُ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ مَخْرَجًا؛ فَقَصْدُ الشَّارِعِ بِذَلِكَ الْمَخْرَجِ أَنْ يَتَحَرَّاهُ الْمُكَلَّفُ إِنْ شَاءَ، كَمَا جَاءَ فِي الرُّخَصِ شَرْعِيَّةُ الْمَخْرَجِ مِنَ الْمَشَاقِّ، فَإِذَا تَوَخَّى الْمُكَلَّفُ الْخُرُوجَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ؛ كَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ الشَّارِعِ، آخِذًا بِالْحَزْمِ فِي أَمْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ؛ وَقَعَ1 في   1 مثال ذلك أن الشارع جعل للزوج أن ينفس كربته الشديدة من الزوجة بتطليقها واحدة؛ فيؤدبها بهذا الإزعاج الشديد، حتى إذا عرف توبتها وراجع نفسه في أن يتحملها أكثر مما كان حفظا لمصلحته أيضا؛ راجعها، فإذا اشتد كربه ثانيا؛ كان له أن يطلق أيضا لذلك، لكنه إذا خالف الطريق الشرعي فطلق ثلاثا ابتداء؛ فقد خالف ما رسمه له الشرع، وفقد المخرج من ورطته؛ فلا مخلص له منها، وسيأتي له أمثلة كثيرة. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 مَحْظُورَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُخَالَفَتُهُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، كَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ فِي وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ أَوْ مُبَاحٍ. وَالثَّانِي: سَدُّ أَبْوَابِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِ، وَفَقْدُ الْمَخْرَجِ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الشَّاقِّ، الَّذِي طَلَبَ الْخُرُوجَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ جَاءَ بِالشَّرِيعَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَكَانَتِ الْأُمُورُ الْمَشْرُوعَةُ ابْتِدَاءً قَدْ يَعُوقُ عَنْهَا عَوَائِقُ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْمَشَاقِّ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ؛ شَرَعَ لَهُ أَيْضًا تَوَابِعَ وَتَكْمِيلَاتٍ وَمَخَارِجَ، بِهَا يَنْزَاحُ عَنِ الْمُكَلَّفِ تِلْكَ الْمَشَقَّاتُ، حَتَّى يَصِيرَ التَّكْلِيفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَادِيًّا وَمُتَيَسِّرًا، وَلَوْلَا أَنَّهَا كَذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْأُمُورِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي التَّكْلِيفَاتِ أَدْرَكَ هَذَا بِأَيْسَرِ تَأْمُّلٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِ التَّخْفِيفِ مَأْمُورٌ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْ وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ مَا يُطْلَبُ مِنَ التَّخْفِيفِ حَاصِلٌ فِيهِ حَالًا وَمَآلًا عَلَى الْقَطْعِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ؛ لَمْ يَكُنْ مَا طَلَبَ مِنَ التَّخْفِيفِ مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا مَظْنُونًا، لَا حَالًا وَلَا مَآلًا، لَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَكَانَ مَشْرُوعًا أَيْضًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ؛ فَثَبَتَ أَنَّ طَالِبَ التَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّرْعِ لَا مَخْرَجَ لَهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ هَذَا الطَّالِبَ إِذَا طَلَبَ التَّخْفِيفَ مِنَ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ؛ فَيَكْفِيهِ فِي حُصُولِ التَّخْفِيفِ طَلَبُهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى ذَلِكَ يُمْنٌ وَبَرَكَةٌ، كَمَا أَنَّ مَنْ طَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ؛ يَكْفِيهِ فِي عَدَمِ حُصُولِ مَقْصُودِهِ شُؤْمُ قَصْدِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاقِ: 2، 3] ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَا يَتَّقِي اللَّهَ لَا يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 خرَّج إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ؛ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ الْجَهْدَ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْهَبْ فَاصْبِرْ"، وَكَانَ ابْنُهُ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَأَفْلَتَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَأَتَاهُ بِغَنِيمَةٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَيِّبَةٌ ". فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} الْآيَةَ1 [الطَّلَاقِ: 2] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا. فَقَالَ: "إِنْ عَمَّكَ عَصَى اللَّهَ فَأَنْدَمَهُ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا". فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحَلَّهَا لَهُ رَجُلٌ؟ فَقَالَ: "مَنْ يُخَادِعْ يَخْدَعْهُ اللَّهُ"2. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطَّلَاقِ: 2] ؛ قَالَ: "مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ"3.   1 أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 492"، والواحدي في "أسباب النزول" "464" من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله به، وإسناده واهٍ جدا، فيه عبيد بن كثير تركه الأزدي، وعباد بن يعقوب رافضي، أفاده الذهبي في "التخليص". وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 106-107"، وابن مردويه في "تفسيره" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 52"- من طريق أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود به، وإسناده منقطع، وفيه بعض المجاهيل. وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" "12/ 141/ أ" بسند ضعيف جدا أيضا فيه الكلبي متروك، وأبو صالح ضعيف؛ فالحديث ضعيف. وانظر: "الكافي الشاف" "4/ 445- مع الكشاف"، و"زاد المسير" "8/ 290"، و"الدر المنثور" "6/ 232"، و"معالم التنزيل" "4/ 357"، و"الفتح السماوي" "3/ 1046". 2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 11"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 397/ رقم 11352"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1065"، وابن حزم في "المحلى" "10/ 181"، وابن بطة في "إبطال الحيل" "ص48"، ولفظ: "فأبده" بدل من "فأندمه". 3 نقله عن الربيع, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/ 291-292". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ؛ يُنْجِهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ1. وَقِيلَ: من يتق الحرام2 وَالْمَعْصِيَةَ؛ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الْحَلَالِ. وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النِّسَاءِ: 5] ، وَرَجُلٌ دَايَنَ بِدَيْنٍ وَلَمْ يُشهِد، وَرَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَا يُطَلِّقُهَا" 3، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بالإشهاد على البيع، وأن   1 ذكره أيضا عن ابن عباس, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/ 291". وقال ابن الجوزي عقبه: "والصحيح أن هذا عامّ؛ فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجا من كل ما يضيق عليه، ومن لا يتقي يقع في كل شدة". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "الله والمعصية". 3 أخرجه ابن شاذان في "المشيخة الصغرى" "ق 57/ أ" -كما في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1805"- وابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 344"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 302", والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 146" من طريق المثنى بن معاذ العنبري عن أبيه، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى المكتب" "رقم 29" من طريق داود بن إبراهيم الواسطي، والطحاوي في "المشكل" "3/ 216"، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى المُكْتِب" "ص93" من طريق عمرو بن حكام، وأبو نعيم من طريق عثمان بن عمر، أربعتهم عن شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا. قال أبو نعيم عقبه: "ورواه غندر وروح موقوفا"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى". ورجح شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1805" رواية الرفع، وقال: "وقد وجدت له طريقا أخرى عن الشعبي، رواه ابن عساكر، 8/ 182/ 1-2, عن إسحاق بن وهب -وهو بخاري- عن الصلت بن بهرام عن الشعبي به"، قال: "لكن إسحاق هذا ذكره الخليلي في "الإرشاد" وقال: "يروى عنه ما يعرف وينكر، ونسخ رواها ضعفاء"" ا. هـ. قلت: عمرو بن الحكام ضعيف، وهو ممن رفعه، والآخرون موثقون، ومن وقفه أثبت في شعبة ممن رفعه، ولا سيما أن منهم غندرا ويحيى بن سعيد -كما عند ابن أبي شيبة- وروح، والله أعلم. قال "خ" هنا: "وهو على تقدير ثبوته محمول على الدعاء على الثلاثة الملوح إليهم في الحديث؛ لأنه هو الذي ابتلى نفسه بمعاشرة تلك الزوجة، وقصر في عدم الإشهاد على المدين، وألقى بماله في ذمة خربة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 لَا نُؤْتِي السُّفَهَاءَ أَمْوَالَنَا حِفْظًا لَهَا، وَعَلَّمَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ شُرِّعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ كَانَ التَّارِكُ لِمَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَدْ يَقَعُ فِيمَا يَكْرَهُ، وَلَمْ يُجَبْ دُعَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ. وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ تَدُلُّ بِظَوَاهِرِهَا وَمَفْهُومَاتِهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا؛ فَتَلَا: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... } حَتَّى بَلَغَ: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطَّلَاقِ: 1-2] ، وَأَنْتَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ، فلا1 أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا2. وَخَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْبَلَاغَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ رَجُلًا أَتَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امرأتي ثماني تَطْلِيقَاتٍ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَمَاذَا قِيلَ لَكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: إِنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنِّي. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَدَقُوا، مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ لَبَّسَ3 عَلَى نَفْسِهِ لَبْسًا؛ جَعَلْنَا لَبْسَهُ بِهِ، لَا تُلَبِّسُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَنَتَحَمَّلُهُ عَنْكُمْ، هُوَ كما تقولون4.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "لم". 2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 396/ رقم 11346"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1064"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 337". 3 أي: خلط. 4 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 605/ رقم 1570- رواية أبي مصعب، و2/ 550/ رقم 2- رواية يحيى" بلغه أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود "وذكره". ووصله عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 394-395/ رقم 11342"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 14"، وإسحاق بن راهوية -كما في "المطالب العالية"- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 335"، وابن حزم في "المحلى" "10/ 172". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وَتَأَمَّلْ حِكَايَةَ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ1 حِينَ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ شَهْوَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ2؛ فَرُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْحَجَرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ طَالِبَ الْمَخْرَجِ مِنْ وَجْهِهِ طَالِبٌ لِمَا ضَمِنَ لَهُ الشَّارِعُ النُّجْحَ فِيهِ، وَطَالِبَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ قَاصِدٌ لِتَعَدِّي طَرِيقِ الْمَخْرَجِ؛ فَكَانَ قَاصِدًا لِضِدِّ مَا طُلِبَ، مِنْ حَيْثُ صَدَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ ضِدِّ الْمَقْصُودِ إِلَّا ضِدُّ الْمَقْصُودِ؛ فَهُوَ إِذًا طَالِبٌ لِعَدَمِ الْمَخْرَجِ، وَهَذَا مُقْتَضَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورُ فِيهَا الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] .   1 اسمه طيفور بن عيسى، شيخ الصوفية، له نبأ عجيب وحال غريب، وهو من كبار مشايخ "الرسالة"، وما أحلى قوله: "لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف هو عند الأمر والنهي، وحفظ حدود الشريعة". وقد نقلوا عن أبي يزيد أشياء الشأن في صحتها عنه؛ منها: "سبحاني"، "وما في الجبة إلا الله"، "أما النار لأستندن إليها غدا، وأقول: اجعلني لأهلها فداء، أو لأبلغنها"، "ما الجنة إلا لعبة صبيان"، ومن الناس من يصحح هذا عنه، ويقول: قاله في حال سكره، ونتبرأ إلى الله من كل من تعمد مخالفة الكتاب والسنة، ومات أبو يزيد سنة إحدى وستين ومائتين، قاله الذهبي في "الميزان" "2/ 346-347". وانظر لزاما: "البدر الطالع" للشوكاني "2/ 37 وما بعدها". 2 كذلك يلزم الصوفي أن يزن خواطره وأعماله بميزان الشريعة؛ كما قال أبو سليمان الداراني: "تعرض علي النكتة من نكت القوم؛ فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة"، وقال الإمام الجنيد: "مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث؛ لا يقتدى به في طريقنا هذا"؛ فإلى أي كتاب أم آية سنة يستند بعض الخارجين في مظاهر الصوفية حيث يوالون من حاد الله ورسوله، ويحثون أتباعهم الذين انخدعوا لهم بالله أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الباطل بعد أن اشتراها الله لتبذل في سبيل طاعته ورضوانه؟! "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 15] . وَقَوْلِهِ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ 1 إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 9] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهِ} [الطَّلَاقِ: 1] . وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ2 أَجْرًا عَظِيمًا} [الْفَتْحِ: 10] . {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فُصِّلَتْ: 46] . إِلَى سِوَى ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَجَمِيعُهُ مُحَقَّقٌ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ عَلَى طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ الْمَشْرُوعِ سَاعٍ فِي ضِدِّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالرَّابِعُ: إِنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا أَحْوَالُ الْعَبْدِ لَا يَعْرِفُهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا إِلَّا خَالِقُهَا وَوَاضِعُهَا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ بِهَا عِلْمٌ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَالَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنَ الَّذِي يَبْدُو لَهُ؛ فَقَدْ يَكُونُ سَاعِيًا فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا، أَوْ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا عَاجِلًا لَا آجِلًا، أَوْ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا نَاقِصَةً لَا كَامِلَةً، أَوْ يَكُونُ فِيهَا مَفْسَدَةٌ تُرْبِي فِي الْمُوَازَنَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ؛ فَلَا يَقُومُ خَيْرُهَا بَشَرِّهَا، وَكَمْ مِنْ مُدَبِّرٍ أَمْرًا لَا يَتِمُّ لَهُ عَلَى كَمَالِهِ أَصْلًا، وَلَا يَجْنِي مِنْهُ ثَمَرَةً أَصْلًا، وَهُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، فَلِهَذَا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛   1 هكذا قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف والياء مضمومة، وقرأها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء بغير ألف. انظر: "السبعة" "141"، و"التذكرة" "2/ 248". 2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: "فسنؤتيه" بالنون وروى أبان عن عاصم بالنون، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {فَسَيُؤْتِيهِ} بالياء، وروى عبيد عن هارون عن أبي عمرو: بالنون، وعن عبيد أيضا بالياء، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "603". وانظر: "التذكرة في القراءات الثمان" "2/ 560"، و"إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر" "2/ 482". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 فَالرُّجُوعُ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّارِعُ رُجُوعٌ إِلَى وَجْهِ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْكَمَالِ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ إِلَى مَا خَالَفَهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالْجُمْلَةِ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَلَكِنْ سِيقَ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَوْضِعِ فِي طَلَبِ التَّرَخُّصِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ، أَوْ طَلَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ عَزِيمَةً مَا لَا تَخْفِيفَ فِيهِ وَلَا تَرْخِيصَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ فِي هَذَا النَّوْعِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ تَرْخِيصٌ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ تَرْخِيصٌ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُتَعَدَّى. وَأَيْضًا؛ فَمِنَ الْأَحْوَالِ اللَّاحِقَةِ لِلْعَبْدِ مَا يَعُدُّهُ مَشَقَّةً وَلَا يَكُونُ فِي الشَّرْعِ كَذَلِكَ؛ فَرُبَّمَا تَرَخَّصَ بِغَيْرِ سَبَبٍ شرعي، ولهذا الأصل فوائد كثير فِي الْفِقْهِيَّاتِ؛ كَقَاعِدَةِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ، وَغَيْرِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا. الْمَسْأَلَةُ التاسعة: سباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ولا مقصودة الرَّفْعُ1 لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعِ انْحِتَامِ الْعَزَائِمِ التَّحْرِيمِيَّةِ أَوِ الْوُجُوبِيَّةِ؛ فَهِيَ إِمَّا مَوَانِعُ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ التَّأْثِيمِ2، وَإِمَّا أَسْبَابٌ3 لِرَفْعِ الْجُنَاحِ أَوْ إِبَاحَةِ4 مَا لَيْسَ بِمُبَاحٍ؛ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ إِنَّمَا هِيَ مَوَانِعُ5 لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِ الْعَزَائِمِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْمَوَانِعِ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةِ الْحُصُولِ وَلَا الزَّوَالِ لِلشَّارِعِ، وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ إِيقَاعَهَا رَفَعًا لِحُكْمِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ أَوِ الْمُوجِبِ؛ فَفِعْلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجْرِي فِيهِ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الشُّرُوطِ6 فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ إلى أسباب الرخص، من غير فرق.   1 أي: الزوال. "ماء". 2 في "ط": "فهي موانع إما للتحريم، وإما موانع للتأثيم". 3 تنويع في العبارة، لا أن هذين قسمان يقابلان سابقهما. "د". 4 أشمل مما قبله؛ إذ يدخل فيه الترخص في المندوبات. "د". 5 في الأصل: "موانع إما". 6في المسألة الثامنة منها. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إِذَا فَرَّعْنَا1 عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ مُبَاحَةٌ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ؛ صَارَتِ الْعَزِيمَةُ مَعَهَا مِنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ؛ إِذْ صَارَ هَذَا الْمُتَرَخِّصُ يُقَالُ لَهُ: إِنْ شِئْتَ فَافْعَلِ الْعَزِيمَةَ، وَإِنْ شِئْتَ فَاعْمَلْ بِمُقْتَضَى الرُّخْصَةِ، وَمَا عَمِلَ مِنْهُمَا؛ فَهُوَ الَّذِي وَاقِعٌ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ، عَلَى وِزَانِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ فَتَخْرُجُ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً. وَأَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِيهَا بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَلَيْسَتِ الرُّخْصَةُ مَعَهَا مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ مَوْجُودٌ مَعَ الْوَاجِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُعَيَّنِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ، فَإِذَا فَعَلَ الْعَزِيمَةَ؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَرْقٌ, لَكِنَّ الْعُذْرَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنِ التَّارِكِ لَهَا إِنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الِانْتِقَالَ إِلَى الرُّخْصَةِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ قَبْلُ أَنَّ الشَّارِعَ إِنْ كَانَ قَاصِدًا لِوُقُوعِ الرُّخْصَةِ؛ فَذَلِكَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ وُقُوعُ الْعَزِيمَةِ. وَالَّذِي يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْحَاكِمُ إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ فِي إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيِّنَتَانِ، إِحْدَاهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَادِلَةٌ2، وَالْأُخْرَى غَيْرُ عَادِلَةٍ2، فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] .   1 هذا هو بسط ما أجمله في آخر المسألة الرابعة ووعد به هناك. "د". 2 في "ط ": "عدلة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . فَإِنْ حَكَمَ بِأَهْلِ الْعَدَالَةِ؛ أَصَابَ أَصْلَ الْعَزِيمَةِ وَأُجِرَ أَجْرَيْنِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْأُخْرَى؛ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَهُ أَجْرٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَيَنْفُذُ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُتَحَاكِمِينَ، كَمَا يَنْفُذُ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ عَلَى الْمُتَرَخِّصِينَ1، فَكَمَا لَا يُقَالُ فِي الْحَاكِمِ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْحُكْمِ بِمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ؛ كَذَلِكَ لَا يُقَالُ هُنَا: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ مُطْلَقًا بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ شَرْعَ الرُّخَصِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي؟ وَقَدْ ثَبَتَتْ قَاعِدَةُ رَفْعِ الْحَرَجِ مُطْلَقًا2 بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] . وَجَاءَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الرُّخْصَةِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] . قِيلَ: كَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ التَّنَاسُلُ وَهُوَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ اتِّخَاذِ السَّكَنِ وَنَحْوِهِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الرُّومِ: 21] . وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الْأَعْرَافِ: 189] . وَأَيْضًا3؛ فَإِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ نَفْسِهِ عَنِ الْمُتَرَخِّصِ تسهيل وتيسير عليه، مع   1 في "ط": "المترخص". 2 أي: بقطع النظر عن خصوص محل الرخصة، ومعنى الجواب أنه لا يلزم من ورود الآية دالة على الحكم استقلالا أن يكون مقصودا بالقصد الأول؛ فقد جاءت الآية بفائدة النكاح استقلالا وهو السكن، ومع ذلك؛ فالقصد الأول النسل، فكذا هنا. "د". 3 عود إلى السؤال وترقّ عليه؛ أي: إنه لا يلزم من وجود رفع الحرج في الرخصة أن تكون مقصودة للشارع بالقصد الثاني لا بالأول، بدليل أنه ثبت رفع الحرج أيضا في بعض المسائل التي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 كَوْنِ الصَّوْمِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ؛ فَهُوَ تَيْسِيرٌ أَيْضًا وَرَفْعُ حَرَجٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ فِي الْكُلِّيَّاتِ؛ فَلَا تَجِدُ كُلِّيَّةً شَرْعِيَّةً مُكَلَّفًا بِهَا وَفِيهَا حَرَجٌ كُلِّيٌّ أَوْ أَكْثَرِيٌّ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] . وَنَحْنُ نَجِدُ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ النَّوَادِرِ حَرَجًا وَمَشَقَّةً، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ رُخْصَةً تَعْرِيفًا بِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ إِنَّمَا هُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْكُلِّيَّاتِ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي مَحَالِّ الرُّخَصِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّاتٍ، وَإِنَّمَا هِيَ جُزْئِيَّاتٌ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوِ الرُّخْصَةِ. فَإِذًا الْعَزِيمَةُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ كُلِّيَّةً هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَالْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ عَارِضٌ لِتِلْكَ الْكُلِّيَّةِ، إِنْ قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالرُّخْصَةِ؛ فَمِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا اعْتَبَرَنَا الْعَزَائِمَ من الرُّخَصِ؛ وَجَدْنَا الْعَزَائِمَ مُطَّرِدَةً مَعَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ، وَالرُّخَصُ جَارِيَةٌ عِنْدَ انْخِرَاقِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَظَاهِرٌ، فَإِنَّا وَجَدْنَا الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى تمامها في أوقاتها،   = فيها الرخصة والسهولة -في نفس أصل عزيمتها؛ كصيام أيام معدودات، ولم تكن شهورا مثلا- ففي أصل العزيمة هنا أيضا تيسير ورفع حرج، وهي مقصودة بالقصد الأول؛ فلا يلزم من حصول رفع الحرج في الرخصة أن تكون بالقصد الثاني، ثم ترقى عليه ثانيا قال: "وأيضا ... إلخ"؛ أي: إن رفع الحرج موجود في سائر الكليات التي هي عزائم، ومحل الجواب عن الجميع قوله: "فإذا العزيمة ... إلخ"؛ فهو يحسم الاعتراض الأول أيضا، وقوله: "ونحن نجد في بعض ... إلخ" تمهيد للجواب, ولا يخفى أن كلا من هذين الترقيين تفصيل لما دخل تحت الإطلاق في أصل الإشكال؛ فالترقي من جهة تعيين مكان الاعتراض بعد إجماله. "د". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وَبِالصِّيَامِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ أَوَّلًا، وَبِالطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ، عَلَى [حَسَبِ] مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ1: مِنَ الصِّحَّةِ، وَوُجُودِ الْعَقْلِ2، وَالْإِقَامَةِ فِي الْحَضَرِ، وَوُجُودِ الْمَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ كَالْأَمْرِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مُطْلَقًا أَوْ لِلصَّلَاةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهَا، إِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَنُهِيَ عَنْهُ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَتَأَتَّى بِهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ، وَوُجُودُ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ عَلَى الْعُمُومِ التَّامِّ أَوِ الْأَكْثَرِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَعْلُومٌ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ عُلِمَ الْأَوَّلُ؛ فَالْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَعَدَمُ الْمَاءِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَأْكُولِ، مُرَخِّصٌ لِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ، أَوْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا مَرَّ3 مِنَ الْمَسَائِلِ، وَلِمَعْنَاهُ تَقْرِيرٌ آخَرُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" بِحَمْدِ اللَّهِ. إِلَّا أَنَّ انْخِرَاقَ الْعَوَائِدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ، فَالْعَامُّ مَا تَقَدَّمَ، وَالْخَاصُّ كَانْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ لِلْأَوْلِيَاءِ إِذَا عَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا؛ فَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى حُكْمِ الرُّخْصَةِ؛ كَانْقِلَابِ الْمَاءِ لَبَنًا، وَالرَّمْلِ سَويقا، وَالْحَجَرِ ذَهَبًا، وَإِنْزَالِ الطَّعَامِ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْأَرْضِ4؛ فَيَتَنَاوَلُ الْمَفْعُولُ لَهُ ذَلِكَ   1 في "ط": "العادات". 2 غير ظاهر هنا لأن الكلام في أمور إذا وجدت كانت العزيمة، وإذا فقدت كانت الرخصة، وليس منها العقل؛ لأنه شرط مطلق التكليف، ولذلك لم يذكر مقابلة فيما بعد مع أنه ذكر مقابل غيره. "د". 3 في "ط": "فيما تقدم". 4 أراد الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أن يضع بين الكرامة والمعجزة فاصلا، فقال: إن مبلغ الكرامة إجابة دعوة أو موافاة ماء من غير توقع المياه ونحو ذلك، وجرى على أثره الإمام القشيري؛ فقال: "لا تنتهي الكرامة إلى خلق ولد بغير والد أو قلب جماد حيوانا"، وارتضاه تاج الدين ابن السبكي، وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: إنه أعدل المذاهب، يعني: إنه ما بين مذهب المعتزلة المنكرين لها جملة ومذهب جمهور أهل السنة المجوزين لها بإطلاق؛ إلا ما دل النص على اختصاصه بالرسول لمعجزة القرآن. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ لَهُ رُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةٌ، وَالرُّخْصَةُ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا كَانَ الْأَخْذُ بِهَا مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَقْصِدَهَا وَلَا يَتَسَبَّبَ فِيهَا لِيَنَالَ تَخْفِيفَهَا؛ كَانَ الْأَمْرُ فِيهَا كَذَلِكَ؛ إِذْ كَانَ مُخَالَفَةُ هَذَا الشَّرْطِ مُخَالَفَةً لِقَصْدِ الشَّارِعِ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ1 أَنْ يَتَرَخَّصَ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ فِي التَّشْرِيعِ أَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ إِنْ وَقَعَ تَوَجَّهَ الْإِذْنُ فِي مُسَبِّبِهِ كَمَا مر؛ فههنا أَوْلَى؛ لِأَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لَمْ تُوضَعْ لِرَفْعِ أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِأَمْرٍ آخَرَ؛ فَكَانَ الْقَصْدُ إِلَى التَّخْفِيفِ مِنْ جِهَتِهَا قَصْدًا إِلَيْهَا لَا إِلَى رَبِّهَا، وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْمَقَاصِدِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ "الْمَقَاصِدِ" أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ، لَا خَاصَّةٌ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ بَعْضٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِإِظْهَارِ الْخَارِقِ كَرَامَةً وَمُعْجِزَةً؛ لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْنًى شَرْعِيًّا مُبَرَّأً مِنْ طَلَبِهِ حَظَّ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْصِدَ إِظْهَارَ الْكَرَامَةِ الْخَارِقَةِ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ لَا لِحَظِّ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْقِسْمُ خَارِجًا عن حكم الرخصة بل2 يَكُونَ بِحَسَبِ الْقَصْدِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَتْ كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ الرَّاقِينَ عَنِ الْأَحْوَالِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا؛ فَالشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ بِلَا إِشْكَالٍ، وَلَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالْعُمُومِ، بَلْ هُوَ فِي الْخُصُوصِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: الْوَلِيُّ إِذَا انْخَرَقَتْ لَهُ الْعَادَةُ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْعَادَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الَّذِي هُيِّئَ لَهُ الطَّعَامُ أَوِ الشَّرَابُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ عَادِيٍّ مساوٍ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالتَّكَسُّبِ الْعَادِيِّ، فَكَمَا لَا يُقَالُ فِي صَاحِبِ التَّكَسُّبِ الْعَادِيِّ: إِنَّهُ فِي التَّنَاوُلِ مُتَرَخِّصٌ، كَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي صَاحِبِ انخراق العادة؛   1 في "ط": "قصده". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "بأن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّمَطِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَنْقُولَةَ دَلَّتْ عَلَى تَرْكِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا إِيجَابًا، وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُيِّرَ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ؛ فَاخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ1، وَخُيِّرَ فِي أَنْ تَتْبَعَهُ جِبَالُ تِهَامَةَ ذَهَبًا وفضة؛ فلم يختر ذلك2، وكان   1 أخرج هناد في "الزهد" "رقم 796" ثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن الشعبي؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "خيرني ربي -عز وجل- أن أكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فلم أدر ما أقول، وكان صفيي من الملائكة جبريل، فنظرت إليه؛ فقال بيده: أن تواضع؛ قال: فقلت: نبيا عبدا". وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل؛ إلا أن أحمد أخرجه في "مسنده" "2/ 231"، وأبو يعلى في "مسنده" 10/ 491/ رقم 6105"، وابن حبان في "صحيحه" "14/ 280/ رقم 6365- الإحسان"، والبزار في "مسنده" "رقم 2462- زوائده" من طريق محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة به نحوه. وإسناده صحيح على شرط الشيخين, وصححه الهيثمي في "مجمع الزوائد" "9/ 18"، وله شواهد من حديث عائشة وابن عباس ومن مرسل الحسن والزهري وغيرهما. انظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 1002"، و"فتح الباري" "9/ 541"، و"الإصابة" "4/ 516". 2 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه/ رقم 2348"، ونعيم بن حماد في "زياداته على الزهد" "رقم 196"، وأحمد في "المسند" "5/ 254", وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 381", وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 133"، والبغوي في "الأنوار في شمائل النبي المختار" "1/ 324/ رقم 427" من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رفعه: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا؛ فقلت: لا, ولكن أشبع يوما وأجوع يوما "أو قال ثلاثا: ونحو هذا"، فإذا جعت؛ تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت؛ حمدتك وشكرتك". وإسناده ضعيف جدا، ابن زحر وعلي بن يزيد -وهو الألهاني- كلاهما ضعيف، قال ابن حبان في "المجروحين" في ترجمة الأول: "منكر الحديث جدا، يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم؛ فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التنكب عن رواية عبيد الله بن زحر على جميع الأحوال أولى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَلَوْ شَاءَ [لَهُ] 1 لَدَعَا بِمَا يُحِبُّ فَيَكُونُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، بَلِ اخْتَارَ الْحَمْلَ عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ: يَجُوعُ يَوْمًا فَيَتَضَرَّعُ إِلَى رَبِّهِ، وَيَشْبَعُ يَوْمًا فَيَحْمَدُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ؛ حَتَّى يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَادِيَّةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرِي أَصْحَابَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي مُوَاطِنَ مَا فِيهِ شِفَاءٌ فِي تَقْوِيَةِ الْيَقِينِ، وَكِفَايَةٍ مِنْ أَزَمَاتِ الْأَوْقَاتِ2، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ3، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكِ التَّكَسُّبَ لِمَعَاشِهِ وَمَعَاشِ أَهْلِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْخَوَارِقُ فِي حَقِّهِ مُتَأَتِّيَةً، وَالطَّلَبَاتُ مُحْضَرَةً لَهُ؛ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "مَا أَرَى اللَّهَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ"4، وَكَانَ -لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ شَرَفِ الْمَنْزِلَةِ- مُتَمَكِّنًا مِنْهَا؛ فَلَمْ يُعَوِّلْ إِلَّا عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ فِي الْخَلْقِ، كَانَ ذَلِكَ أَصْلًا لِأَهْلِ الْخَوَارِقِ وَالْكَرَامَاتِ عَظِيمًا فِي أَنْ لَا يَعْمَلُوا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْخَوَارِقُ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَتْمًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ لم يكن   1 ما بين المعقوفتين سقط من "م" و"خ" و"ط". 2 فالجاري على عادته حمل نفسه على مجاري العادات مع تيسر الخوارق له، كثيرا ما كانت تنخرق له العادات وتوافيه الكرامات، لكن ذلك في مواطن لمقصد مبرأ من حظ النفس، وهو تقوية اليقين عند أصحابه، وكفايتهم ضرر الأزمات الشديدة التي تحل بهم، كنبع الماء مثلا لما اشتد بهم الحال في الحديبية حتى لا يجمع عليهم الشدائد في هذه الأوقات المضنية. "د". 3 ورد ذلك في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"، وغيره وسيأتي لفظه وتخريجه عند المصنف "2/ 239". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب "تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ"، 8/ 524-525/ رقم 4788"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، 2/ 1085/ رقم 1464". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 حَتْمًا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُمُ الْوَرَثَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ. وَالثَّانِي: [إِنَّ] 1 فَائِدَةَ الْخَوَارِقِ عِنْدَهُمْ تَقْوِيَةُ اليقين، ويصحبها الابتلاء الذي هو لازم التكاليف2 كُلِّهَا، وَلِلْمُكَلَّفِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَرَاتِبِ التَّعَبُّدِ؛ فَكَانَتْ كَالْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا آيَاتٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بَرَزَتْ عَلَى عُمُومِ الْعَادَاتِ، حَتَّى يَكُونَ لَهَا خُصُوصٌ فِي الطُّمَأْنِينَةِ؛ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 260] ، وَكَمَا قَالَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِرَاقَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي مُوسَى، وَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا" 3، فإذا كانت هذه   1 سقط من الأصل. 2 في "د": "لازم التكليف"، وفي "م"، و"ط": "لازم التكاليف"، وفي الأصل: "لازم البلاء والتكاليف"، وما أثبتناه من "خ". 3 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم/ رقم 122، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده/ رقم 3278، وكتاب أحاديث الأنبياء/ رقم 3401، وكتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} / رقم 4725، وباب {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} / رقم 4727، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، 6672"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل/ رقم 2380"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/ رقم 4707"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الكهف/ رقم 3249"، وأحمد في "المسند" "5/ 117"، والحميدي في "المسند" "رقم 371"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "4/ 199"، وابن حبان في "الصحيح" "6187"، من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه أحمد "5/ 119"، والبخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة، باب إذا استأجر أجيرا على أن يقيم حائطا يريد أن ينقض/ رقم 2267، وكتاب الشروط، باب الشروط مع الناس في القول/ رقم 2728، وكتاب التفسير، باب {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 فَائِدَتَهَا؛ كَانَ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى حُظُوظِ النَّفْسِ كَالصَّدَقَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِ؛ فَهُوَ فِي التَّنَاوُلِ وَالِاسْتِعْمَالِ بِحُكْمِ الْخِيَرَةِ، فَإِنْ تَكَسَّبَ وَطَلَبَ حَاجَتَهُ مِنَ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ؛ صَارَ كَمَنْ تَرَكَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ وَتَكَسَّبَ فَرَجَعَ إِلَى الْعَزِيمَةِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ قَبِلَ الصَّدَقَةَ؛ فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَأَجْرَى الْعَوَائِدَ فِيهَا تَكْلِيفًا وَابْتِلَاءً، وَإِدْخَالًا لِلْمُكَلَّفِ تَحْتَ قَهْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، كَمَا وَضَعَ لَهُ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفًا وَابْتِلَاءً أَيْضًا، فَإِذَا جَاءَتِ الْخَارِقَةُ لِفَائِدَتِهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا؛ كَانَ فِي ضِمْنِهَا رَفْعٌ لِمَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْكَسْبِ، وَتَخْفِيفٌ عَنْهُ؛ فَصَارَ قَبُولُهُ لَهَا مِنْ بَابِ قَبُولِ الرُّخَصِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ رَفْعًا لِمَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ [بِالْكَسْبِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ] 1 فَمِنْ هُنَا صَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرُّخَصِ وَمِنْ حَيْثُ كَانَتِ ابْتِلَاءً أَيْضًا فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ تَنَاوُلَ مُقْتَضَاهَا مَيْلٌ مَا إِلَى جِهَتِهَا، وَمِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعَزَائِمِ فِي السُّلُوكِ عُزُوبُ أَنْفُسِهِمْ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا كَانَتِ النِّعَمُ الْعَادِيَّةُ الِاكْتِسَابِيَّةُ ابْتِلَاءً أَيْضًا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ جِهَةَ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا أَخَذُوهَا مآخذ   = فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} / رقم 4726" من طريق ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/ رقم 4705، 4706"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 38، 6188"، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف" "2/ 828"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "4/ 198 و199" من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به مختصرا. وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى -عليه السلام- في البحر إلى الخضر/ رقم 74، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} ، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى, عليهما السلام/ رقم 3400" من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب به. 1 ما بين المعقوفتين سقط من "ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 الرُّخَصِ، كَمَا تَبَيَّنَ1 وَجْهُهُ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ؛ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ صَارَ قَبُولُ مُقْتَضَى الْخَوَارِقِ رُخْصَةً مِنْ وَجْهَيْنِ! فَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَسْتَنِدُوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يُعَوِّلُوا عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، بَلْ قَبِلُوهَا2 وَاقْتَبَسُوا مِنْهَا مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُعِينَةِ لَهُمْ عَلَى مَا هُمْ بِسَبِيلِهِ، وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا سِوَى ذَلِكَ؛ إِذْ كَانَتْ مَعَ أَنَّهَا كَرَامَةٌ وَتُحْفَةٌ؛ تَضَمَّنَتْ تَكْلِيفًا3 وَابْتِلَاءً. وَقَدْ حَكَى الْقُشَيْرِيُّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: فَرَوَى عَنْ أَبِي الْخَيْرِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ بِعَبَّادَانَ4 رَجُلٌ أَسْوَدُ فَقِيرٌ يَأْوِي إِلَى الْخَرَابَاتِ5؛ قَالَ: فَحَمَلْتُ مَعِي شَيْئًا وَطَلَبْتُهُ، فَلَمَّا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيَّ تَبَسَّمَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَأَيْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا ذَهَبًا تَلْمَعُ. ثُمَّ قَالَ: هَاتِ مَا مَعَكَ. فَنَاوَلْتُهُ وَهَالَنِي أَمْرُهُ وَهَرَبْتُ6. وَحُكِيَ عَنِ النُّورِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ لَيْلَةً إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ؛ فَوَجَدَهَا وَقَدِ الْتَزَقَ الشَّطَّانِ، فَانْصَرَفَ وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا أَجُوزُهَا إِلَّا فِي زَوْرَقٍ7. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى الْبَصْرِيِّ؛ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلٍّ، فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ سَأَلْتَ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكَ الرِّزْقَ لَرَجَوْتُ أَنْ يَفْعَلَ. فَقَالَ: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، ثُمَّ أَخَذَ حَصًى مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْعَلَهَا ذَهَبًا فَعَلْتَ، فَإِذَا هِيَ وَاللَّهِ فِي يده ذهب، فألقاها إلي   1 أي: في المسألة الأولى. "د". 2 في "ط" زيادة "علما". 3 كما يؤخذ من كلام عبد الرحمن بن زيد الآتي: "لا خير في الدنيا إلا للآخرة ... " فما حصل من التحفة يتضمن تكليفا جديدا في التصرف فيه واستعماله. "د". 4 في النسخ المطبوعة: "بفناء داره"، والتصويب من الأصل و"الرسالة القشيرية". 5 في "م" و"ط": "الخَرِبات"، وهو الجمع الصحيح لغة، وفي غيرهما: "الخرابات"، وكذا عند القشيري. 6 "الرسالة القشيرية" "ص163". 7 "الرسالة القشيرية" "ص164". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وَقَالَ: أَنْفِقْهَا أَنْتَ؛ فَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِلْآخِرَةِ1. بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَعَاذَ مِنْهَا وَمِنْ طَلَبِهَا، وَالتَّشَوُّفِ إِلَيْهَا، كَمَا يُحْكَى2 عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْعَادَاتِ، مِنْ حَيْثُ شَاهَدَ خُرُوجَ الْجَمِيعِ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْمِنَّةِ, وَوَارِدَةً مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ الْإِنْعَامِ؛ فَالْعَادَةُ فِي نَظَرِ هَؤُلَاءِ خَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ؛ فَكَيْفَ يَتَشَوَّفُ إِلَى خَارِقَةٍ، وَمِنْ3 بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ مِثْلُهَا، مَعَ أَنَّ مَا لَدَيْهِ مِنْهَا أَتَمُّ فِي تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ كَمَا مَرَّ فِي الشَّوَاهِدِ، وَعَدُّوا مَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا مُسْتَدْرَجًا، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ ابْتِلَاءً لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا آيَةً أَوْ نِعْمَةً. حَكَى الْقُشَيْرِيُّ4 عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّرَفِيِّ؛ قَالَ: "كُنَّا مَعَ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى نَاحِيَةٍ؛ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا5: أَنَا عَطْشَانُ. فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ، فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ زُلَالٍ؛ فَقَالَ الْفَتَى: أُحِبُّ أَنْ أَشْرَبَهُ بِقَدَحٍ6. فَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ؛ فَنَاوَلَهُ قَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُ، فَشَرِبَ وَسَقَانَا، وَمَا زَالَ الْقَدَحُ مَعَنَا إِلَى مَكَّةَ؛ فَقَالَ لِي أَبُو تُرَابٍ يَوْمًا: مَا يَقُولُ أَصْحَابُكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ؟ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِهَا. فَقَالَ: مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا فَقَدْ كَفَرَ7، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَحْوَالِ. فَقُلْتُ: مَا أَعْرِفُ لَهُمْ قَوْلًا فيه. فقال:   1 "الرسالة القشيرية" "ص170". 2 "الرسالة القشيرية" "ص164". 3 في "ط": "وما". 4 في "الرسالة" "ص169". 5 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "أصحابه". 6 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "في قدح". 7 لا يصح حمل الكفر على حقيقته؛ لأن المنكرين لخرق العادة على وجه الكرامة؛ كالمعتزلة، والإمام أبي إسحاق، والقشيري، والحليمي؛ هم من فرق الإسلام بإجماع. "خ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 بَلْ قَدْ زَعَمَ أَصْحَابُكَ أَنَّهَا خُدَعٌ مِنَ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، إِنَّمَا الْخُدَعُ فِي حَالِ السُّكُونِ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْتَرِحْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسَاكِنْهَا؛ فَتِلْكَ مَرْتَبَةُ الرَّبَّانِيِّينَ". وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهَا فِي حُكْمِ الرُّخْصَةِ، لَا فِي حُكْمِ الْعَزِيمَةِ؛ فَلْيُتَفَطَّنْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِيهَا؛ فَإِنَّهُ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِيهَا مَسَائِلُ: مِنْهَا أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْقَوْمِ، وَالْأَحْوَالُ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَحْوَالٌ لَا تُطْلَبُ بِالْقَصْدِ، وَلَا تُعَدُّ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَلَا هِيَ مَعْدُودَةٌ فِي النِّهَايَاتِ، وَلَا هِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا بَالِغٌ مَبْلَغَ التَّرْبِيَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَالِانْتِصَابِ لِلْإِفَادَةِ، كَمَا أَنَّ الْمَغَانِمَ فِي الْجِهَادِ لَا تُعَدُّ مِنْ مَقَاصِدِ الْجِهَادِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا هِيَ دَلِيلٌ عَلَى بُلُوغِ النِّهَايَةِ، والله أعلم. تم الجزء الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الاستدراكات : * "استدراك1": ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي "تَفْسِيرِهِ" "1/ 212، الْبَقَرَةِ: 173" وَقَالَ: "وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِـ"أَلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ" رَفِيقُ الْغَزَالِيِّ فِي الِاشْتِغَالِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا كَالْإِفْطَارِ لِلْمَرِيضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ". * "اسْتِدْرَاكٌ2": كَذَا فِي "ط" وَ"النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ" "1/ 171" لِابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: "رجاء الأبدية". * "استدراك3": قُلْتُ: أَخْرَجَ سَبَبَ النُّزُولِ الْمَذْكُورَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" "كِتَابِ التَّفْسِيرِ، بَابِ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} 8/ 186/ رَقْمِ 4519"، وَأَبُو دَاوُدَ فِي "السُّنَنِ" "2/ 75"، وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" "2/ 277"، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي "التَّفْسِيرِ" "2/ 273"، وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. * "اسْتِدْرَاكٌ4": عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرْغَبُونَ فِي النَّفِيرِ مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَدْفَعُونَ مَفَاتِيحَهُمْ إِلَى ضُمَنَائِهِمُ -الضَّمِنُ: الزَّمِنُ الْمُبْتَلَى- وَيَقُولُونَ لَهُمْ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا أَحْبَبْتُمْ. فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنَّهُمْ أَذِنُوا عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ في "مسنده" -كما في "كشف الأستار" "رقم 2241"- وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ -كَمَا فِي "الْمَجْمَعِ" "7/ 83"- وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي "لُبَابِ النُّقُولِ": "سَنَدُهُ صَحِيحٌ"، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي "مُخْتَصَرِ زَوَائِدِ الْبَزَّارِ" "2/ 97/ رقم 1490": "صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة مقدمة المحقق خطبة الحاجة 5 التعريف بكتاب الموافقات 8 المباحث التي أغفلوها فيما تكلموا عليه 12 السبب في عدم تداول الكتاب 16 مصادر الشاطبي وموارده في الكتاب 19 مدح العلماء وثناؤهم على الكتاب 24 الجهود التي بذلت حول الكتاب وأثره في الدعوة الإصلاحية الحديثة 31 المحور الأول: مختصراته 33 الثاني: دراسات عن الكتاب ومنهج الشاطبي فيه 36 الرد على "المجددين"! المعاصرين والعقلانيين وبيان افتراءاتهم على الشاطبي "ت" 42 المحور الثالث: طبعات الكتاب 57 تقويم الطبعات التي وقفت عليها 58 تحقيق اسم الكتاب 64 الأصول المعتمدة في التحقيق 65 عملي في التحقيق 74 ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية 76 ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في طبعة الشيخ دراز 78 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 الخلاصة 80 ومن عملي في التحقيق أيضا 81 مقارنة بين مدرسة ابن تيمية والشاطبي "ت" 81 مسألة ... هل اجتمع الشاطبي بابن القيم أو شيخه ابن تيمية؟ 82 ومن عملي في التحقيق أيضا 84 الخاتمة 85 نماذج من النسخ المعتمدة في التحقيق 86 الموافقات المقدمة 3 حال الناس قبل بعثة النبي, صلى الله عليه وسلم 3 أهل الفترات 4 الإجماع وعقيدة ختم النبوة 4 الإجماع والقطع وموانع حصول القطع 4 بعثة الأنبياء بلغة أقوامهم 4 من فضائل النبي, صلى الله عليه وسلم 5 الأمانة التي حملها الإنسان 5-6 الأنبياء بعثوا لهداية الناس 6 القرآن مدعو به، مدعو إليه 6 تفاضل العلوم/ أفضل العلوم 7 الصحابة الأعلم بالأصول والمقاصد 7 تخريج حديث: "أنا النذير العريان" 7 مدح المؤلف كتابه 8 استقراء المؤلف للأصول الكلية للشرع 9 أقسام كتاب الموافقات الخمسة 9 المقدمات العلمية, الأحكام, مقاصد الشرع, الأدلة الشرعية, أحكام الاجتهاد والتقليد 10 تسمية الكتاب بقصة طريفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 الحث على ترك التقليد والعادة وأمر المؤلف بالتفكر 11-13 تخريج حديث: "إنما الأعمال بالنيات" 13 - القسم الأول: مقدمات المؤلف 15 المقدمة الأولى 17 أصول الفقه قطعية وهي: الكليات المنصوصة في الأصلين والقوانين المستنبطة وهي الأدلة إثبات ذلك بالاستقراء للأدلة الشرعية وإرجاع ذلك إلى الأصول العقلية 18 هل يوجد مخالفة حقيقية أو خلاف في أن أصول الفقه قطعية؟ 18 الفرق بين أصول الفقه، وعلم أصول الفقه 18 الاستقراء طريق إثبات شرعي 18-19 الأمر للوجوب 19 الظن في العقل وكليات الشريعة، وبالنسبة إلى الأشخاص 19 العادي مع العقلي والشرعي 19 حكم الفرع حكم الأصل 19 إثبات أن المبنى على القطعي 18 أولا: أنها ترجع إلى أصول عقلية أو شرعية أو عادية وهذا معروف بالاستقراء ثانيا: الظن لا يقبل في العقليات ولا الكليات الشرعية 19 ثالثا: لَوْ جَازَ جَعْلُ الظَّنِّيِّ أَصْلًا فِي أُصُولِ الفقه جاز في أصول الدين 20 معاني الضروريات والحاجيات والتحسينيات 20 الأحكام التي تعد ظنية إذا كانت مبنية على أصل قطعي 21 الأصول عند الجويني 22 معنى حفظ الذكر 22-23 الأصول والفرع والظن 23 الرد على المصنف في مسألة قطعية الأصول 24 تعريف أصول الفقه والقاعدة والأصل والفقه والأصولي والدليل الإجمالي 24 المقدمة الثانية المقدمات العلمية في الأصول قطعية، والتعقيب على المصنف فيها 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 الوجوب والجواز والاستحالة من مباحث الأصول وقولهم الأمر للوجوب ليست من الأصول 25 المقدمة الثالثة 26 استعمال الأدلة العقلية في الأصول مرتبط مع الأدلة النقلية 27 أخبار الآحاد والتواتر المعنوي واللفظي 27 معنى القطع في دلالة الألفاظ 28 الظن في المقدمات والأدلة 28 استقراء الأدلة نوع من التواتر 28 دلالات الأخبار مبنية على مقدمات ظنية كنقل اللغات وآراء النحويين 28 الاستدلال على فرضية الصلاة باستقراء الأدلة أو بالإجماع مع اجتماع الأدلة 29-30 الضرورات الخمس 30-31 أسباب اختلاف الظن 31 التمثيل بالصلاة وقتل النفس على أنهما من الأصول لا من الفروع باستقراء الأدلة31 حكمة الزكاة والحكومات والجهاد والأطعمة المحرمة المضطر إليها 31-32 فصل إلماحة المصالح المرسلة والاستحسان 32 تعريف المصالح المرسلة جمع المصحف وترتيب الدواوين 32 بيع العرايا 33 تقديم الاستحسان على أصول وعمومات أخرى عند مالك والشافعي 33 فصل 33 حجية الإجماع ظنية أم قطعية؟ 35 المقدمة الرابعة مسائل أصول الفقه لبناء فروع الفقه أو الآداب أو عونا عليها 37 علوم ليست من أصول الفقه بل هي مما يحتاج إليه فيه 37 ذكر أمثلة على ذلك 37 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 القرآن عربي الأسلوب والخلاف في وجود كلمات أعجمية فيه 39 فصل: خطأ فهم النصوص بالعقل لا بطريقة الوضع 39-40 خصال الكفارة والواجب المخير 40 نقل عن حاشية المخطوط والتعقب عليه 40 الجمع بين الأختين 41 مدخل الوجوب والتحريم هل هو الشرع أم العقل؟ 40-41 مسائل الاعتقاد هل يبنى عليها عمل, ضمن أصول الفقه؟ 41 مسائل خصال الكفارة وإتلاف المحرمات والوطء نهار رمضان للكتابية من زوجها القادم من السفر ضمن أحكام تكليف الكفار بالفروع 41 المقدمة الخامسة 43 عمل الجوارح والقلب/ المسائل التي لا ينبني عليها عمل 43 المباح 43 النظر في آيات الله 43 السؤال عن الأهلة 43 إتيان البيوت من أبوابها 43-44 تخريج أحاديثها 44 سبب النزول الصحيح 44 السؤال عن الساعة 44 ذم الأسئلة 45 تخريج أحاديث أخرى في ذم الأسئلة 45 قصة بقرة بني إسرائيل 45 تخريج حديثها 45-46 تخريج حديث السؤال عن الحج أهو لكل عام 46 النهي عن قيل وقال 47 حديث جبريل في الإيمان والإسلام 47 الساعة وأماراتها 47 أعظم الناس جرما وتخريج حديثه 48 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 سؤال عمر عن الأبّ 49 السؤال عن الروح 49 حديث: أن الصحابة ملوا ملة 50 حديث عمر مع صبيغ 51 تضعيف رفع القصة 51 حديث علي مع ابن الكواء 52 فصل عن الإمام مالك في ذم السؤال 53 ذم السؤال بالاستدلال منها أنها شغل عما يعني 53 الفائدة ما شهد لها الشرع بذلك 53 ومنها أن الشارع قد بين المصالح 53 فتنة العالم والمتعلم 53 منها أن هذا شأن الفلاسفة - وهو مذموم 54 فضل العلم 54 عصمة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الزنى وخلاف بين اثنين من مشايخ العصر 54 تعلم كل علم فرض كفاية 54 السحر والطلسمات 54 حكاية يهودي فسر آية 54 كتاب "كتب حذر منها العلماء" فيه تحذير من كتب السحر والشعوذة المنتشرة 55 الرد على من قال تعلم كل علم فرض كفاية 55 السلف لم يخوضوا في العلوم التي ليس تحتها عمل 55 قصة صبيغ 55 الدين الإسلامي أمته أمة أمية وهي العرب وهذه علوم ليست من علومها 56 تخريج حديث نحن أمة أمية 56 توضيح مناط فرض الكفاية في العلوم 56 تعلم العرب للعلوم 56 السحر وذمه 57 الرد على الفريق الأول بأنه من التكلف فهم ما لا يتوقف فهم المعنى عليه 57 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 قصة عمر مع قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 57 معنى الأبّ 57 معنى التخوف في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} 58 تخريج الأثر وكذا عزو بيت الشعر إلى مصادره وتفسيره 58 أهمية الشعر في تفسير القرآن 58-59 قصة صبيغ 59 علم الهيئة 59 علم العدد 60 الهندسة والتعديل النجومي والمنطق والضروب 60 الخط بالرمل وتخريج حديثه مطولا 60 الطعن في حديث في "الصحيح" بأنه زيد فيما بعد 60-63 الرد على من ضعف الحديث وجمعهم في سياق واحد, مختصرا التنبيه على خطأ عند الرافعي في متن الحديث 64 عد الذهبي الحديث من الأحاديث المتواترة 64 ذكر من هو النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخط 64 استدلالهم بآيات من القرآن على علومهم أفسد استدلال 65 بل لا بد من الفهم على لسان العرب 65 الاعتبار من علوم الفلاسفة 65 ما يتوقف عليه مطلوب أصول الفقه 66 المقدمة السادسة 67 1- في المعاني الإجمالية 68 نقض منطق الفلاسفة وإبطاله 67 2- في المعاني التفصيلية التي لا تليق بالجمهور 68 صعوبة تفسير كلام الفلاسفة عليهم وعلى العوام 68 يكفي في الإيمان التصديق 69 اهتمام العرب بالمعاني 70 وكذلك القرآن 71 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الأقيسة المركبة لا يفسر بها القرآن 71 تكليف ما لا يطاق 72 المقدمة السابعة 73 العلم الشرعي وسيلة التعبد لله تعالى 73 الدليل الأول: العلم هو ما فاد عملا علوم مساعدة للعلوم الشرعية 73 الدليل الثاني: الشرع إنما جاء بالتعبد 74 التوحيد 74 التعقيب على تفسير قتادة وتخريجه 75 تخريج حديث مخالفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 76 تأثير الغزالي على الشاطبي 76 تخريج أحاديث السؤال عن العلم 77 مطابقة العلم العمل 77-82 ذكر أحاديث في العلم والعمل وتخريجها 77 العلم وسيلة للعمل في طاعة الله 83 هل يحصل علم وتكذيب؟ 84 المستشرقون كفار مع علمهم 84 فصل: 85 فضل العلم جملة 85 فوائد العلم 86 لذة العلم والقصد إلى العلم صحيح 86 تعلم العلم لغير الله غير صحيح 87 تخريج أحاديث في ذلك 87 المقدمة الثامنة 89 مراتب أهل العلم 89 الأولى: الطالبون في رتبة التقليد 89 الثانية: الواقفون على براهينه 89 الموازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة 90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 الثالثة: المجتهدون 90 الإيمان والحفظ عن المعاصي من فوائد العلم 90-91 تخريج حديث نزول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} 93 القلق والخوف من آثار العلم 93 الرسوخ في العلم 94 ذم علماء السوء 95 الرسوخ في العلم 95-96 عز الدين بن عبد السلام وجهاده 95 أسباب تخلف الحفظ من المعاصي 95-96 1- العناد 2- الفلتات في الغفلات 96 معنى الجهالة 96 3- أن لا يكون من الراسخين 97 حديث افتراق الأمة، تخريجه والتعقيب عليه 98 كثرة الفرق 98 ذم القياس 99 أحاديث رفع العلم وآثار في العمل به 100-103 الاقتصار على الصحيح 101 علماء السوء 103 كيف يصير العلم لله 103 فصل: 104 العلم والخشية 104-105 المقدمة التاسعة 107 صلب وملح العلم وتفسيرها 107 صلب العلم: الأصل المعتمد 107 إفادة العلم القطعي 107 خواص هذا العلم 108 1- العموم والاطراد 108 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 2- الثبوت 109 3- كون العلم حاكما لا محكوما عليه 110 ملح العلم 110 هو ما تخلف عنه شرط من الخواص السابقة 110 أمثلة على تخلف الخواص 110 الأول: الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه 111 الطهارة والصلاة والصيام 111 الثاني: التزام كيفيات في تحمل الأخبار والآثار مثل الأحاديث المسلسلة 112 تخريج حديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن" 112 الثالث: استخراج الحديث من طرق كثيرة دون فائدة 113 قصة حمزة الكناني في ذلك 114 الرابع: الرؤيا فيما لا يرجع إلى بشارة أو نذارة 114 الخامس: المسائل التي ليس تحتها خلاف ينبني عليه عمل 115 ذكر مسائل في النحو من اللغة 115 السادس: الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية 116 السابع: تثبيت المعاني بأعمال الصالحين 116 معنى الصوفية وأصلها 116 الثامن: كلام أهل الولاية 117 التاسع: حمل بعض العلوم على بعض دون وجود ترابط بينهما مع ذكر قصة طريفة 116 قصة أخرى للكسائي مع أبي يوسف 118-119 وأخرى لابن البناء في تفسير: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 120 الثالث: ما ليس من صلب العلم ولا من ملحه ويرجع إلى أصله بالإبطال 120 عدة أهل الأهواء 121 الباطنية 121 كتب وعلوم حذر منها العلماء 121 فصل 123 اختلاط في صور القسمين 123 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 تحديث الناس بما يفهمون 123 كلمة عظيمة في ذم التقليد 124 المقدمة العاشرة 125 مقاصد العقل والنقل والعقل تابع بأدلة: 125 الأول: أنه لا يكون متجاوزا حده 125 الثاني: أن العقل لا يحسن ولا يقبح - التحسين والتقبيح 125 التحسين والتقبيح: المذاهب فيه والقول الراجح 125-130 الثالث: أن لو كان كذلك جاز إبطال الشريعة بالعقل 131 العقل في الشرع 131 مناقشة هذا القول 131-132 رد على المناقشة 132 كيفية إثبات اللغات العربية ومعانيها 132 القياس والعقل 133 قضاء القاضي الغضبان وقياس غيره عليه 134-135 المقدمة الحادية عشرة 137 العلم المعتبر ما انبنى عليه عمل ودلت عليه الأدلة الشرعية 137 المقدمة الثانية عشرة 139 أخذ العلم عن أهله المتحققين فيه 139 طرق العلم 139 الأول: الفطرة 139 الثاني: التعلم 139 فصل 141 علامات العالم الذي يؤخذ عنه العلم 141 أولا: العمل بما علم 141 ثانيا: أن يكون أخذ العلم عن الشيوخ 142 ذكر أمثلة عن الصحابة وقصة الحديبية 142 قصة أبي جندل يوم الحديبية 143 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 سير التابعين على سير الصحابة، وأن ذلك منهج أهل الحق ومخالفته منهج أهل الابتداع 144 ذم ابن حزم الظاهري لأنه بدون شيوخ 144 مدح الأئمة الأربعة 144 ثالثا: الاقتداء بأهل العلم قبله 144 مدح مالك 145 فصل 145 طرق أخذ العلم عن العلماء 145 أولا: المشافهة وفيها فوائد 145 خاصية جعلها الله بين المعلم والمتعلم 145 حديث موافقات عمر وفضله 146 قلة تأليف السابقين للكتب وسببه 147 ثانيا: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين بشرطين: 147 الأول: حصول الفهم 147 الثاني: تحري كتب المتقدمين 148 دليل ذلك: التجربة 148 سبب فساد الفقه المالكي عند المصنف: 148 الأول: بناء فروع فقهية على قواعد أصولية أُدخلت في المذهب 148 الثاني: إدخال جملة من مسائل الغزالي في مذهب مالك 148 الخبر 149 تفسير الملك العضوض 149 تخريج أحاديث وآثار في فضل المتقدمين 150 دلالة الأحاديث على نقص الدين والدنيا 153 المقدمة الثالثة عشرة 155 اطراد الأصول على مجاري العادات 155 أمثلة على فهم الأقوال 156 تفسير قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 156 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 مناقشة الشيخ دراز للشيخ خضر حسين 156 تفسير آيات على هذا المنوال وتعقب الشيخ دراز عليه في آية: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} 157 أمثلة على مجاري الأسلوب 157 تحريم الخمر 158 أمثلة على مجاري الأفعال 159 مناقشات المصنف مع معاصريه 159 مسألة الخشوع في الصلاة وترك التفكير 160 ترك الحرام والخروج عن المال 160 الخروج عن الخلاف 161 الورع 161 نقل عزيز من حاشية المخطوط عن مناقشة المصنف لابن عرفة 162 التفريق بين اختلاف الأدلة واختلاف الأقوال 164 الخلاف غير المعتد به 164 الخلاف المعتد به 165 المتعة 165 الورع في تساوي الأدلة 165 تعسر الخروج من الخلاف بين المذاهب 165 القسم الثاني: كتاب الأحكام 167 كتاب الأحكام 169 أقسام الأحكام الشرعية 169 ما يرجع إلى خطاب التكليف 169 ما يرجع إلى خطاب الوضع 169 المسألة الأولى 171 المباح 171 استفادة المصنف من السابقين 171 المباح هل هو مطلوب الفعل أم الاجتناب وبداية المناقشة 171 المباح ليس مطلوب الاجتناب لأمور: 171 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 أولا: المباح مخير فيه 172 ثانيا: المباح مساوٍ للواجب والمندوب في أنه غير مطلوب الترك 172 ثالثا: استواء الفعل والترك شرعا 172 رابعا: إجماع المسلمين أن ناذر المباح لا يلزمه الوفاء 173 تخريج أحاديث في النذر 173 مناقشة المصنف كلام الإمام مالك 173 خامسا: أن تارك المباح لو كان مطيعا لكان أرفع درجة ممن فعله 174 الدرجات في الآخرة ومناقشة المصنف 174 سادسا: لزوم رفع المباح من الشريعة 175 سابعا: الترك فعل داخل تحت الاختيار 175 معارضة ما سبق بأمور: 176 أضرار المباح اشتغال عن الأهم 176 اشتغال عن الواجبات ووسيلة إلى الممنوعات 176 الشرع جاء بذم الدنيا 176 تخريج أحاديث في ذم الدنيا 176 تعقب العراقي في تخريج حديث لم يظفر به 177 الأشبه أنه من قول الحسن 177 عودة أصولية إلى المباح ومناقشة المعارضة 178 الكلام في المباح "حيث هو متساوي الطرفين" 178 الوسائل والمقاصد 179 أقسام المباح من حيث هو وسيلة وباب الوسائل 179 المباح قد يكون فيه ترك حرام 180 شبهة أن المباح سبب في طول الحساب 180 مناقشة ذلك من أوجه 180 المباح له أركان ومقدمات وأنواع وشروط 181 الحقوق تتعلق بالتروك والأفعال 182 المباح من جملة المنن 182 الاحتجاج للمباح بترك السلف له 184 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 هي حكايات أحوال 184 معارضة بمثلها 185 خريج الأحاديث في ذلك 185 مبادرة السابقين إلى الخيرات 187 ترك المباح لأمور خارجة عن كونه مباحا فقط 188 فعل عائشة في ترك الأموال 188 ترك المباح لتحصيل أخلاق معينة 188 ترك المباح مع الشبهة 190 ترك المباح لعدم النية 190 الانشغال بالتعبد لترك المباح 191 تركه خوف الإسراف 191 الزهد 192 فصل: المباح غير مطلوب الفعل أيضا 194 الاستدلال عليه 195 مذهب الكعبي وتصوير مأخذه 195 أولا: لزوم أن لا توجد الإباحة 195 ثانيا: وإلا ارتفعت الإباحة رأسا 196 ثالثا: الواجب ذلك في جميع الأحكام 196 قصد الشارع فعل بعض المباحات وترك بعضها 197 التمتع بالطيبات 197 التمتع بالنعم 198 قبول هدايا الله وصدقاته وتخريج أحاديثها 198 الرخصة والإباحة 200 المباح قد يكون فعله الراجح 200 الطلاق السني 200 اللهو المباح والباطل وتخريج الحديث 202 الإجابة على المناقشة 203 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 الإجمالي: المباح هو المتساوي الطرفين 203 التفصيلي: المباح ضربان 203 أحدهما: خادم لأصل والثاني أن لا يكون 203 الثاني: إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِمَا يَنْقُضُ أَصْلًا أو لا يكون خادما 204 الطلاق وذم الدنيا 204 اللهو المباح 205 الجهاد 205 المسألة الثانية 206 المباح يكون مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ندبا أو وجوبا وَمُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْكُلِّ عَلَى جِهَةِ الكراهة أو المنع 206 القسم الأول كالتمتع بالطيبات 206 تخريج أحاديث في التوسعة 207 القسم الثاني: كالأكل والشرب ووطء الزوجات 208 القسم الثالث: التنزه في البساتين وغيرها 209 القسم الرابع: المباحات التي تقدح في العدالة "بشروط" 209 أمثلة على اللهو المنهي عنه والاحتراف بها 210 تخريج حديث: $"لا كبيرة مع الإصرار" 210 فصل: الفعل المندوب بالجزء واجبا بالكل 211 ذكر بعض الأمثلة على ذلك ومناقشة المؤلف فيها 211 فصل: الفعل المكروه بالجزء ممنوع بالكل 212 ذكر الأمثلة على الشطرنج والغناء 212 فصل: الواجب والفرض 213 قاتل العمد 213 ترك الصلوات والجمعات 213-214 الشهادة وترك الجمعات 214 المداومة على المعاصي 215 السرقة 216 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 فصل: اختلاف أحكام الأفعال 216 أمثلة في المباح 216 أمثلة في المندوب 217 أمثلة في المكروه 218 تخريج حديث في قتل النمل 218 الواجب والمحرم وتساويهما 219 أمثلة في الحدود وأمور أخرى 219 حكم اتفاق الناس على ترك المندوب 220 فصل: الدليل على صحة تصوير الكلية والجزئية: 221 منها: تجريح من داوم على شيء ... 221 منها: الشريعة وضعت على اعتبار المصالح 221 منها: التحذير من زلة العالم 222 المسألة الثالثة 223 اختلافات المباح 223 الأول: المخير بين الفعل والترك 223 الثاني: ما لا حرج فيه فهو أقسام 223 خادم لأمر مطلوب الفعل أو لمطلوب الترك أو المخير أو لخالٍ منها 224 أمثلة على ذلك 224 توضيحات لتلك الأمور في الحاشية 225 ما كان غير خادم لشيء 226 المسألة الرابعة 225 المباح إذا أطلق بمعنى لا حرج 227 المباح المطلوب الترك والتخيير 228 الرماية 229 قصة سلطنة بخارى في رفض الأسلحة الحديثة 229 الوجه الأول: أحد الإطلاقين صريح في رفع الحرج والإثم 230 إطلاقات ترفع الجناح مع الواجب ومع المندوب 230-231 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 الوجه الثاني: لفظ التخيير مفهوم من قصد الشارع إلى تقرير الإذن 231 الوجه الثالث: مَا لَا حَرَجَ فِيهِ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِيهِ على الإطلاق 231 المسألة الخامسة 233 وصف المباح هو بالنسبة للمكلف 233-234 المسألة السادسة 234 الأحكام الخمسة تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد 234 الدليل الأول: ما ثبت أن الأعمال بالنيات 234 الدليل الثاني: عدم اعتبار أفعال المجنون والنائم ... 235 خطاب الوضع وخطاب التكليف 235 تخريج حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" 236 الدليل الثالث: الإجماع على عدم تكليف ما لا يطاق 237 خطاب الوضع وخطاب التكليف 237 أحكام السكر 238 المسألة السابعة 239 المندوب باعتبار أعم خادم للواجب 239 فصل: المكروه باعتبار أعم خادم للحرام 240 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ 240 مَا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ وَقْتًا محدودا من الواجبات والمندوبات 240 ذم إخراج العبادة عن وقتها 240 أولا: الوقت لمعنى قصده الشارع 240 ثانيا: يلزم أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فيه العتب ليس من الوقت المعين 241 إثبات أن حديث: "أول الوقت" واهٍ 241 أول الوقت عند مالك 242 قضاء الصوم 243 الحج على الفور 243 المسابقة إلى الخيرات 244 أوقات الصلاة أولها وآخرها 244 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 فروض مطلوبة مرة في العمر 245 الكفارات والواجب المخير 245 الحج ماشيا والخطا إلى المساجد 246 تضعيف حديث الأوقات السابق 246 الرد على مذهب مالك في المسابقة 246 المسألة التاسعة 246 الحقوق الواجبة على المكلف ضربان 246 حقوق محدودة شرعا 246 حقوق غير محدودة 247 اللزوم والترتيب في الذمة 247 غير المحدودة لا تترتب في الذمة لأمور 247 أولا: لأنها مجهولة 247 فروض الكفايات 247 إطعام وكساء الفقراء بما يسد الحاجة 248 ثانيا: يؤدي ترتيبها في الذمة إلى ما لا يعقل 248 ثالثا: يترتب أن يكون فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ 249 رابعا: يؤدي إلى العبث 249 الزكاة تؤدى ولو لم تظهر عين الحاجة 250 هل الجهل مانع من الترتب في الذمة 250 الجهل المانع من أصل التكليف 250 فصل: فروض العين والكفاية 252 المسألة العاشرة 253 مرتبة العفو عليها أدلة 253 أولا: أن الأحكام الخمسة تتعلق بأفعال المكلفين 253 ثانيا: النص على هذه المرتبة 253 أسئلة الصحابة للنبي, صلى الله عليه وسلم 254 ثالثا: ما يدل على المعنى بالجملة 255 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 كراهية السؤال عن الأحكام لغير حاجة 256 كراهة كثرة السؤال 256 فصل: مواطن العفو في الشريعة 259 1- الخطأ والنسيان 259 2- الخطأ في الاجتهاد أصولا وفروعا والخلاف في هذه المسألة 259 3- الإكراه 260 4- الرخص؛ فيها رفع الجناح وسقوط الإثم 260 5- الترجيح بين الأدلة 260 6- مخالفة الدليل الذي لم يبلغ العالم 260 7- الترجيح بين الخطابين عند التزاحم 261 8- المسكوت عنه 261 فصل: استدلالات من منع مرتبة العفو 261 أولا: أن أفعال العباد داخلة تحت أحكام الشرع ولا زائد عليها 261 ثانيا: الحكم الشرعي له الاعتبار وغير الشرعي لا اعتبار به 261 ثالثا: أنه واقع ضمن مسألة هل تخلو بعض الوقائع عن حكم الله؟ 262 فصل: ضوابط ما يدخل تحت العفو 263 حصر أنواع النصوص: 363 أحدها: الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض 263 الثاني: الخروج عن مقتضاه عن غير قصد 263 الثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه 263 النوع الأول: يدخل تحته العزيمة 263 الخطأ في الاجتهاد لمن ليس أهله 264 طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتخريج بعض الأحاديث في ذلك 264 المصنف يقلد غيره في تخريج الأحاديث والتنبيه على خطأ له في ذلك 265 قصة بني قريظة 266 قضاء القاضي وخطؤه في الاجتهاد 266 النوع الثاني: الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ 267 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 جهالة تحريم الخمر 267 الرجوع إلى الحق 268 الخطأ والنسيان 268 التجاوز عن عثرات ذوي الهيئات ومناقشة المؤلف في إدخاله في العفو 269 تخريج حديث المسألة ومناقشة المصنف 269 درء الحدود بالشبهات 271 العفو الأخروي 271 مخالفة التأويل مع معرفة الدليل 272 قصة قدامة بن مظعون في شرب الخمر 272 المستحاضة والنفساء والصلاة 273 المسافر يقدم قبل الفجر 273 النوع الثالث: العمل بما هو مسكوت عن حكمه 273 ترك الاستفصال مع وجود مظنته 274 طعام أهل الكتاب 274 مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع 275 تحريم الخمر 275 الربا 276 البيوع المحرمة وغيرها 276-277 الثالث: السُّكُوتِ عَنْ أَعْمَالٍ أُخِذَتْ قَبْلُ مِنْ شَرِيعَةِ إبراهيم, عليه السلام 277 أمثلة من أفعال العرب قبل الإسلام 277 النكاح والسفاح والحج والعمرة وأحكام أخرى كانت معروفة عند العرب 277 هل العفو حكم, أي: ينبني عليه حكم عملي؟ 277 المسألة الحادية عشرة 278 فرض الكفاية 278 أدلته: 278 أولا: القرآن 278 ثانيا: القواعد الشرعية 279 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 الإمامة/ الولاية/ الخلافة 279 ثالثا: ما وقع من فتاوى العلماء 280 فرض الكفاية -كما مر- بخصوص الأهلية 280 النهي عن الإمارة 281 القصاص 281 طلب العلم 282 الإمامة 282-283 حكم الناس إقامة القادر 283 فصل: 284 تقديم في التعليم والتربية بكلام لا تجده عن فصحاء التربية ولسانها الآن 284 "ويمكن تسميته سبيل إنهاض الأمة" المسألة الثانية عشرة 287 الإباحة للضرورة أو الحاجة وأقسامه 287 أولا: الاضطرار إلى فعل المباح، يلزم فيه الرجوع للأصل وترك العارض لأوجه: 287 منها: أن المباح صار واجب الفعل 287 ومنها: أن محال الاضطرار مغتفرة 288 ومنها: أنه يؤدي إلى رفع الإباحة 288 ثانيا: أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه الحرج بالترك 288 المسألة الثالثة عشرة 290 سبب فقدان العوارض بالنسبة للأصل 290 الاعتراض على المصنف في ترتيب المسألة 290 مفسدة فقد الأصل أعظم من غيره لأمور: 291 1- لأن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف 291 2- لأن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي 291 3- المكمل مقوٍّ لأصل المصلحة 291 عودة إلى المسألة السابقة 291 القسم الثالث: أَنْ لَا يُضْطَرَّ إِلَى أَصْلِ الْمُبَاحِ وَلَا يلحق بتركه حرج 291 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 البيوع الفاسدة والصحيحة والربا 292 الحيل والوسائل 292 العفو والإباحة 292 المتشابهات 293 الاحتياط للدين ثابت 294 القسم الثاني من قسمي الأحكام، وهو ما يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ، وَهُوَ يَنْحَصِرُ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ وَالْعَزَائِمِ وَالرُّخَصِ 297 هذه خمسة أنواع عند المصنف 297 الآمدي خالف المصنف في أمور لا ثمرة تحتها 297 النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْبَابِ 298 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى 298 الْأَفْعَالُ الشرعية ضربان: 298 أحدهما: خارج عن مقدور المكلف 298 الثاني: ما يصح دخوله تحت مقدور المكلف 298 الأول قد يكون سببا وشرطا ومانعا 298 أمثلة على السبب 298 والشرط 298 والمانع 299 والثاني: له نظران: 299 أحدهما: ما يدخل تحت خطاب التكليف 299 ثانيهما: مَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْوَضْعِ: 300 إِمَّا سَبَبًا مثل النكاح سبب في حصول الإرث بين الزوجين 300 وإما شرطا: ككون النكاح شرطا في الطلاق 300 والمانع: كنكاح الأخت مانع من الأخرى 300 قد تجتمع هذه الثلاثة في أمر واحد لكن لا على حكم واحد 301 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: 301 مَشْرُوعِيَّةُ الْأَسْبَابِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَشْرُوعِيَّةَ المسببات؛ لأنها قد تكون غير داخلة تحت = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 = مقدور العبد كنفس الإزهاق 301 الأمر بالبيع لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع 302 للمكلف تعاطي الأسباب والمسببات من فعل الله 302 أدلة ذلك وتمثيل ذلك بالرزق 302 تمثيل ذلك في الرزق بالزرع وطلب التوكل على الله 303 تخريج حديثين في التوكل 303-304 ذكر أدلة من القرآن على ذلك وتفسيرها بما يقتضي مقام السبب والمسبب 305 إثبات أن ذلك مقطوع به بالاستقراء 306 التكليف لا يتعلق إلا بمكتسب 306 شبهة ومناقشتها في مسألة الاستلزام في السبب والمسبب 306 الأسباب الممنوعة غير معتبرة شرعا 307 المسألة الثالثة: 308 لا يلزم في تعاطي الأسباب الالتفات إلى المسببات: 308 1- لأن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب "الله" 308 2- المطلوبات الشرعية قد يكون للنفس فيها حظ 308 الولاية الشرعية وعدم إعطائها لمن سألها 308 أخذ المال بإشراف نفس 309 3- عباد الأمة أخذوا بتخليص الأعمال من شوائب الحظوظ 310 قاعدة تقديم ما لا حظ من الأعمال على ما حظ فيه 310 الخلاصة: أن الالتفات إلى المسببات في الدخول إلى الأسباب ليس شرطا 311 أسباب مشروعة وغير مشروعة 311 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: 311 وَضْعُ الْأَسْبَابِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْوَاضِعِ إلى المسببات 311 الدليل: أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَاطِعُونَ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ لَمْ تَكُنْ أسبابا لأنفسها 311 وآخر: أن الأحكام الشرعية شرعت لأجل المصالح ودرء المفاسد 311 الثالث: الْمُسَبَّبَاتِ لَوْ لَمْ تُقْصَدْ بِالْأَسْبَابِ، لَمْ يَكُنْ وضعها على أنها أسباب 312 الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بالأسباب ومناقشة ذلك مع ما مر 312 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 المسألة الخامسة: 313 للمكلف ترك القصد إلى المسبب وله القصد أيضا 313 الشارع ينهى ويأمر لأجل المصالح 313 السبب غير فاعل بنفسه 314 مثل العدوى، وتخريج حديثها 314 حديث التوكل 314 ليس فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ نَاصٌّ عَلَى طَلَبِ الْقَصْدِ إلى المسبب 315 المراد بالتكليف: مطابقة قصد المكلف قصد الشارع 316 هذه شبهة ومناقشتها 316 فصل 317 للمكلف قصد المسبب 317 التمثيل بالرزق 317 قصد المسببات في العاديات لازم لظهور المصالح بخلاف العباديات 319 المجتهد وقصد المسببات 320 المقلد في ذلك 320 القضاء في الغضب وغيره 320 المسألة السادسة: 321 مراتب الالتفات إلى المسببات: 321 الأولى: أنه فاعل للمسبب وهو شرك 321 الثانية: الدخول على أن المسبب يكون عادة وهو موضع الكلام 322 الثالثة: الدخول على أن المسبب من الله 322 العدوى 323 فصل: مراتب ترك الالتفات إلى المسبب: 323 إحداها: الدخول مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْتِلَاءٌ لِلْعِبَادِ وَامْتِحَانٌ لَهُمْ 323 وهذا ضربان: 323 ما وضع لابتلاء العقول وهو العالم كله 324 مَا وُضِعَ لِابْتِلَاءِ النُّفُوسِ وَهُوَ الْعَالَمُ كُلُّهُ أيضا 324 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 أدلته من القرآن 24 الثانية: أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِحُكْمِ قَصْدِ التَّجَرُّدِ عَنِ الالتفات إلى الأسباب 325 التوحيد والشرك 325 الثالثة: الدخول فِي السَّبَبِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ مُجَرَّدًا عَنِ النظر في غير ذلك 326 المسألة السابعة: 327 الدخول في السبب المنهي عنه وغير المنهي عنه ورفع التسبب 327 أمثلة على ذلك وتفصيلها 327 الأولى 327 الثانية 328 الثالثة 328 التوكل عند أهل التصوف والأخذ بالأسباب 328 الإيمان بالقدر 329 قصة في التوكل عند غلاء الأسعار 329 العمليات الانتحارية أم الاستشهادية؟ 330 أمثلة قريبة منه 331 الفتوى على حسب السائل والسؤال 332 صاحب اليقين والتوكل والأخذ بالأسباب وتفصيل ذلك 332 مرتبة الابتلاء 334 مرتبة أخرى 335 وأخرى 335 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: 335 إِيقَاعُ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبِ 335 أدلة ذلك 336 الداخل فِي السَّبَبِ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لِمُسَبَّبِهِ 338 الثواب والعقاب على الفعل وعدمه 338 المسألة التاسعة: 339 ما بني على ما سبق وهو ثمرة البحث 339 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 أحدها: متعاطي الأسباب على وجه صحيح ثم قصد أن لا يقع المسبب فقد قصد محالا 339 الأسباب المشروعة وغير المشروعة 339 الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها 340 كل قصد ناقض ذلك فهو باطل 340 الإشكال على ذلك من وجهين والجواب عليه 341 رفض العبادة 343 الأسباب الشرعية ومسبباتها 344 النهي لا يدل على الفساد 345 البيوع الفاسدة عند مالك 346 فصل: فعله السبب عالما بأن المسبب ليس إليه زاد أعمال القلب كالإخلاص والتفويض والتوكل والصبر 346 الإخلاص 346 التفويض 347 الصبر والشكر 348 فصل: ومن الثمرات النصيحة للنفس والغير 348 في العاديات والعباديات 349 فصل: الطمأنينة 349-350 كفاية الهموم 351 الزهد 352 فصل: ومن الثمرات التوسط في الأمور 353 النصب والخوف والإشفاق مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الناس 354 نفوذ القدر المحتوم 356 فصل: تَارِكَ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَزْكَى 357 الصوفية لفظ مبتدع والتزكية لفظ شرعي 358 المسألة العاشرة: 359 اعتبار المسببات بالأسباب 359 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 أنه إذا لم يلتزم الشرع فيها قد يقع فيها ما ليس في حسابه من الشر مثل السنن السيئة 359 تزييف الدراهم والدنانير، ترويج العملة 361 كثرة الخطا إلى المساجد 361 قيام الساعة على الأمة 361 النعم شكرها وكفرها 362 عود إلى التسبب واستغفار الأرض للعالم 363 فصل: فائدة ارتفاع الإشكالات التي ترد 364 مثل: توسط الأرض المغصوبة ومناقشتها مناقشة مختلفة الأوجه 364 ومن تاب عن القتل بعد إطلاق وسيلة القتل 366 فصل: المسببات علامة على فساد أو صحتها الأعمال 366 تضمين الصناع 367 الأعمال الظاهرة دليل على الأعمال الباطنة 367 فصل: المسببات قد تكون عامة وقد تكون خاصة 368 ذكر أمثلة على الخاصة 368 وأمثلة عن العامة وهي سبب الفساد في الأرض 368 تخريج حديث الغلول 368 ازدياد الحرص على الخير 371 فصل: مواضع الالتفات إلى الأسباب والضابط فيها أن لا يمر على الأصل بالفساد 371 الاستعداد للقتال والجهاد دفاعا عن الأمة 371 الضابط قسمان: 372 قسم بإطلاق وقسم على بعض المكلفين 372 وله تقسيم من جهة أخرى ما كان مظنونا به أو مقطوعا به 372 فصل: تعارض الأصلين على المجتهد 373 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: 374 الْأَسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَفَاسِدِ لا للمصالح 374 مِثَالُ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ 374 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة ناشئة عن أسباب أخرى مناسبة لها 375 الاستدلال على ذلك وتوضيحه 375 القضاء والحكمة 376 اختلاف الاجتهاد والمجتهدين 377 الغصب وأمثلة أخرى 378 فصل: أحكام ترتبت على ذلك في مذهب مالك 379 الطلاق والسفر 379 بيع العينة 381 فصل: قد يكون للمسائل نظر من باب آخر 381 فصل: النظر إلى المسببات العادية 381 المسألة الثانية عشرة: 382 الأسباب شرعت لتحصيل المسببات "المصالح والمفاسد" 382 والمسببات ضربان 382 - ما شرعت الأسباب لها بقصد الشارع أو بقصد المكلف 382 - ما كان لغير ذلك 383 وهذه أقسام: 383 مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ السَّبَبَ شُرِعَ لأجله, أمثلة على ذلك بالنكاح وغيره 383 الثاني: مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يشرع لأجله ابتداء فهو باطل 383 من أوجه بطلانه الثلاثة 384 نكاح المحلل وغيره 386 تعليق الطلاق على النكاح 386 أمثلة من مذهب مالك كنكاح من في نفسه أن يفارق 387 مناقشة ما سبق من وجهين: إجمالي وتفصيلي 389 المسألة الثالثة عشرة: 390 السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لِحِكْمَةٍ لَا يَخْلُو أَنْ يُعْلَمَ أَوْ يُظَنَّ وُقُوعُ الْحِكْمَةِ بِهِ أَوْ لَا 390 وهذا على ضربين: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِتِلْكَ الحكمة أو لآخر خارجي 390 فالأول ينفي المشروعية 390 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وأدلة ذلك 391 والثاني: فيه خلاف على تأثيره على أصل المشروعية وأدلة المجيز 391 1- القضايا الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان 391 2- الحكمة تعتبر بمحلها أو بوجودها 392 التمثيل على ذلك بمشقة السفر والملك المترفه 392 مناقشة ذلك والرد والرد على الرد 392 3- اعْتِبَارَ وُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي مَحَلٍّ عَيْنًا لَا ينضبط 393 مناقشة المسألة 394 أدلة المانع 394 1- قبول المحل ذهنا أو في الخارج 394 2- فيه نقض لقصد الشارع 395 3- غلبة الظن في ذلك 395 الملك المترفه والربا في الصدق 395 العلة في موضع الحكمة 396 فصل: 396 مسألة التعليق والجواب عنها 396 النكاح للبر في اليمين 396 اعتماد ذلك على أصلين 399 فصل: القسم الثالث: أن يقصد مسببا لا يظن أو يعلم أنه مقصود الشارع وهو محل إشكال 400 المسألة الرابعة عشرة: 400 الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا وكذلك غير المشروعة 401 أمثلة على ذلك منها قتل الحر بالعبد 401 قد يكون ذلك يسبب مصلحة ليس ذلك سببا فيها 402 وقد يكون يفعل ذلك لقصد وهو على وجهين 402 - أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْمُسَبَّبَ الَّذِي مُنِعَ لِأَجْلِهِ لا غير ذلك 402 أمثلة على ذلك 403 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 منها ميراث القاتل 403 وضمان المغصوب 403 والثاني: أن يقصد توابع السبب 405 قاعدة "المعاملة بنقيض المقصود" 405 النوع الثاني في الشروط 405 المسألة الأولى: 405 معنى الشرط عند المصنف وعند ابن الحاجب 406 أمثلة ذلك 407 المسألة الثانية: اصطلاح الكتاب في السبب والعلة والمانع وتعريفها 410 المسألة الثالثة: الشروط ثلاثة أقسام: عقلية وعادية وشرعية 413 المسألة الرابعة: الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف 413 أمثلة على ذلك 413 إشكال على ما سبق وذكر أمرين لرفعه 414 أولا: أن ما سبق هو من العقليات 414 ثانيا: أن العقل شرط مكمل لمحل التكليف 415 المسألة الخامسة: السَّبَبَ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفَ التَّأْثِيرِ عَلَى شَرْطٍ فلا يصح أن يقع المسبب دونه 415 في مذهب مالك وغيره: أن الحكم إذ حَضَرَ سَبَبُهُ وَتَوَقَّفَ حُصُولُ مُسَبَّبِهِ عَلَى شَرْطٍ هل يصح وقوعه بدون شرط؟ 416 أمثلة على ذلك 416 المسألة السادسة: الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَشْرُوطَاتِ شَرْعًا عَلَى ضَرْبَيْنِ: 421 أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ 421 والثاني: ما كان راجعا إلى خطاب الوضع 421 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 المسألة السابعة: إذا تَوَجَّهَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَى فِعْلِ الشَّرْطِ أَوْ تركه من حيث هو فعل فلا يخلو أن يفعله أو يتركه وهو داخل تحت خطاب التكليف 422 أمثلة على ذلك مع تخريج أحاديثها 423 الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع في الصدقات 423 الخيار في البيع والمحلل في السباق 425 حديث بريرة في الولاء 427 بيوع منهي عنها 427 أمثلة أخرى مع تخريج أحاديثها 428 المصالح معتبرة في الأحكام 432 الشَّرْطَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَنْهَضِ السَّبَبُ أن يكون مقتضيا 432 مناقشة للأدلة السابقة ومناقشة لبعض إشكالات لزومها 433 فصل: بطلان العمل السابق أو عدمه 435 أوجه تجاذب المسألة من ثلاثة أوجه 435 أحدها: مجرد انعقاد السبب كافٍ 436 الثاني: مجرد انعقاد السبب غير كافٍ 436 الثالث: أن يفرق بين حقوق الله وحقوق الآدميين 437 المسألة الثامنة: 438 الشُّرُوطُ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: 438 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِحِكْمَةِ الْمَشْرُوطِ وَعَاضِدًا لَهَا 438 الثاني: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَقْصُودِ الْمَشْرُوطِ وَلَا مكمل لحكمته 439 الثالث: أَنْ لَا يَظْهَرَ فِي الشَّرْطِ مُنَافَاةٌ لِمَشْرُوطِهِ ولا ملاءمة 440 النوع الثالث: في الموانع 441 المسألة الأولى: 441 أنواع الموانع وتقسيماتها 441 أمثلة على هذا التقسيم 442 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 المسألة الثانية 444 الموانع ليست بمقصودة للشارع ومعناه 444 وهي على ضربين 444 ضرب داخل تحت خطاب التكليف 444 الضرب الثاني -وهو المقصود- وهو الداخل تحت خطاب الوضع 445 المسألة الثالثة: 446 الموانع الداخلة تحت خطاب التكليف 446 تمثيله والأدلة عليه 446 الإرهاب 449 الحجر الصحي 450 النوع الرابع في الصحة والبطلان 451 المسألة الأولى: 451 في معنى الصحة وإطلاقاتها 451 المسألة الثانية: 452 في معنى البطلان وإطلاقاته 452 تخريج حديث عائشة وزيد بن أرقم في الربا 456 المسألة الثالثة: 459 البطلان في العادات وتقسيمه إلى أربعة تقسيمات: 459 1- أن يفعل من غير قصد 459 2- أن يفعل لقصد نيل غرض مجردا 459 3- أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا 460 4- أن يفعل مع استشعار الموافقة اختيارا 461 وفيه تفصيل 461 فصل: إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني 462 النوع الخامس: في العزائم والرخص 464 المسألة الأولى: 464 معنى العزيمة والتمثيل لها 464 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الرخصة ومعناها 466 فصل: إطلاق الرخصة وأمثلة ذلك 469 فصل: التخفيف عن الأمة 469 فصل: وما فيه توسعة على العباد مطلقا 472 عود إلى العزيمة 472 العزيمة وأصحاب الأحوال 473 فصل: ما سبق من إطلاقاتها قد يكون لبعض الناس وقد يكون للعامة 474 المسألة الثانية: 474 حكم الرخصة من حيث هي رخصة الإباحة مطلقا 474 أدلة ذلك: 474 1- النصوص الدالة على رفع الحرج وإسقاط الإثم 474 2- أن الرخصة أصلها التخفيف وتوضيح ذلك 477 3- أنها لو كانت مأمورا بها ندبا أو إيجابا كانت عزائم 477 مناقشة ذلك والاستدلال له 478 الرد على المناقشة 480 المسألة الثالثة: 484 الرخصة إضافية لا أصلية 484 1- سبب الرخصة هو المشقة 484 المشقة في العادة 484 2- قَدْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ الْمُكَلَّفِ حَامِلٌ عَلَى الْعَمَلِ 485 3- ما يدل على هذا من الشرع 486 مناقشة الحرج في الشرع 487 المسألة الرابعة 490 الإباحة المنسوبة إلى الرخص بمعنى رفع الحرج لا التخيير 490 توضيح ذلك بالأمثلة 490 كلمة الكفر والإكراه 491 الإباحة بمعنى التخيير 493 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 فوائد المسألة 493 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: 493 التَّرَخُّصُ الْمَشْرُوعُ ضَرْبَانِ 493 أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون في مقابلة مشقة لا صابر عليها طبعا 493 الثاني: أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ مَشَقَّةٍ بِالْمُكَلَّفِ قُدْرَةٌ على الصبر عليها 494 حق الله وحظوظ العباد 494 حظوظ العباد على ضربين 494 ما يختص بالطلب وما لا يختص 495 تنبيهان 495 المسألة السادسة: 496 التخيير بين العزيمة والرخصة 496 الترجيح بينهما 496-497 الأخذ بالعزيمة من طرف أولى لأمور: 497 أولا: لأن العزيمة هي الأصل الثابت 497 ثانيا: لأن الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ فِي التَّكْلِيفِ كُلِّيٍّ 498 ثالثا: مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوُقُوفِ مع مقتضى الأمر والنهي 498 ذكر حال الصحابة في الأزمات وحين وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتداد العرب 499 الإكراه على كلمة الكفر 501 قصة أبي حمزة الخراساني ووقوعه في بئر 502 قصة الثلاثة الذين خلفوا 502 قصة عثمان بن مظعون ودخوله مكة بجوار 503 الصبر والابتلاء 503 سبب نزول {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... } 503 جيش أسامة 504 الوجه الرابع: العوارض الطارئة ونحوها من المشقات مما يقصده الشارع 504 الاضطرار وتحمل المشاق 506 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 الخامس: أخذ الترخص بإطلاق ذريعة إلى الانحلال 506 الأخذ بالهوى 508 التيمم لخوف لصوص أو سباع 508 الصبر في ذات الله على المشاق الشديدة 509 السادس: مراسم الشريعة مضادة للهوى 510 الشاق على الإطلاق 510 الوقوف مع أصل العزيمة من الواجب أم المندوب؟ 510 إجابته تحتاج إلى تفصيل "أحوال المشقات" 510 المسألة السابعة 511 المشقات ضربان 511 أحدهما: حقيقية: وهو معظم ما يقع فيه الترخص 511 الثاني: توهمية مجردة 511 تفصيل الضرب الأول 512 تفصيل الضرب الثاني 513 الظنون والتقديرات غير المحققة داخلة في هذا الباب 514 أهواء النفس فهي ضد الضرب الأول 515 الاحتياط 516 فصل: الفوائد من هذه الطريقة 517 الاحتياط في اجتناب الرخص 517 فهم معنى الأدلة في رفع الحرج 517 فصل: ترجيح الرخص 518 أصل الترخص قطعي أيضا 518 أصل الرخصة وإن كان جزئيا مع العزيمة ولكن ذلك غير مؤثر 519 أدلة رفع الحرج عن الأمة قطعية 520 الرخصة المقصود منها الرفق بالمكلف 521 التزام المشاق تكليف وعسر 522 ترخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنواع من الرخص 523 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 ترك الترخص قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الِاسْتِبَاقِ إِلَى الخير 524 تخريج أحاديث في ذلك 525 مراسم الشريعة جاءت لمصالح العباد 529 فصل: الأولوية في ترك الترخص 530 الحكم بين من قدم الترخص ومن قدم العزيمة ووجه كل فريق 530 فصل: الخلاص من الإشكال من وجهين 531 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: 531 كُلُّ أَمْرٍ شَاقٍّ جَعَلَ الشَّارِعُ فيه للمكلف مخرجا، قصد أن يتحراه المكلف 531 مخالفة ذلك توقع في محظورين: 532 مخالفة قصد الشارع وسد أبواب التيسير عليه 532 بيان ذلك من أوجه 532 الأول والثاني 532 الاستدلال عليه 532-533 الثالث: طَالِبَ الْمَخْرَجِ مِنْ وَجْهِهِ طَالِبٌ لِمَا ضَمِنَ له الشارع النجح فيه 536 الرابع: إِنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا أَحْوَالُ الْعَبْدِ لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها 537 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: 538 أَسْبَابُ الرُّخَصِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةِ التَّحْصِيلِ ولا الرفع 538 المسألة العاشرة: 539 إذا كانت الرُّخْصَةَ مُبَاحَةٌ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ صارت العزيمة معها من الواجب المخير 539 إذا كانت بمعنى رفع الحرج فالعزيمة على أصلها من الوجوب 539 مثل حكم الحاكم والعمل بالبينات 539 قاعدة رفع الحرج مطلقا 541 المسألة الحادية عشرة: 541 العزائم مطردة مع العادات الجارية 541 الرخص جارية عند انخراق العوائد 542 توضيح ذلك بالأمثلة 542 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 الكرامات 543 اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- السير مع مجاري العادات 544 فائدة الخوارق 546 حال الأولياء مع الكرامات 547 تعذرهم منها 549 نهاية الجزء الأول 550 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 المجلد الثاني كتاب المقاصد مدخل ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ1 كِتَابُ الْمَقَاصِدِ 2 وَالْمَقَاصِدُ الَّتِي يُنْظَرُ فِيهَا قِسْمَانِ3: أَحَدُهُمَا يرجع إلى قصد الشارع.   1 ليست في الأصل، وأثبتناها من النسخ المطبوعة. 2 المقاصد: جمع مقصد، وهو الشيء الذي يقصد، موضعا كان أو غيره، والقصد: إتيان الشيء. قال صاحب "لسان العرب": "قال ابن جني: أصل "ق ص د" ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام والتوجيه، والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أم جور، هذا أصله في الحقيقة، وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أخرى؛ فالاعتزام والتوجل شامل لهما" "ماء/ ص113". قلت: احتل كتابنا هذا بجملته وهذا القسم منه على وجه الخصوص المكانة الأولى بين كتب المقاصد ومباحثها النادرة، وقد بذلت جهود متأخرة في هذا الموضوع؛ منها: "مقاصد الشريعة الإسلامية" ليوسف العالم، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" لأحمد الريسوني، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" لحمادي العبيدي، وتعرض لها أيضا المؤلفون في المصالح، من مثل: مصطفى زيد في "المصلحة في التشريع الإسلامي"، ومصطفى شلبي في "تعليل الأحكام"، والبوطي في "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"، وحسين حامد حسان في "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي". 3 وغيرهما لا ينظر فيه في الأزمان؛ أي: الدهور كلها. "ماء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ الْمُكَلَّفِ. فَالْأَوَّلُ يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاءً1، وَمِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ فِي وَضْعِهَا لِلْأَفْهَامِ، وَمِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ فِي وَضْعِهَا لِلتَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا، وَمِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ فِي دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ حُكْمِهَا؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ. وَلْنُقَدِّمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ في المطلوب:   1 أي: بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كأنه تفصيل له، وهذا القصد الأول هو أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين؛ فإن هذا في المرتبة الأولى بالنسبة إلى قصده في أفهامها، وأنها يراعى فيها معهود الأميين في عرفهم وأساليبهم مثلا، وكذا بالنسبة إلى قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وأن ذلك إنما يكون فيما يطيقه الإنسان من الأفعال المكسوبة، لا ما كان في مثل الغرائز كشهوة الطعام والشراب؛ فلا يطلب برفعها مثلا، وتفاصيل ما ينضبط به ما يصح أن يكون مقصودا للتكليف به وما لا يصح، وكذا بالنسبة إلى قصده دخول المكلف تحت أحكام التكليف من جهة عموم أحكامها واستدامة المكلف على العمل بها، وأنها كلية لا تخص بعضا دون بعض، وأن المعتبر في مصلحة العباد ما يكون على الحد الذي حده الشرع لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، وأنه لا يلزم من كون مصالح التكليف عائدة على العباد لا غير في العاجل والآجل أن يكون نيله لها خارجا عما رسمه الشرع له. وهكذا من تفاصيل هذه الأنواع الثلاثة في مقاصد الشرع من وضع الشريعة؛ فإنها تعتبر في المرتبة الثانية بالنسبة للقصد في أصل وضعها، كما سيأتي له بسط ذلك كله على وجه لم يسبق إليه رحمه الله. وليلاحظ أنه ليس المراد من كتاب المقاصد مقاصد الفن كما يتبادر؛ لأنك إذا قسمت هذه المقاصد بما ذكروه في الأصول؛ تجد أنها تعد في مبادئ الفن، فمثلا تراهم يعدون الكلام في المحكوم به والمحكوم عليه من المبادئ، ولا يخفى عليك أن النوع الثالث –بجميع المسائل التي ذكرها فيه- من قبيل الكلام في المكلف به، وأنه لا بد أن يكون مقدورا للعبد داخلا تحت كسبه، وهكذا الباقي من الأنواع الأربعة إذا تأملتها تجدها من المبادئ لا مقاصد الفن التي هي الأدلة، اللهم إلا على نوع من التوسع في الأصول بأن كل ما انبنى عليه فقه؛ فهو من أجزاء الأصول، ولا حاجة إليه مع ظهور الغرض. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 مُقَدِّمَةٌ كَلَامِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ 1 فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَهِيَ أَنَّ وَضْعَ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا هُوَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَعًا، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهَا صِحَّةً أَوْ فَسَادًا، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَزَعَمَ [الْفَخْرُ] الرازي2 أن   1 وصفه هذه المقدمة بأنها "مسلمة" يعني أنه لا خلاف عليها، ومع ذلك، فقد احتاج إلى القول: "وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عليها صحة أو فسادًا". وليس هذا شأن المُسَلمات، ثم لست أدري ما عنى بقوله: "وليس هذا موضع ذلك"؟ مع أن هذا أنسب موضع لذلك، ثم هو قد أقام البرهان فعلا على صحة القضية، وإن كان بإيجاز شديد، ولعله يشير إلى أن البراهين المفصلة للمسألة ستأتي مبثوثة في مواضع أخرى من الكتاب. ثم استمر في مناقضة قوله "مسلمة"؛ فذكر أن هذه المسألة وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة ... "؛ فكيف يجتمع هذا مع قوله "مسلمة"؟ إلا أن يقصد أنها "مسلمة" عنده، أو أنها "مسلمة" وإن خالف فيها من خالف، وهذا هو الأقرب، ولكن كان ينبغي توضيحه. فأما كونها "مسلمة" عنده؛ فهذا لا شك فيه، بل إنه يعتبرها قضية قطعية، وفي مواضع متفرقة ومناسبات مختلفة يعود ويؤكد هذه القضية، وعلى هذا الأساس يمضي في جميع أجزاء "الموافقات". انظر: "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص 169-170". 2 المصنف لم يسم من المنكرين للتعليل أحدا غير الرازي، وفي هذا نظر من وجهين: الأول: أن ابن حزم بخاصة والظاهرية بعامة يهدمون فكرة "التعليل" من أساسها، وخصص ابن حزم في كتابه "الإحكام" بابا لذلك، قال: "الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين"، ونسب ذلك لجميع الظاهرية؛ قال: "وقال أبو سليمان –أي: داود الظاهري- وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه". قال "8/ 77": "وهذا هو ديننا الذي ندين الله به، وندعو عباد الله إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى"، بل بالغ في هذا الإنكار، فاسمع إليه وهو يقول "8/ 113": "إن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وإنه مخالف لدين الله تعالى، نعم، ولرضاه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة"، ولعل هذا الذي استفز ابن القيم؛ فقال= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 .................................................................................   = وهو يتهيأ للرد المفصل على منكري القياس في "إعلام الموقعين" "2/ 74": "الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم ..... ". ولا أدري لم أهمل المصنف قول ابن حزم هذا، مع تعرضه بلطف وإنصاف للظاهرية في مواطن كثيرة من كتابه، وتصريحه السابق يفيد أنه لم يقف على أن المذكور قول لهم، وهذا ما أستبعده لشهرته عنهم، إلا أن ردد في مثل هذه المسألة خاصة مع الجويني في "البرهان "2/ 819" أنهم "ملتحقون بالعوام، وكيف يُدعَون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم؟ وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ؟! والآخر: في نسبة نفي التعليل للرازي وقفة، وقد تابع المصنف في زعمه المذكور الشيخ علال الفاسي في كتابه "مقاصد الشريعة" "ص 7- ط دار الغرب"، وأحمد الخلميشي في كتابه "وجهة نظر" "ص 286"، وبنى عليه حَشْرَ الرازي مع الظاهرية في صفٍّ واحد. ويمكن توضيح موقف الرازي من هذه القضية كالآتي: أولا: إنه ينكر التعليل الفلسفي في كتاباته الكلامية، وصرح بهذا في "تفسيره" "2/ 154" عند قوله تعالى في [البقرة: 29] : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . ثانيا: هذا الإنكار منه ومن الأشاعرة كان فرارا من المقولات والإلزامات الاعتزالية، التي تجعل القول بالتعليل مقدمة للقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله. ثالثا: يرى تعليل الأحكام الشرعية تعليلا أصوليا فقهيا، ليس فيه إلزام لله سبحانه، وليس فيه تحتيم على مشيئته، وصرح بهذا ودافع عنه بقوة في كتابه "المحصول" "2/ 2/ 237- 242، 291"، بل قال في "مناظراته" "25": "وأما بيان أن التعليل بالأوصاف المصلحية جائز، فهذا متفق عليه بين العقلاء". رابعا: نفي المصنف في نقله هذا عن الرازي ما أثبته هو، إذ كلامه في مقام التعليل الأصولي لا الفلسفي، وقد فرق بينهما ابن الهمام بقوله في "التحرير" "3/ 304- 305- مع التيسير": والأقرب إلى التحقيق أن الخلاف لفظي، مبني على معنى الغرض، فمن فسره بالمنفعة العائدة إلى الفاعل، قال: لا تعلل، ولا ينبغي أن ينازع في هذا، ومن فسره بالعائدة إلى العباد، قال: تعلل، وكذلك لا ينبغي أن ينازع فيه".= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 أَحْكَامَ اللَّهِ لَيْسَتْ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ أَلْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَهُ تَعَالَى مُعَلَّلَةً بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ1، وَلَمَّا اضْطُرَّ2 فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَى إِثْبَاتِ الْعِلَلِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أُثْبِتَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة،   = وانظر في الفرق بينهما: "التحرير والتنوير" "1/ 379- 381" لابن عاشور، و"ضوابط المصلحة" "96- 97" للبوطي خامسا: ما لم يستقم التوفيق المذكور، فنردد مع شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في "مجموع الفتاوى" "6/ 55": "أما ابن الخطيب- وهو الرازي، فكثير الاضطراب جدا، لا يستقر على حال، وإنما هو بحث وجدل بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه، بخلاف أبي حامد، فإنه كثيرا ما يستقر". سادسا: المشهور عن الرازي القول بأن الأحكام الشرعية معللة، نقل ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 75" عنه، قال: "غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة، والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا، وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن". 1 ذهبت عبارات الأصوليين في تعليل الأحكام مذاهب شتى، والتحقيق الذي لم يبق فيه محل للشبهة أن الأحكام قائمة على رعاية مصالح العباد،، وهذه المصالح هي التي يسمونها بالعلل، ولكن تعيين العلة وكيفية مراعاتها إنما يتلقى من الشارع نصا أو تلويحا، ولا مانع من أن تكون أحكام الله معللة بالغايات المحمودة، إذ الغاية التي تشعر بالحاجة إنما هي الغاية العائدة إلى تكميل الحاكم، أما ما يقصد بها تكميل غيره، فرعايتها ضرب من الكرم، ومظهر من مظاهر الحكمة البالغة "خ". قلت: انظر في المسألة "شرح الكوكب المنير" "1/ 312، "والتوضيح في حل غوامض التنقيح" "2/ 63"، و"شفاء الغليل" "ص 103"، و"نبراس العقول" "323- 328"، و"جمع الجوامع" "2/ 233"، و"الإبهاج" "3/ 41"، و"إيثار الحق على الخلق" "ص 181 وما بعدها"، و"نفائس الأصول" "9/ 3995"، و"تعليل الأحكام" لمحمد مصطفى شلبي، ففيه بحث واف عن هذا الموضوع. 2 أي: ليتأتى له القول بالقياس وأنه دليل شرعي. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْمُعْتَمَدُ إِنَّمَا هُوَ أَنَّا اسْتَقْرَيْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ اسْتِقْرَاءً لَا يُنَازِعُ فِيهِ الرَّازِيُّ وَلَا غَيْرُهُ، فَإِنَّ1 اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي بَعْثِهِ الرُّسُلَ وَهُوَ الْأَصْلُ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165] ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 107] . وَقَالَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هُودٍ: 7] ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56] ، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [المُلك: 2] . وَأَمَّا التَّعَالِيلُ2 لِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى3، كَقَوْلِهِ بَعْدَ آيَةِ الْوُضُوءِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 6] . وَقَالَ فِي الصِّيَامِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 183] وَفِي الصَّلَاةِ: {إِنَّ الصَّلاةَ 4 تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] .   1 أي: ولا يتأتى للرازي أن يقول في هذه العلل العامة: إنها علامات للأحكام، ثم لا يخفى عليك أنه يستعمل كلمة "العلة" في كتابه بمعنى الحكمة كما سبق له. "د" 2 في "ط": "التعليل". 3 في "ط": "فأكثر من أن يؤتى على آخره". 4 أخذ المعنى على أنه علة للأمر بإقامة الصلاة، وتأمله، "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَقَالَ فِي الْقِبْلَةِ: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [الْبَقَرَةِ: 150] وَفِي الْجِهَادِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الْحَجِّ: 39] وَفِي الْقِصَاصِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [الْبَقَرَةِ: 179] . وَفِي التَّقْرِيرِ عَلَى التَّوْحِيدِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 172] ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ. وَإِذَا دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى هَذَا، وَكَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ1، فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ2 ثَبَتَ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ، فَلْنَجْرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ- وَيَبْقَى الْبَحْثُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ مَوْكُولًا إلى علمه- فنقول والله المستعان:   1 في نسخة ماء/ ص 114": "مفيد العلم". 2 سيأتي له في كتاب الاجتهاد في المسألة العاشرة توسع في هذه الجملة وفي تفاريع القواعد الفقهية على اعتبار المصالح. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَقَاصِدُ الشَّارِعِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ 1 وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى 2: تَكَالِيفُ الشَّرِيعَةِ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَقَاصِدِهَا فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ لَا تَعْدُو ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَاجِيَّةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ تَحْسِينِيَّةً. فَأَمَّا الضَّرُورِيَّةُ، فَمَعْنَاهَا أَنَّهَا لَا بُدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا،   1 هذا النوع الأول من هذه الأنواع جاء في بيان، أي: ظهور قصد الشارع في وضع الشريعة، والشارع هو الله تعالى، والشريعة والشرعة، ما سن الله من الدين وأمر به، كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، وسائر أعمال البر مشتق من شاطئ البحر الذي تشرع فيه الدواب والناس، فيشربون منها ويستقون. "ماء / ص 115". 2 سيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان واف للمقاصد الشرعية وتفاريعها ومكملاتها وإن كان على نحو آخر "د". قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 114". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَلْ عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ1 وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الْأُخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ، وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ وَالْحِفْظُ لَهَا يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُقِيمُ أَرْكَانَهَا وَيُثَبِّتُ قَوَاعِدَهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ2. وَالثَّانِي: مَا يَدْرَأُ عَنْهَا الِاخْتِلَالَ الْوَاقِعَ أَوِ الْمُتَوَقَّعَ فِيهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا3 مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ. فَأُصُولُ الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ الدِّينِ مِنْ جانب الوجود، كالإيمان4.   1 أي: فتن وقتال. "ماء/ ص 115". 2 مراعاة الضروريات من جانب الوجود تكون بفعل ما به قيامها وثباتها، ومراعاتها من جانب العدم تكون بترك ما به تنعدم، كالجنايات، فلا يقال: إن مراعاتها من جانب الوجود بمثل الصلاة، وتناول المأكولات مثلا هو مراعاة لها من جانب العدم، إذ بفعل هذه الأشياء التي بها الوجود والاستقرار لا تنعدم مبدئيا أو لا يطرأ عليها العدم، فما كان مراعاة لها من جانب الوجود هو أيضا مراعاة لها من جانب العدم بهذا المعنى. "د". قلت: انظر "شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 238"،و"المستصفى" "1/ 251"، و"شرح المحلى على جمع الجوامع" "2/ 280". 3 مما ينبغي الانتباه له أن المحافظة لدى المصنف لا تعني الصيانة فقط، وإنما تتناول الإقامة أو الإنشاء، لما تلح الحاجة أو الضرورة إلى إقامته من المصالح العامة، والمرافق في الدولة، كما تتناول التنمية، فليس المقصود إذن بالمحافظة خصوص الصيانة، بل ما يتناول الإنشاء والتنمية لسائر مرافق الحياة والمصالح العامة والفردية على السواء، وفي هذا من السعة ما فيه مما يمنع التخلف والجمود الحضاري. أفاده الأستاذ الدريني في كتابه "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 99". 4 قال في "التحرير" و"شرحه": "حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد وعقوبة الداعي إلى= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْعَادَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ أَيْضًا، كَتَنَاوُلِ1 الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَالْمَلْبُوسَاتِ، وَالْمَسْكُونَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْمُعَامَلَاتُ2 رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّسْلِ وَالْمَالِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، وَإِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ أَيْضًا، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ3 الْعَادَاتِ. وَالْجِنَايَاتُ- وَيَجْمَعُهَا4 الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عن المنكر- ترجع إلى   = البدع، ويقول الحنفية: إن وجوب الجهاد ليس لمجرد الكفر، بل لكونهم حربا علينا، ولذلك لا يحارب الذمي والمستأمن، ولا تقتل المرأة والراهب، وقبلت الجزية، وهذا لا ينافي أنه لحفظ الدين، إذ حفظ الدين لا يتم مع حربهم المفضي إلى قتل المسلم أو فتنته عن دينه". أهـ. فأنت ترى المؤلف توسع في حفظ الدين، فجعله مقصدا لجميع التكاليف أصولها وفروعها، ولعله لا يوافق قوله بعد "فإنها مراعاة في كل ملة"، لأن ذلك قد لا يسلم بالنسبة لنحو الزكاة .... إلخ. "د". 1 أي: أصل تناول الغذاء الذي يتوقف عليه بقاء الحياة والعقل، وسيأتي في الحاجيات التمتع بالطيبات من مأكل وملبس .... إلخ، أي: مما يكون تركه غير مخل بالنفس والعقل، ولكنه يؤدي إلى الضيق والحرج، فالفرق بين المقامين واضح. "د". 2 أي: بالمقدار الذي يتوقف عليه حفظ النفس والمال، فهي بهذا المقدار من الضروري، وهذا هو الذي عناه الآمدي بجعل المعاملات من الضروري، أما مطلق البيع مثلا، فليس من الضروري، بل من الحاجي خلافا لإمام الحرمين، وبهذا يتضح لك ما يأتي للمؤلف في هذه المسألة والمسألة التي تليها. "د". 3 في "د": "بوسطه"، وفي الأصل و"ط": بوساطة". 4 جملة معترضة، والظاهر أنها مقدمة من تأخير، وأن موضعها قبل قوله: "والعبادات والعادات قد مثلت"، وهي راجعة إلى جميع ما تقدم مما يحفظ من جانبي الوجود والعدم، ومعنى كونها تجمع ذلك أنها تتعلق به جميعه وتنصب عليه من باب تكميل أبواب الشريعة، إذ ما من أمر ولا نهي إلا يتعلق به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أخبر عن الجنايات بأنها ترجع إلى حفظ ما سبق من جانب العدم- ثم اكمل المقام بالتمثيل للمعاملات والجنايات لأنه مثل لغيرهما آنفا، وسيأتي في المسألة السابعة من مبحث الكتاب في قوله: "وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ما يساعد على ما قررنه في فهم قوله هنا: "ويجمعها .... " إلخ. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 حِفْظِ الْجَمِيعِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ. وَالْعِبَادَاتُ وَالْعَادَاتُ قَدْ مُثِّلَتْ، وَالْمُعَامَلَاتُ مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ مَعَ غَيْرِهِ، كَانْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، بِالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ أَوِ الْمَنَافِعِ أَوِ الْأَبْضَاعِ، وَالْجِنَايَاتُ مَا كَانَ عَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالْإِبْطَالِ، فَشُرِعَ فِيهَا مَا يَدْرَأُ ذَلِكَ الْإِبْطَالَ، وَيَتَلَافَى1 تِلْكَ الْمَصَالِحَ، كَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَّاتِ -لِلنَّفْسِ، وَالْحَدِّ- لِلْعَقْلِ2، وَتَضْمِينِ 3 قِيَمِ الْأَمْوَالِ- لِلنَّسْلِ وَالْقَطْعِ وَالتَّضْمِينِ- لِلْمَالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمَجْمُوعُ الضَّرُورِيَّاتِ خَمْسَةٌ، وَهِيَ4: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ، وَالْعَقْلِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا مُرَاعَاةٌ في كل ملة5.   1 في "ط": "أو يتلافى" 2 في الأصل: "الحد - الحد". 3 الذي قاله غيره أن حفظ النسل شرع له حد الزنا جلدا ورجما، لأنه مؤد إلى اختلاط الأنساب، المؤدي إلى انقطاع التعهد من الآباء، المؤدي إلى انقطاع النسل وارتفاع النوع الإنساني من الوجود، وأما ما قاله المؤلف، فغير واضح. "د". 4 ترتيبها من العالي للنازل هكذا: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، على خلاف في ذلك، فإن بعضهم يقدم النفس على الدين "د". 5 قال في "شرح التحرير": "حصر المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء" اهـ. فبعد هذا لا يقال: إن الشوكاني تأمل التوراة والإنجيل فلم يجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا، على أن المعروف من لسان النصارى وقسيسهم تحريمها عندهم، وعلى فرض صحة ما عزي للشوكاني، لو قيل: إن الممنوع في جميع الشرائع ضياع العقل رأسا والخمر تذهبه وقتا ثم يعود، لكان له وجه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وَأَمَّا الْحَاجِيَّاتُ1، فَمَعْنَاهَا أَنَّهَا مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الضِّيقِ2 الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لم تراع دخل علتى الْمُكَلَّفِينَ- عَلَى الْجُمْلَةِ3- الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْفَسَادِ الْعَادِيِّ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْعَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْجِنَايَاتِ4: فَفِي الْعِبَادَاتِ: كَالرُّخَصِ الْمُخَفَّفَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لحوق المشقة بالمرض   = أما تعريض الغنائم في الأمم السابقة لحرق النار السماوية بجمعها في مكان خاص وعدم نيل شيء منها، فظاهر أنه ليس من إتلاف الإنسان للمال، وكان تحريمها عليهم لحكمة تخليص نفوسهم من قصد الغنائم بالجهاد، وقد رخص فيها في شرعنا خاصة كما في الحديث: "ولم تحل لأحد قبلي، وقصة: "فطفق مسحا بالسوق والأعناق" ليس فيها إتلاف لها، بل إما أن يكون من باب استعراضها وتفقد أحوالها بيده لا بالسيف كما حققه الفخر، وإما أن يكون ذلك تقربا إلى الله بأحب المال عنده لأكل الفقراء كما هو المشهور، أو ليكون كالوسم بالنار لحبسها في سبيل الله. "د". قلت: قال هذا ردا على "خ" حيث قال: "أوردوا على هذه الدعوى أن الخمر كانت مباحة في الشرائع المتقدمة كما كانت مباحة في صدر الإسلام، وما أجيب به من أن المباح في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ حد السكر غير مستقيم، قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" قد تأملت التوراة والإنجيل، فلم أجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا من غير تقييد بعدم السكر، فلم يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم". 1 انظر عنها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 270، 274، 275، 8/ 194، 195" ط. 2 في نسخة "ماء/ ص 117ط: "التضييق". 3 أي: ليس كل المكلفين يدخل عليه الحرج بفقد هذه الحاجيات. "د". 4 يستفاد من تمثيل المصنف وكلامه الآتي أنه يفرق بين العادات والمعاملات، إذ يجعل العادات مما يفتقر إليه الناس من الحاجات والمصالح التي لا يتوقف تحصيلها على إبرام عقد، أو إنشاء علاقة في تصرف شرعي، وأما المعاملات، فهي ما ما كان ناشئا عن عقد أو تصرف شرعي أو غير شرعي تربطه بغيره، والجنايات وإن اعتبرها المصنف قسما قائما برأسه غير أنها تدخل في المعاملات بما تنشئ من علاقة بين الجاني والمجني عليه، أو بين الجاني والمجتمع أو الدولة، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 414". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وَالسَّفَرِ، وَفِي الْعَادَاتِ كَإِبَاحَةِ الصَّيْدِ وَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ، مَأْكَلًا وَمَشْرَبًا وَمَلْبَسًا وَمَسْكَنًا وَمَرْكَبًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفِي الْمُعَامَلَاتِ، كَالْقِرَاضِ1، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ، وَإِلْقَاءِ2 التَّوَابِعِ فِي الْعَقْدِ عَلَى المتبوعات، كمثرة الشَّجَرِ، وَمَالِ الْعَبْدِ. وَفِي الْجِنَايَاتِ، كَالْحُكْمِ بِاللَّوْثِ، وَالتَّدْمِيَةِ، وَالْقَسَامَةِ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّحْسِينَاتُ، فَمَعْنَاهَا الْأَخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الْمُدَنِّسَاتِ الَّتِي تَأْنَفُهَا الْعُقُولُ الرَّاجِحَاتُ3، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ قِسْمُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَهِيَ جَارِيَةٌ فِيمَا جَرَتْ فِيهِ الْأُولَيَانِ: فَفِي الْعِبَادَاتِ، كَإِزَالَةِ4 النَّجَاسَةِ -وَبِالْجُمْلَةِ الطَّهَارَاتُ كُلُّهَا- وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ، وَالتَّقَرُّبِ بِنَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْقُرُبَاتِ5، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.   1 بل سائر المعاملات التي لا يتوقف عليها حفظ النفس وغيرها من الضروريات الخمس كما أشرنا إليه فيما سبق، لا ما يعطيه ظاهر أنواع الأمثلة من خصوص ما كان له أصل حظر لدخوله تحت قاعدة منع كلي، واستثنى ذلك منه حتى عد رخصة بالإطلاقات الأربعة السابقة. "د". 2 في النسخ المطبوعة: "وإلغاء"، والصواب بالقاف، وكذا في الأصل ونسخة "ماء/ ص 117" و"ط". 3 سواء كان ذلك لخائف أو آمن، فإنه يجب عليه ذلك الأخذ وذلك التجنب. "ماء/ ص 117ط". 4 في "م": "إزالة". 5 في "ط": "والقربانات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وَفِي الْعَادَاتِ، كَآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمُجَانَبَةِ الْمَآكِلِ النَّجِسَاتِ وَالْمَشَارِبِ الْمُسْتَخْبَثَاتِ، وَالْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ. وَفِي الْمُعَامَلَاتِ، كَالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ، وَفَضْلِ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ، وَسَلْبِ الْعَبْدِ مَنْصِبَ1، الشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ، وَسَلْبِ الْمَرْأَةِ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ، وَإِنْكَاحَ نَفْسِهَا، وَطَلَبِ الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَمَا أَشْبَهَهَا. وَفِي الْجِنَايَاتِ، كَمَنْعِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، أَوْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ فِي الْجِهَادِ. وَقَلِيلُ الْأَمْثِلَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا سِوَاهَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهَا، فَهَذِهِ الْأُمُورُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَحَاسِنَ زَائِدَةٍ عَلَى أَصْلِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِقْدَانُهَا بِمُخِلٍّ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين.   1 في نسخة "ماء" "منصبي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا مَا هُوَ كَالتَّتِمَّةِ وَالتَّكْمِلَةِ، مِمَّا لَوْ فَرَضْنَا فَقْدَهُ لَمْ يُخِلَّ بِحِكْمَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ1. فَأَمَّا الْأُولَى2، فَنَحْوُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَلَا تَظْهَرُ فِيهِ شِدَّةُ حَاجَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَكْمِيلِيٌّ3، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمِثْلِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ4، وَقِرَاضُ الْمِثْلِ5، وَالْمَنْعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَشُرْبُ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ، وَمَنْعُ الرِّبَا، وَالْوَرَعُ اللَّاحِقُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ6 الدِّينِ، كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالْقِيَامُ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ7، وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إِذَا قلنا: إنه من الضروريات   1 في نسخة "ماء": " .... لو فرضنا انفقاده، لم يخل بحكمتها الأصلية فقده". 2 أي: مرتبة الضروريات. "د". 3 أي: إنما هو مكمل لحكمة القصاص، فإن قتل الأعلى بالأدنى مؤد إلى ثوران نفوس العصبة، فلا يكمل بدونه ثمرة القصاص من الزجر والحياة التي قصدها الشرع منه، ومثله تحريم قليل المسكر، لأنه بما فيه من لذة الطرب يدعو إلى الكثير المضيع للعقل، فتحريم القليل تكميل لحكمة تحريم الكثير، فيحمل كلام المؤلف على هذا الغرض. "د". 4 في "ط" زيادة ومساقاة المثل". 5 أي: إن هذه الأمثلة الثلاثة مكملة للضروري من حفظ المال للطرفين، كما أن منع النظر للأجنبية مكمل للضروري من حفظ النسل بالمنع من الزنا، لأن النظر مقدمة للزنا وداعية إليه، وتحريم داعية المحرم ثبت بها الدليل الشرعي، وكذا منع الربا تكميل لحفظ المال الذي هو ضروري، فإن الزيادة جزء من مال الدافع يذهب هدرا بدون مقابل معتبر شرعا، والورع تكميل لما هو من نوعه، فإن كان في عبادة، فمكمل لها، وإن كان في عادة أو معاملة، فمكمل لذلك. "د". قلت: انظر في هذا: "شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 240- 241"، و"شرح ألفية البرماوي" "ق313"، مخطوط في جامعة الرياض. 6 في "م": شعار". 7 كأمير: الدعي والكفيل: "قاموس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وَأَمَّا الثَّانِيَةُ1، فَكَاعْتِبَارِ2 الْكُفْءِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِثْلُ الْحَاجَةِ إِلَى أَصْلِ النِّكَاحِ فِي الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْبَيْعَ مِنْ بَابِ الْحَاجِيَّاتِ، فَالْإِشْهَادُ وَالرَّهْنُ وَالْحَمِيلُ مِنْ بَابِ التَّكْمِلَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَجَمْعُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَالْمُكَمِّلِ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُشْرَعْ لَمْ يُخِلَّ بِأَصْلِ التَّوْسِعَةِ وَالتَّخْفِيفِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ3، فَكَآدَابِ4 الْأَحْدَاثِ، وَمَنْدُوبَاتِ الطَّهَارَاتِ، وَتَرْكِ إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ الْمَدْخُولِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، وَالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَكَاسِبِ، وَالِاخْتِيَارِ فِي الضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَالْعِتْقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَاجِيَّاتِ كَالتَّتِمَّةِ لِلضَّرُورِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ التَّحْسِينَاتُ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْحَاجِيَّاتِ، فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ هِيَ أَصْلُ الْمَصَالِحِ5 حسبما يَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ الله تعالى.   1 أي: مرتبة الحاجيات، فما هو لها كالتكملة، فكاعتبار الكفء .... إلخ ما ذكره المصنف. 2 فإن أصل المقصود من النكاح وإن كان حاصلا بدونهما لكنهما أشد إفضاء لدوام النكاح وتمام الألفة بين الزوجين، وما به دوامه من مكملاته. "د". 3 أي: مرتبة التحسينيات، فما هو لها كالتكملة، فكآداب .... إلخ ما ذكره المصنف. 4 في الأصل: "كأدب". 5 والجميع تتمة لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ 1: كُلُّ تَكْمِلَةٍ فَلَهَا- مِنْ حَيْثُ هِيَ تَكْمِلَةٌ- شَرْطٌ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَعُودَ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ تَكْمِلَةٍ يُفْضِي اعْتِبَارُهَا إِلَى رَفْضِ أَصْلِهَا، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عِنْدَ ذَلِكَ2، لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِبْطَالِ الْأَصْلِ إِبْطَالَ التَّكْمِلَةِ، لِأَنَّ التَّكْمِلَةَ مَعَ مَا كَمَّلَتْهُ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِفَاعِ الْمَوْصُوفِ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ارْتِفَاعُ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَاعْتِبَارُ هَذِهِ التَّكْمِلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُؤَدٍّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ، لَمْ تُعْتَبَرِ التَّكْمِلَةُ، وَاعْتُبِرَ الْأَصْلُ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا تَقْدِيرًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ التَّكْمِيلِيَّةَ تَحْصُلُ مَعَ فَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، لَكَانَ حُصُولُ الْأَصْلِيَّةِ أَوْلَى3 لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حِفْظَ الْمُهْجَةِ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ، وَحِفْظُ الْمُرُوءَاتِ مُسْتَحْسَنٌ، فَحَرُمَتِ النَّجَاسَاتُ حِفْظًا لِلْمُرُوءَاتِ، وَإِجْرَاءً لِأَهْلِهَا عَلَى مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، فَإِنْ4 دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ بِتَنَاوُلِ النَّجِسِ، كَانَ تَنَاوُلُهُ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْبَيْعِ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْعُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مُكَمِّلٌ، فَلَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ الْغَرَرِ جُمْلَةً لَانْحَسَمَ بَابُ الْبَيْعِ، وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية5،   1 في الأصل أدخل كلام من المسألة الثانية في هذا الموضع! 2 في نسخة "ماء": "عند أصل ذلك". 3 أي: تحصيلها أولى بالاعتبار، فيجب أن تترجح على التكميلية، لأن حفظ المصلحة يكون بالأصل، وغاية التكميلية أنها كالمساعد لما كملته، فإذا عارضته، فلا تعتبر. "د". 4 في "م": "فإذا". 5 قد تكون الإجارة ضرورية كالاستئجار لإرضاع من لا مرضعة له وتربيته، وقد تكون حاجية وهو الأكثر، ومثله يقال في البيع وسائر المعاملات باعتبار توقف حفظ أحد الضروريات الخمسة أو عدم التوقف. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 واشترط حُضُورِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلَاتِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ، مُنِعَ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ1 إِلَّا فِي السَّلَمِ، وَذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ مُمْتَنِعٌ، فَاشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَنَافِعِ فِيهَا وَحُضُورِهَا يَسُدُّ بَابَ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، وَالْإِجَارَةُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، فَجَازَتْ وَإِنْ لَمْ يُحْضَرِ الْعِوَضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَمِثْلُهُ جَارٍ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ لِلْمُبَاضَعَةِ وَالْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ قَالَ الْعُلَمَاءُ بِجَوَازِهِ، قَالَ مَالِكٌ: "لَوْ تُرِكَ ذَلِكَ كان ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالْجِهَادُ ضَرُورِيٌّ، وَالْوَالِي فِيهِ ضَرُورِيٌّ، وَالْعَدَالَةُ فِيهِ مُكَمِّلَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمُكَمِّلُ إِذَا عَادَ لِلْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ، لَمْ يُعْتَبَرْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ2 عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم3.   1 المقابل للحضور الغيبة، والمقابل للعدم الوجود، فإما أن يقول: "واشتراط وجود العوضين"، ثم يقول: "منع بيع المعدوم إلا في السلم" وهو ظاهر، وإما أن يقول كما قال أولا ثم يقول: "منع من بيع الغائب إلا في السلم"، فيعترض عليه بأن بيع الغائب الموصوف جائز، ومقتضى قوله بعد: "فاشتراط وجود المنافع وحضورها"، ثم قوله: "وَإِنْ لَمْ يُحْضَرِ الْعِوَضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ" أن غرضه بقوله: "واشتراط حضور العوضين" اشتراط وجودهما وحضورهما، ولما كان الحضور يحرز الوجود استغنى به عنه أولا، فيبقى الكلام في اشتراط الحضور في البيع وقد علمت ما فيه. "د". 2 الحاكم الجائر متى انطوت نفسه على أصل الاعتقاد بالإسلام يتسنى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا إليه بالنصيحة، ويقوموه بالموعظة، فإن لم يأتوا به إلى سبيل العدل جملة، خففوا من وطأة مظالمه شيئا كثيرا، وعلى فرض أن يتمادى في طغيانه الذي لا يخلو من رحمة تأخذه في كثير من الأحيان، فمن المتوقع انصرام أجله ورجوع الدولة إلى يد من هو أقوم سيرة وأشد رعاية للمصلحة، وترك الجهاد مع الحاكم الجائر يفضي بالأمة إلى أن يضرب عليها المخالفون سلطة قاتلة، ويضعوا بينها وبين الحياة الشريفة عقبات لا تتزلزل إلا بعد جهاد عنيف. "خ". 3 يشير إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وكذلك مَا جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْوُلَاةِ السوء1 فإن في ترك ذلك   = 3/ 18/ رقم 2532" من طريق سعيد بن منصور- وهو في "سننه" "رقم 2367- ط القديمة"-، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 156"- من طريق أبي داود-، وأبو عبيد في "الإيمان "رقم 27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1227/ رقم 2301" عن أنس مرفوعا: "ثلاث من أصول الإيمان"، وذكر من بينها: "والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل". وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي نشبة السلمي، وهو مجهول، قال الزيلعي في "نصب الراية" "3/ 377": "قال المنذري في "مختصره": يزيد بن أبي نشبة في معنى المجهول، وقال عبد الحق: يزيد بن أبي نشبة هو رجل من بني سليم، لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان". قلت: ويشهد له ما أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2533"، والبيهقي في "الكبرى" "3 / 121و 8/ 125"، والدراقطني في "السنن" "2/ 56/ 57"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1226" / رقم 2299"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 422" عن أبي هريرة مرفوعا: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر .... ". وإسناد ضعيف، وفيه انقطاع، مكحول لم يلق أبا هريرة، وفيه العلاء بن الحارث، كان اختلط، وتابعه يزيد بن يزيد بن جابر عند الدراقطني، ولكن رواه عنه أشعث وهو مجروح، وبقية لا يقوم على روايته. وأورد الدراقطني واللالكائي وابن الجوزي والزيلعي في "نصب الراية" "2/ 26- 29" أحاديث كثيرة تدل على ما ذكرها المصنف، أرجاها وأصحها الحديثان المذكوران ولذا اقتصر عليهما أبو داود في "سننه" على منهجه المعروف، ولذا، فلا داعي للإطالة في تخريجها، ولكن يعجبني ما صنعه البيهقي في "الكبرى" 9/ 56"، فإنه ذكر قبل الحديثين المذكورين حديث عروة البارقي -أخرجه الشيخان- مرفوعا: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة"، وبوب عليها "باب الغزو مع أئمة الجور"،وحديث عروة يدل على التبويب بدلالة اللازم، فتأمل. 1 ورد في ذلك حديث أبي هريرة المرفوع المتقدم آنفا، ومعنى ما ذكره المصنف صحيح، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف. وأخرج مسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 تَرْكَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ الْمَطْلُوبَةِ1، وَالْعَدَالَةُ مُكَمِّلَةٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ بِالتَّكْمِلَةِ. وَمِنْهُ إِتْمَامُ الْأَرْكَانِ فِي الصَّلَاةِ مُكَمِّلٌ لِضَرُورَاتِهَا2، فَإِذَا أَدَّى طَلَبُهُ إِلَى أَنْ لَا تُصلَّى -كَالْمَرِيضِ غَيْرِ الْقَادِرِ-، سَقَطَ الْمُكَمِّلُ، أَوْ كَانَ فِي إِتْمَامِهَا حَرَجٌ ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَمَّنْ لَمْ يُكْمِلْ، وَصَلَّى عَلَى حَسَبِ مَا أَوْسَعَتْهُ الرُّخْصَةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ بَابِ مَحَاسِنِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ طُلِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَتَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا على من   = 1/ 69/ رقم 49"، وأهل السنن، أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراجه منبر النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع، 1/ 188/ رقم 695" عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلى لنا إمام فتنة ونتحرج؟! فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا، فاجتنب إساءتهم". ويدل عليه عموم ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 694"، وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم". قال الشوكاني: "ثبت إجماع أهل العصر الأول من الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا- ولا يبعد أن يكون قوليا- على الصلاة خلف الجائرين، لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى". وانظر: "نيل الأوطار" "3/ 200"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 108- 109"، و"العلل المتناهية" "1/ 418- 419". 1 أي: المكملة للضروري كما سبق له، والعدالة في الإمام مكملة لهذا المكمل. "د" وفي "ط": "شعائر الإسلام المطلوبة". 2 المناسب لضروريها، أي أن الصلاة من الضروريات الخمس، وهذا القيام مكمل لها. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا، إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي الشَّرِيعَةِ تَفُوقُ الْحَصْرَ، كُلُّهَا جَارٍ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ وَانْظُرْ فِيمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْكِتَابِ "الْمُسْتَظْهِرِيِّ"1 فِي الْإِمَامِ الَّذِي لَمْ يستجمع شروط الإمامة، واحمل عليه نظائره.   1 قال فيه "ص 119- 120" بعد أن ذكر شروط الإمامة: " ..... فإن خلا الزمان عن قرشي مجتهد يستجمع جميع الشروط، وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة إن قامت له الشوكة، وهذا حكم زماننا، وإن قدر- ضربا للمثل- حضور قرشي مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرض لإثارة فتن واضطراب أمور، لم يجز لهم خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، إنا نعلم بأن العلم مزية روعيت في الإمامة تحسينا للأمر وتحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وإن الثمرة المطلوبة من الإمامة تطفئة الفتن الثائرة في تفرق الآراء المتنافرة، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش نظام الأمور وتفويت أصل المصلحة في الحال تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد. وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق بسبب عدول الإمام عن النظر إلى تقليد الأئمة بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه واستبداله أو حكموا إمامته غير منعقدة، وإذا أحسن إيراد هذه المقالة، علم أن التفاوت بين اتباع الشرع نظرا واتباعه تقليدا قريب هين، وأنه لا يجوز أن تخرم بسببه قواعد الإمامة ... " إلخ ما قال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَقَاصِدُ الضَّرُورِيَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ لِلْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّةِ. فَلَوْ فُرِضَ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِإِطْلَاقٍ، لَاخْتَلَّا بِاخْتِلَالِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِهِمَا [أَوِ اخْتِلَالِ أَحَدِهِمَا] اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِإِطْلَاقٍ، نَعَمْ، قَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الْحَاجِيِّ بِوَجْهٍ مَا، وَقَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْحَاجِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا، فَلِذَلِكَ إِذَا حُوفِظَ عَلَى الضَّرُورِيِّ، فَيَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ، وَإِذَا حُوفِظَ عَلَى الْحَاجِيِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَى التَّحْسِينِيِّ إِذَا1 ثَبَتَ أَنَّ التَّحْسِينِيَّ يَخْدُمُ الْحَاجِيَّ، وَأَنَّ الْحَاجِيَّ يَخْدُمُ الضَّرُورِيَّ، فَإِنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْمَطْلُوبُ2. فَهَذِهِ مَطَالِبُ خَمْسَةٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا: أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجِيِّ وَالتَّكْمِيلِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَالَ الضَّرُورِيِّ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَالُ الْبَاقِيَيْنِ [بِإِطْلَاقٍ] 3. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْبَاقِيَيْنِ [بِإِطْلَاقٍ] اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ [بِإِطْلَاقٍ] . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلَاقٍ أَوِ الْحَاجِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ وَعَلَى التَّحْسِينِيِّ لِلضَّرُورِيِّ.   1 لعل الأصل: "إذ" لا "إذا" كما يفيده السياق. "د". 2 أي: الأصلي والأشد في الطلب، وإلا، فالكل مطلوب، وسيأتي له ما يفسره في آخر المسألة. "د". 3 أي: اختلالا تاما لا يبقى معه وجود، يقابله الاختلال الجزئي بوجه ما، وفي الأصل و"خ": "واختلال الضروري"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 بيان الأول: أن مصالح الدين مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا اعْتُبِرَ قِيَامُ هَذَا الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا، حَتَّى إِذَا انْخَرَمَتْ لَمْ يَبْقَ لِلدُّنْيَا وُجُودٌ- أَعْنِي: مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِينَ وَالتَّكْلِيفِ-، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْأُخْرَوِيَّةُ لَا قِيَامَ لَهَا إِلَّا بِذَلِكَ. فَلَوْ عُدِمَ الدينُ عُدِمَ ترتُّبُ الْجَزَاءِ الْمُرْتَجَى، وَلَوْ عُدِمَ المكَلَّف1 لعُدِمَ مَنْ يَتَديَّن، وَلَوْ عَدِم الْعَقْلُ لَارْتَفَعَ التديُّن، وَلَوْ عُدِمَ النسلُ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ بَقَاءٌ، وَلَوْ عُدِمَ المالُ لَمْ يبقَ عيشٌ- وأعني بالمال ما يقع عليه الملك ويستبد بِهِ الْمَالِكُ عَنْ غَيْرِهِ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ وَجْهِهِ2، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَاللِّبَاسُ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمُتَمَوِّلَاتِ، فَلَوِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَقَاءٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ مَنْ عَرَفَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا زَادٌ لِلْآخِرَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأُمُورُ الْحَاجِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ حَائِمَةٌ حَوْلَ هَذَا الْحِمَى، إِذْ هِيَ تَتَرَدَّدُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ، تُكْمِلُهَا بِحَيْثُ تَرْتَفِعُ فِي الْقِيَامِ بها واكتسابها المشتقات، وَتَمِيلُ بِهِمْ فِيهَا إِلَى التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ، حَتَّى تَكُونَ جَارِيَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَمِيلُ إِلَى إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ. وَذَلِكَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فِي الْبُيُوعِ، وَكَمَا نَقُولُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الصلاة قاعدا   1 أي: النفس. 2 هذا التعريف يعرف المال انطلاقا من كون المال محل الملك، والملك- الذي هو في حقيقته اختصاص- لا يتعلق إلا بما له قيمة بين الناس، وإلا، فلا معنى للاختصاص به، فأساس المالية هو العلاقة التي تقوم بين الناس والشيء، وذلك لحاجة الانتفاع به بوجوه الانتفاع المشروعة وانظر: "الفروق" "2/ 208". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وَمُضْطَجِعًا، وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الصِّيَامِ فِي وَقْتِهِ إِلَى زَمَانِ صِحَّتِهِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّمْثِيلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِذَا فُهِمَ هَذَا؛ لَمْ يَرْتَبِ الْعَاقِلُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْحَاجِيَّةَ فُرُوعٌ دَائِرَةٌ حَوْلَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي التَّحْسِينِيَّةِ، لِأَنَّهَا تُكْمِلُ مَا هُوَ حَاجِيٌّ أَوْ ضَرُورِيٌّ، فَإِذَا كَمَّلَتْ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، فَظَاهِرٌ، وَإِذَا كَمَّلَتْ مَا هُوَ حَاجِيٌّ، فَالْحَاجِيُّ مُكَمِّلٌ لِلضَّرُورِيِّ، وَالْمُكَمِّلُ لِلْمُكَمِّلِ مُكَمِّلٌ، فَالتَّحْسِينِيَّةُ إِذًا كَالْفَرْعِ لِلْأَصْلِ الضَّرُورِيِّ وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. بَيَانُ الثَّانِي: يَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ أَوْ كَفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهِ، لَزِمَ مِنِ اخْتِلَالِهِ اخْتِلَالُ الْبَاقِيَيْنِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا اخْتَلَّ اخْتَلَّ الْفَرْعُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى1. فَلَوْ فَرَضْنَا ارْتِفَاعَ أَصْلِ الْبَيْعِ مِنَ الشريعة، لم يمكن اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَفَعَ أَصْلُ الْقِصَاصِ؛ لَمْ يُمْكِنِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْقِصَاصِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ الْوَصْفُ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوْصُوفِ، وَكَمَا إِذَا سَقَطَ عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوِ الْحَائِضِ أَصْلُ الصَّلَاةِ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، أَوِ التَّكْبِيرِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ، أَوِ الطَّهَارَةِ الحديثة أو الخبيثة، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ ثَمَّ2 حُكْمًا هُوَ ثَابِتٌ لِأَمْرٍ فَارْتَفَعَ ذَلِكَ الْأَمْرُ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ مَقْصُودًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، كَانَ هَذَا فَرْضَ مُحَالٍ، وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ مَثَلًا أَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعَ مَا هُوَ تَابِعٌ3 لَهَا وَمُكَمِّلٌ، مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ هُوَ الْمُرْتَفِعُ، وَأَوْصَافُهَا بخلاف ذلك.   1 في ط: "الأولى". 2 في "م": "تم". 3 في الأصل: "ثابت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَصْدًا، أَوِ الصِّيَامُ كَذَلِكَ، كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الصِّيَامِ فِي الْعِيدِ، فَكُلُّ مَا تَتَّصِفُ بِهِ مِنْ مُكَمِّلَاتِهَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ أَصْلِ النَّهْيِ، مِنْ حَيْثُ نُهِيَ عَنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ فِي الْوُقُوعِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ، وَلَا تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا إِلَّا بِمَجْمُوعِ أَفْعَالِهَا وَأَقْوَالِهَا، فَانْدَرَجَتِ الْمُكَمِّلَاتُ تَحْتَ النَّهْيِ بِانْدِرَاجِ الْكُلِّ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقَائِقَ فِي أَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهَا مُطْلَقًا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَمْ يَلْزَمِ ارْتِفَاعُهَا بِارْتِفَاعِ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْأَصْلِ اخْتِلَالُ الْفَرْعِ كَمَا أَصَّلْتُ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا مَعَ مَقَاصِدِهَا هَذِهِ النِّسْبَةُ، كَالطَّهَارَةِ مَعَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَثْبُتُ الْوَسَائِلُ شَرْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْمَقَاصِدِ، كَجَرِّ الْمُوسَى فِي الْحَجِّ عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ، فَالْأَشْيَاءُ إِذَا كَانَ لَهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا وُضِعَتْ مُكَمِّلَةً أَنْ تَرْتَفِعَ بِارْتِفَاعِ الْمُكَمَّلِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ وَالتَّكْبِيرَ وَغَيْرَهُمَا لَهَا اعْتِبَارَانِ: * اعْتِبَارٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ. * وَاعْتِبَارٌ مِنْ حَيْثُ أَنْفُسِهَا. فَأَمَّا اعْتِبَارُهَا مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اعْتِبَارِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَجْزَاءٌ مُكَمِّلَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَبِذَلِكَ الْوَجْهِ صَارَتْ بِالْوَضْعِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، وَمِنَ الْمُحَالِ بَقَاءُ الصِّفَةِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوْصُوفِ، إِذِ الْوَصْفُ مَعْنًى لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ عَقْلًا، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي الِاعْتِبَارِ مِثْلَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ المكمِّل مَعَ انْتِفَاءِ المكمَّل، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَأَشْبَاهُهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَسَائِلِ، فَأَمْرٌ آخَرُ، وَلَكِنْ إِنْ فَرَضْنَا كَوْنَ الْوَسِيلَةِ كَالْوَصْفِ لِلْمَقْصُودِ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِأَجْلِهِ1، فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء القصد2، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِبَقَائِهَا3، فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا، وَإِنِ انْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى مَقْصُودٍ آخَرَ، فَلَا امْتِنَاعَ فِي هَذَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ4 مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ5. وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِإِمْرَارِ الموسى على مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِمْرَارِ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا، لَمْ يَصِحَّ فَالْقَاعِدَةُ صَحِيحَةٌ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا نَقْضَ فِيهِ عَلَيْهَا، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْبِهِ وَأَحْكَمُ] 6. بَيَانُ الثَّالِثِ: أَنَّ الضَّرُورِيَّ مَعَ غيره كالموضوف مع أوصافه، ومن المعلوم   1 كطلب أنواع الطهارة لأجل الصلاة، لا يبقى هذا الطلب إذا ارتفع طلب الصلاة. "د". 2 أي: ببقاء طلبها، أي: فإذا دل دليل على طلبها بقطع النظر عن اعتبارها وسيلة إلى مقصد آخر، فذلك لا مانع منه أن يكون الشيء مقصودا لنفسه ومقصودا ليكون وسيلة لغيره باعتبارين، فالوضوء مثلا عبادة مقصودة في نفسها، ووسيلة إلى مقصود آخر هو الصلاة والطواف ومس المصحف وهكذا، فقد لا يكون طواف ولا غيره ويبقى الوضوء مطلوبا، ولكن الكلام في وسيلة اعتبرت وصفا للغير، فباعتبار هذا الوصف متى سقط المتوسل إليه بها بطل طلبها من هذه الجهة التي تعتبر فيها مكملة لغيرها. "د". 3 هكذا في الأصل، وفي "د" و"خ" و"ط": "المقصد". 4 في "د": "شعر"، وهو خطأ. 5 قال القرافي في الفرق "الثامن والخمسين" "القاعدة أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس ما لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج إلى دليل يدل على أنه مقصود في نفسه، وإلا، فهو مشكل على القاعدة". "خ". 6 ليست في الأصل، ولا في "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّهُ يُضَاهِيهِ. مِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ إِذَا بَطَلَ مِنْهَا الذِّكْرُ أَوِ الْقِرَاءَةُ أَوِ التَّكْبِيرُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ أَوْصَافِهَا1 لِأَمْرٍ، لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا ارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الْبَيْعِ، كَمَا فِي الْخَشَبِ، وَالثَّوْبِ الْمَحْشُوِّ، وَالْجَوْزِ، وَالْقَسْطَلِ، وَالْأُصُولِ الْمُغَيَّبَةِ فِي الْأَرْضِ، كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ، وَأُسُسِ الْحِيطَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ2. وَكَذَا3 لَوِ ارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْقِصَاصِ، لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الْقِصَاصِ، وَأَقْرَبُ الْحَقَائِقِ إِلَيْهِ الصِّفَةُ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَكَمَا أَنَّ الصِّفَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهَا بُطْلَانُ الْمَوْصُوفِ [بِهَا] 4، كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ ذَاتِيَّةً بِحَيْثُ صَارَتْ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الْمَوْصُوفِ، فَهِيَ إِذْ ذَاكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْمَاهِيَّةِ، وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَيَنْخَرِمُ الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما [نقول] 5 فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِمَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْخَرِمُ مِنْ أَصْلِهَا بِانْخِرَامِ شَيْءٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا، هَذَا لَا نَظَرَ فيه، والوصف   1 أي: مما ليس ركنا فيها كما يأتي بيانه. "د". 2 أكثر البيوع لا تخلو عن الغرر اليسير، ولهذا كان من المعفو عنه، وقيد الإمام المازري العفو بشرطين: أحدهما أن يكون ذلك اليسير غير مقصود، وثانيهما أن تدعو إليه الضرورة، وقدح ابن عبد السلام في هذا الشرط بأنه يقتضي أن تكون أكثر البيوع رخصة وهو باطل، وأجاب الشيخ ابن عرفة بأن الرخصة ما شرع عند الحاجة خاصة كأكل الميتة، وأما ما جاء عند الحاجة لكل الناس وفي كل الأزمنة، فليس برخصة "خ". 3 في الأصل: "وكذلك". 4 ليست في الأصل. 5 سقطت من "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الَّذِي شَأْنُهُ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ وَلَا مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، بَلْ هُوَ1 مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ مَثَلًا الْكَمَالِيَّةِ أن لا تَكُونَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، وَكَذَلِكَ الذَّكَاةُ مِنْ تمامها أن لا تكون بسكين مغصوبة وما أشبه، وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ بِبُطْلَانِ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَأَصْلِ الذَّكَاةِ، فَقَدْ عَادَ بُطْلَانُ الْوَصْفِ بِالْبُطْلَانِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، لِأَنَّا نَقُولُ: مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ بَنَى، وَمَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ فَبَنَى2 عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ كَالذَّاتِيِّ، فَكَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَرْكَانُهَا كُلُّهَا- الَّتِي هِيَ أَكْوَانٌ- غَصْبًا، لِأَنَّهَا أَكْوَانٌ حاصلة في الدار المغصوبة، وتحريم الغصب3 إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْرِيمِ الْأَكْوَانِ، فَصَارَتِ الصَّلَاةُ نَفْسُهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ4، وَالصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ5. وَكَذَلِكَ الذَّكَاةُ حِينَ صَارَتِ السِّكِّينُ مَنْهِيًّا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا غَصْبٌ، كَانَ هَذَا الْعَمَلُ الْمُعَيَّنُ وَهُوَ الذَّكَاةُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَصَارَ أَصْلُ الذَّكَاةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَعَادَ الْبُطْلَانُ إِلَى الْأَصْلِ بِسَبَبِ بطلان وصف 6 ذاتي بهذا الاعتبار.   1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة بدلا من "بل هو": "ولا". 2 في "ط": "فبناء". 3 هكذا في الأصل، و"ط" ونسختي "م" و"خ"، وفي "د": "الأصل". 4 سيأتي ذلك "ص 516". 5 ورد النهي في أحاديث كثيرة أشهرها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799، 800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر. وستأتي في الباب أحاديث أخر عند المصنف، انظر: "3/ 404، 469". 6 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "أصل ذاتي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَيُتَصَوَّرُ هُنَا النَّظَرُ فِي أَبْحَاثٍ هِيَ مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي أَصْلِنَا الْمَذْكُورِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ لِأَنَّ أَصْلَهُ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي إِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِهِ أَوْ عَدَمِ إِلْحَاقِهَا بِهِ1. بَيَانُ الرَّابِعِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ لَمَّا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي تَأَكُّدِ الِاعْتِبَارِ، فَالضَّرُورِيَّاتُ آكَدُهَا، ثُمَّ تَلِيهَا الْحَاجِيَّاتُ وَالتَّحْسِينَاتُ، وَكَانَ2 مُرْتَبِطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَانَ فِي إِبْطَالِ الْأَخَفِّ جُرْأَةٌ عَلَى مَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ، وَمَدْخَلٌ لِلْإِخْلَالِ بِهِ، فَصَارَ الْأَخَفُّ كَأَنَّهُ حِمًى لِلْآكَدِ، وَالرَّاتِعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَالْمُخِلُّ بِمَا هُوَ مكمِّل كَالْمُخِلِّ بالمكمَّل مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ، فَإِنَّ لَهَا مكملات وهي ما3 سِوَى الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخِلَّ بِهَا مُتَطَرِّقٌ لِلْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ وَالْأَرْكَانِ، لِأَنَّ الْأَخَفَّ طَرِيقٌ إِلَى الْأَثْقَلِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "كَالرَّاتِعِ حول الحمى يوشك أن يقع فيه" 4.   1 باعتبار الاختلاف في وصفية هذه الفروع لأصلها: هل هي أوصاف مكملة أم أوصاف ذاتية "د" 2 كذا في "د" و"خ" و"ط"، وفي الأصل و"م": "كانت". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "هنا" 4 قطعة من حديث أوله: "إن الحلال بين وإن الحرام بين .... " وفيه: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219- 1220/ رقم 1599"عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وَفِي الْحَدِيثِ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ" 1. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "إِنِّي لَأَجْعَلُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ وَلَا أَخْرِقُهَا"2. وَهُوَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ ذِكْرِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. فَالْمُتَجَرِّئُ عَلَى الْأَخَفِّ بِالْإِخْلَالِ بِهِ مُعَرَّضٌ لِلتَّجَرُّؤِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَكَذَلِكَ الْمُتَجَرِّئُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الضروريات؛ فإذًا قد يكون في   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب لعن السارق إذا لم يسم، 12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1314/ رقم 1687"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب قطع السارق، باب تعظيم السرقة، 8/ 65"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الحدود، باب حد السارق، 2/ 862/ رقم 2583"، وأحمد في "المسند" "2/ 253" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقد جرى المصنف في تأويل هذا الحديث على معنى أن من يمد يده إلى سرقة الشيء الحقير لم يلبث أن يتعدى به إلى ما كان أعظم، فصح أن يعد سارق البيضة والحبل بمنزلة من وقع في سرقة المقدار الذي تقطع فيه اليد، وهذا غير تأويله على أن المراد المبالغة في التنفير من السرقة على شاكلة "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة". 2 في النسخ المطبوعة: "ولا أحرمها" والتصويب من الأصل و"ط"،وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "الزهد" "رقم 320" من طريق مالك، بلغه أن عبد الله بن عمر قوله، وإسناده منقطع، ونسبه لابن عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 209". وأخرج البلاذري في "أنساب الأشراف" "ص 201- أخبار الشيخين" بسند ضعيف عن عمر، قال: "ولقد تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 إِبْطَالِ الْكَمَالَاتِ بِإِطْلَاقٍ إِبْطَالُ الضَّرُورِيَّاتِ بِوَجْهٍ مَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِلْمُكَمِّلَاتِ وَمُخِلًّا بِهَا بِإِطْلَاقٍ، بِحَيْثُ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْهَا كَانَ نَزْرًا، أَوْ يَأْتِي بِجُمْلَةٍ مِنْهَا إِنْ تَعَدَّدَتْ؛ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ هُوَ الْمَتْرُوكُ والمخَلُّ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَوِ اقْتَصَرَ الْمُصَلِّي عَلَى مَا هُوَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ مَا يُسْتَحْسَنُ، وَكَانَتْ إِلَى اللَّعِبِ أَقْرَبَ، وَمِنْ هُنَا يَقُولُ بِالْبُطْلَانِ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْبَيْعِ: إِذَا فَاتَ فِيهِ مَا هُوَ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ كَانْتِفَاءِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ؛ أَوْشَكَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا مَقْصُودٌ، فَكَانَ وُجُودُ الْعَقْدِ كَعَدَمِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُهُ أَحْسَنَ مِنْ وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ النَّظَائِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ دَرَجَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ آكَدُ مِنْهَا كَالنَّفْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ فَرْضٌ، فَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ كَالْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّسْبِيحُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَهَكَذَا كَوْنُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ غَيْرَ نَجِسٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ للغيرن ولا مفقود الزكاة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ إِقَامَةِ الْبِنْيَةِ، وَإِحْيَاءِ النَّفْسِ كَالنَّفْلِ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا، وَمُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الْبَيْعِ كَالنَّافِلَةِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ بِالْجُزْءِ يَنْتَهِضُ أَنْ يَصِيرَ وَاجِبًا بِالْكُلِّ؛ فَالْإِخْلَالُ بِالْمَنْدُوبِ مُطْلَقًا يُشْبِهُ الإخلال بركن1 مِنْ أَرْكَانِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ذَلِكَ المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب، ولو أخل الإنسان بركن من أركان الواجب من غير2 عذر بطل أصل الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَخَلَّ بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ أَوْ شَبِيهٍ بِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِبْطَالَ الْمُكَمِّلَاتِ بِإِطْلَاقٍ قد يبطل الضروريات بوجه ما.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالركن". 2 في "د": "بغير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 والثالث: أن مجموع الحاجيات والتحسينات يَنْتَهِضُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الضَّرُورِيَّاتِ1، وَذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ضَرُورِيَّاتٌ إِنَّمَا يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ حَيْثُ يَكُونُ فِيهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ سَعَةٌ وَبَسْطَةٌ، مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا حَرَجٍ وَحَيْثُ يَبْقَى مَعَهَا خِصَالُ مَعَانِي2 الْعَادَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مُوَفَّرَةَ الْفُصُولِ، مُكَمَّلَةَ الْأَطْرَافِ، حَتَّى يَسْتَحْسِنَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعُقُولِ، فَإِذَا أَخَلَّ بِذَلِكَ، لَبِسَ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ لِبْسَةَ الْحَرَجِ وَالْعَنَتِ3، وَاتَّصَفَ بِضِدِّ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَادَاتِ، فَصَارَ الْوَاجِبُ الضَّرُورِيُّ مُتَكَلَّفَ الْعَمَلِ، وَغَيْرَ صَافٍ فِي النَّظَرِ الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا وُضِعَتْ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" 4، فَكَأَنَّهُ لَوْ فرض فقدان المكملات،   1 قرر فيما سبق "1/ 206" أن الأحكام تختلف بحسب الكلية والجزئية، فقد يكون الفعل مباحًا بالجزء لكنه واجب أو مندوب بالكل .... وبهذا الميزان قرر هذا الكلام، وشبيه به نجده عند الجويني في "البرهان" "2/ 923" حيث يرى مثلا أن البيع يعتبر من الضروريات بالنظر إلى العموم، بحيث "إن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم، لجر ذلك ضرورة ظاهرة، فمستند البيع إذا آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة"، أي أنه من حيث الجزء "بالنسبة للفرد للواحد"، إنما هو من الحاجيات، ولكنه بالنسبة إلى مجموع الناس أمر ضروري، فهذه الفكرة عند الجويني بذرة، وعند المصنف شجرة، إذ صقلها ووضحها وطورها ووسعها. 2 في "ط": "محاسن". 3 في "خ": "الحرج والمشقة". 4 أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "7/ 188" و"الأدب المفرد" "رقم 273". وأحمد في المسند" "2/ 381ط، والبرجلاني في "الكرم والجود" "رقم 1" وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 192" والبزار في "مسنده" "رقم 2470- زوائده"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" "13"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 613"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 191-192" و"الشعب" "6/ 230، 231"، والسمعاني في "أدب الإملاء" "ص 25". وتمام في "الفوائد" "رقم 1070- ترتيبه"، جميعهم من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق". وإسناده حسن، قال الهيثمي في "المجمع" "9/ 15" والسخاوي في "المقاصد الحسنة"، "ص 105": "رجاله رجال الصحيح". قلت: ابن عجلان فيه كلام يسير لا يضر إن شاء الله تعالى. وذكره مالك في "الموطأ" "2/ 904" بلاغا، وقال ابن عبد البر: "وهو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره مرفوعا". وأخرجه بلفظ المصنف الطبراني في "مكارم الأخلاق" "رقم 119" من حديث جابر بسند ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ وَاقِعًا عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْوَاجِبِ ظَاهِرٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخَلَلُ فِي الْمُكَمِّلِ لِلضَّرُورِيِّ وَاقِعًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ1 وَفِي يَسِيرٍ مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا يُزِيلُ حُسْنَهُ وَلَا يَرْفَعُ بَهْجَتَهُ وَلَا يُغْلِقُ بَابَ السَّعَةِ عَنْهُ، فَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ حَاجِيٍّ وَتَحْسِينِيٍّ إِنَّمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْأَصْلِ الضَّرُورِيِّ وَمُؤْنَسٌ [بِهِ] 2 وَمُحَسِّنٌ لِصُورَتِهِ الْخَاصَّةِ، إِمَّا مُقَدِّمَةً لَهُ، أَوْ مُقَارِنًا، أَوْ تَابِعًا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهُوَ يَدُورُ بِالْخِدْمَةِ حَوَالَيْهِ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُتَأَدَّى بِهِ الضَّرُورِيُّ عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَثَلًا إِذَا تَقَدَّمَتْهَا الطَّهَارَةُ أَشْعَرَتْ بِتَأَهُّبٍ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَشْعَرَ التَّوَجُّهُ بِحُضُورِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَحْضَرَ نِيَّةَ التَّعَبُّدِ، أثمر الخضوع والسكون، ثم يدخل فيه عَلَى نَسَقِهَا بِزِيَادَةِ السُّورَةِ خِدْمَةً لِفَرْضِ أُمِّ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ3 كَلَامُ الرَّبِّ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَبَّحَ وَتَشَهَّدَ، فَذَلِكَ كُلُّهُ تَنْبِيهٌ لِلْقَلْبِ، وَإِيقَاظٌ لَهُ أَنْ يَغْفُلَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِهَا، فَلَوْ قَدَّمَ قَبْلَهَا نَافِلَةً، كان ذلك تدريجا للمصلي.   1 أي: بحيث لا يقال فيه: إنه اختل بإطلاق، كما هو أصل الدعوى. "د". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من "د" و"ط". 3 في "م": "الجمع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وَاسْتِدْعَاءً لِلْحُضُورِ، وَلَوْ أَتْبَعَهَا نَافِلَةً أَيْضًا، لَكَانَ خَلِيقًا بِاسْتِصْحَابِ الْحُضُورِ فِي الْفَرِيضَةِ. وَمِنَ1 الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ أَنْ جُعِلَتْ أَجْزَاءُ الصَّلَاةِ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرٍ مَقْرُونٍ بِعَمَلٍ، لِيَكُونَ اللِّسَانُ وَالْجَوَارِحُ مُتَطَابِقَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ فِيهَا بِالِاسْتِكَانَةِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَمْ يَخْلُ مَوْضِعٌ مِنَ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ فَتْحًا لِبَابِ الْغَفْلَةِ وَدُخُولِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْمُكَمِّلَاتِ الدَّائِرَةَ حَوْلَ حِمَى الضَّرُورِيِّ خَادِمَةٌ لَهُ وَمُقَوِّيَةٌ لِجَانِبِهِ، فَلَوْ خَلَتْ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ أَكْثَرِهِ، لَكَانَ خَلَلًا فِيهَا، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي سَائِرُ الضَّرُورِيَّاتِ مَعَ مُكَمِّلَاتِهَا لِمَنِ اعْتَبَرَهَا. بَيَانُ الْخَامِسِ: ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الضَّرُورِيُّ قَدْ يَخْتَلُّ بِاخْتِلَالِ مُكَمِّلَاتِهِ، كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا لِأَجْلِهِ مَطْلُوبَةً؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ زِينَةً لَا يَظْهَرُ حُسْنُهُ إِلَّا بِهَا، كَانَ مِنَ الْأَحَقِّ أَنْ لَا يُخِلَّ بِهَا. وَبِهَذَا كُلِّهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِي الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا وَهُوَ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ مُرَاعًى فِي كُلِّ مِلَّةٍ، بِحَيْثُ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الْمِلَلُ كَمَا اخْتَلَفَتْ فِي الْفُرُوعِ، فَهِيَ أُصُولُ الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وفي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَصَالِحُ الْمَثْبُوتَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ يُنْظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَتَيْنِ: - مِنْ جِهَةِ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ. - وَمِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ بِهَا. فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ -مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ هُنَا- لَا يَتَخَلَّصُ كَوْنُهَا مَصَالِحَ مَحْضَةً، وَأَعْنِي بِالْمَصَالِحِ1 مَا يَرْجِعُ إِلَى قِيَامِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَتَمَامِ عَيْشِهِ، وَنَيْلِهِ مَا تَقْتَضِيهِ أَوْصَافُهُ الشَّهْوَانِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَتَّى يَكُونَ مُنَعَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا فِي مُجَرَّدِ الِاعْتِيَادِ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصَالِحَ مَشُوبَةٌ بِتَكَالِيفَ وَمَشَاقَّ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، تَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ تَسْبِقُهَا أَوْ تَلْحَقُهَا، كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَاللِّبْسِ، وَالسُّكْنَى، وَالرُّكُوبِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ2، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِكَدٍّ وَتَعَبٍ. كَمَا أَنَّ الْمَفَاسِدَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَيْسَتْ بِمَفَاسِدَ مَحْضَةٍ مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ، إِذْ مَا مِنْ مَفْسَدَةٍ تُفْرَضُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ يَسْبِقُهَا أَوْ يَتْبَعُهَا مِنَ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ كَثِيرٌ، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وُضِعَتْ عَلَى الِامْتِزَاجِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ، فَمَنْ رَامَ اسْتِخْلَاصَ جِهَةٍ فِيهَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ3، وَبُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ بِوَضْعِهَا عَلَى الِابْتِلَاءِ والاختبار والتمحيص،   1 انظر في تعريفها وأقسامها: "روضة الناظر" "1/ 412"، و"المستصفى" "1/ 286"، و"قواعد الأحكام" "1/ 11-12"، و"إرشاد الفحول" "215". 2 أي: مثل اكتساب المعارف الذي يقتضيه وصفه العقلي. "د". 3 في نسخة "ماء/ ص 124" زيادة: "لا من كدرها عن صفائها، ولا من صفائها عن كدرها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الْأَنْبِيَاءِ: 35] ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ:2] ، وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" 1، فَلِهَذَا لَمْ يَخْلُصْ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدٍ جِهَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ شَرِكَةِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الدُّنْيَا إِنَّمَا تُفْهَمُ عَلَى مُقْتَضَى مَا غَلَبَ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ جِهَةَ الْمَصْلَحَةِ، فَهِيَ الْمَصْلَحَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا، وَإِذَا غَلَبَتِ الْجِهَةُ الْأُخْرَى، فَهِيَ الْمَفْسَدَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ ذُو الْوَجْهَيْنِ مَنْسُوبًا إِلَى الْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، فَإِنْ رَجَحَتِ الْمَصْلَحَةُ، فَمَطْلُوبٌ، وَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ مَصْلَحَةٌ، وَإِذَا غَلَبَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ، فَمَهْرُوبٌ عَنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ2 مَفْسَدَةٌ، [وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ عَلَى تساوٍ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ] عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَاتِ، فَلَهُ نِسْبَةٌ أُخْرَى3 وَقِسْمَةٌ غَيْرُ هذه [القسمة] 4.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب منه، 4/ 2174/ رقم 2823"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال "خ" تعقيبًا على الحديث: "طبعت النفوس على داعية حب الراحة والانغماس في اللذائذ ولكن المعالي والشرف لا تنال إلا باقتحام مصاعب هذه الحياة والخوض في معامع الأخطار، فسعادة الأرواح تكون على قدر ما تحتمل من المتاعب وتقاسيه من آلام مخالفة الهوى، وقد رسم الشارع لها في هذا السبيل حدودًا حجر عليها أن تتعداها، وفوض ما يعدو ذلك إلى همم المكلفين ليتسابقوا في مغالبة الدواعي الزائغة ومصارعه ما يلاقونه من الشدائد". 2 في "خ" ونسخة "ماء/ ص 125": "إنما". 3 وهي غير ما يأتي الكلام عليها في الفصل بعده؛ لأنه باعتبار تعلق الخطاب لا من حيث مواقع الوجود. "د". 4 ما بين المعقوفتين زيادة من "ط" و"د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 هَذَا وَجْهُ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ1. وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي2 فِيهَا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْخِطَابَ بِهَا شَرْعًا فَالْمَصْلَحَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهَا مَعَ الْمَفْسَدَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ شَرْعًا، وَلِتَحْصِيلِهَا وَقَعَ الطَّلَبُ عَلَى الْعِبَادِ، لِيَجْرِيَ قَانُونُهَا عَلَى أَقْوَمِ طَرِيقٍ وَأَهْدَى سَبِيلٍ، وَلِيَكُونَ حُصُولُهَا أَتَمَّ وَأَقْرَبَ وَأَوْلَى بِنَيْلِ الْمَقْصُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ تَبِعَهَا مَفْسَدَةٌ أَوْ مَشَقَّةٌ، فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي شَرْعِيَّةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَطَلَبِهِ., وَكَذَلِكَ الْمَفْسَدَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، فَرَفْعُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ شَرْعًا، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّهْيُ، لِيَكُونَ رَفْعُهَا على أتم وجوه الإمكان العادي فيمثلها، حسبما يَشْهَدُ لَهُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، فَإِنْ تَبِعَتْهَا مَصْلَحَةٌ أَوْ لَذَّةٌ، فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَا غَلَبَ فِي الْمَحَلِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُلْغًى فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ، كَمَا كَانَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ مُلْغَاةً فِي جِهَةِ الْأَمْرِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا أَوِ الْمَفَاسِدَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا هِيَ خَالِصَةٌ3 غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ4، لا قليلا ولا كثيرا، وإن توهم   1 انظر في مسألة اختلاط المصالح بالمفاسد: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 48-61" و"شرح تنقيح الفصول" "78"، و"قواعد الأحكام" "1/ 7"، وقال فيه: "إن المصالح الخالصة عزيزة الوجود". وفي ط: "أو المفسدة الدنيوية ... ". 2 سيأتي تقييد هذا النظر في المسألة الثانية. "د". 3 في نسخة "ماء/ ص 126" زيادة: "ولا من المصالح". 4 لأنه إنما نظر فيها إلى الجهة الغالبة لا غير، وألغى مقابلها، فلا التفات إليه، وكأنه عدم؛ لأنه غير جار في الاعتياد الكسبي الذي جعله الشرع ميزانا للمصلحة والمفسدة. د.= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 أَنَّهَا مَشُوبَةٌ، فَلَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَغْلُوبَةَ1 أَوِ الْمَفْسَدَةَ الْمَغْلُوبَةَ2 إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا مَا يَجْرِي فِي الِاعْتِيَادِ الْكَسْبِيِّ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى زِيَادَةٍ تَقْتَضِي الْتِفَاتَ الشَّارِعِ إِلَيْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ3 هُوَ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أن الجهة المغلوبة4 لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ -أَعْنِي: مُعْتَبَرَةً عِنْدَ الشَّارِعِ-، لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مَأْمُورًا بِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ كَانَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْسَدَةِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ في الأمر والنهي، كوجوب الإيمان وحرمة   = قلت: إلغاء المصلحة المرجوحة بحيث تجعل كأنها غير موجودة ولا قيمة لها هو رأي ابن الحاجب، وذهب الرازي وجماعة منهم البيضاوي أن النفع وإن كان قليلًا يسمى نفعا، لوجود الحقيقة فيه، فالمفسدة وإن كانت راجحة لا تجعل النفع ضررا؛ لأن قلب الحقائق لا يكون بالاعتبار، وإنما يكون بذهاب الحقيقة بذهاب أجزائها كلها، وما دام النفع باقيا، فالحقيقة لا تزال موجودة، ولكن الحكم لا يشرع عند وجود المفسدة الراجحة أو المساوية، فالخلاف إذن لفظي، ولا ثمرة فيه. وفي "ط": شرعا والمفاسد .... ". وانظر: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" "ص 126-127"، و"إعلام الموقعين""3/ 1 وما بعدها"، والسياسة الشرعية" "ص 6 وما بعدها" لعبد الوهاب خلاف، و"تعليل الأحكام" "ص 307 وما بعدها" لمصطفى شلبي، وانظر في معنى ما عند المصنف: "قواعد الأحكام" "1/ 106-107"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 14 وما بعدها". "1و 2 لعل الأصل: "الغالبة" فيهما. د. 3 وهو الخارج الزائد عن حالة الاعتياد الكسبي. "د". 4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "الجهالة المعلومة"، ولا معنى لها، وصوب ما أثبتناه محققا "د" و"م". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الْكُفْرِ، وَوُجُوبِ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ وَمَنْعِ إِتْلَافِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَكَأَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ فِي مَرَاتِبِ التَّكْلِيفِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ النَّفْسِ عن1 إِطْلَاقِهَا وَقَطْعِهَا عَنْ نَيْلِ أَغْرَاضِهَا وَقَهْرِهَا تَحْتَ سُلْطَانِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا لَذَّةَ فِيهِ لَهَا، وَكَانَ الْكُفْرُ الَّذِي يَقْتَضِي إِطْلَاقَ النَّفْسِ مِنْ قيد التكاليف2، وَتَمَتُّعَهَا بِالشَّهَوَاتِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَلْذُوذَةَ وَالْمُخْرِجَةَ عَنِ الْقُيُودِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ مَحْضٌ، بَلِ الْإِيمَانُ مَطْلُوبٌ بِإِطْلَاقٍ، والكفر منهي عنه بإطلاق، فدل [هذا] 3 عَلَى أَنَّ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ الْإِيمَانِ وَجِهَةَ الْمَصْلَحَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْكُفْرَانِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا عَادَةً وَطَبْعًا. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَقْصُودَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ كُلُّهُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ شَرْعًا، أَمَّا كَوْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بَاطِلًا شَرْعًا، فَمَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ، وَأَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ، فَلِأَنَّ الْجِهَةَ الْمَرْجُوحَةَ مَثَلًا مُضَادَّةٌ فِي الطَّلَبِ لِلْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، وَقَدْ أُمِرَ مَثَلًا بِإِيقَاعِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ مَنْهِيًّا عَنْ إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَمَنْهِيٌّ عَنْ إِيقَاعِهِ مَعًا، وَالْجِهَتَانِ غَيْرُ مُنْفَكَّتَيْنِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ، فَلَا بُدَّ فِي إِيقَاعِ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمِ إِيقَاعِهِ مِنْ تَوَارُدِ4 الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا فَقَدْ قِيلَ لَهُ: "افْعَلْ" "وَلَا تَفْعَلْ" لِفِعْلٍ وَاحِدٍ، أَيْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فِي الْوُقُوعِ، وَهُوَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا، وَلَكِنْ مَأْذُونًا فِيهَا، فَلَا يَجْتَمِعُ الأمر والنهي معا، فلا يلزم المحظور.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "من". 2 في "د" و"خ": "التكليف"، وفي الأصل: "غير التكليف". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د". 4 في "ط": "تولد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْذُونًا فِيهَا، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ، فَالْإِذْنُ مُضَادٌّ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، فَإِنَّ التَّخْيِيرَ مُنَافٍ لِعَدَمِ التَّخْيِيرِ، وَهُمَا وَارِدَانِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، فَوُرُودُ الْخِطَابِ بِهِمَا مَعًا خِطَابٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ إِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَاطَبِ بِهِ1، وَهُوَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ بِأَنْ يُصَلَّى فِي غَيْرِ الدَّارِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ2 مُشِيرٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَيْرُ، فَإِذَا3 خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا مُمْتَزِجًا خَيْرُهُ بَشَّرِّهِ، فَالْخَيْرُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِ الشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا بِهِ، كَالطَّبِيبِ عِنْدَهُمْ إِذَا سَقَى المريضَ الدَّوَاءَ الْمُرَّ الْبَشِعَ الْمَكْرُوهَ، فَلَمْ يَسْقِهِ إِيَّاهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَارَةِ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ، بَلْ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ وَالرَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ العضو وَالرَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، إِنَّمَا قَصْدُهُ بِذَلِكَ جَلْبُ الرَّاحَةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ، فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمُسَبَّبَةِ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَمَا تَقَدَّمَ شَبِيهٌ بِهَذَا مِنْ حَيْثُ قُلْتُ: إِنَّ الشَّارِعَ -مَعَ قَصْدِهِ التَّشْرِيعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ- لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ، مَعَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ4. وَهُوَ أَيْضًا مُشِيرٌ إِلَى مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشُّرُورَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الْوُقُوعِ، وَأَنَّ وُقُوعَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك   1 إنما قيد بهذا حتى لا يعترض بأن إيقاعه لا ينافي التخيير كما لا ينافي الطلب، أما عدم إيقاعه، فهو الذي ينافي مقتضى الطلب فقط، فالتنافي فيه إنما يحصل مع اعتبار هذا القيد. "د". 2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي "د": "التقدير"، وقال محققها: لعلها "التقرير". 3 في "م": "فإن". 4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 207- 211و 14/ 299- 302". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 عُلُوًّا كَبِيرًا1 فَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْدِ الْخَلْقِيِّ التَّكْوِينِيِّ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْقَصْدِ التَّشْرِيعِيِّ، وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الخلق بإطلاق2 حسبما تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكُلُّ مَا شُرِعَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا [فِي] الْوُجُودِ3، فَبِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَعَنِ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَحُكْمُ التَّشْرِيعِ أَمْرٌ آخَرُ، لَهُ نَظَرٌ وَتَرْتِيبٌ آخَرُ عَلَى حَسَبِ مَا وَضَعَهُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةَ الْوُقُوعِ، أَوْ عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبُطْلَانُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَالْقَصْدُ التَّشْرِيعِيُّ شَيْءٌ، وَالْقَصْدُ الْخُلُقِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، لَا مُلَازَمَةَ بَيْنِهِمَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْمَفْسَدَةُ خَارِجَةً4 عَنْ حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ مَقْصُودَةَ الِاعْتِبَارِ لِلشَّارِعِ، فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِ ذَلِكَ ثُمَّ تَخْلِيصِ الْحُكْمِ فيه بحول الله.   1 حكى صاحب "إيثار الحق على الخلق" [ص 277] أن الشهرستاني ذكر في كتاب "نهاية الإقدام" أن إرادة الله لا يصح أن تتعلق إلا بأفعاله دون كسب العباد من طاعة أو معصية، ولكن المعروف من مذهب الأشاعرة أن الإرادة تتعلق بالمعاصي، ولما ورد عليهم أن الله تعالى يقول: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} ، والمكروه لا يكون مرادا، أجابوا بأن الكراهة تتعلق بذوات المعاصي الصادرة عن العصاة، والإرادة تتوجه إليها من جهة الحكمة المترتبة عليها. "خ". 2 في "ط": "على الإطلاق". 3 في "د": "بالوجود". 4 أي: بأن تكون مترددة بين الطرفين، وتعارضت فيها الأدلة، "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 مِثَالُهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَأَكْلُ النَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ اضْطِرَارًا، وَقَتْلُ الْقَاتِلِ، وَقَطْعُ الْقَاطِعِ؛ وَبِالْجُمْلَةِ الْعُقُوبَاتُ وَالْحُدُودُ- لِلزَّجْرِ، وَقَطَعُ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ1، وَقَلْعُ الضِّرْسِ الْوَجِعَةِ، وَالْإِيلَامُ بِقَطْعِ الْعُرُوقِ وَالْفَصْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِلتَّدَاوِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي [لَوِ] 2 انْفَرَدَتْ عَمَّا غَلَبَ عَلَيْهَا لَكَانَ النَّهْيُ عَنْهَا مُتَوَجِّهًا، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَتَسَاوَى الْجِهَتَانِ، أَوْ تَتَرَجَّحَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. فَإِنْ تَسَاوَتَا، فَلَا حُكْمَ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، إِذَا ظَهَرَ التَّسَاوِي بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَلَعَلَّ هَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ، فَلَا تَرْجِيحَ إِلَّا بِالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مُتَعَلِّقٌ بِالطَّرَفَيْنِ مَعًا: طَرَفِ الْإِقْدَامِ، وَطَرَفِ الْإِحْجَامِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا تَسَاوِيَ الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ مَعًا، وَلَا يَكُونُ أَيْضًا الْقَصْدُ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا أَنَّ3 تَوَارُدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، وهما4 علمان على القصد على الجملة حسبما يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ لَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ لِلْمُكَلَّفِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ5. وَأَمَّا إِنْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إن قصد   1 بالتشديد. 2 زيادة من "خ". 3 لعل كلمة "أن" زائدة، وقد فرض ذلك بقوله: "وبالجملة كان ما تعارضت فيه الأدلة". "د". 4 في الأصل: "وما معه"، وفي "خ" و"ط": "وهما معا". 5 أي: أو التخيير كما ذكروه عند تعارض الأدلة وتساويها. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الشَّارِعِ مُتَعَلِّقٌ1 بِالْجِهَةِ [الرَّاجِحَةِ -أَعْنِي فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ- وَغَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْجِهَةِ] 2 الْأُخْرَى، إِذْ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْجِهَةِ الْأُخْرَى لَمَا صَحَّ التَّرْجِيحُ، [وَلَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا إِذَا تَسَاوَتِ الْجِهَتَانِ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ3، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ وُجُودِ التَّرْجِيحِ] 4، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجِهَتَيْنِ مَعًا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ مُعْتَبَرَتَانِ، إِذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلشَّارِعِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا كُلِّفْنَا بِمَا يَنْقَدِحُ5 عِنْدَنَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، لَا بِمَا هُوَ مَقْصُودُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالرَّاجِحَةُ -وَإِنْ تَرَجَّحَتْ- لَا تَقْطَعُ إِمْكَانَ كَوْنِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى هِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلشَّارِعِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ مُطَّرَحٌ فِي التَّكْلِيفِ إِلَّا عِنْدَ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ، وَغَيْرُ مُطَّرَحٍ فِي النَّظَرِ، وَمِنْ هَنَا نَشْأَتْ6 قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ عِنْدَ طَائِفَةٍ من الشيوخ7.   1 لعل صوابها غير متعلق، يعني: وحينئذ، فليس للشارع إلا جهة واحدة تقصد بالطلب، فمن أصابها أصاب وله أجران، ومن أخطأها فقد أخطأ وله أجر، وهذا القول للمخطئة. "د". 2 زيادة من الأصل و"ط" ونسخة "ماء/ ص 127"، وسقطت من النسخ المطبوعة، وبهذا يظهر عدم الحاجة إلى تعليق "د" السابق. 3 في النسخ المطبوعة: "الوقف". 4 سقطت من الأصل. 5 فالحكم الشرعي بالنسبة للمجتهد ومن يقلده هو ما انقدح في نفس المجتهد، وحينئذ يمكن تعدد الحكم الشرعي في الواقعة الواحدة، وهذا هو رأي المصوبة حيث قالوا: إن كل صورة لا نص فيها ليس لها حكم معين عند الله، بل ذلك تابع لظن المجتهد، وعلى هذا يكون الإمكان الثاني مبنيا على قاعدة المصوبة والإمكان قبله على قاعدة المخطئة، فلعل في النسخة تحريفا فيما يأتي له بعد."د". 6 لأنه لولا أنه يجوز أن تكون الجهة الأخرى معتبرة، ما كان لمن بيده دليل قائم على إحدى الجهتين أن يراعي الجهة الأخرى، ويبني عليها حكما. "د". 7 مراعاة الخلاف هي إعمال المجتهد لدليل خصمه في لازم مدلوله الذي أعمل في عكسه دليلا آخر، وقد اعترضه القاضي عياض بوجهين: أحدهما: أنه مخالف للقياس الشرعي، إذ يجب على المجتهد أن يجري على مقتضى دليله ومراعاة الخلاف جرى على خلاف ما يقتضيه الدليل. ثانيهما: أنه غير متطرد في كل مسألة خلاف، وتخصيصه ببعض مسائل الخلاف تحكم أي ترجيح بلا مرجح، وقد اعتنى المصنف بهذه المسألة، فكتب فيها إلى الشيوخ سؤالا ومراجعة، وسيوافيك بحثها مبسوطا في هذا الكتاب. "خ". قلت: انظره في آخر المسألة الثالثة من الطرف الأول من كتاب الاجتهاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَالْإِمْكَانُ الْأَوَّلُ جَارٍ1 عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَوِّبِينَ، وَالثَّانِي جَارٍ2 عَلَى طَرِيقَةِ الْمُخَطِّئِينَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالَّذِي تَلَخَّصَ3 مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْجِهَةَ الْمَرْجُوحَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا4 عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ لَاجْتَمَعَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا، فَلَا فَرْقَ إِذًا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الجهات المرجوحة جارية عَلَى الِاعْتِيَادِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، فَالْقِيَاسُ مُسْتَمِرٌّ، وَالْبُرْهَانُ مُطْلَقٌ فِي الْقِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا تَكُونُ الْجِهَةُ الْمَغْلُوبَةُ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَإِنَّ مَقَاصِدَ الشَّارِعِ تَنْقَسِمُ إِلَى ذَيْنَكَ الضَّرْبَيْنِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَصْدَ الثَّانِيَ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا لَمْ يُنَاقِضِ الْقَصْدَ الْأَوَّلَ، فَإِذَا نَاقَضَهُ، لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَلَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.   "1، 2" علمت ما فيهما. "د". 3 في النسخ المطبوعة: "يلخص". 4 أي: في التكليف، لأن هذا هو محل الاتفاق، وهو مناط الاستدلال بعده. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمَّا كَانَتِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: دُنْيَوِيَّةٍ، وَأُخْرَوِيَّةٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، اقْتَضَى الْحَالُ الْكَلَامَ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَنَقُولُ: إِنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لَا امْتِزَاجَ لِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ بِالْآخَرِ، كَنَعِيمِ أَهْلِ الْجِنَانِ، وَعَذَابِ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النِّيرَانِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَدْخَلَنَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ. الثاني: أَنْ تَكُونَ مُمْتَزِجَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي النَّارِ خَاصَّةً، فَإِذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ رَجَعَ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وهذا كله حسبما جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَجَالٌ، وَإِنَّمَا تَتَلَقَّى أَحْكَامَهَا مِنَ السَّمْعِ. أَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي مُمْتَزِجًا فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ النَّارَ لَا تَنَالُ مِنْهُمْ مَوَاضِعَ السُّجُودِ1، وَلَا مَحَلَّ الْإِيمَانِ2، وَتِلْكَ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ.   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب فضل السجود، 2/ 292- 293/ رقم 806، وكتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، 11/ 444- 445/ رقم 6573، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، 13/ 419- 420/ 7437"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/ 163- 166/ رقم 182" عن أبي هريرة ضمن حديث مرفوع طويل جدا، فيه: " .... فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود". وفي لفظ البخاري: "فكل ابن آدم تأكله النار، إلا أثر السجود". 2 في هذا يحتاج لدليل! "استدراك1". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وَأَيْضًا، فَإِنَّمَا تَأْخُذُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ1، وَأَعْمَالُهُمْ لَمْ تَتَمَحَّضْ لِلشَّرِّ خَاصَّةً، فَلَا تَأْخُذُهُمُ النَّارُ أَخْذَ مَنْ لَا خَيْرَ فِي عَمَلِهِ عَلَى حَالٍ، وَهَذَا كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ2 الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ الرَّجَاءُ الْمُعَلَّقُ بِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ رَاحَةٌ مَا، حَاصِلَةٌ لَهُ مَعَ التَّعْذِيبِ، فَهِيَ تُنَفِّسُ عَنْهُ مِنْ كُرَبِ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْآتِيَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، مَنِ اسْتَقْرَاهَا أَلْفَاهَا. وَأَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ مَحْضًا، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزُّخْرُفِ: 75] . وَقَوْلِهِ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الآية [الحج: 19] وقوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74] . وَهُوَ أَشَدُّ مَا هُنَالِكَ، إِلَى سَائِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَفِي الْجَنَّةِ آيَاتٌ أُخَرُ وَأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لا عذاب ولا مشقة ولا   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، 4/ 2185" عن سمرة مرفوعا: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه". وفي لفظ: "منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته". وفي لفظ: "حقويه" مكان "حجزته". وفي "صحيح مسلم "رقم 185" عن أبي سعيد ضمن حديث: "ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم". وانظر: "الباب الثامن والعشرين في ذلك حال الموحدين في النار، وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين" من كتاب ابن رجب: "التخويف من النار" بتحقيقنا يسر الله إتمامه ونشره، ففيه كثير من الأحاديث تدل على ما ذكره المصنف، والله الموفق. 2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "من". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 مَفْسَدَةَ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الْحِجْرِ: 45- 48] وَقَوْلِهِ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزُّمَرِ: 73] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَبُّنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ: "أَنْتِ رَحْمَتِي"، وَفِي النَّارِ: "أَنْتِ عَذَابِي 1 " 2، فسمَّى هَذِهِ بِالرَّحْمَةِ مُبَالَغَةً، وَهَذِهِ بِالْعَذَابِ مُبَالَغَةً. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي النَّارِ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْجَنَّةِ أَنَّ فِيهَا دَرَجَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ3 مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ، وَجَاءَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْ يُحْرَمُ بَعْضَ نَعِيمِهَا، كَالَّذِي يَمُوتُ مُدْمِنَ خَمْرٍ وَلَمْ يتب منها4، وإذا كانت   1 في نسخة "ماء/ ص 128" زيادة: "أي: أهل حزن وسكت على الغم". 2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير،، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، 8/ 595/ رقم 4850"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2186/ رقم 2846" عن أبي هريرة: وفيه: "قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي" لفظ البخاري. ولفظ مسلم: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء"، وأوله: "تحاجت الجنة والنار ...... ". 3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، 7/ 193/ رقم 3883، وكتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417/ رقم 6564"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، 1/ 195/ رقم 210" عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغة" وفي "ط": "أنه منها في ضحضاح". 4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلام} "10/ 30 /5575" ومسلم في صحيحه، "كتاب الأشربة" "كتاب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يكن منها" "3/ 1588 رقم 2003" عن ابن عمر مرفوعا: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 دَرَكَاتُ الْجَحِيمِ -أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا- بَعْضُهَا أَشَدُّ، فَالَّذِي دُونَ الْأَشَدِّ أَخَفُّ مِنَ الْأَشَدِّ، وَالْخِفَّةُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ وَصْفُ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُحَصِّلُ مَصْلَحَةً مَا. وَأَيْضًا، فَالْقَدْرُ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ الْعَذَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُتَوَهَّمُ فَوْقَهُ خَفِيفٌ، كَمَا أَنَّهُ شَدِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ، وَإِذَا تُصُوِّرَتِ الْخِفَّةُ وَلَوْ بِنِسْبَةٍ مَا، فَهِيَ مَصْلَحَةٌ فِي ضِمْنِ مَفْسَدَةِ الْعَذَابِ، كَمَا أَنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ1 الْعَمَلِ، وَإِذَا كَانَ عَمَلُ الطَّاعَةِ قَلِيلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ، كَانَ الْجَزَاءُ على تلك بالنسبة، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُتْبَةَ آخِرِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ليست كرتبة من لم يعص الله [تعالى] 2 وَدَأَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ عُمُرَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ عَمَلِ الْأَوَّلِ السَّبَبِيِّ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْآخِرَةِ نَعِيمًا كَدَّرَهُ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا مَعْنَى مُمَازَجَةِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْقِسْمَانِ مَعًا قِسْمٌ وَاحِدٌ3. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الْمَنْقُولِ أَلْبَتَّةَ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ مُمْتَزِجَةَ النَّعِيمِ بِالْعَذَابِ، وَلَا أَنَّ فِيهَا مَفْسَدَةً مَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، هَذَا مُقْتَضَى نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، نَعَمِ، الْعَقْلُ لَا يُحِيلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ4 جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَيَاتِ الْعُقُولِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي النَّارِ: إِنَّ فِيهَا لِلْمُخَلَّدِينَ رَحْمَةً تَقْتَضِي مَصْلَحَةً مَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]   1 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط": "حسب". 2 زيادة من خ". 3 لا بد فيه من الامتزاج كحالة الدنيا. "د". 4 في "ط": "غير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فَلَا حَالَةَ1، هُنَالِكَ يَسْتَرِيحُونَ2 إِلَيْهَا وَإِنْ قَلَّتْ، كَيْفَ وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ؟! عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا. وَمَا جَاءَ فِي حِرْمَانِ الْخَمْرِ، فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَرَاتِبِ، فَلَا يَجِدُ مَنْ يُحْرَمُهَا أَلَمًا بِفَقْدِهَا، كَمَا لَا يَجِدُ الْجَمِيعُ أَلَمًا بِفَقْدِ شَهْوَةِ الْوَلَدِ، أَمَّا الْمُخْرَجُ إِلَى الضَّحْضَاحِ، فَأَمْرٌ خَاصٌّ، كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ3، وَعَنَاقِ أَبِي بُرْدَةَ4، وَلَا نَقْضَ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأُصُولِ الِاسْتِقْرَائِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ هُنَا فِي وَجْهِ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ، لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرَاتِبَ- وَإِنَّ تَفَاوَتَتْ- لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفَاوُتِهَا نَقِيضٌ وَلَا ضِدٌّ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: "فُلَانٌ عَالِمٌ"، فَقَدْ وَصَفْتَهُ بِالْعِلْمِ، وَأَطْلَقْتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا بِحَيْثُ لَا يُسْتَرَابُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَهُ عَلَى كَمَالِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: "وَفُلَانٌ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ"، فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ الثَّانِيَ حَازَ رُتْبَةً فِي الْعِلْمِ فَوْقَ رُتْبَةِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ وَلَوْ عَلَى وَجْهٍ مَا، فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: "مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْعُلَمَاءِ"، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ نَقْصًا مِنَ النَّعِيمِ وَلَا غَضًّا مِنَ الْمَرْتَبَةِ بِحَيْثُ يُدَاخِلُهُ ضِدُّهُ، بَلِ الْعُلَمَاءُ مُنَعَّمُونَ نَعِيمًا لَا نَقْصَ فِيهِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوْقَ ذَلِكَ فِي النَّعِيمِ الَّذِي   1 في الأصل: "حجة". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ليستريحوا". 3 أي: حين شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة التي أنكرها الأعرابي، فجعل شهادته بشهادة اثنين كما في حديث أبي داود والنسائي. "د". قلت: سيأتي تخريجه "ص 469". 4 أي: التي كانت دون السن المجزئة في الضحية، وصرح بأنها لا تجزئ لغيره كما في حديث البخاري. "د". قلت: سيأتي تخريجه "ص 410". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 لَا نَقْصَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَذَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ. كُلٌّ فِي الْعَذَابِ لَا يُدَاخِلُهُ رَاحَةٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ بَعْضٍ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ، أَجَابَ بِمَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَرْتِيبِهِمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ"، ثُمَّ قَالَ: "وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ" 1 رَفْعًا لتوهم الضد، من حيث كانت أفعل التفضيل قد تستعمل   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789, 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ"، 10/ 471/ رقم 6053" وفي "التاريخ الكبير" "7/ 299"، ومسلم في "صحيحه "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، والطيالسي في "المسند" "2/ 136- مع المنحة"، والترمذي في "جامعه" "أبواب المناقب، باب في أي دور الأنصار خير، 5/ 716- 717/ رقم 3911"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "الكبرى"، كما في "التحفة" "8/ 341"، ومن طريقه ابن حيويه في "من وافقت كنيته" "41- بتحقيقي"، وأحمد في "المسند" "3/ 497"، و"فضائل الصحابة" "2/ 805/ رقم 1450و 1453"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 371" عن أبي أسيد الساعدي. وأخرجه البخاري في "الصحيح" "9/ 439"، والترمذي في الجامع" "5/ 716"، وأحمد في "فضائل الصحابة" "2/ 801و 803- 804"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "6/ 354" من حديث أنس بن مالك. وأخرجه مسلم في "الصحيح" "4/ 1951/ رقم 2512"، ومعمر في "الجامع" "11/ 61/ رقم 19910"، وأحمد في "المسند" "2/ 267"، و"فضائل الصحابة" "2/ 800/ رقم 1436" من حديث أبي هريرة. وله شاهد آخر عن أبي حميد الساعدي، كما عند البخاري في "الصحيح" "3/ 344/ رقم 1481و 7/ 115/ رقم 3791"، ومسلم في "الصحيح" "4/ 1785/ رقم 1392". ووقع اختلاف في تقديم بني النجار على بني عبد الأشهل في بعض الروايات، ورجح الحافظ في "الفتح" "7/ 116" تقديم بني النجار بناء على أن أنسا من بني النجار، فله مزيد عناية بحفظ فضائلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 16] وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ تَفْضِيلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْضَ دُورِ الْأَنْصَارِ عَلَى بَعْضٍ تَنْقِيصًا بِالْمَفْضُولِ، وَلَوْ قُصِدَ ذَلِكَ، لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الذَّمِّ مِنْهُ إِلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ، فَإِنَّ فِي آخِرِهِ: فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَبِيَّ الله خير الأنصار، فجعلنا خيرا؟ فَقَالَ: "أَوَلَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أنْ تَكُونُوا مَنِ الْأَخْيَارِ؟ "1، لَكِنَّ التَّقْدِيمَ فِي التَّرْتِيبِ يَقْتَضِي [رَفْعَ الْمَزِيَّةِ، وَلَا يَقْتَضِي] 2 اتِّصَافَ الْمُؤَخَّرِ بِالضِّدِّ، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَكَذَلِكَ يَجْرِي حُكْمُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ، وَبَيْنَ الْأَنْوَاعِ، وَبَيْنَ الصِّفَاتِ، وَقَدْ قَالَ الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} [البقرة: 253] .   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ رقم 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ"، 10/ 471/ رقم 6053"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، عن أبي أسيد الساعدي. قلت: هكذا الرواية في الأصول، وفي "صحيح البخاري" "3791": "فجعلنا آخرا". وسعد هنا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: " ..... الخيار". والخيار هكذا في الأصل و"ط". وقلت: وعلق عليه في "خ": "وقعت المفاضلة بين الأنصار بحسب السبق في الإسلام وعلى قدر تفاوتهم في نصرة الدين وإعلاء كلمته، وكذلك نظر الشارع لا يعتد بوجه من الوجوه التي يذكرها الناس في قبيل الشرف سوى العمل الصالح، ولا سيما ما يكون له أثر في تخليص الجماعات من ظلمات الباطل ورفع شأنهم إلى مستوى الحرية والسيادة". 2 ساقط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الْإِسْرَاءِ: 55] وَفِي الْحَدِيثِ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ" 1. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ تَرْتِيبَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِيقَةِ النَّوْعِ لَا يُمْكِنُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَمْتَازُ بِهِ بَعْضُ الْأَشْخَاصِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْصَافِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ جِدًّا، مَنْ تَحَقَّقَهُ هَانَتْ عَلَيْهِ مُعْضِلَاتٌ وَمُشْكِلَاتٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، كَالتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ2 عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي زَلَّتْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهَا أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، 4/ 2052/ رقم 2664" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومضى تخريجه "1/ 356". 2 فالأنبياء مثلا متساوون في حقيقة النبوة، فليس يفضل بعضهم بعضا فيها، إنما التفاضل بالمزايا من كثرة الأتباع والمهتدين، ومن التفوق في الصبر على ما لاقوا في هذا السبيل، حتى عد بعضهم من أولى العزم، وكذا يقال في الإيمان: زيادته ونقصه ليست في نفس الحقيقة، وإنما هي بالمزايا والثمرات وهكذا. "د". قلت: سيأتي تفصيل هذه المسألة في الطرف الثاني من "الفتوى" في المسألة الثالثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذًا1، ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، فذلك1 عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَلُّ لَهَا بِهِ نِظَامٌ، لَا بِحَسَبِ الْكُلِّ وَلَا بِحَسَبِ الْجُزْءِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ أَوِ الْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلَّ نِظَامُهَا أَوْ تَنْحَلَّ2 أَحْكَامُهَا، لَمْ يَكُنِ التَّشْرِيعُ مَوْضُوعًا لَهَا، إِذْ لَيْسَ كَوْنُهَا مَصَالِحَ إِذْ ذَاكَ بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا مَفَاسِدَ، لَكِنَّ3 الشَّارِعَ قَاصِدٌ بِهَا أَنْ تَكُونَ مَصَالِحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ أَبَدِيًّا وَكُلِّيًّا وَعَامًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكْلِيفِ وَالْمُكَلَّفِينَ من جميع4 الْأَحْوَالِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا الْأَمْرَ فِيهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَيْضًا، فَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ كُلِّيَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، لَا تَخْتَصُّ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تَنَزَّلَتْ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، فَعَلَى [وَجْهٍ] 5 كُلِّيٍّ، وَإِنْ خَصَّتْ بَعْضًا، فَعَلَى نَظَرِ الْكُلِّيِّ6، كَمَا أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ كُلِّيَّةً، فَلِيَدْخَلَ تَحْتَهَا الْجُزْئِيَّاتُ، فَالنَّظَرُ الْكُلِّيُّ فِيهَا مَنْزِلٌ لِلْجُزْئِيَّاتِ، [وَتَنَزُّلُهُ لِلْجُزْئِيَّاتِ] 7 لَا يَخْرِمُ كَوْنَهُ كُلِّيًّا، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ دَلَّ عَلَى كَمَالِ النِّظَامِ فِي التَّشْرِيعِ، وَكَمَالُ النِّظَامِ فِيهِ يَأْبَى أَنْ يَنْخَرِمَ مَا وُضِعَ له، وهو المصالح.   1 أي: بمجموع ما تقدم من أول كتاب المقاصد ثبت أن الشارع ..... إلخ، فإذن منونة، وزاد هنا التصريح بكون ذلك أبديا وكليا وعاما لا يختل نظامها. "د". 2 في النسخ المطبوعة: "تخل"، وما أثبتناه من الأصل ونسخة "ماء/ ص 129". 3 في نسخة "ماء/ ص 129": "ولكن". 4 في النسخ المطبوعة و"ط": " ......... والمكلفين وجميع الأحوال"،وما أثبتناه من نسخة "ماء"والأصل. "5, 7" سقط من الأصل. 6 في "ط": "الكل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ شَرْعًا وَالْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ تُقَامُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى1، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِهَا الْعَادِيَّةِ، أَوْ دَرْءِ مَفَاسِدِهَا الْعَادِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِتُخْرِجَ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ دَوَاعِي أَهْوَائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ2، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَطَلَبِ مَنَافِعِهَا الْعَاجِلَةِ كَيْفَ كَانَتْ، وَقَدْ قال ربنا سبحانه3:   1 يلزم أن تقيد المسألة الخامسة بهذا حتى لا يتنافى مع ظاهر الكلام هناك في النظر الأول والثاني الذي انبنى عليه، فإنه قال في الأول: "وَأَعْنِي بِالْمَصَالِحِ مَا يَرْجِعُ إِلَى قِيَامِ حَيَاةِ الإنسان في نفسه .... إلخ" وقال بعد: "إن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة، إِذْ مَا مِنْ مَفْسَدَةٍ تُفْرَضُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ يَسْبِقُهَا أَوْ يلحقها رفق ونيل لذات"، ثم قال: "فالمصالح والمفاسد إنما تفهم على مقتضى ما غلب" ثم قال في النظر الثاني: "فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب"، فقد بنى المصلحة والمفسدة على ما غلب منهما باعتبار قيام الحياة ونيل الشهوات التي تقتضيها أوصاف الإنسان الشهوانية، فجعلها مما ينبني عليه كونها مصلحة تطلب أو مفسدة تدفع، وهنا يقول: إن مجرد كونها مصلحة في نظر الشخص لا تعتبر، والمعتبر أن تكون بحيث تقوم بها الحياة الدنيا للأخرى، وذلك طبعا لا يكون إلا تبعا لرسم الشرع الذي يعلم المصلحة من هذه الحيثية موفقا بينها وبين ما أجراه في سنة الوجود. "د". قلت: ما أحسن ما قاله العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/ 8": "ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا". 2 أي: اختيارا، كما أنهم عبيد له اضطرارا. "د". 3 راجع "روح المعاني" في معاني الآية، تجدها كلها مناسبة للاستدلال الذي يريده المؤلف. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الْآيَةَ1 [الْمُؤْمِنُونَ: 71] وَالثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ2 مِنْ أَنَّ الْمَنَافِعَ الْحَاصِلَةَ لِلْمُكَلَّفِ مَشُوبَةٌ بِالْمَضَارِّ عَادَةً، كَمَا أَنَّ الْمَضَارَّ مَحْفُوفَةٌ بِبَعْضِ الْمَنَافِعِ3، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ النُّفُوسَ مُحْتَرَمَةٌ مَحْفُوظَةٌ وَمَطْلُوبَةُ الْإِحْيَاءِ، بِحَيْثُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ إِحْيَائِهَا وَإِتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهَا، أَوْ إِتْلَافِهَا وَإِحْيَاءِ المال، كان إحياؤها أولى، فإن عرض إِحْيَاؤُهَا إِمَاتَةَ الدِّينِ، كَانَ إِحْيَاءُ الدِّينِ أَوْلَى وَإِنْ أَدَّى إِلَى إِمَاتَتِهَا، كَمَا جَاءَ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَمَا إِذَا عَارَضَ إِحْيَاءُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِمَاتَةَ نُفُوسٍ كَثِيرَةٍ فِي الْمُحَارِبِ مَثَلًا، كَانَ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ4 إِذَا قُلْنَا: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهِ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْآلَامِ فِي تَحْصِيلِهِ ابْتِدَاءً وَفِي اسْتِعْمَالِهِ حَالًا وَفِي لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ انْتِهَاءً كَثِيرًا. وَمَعَ ذَلِكَ، فَالْمُعْتَبَرُ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ- حَتَّى إِنَّ الْعُقَلَاءَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا النَّوْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكُوا مِنْ تَفَاصِيلِهَا قَبْلَ الشَّرْعِ مَا أَتَى بِهِ الشرع،   1 بقيتها أيضا فيه الدليل، فإنه تشنيع عليهم بأنهم أعرضوا عما فيه ذكرهم وشرفهم اتباعا لأهوائهم الباطلة. "د". 2 مجرد هذا لا يفيد بعدما اعتبر سابقا أن ما غلبت فيه جهة المنفعة، فهو المصلحة، وما ترجحت فيه المضرة، فهو المفسدة، وأما قوله بعد: "وَمَعَ ذَلِكَ، فَالْمُعْتَبَرُ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ وهو جهة المصلحة .... إلخ"، فهو دعوى أخرى خاصة لا يدل عليها ذلك العام المتقدم، ولذا قلنا: إنه يلزم لصحة الكلام تقييد ما سبق بهذا، فإذا كان محط الاستدلال هو أن العقلاء اتفقوا على أن المعتبر هُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هي عماد الدين والدنيا بقطع النظر عن أهواء النفوس، فذلك يصح أن يكون دليلا، لكن لا حاجة إلى توسيط المقدمات السالفة قبله. "د". 3 في نسخة "ماء/ ص 130" بعدها: "وهو معني وعكس يتبع". 4 بدلها في نسخة "ماء/ ص 130": "كما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 فَقَدِ اتَّفَقُوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اعْتِبَارِ إِقَامَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهَا أَوْ لِلْآخِرَةِ1، بِحَيْثُ مَنَعُوا مِنِ اتِّبَاعِ جُمْلَةٍ مِنْ أَهْوَائِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، هَذَا وَإِنْ كَانُوا بِفَقْدِ الشَّرْعِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، فَالشَّرْعُ لَمَّا جَاءَ بَيَّنَ هَذَا كُلَّهُ، وَحَمَلَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لِيُقِيمُوا أَمْرَ دُنْيَاهُمْ لِآخِرَتِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ عَامَّتَهَا أَنْ تَكُونَ إِضَافِيَّةً لَا حَقِيقِيَّةً، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضَافِيَّةً أَنَّهَا مَنَافِعُ أَوْ مَضَارُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، أَوْ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مَثَلًا مَنْفَعَةٌ لِلْإِنْسَانِ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ دَاعِيَةِ الْأَكْلِ، وَكَوْنِ الْمُتَنَاوَلِ لَذِيذًا طَيِّبًا، لَا كَرِيهًا وَلَا مُرًّا، وَكَوْنِهِ لَا يُوَلِّدُ ضَرَرًا عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، وَجِهَةُ اكْتِسَابِهِ لَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ عَاجِلٌ وَلَا آجِلٌ، وَلَا يَلْحَقُ غَيْرَهُ بِسَبَبِهِ أَيْضًا ضَرَرٌ عَاجِلٌ وَلَا آجِلٌ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ2 قَلَّمَا تَجْتَمِعُ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ تَكُونُ ضَرَرًا عَلَى قَوْمٍ لَا مَنَافِعَ، أَوْ تَكُونُ ضَرَرًا فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ، وَلَا تَكُونُ ضَرَرًا فِي آخَرَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي كَوْنِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَشْرُوعَةً أَوْ مَمْنُوعَةً لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، لَا لِنَيْلِ الشَّهَوَاتِ3، وَلَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ، لَمْ يَحْصُلْ ضَرَرٌ مَعَ مُتَابَعَةِ الْأَهْوَاءِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ لَا تَتْبَعُ الْأَهْوَاءَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَغْرَاضَ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ تَخْتَلِفُ، بِحَيْثُ إِذَا نَفِذَ غَرَضُ بَعْضٍ وَهُوَ مُنْتَفِعٌ بِهِ تَضَرَّرَ آخَرُ لِمُخَالِفَةِ غَرَضِهِ، فَحُصُولُ الِاخْتِلَافِ في الأكثر   1 في خ": "الآخرة". 2 في الأصل و"ط": "أمور". 3 يؤيد ما قلناه من وجود شبه التنافي بين ما هنا وما سبق في المسألة الخامسة حيث يقول هناك: وأعني بالمصلحة ... " إلى أن قال: "ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية"، ثم بنى عليه أن ما غلب فيه المنفعة، فهو المصلحة، ولأجلها وقع الطلب. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَغْرَاضِ، وَإِنَّمَا يَسْتَتِبُّ1 أَمْرُهَا بِوَضْعِهَا عَلَى وفق المصالح مطلقا، وافقت الأغرض أَوْ خَالَفَتْهَا. فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا انْبَنَى عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: - مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ، كَمَا قَرَّرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ2، إِذْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ انْتِفَاعٌ حَقِيقِيٌّ وَلَا ضَرَرٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِنَّمَا عَامَّتُهَا أَنْ تَكُونَ إِضَافِيَّةً. وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ إِذَا كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ -وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ خِطَابِهِ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ3 حَتَّى يَكُونَ الِانْتِفَاعُ الْمُعَيَّنُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ أَوْ بِحَسَبِ شَخْصٍ، وَغَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ إِذَا كَانَ   1 في نسخة "ماء / ص 131": "يثبت". 2 لا مانع أن يحمل الإطلاق في كلام الرازي على أنه بعد التحقق من كونه الشيء منفعة أو مضرة من استقراء مقاصد الشرع يكون الحكم ما قاله من أن المنفعة الأصل فيها الإذن، والمضرة المنع، لا أن مراده أن الأصل في كل ما يطلق عليه أحدهما ولو بوجه من الوجوه يعتبر له حكمه، وهذا الذي أشرنا إليه هو الذي يصح أن يفهم به كلام مثل الإمام الرازي، على أن هذا هو بعينه الذي جرى عليه المؤلف في النظر الثاني في المسألة الخامسة، ولذا قلنا: إنه يلزم أن تكون المسألة الثامنة مقيدة لإطلاق المسألة الخامسة. "د". قلت: وكلام الرازي في "المحصول" "1/ 158وما بعدها، و 6/ 97 وما بعدها"، وانظر في المسألة: "البرهان" "1/ 99"، والمستصفى" "1/ 41"، و"الإحكام" "1/ 130". للآمدي، و"الإحكام" "1/ 58/ 68" لابن حزم، و"شرح التنقيح" "ص 92"، و"شرح الكوكب" "1/ 325"، و"سلاسل الذهب" "423- 424"، و"المسودة" "ص 474"، "وتيسير التحرير" "2/ 167" و"نشر البنود" "1/ 27"، و"مذكرة الشنقيطي" "19". 3 لكن على وجه عام كلي كما سبقت الإشارة إليه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ-، فَكَيْفَ يُسَوِّغُ إِطْلَاقُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ؟ وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَتِ الْمَنَافِعُ لَا تَخْلُو مِنْ مَضَارَّ وَبِالْعَكْسِ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْإِذْنُ وَالنَّهْيُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَيْفَ يُقَالُ: "أَنَّ الأصل في الخمر مثلا الإذان مِنْ حَيْثُ مَنْفَعَةِ الِانْتِشَاءِ وَالتَّشْجِيعِ1 وَطَرْدِ الْهُمُومِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَيْضًا الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ مَضَرَّةِ سَلْبِ الْعَقْلِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا لَا يَنْفَكَّانِ2، أَوْ يُقَالُ: الْأَصْلُ فِي شُرْبِ الدَّوَاءِ الْمَنْعُ لِمَضَرَّةِ شُرْبِهِ لِكَرَاهَتِهِ وَفَظَاعَتِهِ وَمَرَارَتِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُمَا غَيْرُ مُنْفَكَّيْنِ؟ فَيَكُونُ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِذْنَ وَعَدَمَ الْإِذْنِ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّعَارُضِ الرَّاجِحُ، فَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، وَمَا سِوَاهُ فِي حُكْمِ المغفَل المطرَح. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَشُدُّ مَا تَقَدَّمَ3، إِذْ هُوَ دَلِيلٌ على أن المنافع ليس   1 بعدها في نسخة "ماء/ ص 131 زيادة: "والتجويد"، ولها وجه قوي لما سيأتي "ص 123" في فوائد الخمر: "وتبعث البخيل على البذل"، وهي في "ط" كذلك. 2 ادعى أبو بكر الجصاص أن في قوله تعالى: {قُلْ فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} دليلًا كافيًا في تحريم الخمر، وأن عمر بن الخطاب فهم منها وجه التحريم، وإنما قال بعد نزولها: "اللهم بين لنا في الخمر"؛ لأن بعض المسلمين وجدوا للتأويل فيها مساغًا، فتمادوا على تناولها، ويقدح في هذه الدعوى أن الآية لو نزلت لتقرير حكم الحرمة لرجع عمر بن الخطاب بهؤلاء المُؤَوِّلين إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبين لهم ما نزل إليهم "خ". 3 نقول: وهذا أيضًا يشد ما تقدم في الجواب عن الرازي، إذ لا يعقل أن يعني أن كل ما فيه اسم مصلحة ما مأذون فيه كالخمر مثلا، وما فيه مفسدة ما ممنوع كمرارة الدواء، بل ما يعتبر مثله مصلحة أو مفسدة في نظر الشارع، فالاعتراض إن كان بمعنى التنبيه على غرض الرازي، فظاهر، وإلا فلا. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 أَصْلُهَا الْإِبَاحَةَ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ الْمَضَارَّ لَيْسَ أَصْلُهَا الْمَنْعَ بِإِطْلَاقٍ، بَلِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَا تَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ ضَرَرٌ مَا مُتَوَقَّعٌ، أَوْ نَفْعٌ مَا مُنْدَفِعٌ. - وَمِنْهَا: أَنَّ الْقَرَافِيَّ أَوْرَدَ إِشْكَالًا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبِرِينَ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، فَقَالَ: "الْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ والمفسدة إن كان مسماها كَيْفَ كَانَا، فَمَا مِنْ مُبَاحٍ إِلَّا وَفِيهِ فِي الْغَالِبِ مَصَالِحُ وَمَفَاسِدُ، فَإِنَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ وَلُبْسَ اللَّيِّنَاتِ فِيهَا مَصَالِحُ الْأَجْسَادِ وَلَذَّاتُ النُّفُوسِ، وَآلَامٌ وَمَفَاسِدُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَكَسْبِهَا، وَتَنَاوُلِهَا، وَطَبْخِهَا، وَإِحْكَامِهَا، وَإِجَادَتِهَا بِالْمَضْغِ، وَتَلْوِيثِ الْأَيْدِي .... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ وُجُودِهِ وَعَدِمِهِ لَاخْتَارَ عَدَمَهُ، فَمَنْ يُؤْثِرُ وَقِيدَ1 النِّيرَانِ وَمُلَابَسَةَ الدُّخَانِ وَغَيْرَ ذَلِكَ2؟ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى مُبَاحٌ أَلْبَتَّةَ. وَإِنْ أَرَادُوا3 مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِهِمَا مَعَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْخُصُوصِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّ الْعُدُولَ4 عَنْ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الِاعْتِزَالِ، فَإِنَّهُ سَفَهٌ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا5: إِنَّ ضَابِطَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَصْلَحَةٍ تَوَعَّدَ الله على   "1، 2" انظر: "الاستدراك 2". 3 أي: حتى تبقى المباحثات قائمة. "د". 4 أي: فإن أراد المعتزلة الخلوص من هذه الورطة بالعدول عن جعل المصلحة والمفسدة مبنى الحكم بالإذن والمنع، نقضوا مذهبهم المعلل بأنه لو لم يكن هذا البناء، لكان تحكما وسفها وخلوا عن الحكمة، تعالى الله عن ذلك. "د". 5" أي: جوابا عن الإشكال بأن إرادة المطلق الذي هو مسمى المصلحة والمفسدة لا تبقي شيئا من المباح، يعني: فإن قالوا: "نختار هذا المطلق، ولكن باعتبار مجرد توعد الله على الفعل والترك بدون تخصيص، حتى لا يقال: إن مراتب التخصيص ليس بعضها أولى من بعض، وبهذا الاعتبار يبقى المباح قائما ويندفع الإشكال"، نقول لهمك يلزمكم الدور. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 تَرْكِهَا، وَكُلَّ مَفْسَدَةٍ1 تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى فِعْلِهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَمَا أَهْمَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ داخل في مقصدونا، فَنَحْنُ نُرِيدُ مُطْلَقَ الْمُعْتَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَعِيدُ عِنْدَكُمْ وَالتَّكْلِيفُ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَيَجِبُ عِنْدَكُمْ بِالْعَقْلِ أَنْ يَتَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى2 تَرْكِ الْمَصَالِحِ وَفِعْلِ الْمَفَاسِدِ، فَلَوِ اسْتَفَدْتُمُ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنَ الْوَعِيدِ، لَزِمَ الدَّوْرُ3، وَلَوْ صَحَّتِ الِاسْتِفَادَةُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ [مِنَ الْوَعِيدِ] ، لَلَزِمَكُمْ4 أَنْ تُجَوِّزُوا أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ بِتَرْكِ الْمَصَالِحِ وَفِعْلِ الْمَفَاسِدِ، وَتَنْعَكِسُ الْحَقَائِقُ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ5 التَّكْلِيفُ، فَأَيُّ شَيْءٍ كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً، وَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَكُمْ". قَالَ: "وَأَمَّا حَظُّ أَصْحَابِنَا مِنْ هذا الإشكال، فهو أنه6 يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَاعَى مُطْلَقَ الْمَصْلَحَةِ وَمُطْلَقَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى سَبِيلِ التفضيل7؛ لأن المباحت فِيهَا ذَلِكَ وَلَمْ يُرَاعَ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الله ألغى بعضها   "1، 2، 5، 6" انظر: "الاستدراك 3". 3 وتقريره أنهم يقولون: إن العقل يتأتى له الاستقلال بفهم أكثر المصالح والمفاسد، ويأتي الشرع كاشفا ومقررا لما أدركه العقل، ويقولون أيضا: إنه يجب عقلا أن يتوعد الله على ترك المصلحة، فكأنهم يقولون: إن التوعد على ترك المصلحة يفهمه العقل تبعا لإدراكه المصلحة، فلو قالوا: إن إدراك المصلحة يعلم من التوعد الوارد من الشرع، لزم توقف علم المصلحة على التوعد، وقدكان علم التوعد موقوفا على علم المصلحة، وهذا هو الدور بعينه. "د". 4 وذلك؛ لأنهم يقولون: المصالح والمفاسد منضبطة متمايزة، وهي حقيقية لا اعتبارية، فإذا كانت تابعة لاعتبار الشرع أيا كان، فقد ينعكس الأمر فيعتبر الشرع ما ليس كذلك؛ لأنا لم نتقيد حينئذٍ إلا بأنه أمر به أو نهي عنه فقط. "د". 7 أي: فقد يفضل مطلق المصلحة في الفعل على ما فيه من مطلق المفسدة فيوجبه، وبالعكس، لا يمكنهم الإجابة بهذا؛ لأن المباحثات فيها المطلقان موجودان، وبقي مباحا لم يوجب ولم يمنع، ولكن يمكنهم الجواب بأنه تعالى ألغى هذه المطلقات في المباحات، فبقي الطرفان كما هما لا إيجاب ولا تحريم، واعتبرها في غير المباحات مفضلا مطلق المصلحة في بعضها، فجعله مطلوبا، ومطلق المفسدة في بعض آخر فجعله محظورا، ولا حجر عليه تعالى في ذلك، هذا إلا أنه يقال عليه: إنه تسليم بأن كون الفعل معتبرًا مصلحة أو مفسدة متوقف على النص بإيجابه أو تحريمه، فالقياس إنما يكون دليلا عند النص على علة القياس واعتباره لها، أما مسالك العلة الأخرى أو بعضها على الأقل، فإنه حينئذ لا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام، فتأمله، وهو داخل فيما أشار إليه بقوله: "وإن كان يخل بنمط من الاطلاع ... " إلخ. "د". "استدراك 4". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 فِي الْمُبَاحَاتِ، وَاعْتَبَرَ بَعْضَهَا، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ ضَابِطِ الْمُعْتَبَرِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء الواقع فَقَطْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُخِلُّ بِنَمَطٍ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِ الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] ، وَ {يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ} [الْمَائِدَةِ: 1] ، وَيَعْتَبِرُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وَيَتْرُكُ مَا يَشَاءُ لَا غَرْوَ فِي ذَلِكَ1، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يُوجِبُونَ ذَلِكَ عَقْلًا، فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا فَتَحُوا هَذَا الْبَابَ2 تَزَلْزَلَتْ قَوَاعِدُ الِاعْتِزَالِ". هَذَا مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ3. وَأَنْتَ إِذَا رَاجَعَتْ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا، لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْإِشْكَالِ مَوْقِعٌ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ، فَإِنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرِيعَةِ دَلَّ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ مِمَّا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يُحَصِّلُ ضَوَابِطَ ذَلِكَ4، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْجَارِينَ عَلَى جَادَّةِ الشَّرْعِ من غير [إخلال بالخروج5 في   1 في "د": "لا غيره"، وفي الأصل و"خ": "لا غير وفي ذلك"، وكتب "م": "الذي يظهر لي أن أصل العبارة "لا غير ذلك" يعني إنهم يتمسكون بهذا الكلام، ولا يذكرون غيره"، والمثبت من "ط" و"النفائس". 2 أي: باب أنه يعتبر ما يشاء ويترك ما يشاء، بقطع النظر عن مصلحة ومفسدة. "د". 3 ذكر ذلك في النفائس" "1/ 352-353"، وانظر مناقشته في "شرح الأسنوي" "1/ 130- ط السلفية". 4 جواب عما لزمهم من أنهم إذا سئلوا عن الضابط عسر الجواب. "د". 5 أي: مصور بالخروج عن الجادة، وقوله: "في جريانها" راجع لاستقراء الأحوال، أي: فإننا عند استقراء أحوالهم نجدها جارية على الصراط المستقيم، معطين كل ذي حق حقه، فلا يخلون بنظام، أي لا تفوتهم مصلحة، ولا تنهدم في عملهم قاعدة من قواعد الدين، كما أننا نجد الأمر بخلاف ذلك عند استقراء أحوال الذين لا يلتزمون الجادة، فبمقدار ما خالفوا نجد الخلل في أحوالهم بفوات المصالح، فقوله: "وفي وقوع الخلل" عطف على المعنى. "د".وفي "ط": "إخلال بالحدود". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 جَرَيَانِهَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ] 1 إِخْلَالٍ بِنِظَامٍ، وَلَا هَدْمٍ لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَفِي وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهَا بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي حُدُودِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرْعِ، وَكُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ2، لِلْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، حَصَلَ لَهُمْ بِهِ ضَوَابِطُ فِي كُلِّ بَابٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَمَبْسُوطٌ3 فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْتَبِرُونَ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ بِحَسَبِ مَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ الْعَقْلُ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْمَصَالِحِ، أَوْ يَنْخَرِمُ بِهِ فِي الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ جَعَلُوا الشَّرْعَ كَاشِفًا لِمُقْتَضَى مَا ادَّعَاهُ الْعَقْلُ عِنْدَهُمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ فِي مَحْصُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في المدرك4.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 أي: إذا حصل استقراؤهم لأحوال الجارين على الجادة، واستقراؤهم لوقوع الخلل بمقدار ما يقع من المخالفة، حصل لهم ضوابط في كل باب لما يعتبره الشرع مصلحة وما يعتبره مفسدة، فلا يعسر عليهم الجواب، ولا يحصل خلل بنمط معرفة أسرار الأحكام الشرعية. "د". 3 يفيد أن ضوابط المصلحة والمفسدة المعتبرتين شرعا في كل باب من أبواب الشرع مبسوطة في علم الأصول، وهو كذلك؛ لأن هذه الضوابط هي عبارة عن القواعد الأصولية الكلية التي بملاحظتها يمكن تفريع الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام بمراعاة الأدلة الجزئية من الكتاب والسنة وغيرهما، كما سيأتي في المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د". 4 فالأشاعرة يقولون: لم نتعرفها إلا من تتبع موارد الشرع، وقبله لا قبل للعقل بإدراكها والمعتزلة يقولون: بل العقل يدركها في أكثر الأبواب قبل الشرع، والشرع ورد كاشفا ومثبتًا ما فهمه العقل في هذه الأبواب، فالنتيجة في الموضوع واحدة، وهي أن المصالح والمفاسد معتبرة في الأحكام الشرعية، ولا يرد اعتراض القرافي. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ لَا يَضُرُّ فِي كَوْنِ الْمَصَالِحِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا وَمُنْضَبِطَةً1 فِي أَنْفُسِهَا. وَقَدْ نَزَعَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا2 فِي كَلَامِهِ عَلَى الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، حِينَ فَسَّرَهَا الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهَا "جَوَازُ الْإِقْدَامِ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ"، قَالَ: "هُوَ3 مُشْكَلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَوَاتُ وَالْحُدُودُ وَالتَّعَازِيرُ وَالْجِهَادُ وَالْحَجُّ رُخْصَةً، إِذْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفِيهِ مَانِعَانِ: ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِلْزَامِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] ، وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 4، وَذَلِكَ مَانِعٌ من وجوب   1 أي: فلا يفتحون باب أنه يعتبر ما يشاء، ويترك ما يشاء بقطع النظر عن المصلحة حتى يترتب عليه ما رتبه القرافي من تزلزل قواعدهم."د". 2 أي: الترديد في معنى المصلحة والمفسدة، وأنه ما من فعل إلا وفيه شيء من المصلحة وشيء من المفسدة، فجعل المشاق والمضار في كل الأفعال موانع، وما من فعل إلا وفيه ذلك، فكل ما في الشريعة من الأحكام المباحة أو المطلوبة يكون رخصة متى جرينا على تفسير الإمام الرازي لها بناء على ما فهمه القرافي فيه، هذا ولم يتعرض المؤلف لتصحيح كلام الرازي هنا، ولو فسر المانع في كلام الرازي بما قاله الجمهور عند تعريف الرخصة وأن المراد بها الدليل على الأصل الذي استثنيت منه هذه الرخصة كما سبق بيانه جوابا عن استدراك المؤلف على تعريف الجمهور للرخصة، لكان تفسير الرازي لها جيدا، نعم، لو فسر المانع في كلامه بما يكون مفسدة ومضرة تلحق الشخص مثل مشقات الصلاة وسجوده على الجبهة التي هي أشرف أعضاء الإنسان المكرم وأمثال ذلك، لاتجه إشكال القرافي على هذا التفسير ثم عجزه أخيرًا عن ضبط الرخصة كما ذكره في كتابيه المذكورين. "د". قلت: انظر كلام الرازي في "المحصول" "1/ 120". 3 في "ط": "وهو". 4 ورد من حديث عبادة بن الصامت، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وعائشة، وعمرو بن عوف، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة. فحديث عبادة رواه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، 2/ 784/ رقم 2340"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" "5/ 326-327"،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 .......................................................   = والبيهقي في "السنن" "10/ 133"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "1/ 344"، كلهم من رواية موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار، وقال أبو نعيم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"، قال ابن عساكر في "الأطراف": "وأظن إسحاق لم يدرك جد أبيه عبادة"، نقله الزركشي في "المعتبر" "رقم 295"، وابن حجر في "التهذيب" "1/ 256"، والهيثمي في "المجمع" "4/ 205"، ومع ذلك، فقد ضعفه ابن عدي وقال: "عامة أحاديثه غير محفوظة". وحديث ابن عباس رواه عبد الرزاق في "المصنف" وأحمد في "المسند" "1/ 313" عنه وابن ماجه في "السنن" "2/ 784/ 2341"، والبيهقي في "السنن" "6/ 69"، من طريقه أيضًا، عن معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره، والطريق الميتاء سبعة أذرع"، وتابع عبد الرزاق: محمد بن ثور كما عند الطبراني في "الكبير" "11/ 302/ رقم 11806"، وجابر الجعفي فيه مقال كثير معروف، لكن الحديث ورد من وجه آخر خرجه "الدارقطني في "السنن" "4/ 228"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 397/ رقم 2520" من طريق عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للجار أن يضع خشبة على جدار جاره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا ضرار". وإبراهيم بن إسماعيل مختلف فيه، وثقة أحمد، وضعفه أبو حاتم، وروايات داود عن عكرمة مناكير، فإسناده ضعيف. وتابع إبراهيم بن إسماعيل سعيد بن أيوب كما عند الطبراني في "الكبير" "11/ 228-229/ رقم 11576"، ثنا أحمد بن رشدين، ثنا روح بن صلاح، ثنا سعيد، عن داود به موقوفًا على ابن عباس. وإسناده واه بمرة، روح ضعيف، وابن رشدين متهم. وأخرجه الخطيب في "الموضح" "2/ 96-97" من طريق يعقوب بن سفيان عن روح به مرفوعًا. وأخرجه ابن أبي شيبة -كما في "نصب الراية" "4/ 384"- ثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، عن سماك، عن عكرمة به. وإسناده رجاله كلهم ثقات، وفي رواية سماك عن عكرمة اضطراب.= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 ............................................................................   = وحديث أبي سعيد رواه الدينوري في "المجالسة"، والدارقطني في "السنن" "4/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 57"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 69-70"، وابن عبد البر في "التمهيد" "20/ 159"، كلهم من طريق الدراوردي عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري به بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه"، وقال الدينوري: "لا ضرورة ولا ضرار، من ضار ضر الله به .... " الحديث، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط مسلم"، وهو كما قال: وقال البيهقي: "تفرد به عثمان بن محمد عن الداروردي". ورواه مالك -يعني في "الموطأ" "2/ 745"- عن عمرو بن يحيى عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرار ولا ضرار" مرسلا. وأفاد ابن التركماني في "الجوهر النقي" أن عثمان لم ينفرد به، كما قال البيهقي، بل تابعه على روايته عن الدراوردي موصولا عبد الملك بن معاذ النصيبي، أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقال: "إن هذا الحديث لا يسند من وجه صحيح"، وقال: "وأما معنى هذا الحديث، فصحيح في الأصول". وليس كما قال أيضا، فالداروردي حافظ ثقة، وقد أسنده عنه اثنان، ومالك علم من حاله أنه يرسل كثيرا ما هو عنده موصول، ورجح ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 208" رواية الإرسال. وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 228" بإسناد فيه يعقوب بن عطاء وهو ضعيف، وأبو بكر بن عياش مختلف فيه، كما في "نصب الراية" "4/ 385"، وحديث جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" "رقم 2002" و"نصب الراية" "4/ 386"، من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان به. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 209": "وهذا إسناد مقارب، وهو غريب، لكن خرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 407" من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع مرسلًا، وهو أصح"، ولأبي لبابة ذكر فيه. وحديث عائشة أخرجه الدارقطني في "السنن" "4/ 227" وفيه الواقدي وهو متروك، ومن طريق آخر ضعيف أيضًا، الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" "رقم 2003"، وحديث ثعلبة أخرجه الطبراني في "الكبير" "رقم 1377"، وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم بن سعيد الصواف، وهو لين الحديث. وحديث عوف بن عمرو أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" "20"، وقال: "إسناده غير صحيح"، فالحديث صحيح لشواهده الكثيرة، ولذا قال النووي عن شواهده في "أربعينه": "يقوي بعضها بعضا" وقال ابن الصلاح: "مجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به"، وعد أبو داود السجستاني هذا الحديث من الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وهذا مشعر بأنه يراه حجة، والله أعلم. وانظر: "الإرواء" "3/ 408-414"، و"السلسلة الصحيحية" "رقم 250". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْآخَرُ أَنَّ صُورَةَ الْإِنْسَانِ مُكَرَّمَةٌ لِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الْإِسْرَاءِ: 70] ، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التِّينِ: 4] ، وَذَلِكَ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يُهْلِكَ بِالْجِهَادِ، وَلَا يُلْزِمُهُ الْمَشَاقَّ وَالْمَضَارَّ. وَأَيْضًا الْإِجَارَةُ رُخْصَةٌ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَالسَّلَمُ كَذَلِكَ، وَالْقِرَاضُ وَالْمُسَاقَاةُ رُخْصَتَانِ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ، وَالصَّيْدُ رُخْصَةٌ لِأَكْلِ الْحَيَوَانِ بِدَمِهِ، وَلَمْ تُعَدَّ مِنْهَا، وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مَصْلَحَةَ إِلَّا وَفِيهَا مَفْسَدَةٌ وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ قَلَّتْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمَا؟ وَعَلَى هَذَا مَا فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ إِلَّا وهو مع المانع الشرعين؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ1 أَنْ يُرَادَ بِالْمَانِعِ مَا سَلِمَ عَنِ الْمَعَارِضِ الرَّاجِحِ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وغيره.   1 أي: لا يمكن الجواب بأن المراد المانع القوي الذي لم يعارضه ما هو راجح، يعني: وهذه الأمور المستشكل بها من صلاة وحدود وغيرها ليس فيها مانع قوي، بل هو ضعيف في مقابلة المثبت لها بخلاف الرخص، فإن المانع فيها قوي، فذلك كانت رخصا -قال: إن هذا الجواب لا يحسم الإشكال؛ لأن بعض الرخص- كرخصة أكل الميتة طلب الرخصة فيها أقوى من معارضه الذي يطلب الأصل وهو التحريم، وإذا، فالمراد بالمانع ما هو أعم من أن يكون راجحا أو مرجوحا، فتدخل أحكام الشريعة كلها؛ لأنها لا تخلو من مانع ولو ضعيفا، مثل الموانع التي أشرنا إليها في صدر الإشكال، هذا ويمكنك أن تنقض للقرافي رده على الجواب، وذلك أنه جاء في رده بما هو من مواضع الرخصة الواجبة، وقد علمت سابقا أن تسميتها رخصة تسمح، وأن الرخصة الحقيقة لا تعدو حكم الإباحة بأحد المعنيين، فالمانع فيها سلم عن المعارض الراجح، وقد عالج المؤلف سابقا توجيه تسمية الواجبة رخصة بعد ما قرر ما ذكرنا واستدل عليه، فللرازي أن يلتزم أن كل الميتة للمضطر ليس رخصة، بل هو واجب شرعا. "د". وفي "ط": "لأنه يمكن" بحذف "لا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وُجِدَ فِيهِ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمَيْتَةِ، فَحِينَئِذٍ مَا الْمُرَادُ إِلَّا الْمَانِعُ الْمَغْمُورُ بِالرَّاجِحِ، وَحِينَئِذٍ تَنْدَرِجُ جَمِيعُ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِيهِ مَانِعٌ مَغْمُورٌ بِمُعَارِضِهِ". ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي شَرْحَيِ "التَّنْقِيحِ" وَ"الْمَحْصُولِ"1 الْعَجْزُ عَنْ ضَبْطِ الرُّخْصَةِ. وَمَا تَقَدَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يُغْنِي فِي الْمَوْضِعِ2، مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الرُّخْصَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِذَا فُهِمَتْ حَصَلَ بِهَا فَهْمُ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الْبَقَرَةِ: 29] . وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَةِ: 13] . وَقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 3 الآية [الأعراف: 22] .   1 انظر: "المحصول" "1/ 120"، وشرحه "نفائس الأصول" "1/ 331 وما بعد". 2 لأن ما اعترض به القرافي كلام الرازي مبني على أنه ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة وقد جعلها مانعا، وقد علمت أن الأمر ليس كذلك، بل المصالح متمايزة عن المفاسد شرعا، سواء عند المعتزلة والأشاعرة، وبهذا ينحسم إشكاله على الرخص، كما انحسم إشكاله الذي أورده على جميع العلماء في أصل الموضوع هنا، وأيضًا كلام المؤلف في باب الرخصة كاف في دفع استشكاله وتحيره في ضبط الرخصة "د". 3 صدرها وإن كان فيه إنكار التحريم فقط، إلا أن بقيتها فيه التصريح بالحل المطلق. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِقُيُودٍ تَقَيَّدَتْ بها، حسبما دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ فِي وَضْعِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. - وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ1 قَالَ: "إِنَّ مَصَالِحَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَفَاسِدَهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ، فَتُعْرَفُ بِالضَّرُورَاتِ وَالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ وَالظُّنُونِ الْمُعْتَبَرَاتِ". قَالَ: "وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، رَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا، فَلْيَعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى عَقْلِهِ2 بِتَقْدِيرِ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، فَلَا يَكَادُ حُكْمٌ مِنْهَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، إِلَّا التَّعَبُّدَاتُ الَّتِي لَمْ يُوقَفْ عَلَى مَصَالِحِهَا أَوْ مَفَاسِدِهَا". هَذَا قَوْلُهُ. وَفِيهِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ نَظَرٌ، أَمَّا أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، فَكَمَا قَالَ: وَأَمَّا مَا قَالَ فِي الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ بَعْدَ زَمَانِ فَتْرَةٍ، تَبَيَّنَ بِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مِنِ انْحِرَافِ الْأَحْوَالِ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ بِإِطْلَاقٍ، لَمْ يَحْتَجْ فِي الشَّرْعِ إِلَّا إِلَى بَثِّ مَصَالِحِ الدَّارِ الْآخِرَةِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِمَا يُقِيمُ أَمْرَ الدُّنْيَا وَأَمْرَ الْآخِرَةِ مَعًا، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِإِقَامَةِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ3، فَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ كَوْنِهِ   1 هو العز بن عبد السلام، والمذكور قوله في "قواعد الأحكام" "1/ 10". 2 أشبه بمذهب المعتزلة. "د". 3 في الأصل: "الآخرة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 قَاصِدًا لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا1، حَتَّى يَتَأَتَّى فِيهَا سُلُوكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ بَثَّ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَحَسَمَ مِنْ أَوْجُهِ الْفَسَادِ الَّتِي كَانَتْ جَارِيَةً مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَالْعَادَةُ تُحِيلُ اسْتِقْلَالَ الْعُقُولِ فِي الدُّنْيَا بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ2 هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِهَا تَحْصُلُ بِالتَّجَارِبِ وَغَيْرِهَا، بَعْدَ وَضْعِ الشَّرْعِ أُصُولَهَا، فَذَلِكَ لَا نزاع فيه.   1 ورود الشريعة لإقامة مصالح الدنيا اقتضى أن يكون في تعاليمها قواعد كلية تندرج فيها أحكام الوقائع التي تعرض للأفراد والجماعات، وليس على الراسخين في العلم بها سوى النظر في الوقائع وفحص ما يترتب عليها من آثار المصالح والمفاسد حتى يصوغوا لها من تلك القواعد القيمة حكما عادلا، وإذا كان الإسلام يقوم على هذه الحقيقة، فمن المتعين على علمائه أن يبحثوا في حال الاجتماع، ويدرسوا شؤون الأمم حتى تكون فتاويهم مفرغة في حكمه وسداد، والرئيس الذي يحاول صرفهم عن الخوض في مذاهب السياسة وحصرهم في دائرة ضيقة من التعليم إنما يفعل ما يفعل جهلا بحقائق الإسلام أو قصدًا للعبث بذلك النظام الذي بهر جهابذة الفلسفة، فأطرقوا لحكمته خاضعين. "خ". وفي "ط": "صلاح الدنيا". 2 وهو بعيد من قوله: "بتقدير أن الشرع لم يرد". "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: كَوْنُ الشَّارِعِ قَاصِدًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ: الضَّرُورِيَّةِ، وَالْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّةِ، لَا بُدَّ عليه من دليل يستند غليه، وَالْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ظَنِّيًّا أَوْ قَطْعِيًّا، وَكَوْنُهُ ظَنِّيًّا بَاطِلٌ، مَعَ أَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، بَلْ هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَأُصُولُ أُصُولِهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَلَوْ جَازَ إِثْبَاتُهَا بِالظَّنِّ، لَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ مَظْنُونَةً أَصْلًا وَفَرْعًا، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، فَأَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ بِلَا بُدٍّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكَوْنُ هَذَا الْأَصْلِ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا. فَالْعَقْلِيُّ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى تَحْكِيمِ الْعُقُولِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَقْلِيًّا. وَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ نُصُوصًا جَاءَتْ مُتَوَاتِرَةَ السَّنَدِ، لَا يَحْتَمِلُ مَتْنُهَا التَّأْوِيلَ عَلَى حَالٍ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نُصُوصًا، أَوْ كَانَتْ وَلَمْ يَنْقُلْهَا أَهْلُ التَّوَاتُرِ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِنَادُ مِثْلِ هَذَا إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ نُصُوصًا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمُتَوَاتِرَةَ السَّنَدِ، فَهَذَا مُفِيدٌ لِلْقَطْعِ، إِلَّا أَنَّهُ مُتَنَازَعٌ فِي وُجُودِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْقَائِلُ بِوُجُودِهِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تُفْرَضُ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ. وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ وُجُودِهِ فِي الشَّرِيعَةِ يَقُولُ: إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً مَوْقُوفٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ عَشْرٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ظَنِّيَّةٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا، فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَعَدَمِ النَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ العادي، وعدم الإضمار، و [عدم] 1 التخصيص للعموم، و [عدم] 1 التَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ، وَعَدَمِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ. ومن المعترفين بوجود مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ فِي أَنْفُسِهَا لَا تُفِيدُ قَطْعًا، لَكِنَّهَا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مشاهدة أو منقولة، فقد تفيد اليقين، وهذا لَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ دَلِيلَ مَسْأَلَتِنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمُفِيدَةَ لِلْيَقِينِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِكُلِّ دَلِيلٍ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ2 كُلُّهَا قَطْعِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَلْزَمُ، ثُمَّ وَجَدْنَا أَكْثَرَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ظَنِّيَّةَ الدَّلَالَةِ أَوِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ مَعًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ افْتِقَارِ الْأَدِلَّةِ إِلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْقَطْعِ3 وَالْيَقِينِ نَادِرٌ عَلَى قَوْلِ الْمُقِرِّينَ بِذَلِكَ، وَغَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ. فَثَبَتَ أَنَّ دَلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ. وَلَا يقال: إن الإجماع كاف، وهو دليل قطعين؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا أَوَّلًا: مُفْتَقِرٌ إِلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ شَرْعًا، نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا يَعْسُرُ إِثْبَاتُهُ، وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُهُ، ثُمَّ نَقُولُ:   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه: "أو التخصيص". 2 أي: التي هي من النصوص المتواترة التي لا تحتمل تأويلًا كما هو موضوع الكلام، لا أنه يلزم أن يكون كل دليل ولو كان ظني الدلالة أو المتن كذلك، فإنه لا يلزم مع أخذ الموضوع كما قلنا. "د". 3 في "خ": "للدليل القطعي"، وفي الأصل: "للدليل القطع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 ثَانِيًا: إِنْ فُرِضَ وُجُودُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يَكُونُ مُسْتَنَدَهُمْ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ قَطْعِيٌّ، فَقَدْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً لَا قَطْعِيَّةً، فَلَا تُفِيدُ الْيَقِينَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ قَطْعِيًّا عَلَى فَرْضِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ لَهَا مُسْتَنَدٌ قَطْعِيٌّ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى مُسْتَنَدٍ ظَنِّيٍّ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ خَالَفَ1 فِي كَوْنِ هَذَا الْإِجْمَاعِ حُجَّةً2 فَإِثْبَاتُ الْمَسْأَلَةِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَتَخَلَّصُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصْعُبُ الطَّرِيقُ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الْقَطْعِيِّ. وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ ثَابِتٌ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ هُوَ رُوحُ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ3 أَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الثَّلَاثَ لَا يَرْتَابُ فِي ثُبُوتِهَا شَرْعًا أَحَدٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّتِهَا الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَلَى حَدِّ الِاسْتِقْرَاءِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يُثْبَتُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ مُنْضَافٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، مُخْتَلِفَةِ الْأَغْرَاضِ، بِحَيْثُ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَمْرٌ وَاحِدٌ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ، عَلَى حَدِّ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْعَامَّةِ جُودُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَمْ يعتمد   1 على أن بعض من قال: إنه حجة لا يقول إنها قطعية كما هو الغرض هنا. "د". 2 جرى الخلاف في استناد الإجماع إلى اجتهاد وقياس، فمنعه الظاهرية لإنكارهم أصل القياس وابن جرير الطبري نظرًا إلى أن الإجماع الصادر عن القياس لم ينعقد على مستند قاطع، فلا يكون حجة، والراجح لدى الجمهور أنه واقع وحجة، ومن أمثلته إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر الصديق مستندين إلى الاجتهاد الملوح إليه بقول جماعة منهم رضيه "رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا". "خ". 3 في "خ": "كذلك". 4 انظر في تخريج ذلك: "موافقة الخبر الخبر" لابن حجر "1/ 193"، وما مضى "1/ 29". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 النَّاسُ فِي إِثْبَاتِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ عَلَى دَلِيلٍ مَخْصُوصٍ، وَلَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، بَلْ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنَ الظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومَاتِ، وَالْمُطْلَقَاتِ وَالْمُقَيَّدَاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ الْخَاصَّةِ، فِي أَعْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَوَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ، فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، حَتَّى أَلْفَوْا أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا دَائِرَةً عَلَى الْحِفْظِ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ، هَذَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالٍ مَنْقُولَةٍ وَغَيْرِ مَنْقُولَةٍ. وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ أَفَادَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ، إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ آحَادُ الْمُخْبِرِينَ، لَكَانَ إِخْبَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرْضِ عَدَالَتِهِ مُفِيدًا لِلظَّنِّ، فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعُهُمْ يَعُودُ بِزِيَادَةٍ عَلَى إِفَادَةِ الظَّنِّ، لَكِنْ لِلِاجْتِمَاعِ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِلِافْتِرَاقِ، فَخَبَرٌ وَاحِدٌ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ مَثَلًا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ آخَرُ قَوِيَ الظَّنُّ، وَهَكَذَا خَبَرٌ آخَرُ وَآخَرُ، حَتَّى يَحْصُلَ بِالْجَمِيعِ الْقَطْعُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ1، فَكَذَلِكَ هَذَا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ إِفَادَةِ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْأَخْبَارُ. وَهَذَا بُيِّنَ فِي كِتَابِ الْمُقَدِّمَاتِ2 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَمَنْ كَانَ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ النَّاظِرِينَ فِي مُقْتَضَاهَا، وَالْمُتَأَمِّلِينَ لِمَعَانِيهَا، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ بِإِثْبَاتِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي [إِثْبَاتِ] 3 هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثلاث.   1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 258-259". 2 تقدم له في المقدمة الثالثة بيان أوسع من هذا في صحة الاعتماد على هذا الاستقراء، وجعله من باب التواتر المعنوي، ولكنه هنا بسط الكلام في بيان أنه لا يمكن الاعتماد في إثبات هذا الأصل المهم على العقل ولا على النقل الأحادي ولا على الإجماع، وتوصل ذلك إلى أن لا بد من الرجوع لشبه التواتر، فما أوجزه هناك بسطه هنا، وبالعكس، فلا يقال: إن هذه المسألة تكرار محض مع ما تقدم هناك. "د". 3 سقط من "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: هَذِهِ الْكُلِّيَّاتُ الثَّلَاثُ إِذَا كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ لِلْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِهَا، فَلَا يَرْفَعُهَا تَخَلُّفُ1 آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ2: أَمَّا فِي الضَّرُورِيَّاتِ، فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ مَشْرُوعَةٌ لِلِازْدِجَارِ، مَعَ أَنَّا نَجِدُ مَنْ يُعَاقَبُ فَلَا يَزْدَجِرُ عَمَّا عُوقِبَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَأَمَّا فِي الْحَاجِيَّاتِ، فَكَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، مَشْرُوعٌ لِلتَّخْفِيفِ وَلِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَلِكُ الْمُتَرَفِّهُ لَا مَشَقَّةَ لَهُ، وَالْقَصْرُ فِي حَقِّهِ مَشْرُوعٌ، وَالْقَرْضُ أُجِيزَ لِلرِّفْقِ بِالْمُحْتَاجِ مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا فِي التَّحْسِينِيَّاتِ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ شُرِعَتْ لِلنَّظَافَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّ بَعْضَهَا عَلَى خِلَافِ النَّظَافَةِ كَالتَّيَمُّمِ. فَكُلُّ هَذَا غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْكُلِّيَّ إِذَا ثَبَتَ كُلِّيًّا، فَتَخَلُّفُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ لَا يخرجه عن كونه كليا، وأيضًا3،   1 أي: بأن تكون مع كونها داخلة في الكلي آخذة حكما آخر، أو تكون آخذة حكمه، ولكن المصلحة المعتبرة في الكلي ليست متحققة فيها، هذا هو الذي يقتضيه النظر في ذاته، ويقتضيه أيضا قوله الآتي: "وَأَيْضًا، فَالْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَخَلِّفَةُ قَدْ يَكُونُ تَخَلُّفُهَا لِحِكَمٍ خَارِجَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ، فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً ... إلخ"، فإن ذلك ليس إلا في الغرض الأول الذي فرضناه هنا، وهو ما يكون داخلا في الكلي ولكنه أخذ حكما آخر، فيكون الجواب أنه ليس داخلا؛ لأنه أخرجه عنه حكمة غير حكمه هذا الكلي جعلته خارجا عنه. "د". 2 هذه الأمثلة للنوع الثاني، وهو ما يكون تخلف الجزئي بمعنى أخذه حكم الكلي، ولكنه ليس في المصلحة المعتبرة في الكلي، وقد يمثل للأول بأن حكمة وجوب الزكاة الغنى، وهي موجودة في مالك الجواهر النفيسة كالماس مثلا، ومع ذلك أخذ حكما آخر وهو عدم وجوب الزكاة "د". 3 لو جعل هذا دليلًا على ما قبله، لكان أوضح من جعله دليلا مستقلا؛ لأن ما قبله كدعوى لا تتم إلا بهذا. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 فَإِنَّ الْغَالِبَ الْأَكْثَرِيَّ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرِيعَةِ اعْتِبَارَ الْعَامِّ الْقَطْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُتَخَلِّفَاتِ الْجُزْئِيَّةَ لَا يَنْتَظِمُ مِنْهَا كُلِّيٌّ يُعَارِضُ هَذَا الْكُلِّيَّ الثَّابِتَ. هَذَا شَأْنُ الْكُلِّيَّاتِ الِاسْتِقْرَائِيَّةِ1 وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّاتِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ أَمْرًا وَضْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ تَخَلُّفُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ قَادِحًا فِي الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا نَقُولُ: "مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ عَقْلًا"، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّخَلُّفُ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ تَخَلَّفَ لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ بِالْقَضِيَّةِ الْقَائِلَةِ: "مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ". فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْكُلِّيَّةُ فِي الِاسْتِقْرَائِيَّاتِ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ مُقْتَضَاهَا بَعْضُ الْجُزْئِيَّاتِ. وَأَيْضًا2، فَالْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَخَلِّفَةُ3 قَدْ يَكُونُ تَخَلُّفُهَا لِحِكَمٍ خَارِجَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الكلي، فلا يكون دَاخِلَةً تَحْتَهُ أَصْلًا4، أَوْ تَكُونُ دَاخِلَةً لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا دُخُولُهَا، أَوْ دَاخِلَةً عِنْدَنَا، لَكِنْ عَارَضَهَا عَلَى الْخُصُوصِ مَا هِيَ بِهِ أولى5،   1 في "ط": "الاستقرائيات". 2 هذا الجواب بمنع التخلف، أي فنقول: إنه لا تخلف أصلا، وأن ما يظهر فيه أنه تخلف هو في الواقع كذا أو كذا. "د". 3 في "خ": المختلفة". 4 أي: فلا تكون من جزئيات الكلي، فلا يصح الاعتراض بتخلفها؛ لأنها خارجة عنه حتى في نظرنا. "د". قلت: كلام المصنف هذا أشبه ما يكون بما يسمى اليوم بـ "مناهج العلوم"، فكأني به يريد أن يثبت أن للشريعة منهجا لا يمكن خلطه بالطرق العقلية المجردة، وانظر عن الاستقراء وحجيته وأقسامه: "شرح القطب على الشمسية" "ص 315 وما بعدها"، و" البحر المحيط" "2/ 103و 6 / 110" للزركشي، و" المنطق الحديث" "ص 32" لمحمود القاسم، والمرشد السليم في المنطق الحديث والقديم" "ص 183 وما بعدها" لعوض الله حجازي. 5 أي: وإن لم نقف عليه، فيأخذ الجزئي حكما آخر لحكمة خفيت علينا، وإن كان مقتضى الظاهر أنه يأخذ حكم الكلي؛ لأنه في نظرنا مندرج فيه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 فَالْمَلِكُ الْمُتَرَفِّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَشَقَّةَ تَلْحَقُهُ، لَكُنَّا لَا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا، أَوْ نَقُولُ1 فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَمْ يَزْدَجِرْ صَاحِبُهَا: إِنِ الْمَصْلَحَةَ لَيْسَتِ الِازْدِجَارَ فَقَطْ، بَلْ ثَمَّ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ كَوْنُهَا كَفَّارَةً؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَجْرًا أَيْضًا عَنْ2 إِيقَاعِ الْمَفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَادِمٌ لِلْكُلِّيِّ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا اعْتِبَارَ بِمُعَارَضَةِ الْجُزْئِيَّاتِ فِي صِحَّةِ وَضْعِ الْكُلِّيَّاتِ لِلْمَصَالِحِ.   1 هذا انظر آخر في الجواب، أي: قد نفهم أحيانا أن الحكمة كذا، ويكون الواقع أن هذا بعض ما يراعيه الشارع في الحكمة، ويكون هناك أمر آخر أعم منه يراعي ويكون مطردا، كالكفارات في الحدود مثلا. "د". 2 كذا في ط"،وفي غيره: "على". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَقَاصِدُ الشَّارِعِ فِي بَثِّ الْمَصَالِحِ فِي التَّشْرِيعِ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً عَامَّةً، لَا تَخْتَصُّ بِبَابٍ دُونَ بَابٍ، وَلَا بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، وَلَا بِمَحَلِّ وِفَاقٍ دُونَ مَحَلِّ خِلَافٍ1، وَبِالْجُمْلَةِ الْأَمْرُ فِي الْمَصَالِحِ مُطَّرِدٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَصَالِحِ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلَوِ اخْتَصَّتْ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِلْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّ2 الْبُرْهَانَ قَامَ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ فِيهَا غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ- وَهُوَ الْقَرَافِيُّ3- أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَقْلِيَّةَ أَنَّ الرَّاجِحَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّيْءَ وَالنَّقِيضَ4، بل متى كان أحدهما   1يشير إلى ما سيأتي عن القرافي وابن عبد السلام، وقد عقد هذه المسألة للرد عليهما، وبيان ما هو الواقع فيما ادعياه، وقد أصاب كل الإصابة، وملك عليهما جميع النوافذ، رحمه الله. "د". 2 في نسخة "ماء/ ص 134": "ولكن". 3 في كتابه "نفائس الأصول" "9/ 3901". 4 أي: لأن المصلحة الغالبة في المحل- أي: الراجحة التي يعتبرها الشرع- واحدة لا تتعدد، أي: فلا يسلم العقل بأن المصلحة الراجحة التي يراعيها أحدهما يكون نقيضها مصلحة راجحة أخرى يراعيها القائل الآخرن فلا يتأتى مع القول بإصابة كل مجتهد أن تكون الأحكام تابعة للمصالح، كما لا يتأتى معه أيضا القول بالقياس، لأنه مبني على وجود العلة التي هي المصلحة المراعاة في المقيس عليه. "د". قلت: وفي هذا الموضع من الأصل: "أن يكون هو النقيضين"،وكذا في "النفائس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 رَاجِحًا كَانَ الْآخَرُ مَرْجُوحًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَهُوَ الْمُفْتِي بِالرَّاجِحِ، وَغَيْرُهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، لِأَنَّهُ مفتٍ بِالْمَرْجُوحِ، فَتَتَنَاقَضُ قَاعِدَةُ الْمُصَوِّبِينَ مَعَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَأَنَّ الشَّرَائِعَ تَابِعَةٌ لِلْمَصَالِحِ. هَذَا مَا قَالَ. وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ1 فِي الْجَوَابِ أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا: عن هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَا تَكُونُ2 إِلَّا فِي الْأَحْكَامِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، أَمَّا فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ، فَلَمْ يَكُنِ الصَّادِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ3 للراجح في نفس الأمر، بل ما4 فِي الظُّنُونِ فَقَطْ، كَانَ رَاجِحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ مَرْجُوحًا، وَسُلِّمَ أَنَّ قَاعِدَةَ التَّصْوِيبِ تَأْبَى قَاعِدَةَ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ لِتُعِينَ الرَّاجِحَ، وَكَانَ يَقُولُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَائِلِ بِالتَّصْوِيبِ أَنْ يَصْرِفَ الخطأ في حديث الحاكم5 إلى   1 في "م": "عن شيخه العز في ... ". 2 ويكون معناها أنهم حيث اتفقوا على الحكم وصادفوا هدفا واحدا، فكلهم مصيب وهذا في غاية البعد بعد الاطلاع على أدلة الطرفين وتقرير ردودهما، وانظر كتاب "التحرير" في مسألة "لا حكم في المسائل الاجتهادية التي لا قاطع فيها من نص أو إجماع" فقد جعلوا هذا محل القاعدة، لا المسائل الإجماعية. "د". 3 أي: إن الحكم الذي يجب على المجتهد العمل به ليس تابعا لما في نفس الأمر حتى يكون صوابا دائما، فيتأتى أن كل مجتهد مصيب، بل هذا الحكم تابع لما ترجح في ظنه فقط، ولو كان مخالفا لما في نفس الأمر، فالظنون الموافقة صواب، والمخالفة خطأ، وإن وجب عليه العمل بها ما دام ظنه بأرجحيتها قائما، أي فلا يتأتى أن يكون كل مجتهد مصيبا. "د". 4 كذا في "النفائس"، وفي جميع النسخ: "فيما". 5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 13/ 318/ رقم 7352"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب بيان آجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 3/ 1342/ رقم 1716" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر". قال "د": "أي أن الخطا الوارد في الحديث ليس موجها إلى الحكم، بل إلى وسائل الاجتهاد التي اتبعت في استنباطه والخطأ في ذلك لا نزاع فيه، فحمل كلام الشارع عليه أولى من حمله على نفس الحكم، لأن في تخطئة المجتهد في نفس الحكم خلافا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 الْأَسْبَابِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ يَقَعُ فِيهَا، وَحَمْلُ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَوْلَى. هَذَا مَا نُقِلَ عَنْهُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ جَارِيَةٌ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ عَلَى [تصويب] 1 مَذْهَبِ التَّصْوِيبِ إِضَافِيَّةٌ2، إِذْ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ تَابِعٌ لِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمَصَالِحُ تَابِعَةٌ3 لِلْحُكْمِ أَوْ مَتْبُوعَةٌ4 لَهُ فَتَكُونُ الْمَصَالِحُ أَوِ الْمَفَاسِدُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ثَابِتَةً بِحَسَبِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَفِي ظَنِّهِ5، وَلَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ الْمُخَطِّئَةِ وَالْمُصَوِّبَةِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ جَائِزٌ، فَجِهَةُ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَهُ هِيَ الرَّاجِحَةُ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي ظَنِّهِ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُ خَارِجَةٌ عَنْ حُكْمِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ، فَالْمُقْدِمُ عَلَى التَّفَاضُلِ فِيهَا مُقْدِمٌ عَلَى مَا هُو جَائِزٌ، وَمَا هُوَ جَائِزٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَجْلِهَا أُجِيزَ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرِّبَا فِيهَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَهِيَ عِنْدُهُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ حُكْمِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ، وُجْهَةُ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْمَرْجُوحَةُ لَا الرَّاجِحَةُ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ   1 زيادة من الأصل و"ط". 2 هذا الوجه صرح به الإمام الغزالي وهو ناصر مذهب المصوبة في "كتاب المستصفى". "خ". "3، 4" أي: على ما تقدم من مذهب الأشاعرة، ومذهب المعتزلة، إذ تفهم من الحكم على الأول، ويفهم الحكم منها على الثاني. "د". 5 أي: فهي إضافية أيضا، فيتأتى تعدد المصلحة الراجحة بالإضافة، فلا فرق بين مصوب ومخطئ حينئذ "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 على ما ظنه، فالضرر1 لَاحِقٌ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَحُكْمُ المصوب ههنا حُكْمُ الْمُخَطِّئِ وَإِنَّمَا يَكُونُ2 التَّنَاقُضُ وَاقِعًا إِذَا عُدَّ الرَّاجِحُ مَرْجُوحًا مِنْ نَاظِرٍ وَاحِدٍ، بَلْ هُوَ مِنْ نَاظِرَيْنِ، ظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعِلَّةَ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْحُكْمَ مَوْجُودَةً فِي الْمَحَلِّ بِحَسَبِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ3، لَا مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا فِي مسائل الإجماع4، فههنا اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا بَعْدُ، فَالْمُخَطِّئَةُ حَكَمَتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هُوَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ، وَالْمُصَوِّبَةُ حكمت بناء على أن لاحكم فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ مَا ظَهَرَ الْآنَ، وَكِلَاهُمَا بانٍ حكمَه عَلَى عِلَّةٍ مَظْنُونٍ بِهَا أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَيَتَّفِقُ ههنا مَنْ يَقُولُ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ لُزُومًا أَوْ تُفَضُّلًا، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ5، أَوْ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ6، وَهَذَا مَجَالٌ يَحْتَمِلُ بَسْطًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مِنْ مَبَاحِثِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا ضرر"، وكتب "د": "كان المناسب أن يقول: ففيه ضرر لاحق به في الدنيا أو الآخرة". 2 هو روح الجواب عن قوله: "لأن القاعدة العقلية أن الراجح ... إلخ"، وقوله "من نظر واحد" أي: أو من ناظرين يعتبران الواقع ونفس الأمر في ذاته بقطع النظر عن الظن. "د". 3 توكيد لقوله: "ظن كل واحد .... إلخ"، وتمهيد لقوله: "لا ما هو عليه في نفسه"، أي: الذي لو كان لكان التناقض حاصلا. "د" وفي "ط": "وظنه لا على ما .... ". 4 أي: الإجماع القطعي السند لأن الجميع قاطع فيه بأن العلة كذا 1في نفس الأمر، أما الإجماع الظني السند؛ فالاتفاق فيه على أن العلة كذا في نفس الأمر من باب المصادفة فقط، وإلا، فالمعتبر فيه ظن كل واحد عنه نفسه أنها العلة، كمواضع الخلاف، ولكن اتفق اتحاد ظنهم ذلك. "د". "5، 6" هو الخلاف بين القدماء من المعتزلة وغير القدماء منهم في أن الحسن والقبح من ذات الفعل أو من صفة عارضة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 هَذَا، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الِاعْتِذَارِ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَارْتَفَعَ إِشْكَالُ الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَتَأَمَّلْ، فَإِنَّ الْجُوَيْنِيَّ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ اجْتِهَادًا وَحُكْمًا1، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ اجْتِمَاعِ قَاعِدَةِ التَّصْوِيبِ عِنْدَهُمْ مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الذَّوَاتِ2، فَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ مُشْكِلٌ عَلَى كُلِّ تقدير، والله أعلم   1 أي: فلا يلتزمون صرف الخطأ المشار إليه بحديث الحاكم إلى الأسباب، بل يقولون إن كل مجتهد بشرطه مصيب في اجتهاده ووسائله، وفي حكمه الذي استنبطه مع أنهم يقولون بالمصالح عقلا، فيجمعون بين القول بها والتصويب، لا في الاجتهاد فقط، بل وفي نفس الحكم "د". قلت: انظر: "البرهان" "2/ 1316- 1329". 2 أي: الحسن أو القبح جاء من ذات الفعل، كما يقوله قدماء المعتزلة، فإنهم يقولون: حسن الفعل وقبحه لذات الفعل لا لصفة توجبه، وقال بعضهم: بل لصفة توجبه لا لذات الفعل .... إلخ ما قرره في هذا الخلاف، فقوله: "وأن ذلك راجع إلى الذوات" ليس من محل الاتفاق بينهم, ولكنه اختاره لأن إشكال القرافي يكون عليه أوجَه مما إذا قالوا: لصفة توجبه لا لذات الفعل، لأنه حينئذ يمكن الانفكاك. "د". وقال "خ" "إذا كانت الوقائع منشأ للمصالح والمفاسد، وكانت الأحكام قائمة على رعايتها، فالواقعة الواحدة إنما يكون لها حكم واحد، وهو الذي يطابق ما تقتضيه مصلحتها أو مفسدتها، ومن أداه اجتهاده إلى هذا الحكم، فهو مصيب وغير مخطئ، فلا يظهر وجه استقامة القول بتصويب كل مجتهد مع القول بأن الأحكام تفصل على مقتضى المصالح والمفاسد في نفس الأمر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ معصومة، كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ، وَكَمَا كَانَتْ أُمَّتُهُ فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مَعْصُومَةً1.. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] وَقَوْلِهِ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هُودٍ: 1] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الْحَجِّ: 52] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْفَظُ آيَاتِهِ وَيُحْكِمُهَا حَتَّى لَا يُخَالِطَهَا غَيْرُهَا وَلَا يُدَاخِلَهَا التَّغْيِيرُ وَلَا التَّبْدِيلُ، وَالسُّنَّةُ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ، فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَدَائِرَةٌ حَوْلَهُ، فَهِيَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ فِي مَعَانِيهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] . حَكَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي "طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ"2 لَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَقِيلَ لَهُ: لم   1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "27/ 447". 2 قال ابن الجرزي في "غاية النهاية" "1/ 505": "كتاب "طبقات القراء" في أربعة أسفار، عظيم في بابه، لعلي أظفر بجميعه"، وهذا الكتاب عزيز منذ القدم، كما أفاد المقري في "نفح الطيب" "4/ 474" ولم أظفر بأي نسخة خطية منه في المكتبات اليوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 جَازَ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ الْقَاضِي: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [الْمَائِدَةِ: 44] ، فَوَكَلَ الْحِفْظَ إِلَيْهِمْ، فَجَازَ التَّبْدِيلُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] ، فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلَيْهِمْ، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيِّ، فَذَكَرْتُ لَهُ الْحِكَايَةَ، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَلَامًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا1. وَأَيْضًا مَا جَاءَ مِنْ حَوَادِثِ الشُّهُبِ أَمَامَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لَمَّا كَانُوا يَزِيدُونَ فِيمَا سَمِعُوا مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، حَيْثُ كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مئة كِذْبَةٍ أَوْ أَكْثَرَ2، فَإِذَا كَانُوا قَدْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ فِي السَّمَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ اللُّسُنُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ   1 ذهب بعض أهل العلم كالرازي إلى أن تحريف أهل الكتاب للتوراة والإنجيل إنما هو بسوء تأويلهما وحمل نصوصهما على ما يطابق أهواءهم، وقد تتبع فريق من العلماء المحققين، كابن حزم، وابن تيمية، والشيخ رحمة الله الهندي جملة من نسخهما، وأفاضوا في بيان ما دخل عليها من تحريف اللفظ وتبديل العبارة، وتحريف الكلم بالتأويل الباطل قد دخل في تفسير القرآن كما مني به غيره من الكتب المتقدمة، ولكن الله وقاه من تحريف اللفظ، ولم تستطع أيدي الزنادقة أن تمسه بسوء. "خ". قلت: انظر نحو الحكاية المذكورة في: تفسير القرطبي" "10/ 5-6"، و"حاشية الجمل على الجلالين" "2/ 606". 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، 6/ 304/ رقم 2210"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام" باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1750/ رقم 2228" عن عائشة مرفوعا: "إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة كذبة من عند أنفسهم" لفظ البخاري. وفي "ط": "أو أكثر من مائة كذبة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 مَنْ مِثْلِهِ، وَهُوَ كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ1 الْحِفْظِ، وَالْحِفْظُ2 دَائِمٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تدلُّك عَلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ وَعِصْمَتِهَا عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ الْوُجُودِيُّ الْوَاقِعُ مِنْ زَمَنِ3 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآنَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وفَّر دَوَاعِيَ الْأُمَّةِ لِلذَّبِّ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ عَنْهَا بِحَسَبِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ. أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، فَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ حَفَظَةً بِحَيْثُ لَوْ زِيدَ فِيهِ حَرْفٌ وَاحِدٌ لَأَخْرَجَهُ آلَافٌ مِنَ الْأَطْفَالِ الْأَصَاغِرِ، فَضْلًا عَنِ الْقُرَّاءِ الْأَكَابِرِ4. وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ لِكُلِّ عِلْمٍ رِجَالًا حَفِظَهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ. فَكَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ يَذْهَبُونَ الْأَيَّامَ الْكَثِيرَةَ فِي حِفْظِ اللُّغَاتِ وَالتَّسْمِيَاتِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، حَتَّى قَرَّرُوا لُغَاتِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ -وَهُوَ الْبَابُ الْأَوَّلُ مِنْ أَبْوَابِ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ، إِذْ أَوْحَاهَا اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ. ثم قيض رجالا يبحثون يَبْحَثُونَ عَنْ تَصَارِيفِ هَذِهِ اللُّغَاتِ فِي النُّطْقِ فِيهَا5 رَفْعًا وَنَصْبًا، وَجَرًّا وَجَزْمًا، وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَإِبْدَالًا وَقَلْبًا، وَإِتْبَاعًا وَقَطْعًا، وَإِفْرَادًا وَجَمْعًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ تَصَارِيفِهَا فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ، وَاسْتَنْبَطُوا لِذَلِكَ قَوَاعِدَ ضَبَطُوا بِهَا قَوَانِينَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَسَهَّلَ اللَّهُ بذلك.   1 في الأصل: "جهة". 2 في خ: "أو الحفظ". 3 في الأصل و"ط": زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 في نسخة "ماء / ص135" زيادة: "وكذلك لو نقص لرده آلاف". 5 في نسخة "ماء/ ص 135": "بها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 الفهم عنه في كتابه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خِطَابِهِ. ثُمَّ قَيَّضَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ رِجَالًا يَبْحَثُونَ عن الصحيح مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَعَنْ1 أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ مِنَ النَّقَلَةِ، حَتَّى مَيَّزُوا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ، وَتَعَرَّفُوا التَّوَارِيخَ وَصِحَّةَ الدَّعَاوَى فِي الْأَخْذِ لِفُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الثَّابِتُ الْمَعْمُولُ بِهِ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ الْعَظِيمُ لِبَيَانِ السُّنَّةِ عَنِ الْبِدْعَةِ نَاسًا مِنْ عَبِيدِهِ بَحَثُوا عَنْ أَغْرَاضِ الشَّرِيعَةِ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَعَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ، وَدَاوَمَ2 عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَرَدُّوا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، حَتَّى تَمَيَّزَ أَتْبَاعُ الْحَقِّ عَنْ أَتْبَاعِ الْهَوَى. وَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ قُرَّاءً3 أَخَذُوا كِتَابَهُ تَلَقِّيًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَّمُوهُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ حِرْصًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ فِي تَأْلِيفِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، حَتَّى يَتَوَافَقَ الْجَمِيعُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقَعَ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ فيض اللَّهُ تَعَالَى نَاسًا يُنَاضِلُونَ عَنْ دِينِهِ، وَيَدْفَعُونَ الشُّبَهَ بِبَرَاهِينِهِ، فَنَظَرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتَعْمَلُوا الْأَفْكَارَ، وَأَذْهَبُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَاتَّخَذُوا الْخَلْوَةَ أَنِيسًا، وَفَازُوا بِرَبِّهِمْ جَلِيسًا، حَتَّى نَظَرُوا إِلَى عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَهُمُ الْعَارِفُونَ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْوَاقِفُونَ مَعَ أَدَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ عَارَضَ دِينَ الْإِسْلَامِ مُعَارِضٌ، أَوْ جَادَلَ فِيهِ خصم   1 في الأصل و"ط": "وعلى". 2 في الأصل و"ط": "ودام". 3 ليس تكرارا مع قوله: "قيض الله له حفظة .... إلخ"؛ لأن ذلك في الحفظ، وهذا في طريق وضعه في المصاحف، وضبط ترتيبه وكلماته، ووقوفه وفواصل آياته. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 مُنَاقِضٌ، غَبَّرُوا فِي وَجْهِ شُبُهَاتِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ1، فهُم جُنْدُ الْإِسْلَامِ وَحُمَاةُ الدِّينِ. وَبَعَثَ اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ سَادَةً فَهِمُوا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَنْبَطُوا أَحْكَامًا فَهِمُوا مَعَانِيَهَا مِنْ أَغْرَاضِ الشَّرِيعَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، تَارَةً مِنْ نَفْسِ الْقَوْلِ، وَتَارَةً مِنْ مَعْنَاهُ، وَتَارَةً مِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، حَتَّى نزَّلوا الْوَقَائِعَ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَسَهَّلُوا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ طَرِيقَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ فِي كُلِّ عِلْمٍ تَوَقَّفَ فَهْمُ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ أَوِ احْتِيجَ [فِي] 2 إِيضَاحِهَا إِلَيْهِ. وَهُوَ عَيْنُ الْحِفْظِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الأدلة المنقولة، [وبالله التوفيق] 3.   1يتعين على علماء الشريعة أن يكون لهم اطلاع واسع على ما يقوله المخالفون أو يكتبونه في حق الإسلام، حتى يقضوا على الشبه والأراجيف التي يلقونها كالعثرات في سبيل الدين، ويتصدوا لإماطتها بدلائل تلائم أذواق الناشئين بأسلوب بيانها وطرق منطقها، وكم من عقيدة ارتخت وفطرة كانت صافية فأغبرت وإنما أتاها البلاء من فساد طريقة التعليم وقلة مراعاة حال العصر وإخراج الحقائق في عبارات سائغة ونظام مألوف. "خ". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: كَمَا أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، فَلَا تَرْفَعُهَا آحَادُ الْجُزْئِيَّاتِ كَذَلِكَ نَقُولُ: إِذَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فِي آحَادِهَا1، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقُومُ بِهِ الْكُلِّيُّ وَذَلِكَ الْجُزْئِيَّاتُ، فَالْجُزْئِيَّاتُ مَقْصُودَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي إِقَامَةِ الْكُلِّيِّ أَنْ2 لَا يَتَخَلَّفَ الْكُلِّيُّ فَتَتَخَلَّفَ مَصْلَحَتُهُ الْمَقْصُودَةُ بِالتَّشْرِيعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: - مِنْهَا: وُرُودُ الْعَتَبِ عَلَى التَّارِكِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، كَتَرْكِ الصَّلَاةِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ، أَوِ الْجُمْعَةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْجِهَادِ، أَوْ مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ أَمْرٍ مَطْلُوبٍ أَوْ مَهْرُوبٍ عَنْهُ، كَانَ الْعَتَبُ وَعِيدًا أَوْ غَيْرَهُ، كَالْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَالتَّجْرِيحِ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. - وَمِنْهَا: أَنَّ عَامَّةَ التَّكَالِيفِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهَا دَائِرَةٌ على القواعد الثلاث، والأمر والنهي فيما قَدْ جَاءَ حَتْمًا، وَتَوَجَّهَ الْوَعِيدُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْهَا أَوْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ وَلَا مُحَاشَاةٍ، إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُسْقِطُ أَحْكَامَ الْوُجُوبِ أَوِ التَّحْرِيمِ، وَحِينَ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ دَاخِلَةٌ مَدْخَلَ الْكُلِّيَّاتِ فِي الطَّلَبِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. - وَمِنْهَا: أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً مَقْصُودَةً فِي إِقَامَةِ الْكُلِّيِّ، لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِالْكُلِّيِّ مِنْ أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ لَا يَصِحُّ الْقَصْدُ فِي التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ لِأَمْرٍ مَعْقُولٍ لَا يَحْصُلُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي ضِمْنِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَتَوَجُّهُ الْقَصْدِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفُ بِهِ تَوَجُّهٌ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ،   1 في "ط": "أحدها". 2 بدل من إقامة "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وَذَلِكَ مَمْنُوعُ الْوُقُوعِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَالْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ1. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكُلِّيِّ هُنَا أَنْ تَجْرِيَ أُمُورُ الْخَلْقِ عَلَى تَرْتِيبٍ وَنِظَامٍ وَاحِدٍ لَا تَفَاوُتَ فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات2 يَرْجِعُ إِلَى إِهْمَالِ الْقَصْدِ فِي الْكُلِّيِّ، فَإِنَّهُ مع الإهمال لا يرجي كُلِّيًّا بِالْقَصْدِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مَقْصُودًا، هَذَا خُلْفٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى حُصُولِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، فَانْحَتَمَ الْقَصْدُ إِلَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.   1 هذا وحده غير كاف في الدليل، لأنه محتاج إلى إثبات أن ذلك في جميع الجزئيات وسيأتي تكميله بقوله: "وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ .... إلخ"، إلا أنه يبقى الكلام في تأخير هذه المقدمة عن الدليل المشار إليه بقوله: وأيضا، فإن القصد .... إلخ"، فهل ذلك لأنه محتاج إليها في إكماله؟ كما أن هذا محتاج إليها، فإن كان كذلك، كان تأخرها لتعود إليهما معا تكملة لهما، وربما يساعد على أن هذا غرضه قوله في نهاية الدليل الثاني: "فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات"، فيكون مساويا لما فرعه على الدليل الذي نحن بصدده حيث قال: "فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات، يعني: ويكون كل من الدليلين محتاجا إلى هذه التكملة الأخيرة. ولكن الذي يظهر أن الدليل الأخير لا يحتاج إليها؛ لأن القصد بالكلي أن لا يكون تفاوت بين الخلق في الترتيب والنظام، فإذا أهمل القصد في بعض الجزئيات، اقتضى أن لا يجري كليا بالقصد، أي: فتخلف أي جزئي ينافي هذا القصد الكلي، وعليه يتم الدليل، ولا حاجة لقوله: "وليس البعض أولى .... إلخ". وإذا تم هذا، كان المناسب تقديم هذه المقدمة قبل قوله: "وأيضا"، ولو قال قائل: إنها مؤخرة عن موضعها بعمل النساخ لم يبعد. "د". 2 أي: في أي جزئي، هذا الذي يقتضيه روح الدليل بعد تقرير الدليل قبله، لأنه لا يناسب أن يقال: إنه يكفي النظر إلى الجزئيات مطلقا كلا أو بعضا، لأن هذا هو ما قبله من لزوم النظر إلى الجزئيات الخارجية التي يكون بها التكليف، وأيضا، فقد قال: "لا يجري كليا بالقصد إذا أهملت الجزئيات"، فتعين قصد جميع الجزئيات لا بعضها، فتنبه لتقف على وجه ما قلناه من أن الدليل الأخير تام بدون التكملة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُعَارِضُ الْقَاعِدَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا تَخَلُّفُ آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهَا لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَارِضِ الْمُعَارِضِ، فَلَا شَكَّ فِي انْحِتَامِ الْقَصْدِ إِلَى الْجُزْئِيِّ1، وَمَا تَقَدَّمَ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْعَارِضِ عَلَى الْكُلِّيِّ، حَتَّى إِنَّ تَخَلُّفَ الْجُزْئِيِّ هُنَالِكَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيِّهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ مَشْرُوعٌ- وَهَذَا كُلِّيٌّ مَقْطُوعٌ بِقَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرَعَ الْقِصَاصَ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ، فَقَتْلُ النَّفْسِ فِي الْقِصَاصِ مُحَافَظَةٌ عَلَيْهَا بِالْقَصْدِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَخَلُّفُ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيِّ الْمُحَافَظِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِتْلَافُ هَذِهِ النَّفْسِ لِعَارِضٍ عَرَضَ وَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ، فَإِهْمَالُ هَذَا الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيِّهِ [مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى جُزْئِيٍّ فِي كَلَيِّهِ أَيْضًا، وَهُوَ النَّفْسُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا، فَصَارَ عَيْنُ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيٍّ] 2 هُوَ عَيْنُ إِهْمَالِ الْجُزْئِيِّ3، لَكِنْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّيِّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا سائر ما يرد من هذا الباب.   1 أي: الذي بقي سالما من المعارض، أما ما تقدم، فهو في موضوع أنه يتخلف الجزئي عن الكلي لمعارض أخرجه من هذا الكلي وأدخله في كلي آخر، أو يكون عارضه اعتبار جزئي آخر لهذا الكلي ورجح عليه، وليس معناه أنه مع بقائه داخلا في هذا الكلي بدون معارضة يتخلف عنه ولا يأخذ حكمه من أمر أو نهي، فشتان ما بين الموضعين، ومثاله فيه إهمال لجزئي من قاعدة حفظ النفس لاعتبار جزئي آخر منها يعارضه اعتبار هذا المهمل، وإن كان في كل منهما أصل المحافظة على الكلي، لكنه أهمل أحدهما وهو المحافظة على الجاني بسبب جنايته. "د". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وفي "ط": "كليه هو عين .... ". 3 أي: إن اعتبار الجزئي وهو حفظ النفس المجني عليها إهمال للجزئي الآخر من هذا الكلي، وهو حفظ النفس الجانية، فأهمل هذا وأتلفت. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 فَعَلَى هَذَا تَخَلُّفُ آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عَارِضٍ، فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ لِعَارِضٍ، فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ الْكُلِّيِّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى كُلِّيٍّ آخَرَ1، فَالْأَوَّلُ يَكُونُ قَادِحًا تَخَلُّفُهُ فِي الْكُلِّيِّ، وَالثَّانِي لَا يَكُونُ تَخَلُّفُهُ قادحا.   1 أي: كلي آخر أشد رعاية من هذا الكلي، كقتل تارك الصلاة عمدا، لم يحافظ على هذا الجزئي من كلي حفظ النفس، رعاية لكلي آخر أقوى منه في الرعاية وهو حفظ الدين "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 النَّوْعُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْإِفْهَامِ وَيَتَضَمَّنُ مَسَائِلَ1 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ عَرَبِيَّةٌ، لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْأَلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ، وَهَذَا- وَإِنْ كَانَ مُبَيَّنًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ كَلِمَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ2، أَوْ فِيهِ أَلْفَاظٌ أَعْجَمِيَّةٌ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، فَوَقَعَ فِيهِ الْمُعَرَّبُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَصْلِ كَلَامِهَا-، فَإِنَّ هَذَا البحث   1 المسائل الخمس الأولى تحتوي على مبادئ قيمة وضرورية في فهم القرآن والسنة وتحصيل مقاصدها، وهي ليست من المقاصد، وإنما هي ضوابط لفهم مقاصد الشارع، وقد بحث المصنف المسألة الأولى في كتابه "الاعتصام" "2/ 293- 297"، وأفاد أنها من "الأدوات التي بها تفهم المقاصد". 2 وعلى رأسهم الإمام الشافعي في "الرسالة" "50"، وأبو عبيدة معمر بن المثنى في "مجاز القرآن" 1/ 17، 28"، والطبري في "تفسيره" "1/ 8"، وابن فارس في "الصاحبي" "60 - 62"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "4/ 1652- 1653"، وانظر: "البرهان في علوم القرآن". "1/ 249"، و"روضة الناظر" "1/ 184- 185"، و"المسودة" "174"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "32/ 255"، و"الإتقان" "1/ 136 وما بعدها"، و"الكتاب والسنة من مصادر الفقه الإسلامي" "ص 41- 43" لمحمد البنا، ط مطابع سجل العرب، ط الثالثة، سنة 1969م، و"من الدراسات القرآنية" لعبد العال سالم مكرم "ص 49- 64". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ هُنَا. وَإِنَّمَا الْبَحْثُ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَطَلَبُ فَهْمِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ خَاصَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2] . وَقَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 195] . وَقَالَ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] . وَقَالَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ1 عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ، لَا أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ وَلَا بِلِسَانِ الْعَجَمِ، فَمَنْ أَرَادَ تَفَهُّمَهُ، فَمِنْ جِهَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ يُفْهَمُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَطَلُّبِ فَهْمِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ جَاءَتْ فِيهِ أَلْفَاظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ، أَوْ لَمْ يَجِئْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِهِ، وَجَرَى فِي خِطَابِهَا، وَفَهِمَتْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا تَكَلَّمَتْ بِهِ صَارَ مِنْ كَلَامِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَدَعُهُ عَلَى لَفْظِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَجَمِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَخَارِجِ وَالصِّفَاتِ كَحُرُوفِ الْعَرَبِ، وَهَذَا يَقِلُّ وُجُودُهُ2، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مَنْسُوبًا إِلَى الْعَرَبِ، فَأَمَّا إِذَا3 لَمْ تَكُنْ حُرُوفُهُ كَحُرُوفِ الْعَرَبِ، أَوْ كان بعضها كذلك دون   1 في الأصل: "دل". 2 قالوا: إن لفظ "تنور" اتفقت فيه اللغة العربية مع اللغات الأعجمية لفظا ومعنى، وقالوا: إن لفظ "صابون" اشترك فيه مع العربية جملة من اللغات الأعجمية. "د". 3 في الأصل: "إن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 بَعْضٍ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تَرُدَّهَا حُرُوفِهَا، وَلَا تَقْبَلَهَا عَلَى مُطَابَقَةِ حُرُوفِ الْعَجَمِ أَصْلًا، وَمِنْ أَوْزَانِ الْكَلِمِ مَا تَتْرُكُهُ عَلَى حَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَجَمِ، وَمِنْهَا مَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالتَّغْيِيرِ كَمَا تَتَصَرَّفُ فِي كَلَامِهَا، وَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، صَارَتْ تِلْكَ الْكَلِمُ مَضْمُومَةً إِلَى كَلَامِهَا كَالْأَلْفَاظِ الْمُرْتَجَلَةِ وَالْأَوْزَانِ الْمُبْتَدَأَةِ لَهَا، هَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَا نِزَاعَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ. وَمَعَ ذَلِكَ، فَالْخِلَافُ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ1 فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ فِيهَا أَنْ تُوضَعَ مَسْأَلَةٌ كَلَامِيَّةٌ يَنْبَنِي عَلَيْهَا اعْتِقَادٌ، وَقَدْ كَفَى اللَّهُ مَؤُونَةَ الْبَحْثِ فِيهَا بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ. فَإِنْ2 قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا عُجْمَةَ فِيهِ، فَبِمَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى لسان معهود العرب فِي أَلْفَاظِهَا الْخَاصَّةِ وَأَسَالِيبِ مَعَانِيهَا، وَأَنَّهَا فِيمَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ مِنْ لِسَانِهَا تُخَاطِبُ بِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ فِي وَجْهٍ وَالْخَاصُّ فِي وَجْهٍ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَالظَّاهِرُ3 يُرَادُ بِهِ غَيْرُ الظَّاهِرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، [وَتَتَكَلُّمُ بِالْكَلَامِ يُنْبِئُ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ، أَوْ آخِرُهُ عَنْ أَوَّلِهِ] 4، وَتَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ يُعْرَفُ بِالْمَعْنَى كَمَا يُعْرَفُ بِالْإِشَارَةِ، وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِأَسْمَاءَ كَثِيرَةٍ، وَالْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ بِاسْمٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهَا لَا تَرْتَابُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ هِيَ وَلَا مَنْ تَعَلَّقَ بِعِلْمِ كلامها.   1 قال الآمدي: "اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية، فأثبته ابن عباس وعكرمة، ونفاه آخرون"، فالخلاف قديم، ومحله أسماء الأجناس لا الأعلام. "د". 2 في "ط": "فإذا". 3 في الأصل و"ط": "وظاهر". 4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْقُرْآنُ فِي مَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، فَكَمَا أَنَّ لِسَانَ بَعْضِ1 الْأَعَاجِمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ جِهَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ، كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ لِسَانُ الْعَرَبِ مِنْ جِهَةِ فَهْمِ لِسَانِ الْعَجَمِ، لِاخْتِلَافِ الْأَوْضَاعِ وَالْأَسَالِيبِ، وَالَّذِي نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الشَّافِعِيُّ الْإِمَامُ، فِي "رِسَالَتِهِ"2 الْمَوْضُوعَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُ لَمْ يَأْخُذْهَا هَذَا الْمَأْخَذَ، فَيَجِبُ التنبه لذلك، وبالله التوفيق.   1 كتب في هامش الأصل ما نصه: "لعل الصواب إسقاط لفظ بعض لأن "جميع" ألسنة العجم لا تفهم من جهة لسان العرب، والله أعلم". 2 "ص 50 وما بعدها" بتحقيق الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ نَظَرَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةً، دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ مُطْلَقَةٍ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُقَيَّدَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ خَادِمَةٍ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ التَّابِعَةُ1. فَالْجِهَةُ الْأُولَى: هِيَ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْأَلْسِنَةِ، وَإِلَيْهَا تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا تَخْتَصُّ بِأُمَّةٍ دُونَ أُخْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ فِي الْوُجُودِ فِعْلٌ لِزَيْدٍ مَثَلًا كَالْقِيَامِ، ثُمَّ أَرَادَ كُلُّ صَاحِبِ لِسَانٍ الْإِخْبَارَ عَنْ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ، تأتَّى لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَقْوَالِ الْأَوَّلِينَ -مِمَّنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ- وَحِكَايَةُ كَلَامِهِمْ، ويتأتَّى فِي لِسَانِ الْعَجَمِ حِكَايَةُ أَقْوَالِ الْعَرَبِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهَا، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ الَّتِي يَخْتَصُّ2 بِهَا لِسَانُ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْحِكَايَةِ وَذَلِكَ الْإِخْبَارُ، فَإِنَّ كُلَّ خَبَرٍ يَقْتَضِي فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أُمُورًا خَادِمَةً لِذَلِكَ الْإِخْبَارِ، بِحَسَبِ [الخبر والمخبر و] المخبر عَنْهُ وَالْمُخْبَرِ بِهِ، وَنَفْسِ الْإِخْبَارِ، فِي الْحَالِ وَالْمَسَاقِ، وَنَوْعِ الْأُسْلُوبِ: مِنَ الْإِيضَاحِ، وَالْإِخْفَاءِ، وَالْإِيجَازِ، وَالْإِطْنَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِخْبَارِ: "قَامَ زَيْدٌ" إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ عِنَايَةٌ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، بَلْ بِالْخَبَرِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ قُلْتَ: "زَيْدٌ قَامَ"، وَفِي جَوَابِ السُّؤَالِ أَوْ مَا هُوَ مُنَزَّلٌ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ: "إِنَّ زَيْدًا قَامَ"، وَفِي جَوَابِ المنكر   1 وتنتقل حيث انتقل المتبوع 2 في نسخة "ماء/ ص 137": "اختص". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 لِقِيَامِهِ: "وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا قَامَ"، وَفِي إِخْبَارِ مَنْ يَتَوَقَّعُ قِيَامَهُ أَوِ الْإِخْبَارَ بِقِيَامِهِ: "قَدْ قَامَ زَيْدٌ"، أَوْ: "زَيْدٌ قَدْ قَامَ"، وَفِي التَّنْكِيتِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ: "إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ". ثُمَّ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا بِحَسَبِ تَعْظِيمِهِ أَوْ تَحْقِيرِهِ -أَعْنِي: الْمُخْبَرَ عَنْهُ- وَبِحَسَبِ الْكِنَايَةِ عَنْهُ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَبِحَسَبِ مَا يُقْصَدُ فِي مَسَاقِ الْأَخْبَارِ، وَمَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى الْحَالِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَائِرٌ حَوْلَ الْإِخْبَارِ بِالْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ. فَمِثْلُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِهَا لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ، وَلَكِنَّهَا مِنْ مُكَمِّلَاتِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ، وَبِطُولِ الْبَاعِ فِي هَذَا النَّوْعِ يَحْسُنُ مَسَاقُ الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنْكَرٌ، وَبِهَذَا النَّوْعِ الثَّانِي اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَقَاصِيصِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي مَسَاقُ الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ السُّورِ عَلَى وَجْهٍ، وَفِي بعضها على وجه آخر، وفي ثالث عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهَكَذَا مَا تَقَرَّرَ1 فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ لَا بِحَسَبِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، إِلَّا إِذَا سَكَتَ عَنْ بَعْضِ التَّفَاصِيلِ فِي بَعْضٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِوَجْهٍ اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَالْوَقْتُ2، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] . فصل: وإذا ثبت هذ، فَلَا يُمْكِنُ مَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ أَنْ يُتَرْجِمَ كَلَامًا مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ بِكَلَامِ الْعَجَمِ عَلَى حَالٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُتَرْجِمَ القرآن3 وينقل إلى   1 في "ط": "تكرر". 2 انظر في هذا: رسالة محمد بن إسماعيل الصنعاني "الإيضاح والبيان في تحقيق عبارات قصص القرآن"، نشر مكتبة الإرشاد- صنعاء. 3 لا تتيسر ترجمة القرآن بالنظر إلى مستتبعات التراكيب "أعنى: المباني التي يرتفع بها شأن الكلام، كما أن من الآيات ما يحتمل معاني متعددة، والمترجم إنما يمكنه نقله إلى لغة أخرى بإحدى تلك المعاني، كما في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} ، فقد رأيت مترجم القرآن إلى اللسان الألماني سلك في ترجمة لفظ الإبل معنى السحاب الذي هو أحد الوجهين في تفسيرها. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 لِسَانٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ، إِلَّا مَعَ فَرْضِ اسْتِوَاءِ اللِّسَانَيْنِ فِي اعْتِبَارِهِ عَيْنًا، كَمَا إِذَا اسْتَوَى اللِّسَانَانِ فِي اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلِهِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ مَعَ لِسَانِ الْعَرَبِ، أَمْكَنَ أَنْ يُتَرْجَمَ أَحَدُهُمَا إلى آخر، وَإِثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا بِوَجْهٍ بَيِّنٌ عسيرٌ جِدًّا، وَرُبَّمَا أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنَ الْقُدَمَاءِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كافٍ وَلَا مغنٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَقَدْ نَفَى ابْنُ قُتَيْبَةَ1 إِمْكَانَ التَّرْجَمَةِ فِي الْقُرْآنِ -يَعْنِي: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي- فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَمِنْ جِهَتِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيلِ مَعَانِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَصَارَ هَذَا الِاتِّفَاقُ حُجَّةً فِي صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ2. فَصْلٌ: وَإِذَا اعْتَبُرِتِ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْأُولَى وُجِدَتْ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا، لِأَنَّهَا كَالتَّكْمِلَةِ لِلْعِبَارَةِ وَالْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ لِلْإِفْهَامِ، وَهَلْ تُعَدُّ مَعَهَا كَوَصْفٍ مِنَ   1 في كتابه: "تأويل مشكل القرآن" "ص 21" طبعة الشيخ أحمد صقر رحمه الله، وتبعه على هذا ابن فارس في كتابه "الصاحبي" "ص 16- 25"، وبحث فيه موضوع الترجمة بحث خبير، ورد فيه على الرواية المرجوحة لأبي حنيفة رد بصير، وإلى ابن فارس هذا كانت تضرب آباط الإبل، وعند جهينة الخبر اليقين، وانظر: "الكتاب والسنة" لمحمد البنا "ص 45 وما بعدها". 2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 542". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الْأَوْصَافِ الذَّاتِيَّةِ؟ أَوْ هِيَ كَوَصْفٍ1 غَيْرِ ذَاتِيٍّ؟ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَبَحْثٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ جُمْلَةٌ، إِلَّا أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا كافٍ، فَإِنَّهُ كَالْأَصْلِ لِسَائِرِ الْأَنْظَارِ الْمُتَفَرِّعَةِ، فَالسُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى، وَبِاللَّهِ التوفيق.   1 في نسخة "ماء/ ص 139": "وصف". وفي "ط": "أم هي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الْمُسَالَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ أُمِّيَّةٌ1؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَذَلِكَ، فَهُوَ أَجْرَى2 عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الْجُمُعَةِ: 2] . وَقَوْلِهِ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] .   1 أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك، والحكمة في ذلك: أولا: أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أميون على الفطرة كما سيشرحه المؤلف. ثانيا: فإنها لو لم تكن كذلك، لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا، ثم تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم، وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف، لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال، أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما يسره الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هو الواقع لمن تتبع الناظرين في كلام الله تعالى على مر العصور، يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخرة أقره على أنه ليست كل الأحكام التكليفية التي جاءت في الكتاب والسنة مبذولة ومكشوفة للجمهور، وإلا لما كان هناك خواص مجتهدون وغيرهم مقلدون حتى في عصر الصحابة، وكل ما يؤخذ من مثل حديث "نحن أمة أمية" ما ذكرناه على أن التكاليف لا تتوقف في امتثالها على وسائل علمية وعلوم كونية وهكذا. "د". قلت: "انظر تفصيلا قويا حول هذا في "السير" "14/ 191- 192" للذهبي، والمراجع المذكورة في تعليقنا على آخر هذه المسألة. 2 أي: فإن تنزيل الشريعة على مقتضى حال المنزل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وَفِي الْحَدِيثِ: "بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ" 1 لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِعُلُومِ الْأَقْدَمِينَ، وَالْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ الْأُمِّ لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَابًا وَلَا غَيْرَهُ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا2. وَفِي الْحَدِيثِ: "نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا" 3، وَقَدْ فَسَرَ مَعْنَى الْأُمِّيَّةِ فِي الْحَدِيثِ، أَيْ: لَيْسَ لَنَا عِلْمٌ بِالْحِسَابِ وَلَا الْكِتَابِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 48] . وَمَا أَشْبَهَ هَذَا4 مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الدالة على أن   1 سيأتي نحوه "ص 138". 2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 435 و25/ 167". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب"، 4/ 126/ رقم 1913"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/ 761 / رقم 1080 بعد 15" من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ: "إنا أمة ..... " بتقديم "نكتب" على "نحسب"، ومضى "1/ 56". 4 أخذ بظاهر حديث البخاري المروي في عمرة القضاء والكتابة إلى قريش وطائفة من العلماء، ففهموا أن الكتابة مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الحقيقة، وممن ذهب إلى هذا أبو الفتح النيسابوري وأبو ذر وأبو الوليد الباجي، وقد قام في وجه أبي الوليد فريق من علماء عصره كأبي بكر بن الصائغ وأبي محمد بن مفوز، ولكن علماء صقلية وافقوا أبا الوليد على هذه المقالة، والحق أن أبا الوليد لم يأت أمرا يقدح في المعجزة كما يدعي خصومه، إذ آية {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، إنما نفت عن النبي عليه السلام الكتابة قبل نزول القرآن، وبقي الحال فيما بعد مسكوتًا عنه، ولكن أبا الوليد تشبث بسندٍ واهٍ وهو مجرد إسناد الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ الحديث، وليس إسناد الأمر إلى الرئيس وقد فعله أحد أتباعه عن أمره بعزيز "خ". قلت: وفتوى الباجي مع أجوبة العلماء عليها منشورة بتحقيق أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مع دراسة ضافية له في المقدمة في بيان معاني النصوص الواردة في أمية الرسول صلى الله عليه وسلم بعنون "تحقيق المذهب"، وفيه "ص 243- 281" جواب ابن مفوز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ خُصُوصًا وَإِلَى مَنْ سِوَاهُمْ عُمُومًا، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى نِسْبَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مَنْ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا أُمِّيَّةً، أَيْ: مَنْسُوبَةً إِلَى الْأُمِّيِّينَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، لَزِمَ أَنْ تَكُونَ عَلَى غَيْرِ مَا عَهِدُوا، فَلَمْ تَكُنْ لِتَتَنَزَّلَ1 مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنْزِلَةً مَا تُعْهَدُ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِيهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ، وَالْعَرَبُ2 لَمْ تَعْهَدْ إِلَّا مَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأُمِّيَّةِ، فَالشَّرِيعَةُ إِذًا أُمِّيَّةٌ. وَالثَّالِثُ 3: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ لم يكن عندهم معجزا.   1 في النسخ المطبوعة: "لتنزل". 2 وأما غيرهم، فهو تابع، والتابع لا حكم له. 3 جعل هذا الثالث دليلا على أنه يجب أن تكون على ما عهدوا حتى تكون حجة عليهم، وقد كان كونها على ما عهدوا دليلا بنفسه على أنها أمية، وعليه، فليس الدليل الثاني إلا دعوى محتاجة إلى الدليل الثالث، ولا يصلح أن يكون دليلا بنفسه إلا أن يبقى الكلام في هذا الدليل الثالث فيقال: هل لو جاءت الشريعة على طريق يحتاج لعلوم كونية ووسائل فلسفية، ولكنها صيغت في القالب العربي المعجز لهم عن الإتيان بمثله، بحيث يفهمون معناه والغرض منه، وإن كانوا في تطبيقه وتعرف مبنى أحكامه محتاجين إلى تلك الوسائل، كما إذا بنى أوقات الصلوات الخمس على مواعيد تحتاج إلى الآلات والتقاويم الفلكية، ولم يكتف بالمشاهدات الحسية كما صنع في الزوال والغروب والشفق إلخ، أو بنى الصوم لا على رؤية الهلال بالبصر، بل وضع القاعدة على لزوم معرفة علم الميقات لمعرفة أول رمضان، لو كان الشارع بدل أن يبني الأحكام على الأمور الحسية التي تسع جميع الخلق بناها على أمور علمية كما صورنا، هل كان ذلك يمنع عن فهم القرآن وغرضه، ويكون الحال مثل ما إذا جاء بلغة أعجمية بالنسبة للعرب؟ الجواب بالنفي، غايته أنه يكون في تكاليفها مشاق على أكثر الخلق بإلزامهم بتعرف هذه الوسائل ليطبقوا أوامر الشريعة حسبما أرادت، أما أنهم يعجزون عن فهم الكتاب حتى لا يكون حجة، فليس بظاهر لأن حجيته عليهم جاءت من جملة أمور أهمها عندهم أنه كلام من جنس كلامهم في كل شيء إلا أنه بأسلوب أعجزهم عن الإتيان بمثله. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وَلَكَانُوا يَخْرُجُونَ عَنْ مُقْتَضَى التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا عَهِدْنَا، إِذْ لَيْسَ لَنَا عَهْدٌ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلَامَنَا مَعْرُوفٌ مَفْهُومٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَفْهُومٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، فَلَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] ، فَجَعَلَ الْحُجَّةَ1 عَلَى فَرْضِ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَعْجَمِيًّا، وَلَمَّا قَالُوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْلِ: 103] ، رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] ، لَكِنَّهُمْ أذغنوا لِظُهُورِ الْحُجَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ به وعهدم بِمِثْلِهِ، مَعَ الْعَجْزِ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ، وَأَدِلَّةُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ2. فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ لَهَا اعْتِنَاءٌ بِعُلُومٍ ذَكَرَهَا النَّاسُ3، وَكَانَ لِعُقَلَائِهِمِ اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فَصَحَّحَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَزَادَتْ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلَتْ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَبَيَّنَتْ مَنَافِعَ مَا يَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَضَارَّ مَا يَضُرُّ منه. فمن هذه العلوم: عِلْمُ النُّجُومِ: وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الِاهْتِدَاءِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهَا، وَتَعَرُّفِ مَنَازِلِ سَيْرِ النَّيِّرَيْنِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا   1 في "ط": "فجعل لهم الحجة". 2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 157". 3 تجد تفصيل هذه العلوم على وجه مستوعب في "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" لمحمود شكري الآلوسي، وهو مطبوع، وفي آخر المجلد الأول من "صبح الأعشى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الْمَعْنَى، وَهُوَ مَعْنًى مُقَرَّرٌ فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الْأَنْعَامِ: 97] وَقَوْلِهِ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النَّحْلِ: 16] . وَقَوْلِهِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 39- 40] . وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يُونُسَ: 5] . وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الآية [الإسراء: 12] . وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْكِ: 5] . وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [الْبَقَرَةِ: 189] . وَمَا أشبه ذلك1.   1 لو لم يكن لهم علم بسير النجوم بالمقدار الذي ينسبه لهم، فهذه الآيات يمكن فهمها لهم بعد لفت نظرهم إليها، إنها لا تحتاج إلا إلى التدبر في تطبيقها بطريق المشاهدة، على أن علم النجوم لم يكن لجمهورهم بل للبعض القليل الذي كان يستعمل غالبا دليلا للقوافي* في سير الليل ومع ذلك، فلم يتوقف الجمهور في فهمها، ومثله يقال في علوم الأنواء أن ذلك ليس لجمهورهم، بدليل ما رواه عن عمر وسؤاله للعباس، فإذا كان مثل عمر ليس عارفا، فما ذلك إلا لأن هذا يختص به جماعة منهم، كما هو الحال عندنا اليوم، الملاحون يعرفون كثيرا من هذه الأنواء وشأن الرياح، وهي أسباب عادية غير مطردة، ولا يعرفها الجمهور الذين عنايتهم بما يتسببون فيه لمعاشهم يعرفون=   * كذا في الأصل، ولعل صوابها: "للقوافل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وَمِنْهَا: عُلُومُ الْأَنْوَاءِ 1 وَأَوْقَاتُ نُزُولِ الْأَمْطَارِ، وَإِنْشَاءُ السَّحَابِ، وَهُبُوبُ الرِّيَاحِ الْمُثِيرَةِ لَهَا، فَبَيَّنَ الشَّرْعُ حَقَّهَا مِنْ بَاطِلِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} الآية [الرعد: 12-13] . وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 68-69] . وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النَّبَأِ: 14] . وَقَالَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الْوَاقِعَةِ: 82] خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الْوَاقِعَةِ: 82] ، قَالَ: "شُكْرُكُمْ، تَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَبِنَجْمِ كَذَا   = منه ما لا يعرفه فيه غيرهم، وقد قال في الآية الثانية: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُون} ، ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُون} ، فهل كان للعرب من علوم الزراعة وتكوين المني وخلق الإنسان ما تفهم فيه مثل هذا ومثل: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} ، ومثل أدوار الجنين: {نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} إلخ، ومثل قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه} ، فإن معرفة أن تسوية الأصابع على ما هي عليه يعد من أدق تكوين الإنسان وكمال صنعته، حيث امتازت تقاسيم الجلد الكاسي لها، فلا يوجد تشابه بين شخص وآخر في هذه التقاسيم، حتى نبه الله سبحانه إليها وقال: {بَلَى} ، أي: نجمعها قادرين على جمعها وتسويتها على أدق ما يكون كما في تسوية البنان، إن هذا لا يعرفه العرب ووجه إليهم الخطاب به، وقد فهم سره في هذا العصر، وانبنى عليه علم تشبيه الأشخاص "ببصمة الأصابع"، وجعلت له إدارة تسمى "تحقيق الشخصية"، الواقع أن هذه وغيرها مما لا يحصى أمور كونية عامة يفهمها كل من توجه إليه الخطاب بفهمها والاستدلال بها على الصانع الحكيم القادر. "د". 1 انظر في ذلك كتاب "الأنواء" لابن قتيبة، و"أحكام القرآن" "3/ 1149-1150" لابن العربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وَكَذَا" 1. وَفِي الْحَدِيثِ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وكافر [بي] " 2 الحديث في الأنواء.   1 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/ 84/ رقم 73"، وأبو عوانة في "مسنده" "1/ 27"،والبيهقي في "الكبرى" "3/ 358" من حديث ابن عباس، قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليم وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر"، قالوا هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا": قال: نزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم} ، حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} . وأخرج اللفظ الذي أورده المصنف الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 401-402/ رقم 3295"، وأحمد في "المسند" "1/ 108"، وابنه عبد الله في "زياداته عليه" "1/ 131" والبزار في "البحر الزخار" "2/ 208/ رقم 593"، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" "2/ 1068- 1069/ 775" من حديث علي مرفوعا، وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث إسرائيل، ورواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي نحوه، ولم يرفعه". قلت: رواية الوقف أشبه وأصح، وما كان ينبغي للمصنف عفا الله عنا وعنه إهمال تعليق الترمذي على الحديث، وانظر: "العلل" للدارقطني "رقم 487". وقد صح كما قال ابن حجر في "الفتح" "2/ 522"، أن ابن عباس أيضا قرأ الآية: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} . علق عنه ذلك البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستسقاء، باب 28" ووصله بإسناد صحيح ابن جرير في "التفسير" "27/ 208"، وسعيد بن منصور، ومن طريقه ابن حجر في "التغليق" 2/ 397"، وابن مردويه في "التفسير المسند" كما في "الفتح" "2/ 522"، "وعمدة القاري" "6/ 45". 2 سيأتي تخريجه "ص 445" ومضى "1/ 321"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما، وما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَفِي "الْمُوَطَّأِ" مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ: "إِذَا أَنْشَأَتْ بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة"1.   1 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 192" بلاغا، والحديث ضعيف. قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "7/ 161": "وهذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير "الموطأ" ومن ذكره إنما ذكره عن مالك في "الموطأ"، إلا ما ذكره الشافعي [في "الأم" "1/ 255"] في كتاب الاستسقاء، [ومن طريقه البيهقي في "المعرفة" "5/ 200/ رقم 7281- ط قلعجي"] عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنشأت بحرية ثم استحالت شامية، فهو أمطر لها" وابن أبي يحيى مطعون عليه متروك، وإسحاق ابن عبد الله هو ابن أبي فروة ضعيف أيضا متروك الحديث". ثم قال: "وهذا الحديث لا يحتج به أحد من أهل العلم بالحديث؛ لأنه ليس له إسناد". وقال: "وقال الشافعي في حديثه هذا: "بحرية" بالنصب، كأنه يقول: "إذا ظهرت السحاب بحرية من ناحية البحر، ومعنى نشأت: ظهرت وارتفعت" وقال: "وناحية البحر بالمدينة الغرب"، ثم تشاءمت، أي: أخذت نحو الشام، والشام من المدينة في ناحية الشمال، يقول: إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى الشمال -وهو عندنا البحرية- ولا تميل كذلك إلا بالريح النكباء التي بين الغرب والجنوب هي القبلة، فإنها يكون ماؤها غدقا، يعني: غزيرًا معينًا؛ لأن الجنوب تسوقها وتستدرها، وهذا معروف عند العرب وغيرهم". ونحوه في "التمهيد" "24/ 377" أيضا، واستدرك ابن الصلاح في "رسالته في وصل بلاغات مالك الأربعة في الموطأ" "ص 11-13" على ابن عبد البر، فوصله من طريق ابن أبي الدنيا في كتابه "المطر" عن الواقدي، قال: "وفيه استدراك على الحافظين حمزة بن محمد وابن عبد البر، وليس إسناده بذاك". قلت: وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 4/ 1247-1248/ رقم 722"، والطبراني في "الأوسط" "8/ 370-371/ رقم 7753" من طريق الواقدي عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة عن عوف بن الحارث عن عائشة به مرفوعا نحوه، قال الطبراني: "تفرد به الواقدي". قلت: وهو متروك، وعوف مقبول، وابن أبي فروة فيه كلام، فالحديث ضعيف جدا وانظر: "المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" "ص 282-283" لابن قتيبة، و"الأنواء" له ص 170"، و"كنز العمال" "7/ 838"، و"الهيئة السنية" "ق10/ أ" للسيوطي، والفائق" "3/ 56"، و"النهاية" "2/ 437 و3/ 346" و"غريب الحديث" "2/ 147" لابن الجوزي، و"توجيه النظر" "1/ 408 و2 / 913- 928". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالنَّاسُ تَحْتَهُ: "كَمْ بَقِيَ مِنْ نَوْءِ الثريا؟ فقال به الْعَبَّاسُ: بَقِيَ مِنْ نَوْئِهَا كَذَا وَكَذَا"1. فَمِثْلَ هَذَا مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ فِي أَمْرِ الْأَنْوَاءِ وَالْأَمْطَارِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه} الآية [الحجر: 22] . وَقَالَ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فَاطِرٍ: 9] . إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا. وَمِنْهَا: عِلْمُ التَّارِيخِ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ احْتَفَلَ2 فِي ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ بِهَا عِلْمٌ3، لَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا كانوا ينتحلون4.   وفي الأصل: "نشأت في". 1 أخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 208" بإسناد فيه مجهول، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس، فالإسناد ضعيف. وذكره ابن قتيبة في كتابه "الأنواء" "ص14" وابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1149" من غير سند. 2 أي: قام بالأمر فيه. 3 هذا يعضد ما قلناه، من أنه ليس بلازم أن يكون القرآن مجاريا لما عند العرب، فيصحح صحيحه، أو يزيد عليه، أو يبطل باطله، كل هذا تكلف لا داعي إليه في هذا المقام؛ لأن الرسول بعث بالكتاب؛ ليخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور بتعليم ما لم يعلموا، وتصحيح ما أخطأوا فيه، وتوجيه همتهم وعقولهم إلى ما فيه إصلاحهم بالعلم والعمل، سواء أكان لهذا كله أصل عند العرب أم لم يكن له أصل ولا رابطة مطلقا بين كون الشريعة أمية وكون كل ما جاءت به منطبقا على ما عند العرب، وإعجاز العرب شيء آخر لا يتوقف على ما قال، فتأمل، فالمقام جدير بالتدبر؛ لأنه إذا كان يكتفي بجنس ما كانوا يعرفون وإن لم يكن هو ولا نوعه، فما الذي يبقى حتى نحترز عنه، ولا يبعد أن يكون لبعضهم إلمام بهذه الأجناس والكائنات التي تتعلق بما ورد في الكتاب والسنة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم} الآية [آل عمران: 44] . وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هُودٍ: 49] . وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةُ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ1 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى. وَمِنْهَا: مَا كَانَ أَكْثَرُهُ بَاطِلًا أَوْ جَمِيعُهُ كَعِلْمِ الْعِيَافَةِ، وَالزَّجْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَخَطِّ الرَّمْلِ، وَالضَّرْبِ بِالْحَصَى، وَالطِّيَرَةِ2، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل.   1 أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه/ رقم 2368، وكتاب الأنبياء، باب "يزفون"، النسلان في المشي/ رقم 3362 و3363 و3364 و3365"، وأحمد في "المسند" "1/ 347، 360"، وابنه عبد الملك في "زوائد المسند" "5/ 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 105/ رقم 9107"، والنسائي في "فضائل الصحابة" رقم 271، 272، 273، 274"، والأزرقي في "أخبار مكة" "1/ 59-60" وغيرهم. وقد جمعت قسما من الأحاديث الصحيحة في الأخبار التى قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن قبلنا في كتاب بعنوان "من قصص الماضين"، وذكرت فيه القصة التي أشار إليها المصنف "ص 89-104"، فانظرها فيه. 2 فائدة في معاني الألفاظ المذكورة: - العيافة: زجر الطير، وهو أن يرى طائرا أو غرابا فيتطير، وإن لم ير شيئا، وإن قال بالحدس= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وَنَهَتْ عَنْهُ كَالْكِهَانَةِ وَالزَّجْرِ، وَخَطِّ الرَّمْلِ، وَأَقَرَّتِ الْفَأْلَ لَا مِنْ جِهَةِ تَطَلُّبِ الْغَيْبِ، فَإِنَّ الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرُّصٌ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجهةٍ مِنْ تعرُّف عِلْمِ الْغَيْبِ مِمَّا هُوَ حَقٌّ مَحْضٌ، وَهُوَ الْوَحْيُ وَالْإِلْهَامُ، وَأُبْقِيَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ1، وَأُنْمُوذَجٌ2 مِنْ غَيْرِهِ لِبَعْضِ الخاصة وهو الإلهام3 والفراسة.   = أي: بالظن والتخمين- كان عيافة أيضا. - الزجر: أن تزجر طائرا أو ظبيا سانحا أو بارحا، فتطير منه، وهو ضرب من التكهن، تقول: زجرت أنه يكون كذا وكذا. - الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار. -خط الرمل: يقال له علم الخط وعلم الرمل، ويقال له: "الطَرْق" -بفتح فسكون آخره قاف-، وهو علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسألة حين السؤال، وأكثر مسائله تخمينية مبنية على التجاريب، وذلك لأنهم يقولون: إن البروج الاثني عشر يقتضي كل منها حرفا معينا، وشكلا معينا من الأشكال المذكورة، فحين السؤال عن المطلوب يقتفي أوضاع البروج، وقوى الشكل المعين من الرمال، فتلك الأشكال بسبب مدلولاتها من البروج تدل على أحكام مخصوصة تناسب أوضاع البروج، راجع: "مفتاح السعادة" "1/ 336"، و"كشف الظنون"" 1/ 912-913". - الضرب بالحصى: هو ضرب من التكهن والخط في التراب، يأخذ الكاهن حصيات، فيضرب بها الأرض، وينظر فيها، فيخبر بالمغيبات. - الطِيَرَة- بكسر ففتح وبسكون الياء- هي ما يتشاءم به من الفأل الرديء 1 وسيأتي الحديث وتخريجه "ص419". 2 الأنموذج قال في "المصباح: "بضم الهمزة، ما يدل على صفة الشيء، وهو معرب، وفي لغة نموذج -بفتح النون والذال معجمة مفتوحة مطلقا-، قال الصغاني: "النموذج: مثال الشيء الذي يعمل عليه". "ماء / ص142". 3 كما حصل لعمر وغيره. قلت: ولا بد من التنبه إلى أن الإلهام لا يصح أن يكون دليلا كليًّا عامًّا تبنى عليه الأحكام، كما هو عند بعض أهل البدع، وانظر في ذلك: "القائد لتصحيح العقائد" "ص 37 وما بعدها"، و"مجموع الفتاوى" "5/ 491"، و"الجواب الصحيح" "2/ 92"، و"تفسير القرطبي" "4/ 21 و7/ 39 و11/ 40-41". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وَمِنْهَا: عِلْمُ الطِّبِّ فَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مِنْهُ شَيْءٌ لَا عَلَى مَا عِنْدَ الْأَوَائِلِ، بَلْ مَأْخُوذٌ مِنْ تَجَارِيبِ الْأُمِّيِّينَ، غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى عُلُومِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي يُقَرِّرُهَا الْأَقْدَمُونَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَسَاقِ جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ جَامِعٍ شافٍ1 قليلٍ يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى كَثِيرٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الْأَعْرَافِ: 31] . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ التَّعْرِيفُ بِبَعْضِ الْأَدْوِيَةِ لبعض الأدواء2، وأبطل من   1 قال ابن القيم في "زاد المعاد" [4/ 6-7] : "وأصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع في كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية الضرر، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] . فأباح التيمم للمريض حمية له كما أباحه للعادم، وقال في حفظ الصحة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظا لصحته لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة، وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم أن يحلق رأسه ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله، فذكر من كل جنس منها شيئا وصورة تنبيها بها على نعمته على عباده في أمثالها من حميتهم وحفظ صحتهم واستفراغ مواد أذاهم، رحمة لعباده ولطفا بهم ورأفة، وهو الرؤوف الرحيم". "د". قلت: والمنقول بتصرف كبير عن ابن القيم. 2 يشير المصنف في عبارته إلى عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، 10/ 139/ رقم 5684، وباب دواء المطعون، 10/ 168= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ذَلِكَ مَا هُوَ بَاطِلٌ، كَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ1، وَالرُّقَى الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا2. وَمِنْهَا: التَّفَنُّنُ فِي عِلْمِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَالْخَوْضُ فِي وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مُنْتَحَلَاتِهِمْ، فَجَاءَهُمْ بِمَا أَعْجَزَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .   = رقم 5716"،ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، 4/ 1736 - 1737/ رقم 2217" عن أبي سعيد الخدري، أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي يشتكي بطنه. فقال: "اسقه عسلا". ثم آتاه الثانية، فقال "اسقه عسلا" ثم أتاه الثالثة، فقال: "اسقه عسلا"، ثم أتاه، فقال، فعلت. فقال: "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا"، فسقاه، فبرأ. ويصلح للاستشهاد على ما ذكره المصنف كثيرا من أحاديث الطب في "صحيح البخاري"، ولا سيما "باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وباب الشفاء في ثلاث، وباب الدواء بألبان الإبل، وباب الدواء بأبوال الإبل، وباب الحبة السوداء، وباب التلبينة للمريض، وباب السعوط، وباب السعوط بالقسط الهندي والبحري"، وكذلك ما جاء في الحجامة، وغير حديث مما ورد تحت هذه الأبواب في "صحيح مسلم" "كتاب السلام"، ولا نتوسع في ذكر ذلك، والمذكور يكفي، والله الموفق. 1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، 3/ 1573/ رقم 1984" عن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يصنعها. فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء". 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، 4/ 1727/ رقم 2200" عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية. فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وَمِنْهَا: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ 1 [وَقَدْ قَالَ تَعَالَى] 2: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا [لِلنَّاس] 2 فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الرُّومِ: 58] إِلَّا ضَرْبًا وَاحِدًا، وَهُوَ الشِّعْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَفَاهُ وَبَرَّأَ الشَّرِيعَةَ مِنْهُ، قَالَ تعالى في حكايته عن الكفار: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصَّافَّاتِ: 36] ، أَيْ: لَمْ يَأْتِ بِشِعْرٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الآية [يس: 69] . وَبَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 224-226] . فَظَهَرَ أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ مَبْنِيًّا3 عَلَى أَصْلٍ، وَلَكِنَّهُ هَيَمَانٌ عَلَى غَيْرِ تَحْصِيلٍ، وَقَوْلٌ لَا يُصَدِّقُهُ فِعْلٌ، وَهَذَا مُضَادٌّ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ يُنَبِّهُكَ عَلَى4 مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُلُومِ الْعَرَبِ الْأُمِّيَّةِ. وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الِاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَنْضَافُ إِلَيْهَا، فَهُوَ أَوَّلُ مَا خُوطِبُوا بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، مِنْ حيث كان آنس لهم،   1 المثل عند البيانيين هو المركب الذي يفشو استعماله على سبيل الاستعارة، فإن فشا استعماله وكان من باب الحقيقة نحو: السعيد من اتعظ بغيره، أو التشبيه نحو: فلان كالخمر يُشتهى شربها ويُخشى صداعها، فهذا هو الذي يعبرون عنه بما يجري مجرى المثل، والذين صنفوا في الأمثال، كأبي عبيدة، والزمخشري، وابن قتيبة، والميداني، وابن الأنباري، وابن هلال أرادوا من المثل القول السائر مطلقا سواء كان استعارة أو تشبيها أو حقيقة. "خ". 2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل. 3 في "ط": "بمبني". 4 في الأصل: "فيما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وَأُجْرِيَ عَلَى مَا يُتَمَدَّحُ بِهِ عِنْدَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النَّحْلِ: 90] إِلَى آخِرِهَا1. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الْأَنْعَامِ: 151] إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْخِصَالِ. [وَقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه} ] 2 [الْأَعْرَافِ: 32] وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الْأَعْرَافِ: 33] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى. لَكِنْ أُدْرِجَ فِيهَا مَا هُوَ أَوْلَى مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، وَأَبْطَلَ لَهُمْ مَا كَانُوا يُعِدُّونَهُ كَرْمًا وَأَخْلَاقًا حَسَنَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي تَوَهَّمُوهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [الْمَائِدَةِ: 90] . ثُمَّ بَيَّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ خُصُوصًا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا فِي الْفَسَادِ أَعْظَمُ مِمَّا ظَنُّوهُ فِيهِمَا صَلَاحًا، لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ تُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَتَبْعَثُ الْبَخِيلَ عَلَى الْبَذْلِ، وَتُنَشِّطُ الْكُسَالَى، وَالْمَيْسِرُ كَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ مَحْمُودًا لِمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ مِنْ إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْعَطْفِ عَلَى المحتاجين، وقد قال تعالى:   1 بعدها في نسخة "ماء / ص 147": "فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك، إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية. 2 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا 1 إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: 219] . وَالشَّرِيعَةُ [كُلُّهَا] 2 إِنَّمَا هِيَ تَخَلُّقٌ بمكارمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" 3. إِلَّا أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مَأْلُوفًا وَقَرِيبًا مِنَ الْمَعْقُولِ الْمَقْبُولِ، كَانُوا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِهِ، ثُمَّ لَمَّا رَسَخُوا فِيهِ تَمَّمَ لَهُمْ مَا بَقِيَ، وَهُوَ: الضَّرْبُ الثَّانِي: وَكَانَ مِنْهُ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فأُخِّرَ، حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهِ تَحْرِيمُ الرِّبَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ الَّذِي كان معهودا4 عندهم على الجملة.   1 في "خ": "فيها". 2 ليست في الأصل. 3 مضى تخريجه "ص 41". 4 لو لم يكن للعرب عهد بالتعرف عن مكارم الأخلاق رأسا، ثم جاء الرسول ببيان الفضائل والرذائل من الأخلاق، لما وسعهم بعد التصديق بالرسالة إلا الأخذ بالمكارم، كما هو الحال فيما أخطئوا فيه من أصولها، كوأد البنات والربا، والخمر، والسلب والنهب، وغيرها من الرذائل التي تأصلت فيهم، ومع ذلك، فالإيمان بكتاب الله وسنة رسوله طهرتهم من هذه الأرجاس تطهيرا، فلا علاقة لأمية الشريعة بهذه المباحث، ولا توجد أمة من الأمم إلا وفيها شيء من المكارم وشيء من الرذائل، لا خصوصية لجاهلية العرب، بل هذا في كل جاهلية. "د". قلت: خلتان فضلت بهما العرب على سائر الناس: الأولى الصدق، والثانية الجود، فالصدق بناء العبادات، والجود بناء المعاملات، ويعبر عن الأصلين بالصلاة والزكاة ألا ترى كيف كانوا يمدحون بهاتين الصفتين؟ قال صخر أخو الخنساء يرثي أخا لها: وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا أفاده الفراهي في "القائد" "ص 183". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لِلْعَرَبِ أَحْكَامٌ1 عِنْدِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالُوا فِي الْقِرَاضِ، وَتَقْدِيرِ الدِّيَةِ وَضَرْبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْقَافَةِ2، وَالْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْحُكْمِ فِي الْخُنْثَى، وَتَوْرِيثِ الْوَلَدِ لِلذِّكْرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْقَسَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ. ثُمَّ نَقُولُ: لَمْ يُكْتَفَ بِذَلِكَ حَتَّى خُوطِبُوا3 بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ فِيمَا يَعْرِفُونَ مِنْ سَمَاءٍ، وَأَرْضٍ، وَجِبَالٍ، وَسَحَابٍ، وَنَبَاتٍ وَبِدَلَائِلِ الْآخِرَةِ وَالنُّبُوَّةِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْبَاقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرَائِعِ الأنْبياء شَيْءٌ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبِيهِمْ، خُوطِبُوا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَدُعُوا إِلَيْهَا، وَأَنَّ مَا جاء به محمد صلى الله عليهوسلم هِيَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الْحَجِّ: 78] . وَقَوْلِهِ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} الآية [آل عمران: 67] . غَيْرَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا جُمْلَةً مِنْهُمْ، وَزَادُوا، وَاخْتَلَفُوا، فَجَاءَ تَقْوِيمُهَا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُخْبِرُوا بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ لَدَيْهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأُخْبِرُوا عَنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَأَصْنَافِهِ بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي تَنَعُّمَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، لَكِنْ مُبَرَّأٌ مِنَ الْغَوَائِلِ والآفات التي تلازم التنعم4 الدُّنْيَوِيَّ، كَقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الْوَاقِعَةِ: 27-30] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وبَيَّنَ مَنْ مَأْكُولَاتِ الْجَنَّةِ وَمَشْرُوبَاتِهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ، كَالْمَاءِ،   1 لعلها بعض ميراثهم من أبيهم إبراهيم، كما يقول بعد. "د". 2 أي: تبع أثره. "قاموس". 3 خوطب الناس كلهم بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ فِيمَا يَعْرِفُونَ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ .... إلخ، فليس هذا خاصا بهم، وهو واضح "د". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "التنعيم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وَاللَّبَنِ، وَالْخَمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالنَّخِيلِ، وَالْأَعْنَابِ، وَسَائِرِ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ مَأْلُوفٌ دُونَ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَوَاكِهِ الْأَرْيَافِ وَبِلَادِ الْعَجَمِ، بَلْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْفَاكِهَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحْلِ: 125] فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حِكْمَةٌ، وَقَدْ كَانُوا عَارِفِينَ بِالْحِكْمَةِ، وَكَانَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ، فَأَتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ بِمَا عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ أَهْلُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ، كقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ1 وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُجَادِلْهُمْ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْجَدَلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْقُرْآنَ وَتَأَمَّلَ كَلَامَ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ2، وَجَدَ الْأَمْرَ سَوَاءً إِلَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ مِنَ الْخَوَاصِّ الْمَعْرُوفَةِ. وَسِرْ فِي جَمِيعِ مُلَابَسَاتِ الْعَرَبِ هَذَا السَّيْرَ، تَجِدِ الْأَمْرَ كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَضَحَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لَمْ تَخْرُجْ عما ألفته العرب3.   1 جاء خبر تذكيره في حديث طويل مشهور على الألسنة، وفي كتب التاريخ، وروي في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع منه كلاما لم يحفظه حتى رواه له بعض الصحابة عنه، وقال في آخره: "رحم الله قُسًّا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة" وله طرق ولم يثبت، كما قاله ابن القيم في "الفوائد الحديثية" "ص101/ 106"، وفصلنا علله في التعليق عليه، وانظر -غير مأمور: "حديث قُسِّ بن ساعدة الإيادي" لابن درستويه، وهو مطبوع. 2 الحكمة والوعظ والجدل يتوقف عليها إصابة الدعوة وإرشاد الخلق، ولو لم يكن عندهم قوة فيها ولا ولع بها؛ لأنها دعوة إلى هدم عقائد، وتصحيح معارف، وتمهيد طريق جديد للسير عليه في طريق عبادة الله وحده، وطريق معاملتهم بعضهم لبعض، فلا بد لها من اجتماع هذه القوى الثلاثة لوصول إلى الغاية من الرسالة، وعلى كل حال، فليس بلازم في كون الشريعة أمية أن تكون جاءت مسايرة لهم في شئونهم، بل معنى كونها أمية ما قدمناه في أول المسألة، وأما كون ما جاءت به كان عندهم منه شيء أو لم يكن، فهذا لا شأن له بهذا المبحث، ولا يتوقف عليه. "د". 3 انظر في معنى كون الأمة المحمدية أمة أمية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "16/ 190، 17/ 434- 436 و25 / 169- 172"، و"أحكام القرآن" "3/ 443" للجصاص، و"تفسير القرطبي" "7/ 298"، و"البحر المحيط" "4/ 403" لأبي حيان، و"روح البيان" "3/ 255"، والتحرير والتنوير" "9/ 133". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا تَقَرَّرَ مِنْ أُمِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِهَا وَهُمُ الْعَرَبُ، يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: - مِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجَاوَزُوا فِي الدَّعْوَى عَلَى الْقُرْآنِ الْحَدَّ، فَأَضَافُوا إِلَيْهِ كُلَّ عِلْمٍ يُذْكَرُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعِيَّاتِ، وَالتَّعَالِيمِ1، وَالْمَنْطِقِ، وَعِلْمِ الْحُرُوفِ2، وَجَمِيعِ مَا نَظَرَ فِيهِ النَّاظِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ وَأَشْبَاهِهَا، وَهَذَا إِذَا عَرَضْنَاهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَى هَذَا، فَإِنَّ3 السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِالْقُرْآنِ وَبِعُلُومِهِ وَمَا أُودِعَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمُدَّعَى، سِوَى مَا تَقَدَّمَ4، وَمَا ثَبَتَ5 فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ، وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَمَا يَلِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ خَوْضٌ وَنَظَرٌ، لَبَلَغَنَا مِنْهُ مَا يدلنا على أصل المسألة، إلا أن   1 أي: الرياضيات من الهندسة وغيرها. "د". 2 يعلم من هذا البحث [أن] تفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح، كقول بعضهم في قوله تعالى: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ، هذا خطاب للجوارج حال الدعاء، والمراد من الأخ القلب ومن الأب الجسم، ومثل هذا النوع لم ينقل عن السلف، وإنما هو وليد مذهب الباطنية الذين يوجسون في أنفسهم المكيدة للشريعة بسوء التأويل حتى تتعطل أحكامها وتنطمس أعلام حقائقها. "خ". 3 في نسخة "ماء / ص 142": " ..... لم يصح، وأيضًا، فإن السلف". 4 في المسألة قبلها. "د". 5 في نسخة ماء / ص 149": "بث". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ عِنْدَهُمْ1، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُقْصَدْ2 فِيهِ تَقْرِيرٌ لِشَيْءٍ مِمَّا زَعَمُوا، نَعَمْ، تَضَمَّنَ عُلُومًا هِيَ مِنْ جِنْسِ عُلُومِ الْعَرَبِ، أَوْ مَا يَنْبَنِي3 عَلَى مَعْهُودِهَا مِمَّا يَتَعَجَّبُ4 مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ، وَلَا تَبْلُغُهُ إِدْرَاكَاتُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ دُونَ الِاهْتِدَاءِ بِإِعْلَامِهِ وَالِاسْتِنَارَةِ بِنُورِهِ، أَمَا أَنَّ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ، فلا5.   1 في الأصل: "لهم". 2 كونه لم يقصد فيه تقرير شيء من هذه العلوم الكونية ظاهر؛ لأنه ليس بصدد ذلك، أما كونه لا يجيء في طريق دلائله على التوحيد ما ينبني عليه التوسع في إدراكها وإتقان معرفتها إذا لم يكن معروفا عند العرب، فهو محل نظر. "د". 3 كالجدل المأخوذ فيه مقدمات معهودة للعرب، بل ولغيرهم كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَات} ..... إلخ، فإنه لولا توجيه الأفكار إليه للاستدلال به والمحاجة، ما بلغته العقول الراجحة. "د". 4 في الأصل: "تعجب". 5 وهل كل ما تضمنه القرآن من أوصاف نعيم الجنة وعذاب النار من معهود العرب في الدنيا؟ وهل مثل الإسراء والمعراج من معهوداتهم؟ أما أصل الموضوع، فمسلم أنه لا يصح أن يتكلف في فهم كتاب الله بتحميله لما لا حاجة بالتشريع والهداية إليه من أنواع العلوم الكونية، ولكن قصره بطريق القطع على ما عند العرب في علمها ومألوفها، فهذا ما لا سبيل إليه، ولا حاجة له: "د". قلت: تلقى الباحثون والمطلعون كلام المصنف هذا بعناية فائقة، واستفادوا منه في موضوع "التفسير العلمي للقرآن"، وقد وقفوا عنده طويلا وناقشوه، وقلبوا النظر فيه بين مؤيد ومخالف، تجد تفصيل ذلك في "التحرير والتنوير" "1/ 44، 45"، لابن عاشور، و"القرآن العظيم، هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين" "ص260 وما بعدها" لمحمد صادق عرجون، و"التفسير، معالم حياته، منهجه اليوم" "ص19-27"، و"مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب" "ص287-296" كلاهما لأمين الخولي، وفيه تأييد وتدعيم لكلام الشاطبي هذا بأدلة كثيرة، ثم ظفرت بكلامه في كتابيه السابقين في مادة "تفسير" في "دائرة المعارف الإسلامية" "5/ 348-374" له أيضا، و"اتجاهات التفسير في العصر الراهن" "ص297-302" لعبد المجيد المحتسب. وانظر في التفسير العلمي أيضا: "مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه" "ص231-250" لعدنان زرزور، و"التفسير العلمي للقرآن في الميزان" لأحمد عمر أبو حجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وَرُبَّمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى دَعْوَاهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] . وَقَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِفَوَاتِحِ السُّوَرِ وَهِيَ مِمَّا لَمْ يُعْهَدْ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَبِمَا نُقِلَ عَنِ النَّاسِ فِيهَا، وَرُبَّمَا حُكِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَشْيَاءُ1. فَأَمَّا الْآيَاتُ، فَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ، أَوِ2 الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الْأَنْعَامِ: 38] اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَضَمُّنَهُ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا فَوَاتِحُ السُّوَرِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهَا بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ لِلْعَرَبِ بِهَا عَهْدًا، كَعَدَدِ الْجُمَّلِ الَّذِي تَعَرَّفُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حسبما ذَكَرَهُ أَصْحَابُ السِّيَرِ، أَوْ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا بِمَا لَا عَهْدَ بِهِ3، فَلَا يَكُونُ، وَلَمْ يدَّعِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ تقدم، فلا دليل فيها على ما   1 انظر: "الدر المنثور" "1/ 56-59"، وسيأتي قريبا تضعيف المصنف لما ورد عن علي في ذلك. 2 في الأصل: "و". 3 أي: من فهمها على أنها أسرار ورموز لحقائق أو أحداث حاصلة أو تحصل، من مثل ما يشير إليه الألوسي في مقدمة "التفسير". "د". قلت: وأورد الرازي في "تفسيره" "1/ 150-151"، والنيسابوري في "غرائبه" "1/ 119-120" نصين فيهما نحو ما ذكر المصنف، انظر مناقشتهما في "براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور" "ص117 وما بعدها"، وتجد تفسيرا لهذه الحروف بما لا عهد للسلف به في كتب الصوفية، مثل: "شمس المعارف الكبرى"، و"خزينة الأسرار الكبرى" "ص108 وما بعدها" وكذا في "رسائل إخوان الصفا" "4/ 191"، وكذا في الرسالة النيروزية" "ص92" لابن سينا، وابن أبي الأصبع في كتابه: "الخواطر السوانح في أسرار الفواتح" وهو مطبوع، وكذا في كتب المستشرقين، انظر ما نقله زكي مبارك عن أستاذه بلانشو في "النثر الفني في القرن الرابع" "1/ 40"، وانظر ما سيأتي "3/ 326" مع تعليقنا عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 ادَّعوا، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فِي هَذَا لَا يَثْبُتُ1؛ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْقُرْآنِ مَا لَا يَقْتَضِيهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْكَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ، وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ فِي الِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُضَافُ عِلْمُهُ إِلَى الْعَرَبِ خاصة2،   1 ولم يعرف عن أحد في هذه الأمة كُذِبَ عليه ما كذب على علي رضوان الله عليه، وأوضح الكذب وأبينه عليه ما زعموه في "الجفر" على نحو ما بيناه في المجموعة الأولى من كتابنا "كتب حذر منها العلماء"، والله الموفق. 2 لو قال: جمهور الناس لا خاصتهم لكان أحسن؛ لأن الخطاب به لكل من بلغه، فقد يفقه بعضه بغير ما يضاف إلى العرب كما ورد: "بلغوا عني ولو آية، قرب مبلغ أوعى من سامع". على أنه لم ينقل فيما سبق نسبة علم الحيوان المسمى بالتاريخ الطبيعي إلى العرب، ولم ينقل أحد أنهم اشتغلوا به، "وليكن على ذكر منك أنه إذا قال في هذا المقام: "العرب، فإنما يعني الذين كانوا في عهد الرسول عليه السلام"، فعلى رأي المؤلف لا يجوز لنا أن نتوصل إلى فهم مثل آيتي سورة النحل في تكوين اللبن والعسل وما فيهما من أعاجيب ربنا في صنعه، لا يجوز لنا أن نتوصل إلى ذلك من علم حياة النحل وحياة الحيوان ذي الدر، مع أنه لا يمكن أن تتم العظة والاعتبار الذي يشير إليه الكتاب في آخر كل آية منهما: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} ، {يَعْقِلُون} لا يتم ذلك على وجهه إلا بمعرفة تكوين العسل واللبن، في علم حياة النحل وغيره، وكذا لا يتم فهم: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} على وجهها إلا بعد معرفة ما يصلح من الأمراض أن يكون العسل دواء له، وما لا يصلح بل يكون ضارًّا، ويترتب عليه أن تكون اللام في الناس للجنس أو العموم، وهكذا، والواقع أن كتاب الله للناس كلهم يأخذ منه كل على قدر استعداده وحاجته، وإلا لاستوى العرب أنفسهم في الفهم للكتاب، والأمر ليس كذلك، ألا ترى إلى قول علي: "إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله" الحديث. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 فَبِهِ1 يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ مَا أُودِعَ مِنَ الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغيره مَا هُوَ أَدَاةٌ لَهُ، ضَلَّ عَنْ فَهْمِهِ، وتقوَّل عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مِنِ اتِّبَاعِ مَعْهُودِ الْأُمِّيِّينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَرَبِ فِي لِسَانِهِمْ عُرْفٌ مُسْتَمِرٌّ، فَلَا يَصِحُّ الْعُدُولُ عَنْهُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عُرْفٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْرَى فِي فَهْمِهَا عَلَى مَا لَا تَعْرِفُهُ2. وَهَذَا جارٍ فِي الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْهُودَ الْعَرَبِ أَنْ لَا تَرَى الْأَلْفَاظَ تَعَبُّدًا عِنْدَ مُحَافَظَتِهَا عَلَى الْمَعَانِي، وَإِنْ كَانَتْ تُرَاعِيهَا أَيْضًا، فَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهَا بِمُلْتَزَمٍ، بَلْ قَدْ تَبْنِي عَلَى أَحَدِهِمَا مَرَّةً، وَعَلَى الْآخَرِ أُخْرَى، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِحَّةِ كَلَامِهَا وَاسْتِقَامَتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا: خُرُوجُهَا3 فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهَا عَنْ أَحْكَامِ الْقَوَانِينِ الْمُطَّرِدَةِ وَالضَّوَابِطِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَجَرَيَانُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَنْثُورِهَا عَلَى طَرِيقِ مَنْظُومِهَا4، وإن   1 في الأصل: "فيه". 2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 168"، والاعتصام" "2/ 297"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 7- المقدمة"، و"الرسالة" "ص51، 52، 54، 55، 56، 57"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 15"، و"الإبانة" "ص54- جامعة الإمام". 3 أي: فيصح أن يجري ذلك في القرآن، ولكن بشرط أن لا يكون شاذًّا ونادرًا يخل بالفصاحة، فإن هذا -وإن كان جاريا في كلام العرب- لا يصح أن يقال به في الكتاب "د". 4 أي: في تجويز مخالفات للقياس المطرد، كصرف ما لا ينصرف، ومد المقصور وعكسيه، مع أنه أجيز في الشعر لضرورة الوزن ولا توجد ضرورة في النثر لمثله، فقوله: "وجريانها" عطف خاص على عام للبيان. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 لَمْ يَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ، وَتَرْكُهَا لِمَا هُوَ أَوْلَى فِي مَرَامِيهَا، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي كَلَامِهَا وَلَا ضَعِيفًا، بَلْ هُوَ كَثِيرٌ قَوِيٌّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِغْنَاءَ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ عَمَّا يرادفها أَوْ يُقَارِبُهَا، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَلَا اضْطِرَابًا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَالْكَافِي مِنْ ذَلِكَ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ1، كُلُّهَا شافٍ كافٍ2، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ السَّلَفِ الْعَارِفِينَ بِالْقُرْآنِ3 كَثِيرٌ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ أَهْلُ الْقِرَاءَاتِ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَهُمْ مِمَّا وَافَقَ الْمُصْحَفَ، وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ قَارِئُونَ لِلْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ شك ولا إشكال، وإن كان بين القرائتين مَا يَعُدُّهُ النَّاظِرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ اخْتِلَافًا فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِحَسَبِ مقصود الخطاب، كـ: {مَالِكِ} و "مَلِكِ" [الفاتحة: 4] . "د". {وَمَا يَخْدَعُون َ4 إِلَّا أَنْفُسَهُم} ، [البقرة: 9] .   1 ومن ذلك تبديل لفظ بآخر، كتبينوا وتثبتوا مثلا. "د". 2 حديث نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر، ووردت لفظة: "كلها شافٍ كافٍ" في حديث أبي بن كعب عند أحمد في "المسند" "5/ 124"، وابنه عبد الله في "زياداته" "5/ 124، 125"، وأبي داود "1477"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 670"، وابن جرير في مقدمة "التفسير" "1/ 15"، والضياء في "المختارة" "3/ رقم 1173، 1174، 1175، 1176"، وإسناده صحيح، وجمع طرقه الشيخ عبد الفتاح القاري في جزء مفرد وهو مطبوع. وللحديث لفظ آخر يأتي قريبا "ص138". 3 في "خ" زيادة: "على"، والصواب حذفها. 4 انظر ما تقدم: "1/ 537". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} ، "لَنُبَوِّينَّهُمْ1 [مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا] 2" [العنكبوت: 58] . إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا3 لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِحَسَبِ فَهْمِ مَا أُرِيدَ مِنَ الْخِطَابِ، وَهَذَا كَانَ عَادَةَ الْعَرَبِ. أَلَا تَرَى مَا حَكَى ابْنُ جِنِّي4 عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ5 أَيْضًا، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا الرُّمَّةِ يُنْشِدُ: وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ وَاسْتَعِنْ ... عَلَيْهَا الصَّبَا وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لها سترا6 فقلت: أنشدني: "من بائس"، فقال: "يابس" و"بائس" وَاحِدٌ. فَأَنْتَ تَرَى ذَا الرُّمَّةِ لَمْ يَعْبَأْ بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْبُؤْسِ وَالْيُبْسِ، لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْبَيْتِ قَائِمًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَصَوَابًا عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَحْوَلِ: "الْبُؤْسُ وَالْيُبْسُ وَاحِدٌ"، يَعْنِي: بِحَسَبِ قَصْدِ الكلام لا بحسب تفسير اللغة7.   1 بالثاء المثلثة على ما قرأها حمزة والكسائي كما في "السبعة" "502"، وكذا في الأصل و"ط". 2 في "خ": "لنبوينهم"، وما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 كما في قوله تعالى: {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ، بكسر اللام للتعليل أو بفتحها على أنها فارقة. "د". 4 في "الخصائص" "2/ 469- ط العراقية" 5 في "ط": "وحكاه غيره" 6 الشخت: الحطب الدقيق، ولم أر تعليقا على البيت في كتب الأدب، ويلوح أن الضمائر المؤنثة في البيت كناية عن النار يذكيها البدوي بالوقود ويستعين على إشعالها بالريح، ثم يجلس إليها للاصطلاء وتدفئة يديه وأطرافه من البرد. "د". قلت: والبيت في "ديوانه" "176"،وله رواية أخرى في "اللسان" "مادة فوت" 7 فمادة البؤس تدور على الشدة من الشجاعة وغيرها، ومادة اليبس تدور على الجفاف بعد الرطوبة ويلزمها الشدة ضد اللين، فهما متغايران متلازمان. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: أَنْشَدَنِي ابْنُ الأعرابي: وموضع زبن1 لَا أُرِيدُ مَبِيتَهُ ... كَأَنِّي بِهِ مِنْ شِدَّةِ الرَّوْعِ آنِسُ2 فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَيْسَ هَكَذَا أَنْشَدْتَنَا، [وَإِنَّمَا أَنْشَدْتَنَا] 3: "وَمَوْضِعُ ضِيقٍ" فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَصْحَبُنَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا ولا تعلم أن الزبن4 وَالضِّيقَ وَاحِدٌ؟! وَقَدْ جَاءَتْ أَشْعَارُهُمْ عَلَى رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِأَلْفَاظٍ مُتَبَايِنَةٍ، يُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَلْتَزِمُونَ5 لَفْظًا وَاحِدًا عَلَى الْخُصُوصِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ مُرَادِفُهُ أَوْ مُقَارَبُهُ عَيْبًا أَوْ ضَعْفًا، إِلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ لَا يَكُونُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مَعْهُودُهَا الْغَالِبُ مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا قَدْ تُهْمِلُ بَعْضَ أَحْكَامِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَبِرُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَمَا اسْتَقْبَحُوا الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا لَهُ لَفْظٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ لَفْظٌ، فَقُبِّحَ "قُمْتُ وَزِيدٌ" كَمَا قُبِّحَ "قَامَ وَزِيدٌ"، وَجَمَعُوا في الردف بين "عمود" و"يعود" مِنْ غَيْرِ اسْتِكْرَاهٍ، وَوَاوُ عَمُودٍ أَقْوَى فِي المد،   1 كذا في الأصل، وهو الصواب، وأورده هكذا ابن جني في "الخصائص" "2/ 469"، وابن منظور في "اللسان" "مادة ز ب ن، 13/ 195"، وقال: "ومقام زبن: إذا كان ضيقا لا يستطيع الإنسان أن يقوم عليه في ضيقه وزلقه"، وفي "المفضليات" "225": "ومنزل ضنك"، وتصحف في النسخ المطبوعة من "الموافقات" إلى "زير" بياء آخر الحروف وراء، ولذا كتب "د" في الهامش: "المعنى المناسب للضيق في الزير أنه الدن"!! انتهى. قلت: ومعنى البيت: قد أنست بهذا المنزل لما نزلت به من شدة ما بي من الروع، وإن كان ضيقا ليس بموضع نزول. 2 من قصيدة المرقش الأكبر في "المفضليات" "ص225". 3 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها، وأثبتناها من "الخصائص" "2/ 469" لابن جني. 4 سبق في هامش1 5 في "ط": "أنهم ما كانوا يلتزمون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وجمعوا بين "سعيد" و"عمود" مَعَ اخْتِلَافِهِمَا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَلْفَاظُ فِي قِيَاسِهَا النَّظَرِيِّ، لَكِنَّهَا تُهْمِلُهَا وَتُولِيهَا جَانِبَ الْإِعْرَاضِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِعَدَمِ تَعَمُّقِهَا فِي تَنْقِيحِ لِسَانِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَمْدُوحَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ مَا كَانَ بَعِيدًا عَنْ تَكَلُّفِ الِاصْطِنَاعِ، وَلِذَلِكَ إِذَا اشْتَغَلَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ بِالتَّنْقِيحِ اخْتُلِفَ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ، فَقَدْ كَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَعِيبُ الْحُطَيْئَةَ، وَاعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ1: "وَجَدْتُ شِعْرَهُ كُلَّهُ جَيِّدًا" فَدَلَّنِي عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُهُ، وَلَيْسَ هَكَذَا الشَّاعِرُ الْمَطْبُوعُ، إِنَّمَا الشَّاعِرُ الْمَطْبُوعُ الَّذِي يَرْمِي بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ2، جَيِّدِهِ عَلَى رَدِيئِهِ"،وَمَا قَالَهُ هُوَ الْبَابُ الْمُنْتَهَجُ، وَالطَّرِيقُ الْمَهَيْعُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَمِنْ زَاوَلَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَقَفَ مِنْ هَذَا عَلَى عِلْمٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ فِيهِمَا3 فَوْقَ مَا يَسَعُهُ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَلْيَكُنْ شَأْنُهُ الِاعْتِنَاءَ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ تَعْتَنِيَ الْعَرَبُ به، والوقوف عند ما حدته4.   1 قوله في "الأغاني" "2/ 43- 44" بنحوه. 2 أي: عواجله وحواضره. 3 هذه النتيجة ليست هي المنتظرة في هذين الوجهين الأخيرين، بل كان ينتظر أن يأتي من الكتاب أو الحديث بما فيه إهمال بعض أحكام اللفظ، أو ما رمي به الكلام على عواهنه جيده على غير جيده، ولعل ذلك لا يكون في الكتاب والسنة أصلا، وإذا كان هكذا كان المناسب حذف هذين الوجهين من المقام. "د". 4 في الأصل: "حدث"، وانظر في معنى ما ذكره المصنف: "مجاز القرآن" "1/ 8" لأبي عبيدة، و"الرسالة" "ص42" للشافعي، و"الصاحبي" "ص47-48" لابن فارس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 فَصْلٌ: - وَمِنْهَا1: أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي مَسْلَكِ الْأَفْهَامِ وَالْفَهْمِ مَا يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، فَلَا يُتَكَلَّفُ فِيهِ فَوْقَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْفَهْمِ وَتَأَتِّي التَّكْلِيفِ فِيهِ لَيْسُوا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ وَلَا مُتَقَارِبٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي الْأُمُورِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ مَصَالِحُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَتَعَمَّقُونَ فِي كَلَامِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ، إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا لَا يُخِلُّ بِمَقَاصِدِهِمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقْصِدُوا أَمْرًا خَاصًّا لِأُنَاسٍ خَاصَّةٍ، فَذَاكَ كَالْكِنَايَاتِ الْغَامِضَةِ، وَالرُّمُوزِ الْبَعِيدَةِ، الَّتِي تَخْفَى عَنِ الْجُمْهُورِ، وَلَا تَخْفَى عَمَّنْ قُصِدَ بِهَا، وَإِلَّا كَانَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ مَعْهُودِهَا. فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَنْزِلَ فَهْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مَعَانِيهِ مُشْتَرَكَةً لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحرف2، واشتركت فيه اللغات   1 أي: القواعد. 2 أحسن ما رأيته في بيانه ما ذكره النويري في "شرحه للطيبة" في مقدمات الكتاب، وليس فيما عده الإمالة والترقيق لا شيء من صفات الحروف، بل هي أنواع سبعة ترجع لحذف لفظ أو زيادة لفظ كـ "تجري تحتها الأنهار" و"من تحتها"، وإبدال لفظ بمرادفه، كـ"تبينوا وتثبتوا"، وتقديم لفظ وتأخيره، وإبدال حركة بأخرى بتغير المعنى بسببها، ولكنه يكون كل منها صحيحا ومرادان إلى آخر ما ذكره "د". وكتب "خ" هنا ما نصه: "حكى القرطبي عن ابن حبان أن الاختلاف في معنى الأحرف السبعة بلغ خمسة وثلاثين قولا، وأظهر هذه الأقوال أن يكون المراد منها وجوه تغاير الألفاظ مع الاتفاق أو التقارب في المعنى، ومن أصحاب هذا القول من يرى لفظ السبعة مستعملا في الكثرة، ومنهم من يجعل هذا العدد الخاص مقصودا، ويذكر في بيانه الإبدال واختلاف تصريف الأفعال، واختلاف وجوه الإعراب والتقديم والتأخير والنقص والزيادة، والاختلاف بمثل الإمالة والترقيق والإدغام، واختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع، ومن وجوه هذا التغاير ما ينشأ عن اختلاف اللغات، ومنها ما يكون في لغة وحده. "خ". وانظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 389" وما بعدها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 حَتَّى كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ تَفْهَمُهُ. وَأَيْضًا، فَمُقْتَضَاهُ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا النَّمَطِ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَيْسَ كَالْقَوِيِّ، وَلَا الصَّغِيرَ كَالْكَبِيرِ، وَلَا الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، بَلْ كُلٌّ لَهُ حَدٌّ ينتهي إليه في العبارة1 الْجَارِيَةِ، فَأَخَذُوا بِمَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِمْ: بِالْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَلْزَمَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَلَكَلَّفَهُمْ بِغَيْرِ قِيَامِ حُجَّةٍ، وَلَا إِتْيَانٍ بِبُرْهَانٍ، وَلَا وَعْظٍ وَلَا تَذْكِيرٍ، وَلَطَوَّقَهُمْ فَهْمَ مَا لَا يُفْهَمُ وَعِلْمَ مَا لَمْ يُعْلَمْ، فَلَا حِجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ حُجَّةَ الْمُلْكِ قَائِمَةٌ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَامِ: 149] . لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَهُمْ مِنْ حَيْثُ عَهِدُوا، وَكَلَّفَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَهُمُ الْقُدْرَةُ2 عَلَى مَا بِهِ كُلِّفُوا، وَغُذُّوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَقِيمُ بِهِ مُنْآدُهُمْ3، وَيَقْوَى بِهِ ضَعِيفُهُمْ، وَتَنْتَهِضُ بِهِ عَزَائِمُهُمْ: مِنَ الْوَعْدِ تَارَةً، وَالْوَعِيدِ أُخْرَى، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أُخْرَى، وَبَيَانِ مَجَارِي الْعَادَاتِ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَرِدُوا بِهَذَا الأمر دون الخلق الماضيين، بَلْ هُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا يَكُونُونَ مُشْتَرِكِينَ إِلَّا فِيمَا لَهُمْ مُنَّةٌ4 عَلَى تَحَمُّلِهِ، وَزَادَهُمْ تَخْفِيفًا دُونَ الْأَوَّلِينَ، وَأَجْرَى فَوْقَهُمْ فَضْلًا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.   1 كذا في الأصل و"ط"، وفي "ماء/ ص 153": "العبارات"، وفي باقي النسخ المطبوعة: "العادة". 2 في "ط": "قدرة" بالتنكير. 3 في الأصل: "متادهم"، وقال في الحاشية: "هو جهة من الأود"، وفي "خ": "مناديهم"، وفسرها "د" في الهامش بقوله: "أي: معوجهم". 4 المنة: القوة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: "يَا جِبْرِيلُ! إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ ". قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" 1. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِجْرَاءُ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى وِزَانِ الِاشْتِرَاكِ الْجُمْهُورِيِّ الَّذِي يَسَعُ الْأُمِّيِّينَ كَمَا يَسَعُ غَيْرَهُمْ. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاعْتِنَاءُ بِالْمَعَانِي الْمَبْثُوثَةِ فِي الْخِطَابِ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا كَانَتْ عِنَايَتُهَا بِالْمَعَانِي، وَإِنَّمَا أَصْلَحَتِ الْأَلْفَاظَ مِنْ أَجْلِهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَاللَّفْظُ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا أَيْضًا كُلُّ الْمَعَانِي، فإن   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف، 5/ 194/ رقم 2944"، والطيالسي في "المسند" "رقم 543"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 518"، وأحمد في "المسند" "5/ 132"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" 3/ رقم 1168، 1169، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 14/ رقم 739- الإحسان، والشاشي في "مسنده" "3/ 362/ رقم 1480، 1481" من طرق عن عاصم عن زر عن أبي به. وإسناده حسن، عاصم صدوق له أوهامن حجة في القراءة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه أبي بن كعب"، وقال قبل ذلك: "وفي الباب عن عمر وحذيفة بين اليمان وأم أيوب وسمرة وابن عباس وأبي هريرة وأبي جهم بن الحارث بن الصمة وعمرو بن العاص وأبي بكرة". قلت: وأقرب ألفاظها للفظ المصنف حديث حذيفة عند أحمد في "المسند" "5/ 405-406". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 المعنى الإفرادي قد لا يُعْبَأُ بِهِ، إِذَا كَانَ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيُّ مَفْهُومًا دُونَهُ، كَمَا لَمْ يَعْبَأْ ذُو الرُّمَّةِ "بِبَائِسٍ" وَلَا "يَابِسٍ" اتِّكَالًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ. وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا مَا فِي "جَامِعِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ المخرَّج عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قرأ: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] ، قَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا كُلِّفْنَا هَذَا. أَوْ قَالَ: مَا أُمِرْنَا بِهَذَا1. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] : مَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نُهِينَا عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ2. وَمِنَ الْمَشْهُورِ تَأْدِيبُهُ لِصَبِيغٍ3 حِينَ كَانَ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنِ {الْمُرْسَلاتِ} [الْمُرْسَلَاتِ: 1] ، وَ {الْعَاصِفَاتِ} [الْمُرْسَلَاتِ: 2] وَنَحْوِهِمَا. وَظَاهِرُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيَّ مَعْلُومٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى فَهْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، فَرَأَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ تكلُّفٌ، وَلِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ، نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَةِ: 177] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: فَلَوْ كَانَ فَهْمُ اللَّفْظِ الْإِفْرَادِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ التَّرْكِيبِيِّ، لَمْ يَكُنْ تَكُلُّفًا، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} [النَّحْلِ: 47] ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: التَّخَوُّفُ عِنْدَنَا التنقص، ثم أنشده:   1 مضى تخريجه "1/ 49"، وهو صحيح. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265". 3 مضى تخريجه "1/ 51"، وهو صحيح، وفي "خ": "ضبيع". قلت: وفي حاشية الأصل قال: "صبيغ، كأمير، آخره معجمة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ1 فَقَالَ عُمَرُ: "أَيُّهَا النَّاسُ! تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ"2، فَلَيْسَ بَيْنَ الْخِبْرَيْنِ تَعَارُضٌ لِأَنَّ هَذَا [قَدْ] 3 تَوَقَّفَ فَهْمُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فَاللَّازِمُ الِاعْتِنَاءُ بِفَهْمِ مَعْنَى الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي4 الْخِطَابُ ابْتِدَاءً، وَكَثِيرًا مَا يُغْفَلُ هَذَا النَّظَرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِ5 وَالسُّنَّةِ، فَتُلْتَمَسُ غَرَائِبُهُ وَمَعَانِيهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي6، فَتَسْتَبْهِمُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ، وَتَسْتَعْجِمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَقَاصِدَ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ فِي غَيْرِ مَعْمَلٍ، وَمَشْيُهُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَاللَّهُ الْوَاقِي بِرَحْمَتِهِ.   1 التامك: السنام، والقرد: الذي تجعد شعره فكان كأنه وقاية للسنام، والنبع: شجر للقسي والسهام، والسفن: كل ما ينحت به غيره. "د". في حاشية المخطوط ما نصه: "الرحل، بالحاء المهملة: ما يوضع على الدابة، والضمير في "منها" لناقة، وتامكا، على وزن فاعل: سنام الناقة، وقرد، بفتح القاف، وكسر الراء: لبد من السمن، وعود النبعة معروف، والسفن، بفتح السين والفاء: آلة القطع كالقدوم، يقول: إن الرحل قطع من ناقته سناما سمينا كما قطع القدوم شجرة النبع". 2 مضى تخريجه "1/ 58"، وهو ضعيف، وتقدم بيان ما في الشعر من الغريب بتفصيل، ولله الحمد. 3 ليست في الأصل ولا في "ماء". 4 في الأصل: "بني". 5 في الأصل: و"ط": "إلى الكتاب",. 6 ومن أطرف ما يحكى ما عزاه النعيمي في "الدارس في تاريخ المدارس" "1/ 25" إلى النووي بقوله: "وبقيت أكثر من شهرين أو أقل، لما قرأت في "التنبيه": يجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج"، أعتقد أن ذلك قرقرة البطن، فكنت أستحم بالماء البارد كلما قرقر بطني". ونقلها أيضا الذهبي في "تاريخ الإسلام" "ق 574- نسخة رامبور" والسخاوي في ترجمة الإمام النووي" "ص5، 6"، والسيوطي في "المنهاج السوي" "ص32" وعقب عليها بعضهم بقوله: "والظاهر أن الحياء كان يمنعه السؤال عن ذلك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ التَّكَالِيفُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ مِمَّا يَسَعُ الْأُمِّيَّ تَعَقُّلُهَا، لِيَسَعَهُ الدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهَا. أَمَّا الِاعْتِقَادِيَّةُ -بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الْقُرْبِ لِلْفَهْمِ، وَالسُّهُولَةِ عَلَى الْعَقْلِ، بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجُمْهُورُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثَاقِبَ الْفَهْمِ أَوْ بَلِيدًا-، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ، لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ عَامَّةً، وَلَمْ تَكُنْ أُمِّيَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبُ عِلْمُهَا وَاعْتِقَادُهَا سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ1. وَأَيْضًا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لزمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُمْهُورِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ2، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَرِّفْ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا بِمَا يَسَعُ فَهْمُهُ، وَأَرْجَتْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَعَرَّفَتْهُ بِمُقْتَضَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَحَضَّتْ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَحَالَتْ3 فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 11] ، وَسَكَتَتْ عَنْ أَشْيَاءَ لَا تَهْتَدِي إِلَيْهَا العقول، نعم، لا ينكر   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 37". 2 انظر في ذلك: "البرهان" "1/ 105"، و"المستصفى" "1/ 56، 86-88، و"البحر المحيط" "1/ 220 و 388"، و"الإبهاج" "1/ 170"، و"سلاسل الذهب" "136"، و"روضة الناظر" "1/ 234- 235- ط الرشد"، و"المحصول" "1/ 2/ 363"، و"المسودة" "80"، و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"تيسير التحرير" "2/ 135"، و"إرشاد الفحول" 9، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "187- 205" ليعقوب الباحسين. 3 في "خ": "وإحالة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 تَفَاضُلُ الْإِدْرَاكَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَا1 يَكُونُ أَصْلًا لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُتَكَلِّفِينَ، كَمَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، بَلِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى قَالَ: "لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ " 2. وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَعَنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِي3 عَامًّا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَأَخْبَرَ مَالِكٌ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ4، وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَا كَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ لِفَهْمِهَا مما   1 في الأصل: "وما". 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 6/ 336 / رقم 3276"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، 1/ 119- 120م رقم 134" عن أبي هريرة مرفوعا: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله، ولينته". وأورده مسلم بألفاظ مقاربة أخرى، واللفظ الذي عند المصنف هو من حديث أنس مرفوعا، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، 13/ 265/ رقم 7296". 3 أما النهي عن كثرة السؤال، فقد ورد في غير حديث عند المصنف، منها حديث المغيرة المتقدم "1/ 48"، وأما النهي عن التكلف، فقد أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264- 265" بسنده إلى أنس، قال: "كنا عند عمر، فقال: نُهِينا عن التكلف"، ومن المقرر في علم المصطلح أن قول الصحابي: "نُهِينا"، و"أُمِرنا" له حكم المرفوع. 4 أسند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "309"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 938/ رقم 1786" بسند عن مالك، قال: "الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه .... ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 سُكِتَ عَنْهُ، أَوْ مِمَّا وَقَعَ نَادِرًا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ مُحَالًا بِهِ عَلَى آيَةِ التَّنْزِيهِ. وَعَلَى هَذَا، فَالتَّعَمُّقُ فِي الْبَحْثِ فِيهَا وَتَطَلُّبُ مَا لَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي فَهْمِهِ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ الْأُمِّيَّةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَمَحَتِ النَّفْسُ إِلَى طَلَبِ مَا لَا يُطْلَبُ مِنْهَا فَوَقَعَتْ فِي ظُلْمَةٍ لَا انْفِكَاكَ لَهَا مِنْهَا، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: وَلِلْعُقُولِ قُوًى تَسْتَنُّ1 دُونَ مَدًى ... إِنْ تَعْدُهَا2 ظَهَرَتْ فِيهَا اضْطِرَابَاتُ وَمِنْ طِمَاحِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ نَشَأَتِ الْفِرَقُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا. وَأَمَّا الْعَمَلِيَّاتُ، فَمِنْ مُرَاعَاةِ الْأُمِّيَّةِ فِيهَا أَنْ وَقَعَ تَكْلِيفُهُمْ بِالْجَلَائِلِ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّقْرِيبَاتِ3 فِي الْأُمُورِ، بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الْجُمْهُورُ كَمَا عَرَّفَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ، كَتَعْرِيفِهَا بِالظِّلَالِ، وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ، وَغُرُوبِهَا وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَ الْعِبَارَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، نَزَلَ4: {مِنَ الْفَجْرِ} . وَفِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" 5.   1 من استن الفرس قمص وهو أن ترفع يديها وتطرحهما معا وتعجن برجليهان وهو غاية الاعوجاج في سيرها، فلا تقطع به الطريق، وتؤذي راكبها. "د". 2 في الأصل: "تعده". 3 لعل الأصل "بالتقريبات"، أي فلم يكلفوا بما يقتضي الضبط التام للأوقات، بل بأمارات وعلامات تقريبية، مع أنها جعلت أمارات لجلائل الأعمال كالصلاة والصوم والحج. "د". 4 سيأتي تخريج ذلك "3/ 298". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم باب متى يحل فطر الصائم، 4/ 196 رقم 1954"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، 2/ 772/ رقم 1100"، والترمذي في "الجامع "أبواب الصوم، باب وقت انقضاء الصوم وخروج النهار/ رقم 698"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "8/ 34"-، وأحمد في "المسند" "1/ 28، 35، 48، 54"،والبيهقي في الكبرى "4/ 216، 237، 238" عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وَقَالَ: "نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا" 1. وَقَالَ: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ" 2. وَلَمْ يُطَالِبْنَا بِحِسَابِ مَسِيرِ الشَّمْسِ مَعَ الْقَمَرِ فِي الْمَنَازِلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْهُودِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ عُلُومِهَا3، وَلِدِقَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَصُعُوبَةِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ4، وَأَجْرَى لَنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ مُجْرَى الْيَقِينِ، وَعَذَرَ الْجَاهِلَ فَرَفَعَ   1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في الصحيحين" بلفظ: "إنا" بتقديم "نكتب" على "نحسب". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، 4/ 113/ رقم 1900، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" 4 / 119/ رقم 1906"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر رضي الله عنهما. 3 كيف يتفق هذا مع ما تقدم له في المسألة الثالثة؟ "د". 4 ذهب قوم منهم ابن شريح* إلى اعتبار منازل القمر والرجوع إلى المنجمين، وتأولوا على هذا الرأي قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا غم عليكم، فاقدروا له"، والمحقق أن المراد من قوله: "فاقدروا له" ما بينته رواية: "فإن غم عليكم، فاقدروا ثلاثين"، ورواية: "فأكملوا العدة ثلاثين"،ويؤيده من جهة النظر ما أومأ إليه المصنف من أن الصوم عبادة يتوجه الخطاب بها إلى المكلفين عامة، فلم يكن من اللائق تعليق الحكم فيها بما لا يعرفه إلا طائفة خاصة من الناس. "خ".   * كذا في الأصل، ولعل الصواب: "سريج". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 عَنْهُ الْإِثْمَ، وَعَفَا عَنِ الْخَطَأِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْجُمْهُورِ، فَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ عَمَّا حُدَّ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَا تَطَّلُّبُ مَا وَرَاءَ هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهَا مَظِنَّةُ الضَّلَالِ، وَمَزِلَّةُ الْأَقْدَامِ. فَإِنْ قِيلَ1: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ تَدْقِيقِ2 النَّظَرِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْكَامِ، وَمَظَانِّ الشُّبُهَاتِ، وَمَجَارِي الرِّيَاءِ وَالتَّصَنُّعِ لِلنَّاسِ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهْلِكَاتِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَى فَهْمِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَظَائِمَ وَهِيَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْجُمْهُورُ. وَأَيْضًا، لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ خَاصَّةً وَعَامَّةً، وَكَانَ لِلْخَاصَّةِ مِنَ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ عَرَبًا وَأُمَّةً أُمِّيَّةً، وَهَكَذَا سَائِرُ الْقُرُونِ إِلَى الْيَوْمِ، فَكَيْفَ3 هذَا؟ وَأَيْضًا، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ عَامَّةً، وَمَا يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ الْمُتَشَابِهَاتُ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِمَا يُوصَلُ إِلَى فَهْمِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، فَأَيْنَ الِاخْتِصَاصُ بِمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ خَاصَّةً؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْمُتَشَابِهَاتُ، فَإِنَّهَا مِنْ قَبِيلٍ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا إِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ إِلَهِيَّةٍ لَمْ يَفْتَحِ الشَّارِعُ لِفَهْمِهَا بَابًا غَيْرَ التَّسْلِيمِ والدخول تحت   1 السؤال وارد على كلامه في الاعتقاديات والعمليات بدليل قوله: "فإن الشريعة قد اشتملت .... إلخ". "د". 2 في الأصل: "وتدقيق". 3 في الأصل: "وكيف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 آيَةِ التَّنْزِيهِ، وَإِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوَاعِدَ شَرْعِيَّةٍ، فَتَتَعَارَضُ أَحْكَامُهَا1، وَهَذَا خَاصٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَامٍّ2 هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا يُجَابُ عَنْهَا بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أُمُورٌ إِضَافِيَّةٌ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهَا أَوَّلَ الْأَمْرِ لِلْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ تَعْرِضُ لِمَنْ تَمَرَّنَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَزَاوَلَ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ، وَامْتَازَ عَنِ الْجُمْهُورِ بِمَزِيدِ فَهْمٍ فِيهَا، حَتَّى زَايَلَ الْأُمِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ تَدْقِيقُهُ فِي الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَتَهُ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى مَا فَهِمَهُ نِسْبَةُ الْعَامِّيِّ إِلَى مَا فَهِمَهُ، وَالنِّسْبَةُ إِذَا كَانَتْ مَحْفُوظَةً، فَلَا يَبْقَى تَعَارُضٌ3 بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ، فَلَيْسَ مَنْ لَهُ مَزِيدٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ كَمَنْ لَا مَزِيدَ لَهُ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ جَارٍ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ. وَالِاخْتِصَاصَاتُ فِيهَا هِبَاتٌ مِنَ اللَّهِ لَا تُخْرِجُ أَهْلَهَا عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، بَلْ يَدْخُلُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِيهَا، وَيَمْتَازُونَ هُمْ بِزِيَادَاتٍ في ذلك الأمر المشترك.   1 أي أن المسألة تكون محتملة الدخول تحت قواعد شرعية مختلفة، فتتعارض أحكامها بحسب الظاهر، ويحصل الاشتباه. "د". وفي "ط": "تتعارض أحكامها". 2 في "خ": "هام". 3 كيف لا يعارض هذا ما قرره في نتيجة هذا الفصل من قوله آنفا: "وعلى هذا، فالتعمق في البحث في الشريعة وتطلب ما لا يشترك فيه الجمهور خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية"، وهنا يقول: "إنها أمور إضافية"، و"إن تدقيق الذي يتمرن على علم الشريعة في الأمور الجليلة، وإن نسبة ما فهمه إلى ما يفهمه العامي نسبة محفوظة"، ولا يقال: إن ما قرره كان خاصا بالاعتقاديات، لأنا نقول: الجواب أصله عام في المتشابهات الاعتقادية وغيرها، كما يعلم من النظر في الاعتراض، وعلى كل حال، فهو هنا يثبت أن للخاصة أن تفهم وتدقق في الشريعة بما لا يناسب الجمهور ولا يشتركون فيه، وهل هذا إلا عين التسليم بالإشكال على ما سبق؟ "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 بِعَيْنِهِ، فَإِنِ امْتَازُوا بِمَزِيدِ الْفَهْمِ لَمْ يُخْرِجْهُمْ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَزِيدَ أَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُشْتَرَكُ. كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الْوَرَعَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْجَلَائِلِ، كَالْوَرَعِ عَنِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ، وَالْمَكْرُوهِ الْبَيِّنِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنَ الْجَلَائِلِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُوَ مِنْهَا عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَصَارَ الَّذِينَ عَدُّوهُ مِنَ الْجَلَائِلِ دَاخِلِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْجُمْلَةِ وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع على بَعْضِ مَا لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِكَوْنِ الْمَوْضِعِ مُتَأَكَّدًا لِبَيَانِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَأَكَّدٍ لِدِقَّتِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْخَوَاصُّ عَنِ الْعَوَامِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْقَانُونِ، فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْجَمِيعَ جَارُونَ عَلَى حُكْمِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ1 مَفْهُومٍ لِلْجُمْهُورِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا فِيهِ التَّفَاوُتُ إِنَّمَا تَجِدُهُ2 فِي الْغَالِبِ فِي الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَمْ يُوضَعْ لَهَا حَدٌّ يُوقَفُ عِنْدَهُ، بَلْ وُكِلَتْ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ فِيهَا مَطْلُوبًا بِإِدْرَاكِهِ، فَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا قَرِيبًا فَهُوَ3 الْمَطْلُوبُ مِنْهُ، وَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا هُوَ4 فَوْقَ الأول، فهو المطلوب منه، وربما تفاوت   1 وهل هذه هي الدعوى التي يشتغل في هذه الفصول بإثباتها، وهي أن الشريعة أمية، وأنه لا يصح أن تفهم إلا بالوجه الذي يعهده الأميون والجمهور، أما كون الأمر المشترك في التكليف هو ما يفهمه الجمهور وما يقدر على أدائه الجمهور، فلا مرية فيه، إنما الكلام فيما أطال فيه النفس في هذه الفصول من الحجر على الخواص أن يفهموا الكتاب إلا بمقدار الأميين والجمهور، وبنى على هذه النتائج. "د". 2 على كل حال هو موجود، سواء أكان في هذا النوع فقط أم على الإطلاق، فلا ينحسم الإشكال. "د". 3 في الأصل: "هو". 4 في الأصل: "فهو". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الْأَمْرُ فِيهَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الدَّوَامِ فِيمَا1 دَخَلَ فِيهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا، بَلْ بِمَا هُوَ دُونَهَا، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَطْلُوبًا، وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يُعْتَبَرُ مَا جَاءَ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وُضِعَتِ الْعَمَلِيَّاتُ عَلَى وَجْهٍ لَا تُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَشَقَّةٍ يَمَلُّ2 بِسَبَبِهَا، أَوْ إِلَى تَعْطِيلِ عَادَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صَلَاحُ دُنْيَاهُ، وَيَتَوَسَّعُ بِسَبَبِهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يُزَاوِلْ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ3 الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْعَقْلِيَّةِ- وَرُبَّمَا اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ عَمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ مُعْتَادِهِ4- بِخِلَافِ مَنْ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عَهْدٌ، وَمِنْ هُنَا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَرَدَتِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا5 وَلَمْ تَنْزِلْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهَا النُّفُوسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَفِيمَا يُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: "مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ". قَالَ لَهُ عُمَرُ: "لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّى أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جملة، ويكون من ذا فتنة"6.   1 في "خ": "فيها". 2 في الأصل: "يقل". 3 في "ط": "العلوم". 4 في "ط": "معتاداته". 5 في الأصل: "شيئا". 6 نحوه في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "60" لابن عبد الحكم، وكتب "خ": من أقوى الدعائم في نجاح السياسة أن يفحص الرئيس مزاج الأمة ويسير في علاجها وترقية شأنها شيئا فشيئا للوجه الذي بسطه المصنف في هذا المقام، وقد يتخذ الأجنبي المتغلب هذه الطريقة محورًا يدير عليها سياسته في الشعوب الغافلة، فيوجس في نفسه أن يضع عليها من القوانين والتصرفات ما ينحدر بها إلى هاوية الشقاء والجهالة، ولكنه يحذر أن تطرحها جملة وتفضل الموت في مواقع الدفاع على الحياة تحت نير الأسر والاستعباد، فيأخذها بتلك القوانين والتصرفات رويدا رويدا حتى تألف مرارتها ويتهون عليها المقام تحت أعبائها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِقْرَاءِ الْعَادِيِّ، فَكَانَ مَا كَانَ أَجْرَى بِالْمَصْلَحَةِ وَأَجْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْنِيسِ1، وَكَانَ أَكْثَرُهَا عَلَى أَسْبَابٍ وَاقِعَةٍ، فَكَانَتْ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ حِينَ صَارَتْ تَنْزِلُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، وَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى التَّأْنِيسِ حِينَ كَانَتْ تَنْزِلُ حُكْمًا حُكْمًا وَجُزْئِيَّةً جُزْئِيَّةً؛ لِأَنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ كَذَلِكَ، لَمْ يَنْزِلْ حُكْمٌ إِلَّا وَالَّذِي قَبْلَهُ قَدْ صَارَ عَادَةً، وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ نَفْسُ الْمُكَلَّفِ الصَّائِمِ عَنِ التَّكْلِيفِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِهِ رَأْسًا، فَإِذَا نَزَلَ الثَّانِي كَانَتِ النَّفْسُ أَقْرَبَ لِلِانْقِيَادِ لَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ. وَلِذَلِكَ أُونسوا فِي الِابْتِدَاءِ2 بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا يُؤْنَسُ الطِّفْلُ فِي الْعَمَلِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَبِيهِ، يَقُولُ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الْحَجِّ: 78] . {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِي} [النَّحْلِ: 123] . {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه} [آلِ عِمْرَانَ: 68] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ: فَلَوْ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَتَكَاثَرَتِ التَّكَالِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَنْقَادَ إِلَيْهَا انْقِيَادَهُ إِلَى الحكم الواحد أو الاثنين.   1 في "خ": "التأنيث". 2 ظاهر فيما كان من ذلك مكيا وسابقا، وأما ما كان مدنيا أو متأخرا كآية: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} ، فلا يظهر فيه قوله أونسوا في الابتداء، إلا أن يقال: إن مثله زيادة في التوكيد والتقرير كما هو شأن ما تكرر من المكيات في المدينة. "د". قلت: والجملة في الأصل: "أنسوا في الابتداء"، وفي "ط": "ولذلك أيضا أُونسوا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وَفِي الْحَدِيثِ: "الْخَيْرُ عَادَةٌ" 1 وَإِذَا اعْتَادَتِ النَّفْسُ فعلا مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ حَصَلَ لَهُ بِهِ نُورٌ فِي قَلْبِهِ، وَانْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ، فَلَا يَأْتِي فِعْلٌ ثانٍ إِلَّا وَفِي النَّفْسِ لَهُ الْقَبُولُ؛ هَذَا فِي عَادَةِ اللَّهِ فِي أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَعَادَةٌ أُخْرَى جَارِيَةٌ فِي النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ أَقْرَبُ انْقِيَادًا إِلَى فِعْلٍ يَكُونُ عِنْدَهَا فِعْلٌ آخَرُ مِنْ نَوْعِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ أَضْدَادَ هَذَا وَيُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ، فَكَانَ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَكْرَهُ الْعُنْفَ2، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ3 وَالدُّخُولِ تَحْتَ مَا لَا يُطَاقُ حَمْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الانقياد، وأسهل في التشريع للجمهور.   1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/ 80/ رقم 221"، وابن حبان في "الصحيح" "2/ 8/ رقم 310 - الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "19/ 385-386/ رقم 904"، و"مسند الشاميين" "رقم 2215"، وابن عدي في الكامل" "3/ 1005"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 20"، وابن أبي عاصم في "الصمت" "100"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 252"، و"تاريخ أصبهان" "1/ 345"،والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم 22 عن معاوية مرفوعا، وإسناده حسن، والحديث في "السلسلة الصحيحة" لشيخنا الألباني "رقم 651". 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن عائشة مرفوعا: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". وأخرج برقم "2594" عنها رضي الله عنها مرفوعا: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه". 3 وقد مضى ذلك في التعليق على "ص142". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى اعْتِبَارَيْنِ: [مِنْ جِهَةِ دلالته على المعنى الأصلي، و] 1 من جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ الَّذِي هُوَ خَادِمٌ لِلْأَصْلِيِّ2، كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي تُسْتَفَادُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ، وَهَلْ يَخْتَصُّ بِجِهَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ؟ أَوْ يَعُمُّ الْجِهَتَيْنِ مَعًا؟ أَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ اعْتِبَارِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا يَسَعُ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى حَالٍ، وَمِثَالُ ذَلِكَ صِيَغُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مُجَرَّدًا مِنَ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ، فَهَلْ يَصِحُّ اعْتِبَارُهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهَا مَعَانٍ زَائِدَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ أَمْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. فَلِلْمُصَحِّحِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ لَا، وَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، [فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِيهِ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى] 3 الْأَصْلِيِّ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي حُكْمًا شَرْعِيًّا، لَمْ يُمْكِنْ إِهْمَالُهُ وَاطِّرَاحُهُ، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إِذًا مُعْتَبَرٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ إِنَّمَا هُوَ من جهة كونها   "1و 3" ساقط من الأصل، والمعنى الأصلي: هو لفظ القائل الذي يقصد به الأشياء أو يعمه، والمعنى التبعي: الذي هو الحال الذي يفهم منه زائدا على المعنى الأصلي. "ماء / 156". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للأصل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كَلَامًا فَقَطْ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يَشْمَلُ مَا دَلَّ بِالْجِهَةِ الْأَوْلَى، وَمَا دَلَّ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، هَذَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى كَالصِّفَةِ مَعَ الموصوف كالفصل والخاصة، فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ ضَائِرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَخْصِيصُ الْأُولَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ دُونَ الثَّانِيَةِ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصَّصٍ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مرجح، وذلك كله باطل، فليست1 الأولى إذا ذَاكَ بِأَوْلَى لِلدَّلَالَةِ2 مِنَ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُمَا مَعًا هُوَ الْمُتَعَيَّنَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدِ اعْتَبَرُوهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَتِهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي"3، والمقصود الإخبار بنقصان   1 في "خ": "ليست" 2 في "ط": "بالدلالة". 3 قال البيهقي في "المعرفة" "1/ 367": "وأما الذي يذكره بعض فقهائنا في هذه الرواية عن قعودها شطر دهرها لا تصلي، فقد طلبته كثيرا، فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث، ولم أجد له إسنادًا بحال، والله أعلم". وقال ابن منده فيما حكاه ابن دقيق العيد في "الإمام" عنه: "ذكر بعضهم هذا الحديث، ولا يثبت بوجه من الوجوه"، كذا في "التلخيص الحبير" "1/ 162". وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "وهذا لفظ لا أعرفه"، وأقره محمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ 615"، ونقل كلامهما ولم يتعقبهما الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 193". وقال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب""1/ 46- ط المصرية القديمة" بعد ذكره: "لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه". وقال النووي في "شرحه" المسمى "المجموع" "2/ 377": و"أما حديث " تمكث شطر دهرها"، فحديث باطل لا يعرف"،وقال في "الخلاصة": باطل لا أصل له"، وقال المنذري: "لم يوجد له إسناد بحال، وأغرب الفخر ابن تيمية في "شرح الهداية" لأبي الخطاب، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال: ذكر هذا الحديث عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب "السنن" له، كذا قال، وابن أبي حاتم ليس هو بستيا إنما هو رازي، وليس له كتاب يقال له "السنن". تنبيه: في قريب من المعنى ما اتفقا عليه من حديث أبي سعيد، قال: "أليس إذا حاضت = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 الدِّينِ، لَا الْإِخْبَارُ بِأَقْصَى الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُبَالَغَةَ1 اقْتَضَتْ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَلَوْ تُصُوِّرَتِ الزِّيَادَةُ لَتَعَرَّضَ لَهَا. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنَجَاسَةٍ لَا تُغَيِّرُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ في الإناء حتى يغلسها" 2 الْحَدِيثَ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ لكان توهمه لا يوجب.   = لم تصل ولم تصم، فذلك من نقصان دينها؟ "،ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها"، ومن حديث أبي هريرة كذلك، وفي "المستدرك" من حديث ابن مسعود نحوه، ولفظه: "فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة". قلت: وهذا وإن كان قريبا من معنى الأول، لكنه لا يعطي المراد من الأول، وهو ظاهر من التفريع، والله أعلم، وإنما أورد الفقهاء هذا محتجين به على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما، ولا دلالة في شيء من الأحاديث التي ذكرناها على ذلك، والله أعلم. قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 162- 163". ولقد تلقى المتأخرون ما أطلقه ابن منده والبيهقي وغيرهما من أن الحديث بهذا اللفظ لا أصل له، كما تراه في "المقاصد" "ص164"، و"مختصر المقاصد" "ص88"، و"التمييز" "ص62"، و"الكشف" "1/ 39"، و"المصنوع" "ص85"، و"الدرر المنتثرة" "ص113"، و"الأسرار المرفوعة" "ص177- 178"، و"الغماز على اللماز" "ص85"و "النخبة البهية" "ص48"، واللؤلؤ المرصوع" رقم 153". 1 أي: فالمقام يقتضي ذكر أقصى ما يقع لها من الحيض الذي يمنع الصلاة وينقص به الدين. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا، 1/ 263/ رقم 162"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا، 1/ 233/ رقم 278" والمذكور لفظه عن أبي هريرة وقد أسهبت في تخريجه في تعليقي على كتاب "الطهور" "رقم 279". قال الشيخ "د": "وتمامه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يداه". فقال الأئمة: "إنه مستحب، أي لهذا التوهم، أن تكون يده مست نجاسة من ذكره أو غيره، فأخذ منه الشافعي الحكم المذكور". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 الِاسْتِحْبَابَ، فَهَذَا الْمَوْضِعُ لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ تَحُلُّهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ، لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِمَّا قُصِدَ ذِكْرُهُ. وَكَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15] ، مَعَ قَوْلِهِ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لُقْمَانَ: 14] ، فَالْمَقْصِدُ فِي1 الْآيَةِ الْأُولَى بَيَانُ مُدَّةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ مُدَّةَ الْفِصَالِ قَصْدًا، وَسَكَتَ عَنْ بَيَانِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَحْدَهَا قَصْدًا، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مُدَّةً فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَقَلَّهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الآية [البقرة: 187] إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِصْبَاحِ جُنُبًا وَصِحَّةِ الصِّيَامِ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ تَقْتَضِي2 ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودَ الْبَيَانِ، لِأَنَّهُ لَازِمٌ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى بَيَانِ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ3. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُمْلَكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ4 بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لغير الله   1 في الأصل و"ط": "فالقصد". 2 في الأصل: "يقتضي". 3 الدلالة في هذه الآية وما تقدمها من قبيل دلالة الإشارة التي هي دلالة اللفظ على معنى لازم للمعنى المقصود من السياق، وهي أحد أقسام المنطوق غير الصريح كدلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء. "خ". 4 أي: الأصلي الذي سيق له التركيب، أما كونه لا يملك، فهو معنى تبعي ولازم من إثبات كونه عبدا ونفي كونه ولدا، لأنه لما نفى الولدية بسبب العبودية وهو المقصود الأصلي، دل على أن هناك تنافيا بين الولدية والعبودية، فالولد لا يملك ولا يكون عبدا، فقوله: "لكنه" الضمير فيه لقوله لا أن الولد لا يملك، وقوله: "وأن لا يكون" سقط منه في الأصل حرف العطف ولا غنى عنه، والمعنى أن كون الولد لا يملك لزم من أمرين في الآية وهما نفي الولد وإثبات ألا يكون إلا عبدا، وكلاهما صريح الآية ومنطوقها، وكونه لا يملك لازم لهذين المعنيين، لأنه إذا كان هناك تنافٍ بين الولدية والعبودية أي الملكية فالولد لا يملك، حتى صح الاستدلال بتنافيهما. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد، إلا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُمْلَكُ، لَكِنَّهُ لَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْوِلَادَةِ1 أَنْ2 لَا يَكُونَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهَا إِلَّا عَبْدًا، إِذْ لَا مَوْجُودَ3 إِلَّا رَبٌّ أَوْ عَبْدٌ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ثُبُوتِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الْحُبُوبِ وَكَثِيرِهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" 4 الْحَدِيثَ، مَعَ أَنَّ المقصود5 تقدير   1 أي: بقوله: {سُبْحَانَهُ} ، وبالحصر في قوله: {بَلْ هُمْ عِبَادٌ} . "د". 2 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وأن" بزيادة واو، وفي "ط": "المنسوب لها". 3 هذا كلام آخر دليل على الحصر الذي قبله. "د". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، 3/ 347/ رقم 1438"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع 2/ 252 / رقم 1596"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة" باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيرها 2/ 75/ رقم 635"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر، 5/ 41" وابن ماجه في "السنن": "كتاب الزكاة، باب صدقة الزروع والثمار 1/ 581/ رقم 1817" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه زيادة وتتمة ستأتي عند المصنف "ص3/ 162". وأخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة" باب ما فيه العشر أو نصف العشر 2/ 675/ رقم 981"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 41، 42"، من حديث جابر. وفي الباب عن معاذ وأبي هريرة وعلي رضي الله عنهم جميعًا. 5 من أين للمؤلف هذا؟ ولم لا يكون المقصود إفادة المعنيين المخرج والمخرج منه قصدًا أصليًّا؟. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الْجُزْءِ الْمُخْرَجِ لَا تَعْيِينَ الْمُخْرَجِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ كُلُّ عَامٍّ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ1، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى الْأَخْذِ بِالتَّعْمِيمِ اعْتِبَارًا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالْمَقْصُودِ، [وَإِنْ] 2 كَانَ السَّبَبُ عَلَى الْخُصُوصِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةِ: 9] مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيجَابُ السَّعْيِ لَا بَيَانَ فَسَادِ الْبَيْعِ3. وَأَثْبَتُوا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ 4 قِيَاسًا كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، مَعَ5 أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ" 6 مُطْلَقُ الملك،   1 لعله يريد أنه حينئذ يكون القصد الأصلي الإجابة على قدر السبب، ويكون الزائد من قبيل ما نحن فيه ليس مقصودا أصليا بل تبعي، وهو محل تأمل؛ لأن الدلالة عليه في مثل الحديث بنفس صيغة العموم، وهي ما بأصل الوضع، فليس من باب اللازم كما يدل عليه قوله: "اعتبارا بمجرد اللفظ"، وقوله: "ومثله" ليس المراد المماثلة الخاصة وأن الحديث السابق مما ورد على سبب، فإنهم لم يذكروا أن حديث الزكاة المذكور نزل على سبب بل المراد المماثلة العامة في أصل الموضوع، وهو الاعتداد بالمعاني الثانوية في استنباط "الأحكام" الشرعية كبقية الأمثلة السابقة. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". 3 يريد أن الدلالة على فساده لزمته من النهي عنه، وهو متمشٍ مع ما سبق في الموضوع. "د". 4 وهو ما قُطع فيه بنفي الفارق كمثاله، فإن قصد الشارع للحرية لا فرق فيه بين الذكر والأنثى قطعا. "د". 5 الظاهر الواو بدل مع، والمعنى أن اللفظ بحسب وضعه دال على خصوص الذكر، لكنهم حملوا الأنثى عليه في سريان العتق؛ لأنه لا فارق، ولزم من كونه لا فارق أن يكون مقصود الشارع بالعبد هنا مطلق الملك مجازا، وهو معنى تبعي لا أصلي. "د". 6 تمام الحديث: "وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء، 5/ 132 / رقم 2491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العتق، باب منه، 2/ 1139/ رقم 1501"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب العبد يكون بين الرجلين ... 3/ 629/ رقم 1346"، وأبو داود في "السنن" "كتاب العتق، باب من روي أنه لا يستسعى، 4/ 256/ رقم 3940"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الشركة في الرقيق، 7/ 319"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب العتق، باب من أعتق شركا له في عبد 2/ 844/ رقم 2527"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 لَا خُصُوصُ الذَّكَر ... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَجَمِيعُهَا تَمَسُّكٌ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لَا بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ جِهَتِهِ صَحِيحٌ مَأْخُوذٌ بِهِ. وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَيْضًا بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالْفَرْضِ خَادِمَةٌ لِلْأُولَى وَبِالتَّبَعِ لَهَا، فَدَلَالَتُهَا عَلَى مَعْنًى إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، وَمُقَوِّيَةٌ لَهَا، وَمُوَضِّحَةٌ لِمَعْنَاهَا، وَمُوقِعَةٌ لَهَا مِنَ الْأَسْمَاعِ مَوْقِعَ الْقَبُولِ، وَمِنَ الْعُقُولِ مَوْقِعَ الْفَهْمِ، كما تقول فِي الْأَمْرِ الْآتِي لِلتَّهْدِيدِ أَوِ التَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فُصِّلَتْ: 40] . وَقَوْلِهِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَانِ: 49] . فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْأَمْرُ1، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ في التهديد أو الخزي،   1 أي: فليس المقصود المعنى الأصلي، والتهديد مثلا هو المعنى التبعي، وأن كلا منهما* يأخذ منه حكم، بل المعنى المقصود هنا في الحقيقة هو التهديد مثلا، أما طلب الفعل، فليس مقصودا، وكأن المعنى الأصلي هو المقوي للمعنى التبعي، وهذا وإن كان عكس ما قرره، إلا أنه يفيد أنهما لا ينفكان في الدلالة على المعنى المقصود وتقويته ووقوعه الموقع من الفهم، ولو قال ذلك، لكان أتم، ولعله يقول: إن الصيغة موضوعة** للتهديد، وأنه معنى أصلي لها أيضا، والأمر هو المعنى الثانوي مبالغة في التهديد. "د".   * في المطبوع: "منها". ** في المطبوع: "موضوع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حُكْمٌ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ، وَكَمَا نَقُولُ فِي نَحْوِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يُوسُفَ: 82] : إِنَّ الْمَقْصُودَ: سَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَلَكِنْ جُعِلَتِ الْقَرْيَةُ مَسْئُولَةً مُبَالَغَةً1 فِي الِاسْتِيفَاءِ بِالسُّؤَالِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمْ ينبنِ عَلَى إِسْنَادِ السُّؤَالِ لِلْقَرْيَةِ حُكْمٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هُودٍ: 107] بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا تَفْنَيَانِ وَلَا تَدُومَانِ2، لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِخْبَارَ بِالتَّأْبِيدِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ انْقِطَاعُ مُدَّةِ الْعَذَابِ لِلْكُفَّارِ3 ... إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَا يؤتى على حصرها، وإذا كان   1 فهو تقوية للمعنى المقصود، حتى كأنه لا يدع أحدا من أهلها بدون سؤال. "د". 2 قال بعضهم: المراد بالسموات والأرض هذه الأرض المشاهدة، والكواكب والأفلاك الموجودة، وهذه تبدل وتغير قطعا كما في النصوص، وإن المراد بهذا التعليق التأبيد كما هو معهود العرب في مثله نحو: ما طلع نجم، وما غنت حمامة، مما يقصد به التأبيد لا التعليق، فكون السماوات والأرض تفنيان لا يؤثر في هذا المعنى المقصود وهو التأبيد، ولكن التعليق يقوي هذا المعنى ويوقعه في الفهم الموقع، أما على القول بأن المراد بالسموات والأرض جنسهما، وأنه لا بد من أرض وسماء للجنة والنار غير هذين، وأن التعليق على دائم يقتضي الدوام، فلا يكون مما نحن فيه، فلذا قال: "بناء على القول بأنهما تفنيان"، وبهذا تعلم أن كلام بعضهم هنا انتقال نظر، فإنه ليس الكلام في بقاء الجنة والنار وفنائهما كما هو واضح، فإن القول بأن الجنة تفن لم يقل به مسلم فضلا عن أن نبني عليه استدلالا كهذا. "د". 3 القول بأن الجنة والنار تفنيان هو مذهب جهم بن صفوان إمام الجهمية، وقد تحطمت عقيدتهم الإسلامية على صخرة هذه المقالة، ودخلوا في زمرة المخالفين لصريح كتاب الله وسنة= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيضَاحِ وَالتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ لِلْجِهَةِ الْأُولَى، فَإِذًا لَيْسَ لَهَا خصوص حكم يؤخذ منها زئدا عَلَى ذَلِكَ بِحَالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا مَوْضِعُ خُصُوصِ حُكْمٍ يُقَرَّرُ شَرْعًا دُونَ الْأُولَى لَكَانَتْ هِيَ الْأَوْلَى1، إِذْ كَانَ يَكُونُ تقرير2 ذلك المعنى مقصود بِحَقِّ الْأَصْلِ فَتَكُونُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأَوْلَى لَا مِنَ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مِنَ الثانية، هذا خلف لا يمكن   = رسول الله، وما القول بأن الجنة أبدية والنار فانية، فقد حكاه الشيخ ابن تيمية عن بعض الصحابة والتابعين، وتصدى ابن القيم في كتاب "حادي الأرواح" إلى ترجيحه وبسط أدلته. "خ". قلت: كذا قال الشيخ "خ" رحمه الله تعالى، ولم يصب في ذلك، فقد حكاه ابن تيمية وتبعه ابن القيم، فأسهب في هذا المبحث في كتابيه "شفاء العليل" "ص528-552"، و"حادي الأرواح" "ص276-311"، وذكر أدلة القائلين بالفناء، وسكت عليها، فأوهم أنه يرى فناء النار، مع أنه صرح في كتابه "الوابل الصيب" "ص29" أن نار الكافرين والمنافقين لا تفنى، وأن نار عصاة الموحدين هي التي تفنى، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وهذا ما صرح به ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" "1/ 157"، و"درء تعارض العقل والنقل" "1/ 305"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 304"، وله "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار" ذكرها يوسف بن عبد الهادي في "فهرسته" "ق 26/ أ"، وانظر في المسألة: "رفع الأستار" للصنعاني مع مقدمة شيخنا الألباني، و"دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة" "ص246-267" لصلاح مقبول، و"دفع إيهام الاضطراب" "ص122" للشنقيطي، و"دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية" لأخينا مراد شكري "ص111-119"، و"كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" لعلي بن علي جابر الحربي، نشر دار طيبة- مكة المكرمة. 1 أي: لكانت جهة تقصد قصدا أوليا، فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية. "د". 2 في الأصل: "تقدير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 لَا يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَهَا دَالَّةً بِالتَّبَعِ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا دَالَّةً بِالْقَصْدِ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ ثَانِيًا كَمَا نَقُولُ فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ: إِنَّهَا مَقَاصِدُ أَصْلِيَّةٌ وَمَقَاصِدُ تَابِعَةٌ، وَالْجَمِيعُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، وَيَصِحُّ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْقَصْدُ إِلَى الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ1 في أحكام التكليف حسبما يَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ هُنَا: إِنْ دَلَالَةَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لَا تَمْنَعُ2 قَصْدَ الْمُكَلَّفِ إِلَى فَهْمِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهَا مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ نِسْبَةُ تِلْكَ مِنَ الأخذ بها عملا، وإذا اتحدت النسبةكان التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَزِمَ مِنِ اعْتِبَارِ إِحْدَاهُمَا اعْتِبَارُ الْأُخْرَى، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ إِهْمَالِ إِحْدَاهُمَا إِهْمَالُ الْأُخْرَى. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا -إِنْ سُلِّمَ- مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ بِقَصْدِ قَضَاءِ الوَطَر مَثَلًا صَحِيحًا، مِنْ حَيْثُ كَانَ مُؤَكِّدًا لِلْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ النَّسْلُ، فَغَفْلَةُ الْمُكَلَّفِ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا فِي قَصْدِ الشَّارِعِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي مَسْأَلَتِنَا: إِنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ إِنَّمَا هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، فِي نَفْسِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُولَى، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، فَالْمَعْنَى التَّبَعِيُّ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقًا، وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ بِقَصْدِ قَضَاءِ الْوَطَرِ إِنْ كَانَ دَاخِلًا مِنْ وَجْهٍ تَحْتَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ لِلضَّرُورِيَّاتِ فَهُوَ دَاخِلٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَحْتَ الْحَاجِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِبَادِ فِي نَيْلِ مَآرِبِهِمْ، وَقَضَاءِ أَوْطَارِهِمْ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ، وَإِذَا دَخَلَ تحت أصل الحاجيات، صح   1 في الأصل استظهر ناسخ الأصل أن هناك كلمة أمور أو أحكام هنا. 2 في الأصل و"خ" و"ط": "ممتنع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 إِفْرَادُهُ بِالْقَصْدِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَرَجَعَ إِلَى كَوْنِهِ مَقْصُودًا لَا بِالتَّبَعِيَّةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْجِهَةَ التَّابِعَةَ لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّأْكِيدِ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا وَضَعَتْ كَلَامَهَا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ؛ فَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِلْأُولَى يَقْتَضِي أَنَّ مَا تُؤَدِّيهِ مِنَ الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، فَلَوْ جَازَ أَخْذُهُ مَنْ غَيْرِهَا، لَكَانَ خُرُوجًا بِهَا عَنْ وَضْعِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى حُكْمٍ زَائِدٍ عَلَى مَا في الأولى خروج لها عن كونها تَبَعًا لِلْأُولَى، فَيَكُونُ اسْتِفَادَةُ الْحُكْمِ مِنْ جِهَتِهَا عَلَى غَيْرِ فَهْمٍ عَرَبِيٍّ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَمَا ذُكِرَ مِنِ اسْتِفَادَةِ الْأَحْكَامِ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى، وَإِمَّا إِلَى جِهَةٍ ثَالِثَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ1. فَأَمَّا مُدَّةُ الْحَيْضِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَيْهَا، وَفِيهِ النِّزَاعُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ2: إِنَّ أَكْثَرَهَا عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَإِنْ سُلِّمَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْوَضْعِ3، وَفِيهِ الْكَلَامُ. وَمَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ 4 أَوْ غَيْرِهِ، وَأَقَلِّ مُدَّةِ.   1 أي: وإما لا استفادة أصلا كما في مدة الحيض على الشق الأول قبل التسليم، فإنه يمنع دلالة الحديث عليها، ويحتمل أنه يشير بالجهة الثالثة إلى ما سيأتي له في الفصل التالي من التأسي بالآداب القرآنية. "د". 2 في الأصل و"ط": "الحنفي". 3 أي: بل بدلالة غير وضعية، وكلامنا إنما هو في مستتبعات التراكيب، أي: دلالة الألفاظ. "د". قلت: انظر المسألة وأدلتها في "الخلافيات" "3/ رقم 48- وتعليقي عليها". 4 غير واضح؛ لأنه إما أن يكون ما تقدم في الاستدلال من نفس كلام الشافعي أو لا، فإن كان الأول، فهذا الجواب غير ظاهر؛ لأن صريح الكلام يمنع هذا الجواب، وإن كان الثاني، فكيف ساغ نسبة هذا الدليل للشافعي من طرف المصحح؟ "د" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الحمل مأخوذة مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى1 لَا مِنَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْإِصْبَاحِ جُنُبًا، إِذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ2، وَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَدِ لَا يُمْلَكُ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَفِيهِ النِّزَاعُ، وَمَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ، فَالْقَائِلُ بِالتَّعْمِيمِ إِنَّمَا بَنَى عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مَقْصُودٌ، وَلَمْ يَبْنِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِلَّا كَانَ تَنَاقُضًا، لِأَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا أُخِذَ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْعُمُومِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهَكَذَا الْعَامُّ الْوَارِدُ عَلَى سَبَبٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَمَنْ قَالَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} 3 [الْجُمُعَةِ: 9] ، فَهُوَ عِنْدُهُ مَقْصُودٌ لَا مُلْغًى، وَإِلَّا، لَزِمَ التَّنَاقُضُ فِي الْأَمْرِ4 كَمَا ذُكِرَ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، لَمْ يَجْعَلُوا دُخُولَ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْعَبْدِ بِالْقِيَاسِ إِلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ بِخُصُوصِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُفْرَضُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ، فَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُهُ أَلْبَتَّةَ، وَكَمَا أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّالِثِ، كَذَلِكَ يُمْكِنُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ مُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: "فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَلَا يُمْكِنُ إِهْمَالُهُ"، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي اسْتِقْلَالِ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، فَالصَّوَابُ إِذًا الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، والله أعلم.   1 ليس هنا لفظ وضع للدلالة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، بل إنما أخذ ذلك من عملية جمع وطرح، فكان الباقي هو العدد المذكور، وهو من باب اللزوم قطعا، "د". 2 أي: فيتوقف صحة الكلام على ثبوت هذا المعنى، وهو ما يسمى اقتضاء على بعض الاصطلاحات. "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". 4 في "ط": "في الاستدلال". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فَصْلٌ: قَدْ تَبَيَّنَ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْأَقْوَى مِنَ الْجِهَتَيْنِ جِهَةُ الْمَانِعِينَ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ زَائِدٍ أَلْبَتَّةَ. لَكِنْ يَبْقَى فِيهَا نَظَرٌ آخَرُ رُبَّمَا أَخَالُ أَنَّ لَهَا دَلَالَةً عَلَى معانٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، هِيَ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَتَخَلُّقَاتٌ حَسَنَةٌ، يُقِرُّ بِهَا كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ، فَيَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَكُونُ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ خَالِيَةً عَنِ الدَّلَالَةِ جُمْلَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُشَكَلُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَمْثِلَةٍ سَبْعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى بِالنِّدَاءِ1 مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِبَادِ، وَمِنَ الْعِبَادِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، إِمَّا حِكَايَةً، وَإِمَّا تَعْلِيمًا، فَحِينَ أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَاءَ بِحَرْفِ النِّدَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْبُعْدِ، ثَابِتًا غَيْرَ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [الْعَنْكَبُوتِ: 56] . {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزُّمَرِ: 53] . {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الْأَعْرَافِ: 158] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَةِ: 104] . فَإِذَا أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، جَاءَ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ [فَلَا تَجِدُ فِيهِ نِدَاءً بِالرَّبِّ تَعَالَى بِحَرْفِ] نِدَاءٍ ثَابِتٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ لِلتَّنْبِيهِ فِي الْأَصْلِ، وَاللَّهُ منزه عن التنبيه.   1 راجع المسألة السابعة من مباحث الكتاب في هذا الموضوع. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وَأَيْضًا، فَإِنَّ أَكْثَرَ حُرُوفِ النِّدَاءِ لِلْبَعِيدِ، وَمِنْهَا "يَا" الَّتِي هِيَ أُمُّ الْبَابِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الدَّاعِي خُصُوصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة: 186] . وَمِنَ الْخَلْقِ عُمُومًا، لِقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] . وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] . فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التنبيهُ عَلَى أَدَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ حَرْفِ النِّدَاءِ. وَالْآخَرُ: اسْتِشْعَارُ الْقُرْبِ. كَمَا أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الْحَرْفِ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ إِثْبَاتُ التَّنْبِيهِ لِمَنْ شَأْنُهُ الْغَفْلَةُ وَالْإِعْرَاضُ وَالْغَيْبَةُ، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ارْتِفَاعِ شَأْنِ الْمُنَادَى وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ، إِذْ هُوَ فِي دُنُوِّهِ عالٍ، وَفِي عُلُوِّهِ دانٍ، سُبْحَانَهُ! وَالثَّانِي: أَنَّ نِدَاءَ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ نِدَاءُ رَغْبَةٍ وَطَلَبٍ لِمَا يُصْلِحُ شَأْنَهُ، فَأَتَى فِي النِّدَاءِ الْقُرْآنِيِّ1 بِلَفْظِ: "الرَّبِّ" فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ، تَنْبِيهًا وَتَعْلِيمًا لِأَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ فِي دُعَائِهِ بِالِاسْمِ الْمُقْتَضَى لِلْحَالِ الْمَدْعُوِّ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا يُصْلِحُ الْمَرْبُوبَ، فَقَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ بَيَانِ دُعَاءِ الْعِبَادِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] إِلَى آخِرِهَا، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] .   1 أي: وأما الدعاء في الحديث، فالشائع فيه لفظ الجلالة، ولكل سرٌّ وحكمة، وسيأتي له التعبير بكثرة بدل "عامة". "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وَإِنَّمَا أَتَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الْأَنْفَالِ: 32] مِنْ غَيْرِ إِتْيَانٍ بِلَفْظِ الرَّبِّ"؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ1 بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا دَعَوْا بِهِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُنَافِيهِ، بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} الآية: [المائدة: 114] ، فَإِنَّ لَفْظَ الرَّبِّ فِيهَا مُنَاسِبٌ جِدًّا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَتَى فِيهِ الْكِنَايَةُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يستحيى مِنَ التَّصْرِيحِ بِهَا، كَمَا كَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِاللِّبَاسِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَعَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ، وَكَمَا قَالَ فِي نَحْوِهِ: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} 2 [الْمَائِدَةِ: 75] فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ أَدَبًا لَنَا اسْتَنْبَطْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِحُكْمِ التَّبَعِ لَا بِالْأَصْلِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَتَى فِيهِ بِالِالْتِفَاتِ الَّذِي يُنْبِئُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ أَدَبِ الْإِقْبَالِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْحَالِ يَسْتَدْعِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 2-4] . ثُمَّ قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] . وبالعكس إذا اقتصاه الْحَالُ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة} [يُونُسَ: 22] .   1 ومع هذا، فلا حاجة إلى الاعتذار عنه؛ لأنه محكي على لسان الجحدة الذين لم يصلوا للآداب إنما يحتاج للاعتذار عن مثل قوله تعالى حكاية عن نُوحٌ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} والجواب أن هلاك هؤلاء رحمة بسائر أولاد آدم، كما قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك} . "د". قلت: سيأتي إيضاح ذلك في التعليق على "4/ 203، 432" بوجه أوضح وأوعب. 2 أي: ويلزمه قضاء الحاجة التي لا تليق بالإله. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَتَأَمَّلْ فِي هَذَا الْمَسَاقِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عَبَسَ: 1-2] حَيْثُ عُوتِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ [هَذَا] 1 الْعِتَابِ، لَكِنْ عَلَى حَالٍ2، تَقْتَضِي الْغَيْبَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَخَفُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المعاتَب، ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى الْخِطَابِ، إِلَّا أَنَّهُ بِعِتَابٍ أخفَّ مِنَ الْأَوَّلِ3، وَلِذَلِكَ خُتِمَتِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَة} [عَبَسَ: 11] . وَالْخَامِسُ: الْأَدَبُ فِي تَرْكِ التَّنْصِيصِ عَلَى نِسْبَةِ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى4، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْخَالِقَ لِكُلِّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} ..... [آلِ عِمْرَانَ: 26] إِلَى قَوْلِهِ: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آلِ عِمْرَانَ: 26] ، وَلَمْ يَقُلْ: "بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ" وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ نَزْعَ الْمُلْكِ وَالْإِذْلَالَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَحِقَ ذَلِكَ بِهِ شَرٌّ ظَاهِرٌ، نَعَمْ قَالَ فِي أَثَرِهِ: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آلِ عِمْرَانَ: 26] تَنْبِيهًا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ خَلْقُهُ، حَتَّى جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ ليس إليك" 5.   1 سقط من "ط". 2 في "ط": "حالة". 3 انظر: "روح المعاني" "30/ 39"، و"تفسير القرطبي" "19/ 211"، و"فتح القدير" "5/ 382"، و"آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد" "ص279-287". 4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 207-211 و14/ 18-28 و299-302"، و"الحسنة والسيئة" "ص190"، و"شفاء العليل" "ص178"، و"مدارج السالكين" "1/ 194"، و"شرح الطحاوية" "282". 5 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب الرقاق، باب قوله عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 11/ 388/ رقم 6530" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك". وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 534-535/ رقم 771" عن علي مرفوعًا، "إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال .... والخير كله فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشُّعَرَاءِ: 78] إِلَخْ، فَنَسَبَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ، وَالْهِدَايَةَ، وَالْإِطْعَامَ، وَالسَّقْيَ، وَالشِّفَاءَ، وَالْإِمَاتَةَ، وَالْإِحْيَاءَ، وَغُفْرَانَ الْخَطِيئَةِ، دُونَ مَا جَاءَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ. وَالسَّادِسُ: الْأَدَبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ1 أَنْ لَا يُفَاجِئَ بِالرَّدِّ كِفَاحًا دُونَ التَّقَاضِي بِالْمُجَامَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سَبَأٍ: 24] . وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزُّخْرُفِ: 81] . {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هُودٍ: 35] . وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزُّمَرِ: 43] . {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [الْمَائِدَةِ: 104] . لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ وَتَرْكِ الْعِنَادِ وَإِطْفَاءِ نَارِ الْعَصَبِيَّةِ. وَالسَّابِعُ: الْأَدَبُ فِي إِجْرَاءِ الْأُمُورِ عَلَى الْعَادَاتِ فِي التَّسَبُّبَاتِ وَتَلَقِّي الْأَسْبَابِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ قَدْ أَتَى مِنْ وَرَاءِ مَا يَكُونُ أَخْذًا مِنْ مَسَاقَاتِ التَّرَجِّيَاتِ الْعَادِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] . {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [الْمَائِدَةِ: 52] . {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] .   1 انظر: "المنهاج" للباجي "ص9-10". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وَمِنْ هَذَا الْبَابِ جَاءَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الْبَقَرَةِ: 21] . {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الْأَنْعَامِ: 152] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّرَجِّيَ وَالْإِشْفَاقَ وَنَحْوَهُمَا إِنَّمَا تَقَعُ حَقِيقَةً مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَاللَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ [كَانَ] 1 يَكُونُ، وَلَكِنْ جَاءَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلَى الْمَجْرَى الْمُعْتَادِ فِي أَمْثَالِنَا، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِعَاقِبَةِ أَمْرٍ- بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَنْ مُعْتَادِ الْجُمْهُورِ- أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ عِنْدَ الْعِبَارَةِ عَنْهُ بِحُكْمِ غَيْرِ الْعَالِمِ، دُخُولًا فِي غِمَارِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ بَانَ عَنْهُمْ بِخَاصِّيَّةٍ يَمْتَازُ بِهَا وَهُوَ مَنِ التَّنَزُّلَاتِ الْفَائِقَةِ الْحُسْنِ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلَمُ بِأَخْبَارِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ2 وَيُطْلِعُهُ رَبُّهُ عَلَى أَسْرَارِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُ كَانَ يُعَامِلُهُمْ فِي الظَّاهِرِ مُعَامَلَةً يَشْتَرِكُ مَعَهُمْ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ3؛ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي عَدَمِ انْخِرَامِ الظَّاهِرِ4، فَمَا نَحْنُ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ، فإن كَانَ كَذَلِكَ، ظَهَرَ أَنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ يُسْتَفَادُ بِهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَفَوَائِدُ عَمَلِيَّةٌ لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الدَّلَالَةِ بِالْجِهَةِ الْأُولَى، وَهُوَ تَوْهِينٌ لِمَا تقدم اختياره.   1 زيادة من "خ" و"ط". 2 في "ط": "يعلم بكثير من أخبار المنافقين". 3 وكان يعلل ذلك بقوله: "خَوْفًا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابه" كما سيأتي "ص467". 4 قبوله عليه الصلاة والسلام لدخول المنافقين في جملة أتباعه مع معرفته بما تنطوي عليه صدورهم كان من حسن النظر والبعد في مذاهب السياسة بالمكان الذي ليس وراءه مرمى، حيث يكثر بهم سواد حزبه رأي العين، ويفصلهم عن أن يكونوا أعوانا لأعدائه وكان يرجو مع ذلك هدايتهم وخلوص عقيدتهم لكثرة ما يشاهدونه من آيات نبوته ودلائل صدقه، وقد انقلب كثير منهم بعدما تخبطتهم وساوس النفاق إلى إيمان كفلق الصبح، وهذه كلها مصالح لا يظهر بجانبها المفاسد الناجمة عن بقائهم في جماعة المسلمين ولا سيما مع تتبع خطواتهم والحذر من مكايدهم. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا لَمْ يُسْتَفَدِ الْحُكْمُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال1، [والله أعلم] 2.   1 قال ابن تيمية في "المسودة" "ص298": "الأصل قول الله تعالى وفعله وتركه القول، وتركه9 الفعل، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل، وإن كانت جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه". قلت: والاحتجاج بأفعاله سبحانه فيها خلاف، والصواب التفصيل، واختيار المصنف حسن. وانظر: "إعلام الموقعين" "3/ 231"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص123"، و"إرشاد الفحول" "173"، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 150-154" للأشقر. 2 زيادة من "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلتَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا وَيَحْتَوِي عَلَى مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ أَوْ سَبَبَهُ1 الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَمَا لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ جَازَ عَقْلًا2، وَلَا معنى لبيان ذلك ههنا، فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ3 قَدْ تَكَفَّلُوا بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ، وَلَكِنْ نَبْنِي عَلَيْهَا وَنَقُولُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الشَّارِعِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ الْقَصْدُ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا4 لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَذَلِكَ رَاجِعٌ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى سَوَابِقِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ أَوْ قرائنه،   1 لم أقف على قول بالسببية بالمعنى الذي ذكره في تعريف السبب. "د". 2 خلافا للحنفية والمعتزلة القائلين بالمنع عقلا أيضا. "د". 3 انظر على سبيل المثال: "البرهان" "1/ 105" للجويني، و"المستصفى" "1/ 86-88" للغزالي، و"البحر المحيط" "1/ 388"، و"سلاسل الذهب" "136"، كلاهما للزركشي، و"المسودة" "80" لآل تيمية، و"روضة الناظر" "1/ 234 - ط الرشد" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 288، 10/ 344-348، 22/ 41-43، 100-102"، و"إعلام الموقعين" "4/ 220"، و"تهذيب السنن" "1/ 47"، و"بدائع الفوائد" "4/ 29-31"، و"أحكام أهل الذمة" "2/ 770"، كلها لابن القيم. 4 أي: بالذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فقول الله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1 [البقرة: 132] ، قوله فِي الْحَدِيثِ: "كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تكن عبد الله القاتل" 2، قوله: "لا تمت   1 الآية مثال للتكليف بالإسلام السابق على الموت، ولا يفيد عند المقارنة والمثال الثاني من التكليف بالسوابق أيضا، فإنه لما تعارض عليه الأمر وكان بين أن يقتل غيره أو يقتله غيره فيما لا تحل فيه النفس، أمر بإسلام الأمر لله، وعدم الإقدام على قتل الغير، والمثال الثالث يصح أن يكون من النهي عن الظالم السابق على الموت والظلم الذي يقارن الموت، كأن لا يتحلل عند الموت من الظلم، أو تبقى بعض الوسائل التي بها الظلم مقارنة للموت، كمن غصب بيتا سكنه ومات فيه، أو ثوبا بقي في حوزته مغصوبا حتى مات، وما أحسن تعبير أبي طلحة بقوله: "لا يصيبوك"، ولم يقل "فيصيبوك" تفريعا على المنهى عنه، وكان هو المتبادر، لكنه لا يريد النطق بهذه الكلمة على طريق الإثبات، وليس من الأمثلة المذكورة ما فيه اللواحق، وفيما تقدم في الأسباب في المسألة العاشرة فيمن سن سنة حسنة أو سيئة ما يؤخذ منه استنباط أمثلة اللواحق. "د". قلت: وانظر في هذا: "الأحكام" "1/ 192" للآمدي، و"الابتهاج" "1/ 172"، و"البحر المحيط" "1/ 220"، و"سبل السلام" 4/ 298"، و"أصول الفقه" "304" لأبي زهرة، و"رفع الحرج" "214- 215" لباحسين. 2 عزاه الرافعي في "شرح الوجيز" لحذيفة، وتعقبه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 84" بقوله: "هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة، وإن زعم إمام الحرمين في "النهاية" أنه صحيح، فقد تعقبه ابن الصلاح، وقال: لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن". قلت: وجاء معناه في غير حديث: منها: - لا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 4/ 1476/ 1847 بعد 52" بسنده إلى حذيفة، قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. الحديث، وفيه: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع، وأطع". - وما أخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 177/ رقم 1724" عن جندب بن سفيان مرفوعا: "سيكون بعدي فتن كقطع الليل .... " وفي آخره: "وليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل". = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وَأَنْتَ ظَالِمٌ"1، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ: الْإِسْلَامُ وَتَرْكُ الظُّلْمِ، وَالْكَفُّ عَنِ الْقَتْلِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ حَيْثُ تَرَّسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَطَلَّعُ لِيَرَى الْقَوْمَ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: "لا   = وفيه شهر بن حوشب وعبد الحميد بن بهرام، وقد وثقا وفيهما ضعف، قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 303". - وما أخرجه أحمد في المسند" "5/ 110"، والطبراني في "الكبير" "4/ 59-60/ رقم 3628-3631"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 176-178/ رقم 7215" عن خباب في حديث طويل، فيه: "فكن عبد الله المقتول"، وفي بعض رواياته زيادة: "ولا تكن عبد الله القاتل" على الشك وبدونه، ورجاله ثقات، إلا أن فيه مجهولا، فهو ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 303": "لم أعرف الرجل الذي من عبد القيس، وبقية رجاله رجال الصحيح". - وما أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 292"، والبخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 138"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 156/ رقم 399"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 466/ رقم 646"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 281"، والطبراني في "الكبير" "4/ 225"، والبزار في "المسند" "4/ 125/ رقم 3356 - زوائده" من طرق عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن خالد بن عرفطة مرفوعا: "يا خالد! إنها ستكون أحداث واختلاف وفتن، فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل، فافعل". قال البزار عقبه: "لا نعلمه يروى عن خالد بن عرفطة إلا بهذا الإسناد". وعلي بن زيد هو ابن جدعان، ضعيف لكن اعتضد كما ترى، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 84"، وعزاه فيه إلى ابن قانع، واضطرب فيه ابن جدعان، فكان يجعله من مسند سعد رفعه بلفظ: "إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول ولا تقتل أحدا من أهل القبلة، فافعل". أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "ص484-485/ ترجمة عثمان"، وإسناده ضعيف. 1 لم أعثر عليه بهذا اللفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يُصِيبُوكَ" الْحَدِيثَ1 فقوله: "لا يصيبوك" من هذا القبيل.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه، 6/ 93/ رقم 2902"، وأحمد في "المسند" "3/ 265"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 162"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 401/ رقم 2661" من طريق عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، قال: "كان أبو طلحة يتترس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة رضي الله عنه حسن الرمي، وكان إذا رمي يشرف النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى موضع نبله. وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، 6/ 78 مختصرا / رقم 2880، وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي طلحة، 7/ 128/ رقم 3811، وكتاب المغازي، باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، 7/ 361/ رقم 4064"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب غزو النساء مع الرجال، 3/ 1443/ رقم 1811"، وأبو يعلى في "المسند" "7/ 24/ رقم 3921"، ومن طريقه ابن عساكر "تاريخ دمشق" "6/ 8" - تهذيب عبد القادر بدران" من طريق عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بنحو اللفظ الذي أورده المصنف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَوْصَافُ الَّتِي طُبِعَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ كَالشَّهْوَةِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يُطْلَبُ بِرَفْعِهَا، وَلَا بِإِزَالَةِ مَا غُرِزَ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، كَمَا لَا يُطْلَبُ بِتَحْسِينِ مَا قَبُحَ مِنْ خِلْقَةِ جِسْمِهِ، وَلَا تَكْمِيلِ مَا نَقَصَ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْإِنْسَانِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ طَلَبًا لَهُ وَلَا نَهْيًا عَنْهُ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ قَهْرَ النَّفْسِ عن الجنوح إلا مَا لَا يَحِلُّ، وَإِرْسَالَهَا بِمِقْدَارِ الِاعْتِدَالِ فِيمَا يَحِلُّ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَنْشَأُ مِنَ الْأَفْعَالِ مِنْ جِهَةِ1 تِلْكَ الْأَوْصَافِ مِمَّا هُوَ داخل تحت الاكتساب   1 أي: سواء أكان مما يسبق تلك الأوصاف أم مما يلحقها وينشأ عنها كما سيبينه، فلذا عمم، وقال: "من جهة تلك الأوصاف"، ليشمل ما تكون الأوصاف هي الناشئة عنه. "د". قلت: انظر في هذا "قواعد الأحكام" "1/ 117"، و"مباحث الحكم عند الأصوليين" "1/ 193-194" لمحمد سلام مدكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ثَمَّ أَوْصَافًا تُمَاثِلُ مَا تَقَدَّمَ فِي كَوْنِهَا مَطْبُوعًا عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ، فَحُكْمُهَا حُكْمُهَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَطْبُوعَ عَلَيْهَا ضَرْبَانِ: - مِنْهَا: مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ مشاهدا ومحسوسا كَالَّذِي تَقَدَّمَ. - وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ خَفِيًّا حَتَّى يَثْبُتَ بِالْبُرْهَانِ فِيهِ ذَلِكَ، وَمِثَالُهُ الْعَجَلَةُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا مِمَّا طُبِعَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الْأَنْبِيَاءِ: 37] . وَفِي "الصَّحِيحِ": "إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا رَأَى آدَمَ أَجْوَفَ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ" 1. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ "الشَّجَاعَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ"2. وَ"جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وبغض من أساء إليها"3.   1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب خلق الإنسان خلقا لا يتمالك، 4/ 2016/ رقم 2611" عن أنس مرفوعا: "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر به ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 152، 229، 240، 254". 2 سيأتي تخريجه "ص185". 3 أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 701"- ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "6/ 481/ رقم 8984"، وابن الأعرابي في "المعجم" "2/ ق 21/ 22"، وأبو موسى المديني في "جزء من أدركه الخلال من أصحاب ابن منده" "ق 150- 151"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 121"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "7/ 346"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 599، 600"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 160"، والقزويني في "تاريخ قزوين" "4/ 172"، وابن الجوزي في "الواهيات" "2/ 29" من طريق إسماعيل بن أبان عن الأعمش عن خيثمة عن ابن= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَقَدْ جُعِلَ مِنْهَا الْغَضَبُ وَهُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَ الزُّهَّادِ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ. وَجَاءَ: "يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ ليس الخيانة والكذب" 1.   = مسعود مرفوعًا. قال أبو نعيم: "غريب، لم نكتبه إلا من هذا الوجه"، ونحوه عند ابن عدي، وزاد -وعنه القضاعي- "وهو معروف عن الأعمش موقوفا"، وإسماعيل بن أبان متهم بالكذب، قال أبو داود: "كان كذابا"، وقال ابن حبان في "المجروحين" "1/ 116": "كان يضع الحديث على الثقات"، ورواه ابن أخت عبد الرزاق عن عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال أبو حاتم في "العلل" "2/ 333-334": "هذا حديث منكر، وكان ابن اخت عبد الرزاق يكذب". وأخرجه موقوفا ابن حبان في "روضة العقلاء" "ص255" من الطريق المرفوعة الأولى، وهي موضوعة، والبيهقي في "الشعب" "6/ 481/ 8983" من طريق ابن أخت عبد الرزاق ..... وقال: "هذا هو المحفوظ موقوفا". قلت: لم يصح موقوفا أيضا، وإنما هو من قول الأعمش، ونقل المناوي عن الأزدي قوله في الحديث: "هذا الحديث باطل"، وقال: "ورأيت بخط ابن عبد الهادي في "تذكرته" قال مهنَّأ: سألت أحمد ويحيى عنه، فقالا: ليس له أصل، وهو موضوع" وقال السخاوي في "المقاصد": "هو باطل مرفوعا وموقوفا". 1 أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 252"، وعبد الرزاق في "المصنف" "11/ 161"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 472"، و"مكارم الأخلاق" "رقم 144"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 344"، وابن أبي شيبة في "الإيمان" رقم 82"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 114"، والدارقطني في "العلل" "4/ 329"، وابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 328-329"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 197"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" "2/ 217"، والبزار وأبو يعلى كما في "المجتمع" "1/ 92" مرفوعا. وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 828"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 592 و11/ 18"، و"الإيمان" "رقم 81"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 197"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 491" موقوفا على سعد بن أبي وقاص. ورجح أبو زرعة والدارقطني وقفه، وهو الصحيح. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود موقوفا عليهم عند الطبراني في "المعجم الكبير". انظر: "مجمع الزوائد" "1/ 93". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الطَّلَبُ ظَاهِرًا مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا1 تَحْتَ كَسْبِهِ قَطْعًا، وهذا قليل، كقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [الْبَقَرَةِ: 132] ، وَحُكْمُهُ أَنَّ الطَّلَبَ بِهِ مَصْرُوفٌ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ كَسْبِهِ قَطْعًا، وَذَلِكَ جُمْهُورُ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ كَسْبِهِ، وَالطَّلَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِهَا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِنَفْسِهَا أَمْ لِغَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ: مَا قَدْ يُشْتَبَهُ أَمْرُهُ، كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، فَحَقُّ النَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَنْظُرَ فِي حَقَائِقِهَا، فَحَيْثُ ثَبَتَتْ لَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْجُبْنِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْغَضَبِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا، إِمَّا لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ2، فَلَا يُطْلَبُ إِلَّا بِتَوَابِعِهَا، فَإِنَّ مَا فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَوْصَافِ يَتْبَعُهَا بِلَا بُدٍّ أَفْعَالٌ اكْتِسَابِيَّةٌ، فَالطَّلَبُ وَارِدٌ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَا عَلَى مَا نَشَأَتْ عَنْهُ، كَمَا لَا تَدَخُلُ الْقُدْرَةُ وَلَا الْعَجْزُ تَحْتَ الطَّلَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّ لَهَا3 بَاعِثًا مِنْ غَيْرِهِ فَتَثُورُ فِيهِ فَيَقْتَضِي لِذَلِكَ أَفْعَالًا أُخَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُثِيرُ لَهَا هُوَ السَّابِقَ وَكَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ كَسْبِهِ، فَالطَّلَبُ يَرِدُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: "تهادوا تحابوا" 4، فيكون كقوله: "أحبوا   1 في "ط": "ما كان غير داخل ...... ". 2 سيأتي تمثيلها بالشجاعة والجبن والحلم. "د". 3 أي: كالحب والبغض "د". 4 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 594"، والنسائي في "الكنى" -كما في= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ" 1 مُرَادًا بِهِ التَّوَجُّهُ إِلَى النَّظَرِ فِي نِعَمِ اللَّهِ تعالى   = "نصب الراية" "4/ 120"، وأبو يعلى في "المسند" "11/ 9/ رقم 6148"، والدولابي في "الكنى" "1/ 150، 2/ 7"، وتمام في "فوائده" "رقم 712- ترتيبه"، وابن عدي في الكامل" "4/ 1424"، وأبو الشيخ في الأمثال" "رقم 245"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 169"، والمزي في "تهذيب الكمال" "2/ ق 620" عن أبي هريرة مرفوعا بإسناد حسن، وحسنه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 70"، و" بلوغ المرام" "ص116" وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "2/ 40"، وتبعه السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص166"، فقالا: "سنده جيد". وللحديث شواهد كثيرة يتقوى بها بألفاظ مغايرة، وحسنه شيخنا في "الإرواء" "رقم 1602"، و"صحيح الأدب المفرد" "رقم 462". 1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، 5/ 664/ رقم 3789"، وعبد الله بن أحمد في "زياداته على فضائل الصحابة" "2/ 986/ رقم 1952"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "3/ 46/ رقم 2639 و10 / 341-342/ رقم 10664"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 183" والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 497"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 149-150"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" "1/ 45", "الشعب" "1/ 288"، و"الاعتقاد" "ص327، 328"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 211"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "4/ 160"، والشجري في "أماليه" "1/ 152"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2569-2570"، والختلي في "المحبة لله" "ق1/ أ" وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 267/ رقم 430"، وابن المستوفي في "تاريخ إربل" "1/ 224"، والمزي في "تهذيب الكمال" "ق 691" والذهبي في "الميزان" "2/ 432"، كلهم من طريق هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"، وسيأتي عند المصنف "ص189". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص". قال ابن عدي: "وهذا لا أعلم يرويه غير هشام بن يوسف بهذا الإسناد"، وقال: وهشام بن يوسف هذا له أحاديث حسان وغرائب، وقد روى عنه الأئمة من الناس، وهو ثقة". قلت: إسناده ضعيف، وأعله الخطيب وتبعه ابن الجوزي بأحمد بن رزقويه والذراع، وقد توبعا، وآفة الحديث عبد الله بن سليمان النوفلي، قال الذهبي في "الميزان" "2/ 432": "فيه جهالة، ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف بالحديث الذي ... "وساقه". فالحديث ضعيف، لتفرد هذا المجهول به، وضعفه شيخنا في "تخريجه لأحاديث فقه السيرة "ص23". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 عَلَى الْعَبْدِ وَكَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَكَنَهْيِهِ عَنِ النظر المثير للشهوة الداعية إلا مَا لَا يَحِلُّ1، وَعَيْنُ الشَّهْوَةِ لَمْ ينهَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُثِيرُ لَهَا دَاخِلًا تحت كسبه،   1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، خرجناها في رسالة أبي بكر بن حبيب العامري "ت 530هـ" "أحكام النظر إلى المحرمات"، منها ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب نظر الفجأة/ رقم 2159" عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال لي: "اصرف بصرك". ومنها حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس خلفه في الحج، فجاءت جارية من خثعم تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلوى النبي صلى الله عليه وسلم عنق الفضل لئلا ينظر إليها، فقال له عمه العباس: لويت عنق ابن عمك يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: "رأيت شابا وشابة؛ فلم آمن الشيطان عليهما". والحديث صحيح، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 76، 157"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف/ رقم 885"، وأبو داود مختصرا في "السنن" "كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع / رقم 1935"، وابن ماجه مختصرا في "السنن" "كتاب المناسك، باب الوقف بعرفات/ رقم 3010" والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 72"، وابن خزيمة في "الصحيح" "4/ 262/ رقم 2837"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 471"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 122و 7/ 89"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 264-265، 413-414 / رقم 312، 544" من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي به. وإسناده صحيح، وتابع الثوري جماعة، منهم: المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم بن خالد الزنجي، كما عند عبد الله في "زوائد المسند" "1/ 76، 81"، وإبراهيم بن إسماعيل -هو ضعيف- كما عند البزار في "البحر الزخَّار" "رقم 479"، وقد وهم فيه، فقال: "عن عبد الرحمن".= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 فَالطَّلَبُ يَرِدُ عَلَى اللَّوَاحِقِ1 كَالْغَضَبِ الْمُثِيرِ لِشَهْوَةِ الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع.   = ابن الحارث عن زيد بن على عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع عن علي". قال البزار عقبه: "وهذا الحديث قد رواه الثوري والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهما إبراهيم بن إسماعيل في هذا الإسناد، فقال: عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والصواب حديث الثوري والمغيرة". قلت: وذكره الدارقطني في "العلل" "رقم 411"، وقال: "هو حديث يرويه الثوري والداروردي ومحمد بن فليح والمغيرة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن الحارث، وخالفهم إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع، فرواه عنه .... زاد فيه أبا رافع، ووهم، والقول قول الثوري ومن تابعه، والله أعلم. ورواه يحيى بن عبد الله بن سالم عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي بن علي عن أبيه عن علي، ولم يذكر ابن أبي رافع، والصواب ما ذكر من قول الثوري ومن تابعه". قلت: وللحديث شواهد كثيرة، منها حديث الفضل بن العباس وابن عباس وجابر، وغيرهم رضوان الله عليهم، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 150". قال ابن بطال: "وفي الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة"، وقال: "ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشى الفتنة عليه" وقال: "وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء، والإعجاب بهن" راجع: فتح الباري" "11/ 10". 1 فمثل قوله عليه الصلاة والسلام لمن قال له أوصني: "لا تغضب" مكررا ذلك، يرد النهي فيه على لاحق الغضب. "د". قلت: فالمطلوب من المكلف حينئذ أن يكظم غيظه فلا يندفع في وقت الغضب في قول أو فعل، وأن لا يسترسل في الغضب، كما أنه مطلوب منه أن يجتنب مثيرات الغضب وأسبابه، فلا يقحم نفسه فيما يورثه ذلك. انظر: "أصول الفقه" "304" لأبي زهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْمَلْمَحِ فِقْهُ الْأَوْصَافِ الْبَاطِنَةِ1 كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا مِنَ الكبْر وَالْحَسَدِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَالْجَاهِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي رُبْعِ الْمُهْلِكَاتِ2 وَغَيْرُهُ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَكَذَلِكَ فِقْهُ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، كَالْعِلْمِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَالْيَقِينِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ نَتِيجَةُ عَمَلٍ3، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ الْقَلْبِيَّةَ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى إِثْبَاتِهَا وَلَا نَفْيِهَا، أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا، فَلَيْسَ تَحْصِيلُهُ بِمَقْدُورٍ أَصْلًا؟ فَإِنَّ الطَّالِبَ إِذَا تَوَجَّهَ نَحْوَ مَطْلُوبٍ إِنْ كَانَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَهُوَ حَاصِلٌ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ، لم يكن تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ النَّظَرِ، وَهُوَ الْمُكْتَسَبُ دُونَ نَفْسِ الْعِلْمِ4؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّظَرِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ النَّتِيجَةَ لَازِمَةٌ لِلْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَتَوْجِيهُ النَّظَرِ فِيهِ هُوَ الْمُكْتَسَبُ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبَ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ عَلَى أَثَرِ النَّظَرِ، فَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْمُسَبَّبَاتِ مَعَ أَسْبَابِهَا -كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ-5 أَمْ لَمْ نقل ذلك، فالجميع متفقون على   1 هذا ما قرره عصري المصنف العلامة ابن خلدون أيضا، فقال في كتابه "شفاء السائل لتهذيب المسائل" "ص26": "الأعمال الظاهرة كلها في زمام الاختيار، وتحت طوع القدرة البشرية، وأعمال الباطن في الأكثر خارجة عن الاختيار متعاصية على الحكم البشري، إذ لا سلطان له على الباطن"، وهذا ما أكد عليه الغزالي في "الإحياء" "4/ 373 وما بعدها". 2 وهو في المجلد الثالث بتمامه من "الإحياء". 3 فالتكليف بها أمرا أو نهيا تكليف بالسوابق والأعمال المنتجة لها. "د". 4 بهذا التحرير يندفع ما يخطر في الذهن من استشكال القول بأن العلم من قبيل مقولة الكيف، أو الانفعال مع أنه مكلف به ولا تكليف إلا بفعل "خ". 5 القائلون بأن العلم ع3.قب النظر يستند إلى الله ابتداء على مذهبين: أحدهما أن التلازم بينهما عادي بحيث يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر، ثانيهما أنه من قبيل اللزوم الذي لا بد منه عقلا بحيث يمتنع الانفكاك بينهما، يخرق العادة كما يمتنع خلو الجواهر عن الأعراض، ومعنى كونه جائز الترك والفعل عند أصحاب هذا الرأي أن الفاعل المختار، إما أن يخلق الملزوم واللازم، وإما أن يتركهما، فجواز ترك المقدور هنا مشروط بارتفاع مانع هو أيضا مقدور."خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْكَسْبِ نَفْسِهِ، وَإِذَا حَصَلَ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ عَلَى حَالٍ. وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَكُونُ وَصْفًا بَاطِنًا، إِذَا اعْتَبَرْتَهُ وَجَدْتَهُ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَإِذَا1 كَانَتْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِهَا أَنْفُسِهَا، وَإِنْ جَاءَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَمَصْرُوفٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَدَّمُهَا، أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، أَوْ يُقَارِنُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   1 في الأصل: "وإن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَوْصَافُ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى جَلْبِهَا وَلَا دَفْعِهَا بِأَنْفُسِهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ نَتِيجَةَ عَمَلٍ، كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: "أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ" 1. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِطْرِيًّا2 وَلَمْ يَكُنْ نَتِيجَةَ عَمَلٍ، كَالشَّجَاعَةِ، وَالْجُبْنِ، وَالْحِلْمِ، وَالْأَنَاةِ الْمَشْهُودِ بِهِمَا فِي أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ3، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا. فَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُسَبَّبَاتٍ عَنْ أَسْبَابٍ مُكْتَسَبَةٍ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَلَا قَصَدَهَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ، عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ. وَالثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهَا فِطْرِيًّا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ مَحْبُوبَةٌ لِلشَّارِعِ أَوْ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ لَهُ. وَالثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ مَا يَقَعُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَوْ لَا يَقَعُ. فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ النَّقْلِ أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ يَتَعَلَّقُ بِهَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يحبهما   1 مضي تخريجه قريبا، وهو ضعيف. 2 انظره مع ما ورد في الحديث: "إنكم مجبنون ومبخلون" يخاطب الحسن وأسامة بن زيد "د". 3 سيأتيك نص الحديث قريبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ" 1. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ [أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَطْبُوعٌ2 عَلَيْهِمَا، وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ] 3: "الشَّجَاعَةُ والجبن غرائز"4.   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الإسلام، 1/ 48 -49/ رقم 18"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 585"، وأحمد في "المسند" "3/ 23"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 238- موارد" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في "الصحيح" "رقم 17"، والترمذي في "الجامع" "رقم 2012"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 586"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "ص92"، و"المساوئ" "رقم 339" من حديث ابن عباس رضي الله، وفي الباب عن غيرهما لا نطيل بذكر ذلك، والله الموفق. في حاشية الأصل ما نصه: "الإناة: بالقصر: كذا في شروح مسلم من حديث وفد عبد القيس من كتاب الإيمان". 2 يريد الاستدلال على أنها فطرية وعلى تعلق الحب والبغض بها كما ترى ذلك في صنيعه كله. "د". 3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل ومن "ماء". 4 أخرجه ابن حبان في "المجروحين" "3/ 41" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "الجبن والشجاعة غرائز .... ". وإسناده واهٍ جدا، فيه معدي بن سليمان، قال أبو زرعة: "واهي الحديث"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال ابن حبان: "كان ممن يروي المقلوبات عن الثقات، والملزقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". راجع: "الميزان" "4/ 142". وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 333"، وسعيد بن منصور في "السنن" "رقم 2534- ط القديمة و 4/ 1283/ رقم 649- ط الجديدة"، والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير في "التفسير" "5/ 417/ رقم 5834، 5835 و8/ 462/ رقم 9766، 9767"، وابن المنذر وابن أبي حاتم ورستة في "الإيمان"، كما في "الدر المنثور" "2/ 564"، وأبو القاسم البغوي وساق سنده ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 569"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص307- ترجمة عمر"، وابن عبد البر في "الاستذكار" 14/ 254-255/ رقم 20259، 20260" موقوفا على عمر بلفظ المصنف، وهو أشبه. وانظر: "تغليق التعليق" "4/ 196". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وَجَاءَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قتل حية"1.   1 جزء من حديث، أخرجه ابن عدي في "الكامل" "4/ 1502" عن الزبير بن العوام، قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجبذ عمامتي بيده، فالتفتُّ إليه، فقال: "يا زبير! إن باب الرزق مفتوح من لدن العرش إلى قرار بطن الأرض، فيرزق الله كل عبد على قدر همته، يا زبير! إن الله يحب السخاء ولو بفلقة تمرة، ويحب الشجاعة لو بقتل الحية والعقرب". وأخرجه من طريق ابن عدي ابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 179" ومن طريق آخر أبو نعيم في "الحلية" "10/ 73" مختصرا دون المذكور عند المصنفد. والحديث موضوع، مداره على عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، يروي الموضوعات على الأثبات، لا يحل كتب حديثه، والحديث في "الدر الملتقط في بيان الغلط" "ص36" للصغاني، و"شرح الإحياء" للزبيدي "8/ 182-183". وأخرج ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" "رقم 44" بإسناد واهٍ من حديث على، وفيه: "وكن شجاعا، فإن الله تعالى يحب الشجاع". وأخرجه البيهقي في "الزهد" "رقم 952"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 6"، وأبو نعيم في "أربعي الصوفية" "رقم 25"، وقال: "هذا حديث شريف يجمع من أصولهم معاني لطيفة"، والحلية" "6/ 199"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1080، 1081"، و"الديلمي في "الفردوس" "رقم 565"، وكما قال السخاوي في "تخريج الأربعين السلمية" "ص49"، وأبو بكر المقرئ في "فوائده" -كما في "فتح الوهاب" "2/ 141"- عن عمران بن حصين ضمن حديث في آخره: "ويحب الشجاعة ولو على قتل حية". وإسناده واهٍ بمرة، فيه عمر بن حفص العبدي، تركه أحمد والنسائي، وضعفه الدراقطني، كما في "الميزان" "3/ 189"، وتفرد به كما قال البيهقي، وفيه أيضا العلاء والد هلال، قال السخاوي: "قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث" وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به". وهو من رواية الحسن عن عمران، أفاد الحاكم في مواطن من "مستدركه" منها "2/ 234" أن الأكثر على إثبات السماع، فقال: "اختلف مشايخنا في سماعه منه، والأكثر على إثباته"، والخلاصة: الحديث لم يثبت، ولا يوجد له إسناد قائم، والله الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وَفِي الْحَدِيثِ: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" 1 وَهَذَا مَعْنَى التَّحَابِّ وَالتَّبَاغُضِ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ" 2. وَقَدْ حُمِلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خير وأحب إلى اللهِ   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "6/ 369/ رقم 3336" معلقا عن عائشة رضي الله عنها، ووصله أبو يعلى في "المسند" "7/ 344/ رقم 4381" بإسناد رجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" "8/ 88"، والبخاري في "الأدب المفرد" "900"، وابن عدي في "الكامل" "6/ 2299 و7/ 2671"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "100" والخطيب في "التلخيص" "1/ 141"، والبيهقي في "الآداب" "310"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "274"، والإسماعيلي في "مستخرجه"، وابن زنبور في "فوائده" كما في "الفتح" "6/ 370"، و"التغليق" "4/ 7"، و"عمدة القاري" "15/ 225". والحديث صحيح، له شواهد من حديث أبي هريرة عند مسلم في "الصحيح" "4/ 2031/ رقم 2638" وغيره، وابن مسعود وسلمان الفارسي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وورد عن على مرفوعا بلفظ: "إن الأرواح تلاقى في الهوى، فتشام، فما تعارف منها ..... " أخرجه ابن منده في النفس والروح" كما قال ابن القيم في "الروح" "44", أبو الشيخ في الأمثال" "107"، والطبراني في "الأوسط" كما في المجتمع" "1/ 162"، وصوب الدارقطني في "العلل" "4/ 188"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 135"، وقفه على علي رضي الله عنه، وهو الأشبه. 2 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 953-954"، وأحمد في "المسند" "5/ 229، 233، 247"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 168، 169، 170"، وابن حبان في "الصحيح" "2/ 335"/ رقم 575- الإحسان، والطبراني في "الكبير" "20/ رقم 150-154" والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1449، 1450"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 206" عن معاذ مرفوعا، وهو قسم من حديث إلهي صحيح، بعض أسانيده على شرط الشيخين، وتتمته: "والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ" 1عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ شِدَّةَ الْبَدَنِ2 وَصَلَابَةَ الْأَمْرِ؛ وَالضَّعْفُ خِلَافُ ذَلِكَ. وَجَاءَ: "إِنَّ اللَّهَ يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها" 3.   1 مضي تخريجه "1/ 356 وص 61 من هذا الجزء"، والحديث صحيح. 2 بل لو حمل على ما هو الظاهر من قوة الإرادة وصلابة العزيمة وهي خلق فطري، لكان الأمر على ما يريد من تعلق الحب بهذا الخلق الفطري، إلا أنه يريد أن يدخل فيه شدة البدن لظهور أنه فطري، فيتم له به الاستدلال على الأمرين معا، وليس من الضروري أن يكون الدليل عليهما حديثا واحدا. "د". 3 أخرجه أبو الشيخ في "حديثه" "رقم 68"، والطبراني في "الأوسط" "رقم 2964" و"الكبير" "6/ 223/ رقم 5928" والحاكم في "المستدرك" "1/ 48"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 191"، و"الشعب" "6/ 240-241"، و"الأسماء والصفات، "ص53" والسلفي في "معجم السفر" "1/ 174"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "رقم 2- المنتقى"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ 226/ 1"، جميعهم من طرق عن أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا فضيل بن عياش ثنا محمد بن ثور الصنعاني عن معمر عن أبي حازم عن سهل بن سعد رفعه، وأوله: "إن الله عز وجل كريم يحب الكرم ومعالي .... ". وأخرجه البيهقي في "الشعب" "6/ 241" من طريق محمد بن عبيد عن الصنعاني به. وإسناده صحيح، مع مخالفة عبد الرزاق للصنعاني "محمد بن ثور"، فقد أخرجه في "المصنف" "11/ 143/ رقم 20150"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "10/ 191"، و"الشعب" "6/ 241"، والبغوي في "شرح السنة" "13/ 82/ 83"، عن معمر عن أبي حازم عن طلحة بن كريز الخزاعي مرسلا. وقال البيهقي: "وكذلك رواه سفيان الثوري عن أبي حازم عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا". قلت: أخرجه من طريق سفيان به البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 347"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 48" وقال: "وهذا لا يوهن حديث سهل بن سعد على ما قدمت ذكره من قبول الزيادات من الثقات، والله أعلم". قلت: أصاب الحاكم في مقولته، ولا سيما أن للحديث شواهد، منها: - حديث الحسين بن علي، أخرجه الطبراني في "الكبير" "3/ 142/ رقم 2894"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 879"، والدولابي في "الذرية الطاهرة" "رقم 162"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1076، 1077"، والخطيب في "تلخيص المتشابه" "1/ 16- 17". - حديث جابر بن عبد الله، أخرجه الطبراني في "مكارم الأخلاق" "رقم 120"، وانظر "السلسلة الصحيحة" "رقم 1378". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وَجَاءَ: "يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ" 1. وَقَالَ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل} [الْأَنْبِيَاءِ: 37] . وَجَاءَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ ضِدُّ الْعَجَلِ مَحْبُوبًا وَهُوَ الْأَنَاةُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ يَتَعَلَّقَانِ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ: أَوَّلًا: خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَثَانِيًا: أَنَّهُمَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُمَا بِالذَّوَاتِ، وَهِيَ أَبْعَدُ عَنِ الْأَفْعَالِ مِنَ الصِّفَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54] . "أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا غَذَاكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ"2. وَ "مِنَ الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ 3 وَالْبُغْضُ في الله" 4.   1 مضي تخريجه "ص177"، وهو صحيح موقوفا على سعد بن أبي وقاص. 2 مضي تخريجه "ص179"، وهو ضعيف. 3 لأن معناه أن تحب الشخص لا تحبه إلا لأجل الله لا لغرض دنيوي، فالحب فيه تعلق بالذوات. "د". 4 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، 4/ 22/ رقم 4681، والطبراني في "الكبير" "رقم 7613، 7737، 7738"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص178-179"، والبغوي في "شرح السنة" "13/ 54" بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 ولا يسوغ في هذا الْمَوَاضِعِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ حُبُّ الْأَفْعَالِ فَقَطْ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الصِّفَاتِ -إِذَا تَوَجَّهَ الْحُبُّ إِلَيْهَا فِي الظَّاهِرِ- إِنَّ الْمُرَادَ الْأَفْعَالُ. فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ بِالْأَفْعَالِ1، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النِّسَاءِ: 148] . {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 46] . "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ"2. "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ الله، من أجل ذلك مدح نفسه" 3.   1 لشيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة كاملة في المحبة، نشرها محمد رشاد سالم في الجزء الثاني من "جامع الرسائل" وقد شملت جميع هذه المعاني التي تكلم عليها الشاطبي. 2 مضي تضعيف المصنف له "1/ 200"، وهو كما قال كما بينته في التعليق عليه، والله الموفق. 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ، 8/ 301- 302/ رقم 4637، وكتاب النكاح، باب الغيرة، 9/ 319/ رقم 5220، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، 13، 283/ رقم 7403"، ومسلم في "صحيحه" -والمذكور لفظه- "كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4/ 2113/ رقم 2760" عن ابن مسعود مرفوعا. وأخرج نحوه البخاري في "صحيحه" "كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغيرُ من الله"، 13/ 399/ رقم 7416"، مسلم في "الصحيح" "كتاب اللعان، 3/ 1136/ رقم 1499" ضمن حديث طويل عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وَهَذَا كَثِيرٌ. وَإِذَا قُلْتَ: أُحِبُّ الشُّجَاعَ وَأَكْرَهُ الْجَبَانَ، فَهَذَا حُبٌّ وَكَرَاهَةٌ يَتَعَلَّقَانِ بِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 134] . {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 146] . {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 222] . وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لُقْمَانَ: 18] . {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 57] . وَفِي الْحَدِيثِ: "إن الله يبغض الحبر السمين"1.   1 قال أبو الليث السمرقندي في "بستانه" "ص28 في الباب الرابع والأربعين": "وروي أبو أمامة الباهلي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال "وذكره". وكتب أبي الليث السمرقندي مليئة بالأحاديث والأخبار الموضوعة، وربما يذكر صاحبها فيها سنده، فهي مفيدة لطالب العلم الذي ينظر في الأسانيد، ويمحص عن الرواة، وهي من مظان الحكم على كثير مما هو سائد بين العوام بالوضع أو الضعف، وإن راجت على صاحبها، قال الذهبي في ترجمته في "السير" 16/ 323": "وتروج عليه الأحاديث الموضوعة"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري" "15"، وذكر جمهور مصنفي السير والأخبار وقصص الأنبياء، ومنهم أبو الليث، قال: "فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم، ولا لهم خبرة بالنقلة، بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف، ولا يميزون بينهما، لكن منهم من يروي الجميع ويجعل العهدة على الناقل". ولذا قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص124/ رقم 245" مستدركا على أبي الليث: "ولكن ما علمته في المرفوع"، ثم قال: "نعم، عند أحمد [في "المسند" "3/ 471 و 4/= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 ......................................................................................   = 339"] ، والحاكم في "مستدركه" ["4/ 121-122] ، والبيهقي في "الشعب" ["5/ 33/ رقم 5666، 5667"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 238"] من حديث جعدة الجشمي أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل سمين، فأومأ إلى بطنه بأصبعه، وقال: "لو كان هذا في غير هذا، لكان خير لك"، وسنده جيد. قلت: ولكنه مرسل، ولم تثبت لجعدة صحبة، وانظر تفصيل ضعفه في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1131" لشيخنا الألباني، و"الأقوال القويمة في صحة النقل من الكتب القديمة" للبقاعي، بتحقيقنا، يسر الله إتمامه ونشره. والمذكور عند المصنف وارد في المرفوع على أنه من التوراة في كتب التفسير في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأية: 91] . أخرج ابن جرير في "التفسير" "7/ 267"، بسند ضعيف، فيه ابن حميد- وابن المنذر وابن أبي حاتم - كما في "شرح الإحياء" "7/ 388"- من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل من اليهود يقال له "مالك بن الصيف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين ...... "؟ وذكر قصة، وهو مرسل. وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 147" عن سعيد بن جبير بدون إسناد، وإليهما عزاه الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 442-443"، وتبعه ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص62"، وكذا المناوي في "تخريج البيضاوي" "2/ 611/ رقم 499". وأخرج البيهقي في "الشعب" "5/ 33/ رقم 5668" بسند فيه مجهول ومستور عن كعب، قال: إن الله يبغض أهل البيت اللحميين والحبر السمين"، ثم أخرج عن سفيان الصوري قوله في تفسير "أهل البيت اللحميين": "هم الذين يكثرون أكل اللحم"، ثم قال: "وهذا تأويل حسن غير أن ظاهره الإكثار من أكل اللحم، وفي جمعه بينه وبين "الحبر السمين" كالدلالة على ذلك". وأخرج أبو نعيم في "الحلية" "2/ 362" في "ترجمة مالك بن دينار" بسنده إليه، قال: "قرأت في الحكمة: إن الله يبغض كل حبر سمين". وعند أبي نعيم في "الطب النبوي" له من طريق بشر الأعور عن عمر بن الخطاب أثر طويل، في آخره: "وإن الله ليبغض الحبر السمين" ونقل الغزالي عن ابن مسعود، أنه قال: "إن الله يبغض القارئ السمين"، أفاده السخاوي في "المقاصد" "ص125". والخلاصة هذا الحديث لا يصح ألبتة مرفوعا، فذكر المصنف له على أنه حديث غير جيد، والله الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 فإذن، الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مُطْلَقٌ فِي الذَّوَاتِ1 وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَتَعَلُّقُهُمَا بِهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ذَاتٌ أَوْ صِفَةٌ أَوْ فِعْلٌ. وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي2 وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ -وَهِيَ غَيْرُ الْمَقْدُورَةِ [لِلْإِنْسَانِ إِذَا اتَّصَفَ بِهَا] 3- الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَمْ لَا يَصِحُّ؟ هَذَا يُتَصَوَّرُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ. [وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَا مَعًا بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ. أَمَّا هَذَا الْأَخِيرُ، فَيُؤْخَذُ النَّظَرُ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَطْبُوعَ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَهَا لَا يكلَّف بِإِزَالَتِهَا وَلَا بِجَلْبِهَا شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَمَا لَا يُكَلَّفُ بِهِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلتَّكْلِيفِ شَرْعًا، فالأوصاف المشار إليها لا   1 قرر ابن القيم في "الداء والدواء" "ص282، 292"، و"الفوائد" "ص182" أنه ليس من شيء يحب لذاته إلا الله وحده. 2 قوله: وأما النظر الثاني مقابل لقوله قبلُ في المسألة الرابعة، فأما النظر الأول، فإن ظاهر النقل ..... " إلخ وقد وجدت في النسخة الخطية هنا زيادات يتوقف الكلام عليها كما لا يخفى على من اطلع على النسخة المطبوعةن فأثبتها. ا. هـ مصححه "خ". 3 سقط من "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 ثَوَابَ عَلَيْهَا وَلَا عِقَابَ] 1 وَالثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَاتٌ2، أَوْ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، لَزِمَ فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُثَابًا عَلَيْهَا، كَانَتْ صِفَةً مَحْبُوبَةً أَوْ مَكْرُوهَةً شَرْعًا، وَمُعَاقَبًا عَلَيْهَا أَيْضًا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ مُتَعَلَّقَاتِهَا، فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمُتَعَلَّقَاتِ -وَهِيَ الْأَفْعَالُ وَالتُّرُوكُ- لَا عَلَيْهَا، فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَا يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَا يُعَاقَبُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ قَدْ ثَبَتَ تَعَلُّقُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ بِهَا، وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا نَفْسُ الْإِنْعَامِ أَوِ الِانْتِقَامِ، فَيَرْجِعَانِ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا إِرَادَةُ الْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ، فَيَرْجِعَانِ إِلَى صِفَاتِ الذَّاتِ لِأَنَّ نَفْسَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ الْمَفْهُومَيْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَقِيقَةً مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى3، وَهَذَا رَأْيُ طائفة   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 هناك ثالث، وهو أنه لا يتعلق بها من جهة كونها صفة فقط، ولا من جهة ما ينشأ عنها من الأفعال والتروك فقط؛ بل من جهة كونها صفة محبوبة أو مكروهة، فلا اجتماع للضدين كما سبق له في مثل "والله يحب المحسنين"، وحينئذ، فلا يتم هذا الدليل، وسيأتي له فيه كلام من جهة أخرى. "د". 3 الآيات والأحاديث طافحة بإضافة المحبة إلى الله، ولا مانع من اعتقاد أنها صفة غير الإرادة والإحسان والثناء، فنقول: إن لله حبا ليس من نوع الحب المضاف إلى المخلوق، كما أن علمه وإرادته ليسا من نوع علم المخلوق وإرادته. "خ". قلت: اعتقاد هذا هو الواجب، وانظر تعليقنا بعد الآتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 أُخْرَى، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ؛ فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ رَاجِعَانِ إِلَى نَفْسِ الْإِنْعَامِ أَوِ الِانْتِقَامِ، وَهُمَا عَيْنُ الثواب والعقاب1، فالأوصاف المذكورة -إذن- يتعلق بها الثواب والعقاب. والثاني: أن لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ لَا يَرْجِعَانِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَتَعَلُّقُهُمَا بِالصِّفَاتِ، إِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، أَوْ لَا: فَإِنِ اسْتَلْزَمَ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ، فَتَعَلُّقُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ إِمَّا لِلَذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ2، وَإِمَّا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، تَعَالَى أَنْ يَفْتَقِرَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَتَكَمَّلَ بِشَيْءٍ، بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذُو الْكَمَالِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَإِمَّا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ الْجَزَاءُ، لَا زَائِدَ3 يَرْجِعُ لِلْعَبْدِ إلا ذلك4.   1 قد يقال: إن الثواب والعقاب أخص من الإنعام والانتقام؛ لأن الأولين منظور فيهما إلى الدار الآخرة، إما الإنعام وما معه، فكما يكون في الآخرة يكون في الدنيا، فقد يحمل في هذه الموارد على الإحسان في الدنيا والنوازل فيها، فلا يتم الدل يل إلا إذا كانا عين الثواب والانتقام، وقد عرفت ما فيه. "د". 2 سبق دليله، وهو أن ما وجب للشيء وجب لمثله، إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "للذات هل ذات الصفة، فيكون عين شق الترديد السالف، أو ذات الشخص ذي الصفة فيأتي فيه نظير الدليل المقتضي للاستحالة، إلا أنه إذا كان الغرض هذا الأخير يقال: وهل الذات غير العبد الذي سيقول فيه: "إما للعبد"؟ فيجاب بأن العبد الذات المتصفة بصفة محبوبة أو مبغضة، فلا تأتي الاستحالة المشار إليها سابقا، إلا أنه حينئذ يكون هذا هو الاحتمال الثالث الذي تركه سابقا ونبهنا عليه. "د". 3 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "إذ لا يرجع ..... ". 4 كلام المصنف رحمه الله تعالى في صفتي الحب والبغض من التأويل المردود، وليس عن منهج السلف الصالح في إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته نبيه صلى الله عليه وسلم لربه؛ فإنه سبحانه نزه نفسه ثم أعقب ذلك بمدحه رسله؛ لأنه لا يصدر عنهم إلا ما يليق به جل جلاله، وذلك في قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} . ومن بين هذه الصفات التي وردت في الكتاب وصحيح السنة على وجه الإثبات الحب والبغض، وهي صفات الفعل لله عز وجل، نمرها كما جاءت من غير تأويل، وهي له سبحانه صفات = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 .........................................................   = حقيقية على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق، وهذا أوقع المصنف وغيره في حمأة التأويل الذي هو في حقيقته ضرب من ضروب التعطيل؛ لأنه نفى هذه الصفات بحجة أنها إرادة، فالحب عنده الإنعام أو إرادته، وقال غيره: إرادة الثواب والبغض والسخط والكراهة والغضب الانتقام أو إرادته، وقال غيره: إرادة العقاب، فإرجاع هذه الصفات إلى الإرادة أو إيقاع الفعل خطأ ظاهر، وخلاف مذهب السلف الصالح. قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح العقيدة الطحاوية" "524" معلقا على مقولة الطحاوي في "عقيدته" المشهورة المجمع عليها: "والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى" ما نصه: "ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضى، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات". ثم قال رحمه الله تعالى: "ص525-526": "ويقال لمن تأول الغضب والرضى بإرادة الإحسان: لما تأولت هذا؟ فلا بد أن يقول: إن الغضب غليان دم القلب، والرضى الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه الغضب. ويقال له: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا، فهي ميل الحي إلى الشيء، أو إلى ما يلائمه ويناسبه؛ فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينتقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك. فإن قال: الإرادة التي يوصف بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهماحقيقة؟ قيل له: فقل: إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة. فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات، لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض وتسلم أيضا من تعطيل أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دل عليه عقله، إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر". = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ......................................................................   = وهذا الذي ذكره ابن أبي العز الحنفي هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كثير من المناسبات فقد توجها رحمهما الله تعالى إلى من أول هذه الصفات بالنقد، وإليك بعضا من كلامهما. قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "3/ 17-18": " .... فإن كان المخاطب ممن يقول بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمعن بصير ببصر، متكلم بكلام، ويجعل ذلك حقيقة وينازع في محبته ورضاه، وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر. فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل. وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل له: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضى وغضب يليق به، وللمخلوق رضى وغضب يليق به. وإن قلتك الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق". وبنحوه في "المجموع" أيضا "6/ 119-120". وعرض ابن القيم شبه المأولة لهذه الصفات، وردها بحجج دامغة، فقال في "مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 23": فإن قلت: إن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب لورود ما يرد عليه. قيل لك: وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم، أو صفة عرضية قائمة به، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟! " انتهى. فهذا كلام متين قوي للغاية، وهو في مناقشة ما أورده من تأول هذه الصفات، فالحق وأهل= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 ......................................................................................   = الحق يثبتون هذه الصفات لله عز وجل على أنها صفات فعلية ذاتية حقيقية له سبحانه على ما يليق به، فلا تقتضي عندهم نقصا ولا تشبيها، كما أنهم يثبتون لازم تلك الصفات، وهي إرادته سبحانه الثواب والعقاب، ولكن لا يوجبان ذلك عليه، كما تقول المعتزلة، ولا يقولون بما قد يفهم من كلام المصنف وصرح به بعض أهل التعطيل من أن تفسير سخطه وكرهه بزعمهم ما يقعون فيه من البلايا والهلكة والضيق والشدة، وآية ذلك عندهم ما يتقلب فيه من هذه الحالات، وما أشبهها، وأن حبه ورضاه عكس ذلك، فهذه دعوى ما رأينا أبطل ولا أبعد من صحيح لغات العرب والعجم منها، ففيها: إذا كان أولياء الله المؤمنون من رسله وأنبيائه وسائر أوليائه في ضيق وشدة وعوز من المآكل والمشارب، وفي خوف وبلاء، كانوا على حسب هذه الدعوى في سخط من الله وغضب وعقاب، وإذا كان الكافر في خصب ودعة وأمن وعافية، واتسعت عليه دنياه من مآكل الحرام وشرب الخمور، كانوا في رضي من الله وفي محبة، ما رأينا تأويلا أبعد عن الحق من هذا التأويل، اللهم إنا نبرأ إليك منه، ونبرأ من كل ما يخالف منهج السلف في العقيدة والدعوة والعلم والعمل، ومن كل من يطعن فيه وفي أهله قديما وحديثا، والحاصل أن تأويل الحب والبغض الوارد عند المصنف بنفس الإنعام أو الانتقام، أو أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام مخالف لما عليه السلف الصالح، وفيه تعطيل لهاتين الصفتين، لأن معناه: إن الله تعالى لا يحب، وإنما محبته محبة طاعته وعبادته، وإرادته الإحسان إليهم، والذي دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى يحب ويُحَبُّ لذاته، وأما حب ثوابه، فدرجة نازلة كما قاله الطوفي، نقله، في "أقاويل الثقات" "77"، وفيه قوله أيضا: "وأول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم" وحكاه شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "2/ 354" عن الجعد أيضا، والصواب إثبات صفة المحبة والبغض اللتين تليقان بجلاله. وعظمته. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "2/ 354": "إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبت محبة الله لعباده المؤمنين له، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 195] ، وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 135] ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ....................................................................................   = إليه مما سواهما ..... ". قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، 1/ 60/ رقم 16"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، 1/ 66/ رقم 43" عن أنس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام". قلت: ليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبة عن مثل قول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 6040"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2637" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن الله عز وجل إذا أحب عبدا قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء: إن ربكم عز وجل يحب فلانا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغضه فمثل ذلك". إذن، فليس للتأويلات والمقولات المذكورة وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها فيها لازم صفتي الحب والبغض، وأنها تفسير لهما يلازمهما، فإن بعضها الآخر فيه باطل، كما قدمناه، ويعجبني بهذا الصدد ما قاله العلامة القاسمي رحمه الله تعالى في "محاسن التأويل" "6/ 253- 254": "مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها كما تقدم في الفاتحة في {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فتأويل مثل الزمخشري لها بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب، وتعظيمهم والثناء عليهم والرضا عنهم، تفسير باللازم منزع كلامي لا سلفي" انتهى. فالتأويل المذكور منزعه اعتزالي، ولذا تعقب ابن المنير الزمخشري بكلام طويل، ومما قال في "الانتصاف" "1/ 345- 346": "فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أنت مع من أحببت". فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. وانظر منه "4/ 9"، وهو بذيل"الكشاف" ط- دار المعرفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وَأَمْرٌ ثَالِثٌ1: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا وَهُوَ2 الْأَفْعَالُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ مَعَ الصِّفَاتِ مِثْلَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بدون تلك الصفات، أولا، فَإِنْ كَانَ الْجَزَاءُ مُتَفَاوِتًا، فَقَدْ صَارَ لِلصِّفَاتِ قِسْطٌ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ حِينَ صَاحَبَهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ مُسَاوِيًا لِفِعْلِ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِمَا وَإِنِ3 اسْتَوَيَا فِي الْفِعْلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَحْبُوبُ عِنْدَ اللَّهِ مُسَاوِيًا لِمَا لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ، وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ4، وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ لِلْوَصْفِ حَظًّا مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ [أَنَّ لَهُ] 5 حَظًّا مَا مِنَ الْجَزَاءِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الْجَزَاءِ، فَالْأَوْصَافُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَهَا مُجَازًى عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَا أردنا.   1 إنما جعله دليلا ثالثا مستقلا، ولم يبنه على مبنى الدليلين قبله، لأنه فيهما جارٍ على تعلق الحب والبغض بنفس الصفات، أما في هذا، فجعلهما متعلقين بتوابع هذه الصفات ولواحقها من الأفعال، ولذا غير الأسلوب ولم يقل من أول الأمر بثلاثة أمور. "د". 2 في "ط": "وهي". 3 الواو للحال، وإن زائدة. "د". 4 من أين هذا اللزوم؟ لا يلزم من مساواة المحبوب لغيره في حكم من الأحكام أن يكون ليس بمحبوب ولا العكس. "د". 5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، ولذا جاءت التي بعدها "حظ" بالرفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا مُشْكِلٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مَعَ التَّكْلِيفِ لَا يَتَلَازَمَانِ، فَقَدْ يَكُونُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى غَيْرِ الْمَقْدُورِ لِلْمُكَلَّفِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْلِيفُ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ بِالْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا1، عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَالثَّانِي كَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَمَنْ أَتَى عَرَّافًا، فَإِنَّهُ جَاءَ "أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا" 2، وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ صلاته إذا استكملت   1 إنك إذا قرأت آيات الكتاب العزيز، وجدت أن الثناء والوعد بالثواب في مواضع الابتلاء إنما هو على الصبر والتسليم لله والرضى، فعليك بتتبع الآيات الكثيرة في سورة البقرة وآل عمران والعنكبوت والأحزاب وغيرها، وكذا الأحاديث مثل: "إذا أحبّ الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" وعليه، فليست المصائب والنوازل هي المثاب عليها، بل هو ما يقارنها أو يعقبها من الصبر والرضا، ولا شك أن ذلك مقدور للمكلف ومطلوب منه، فلا يتم له ما أراده هنا، وبه يعلم أيضا ما في قوله: "علم بها أو لم يعلم"، فإنه إذا لم يعلم لا يتأتى منه الصبر والرضا الذي يكون به الثواب، وسيأتي تتميم لهذا الكلام قريبا. "د". قلت: وصرح العز بن عبد السلام في "القواعد الصغرى" "ص96" بما قاله المعلق: ونص عبارته: "لا أجر ولا وزر إلا على فعل مكتسب، فالمصائب لا أجر عليها لأنها غير مكتسبة، بل الأمر على الصبر عليها أو الرضى بها" ونحوه في "قواعد الأحكام" "1/ 115" له أيضا. 2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1751/ رقم 2230"، عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما" وأخرج النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب ذكر الرواية المبينة عن صلوات شارب الخمر، 8/ 314، وباب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات، 8/ 316، وباب توبة شارب الخمر، 8/ 317"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة"، باب من شرب الخمر لم تقبل له صلاة، 2/ 1120-1121/ رقم 3377"، وأحمد في "المسند" "2/ 176، 189، 197"، والدارمي في "السنن" "2/ 111"، والبزار في "مسنده" "رقم 2936- زوائده" والحاكم في المستدرك" 1/ 30-31 و 4/ 146" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "لا يشرب الخمر رجل من أمتي فيقبل الله منه صلاة أربعين يوما" وإسناده صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 أَرْكَانُهَا وَشُرُوطُهَا، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، وَإِذَا لَمْ يَتَلَازَمَا، لَا1 يَصِحُّ هَذَا الدَّلِيلُ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَدِ اعْتَرَضَهُ الدَّلِيلُ الثَّالِثُ الدَّالُّ عَلَى الْجَزَاءِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الْجَزَاءَ وَقَعَ على الفعل أَوِ التَّرْكِ إِنْ أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدًا كَمَا يَقَعُ دُونَ الْوَصْفِ، فَقَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعَ اقْتِرَانِ الْوَصْفِ، فَقَدْ صَارَ لِلْوَصْفِ2 أَثَرٌ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ3، وَذَلِكَ دَلِيلٌ دَالٌّ عَلَى صِحَّةِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ لَا عَلَى نَفْيِهِ. وَلِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى الثَّانِي فِي أَدِلَّتِهِ: [أَمَّا الْأَوَّلُ] 4، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ مَعْنَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، امْتَنَعَ5 أَنْ يَتَعَلَّقَا بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَهُوَ الصِّفَاتُ وَالذَّوَاتُ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَتَعَلَّقَا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ لِلْعَبْدِ غَيْرِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، وَذَلِكَ كَوْنُهُ اتَّصَفَ بِمَا هُوَ حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَمَّا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ الصِّفَاتِ، فَوُقُوعُهَا عَلَى حَسَبِهَا6 فِي الْكَمَالِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ الصَّنْعَةِ عَلَى كَمَالِ.   1 في الأصل، و"ط": "لم". 2 في الأصل: "الوصف". 3 في "ط": "أو العقاب". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط" و"خ". 5 تقدم رده بأنه لا تلازم بين الثواب والعقاب، وبين أن يكون المثاب عليه مقدورا عليه بل ولا معلوما. "د". 6 أي: فيلزم من زيادة قوة الصفة زيادة في الفعل حسنا وقبحا، فلا يتأتى الاختلاف في الصفات مع تساوي الأفعال، حتى يصح الدليل الثالث. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 الصانع وبالضد، فكذلك ههنا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْتَصُّ الثَّوَابُ بِالْأَفْعَالِ، وَيَكُونُ التَّفَاوُتُ رَاجِعًا إِلَى تَفَاوُتِهَا لَا إِلَى الصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّظَرَ يَتَجَاذَبُهُ الطَّرَفَانِ، وَيَحْتَمِلُ تَحْقِيقُهُ بَسْطًا أَوْسَعَ مِنْ هَذَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْمُكَلَّفِ، وَبَقِيَ النَّظَرُ فيما يدخل تحت مقدوره، لكنه شاق عليه، فَهَذَا مَوْضِعُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِذَا عَلِمْنَا مَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ نَفْيَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَنْ نَعْلَمَ مِنْهُ نَفْيَ التَّكْلِيفِ بِأَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ1 فِي الشَّرَائِعِ الأُوَل التَّكْلِيفُ بِالْمَشَاقِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ. [وَأَيْضًا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ] 2 قَدْ مَنَعَهُ جَمَاعَةٌ عُقَلَاءُ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ من الأشعرية وغيرهم3.   1 لو قال بدليل أنه ثبت .... إلخ، لكان أظهر، أي: وحيث إنه لا تلازم بين التكليف بالمشاق والتكليف بما لا يطاق إثباتا ولا نفيا، فلا يتأتى التلازم بين العلم في النفيين، إلا أن يقال: إنه لما كان راجعا إلى الشرائع السابقة لم يأخذه على صورة دليل، بل بصورة استئناس فقط، حتى كأنه مفرع على الدعوى، وجعل الثاني دليلا لأنه من نظر علماء هذه الشريعة. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 انعقد الإجماع على أنه لم يقع التكليف بما لا قدرة للمكلف عليه، وهو الممتنع لنفس مفهومه كالجمع بين الضدين، أو لاستحالة تعلق قدرة العبد به مع صحة وجوده في نفسه كخلق الجواهر، أو لمجرى العادة كالطيران في الهواء، وأما ما يكون في ذاته ممكنا عقلا وعادة وإنما يمتنع حيث سبق في علم الله أنه لا يقع، فلا نزاع في جواز التكليف به ووقوعه كإيمان كثير ممن بلغتهم الدعوة وماتوا وهو كافرون. "خ". قلت: اختار هذا الآمدي في "أحكامه" "1/ 192" ونقله عن الغزالي، واختاره صاحب "المنهاج" "1/ 172- مع الإبهاج"، وبه قال ابن دقيق العيد، انظر: "البحر المحيط" "1/ 220". وفصل هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "4/ 175-177، و 8/ 469 وما بعدها" وتلميذه ابن القيم في "بدائع الفوائد" "4/ 175-177" بما لا مزيد عليه، وكلام ابن القيم عليها مختصر قوي، وهو عبارة عن قواعد وضوابط, ولذا آثرت نقله بحرفه، قال رحمه الله تعالى: "الفعل بالنسبة إلى التكليف نوعان: أحدهما اتفق الناس على جوازه ووقوعه واختلفوا في = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 ....................................................................................   = نسبة إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق، والثاني: اتفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمر اتفق المسلمون على أنه لا يطاق وقالوا: إنه يكلف به العبد، ولا اتفق المسلمون على فعل كلف به العبد وأطلقوا القول عليه بأنه لا يطاق. وللمسألة ثلاثة مآخذ: أحدها: أن الاستطاعة مع الفعل أو قبله، والصواب أنها نوعان: نوع قبله وهو المصححة للتكليف التي هي شرط فيه، ونوع مقارن له، فليست شرطا في التكليف. المأخذ الثاني: أن تعلق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورا للعبد، فمن أخرجه عن كونه مقدورا قال الأمر به أمر بما لا يطاق، ومن لم يخرجه عن كونه مقدورا لم يطلق عليه ذلك، والصواب أنه لا يخرجه عن كونه مقدورا القدرة المصححة التي هي مناط التكليف وشرط فيه، وإن أخرجه عن كونه مقدورًا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له. المأخذ الثالث: أن ما تعلق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلفين نوعان: أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه، فهذا لا يكون ممكنا مقدورا ولا مكلفا به، الثاني: ما تعلق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له، فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان، ولا عن جواز الأمر به ووقوعه، ولهذا مأخذ رابع وهو من أدقها وأغمضها، وهو أن ما علم الله أنه لا يكون لعدم مشيئته له ولو شاء للعبد لفعله، هل يخرجه عدم مشيئة الرب تعالى له عن كونه مقدورا ويجعل الأمر به أمرا بما لا يطاق؟ والصواب أن عدم مشيئة الرب له لا يخرجه عن كونه ممكنا في نفسه، كما أن عدم مشيئته لما هو قادر عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل، لم يمكنه فعله، وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورا ويجعله محالا. فإن قيل: هو موقوف على مشيئة الله وهي غير مقدورة للعبد، والموقوف على غير المقدور غير مقدور، قيل: إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه، فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد عليه، فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له، فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته موقوفة على مشيئة الرب تعالى، كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته تعالى موقوفة على غيرها من صفاته، كعلمه، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ، فَذَلِكَ أَصْلُهُمْ1، بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ بِمَا يَشُقُّ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْفَاضِلَةِ. وَلَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْمَطْلُوبِ مِنَ النَّظَرِ فِي مَعْنَى "الْمَشَقَّةِ"، وَهِيَ فِي   = وحكمته، فالنزاع في هذا الأصل يتنوع إلى النظر إلى المأمور به وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدا أو ادعى جواز الأمر به مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي يظنها مما لا يطاق وقاس عليها النوع الذي اتفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتفق على أنه لا يطاق أو على جوازه، فقد أخطأ خطأ بيِّنًا، فإن من قاس الصحيح المتمكن من الفعل القادر عليه الذي لو أراده لفعله على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه، أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلق علم الرب تعالى بعدم وقوع الفعل منهما، فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلا وشرعا وحسنا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمور من جهة الرب تعالى ومنهي، وعند هؤلاء أن أوامره تكليف لما لا يطاق، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبور على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادر على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهي عنه، بل هو مجبور في باب النواهي مكلف ما بلا يطيقه في باب الأوامر، وبإزاء هؤلاء القدرية الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقف على مشيئة الله ولا هو مقدور له سبحانه وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، وبتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنا وكافرا وبرا وفاجرا ومطيعا وعاصيا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها، وقول هؤلاء شر من قول أولئك من وجه، وقول أولئك شر من قول هؤلاء من وجه، وكلاهما ناكب عن الحق حائد عن الصراط المستقيم". 1 لأنهم يشترطون في الأمر الإرادة، فلما اشترطوا كون الأمر مريدا لوقوع ما أمر به، استحال عندهم تكليف المستحيل وما لا يطاق؛ لأن الله إذا أمر بإيقاع أمر مستحيل، فلا شك أنه سبحانه عالم بأنه لا يقع، ومن أصلهم: أن الآمر يريد وقوع ما أمر به، والجمع بين العلم بعدم وقوعه وإرادته بأن يقع متنافٍ، وكذلك قولهم: إن القدرة قبل الفعل، وتقدم بيان ذلك في كلام ابن القيم، وهذا مراد المصنف بقوله: "فذلك أصلهم". انظر "سلاسل الذهب" "137"، و"البحر المحيط" "1/ 219" للزركشي، و"المعتمد" "1/ 150، 177". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 أَصْلِ اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِكَ: شَقَّ عَلَيَّ الشَّيْءُ [يَشُقُّ] شَقًّا وَمَشَقَّةً إِذَا أَتْعَبَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النَّحْلِ: 7] . وَالشِّقُّ هُوَ الِاسْمُ مِنَ الْمَشَقَّةِ1، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا أُخِذَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، اقْتَضَى أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ، فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ يُسَمَّى مَشَقَّةً، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَطَلُّبُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِحَمْلِهِ موقعا في عناء وتعب لا يجدي، كالمعقد إِذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَالْإِنْسَانِ إِذَا تَكَلَّفَ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَحِينَ اجْتَمَعَ مَعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الشَّاقِّ الْحِمْلِ إِذَا تَحَمَّلَ في نفسه الْمَشَقَّةِ، سُمِّيَ الْعَمَلُ شَاقًّا وَالتَّعَبُ فِي تَكَلُّفِ2 حَمْلِهِ مَشَقَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى النُّفُوسِ3 فِي تَصَرُّفِهَا، وَيُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ. إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَانِ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَوُجِدَتْ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الرُّخَصُ الْمَشْهُورَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، كَالصَّوْمِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، وَمَا أشبه ذلك. والثاني: أن لا تَكُونَ مُخْتَصَّةً، وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى كُلِّيَّاتِ الْأَعْمَالِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا، صَارَتْ شَاقَّةً، وَلَحِقَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامِلَ بِهَا وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِلِ وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا، إِلَّا أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ   1 انظر مادة "ش ق" من "اللسان" و"النهاية" "2/ 491" لابن الأثير. 2 في "ط": "تطلب". 3 في "ط": "النفس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 يُتْعِبُهُ، حَتَّى يَحْصُلَ لِلنَّفْسِ بِسَبَبِهِ مَا يَحْصُلُ لَهَا بِالْعَمَلِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ الرِّفْقُ وَالْأَخْذُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا لَا يحصِّل مَلَلًا، حسبما نَبَّهَ عَلَيْهِ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْوِصَالِ1، وَعَنِ التَّنَطُّعِ2 وَالتَّكَلُّفِ3، وَقَالَ: "خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا" 4. وَقَوْلُهُ: "الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغوا" 5. وَالْأَخْبَارُ هُنَا كَثِيرَةٌ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا مَوْضِعٌ آخَرُ6، فَهَذِهِ مَشَقَّةٌ نَاشِئَةٌ مَنْ أَمْرٍ كُلِّيٍّ، وَفِي الضَّرْبِ الأول ناشئة من أمر جزئي.   1 كما سيأتي "ص239". 2 كما سيأتي "ص228". 3 كما مضى "ص/ 45، 257". 4 سيأتي تخريجه في "ص405، وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما. 5 جزء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لن ينجي أحدا منكم عمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرَوِّحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقصد القصد تبلغوا". أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 6463 -واللفظ له- رقم 5673"، ومسلم في "الصحيح" "17/ 159-160 / شرح النووي"، وابن ماجه في السنن" "4201"، وأحمد في "المسند" "2/ 235، 256، 264، 319، 326، 343، 344، 385-386، 390، 451-452، 466، 469، 473، 488، 495، 503، 509، 514، 519، 524، 537"، وفي "الزهد" "475"، والطيالسي في المسند" "2322"، وابن حبان في "الصحيح" "348، 350، 660"، وعبد الرزاق في "المصنف" "20562"، والبزار كما في "كشف الأستار" "3448"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 377"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 129 و8 / 379"، والبغوي في "شرح السنة" "4192، 4193، 4194". وقد شرحه ابن رجب في جزء مفرد مطبوع، عنوانه "المحجة في سير الدلجة". 6 انظرها فيما يأتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْلَ التَّكْلِيفِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ "التَّكْلِيفِ"، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: "كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا" إِذَا حَمَّلْتَهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وأمرته به، و"تكلفت الشَّيْءَ" إِذَا تَحَمَّلْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَحُمِّلْتُ الشَّيْءَ تَكَلَّفْتَهُ إِذَا لَمْ تُطِقْهُ إِلَّا تَكَلُّفًا، فَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْمَقَالِيدِ1، وَدُخُولٌ فِي أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَا يَلْزَمُ2 عَمَّا قَبْلَهُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِخْرَاجٌ لِلْمُكَلَّفِ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى شَاقَّةٌ عَلَى صَاحِبِ الْهَوَى مُطْلَقًا، وَيَلْحَقُ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِهَا تَعَبٌ وَعَنَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجَهٍ مِنْ حَيْثُ النطر إِلَى الْمَشَقَّةِ فِي نَفْسِهَا، انْتَظَمَتْ فِي أَرْبَعَةٍ3: فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَخَلَّصَ فِي الْأُصُولِ، وَتَقَدَّمَ ما يتعلق به. وأما الثاني: وهي:   1 المقاليد: الخزائن والمفاتيح، انظر "اللسان" "مادة ق ل د 3/ 366". 2 المراد قد ينشأ عنه، لا أنه لا ينفك عنه، وإلا؛ لكان الأول يتعين فيه أن يلحق الإنسان فيه تعب ومشقة، كما قال هنا؛ وفي المسألة الثامنة في شرح الرابع، وهو يخالف قوله في الثالث: "ليس فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عن المعتاد". "د". 3 أي: لأنه أدرج اثنين منها تحت الثاني، حيث جعله ضربين. "د". قلت: نحو المذكور عند المصنف -مع اختلاف في العرض والعد وتشابه في المضمون- تراه في "قواعد الأحكام" "2/ 7، 8"، و"شرح الفروق" "1/ 119" لابن الشاط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التكاليف بالمشاق الْإِعْنَاتَ1 فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ2: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 157] . وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} .... الآية [البقرة: 286] . وَفِي3 الْحَدِيثِ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْتُ" 4. وَجَاءَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .   1 هكذا في "خ"، وفي الأصل و"ط": "بالمشاق والإعنات"، وفي "د" مثله، إلا أنه قال "بالشاق". وفي "ماء / ص166": "بالمشاق الإعنات فيه ولا في أموره". 2 انظر المسألة وبسطها مع أدلتها في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "14/ 102-104، 108-109، 137-139"، و"إعلام الموقعين" "1/ 268"، و"روضة المحبين" "181". 3 هو تمام الدليل؛ لأن الآية دعاء بذلك، والحديث فيه الإجابة. "د". 4 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق 1/ 116/ رقم 126" والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5/ 221- 222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "210/ 211"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص67-68"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 458/ رقم 5069" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] . {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] . {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ... الآية [المائدة: 6] 1. وَفِي الْحَدِيثِ: "بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" 2. "وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يكن إثما"3.   1 الدليل في صدر الآية، وكذا فيما بعد الاستدراك، فلذا قال: "الآية". "د". 2 أخرجه أبو بكر بن سلمان الفقيه في "مجلس من الأمالي" "16/ 1"، والخطيب في "التاريخ" "7/ 209"، وابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد "18/ 5" عن جابر مرفوعا بإسناد ضعيف، فيه مسلم بن عبد ربه، ضعفه الأزدي، وضعف إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 149"، ولكن قال العلائي؛ كما في "فيض القدير": "مسلم؛ ضعفه الأزدي، ولم أجد أحدا وثقه، ولكن له طرق ثلاث، ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن". قلت: أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 192" عن حبيب بن أبي ثابت مرفوعا، وهو مرسل. وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 204" عن أبي أمامة مرفوعا: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكن بعثت بالحنيفية السمحاء"، وإسناده ضعيف. وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 116، 233"، عن عائشة، وفي آخره: "إني أرسلت بحنيفية سمحة" وسنده حسن، وحسنه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 43" وفيه: "وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"، ونحوه في "هدى الساري" "ص120". وقد خرجت بعضها في تحقيقي لرسالة السخاوي: "الجواب الذي انضبط عن لا تكن حلوا فتسترط" "ص44-46". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/ 524/ رقم 6126 = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وَإِنَّمَا قَالَ: "مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا"؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِثْمِ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ مُجَرَّدَ تَرْكٍ1، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ كَانَ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ لَمَا كَانَ مُرِيدًا لِلْيُسْرِ وَلَا لِلتَّخْفِيفِ، وَلَكَانَ مُرِيدًا لِلْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَمِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ضَرُورَةٌ، كَرُخَصِ الْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ في الاضطرار، فإن هذا نمط يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّسَبُّبِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ، لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ2 وَلَا تَخْفِيفٌ. وَالثَّالِثُ: الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ وُجُودًا فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، و3 لو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض.   = وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزيز والأدب 12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام 4/ 1813/ رقم 2327"، ومالك في "الموطأ" "2/ 902-903"، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" "رقم 270"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب التجاوز في الأمر 4/ 250/ رقم 4785"، وابن أبي داود في "مسند عائشة" "رقم 15، 92"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه" "35، 36" من حديث عاشئة رضي الله عنها. وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقولها: "ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه" ينادي بأن المراد التخيير بين أمرين من أمور الدنيا، وأن المخير له غير الله من المخلوقين؛ إذ لا يصح أن يقع من الله تخيير بين إثم وغيره". 1 هذا لا يخص ترك الإثم، بل يجري في كل ترك لما فيه من الحيثية المذكورة، وبالجملة، فقوله: "وإنما قال ..... إلخ" غير ظاهر. "د". 2 أي: في الضرب الأول، وقوله: "ولا تخفيف"، أي: في الضرب الثاني. "د". 3 في الحقيقة هو دليل رابع، فلو قال: "والرابع" أو "وأيضا" مثلا، لكان أظهر "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وَالِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَصْدِ الْإِعْنَاتِ وَالْمَشَقَّةِ -وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ- كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا وَاخْتِلَافًا، وَهِيَ مُنَزَّهَةٌ على ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهِيَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَإِنَّهُ لَا يُنَازَعُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَا، وَلَكِنْ لَا تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً، كَمَا لَا يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ1 وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ مُعْتَادٌ لَا يُقْطَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، بَلْ أَهْلُ الْعُقُولِ وَأَرْبَابُ الْعَادَاتِ يَعُدُّونَ الْمُنْقَطِعَ عَنْهُ كَسْلَانَ، وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَادُ فِي التَّكَالِيفِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ مَشَقَّةً عَادَةً، [وَالَّتِي تُعَدُّ مَشَقَّةً] 2، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ يُؤَدِّي الدوامُ عَلَيْهِ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنْهُ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، أَوْ إِلَى3 وُقُوعِ خَلَلٍ فِي صَاحِبِهِ، فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَالْمَشَقَّةُ هُنَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، فَلَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً، وَإِنَّ سُمِّيَتْ كُلْفَةً، فَأَحْوَالُ الْإِنْسَانِ كُلُّهَا كُلْفَةٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَكِنْ جُعِلَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهَا بِحَيْثُ تَكُونُ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ تَحْتَ قَهْرِهِ، لَا أَنْ يَكُونَ هُوَ تَحْتَ قَهْرِ التَّصَرُّفَاتِ، فَكَذَلِكَ التَّكَالِيفُ؛ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ التَّكْلِيفُ وَمَا تَضَمَّنَ من المشقة4.   1 أي: باتخاذ الحرفة والصنعة. 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ومن نسخة "ماء/ ص 167". 3 في النسخ المطبوعة: "وإلى". 4 صفوة ما حرره القرافي في هذا الصدد من الفرق "الرابع عشر" أن المشاق قسمان: قسم لا تنفك عنه العبادة، كالوضوء في البرد، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنه قرر معها، ثانيهما: المشاق التي تنفك العبادة عنها، وهي ثلاثة أنواع متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف، ومتفق على عدم اعتباره لكونه ضعيفا، ومختلف فيه لتجاذب الطرفين له، والضابط في المشاق المؤثرة يرجع إلى اجتهاد الفقيه، وهو لا يكاد يصيب الحقيقة إلا أن ينظر إلى مقام العبادة وأهميتها في نفسها، ثم إلى مقدار التعب والضرر الذي يلحق المكلف من الدخول فيها. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَمَا تَضَمَّنَ التَّكْلِيفُ الثَّابِتُ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُعْتَادَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الطَّلَبِ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ1 فِي الْمَسَالَةِ قَبْلَ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى الْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ، لِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَفْسَ تَسْمِيَتِهِ تَكْلِيفًا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، إِذْ حَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] مَعْنَاهُ: لَا يَطْلُبُهُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُ بِمَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ عَادَةً، فَقَدْ ثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِمَا هُوَ مَشَقَّةٌ، فَقَصْدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَسْتَلْزِمُ بِلَا بُدٍّ طَلَبَ الْمَشَقَّةِ، وَالطَّلَبُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَشَقَّةٌ، لِتَسْمِيَةِ الشَّرْعِ لَهُ تَكْلِيفًا2، فَهِيَ إذن مقصودة له، وعلى هذا النحو   1 ما تقدم في المسألة كانت الأدلة فيه على عدم قصد المشقة الخارجة عن المعتاد، وهي ما فيها الرخص وما طلب فيها التخفيف، أما هنا، فالمشقة هي المعتادة، وإذا كان الموضوع مختلفا، فالأدلة لأحدهما لا يلزم أن تكون أدلة للآخر، وإن اتحدا في عنوان المشقة، فعليك بتتبعها تجد أن بعض الآيات يصلح دليلا، وكان الدليل الأخير الذي يؤخذ من قوله: "ولو كان .... إلخ"، فإنه يؤخذ منه أنه لا يقصد المشقة لكونها مشقة مطلقا، كانت من القسم الثاني أو الثالث، لئلا يلزم التناقض مع قصده الرفق والتيسير، ولكن سيأتي في المسألة الحادية عشرة أنه كما لا يقصد حصول المشقة المعتادة، كذلك لا يقصد رفعها، وهو لا يوافق هذا الدليل الأخير بالطريق الذي قررناه، فلا يبقى إلا بعض الآيات. "د". قلت: انظر في المسألة وأدلتها: "قواعد الأحكام" "1/ 25، 29" للعز بن عبد السلام، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "ص173 وما بعدها" ليعقوب الباحسين. 2 استقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى هذه الكلمة في الكتاب والسنة، وأفادا أنه لم يأت فيهما تسمية أوامر الله وشرائعه "تكليفا"، بل سماها روحا ونورا ..... وإنما جاء ذلك في جانب النفي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وهذا الإطلاق إثبات لا يعرف أيضا في لسان السلف، وإنما جاء من لدن كثير من المتكلمة والمتفقهة، والله أعلم. انظر: "مجموع الفتاوى" "1/ 25-26"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 32"، و"معجم" المناهي اللفظية" "ص129 للشيخ بكر أبو زيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 يَتَنَزَّلُ1 قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] وَأَشْبَاهُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّارِعَ عَالِمٌ بِمَا كَلَّفَ بِهِ وَبِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّكْلِيفِ يَسْتَلْزِمُ الْمَشَقَّةَ، فَالشَّارِعُ عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك، فإذن يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ طَالِبًا لِلْمَشَقَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى السَّبَبِ عَالِمًا بِمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ قَاصِدٌ لِلْمُسَبِّبِ، وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هذه المسألة في كتاب الأحكام، فاقضتى أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلْمَشَقَّةِ هُنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ثَوَابِ التَّكْلِيفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 120] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [الْعَنْكَبُوتِ: 69] . وَمَا جَاءَ فِي "كَثْرَةِ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ" 2 "وَأَنَّ أعظمهم أجرا أبعدهم دارا"3.   1 أي: فهذا أحد الأدلة المتقدمة. التي قلت: إنها تجري هنا- لا يدل، لأنه محمول على مشقة وحرج غير موضوع الدعوى هنا، إلا أنه لم يذكر بقية الآيات لما عرفت من أم مثل {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} تدل على دعواه هنا في قوله: وإذا تقرر هذا ..... إلخ وبضميمة أن يكون متناقضا لو قصد المشقة مطلقا ولو معتادة على ما تقدم. "د". 2 قطعة من حديث في "الصحيحين" سيأتي لفظه قريبا. 3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، 2/ 137/ رقم 651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وَمَا جَاءَ فِي "إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ" 1. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 216] الْآيَةَ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الْقِتَالِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ، حَتَّى قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} [التَّوْبَةِ: 111] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ -مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ- مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى معتادة التكليف، دل على أنها مقصودة لَهُ، وَإِلَّا، فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يُكَلِّفْ بها، فأوقعها المكلف باختياره حسبما هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمُبَاحِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ لِطَلَبِ الْمَشَقَّةِ بِالتَّكْلِيفِ؛ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِذَا وُجِّه عَلَى الْمُكَلَّفِ يُمْكِنُ الْقَصْدُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشَقَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا.   1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره 1/ 219/ رقم 251" عن أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 فَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالْعَمَلِ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا نَاطِقَةٌ1 بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَالْقَصْدَانِ لَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَإِنَّ الطَّبِيبَ يَقْصِدُ بِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ الْبَشِعِ، وَالْإِيلَامِ بِفَصْدِ الْعُرُوقِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْمُتَأَكِّلَةِ، نَفْعَ الْمَرِيضِ لَا إِيلَامَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ حُصُولِ2 الْإِيلَامِ، فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى مَصَالِحِ الْخَلْقِ بِالتَّكْلِيفِ، فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ بِالتَّكْلِيفِ الْمَصَالِحَ عَلَى الْجُمْلَةِ3، فَالنِّزَاعُ فِي قَصْدِهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَكْلِيفًا بِاعْتِبَارِ مَا يَلْزَمُهُ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاسْتِعْمَالِ غَيْرَ مَقْصُودٍ حسبما هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا بَلْ عَلَى حَقِيقَةِ الوضع اللغوي4.   1 مكانها بياض في الأصل. 2 في الأصل: "محصول". 3 ذكر هذا الإجماع أيضا الآمدي في "الإحكام" "3/ 380، 411"، وابن الحاجب في "منتهى الوصول" "ص184"، ونقل الدهلوي في "حجة الله البالغة" "1/ 6" إجماع السلف عليه، وهذا ما تبناه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 196-200"، ودافع عنه بقوة، ومما قال في "مفتاح السعادة" "2/ 22": "والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مئة موضع أو مئتين، لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"، وانتقد ابن السبكي في "الإبهاج" "3/ 62" الإجماع المذكور. 4 فاللفظ موضوع له وضعا أوليا، بدون ملاحظة علاقة، ولا توقف على قرينة، فيكون حقيقة لا مجازا. "د". قلت: انظر ما قدمناه قريبا عن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا الخصوص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْعِلْمَ بِوُقُوعِ الْمُسَبَّبُ عن السبب -وإن ثبت أنه يقوم1 الْقَصْدِ إِلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ- فَإِنَّمَا هُوَ جارٍ مَجْرَى الْقَصْدِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ أَعْنِي: فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ بِالتَّسَبُّبِ متعدٍّ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ قَاصِدٌ لِلْمَفْسَدَةِ الْوَاقِعَةِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَاهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، وَإِذَا2 كَانَ غَيْرَ قَاصِدٍ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ هُنَا فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إِذْ هُوَ قَاصِدٌ نَفْسَ الْمَصْلَحَةِ لَا مَا يَلْزَمُ فِي طَرِيقِهَا مِنْ بَعْضِ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَيْضًا، لَوْ لَزِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ قَصْدُهُ إِلَى إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ شَرْعًا، لَزِمَ بُطْلَانُ مَا تَقَدَّمَ الْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْمَصَالِحِ لَا لِلْمَفَاسِدِ، وَلَزِمَ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ3 وَإِيقَاعِهَا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ بَاطِلٌ عَقْلًا وَسَمْعًا. وَأَيْضًا؛ فَلَا يَمْتَنِعُ قَصْدُ الطَّبِيبِ لِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ المتآكلة، وقلع الأضراس الوجعة، وبط الجراحات [الواجعة] 4، وَأَنْ يَحْمِيَ الْمَرِيضَ مَا يَشْتَهِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِذَايَةُ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هو5   1 أي: فقد يكون عالما بالمسبب ولا يقصده، وإنما يقصد نفع نفسه فقط بقطع النظر عن كونه يلزمه التعدي على الغير بمفسدة تلحقه، ولكن الشارع في هذه الحالة يجعله كأنه قاصد له، ويلزمه نتيجة التعدي على الغير، ويقيم علمه بوقوع المسبب مقام القصد إليه، فالشارع هنا أيضا، وإن كان عالما بالمفسدة التي تكون في طريق المصلحة، لكنه لا يقصدها". "د". 2 في الأصل: "وإن". 3 أي: بأدلة قصده التخفيف واليسر ونحو ذلك، وقوله: "وإيقاعها"، أي: بمقتضى هذا الاعتراض الثاني. "د". 4 ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط". 5 في الأصل: "هي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الْمَصْلَحَةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَأَشَدُّ1 فِي الْمُرَاعَاةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِيذَاءِ الَّتِي هِيَ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ، وَهَذَا شَأْنُ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَلَى وَجْهٍ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَصْلَحَةُ، فَالتَّكْلِيفُ أَبَدًا جارٍ عَلَى هَذَا الْمَهْيَعِ، فَقَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ يُنْهَى عَنْهَا، فَإِذَا أَمَرَ بِمَا تَلْزَمُ عَنْهُ فَلَمْ يَقْصِدْهَا، إِذْ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لَهَا لَمَا نَهَى عَنْهَا، وَمِنْ هُنَا لَا يُسَمَّى مَا يَلْزَمُ عَنِ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّاتِ مَشَقَّةً عَادَةً. وَتَحْصِيلُهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُعْتَادَاتِ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَا يَلْزَمُ عَنِ التَّكْلِيفِ2 لَا يُسَمَّى مَشَقَّةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهَا يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهَا أَوِ الْقَصْدَ إِلَيْهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الثَّوَابَ حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا لُزُومًا عَنْ مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ، وَبِهَا حَصَلَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كالمقصودة، لَا أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ مُطْلَقًا، فَرَتَّبَ الشَّارِعُ فِي مُقَابَلَتِهَا أَجْرًا زَائِدًا عَلَى أَجْرِ إِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّصَب مَطْلُوبٌ أَصْلًا3، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْمَشَقَّاتِ وَإِنْ لَمْ تَتَسَبَّبْ عَنِ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ، كَمَا يُؤَجَرُ4 الْإِنْسَانُ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِسَبَبِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَشَقَّاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَب وَلَا نَصَب وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَن حَتَّى الشَّوْكَةٍ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" 5 وَمَا أشبه ذلك.   1 في "ط": "أعظم وآكد". 2 في ط: "التكاليف". 3 انظر كلاما قويا حول هذا في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 621-623". 4 التكفير صريح الحديث، لكن من أين الأجر على مجرد ما يلحقه بدون عمل له كالصبر؟ "د". 5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، 10 = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وَأَيْضًا، فَالْمُبَاحُ إِذَا عُلِم أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ مَمْنُوعٌ لَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ كَالْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْمَمْنُوعِ، وَكَذَلِكَ يُتَّفَقُ عَلَى مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْمَمْنُوعِ اللَّازِمِ عَنِ الْمُبَاحِ، وَيَخْتَلِفُونَ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.   = 103/ رقم 5640، 5641، 5642"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك 4/ 1992/ رقم 2572" عن عائشة بلفظ مقارب. وأخرجه مسلم في"صحيحه" "رقم 2573" عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما. قال في "فتح الباري" "10/ 105/ رقم 5640" في شرح هذا الحديث: "وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/29"، حيث قال: "ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح، فإن الثواب والعقاب إنما هو بالكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا، ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، أما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليها زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي: المصائب كفارات جزما، سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير، وإلا قلَّ. كذا قال؛ والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك" "انتهى كلام ابن حجر*. قال "د" عقبه: "أقول: ولعل هذا التحقيق في كلام القرافي جمع بين القولين فالتكفير غير الثواب والجزاء، فلا مانع أن يكون "لا" في مقابلة عمل من المكلَّف، أما الأجر والثواب، فالمعقول ومغزى الآيات القرآنية أنه متعلق بالصبر والرضا والتسليم، وهذا التحقيق لا ينافي كلام العز؛ لأنه لا ينفي التكفير، وإنما نفى الأجر، وهو وجيه". وقال "خ": هذا مذهب بعض أهل العلم أخذا بالظاهر من هذا الحديث وما شاكله، وذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "القواعد" إلى أن المصائب والآلام لا ثواب عليها، وإنما الثواب على الصبر عليها، إذ هو الذي يدخل تحت كسب الإنسان".   * وله في "الفتح" "10/ 110" كلام متين في هذا الباب ينبغي أن يُراجَع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 فَصْلٌ: وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْصِدَهَا فِي التَّكْلِيفِ نَظَرًا إِلَى عِظَمِ أَجْرِهَا1، وَلَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْظُمُ أَجْرُهُ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلٌ. أَمَّا هَذَا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ شَأْنُ التَّكْلِيفِ فِي الْعَمَلِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ نَفْسَ الْعَمَلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَذَلِكَ هُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ بِوَضْعِ التَّكْلِيفِ بِهِ، [وَمَا جَاءَ] 2 عَلَى مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يُذْكَرُ3 فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا يَصْلُحُ مِنْهَا إِلَّا مَا وَافَقَ قَصْدَ الشَّارِعِ، فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِيقَاعَ الْمَشَقَّةِ، فَقَدْ خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ4 لَا يَقْصِدُ بِالتَّكْلِيفِ نَفْسَ الْمَشَقَّةِ، وَكُلُّ قَصْدٍ يُخَالِفُ قَصْدَ الشَّارِعِ باطل، فالقصد إلى المشقة باطل5، فهو إذن مِنْ قَبِيلِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَمَا يُنْهَى عَنْهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، بَلْ فِيهِ الْإِثْمُ إِنِ ارْتَفَعَ النَّهْيُ عَنْهُ إِلَى دَرَجَةِ التَّحْرِيمِ، فَطَلَبُ الْأَجْرِ بِقَصْدِ الدُّخُولِ فِي الْمَشَقَّةِ قَصْدٌ مناقض.   1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "10/ 620": "قول بعض الناس: "الثواب على قدر المشقة" ليس بمستقيم على الإطلاق"؛ ثم فصل في ذلك، وانظر أيضا في رد عموم هذه القاعدة: "رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" "ص171 وما بعدها". 2 ساقط من الأصل و"خ" و"ط"، واستظهر ناسخ الأصل كلمة الإتيان وهو قريب كما ترى. 3 في "ط": "سيذكر". 4 في الأصل: "إذ الشارع". 5 انظر في هذا: "الاعتصام" للمصنف "1/ 341". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ1، قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب المسجد، فبلغ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ". قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. فَقَالَ: "بَنِي سَلِمَةَ! دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ! ". وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالُوا: مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا2. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَتْ دِيَارُنَا نَائِيَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً" 3. وَفِي "رَقَائِقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ" عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ مَرْفُوعٍ شِرَاعُهَا، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: "يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ! قِفُوا" سَبْعَ مِرَارٍ، فَقُلْنَا: أَلَا تَرَى عَلَى أَيِّ حَالٍ نَحْنُ؟ ثُمَّ قَالَ فِي السَّابِعَةِ: "لَقَضَاءٌ قَضَاهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَطَّشَ لِلَّهِ نَفْسَهُ فِي يَوْمٍ [حَارٍّ] مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا شَدِيدِ الْحَرِّ، كَانَ [حَقًّا] عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرْوِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَكَانَ أَبُو مُوسَى يَتَتَبَّعُ اليوم المعمعاني الشديد.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد 1/ 462/ رقم 665 بعد 280" عن جابر، وأخرجه البخاري عن أنس مختصرا، وسيأتي. 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، "1/ 462/ رقم 665 بعد 281" عن جابر. 3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 461/ رقم 464" عن جابر رضي الله عنه. قلت: وفي الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها: "فنتقرب" وما أثبتناه من "صحيح مسلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 الْحَرِّ فَيَصُومُهُ1. وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الْمُكَلَّفِ إِلَى التَّشْدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ صَحِيحٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَحَبُّوا الِانْتِقَالَ أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالثُّبُوتِ لِأَجْلِ عِظَمِ الْأَجْرِ بِكَثْرَةِ الْخُطَا، فَكَانُوا كَرَجُلٍ لَهُ طَرِيقَانِ إِلَى الْعَمَلِ: أَحَدُهُمَا سَهْلٌ، وَالْآخَرُ صَعْبٌ، فأُمِرَ بِالصَّعْبِ ووُعِدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَجْرِ، بَلْ جَاءَ نَهْيُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِرْشَادًا إِلَى كَثْرَةِ الْأَجْرِ. وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ رَكِبُوا فِي التَّعَبُّدِ إِلَى رَبِّهِمْ أَعْلَى مَا بَلَغَتْهُ طَاقَتُهُمْ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَصْلِهِمُ الْأَخْذُ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ، وَتَرْكِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. وَفِي "الصَّحِيحِ" أَيْضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَتَوَجَّعْنَا لَهُ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا فُلَانُ! لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَيَقِيكَ مِنْ هوام الأرض؟ فقال: أم وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطْنَبٌ بِبَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَحَمَلْتُ بِهِ2 حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَدَعَاهُ، فَقَالَ له مثل   1 أخرجه ابن المبارك في الزهد" "رقم 1309 وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 260"، وابن أبي الدنيا في "الهواتف" "رقم 13"، وابن شاهين في "فضائل الأعمال" "رقم 133" بسند حسن، وحسنه شيخنا الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 975". وأخرج البزار في "مسنده" "1/ 488/ رقم 1039- زوائده" من وجه آخر عن ابن عباس، وحسنه شيخنا أيضا في "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 974". وفي إسناد ابن شاهين عبد الله بن المؤمل المخزومي، وهو ضعيف. قلت: وما بين المعقوفتين في الموطن الأول ساقط من "د"، وفي الموطن الأخير ساقط من الأصل. 2 في "ط": "به حملا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَرْجُو لَهُ فِي أَثَرِهِ الأجر. فقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ مَا احْتَسَبْتَ" 1. فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: أَوَّلًا: إِنَّ هذه أخبار آحاد في قصية وَاحِدَةٍ2 لَا يَنْتَظِمُ مِنْهَا اسْتِقْرَاءٌ قَطْعِيٌّ، وَالظَّنِّيَّاتُ لَا تُعَارِضُ الْقَطْعِيَّاتِ، فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْقَطْعِيَّاتِ. وَثَانِيًا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى قَصْدِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَدْ جَاءَ فِي "الْبُخَارِيِّ" مَا يُفَسِّرُهُ، فَإِنَّهُ زَادَ فِيهِ: "وَكَرِهَ أَنْ تُعَرَّى الْمَدِينَةُ قِبَلَ ذَلِكَ، لِئَلَّا تَخْلُوَ نَاحِيَتُهُمْ مِنْ حِرَاسَتِهَا". وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا نَازِلًا بِالْعَقِيقِ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقِيلَ لَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ الْعَقِيقَ3: لِمَ تَنْزِلُ الْعَقِيقَ فَإِنَّهُ يَشُقُّ بُعْدُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّهُ وَيَأْتِيهِ4، وَأَنَّ بَعْضَ الأنصار   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 460/ رقم 663" عن أبي بن كعب رضي الله عنه. 2 هي البعد عن المسجد والمشقة في التردد إليه من المساكن البعيدة، وهذه القضية الواحدة هي التي وردت فيها أحاديث الآحاد، أما ما بقي من نقل ابن المبارك وعمل أصحاب الأحوال، فسيأتي الجواب عنه. "د". 3 إن كان العقيق هو مساكن بني سلمة، فلا مانع أن يكون للمحل فضيلة يفسرها الحديث بقوله: "وكره أن تعرى المدينة" فكان موضع رباط يثاب المرء على قصد وجوده فيه من هذه الوجهة، فلا تنافي بين فهم مالك وما يؤخذ من بقية الحديث لتفسيره، وإن كانت مساكنهم في غير العقيق، وأن مالكا إنما يتكلم عن أنصار غيرهم، وحادثة غير حادثتهم، فالأمر ظاهر، وسنزيدك بيانا. "د". 4 أخرج ابن شبَّة في"تاريخ المدينة" "1/ 147/ 148"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 195" والطبراني في "الكبير" "7/ 6/ رقم 6222"، والبيهقي في "المعرفة" "2/ 367- 368" عن سلمة بن الأكوع في حديث في آخره: "إني أحب العقيق". وإسناده ضعيف، فيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، واختلف عليه فيه وقال البيهقي: "وأما حديث موسى بن محمد بن إبراهيم، فهو حديث ضعيف، تفرد به موسى بن محمد، وكان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: لا يكتب حديثه، وكذلك غيره من الأئمة قد أنكرواعليه ما روى من المناكير التي لم يتابع عليها". وانظر له "الميزان" "4/ 218". ويغني عنه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 1534، 2337" عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حج". و"الآتِ" هو جبريل، كما في رواية عند البيهقي، وانظر: "فتح الباري" "3/ 392". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 أَرَادُوا النَّقْلَةَ مِنْهُ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ" 1، فَقَدْ فَهِمَ مَالِكٌ أَنَّ قَوْلَهُ: "أَلَا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ" لَيْسَ مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ فَضِيلَةِ الْمَحِلِّ2 الْمُنْتَقَلِ عنه.   1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب احتساب الآثار 2/ 139/ رقم 655" عن أنس مرفوعا: "يا بني سلمة! ألا تحتسبون آثاركم؟ " وقال عقبه: "قال مجاهد في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . قال: خطاهم. وأخرجه أيضا رقم "655" عن أنس بلفظ: "إن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم: "قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعَرُّوا المدينة، فقال: "ألا تحتسبون آثاركم؟ " قال مجاهد: خطاهم: آثارهم، أن يُمشى في الأرض بأرجلهم". وأخرجه أيضا في "صحيحه" "كتاب فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تُعرى المدينة 4/ 99/ رقم 1887" بنحو اللفظ الثاني. 2 كما ورد في البخاري في "صحيحه" "رقم 1534، 2337، 7343"، وأبي داود في "السنن" "رقم 1800" عن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي، وقل: عمرة وحجة". وأخرج أبو داود عن مالك، قال: "لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل إلى المدينة حتى يصلي ركعتين أو ما بدا له، وهو على مسافة ستة أميال من المدينة، ويؤخذ من حديث الترمذي: "كانت بنو سلمة في ناحية المدينة"، ومن كون العقيق على ستة أميال من المدينة أن العقيق غير مساكن بني سلمة، فإذا تم هذا، كانت الفضيلة هنا غير الفضيلة في مساكن بني سلمة، فهذه كأنها رباط وحراسة للمدينة، بخلاف العقيق، فالأشبه أن يكون تعبُّدًا، إلا أن الأمر يحتاج إلى إثبات أنها حادثة أخرى. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ عَنْهُ1، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ عِظَمَ الْأَجْرِ ثَابِتٌ لِمَنْ عَظُمَتْ مَشَقَّةُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ2، كَالْوُضُوءِ عند الكريهات، والظمأ والنصب في الجهاد، فإذن اخْتِيَارُ أَبِي مُوسَى رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ كَاخْتِيَارِ مَنِ اخْتَارَ الْجِهَادَ عَلَى3 نَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا أَنَّ فِيهِ قَصْدَ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ؛ لِيَحْصُلَ الْأَجْرُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ قَصْدُ الدُّخُولِ فِي عِبَادَةٍ عَظُمَ أَجْرُهَا؛ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهَا، فَالْمَشَقَّةُ فِي هَذَا الْقَصْدِ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ فِي الْقَصْدِ غَيْرَ تَابِعَةٍ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التَّشْدِيدِ، وَإِنَّمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ بُعْدِ الْمَسْجِدِ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا شَأْنُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، فَمَقَاصِدُهُمُ الْقِيَامُ بِحَقِّ مَعْبُودِهِمْ، مَعَ اطِّرَاحِ النَّظَرِ فِي حُظُوظِ نُفُوسِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ قَصَدُوا مُجَرَّدَ التَّشْدِيدِ عَلَى النُّفُوسِ وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلِمَا سَيَأْتِي بعدُ إن شاء الله.   1 وسنده إليه حسن، وله شاهد به يصح، كما قدمنا. وقال "خ": "اتفقوا على أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غيره من الصحابة، واختلفوا في كونه حجة على التابعي فما دونه، والتحقيق أنه إذا لم يصرح بسنده في القضية لم يجب على المجتهد اتباعه؛ إذ لم يقم دليل على تكليف المجتهد باتباع من لم تثبت عصمته". 2 انظر: "فتاوى ابن تيمية" "26/ 85، 86". 3 هذا اختار نوعا من العبادة كانت المشقة من لوازمه، فلا يظهر فيه قصد المشقة، أما تحرى أبي موسى لليوم الشديد الحرارة ليصومه دون اليوم القليل الحرارة لا يصومه، فإنه ظاهر في تحريه هذا قصد المشقة ليعظم أجره، اتباعا لنصيحة الرجل الذي ناداهم، ولعل محل الجواب قوله: "إنما فيه قصد الدخول ..... إلخ". "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وَثَالِثًا: إِنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّشْدِيدَ بِالتَّبَتُّلِ، حِينَ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أنا، فأقوم وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا، فَلَا آتِي النِّسَاءَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: "مَنْ رغب من سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" 1. وَفِي الْحَدِيثِ: "وردَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا"2. "وردَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَأَمَرَهُ بِإِتْمَامِ صِيَامِهِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ"3. وَقَالَ: "هلك المتنطعون" 4.   1 مضى تخريجه "1/ 522"، وهو صحيح. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء 9/ 117/ رقم 5073، 5074" ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1402"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء في النهي عن التبتل 3/ 394/ رقم 1083"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل، 6/ 58"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل 1/ 593/ 1848"، وأحمد في "المسند" "1/ 173، 175، 176"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 168"، والدارمي في "السنن" "2/ 133"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 120، 128/ رقم 778، 802"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 79"، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس رضي الله عنه. 4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند" "1/ 386"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/ 201/ رقم 4608"، والطبراني في "الكبير" "10/ 216". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وَنَهْيُهُ عَنِ التَّشْدِيدِ شَهِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، بِحَيْثُ صَارَ أَصْلًا فِيهَا قَطْعِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ التَّشْدِيدُ عَلَى النَّفْسِ، كَانَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَيْهِ مُضَادًّا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ مِنَ التَّخْفِيفِ الْمَعْلُومِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَإِذَا خَالَفَ قَصْدُهُ قَصْدَ الشَّارِعِ، بَطَلَ وَلَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: وَيَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْذُونَ فِيهَا، إِمَّا وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ إِبَاحَةً، إِذَا تَسَبَّبَ عَنْهَا مَشَقَّةٌ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، أَوْ لَا تَكُونَ مُعْتَادَةً؛ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً، فَذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِيهِ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ مَشَقَّةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً، فَهِيَ أَوْلَى أن لا تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ، وَلَا يَخْلُو عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً بِسَبَبِ الْمُكَلَّفِ وَاخْتِيَارِهِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَقْتَضِيهَا بِأَصْلِهِ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً بِسَبَبِهِ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ1 وَغَيْرَ صَحِيحٍ فِي التَّعَبُّدِ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ الْحَرَجَ فِيمَا أَذِنَ فيه، ومثال هذا حديث2 الناذر للصيام   1 أي: في الأنواع الثلاثة، وقوله: غير صحيح في التعبد به" خاص بنوعي الواجب والمندوب، ولا يأتي في المباح. "د". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية 11/ 586/ رقم 6704"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في النذر في المعصية 3/ 235/ رقم 3300"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الكفارات، باب من خلط في نذره طاعة بمعصية 1/ 690/ رقم 2136" عن ابن عباس، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. قال: "مُرْهُ؛ فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ1 فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَأَمْرِهِ لَهُ بِالْقُعُودِ وَالِاسْتِظْلَالِ: "أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً"؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ تَعْذِيبَ النُّفُوسِ سَبَبًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَلَا لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مَشْرُوطٌ2 بِأَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ أَدْخَلَهَا عَلَى نَفْسِهِ مُبَاشَرَةً، لَا بِسَبَبِ الدُّخُولِ فِي الْعَمَلِ، كَمَا فِي الْمِثَالِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ بيِّن. وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض غير الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ أَوِ الصَّلَاةِ قَائِمًا، والحاجِّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، إِلَّا بِمَشَقَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِ الْعَمَلِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَجَاءَ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الرُّخَصِ. وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا إِنْ عَمِلَ بِالرُّخْصَةِ، فَذَاكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ3 عَامِلًا لِمُجَرَّدِ حَظِّ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ4 قَبِلَ الرُّخْصَةَ مِنْ رَبِّهِ؛ تَلْبِيَةً لِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالرُّخْصَةِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ عَادَتِهِ فسادٌ يَتَحَرَّجُ بِهِ وَيَعْنَتُ، وَيَكْرَهُ بِسَبَبِهِ الْعَمَلَ، فَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَلَا ظَنَّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي الْعَمَلِ دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْمُشَوِّشُ. وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ: "لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصِّيَامُ في السفر" 5.   1 في "الموطأ" "2/ 476- رواية يحيى". 2 هذا أصل الفرض في كلامه، حيث قال: "مع أن ذلك العمل لا يقتضيها"، فهذا الشرط كالتأكيد لموضوع الكلام. "د". "3، 4" وتقدم الفرق بينهما، هو أنه في الأولى لا ثواب له، إلا أنه دفع عن نفسه الحرج، وفي الثاني له ثوابه مع رفع الحرج "د". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلِّلَ عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" 2/ 786/ رقم 1115" عن جابر رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وَفِي نَحْوِهِ نُهِي عَنِ الصَّلَاةِ وَهُوَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ أَوْ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ1، وَقَالَ: "لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 2. وَفِي الْقُرْآنِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاءِ: 43] . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ بِسَبَبِ عَدَمِ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى كَمَالِهِ، فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ لِيَكُونَ خَالِصًا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْإِبْقَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي ترفُّهٍ وسعةٍ حالَ دخولِهِ فِي رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفَسَادُ، وَلَكِنْ فِي الْعَمَلِ مَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ، فَهَذَا أَيْضًا مَوْضِعٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الرخصة على الجملة، وينفصل الْأَمْرُ فِيهِ3 فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهَا الْعَنَتُ، بَلِ الْمَشَقَّةُ فِي نَفْسِهَا هِيَ الْعَنَتُ وَالْحَرَجُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا، فَهِيَ مِمَّا لَا يُقْدَرُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ عَادَةً.   1 مضي تخريجه "1/ 489". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ 7158"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 3/ 1342-1343/ رقم 1717"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، 8/ 237- 238"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، 2/ 776/ رقم 2316" من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. 3 أي: في أي الأمرين أفضل، أهو الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟ وقد شفى العليل في ذلك رحمه الله. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 إِلَّا أَنَّ هُنَا وَجْهًا ثَالِثًا1، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ غَيْرَ مُعْتَادَةٍ، لَكِنَّهَا صَارَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ كَالْمُعْتَادَةِ، وَرُبَّ شَيْءٍ هَكَذَا، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ مِنَ العُبّاد وَالْمُنْقَطِعِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، الْمُعَانِينَ عَلَى بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي التَّكَالِيفِ قَدْ خُصوا بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ، وَصَارُوا مُعانين عَلَى مَا انْقَطَعُوا إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [الْبَقَرَةِ: 45] ، فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَاسْتَثْنَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ كَانَ إِمَامَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الَّذِي كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ2، حَتَّى كَانَ يَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا3، وَقَامَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ4، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَنْ خُصّ بِوِرَاثَتِهِ فِي هَذَا النَّحْوِ نَالَ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ5. وَهَذَا الْقِسْمُ6 يَسْتَدْعِي كَلَامًا يَكُونُ فِيهِ مَدُّ بَعْضِ نَفَسٍ، فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ مُغْفَلٌ قَلَّ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، مَعَ تَأَكُّدِهِ فِي أصول الشريعة.   1 هو بعض ما دخل في الثاني، فالمشقة غير معتادة، ويعلم أو يظن أنها لا تدخل فسادا، إلا أنها صارت بالنسبة له كأنها معتادة. "د". 2 كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وسيأتي تخريجه "ص240"، وهو صحيح" 3 كما سيأتي "ص240". 4 كما سيأتي "ص241". 5 من أقبل على العبادة بيقين ساطع وجد فيها من الارتياح ما يود معه لو أن الحياة لا تطالبه بما يلفته عنها ولو لحظة، فليس العابد ببصيرة وضاءة كما يحسب أسارى الأهواء في ضائقة من حرج النفس واقتحام المكاره، بل هو في لذة لا تنقص عند من يذوق طعمها عن لذة إدراك المعارف السامية والحكمة الغامضة. "خ". 6 أي: الثاني بنوعيه، وهو أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عليه في العمل به فساد في نفسه أو عقله ..... إلخ، فقوله: "وَيَنْتَظِمُ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَوْفُ مِنْ إِدْخَالِ الفساد عليه في جسمه أو عقله ... إلخ" لا ينافي أصل موضوع هذا القسم؛ لأن الخوف من ذلك أو من التقصير غير العلم أو الظن بحصول هذا الفساد ...... إلخ، الذي جعله أول الوجهين في الفصل السابق، هذا وقد تكلم في هذا الفصل على الوجه الأول من وجهي رفع الحرج وهو الخوف من الانقطاع ..... إلخ، وسيأتي في الفصل بعده تفصيل الوجه الثاني، وهو الخوف من التقصير عند المزاحمة .... إلخ، هذا باعتبار النظر في الموضع هنا، وسيأتي لنا في آخر المسألة مناقشة المؤلف في صنيعه فيها بوجه عام. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 فَصْلٌ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ مِنَ الِانْقِطَاعِ مِنَ الطَّرِيقِ، وَبُغْضِ الْعِبَادَةِ، وَكَرَاهَةِ التَّكْلِيفِ، وَيَنْتَظِمُ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَوْفُ مِنْ إِدْخَالِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حَالِهِ. وَالثَّانِي: [خَوْفُ التَّقْصِيرِ] 1 عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْوَظَائِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَبْدِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ، مِثْلِ قِيَامِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، إِلَى تَكَالِيفَ أُخَر تَأْتِي فِي الطَّرِيقِ، فَرُبَّمَا كَانَ التَّوَغُّلُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ شَاغِلًا عَنْهَا، وَقَاطِعًا بِالْمُكَلَّفِ دُونَهَا، وَرُبَّمَا أَرَادَ الْحَمْلَ لِلطَّرَفَيْنِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِقْصَاءِ، فَانْقَطَعَ عَنْهُمَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ اللَّهَ وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً سَهْلَةً، حَفِظَ2 فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ قُلُوبَهُمْ، وَحَبَّبَهَا لَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَوْ عَمِلُوا عَلَى خِلَافِ السَّمَاحِ وَالسُّهُولَةِ، لَدَخَلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ مَا لَا تَخْلُصُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ3، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الْحُجُرَاتِ: 7] إِلَى آخِرِهَا، فَقَدْ أَخْبَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا بِذَلِكَ، وَبِالْوَعْدِ الصادق بالجزاء عليه.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 أي: من النفرة من تكاليفها. "د". 3 انظر أثر وقوع ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 114/ 115". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وَفِي الْحَدِيثِ: "عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" 1 وَفِي حَدِيثِ قِيَامِ رَمَضَانَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ، وَلَكِنْ خشيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا" 2. وَفِي حَدِيثِ الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ حِينَ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؟! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا" 3. وَحَدِيثِ أَنَسٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بين ساريتين،   1 سيأتي تخريجه في "ص405،وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761 بعد 178" عن عائشة مرفوعا، والمذكور لفظ مسلم. قال "خ" هنا ما نصه" "قد يكون في العمل نفسه وجه من الوجوه الداعية إلى التكليف به على سبيل الوجوب كالصلوات الخمس وقد يكون إيجابه منوطا بحالة تعرض له كأدب الوفاء والصدق مع الخالق في تقرير حكمة إيجاب النذر، ومن الجائز أن يقع في الشريعة قسم ثالث وهو ما يكون سببه قيام الجماعة بالعمل ومداومتهم عليه حتى ينتظم في إعلام هدايتهم ويصبح من مظاهر طاعتهم، ويقرب من هذا إيجاب بعض المندوبات على الفرد متى دخل في عملها، وهذا ما وقع في نفس النبي عليه الصلاة والسلام ومن أجله ترك الاستمرار على صلاة التراويح في جماعة". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785" وغيرهما. قال في حاشية الأصل: "تويت: بتاءين مصغر كما تقدم في حاشية على هذا الكتاب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ " قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فَتَرَ، قَعَدَ" 1. وَحَدِيثِ مُعَاذٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أفتانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ" 2 حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَقَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ" 3. وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ4. وَنَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا" 5، أَوْ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُعَلَّلٌ معقول المعنى بما دل عليه.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد" باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 785". 2 سيأتي لفظ الحديث في "ص248"، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى هناك. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود 2/ 197-198/ رقم 702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1/ 340/ رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، 4 قطعة من حديث سيأتي لفظه عند المصنف قريبا. 5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب القدر، باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، 11/ 499/ رقم 6608، وكتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، 11/ 575/ رقم 6692 و 3393"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يردُّ شيئا 3/ 1260-1261 / رقم 1639"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأيمان والنذور، باب النهي عن النذر 3/ 231- 232/ رقم 3287"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الأيمان والنذور، النهي عن النذر 7/ 15- 16، 16"، والدارمي في "السنن" "كتاب النذور والأيمان، باب النهي عن النذر 2/ 185، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الكفارات، باب النهي عن النذر، 1/ 686/ رقم 2122"، وأحمد في المسند" "2/ 61"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 77" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. وفي الباب عن أبي هريرة عند البخاري "رقم 6694"، ومسلم "رقم 1640"، والترمذي "رقم 1538"، وابن الجارود" "رقم 932"، وأحمد "2/ 235، 242، 314، 373، 412، 463"، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ما تقدم من السآمة والمل وَالْعَجْزِ، وَبُغْضِ الطَّاعَةِ وَكَرَاهِيَتِهَا1. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عبادةَ اللَّهِ، فَإِنَّ المُنبَتَّ لَا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"2.   1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 272 وما بعدها". 2 تكلم عليه السخاوي في "الأجوبة المرضية" "ق 2، 3"، بكلام بديع، نسوق نصه، ونزيد عليه في حنايا كلامه، ونضع ذلك بين معقوفتين، ثم نتبع ذلك بما فاته. قال رحمه الله تعالى: حديث: "المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى" البزار في "مسنده" [كشف الأستار 74"، "مجمع الزوائد" "1/ 67"، وقال عقبه: "وهذا روي عن ابن المنكدر مرسلا، ورواه عبيد الله بن عمرو عن سوقة عن ابن المنكدر عن عائشة، وابن المنكدر لم يسمع من عائشة] ، وأبو نعيم في بعض تصانيفه، والحاكم في "علوم الحديث" له [ص 95و 96] ، والبيهقي في "سننه" "عنه ["3/ 18] ، وابن طاهر في "صفوة التصوف" من طريق الحاكم، [والقضاعي في مسنده "الشهاب" "1147و 1148"، والقزويني في "التدوين" "1/ 237- 238"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 229"، والخطابي في "العزلة" "111"، والعسكري في "الأمثال" "1/ 544- 545"] ، كلهم من حديث خلاد بن يحيي عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"، قال الحاكم عقب تخريجه" "هذا حديث غريب المتن والإسناد، وكل ما روي فيه فهو من الخلاف = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 .........................................................................................   = على محمد بن سوقة، فأما ابن المنكدر عن جابر، فليس يرويه غير محمد بن سوقة وعنه أبو عقيل، وعنه خلاد بن يحيى" انتهى. وقال البخاري في ترجمة محمد بن سوقة من "تاريخه" [1/ 1/ 102] : "قال لي إسحاق: أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا محمد بن سوقة حدثني ابن محمد بن المنكدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين"، قال عيسى: أنا نصصت ابن سوقه عنه، فقال ابن محمد المنكدر، ورواه أبو عقيل عن ابن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح" انتهى. وأبو عقيل ضعفه ابن المبارك، وعلي بن المديني [في "سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة" له رقم 64] ، والنسائي [في الضعفاء والمتروكين] له "635"] وغيرهم وقال، وقال حرب: "قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- كيف حديثه؟ فكأنه ضعفه" وقال أبو زرعة: "لين" وقال ابن حبان [في المجروحين" "3/ 116] : "ينفرد بأشياء ليس لها أصول، ولا يرتاب الممعن في الصناعة أنها معمولة"، وقال ابن عدي [في الكامل" "7/ 2665"] : "عامة أحاديثه غير محفوظة" وقال الساجي: منكر الحديث: وقال أبو أحمد الحاكم: "ليس بالقوي عندهم"، وقال ابن عبد البر: "هو عند جميعهم ضعيف"، [وانظر "تهذيب الكمال" "31/ 511"] . ولحديثه شاهد، لكنه ضعيف أيضا، أخرجه البيهقي في "سننه" ["3/ 19"، و"الشعب" "3886] ، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ -هو الحاكم- أخبرنا محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى حدثنا الفضل بن محمد الشعراني حدثنا أبو صالح -يعني: عبد الله بن صالح كاتب الليث- حدثنا الليث -هو ابن سعد- عن ابن عجلان -يعني محمدا- عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت أبدا، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا"، والفضل بن محمد، قال أبو حاتم: "تكلموا فيه" وقال الحاكم [كما في "السير" "13/ 317"، و"سؤالات السجزي" "224] : "كان أديبا فقيها عابدا عارفا بالرجال، وكان يرسل شعره فلقب بالشعراني، وهو ثقة، لم يطعن فيه بحجة، وقد سئل عنه الحسين بن محمد القباني فرماه بالكذب، وقال: سمعت أبا عبد الله ابن الأخرم يسأل عنه، فقال: صدوق، إلا أنه كان غاليا في التشيع، والمولى- يعنى: المبهم المتقدم في إسناد الحديث- لم أقف على اسمه وما عرفته، والله أعلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 ......................................................................................   = [وضعفه شيخنا في "الضعيفة" 1/ 64-65] . وله طريق ثالثة، لكنها مختصرة، أخرجها عبد الله ابن الإمام أحمد في "مسند أبيه" [3/ 199] ، قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عمرو بن حمزة حدثنا خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"، وخلف هذا غير خلف بن مهران العدوي الذي روى له النسائي في "المجتبى" ["رقم 4446"] حديث: "من قتل عصفورا عبثا .... "، وإن كان صنيع المزي في "تهذيبه" ["8/ 296"] يقتضي أنهما واحد، فإن البخاري قد فرق بينهما في ["تاريخه" "3/ رقم 653، 655"] ، فجعل خلف بن مهران إمام مسجد بني عدي غير خلف أبي الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وكذا قال أبو حاتم [في "الجرح والتعديل" "3/ رقم 1678، 1679"] ، وذكر أن إمام مسجد سعيد يروي عن أنس، قال البخاري: "وعنه عمرو بن حمزة القيسي، لا يتابع في حديثه"، وقال ابن خزيمة: "لا أعرف خلفا بعدالة ولا جرح"، وكذا قال في الراوي عنه، وتوقف في صحة حديثهما، وقال ابن عدي في الراوي عنه [في "الكامل" "5/ 1793"] : "مقدار ما يرويه غير محفوظ" وقال الدارقطني: "ضعيف". قلت: وزعم الهيثمي [في "مجمع الزوائد" "1/ 67"] أن رجاله موثقون، وأن خلفا لم يدرك أنسا ويتعقب عليه بما تقدم، [وزاد الزبيدي في "اتحاف السادة المتقين" "9/ 41" نسبته للضياء، وعزاه ابن رجب في "المحجة" "70" لحميد بن زنجويه] . وعلى كل حال، فالحديث ضعيف، إلا أن هذه الطريق على اختصارها أجود من اللتين قبلها، وبالله التوفيق، انتهى كلام السخاوي، ثم تحدث عن شرح الحديث، فراجعه إن شئت، وهو في "فتاويه" "1/ 14/ 19" المطبوعة حديثا. وله طريق رابعة أخرجه البيهقي في "الشعب" "رقم 3885"، أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد المصري حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا علي بن معبد حدثنا عبيد الله بن عمرو عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره وقال: "ورواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر، ورواه أبو معاوية عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن النبي مرسلا وهو الصحيح، وقيل غير ذلك". وذكره ابن حجر في "فتح الباري" "11/ 297" من حديث جابر، ثم قال: "وله شاهد في "الزهد" ابن المبارك "رقم 1334" من حديث عبد الله بن عمرو موقوف" والحديث مرفوعا ضعيف، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ: قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ. فَقَالَ: "إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" 1. وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّهْيَ لِعِلَّةٍ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالنَّهْيُ دَائِرٌ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَإِذَا وُجِدَ مَا عَلَّلَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا وَمُتَّجِهًا، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ، فَالنَّهْيُ مَفْقُودٌ، إِذِ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ إِدْخَالِ نَفْسِهِ فِي الْعَمَلِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ، فَتُؤَثِّرُ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَسَادًا، أَوْ تُحْدِثُ لَهُ ضَجَرًا وَمَلَلًا، وَقُعُودًا عَنِ النَّشَاطِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْمُكَلَّفِينَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَكِبَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ ذَلِكَ بَلْ يَتَرَخَّصُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا شُرِعَ لَهُ فِي التَّرَخُّصِ، إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ يَتْرُكُهُ إِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ تَرْكُهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 2، وَقَوْلُهُ: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" 3، وهو الذي أشار به عليه.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"،وإسحاق بن راهويه في "المسند" "4/ ق 77/ ب" ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "4/ 282"- وأحمد في "المسند" "6/ 242، 258"، والفريابي في "الصيام" "29" وغيرهم. 2 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين". 3 جزء من حديث، وفيه قصة ستأتي عند المصنف قريبا "ص247- 248" أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ رقم 1968، وكتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم 182". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ الْكِبَرِ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَالضَّرْبُ الثَّانِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَلَلُ وَلَا الْكَسَلُ، لِوَازِعٍ هُوَ أَشَدُّ2 مِنَ الْمَشَقَّةِ أَوْ حَادٌّ يَسْهُلُ بِهِ الصَّعْبُ أَوْ لِمَا لَهُ فِي الْعَمَلِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَلِمَا حَصَلَ لَهُ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ، حَتَّى خَفَّ عَلَيْهِ مَا ثَقُلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَشَقَّةٍ، بَلْ يَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعَمَلِ وَكَثْرَةُ الْعَنَاءِ فِيهِ نُورًا وَرَاحَةً، أَوْ يُحْفَظُ عَنْ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الْمُشَوِّشِ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ" 3. وَفِي الْحَدِيثِ: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ .... "، قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" 4.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، 4/ 217- 218/ رقم 1975" ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813- 814/ رقم 1159"، والمذكور لفظ البخاري. ولمسلم في رواية "لأن أكون قبلت الثلاث الأيام التي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى من أهلي ومالي". وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم". 2 في "ط": "أشق". 3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الآداب، باب في صلاة العتمة، "4/ 296-297/ رقم 4985, 4986"، وأحمد في "المسند" "5/ 394، 371" من حديث رجل من الصحابة، وإسناده صحيح، وسماه الطبراني في "المعجم الكبير" "6/ 276-277/ رقم 6214"، فأخرجه من مسند سلمان بن خالد الخزاعي. وانظر: "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 101"، و"صحيح الجامع الصغير" "رقم 7892"، و"مشكاة المصابيح" "رقم 1253". 4 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 128، 199، 285"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "8/ 39"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، 7/ 61،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وَقَالَ لَمَّا قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَوْ تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟! " 1. وَقِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَأْخَذُ عَنْكَ فِي الْغَضَبِ والرضى؟ قال: "نعم" 2.   = والحاكم في "المستدرك" "2/ 160"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" "1/ 331، 332 / رقم 322 و323"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 199-200، 237/ رقم 3482, 3530"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 78"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "ص98، 229-230"، والطبراني في "المعجم الصغير" "1/ 262"، وسنده حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 150-151" وقال: "ومن رواه "حبب إليَّ من دنياكم ثلاث"، فقد وهم، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "ثلاث" والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها". وقال ابن كثير في "الشمائل" "ص38" في الرواية التي فيها "من دنياكم": "وليس بمحفوظ بهذا، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا وإنما هي من أهم شئون الآخرة". وكذا قال العراقي وابن حجر والسخاوي، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 116"، و"المقاصد الحسنة" "ص180". 1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير"، باب " {يَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} ، 8/ 584/ رقم 4837"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2819"، وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. 2 أخرج نحوه أبو داود في السنن" "كتاب العلم، باب في كتابة العلم، 3/ 318/ رقم 3646"، وأحمد في المسند "2/ 162، 192، 207، 215"، وابن أبي شيبة "المصنف" "9/ 49" والدارمي في "السنن" "1/ 125"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 105-106"، والخطيب البغدادي في "تقييد العلم" "77-80"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 388، 389" من طرق عن عبد الله بن عمرو، وبعضها صحيح. قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 207": ولهذا طرق عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وَهُوَ الْقَائِلُ فِي حَقِّنَا: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 1 وَهَذَا2 وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ، فَالدَّلِيلُ صَحِيحٌ. وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي الْأَعْمَالِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا دَائِمًا كَثِيرٌ. وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّنِ اشْتَهَرَ بِالْعِلْمِ وَحَمْلِ الْحَدِيثِ وَالِاقْتِدَاءِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ وَمِنَ التَّابِعِينَ، كَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ، وَأُوَيْسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَاهِبِ قُرَيْشٍ، وَكَمَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَهُشَيْمٍ وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ، وَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مَا هُمْ. وَمِمَّا جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كله3.   1 مضى تخريجه "ص231" وهو في "الصحيحين". 2 ولا يخفى عليك استيفاؤه لأمثلة الأنواع الثلاثة للضرب الثاني في الأحاديث المذكورة، مع مراعاة أنها كلها ليس فيها العلم أو الظن بأنه يدخل على نفسه بسببها فسادا ... إلخ, إن كان قد يحصل ذلك كما هو أحد الأقسام الثلاثة التي أشارت إليها الأحاديث. "د". 3 رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 367، 368، 2/ 292-293، 502-503"، وسعيد بن منصور في "السنن" "2/ 469/ رقم 158"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1272"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 1275، 1277"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ صلَّى الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ كَذَا وَكَذَا سَنَة، وَسَرَدَ الصِّيَامَ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ1. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يُوَاصِلَانِ الصِّيَامَ، وَأَجَازَ مَالِكٌ صِيَامَ الدَّهْرِ2. وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ يَقُومُ لَيْلَةً حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا سجودًا أبدًا3.   = 124/ 4635"،وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 75، 76"، وأبو عبيد في فضائل القرآن" "رقم 277، 278"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 294"، وأحمد في "الإيمان" "ق 49/ ب"، والطبراني في "الكبير" "1/ 87/ رقم 135" وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "1/ 56، 57"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "225، 226، 227، 228"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 24-25"، وفي "الشعب" "5/ 145-146/ رقم 1993" من طرق عن ابن سيرين عن نائلة زوج عثمان، قالت: إن تدعوه أو تقتلوه فهو كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن -يعني: يوترها"- وبعضهم أسقط "نائلة"، وابن سيرين لم يسمع من عثمان. ورواه أيوب عن نائلة كما عند ابن الأعرابي في "المعجم" "1/ ق 120/ ب" ومسعر عنها كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1272"، ورواه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 56-57"، وقال أنس بن مالك؛ وهو وهم والأثر صحيح بمجموع طرقه، وتعدد استشهاد المصنف به في موطن آخر، وانظر: الاعتصام" "1/ 399"- دار ابن عفان". 1 ترى أمثلة كثيرة من ذلك في "إقامة الحجة" للكنوي مع التعليق عليها، وكذا في الحلية" "3/ 163"، وذكره المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" مع زيادة: "وكانوا هم العارفين بالسنة، لا يميلون عنها لحظة". 2 كذا في "الاعتصام" "1/ 399 أيضًا. 3 انظر: "الحلية" "2/ 87، 88"، ففيها نحو المذكور، وذكره عنه المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" ط ابن عفان" وعلق على الخبر بقوله: "يريد أنه كان يتنفل بالصلاة، فتارة يطول فيها القيام، وتارة الركوع، وتارة السجود" وفي "ط" زيادة عليه: ثم يركع أخرى حتى يصبح، ثم يقول: "بلغني أن لله عبادا ركوعا أبدا" ثم يسجد حتى يصبح، ثم يقول: "بلغني ان لله عبادا سجودا أبدا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وَنَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ1 وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ، حَتَّى يَخْضَرَّ جَسَدُهُ وَيَصْفَرَّ، فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ! لِمَ تُعَذِّبُ هَذَا الْجَسَدَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ2، [إِنَّ الأمر جد] . وعن [أنس] ابن سِيرِينَ أَنَّ امْرَأَةَ مَسْرُوقٍ قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ أَبْكِي خَلْفَهُ مِمَّا أَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ3. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: غُشِيَ عَلَى مَسْرُوقٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: أَفْطِرْ! قَالَ: مَا أَرَدْتِ بِي؟ قَالَتِ: الرِّفْقَ. قَالَ: يَا بُنَيَّةُ! إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِنَفْسِي فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ4. إِلَى سَائِرِ مَا ذُكِرَ5 عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ؛ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ لَهَا وَهَيَّأَهَا لَهُمْ وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ بَلْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي السَّابِقَيْنِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُهِيَ عَنِ الْعَمَلِ الشَّاقِّ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ، فَلَمْ يُنْتَهِضِ النَّهْيُ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا أنه لما   1 انظر ترجمته في "العبر" "1/ 110". 2 ترى ذلك في ترجمته في "زهد الثمانية من التابعين" "ص53-54"، و"الحلية" "2/ 103"، والسير" "4/ 52"، و"الاعتصام" "1/ 399" للمصنف. 3 الخبر في "العبر" "1/ 68"، و"السير" "4/ 65"، و"الاعتصام" "1/ 399، 400" للمصنف، "مرآة الجنان" 6/ 39"، و"إقامة الحجة" "ص66"، وما بين المعقوفتين من الأصل. 4 ذكره الذهبي في ترجمته في "السير" "4/ 67-68"، والمصنف في "الاعتصام" "1/ 400". 5 في الأصل: "ذكره". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 قَالَ: لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"1 وَكَانَ وَجْهُ النَّهْيِ وَعِلَّتُهُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ اطَّرد النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنَّهُ منتفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُشَوِّشُ، وَهَذَا صَحِيحٌ مَلِيحٌ. فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ وَعَقْدِ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ، وَالثَّانِي حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ، أَوِ الرَّجَاءِ، أَوِ الْمَحَبَّةِ، فَالْخَوْفُ سَوْطٌ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءُ حادٍ قَائِدٌ وَالْمَحَبَّةُ تَيَّارٌ حَامِلٌ، فَالْخَائِفُ يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَوْفَ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ أَهْوَنُ وَإِنْ كَانَ شَاقًّا وَالرَّاجِي يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي تَمَامِ الرَّاحَةِ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى تَمَامِ التَّعَبِ، وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ شَوْقًا إِلَى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ، وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، وَيَفْنَى الْقَوِيُّ وَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْفَى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ وَلَا قَامَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَيُعَمِّرُ الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنَّهُ قَضَى نَهْمَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ الْمُسَبِّبِ لِذَلِكَ إِنْ كَانَ لِخَيْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ، حَتَّى لَا يَحْصُلَ فِي مَشَقَّةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْوِيشَ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَكِنَّ الْعَمَلَ2 الْحَاصِلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ هَلْ يَكُونُ مُجَزِئًا أَمْ لَا إِذَا خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ عَقْلِهِ؟ هَذَا مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ يُطَّلَعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهِ مِنْ قَاعِدَةِ "الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ" وَقَدْ نُقِلَ مَنْعُ الصَّوْمِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يُجَزِئُهُ إِنْ فَعَلَ، وَنُقِلَ الْمَنْعُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ، وَالِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَفِي خَوْفِ الْمَرَضِ أَوْ تلف المال احتمال3، والشاهد للمنع قوله   1 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين". 2 في الأصل زيادة كلمة: "الصالح. وفي "ط": " .... يكون مجزئة". 3 انظر بسط المسألة في "الخلافيات" "2/ 477، 483" مع تعليقي عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمَ} [النِّسَاءِ: 29] ، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ، لَا مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ نَفْسِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، فَالْأَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ؛ فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ1 عَلَى النَّفْسِ يُعْقَلُ النَّهْيُ عَنْهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْمَشَقَّةِ، فَصَارَتْ ذَاتَ قَوْلَيْنِ2. وَأَيْضًا، فَيَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ، أَمْ لِأَجْلِ أَنَّهَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ، فَيَتَّجِهُ الْمَنْعُ حَيْثُ وَجَّهَهُ الشَّارِعُ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَرَجَ فِي الدِّينِ، فَالدُّخُولُ فِيمَا فِيهِ الْحَرَجُ مُضَادٌّ لِذَلِكَ الرفع، وإن قلنا: إنه حق العبد، فإذ سَمَحَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ بِحَظِّهِ كَانَتْ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً، وَلَمْ يَتَمَحَّضِ النَّهْيُ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ. وَالَّذِي يُرَجِّحُ هَذَا الثَّانِيَ أُمُورٌ: - مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] قد دَلَّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرِّفْقِ بِالْعِبَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 29] يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِمْ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 107] وَأَشْبَاهُهَا3 مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. - وَمِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ النَّهْيُ منتهضا مع فرض الحجر وَالْعُسْرِ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ ارْتَفَعَ النَّهْيُ، وَمِمَّا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، أَوْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ4، وَالْعِبَادَةُ إِذَا صَارَتْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ شَقَّتْ وَلَا بُدَّ، وَلَكِنَّ المر في طاعة   1 هكذا في الأصل و"ط" بالفاء، وفي "د" القادحة. 2 أي: كما في الصلاة في الدار المغصوبة كما قال؛ لأن الأمر والنهي المتوجهين إلى العمل يمكن انفكاكهما، والخلاف جارٍ فيما لم يكن هناك تلازم كمسألة الصلاة المذكورة. "د" 3 في "ط": "وما أشبهها". 4 مضى تخريجه "ص241". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 إليه يَحْلُو لِلْمُحِبِّينَ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إمامهم، وكذلك جاء السَّلَفِ تَرْدَادُ الْبُكَاءِ حَتَّى عَمِيَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِوَاسِطٍ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ عَيْنَيْنِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا خَالِدٍ! مَا فَعَلَتِ الْعَيْنَانِ الْجَمِيلَتَانِ؟ فَقَالَ: ذَهَبَ بِهِمَا بُكَاءُ الْأَسْحَارِ1. وَمَا تَقَدَّمَ فِي احْتِمَالِ مُطْلَقِ الْمَشَقَّةِ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَاضِدٌ لهذا المعنى، فإذن مَنْ غَلَّب جَانِبَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنَعَ بِإِطْلَاقٍ، وَمَنْ غلَّب جَانِبَ حَقِّ الْعَبْدِ لَمْ يَمْنَعْ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى خِيَرَتِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ مَطْلُوبٌ بِأَعْمَالٍ وَوَظَائِفَ شَرْعِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَا مَحِيصَ لَهُ عَنْهَا، يَقُومُ فِيهَا بِحَقِّ رَبِّهِ تعالى، فإذا أوغل في عمل شَاقٍّ، فَرُبَّمَا قَطَعَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا حُقُوقُ الْغَيْرِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَكُونُ عِبَادَتُهُ أَوْ عَمَلُهُ الدَّاخِلُ فِيهِ قَاطِعًا عَمَّا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ، فَيُقَصِّرُ فِيهِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَلُومًا غَيْرَ مَعْذُورٍ؛ إِذِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَلَا بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فِيهَا2. ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ -وَهِيَ زَوْجُهُ- مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: مَا أنا بآكل حتى   1 أخرجه بسنده إلى الحسن بن عرفة به الخطيب في "تاريخه" "14/ 341-342". 2 انظر "منهج التربية الإسلامية" "1/ 169-170"، ففيه تفصيل حسن لنحو المذكور هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَقُومَ، فَقَالَ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيْنَا1، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقِّهِ". فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ سَلْمَانُ" 2. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ: "أفتَّان أَنْتَ، أَوْ أَفَاتِنٌ أَنْتَ؟ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"، فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشَّمْسِ: 1] ، وَ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيْلِ: 1] ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ": وَكَانَ الشَّاكِيَ بِهِ رَجُلٌ أَقْبَلَ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَيْهِ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ. انْظُرْهُ فِي الْبُخَارِيِّ3. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ: "إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صلاتي" الحديث4.   1 مقتضى السياق "فصليا" بالغائب، فتراجع الرواية، والذي في البخاري "صليا" بألف الغائب، ولم يذكروا فيه رواية أخرى. "د". 2 مضى تخريجه "ص239"، والحديث في "الصحيحين وغيرهما. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة، فخرج، فصلى 2/ 192/ رقم 700، 701، وباب من شكا إمامه إذا طول 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 1/ 515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وانظر في تعيين الشاكي: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 244، 245" مع تعليقي عليه. 4 أخرجه البخاري في الصحيح" "كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي 2/ 202/ رقم 709، 710"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 2/ 342/ 343/ رقم 470" وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ دَخَلَ صَوَامِعَ الْمُنْقَطِعِينَ وَمَوَاضِعَ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَرَأَى رَجُلًا يَبْكِي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ لِإِطَالَتِهِ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَيْضًا، فَقَدْ يَعْجِزُ الْمُوغِلُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَنِ الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْغِنَاءِ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ فِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يفرُّ إِذَا لَاقَى" 1. وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِنَّكَ لتقلُّ الصَّوْمَ. فَقَالَ: "إِنَّهُ يَشْغَلُنِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وقراءة القرآن أحب إليَّ منه"2.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم داود عليه السلام 4/ 224 / رقم 1979، 1980"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 815/ رقم 1159 بعد 186" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال "خ": "لم تغضِ الشريعة عن حق الجسم وتترك شأنه لصاحبه الذي ربما تغالى به السعي في تكميل نفسه إلى أن يصرف عنه النظر جملة، بل رسمت له في سيره حدودا لا يسوغ له اختراقها ووقوفه عند هذه الحدود مما يجعله سائرا في سبيل لا يلاقي فيها عقبات ولا ينقطع به قبل الوصول إلى الغاية المطلوبة، وانظر إلى قوله في هذا الحديث: "ولا يفر إذا لاقى" بعد قوله: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا" فإن في ذلك إيماء إلى أن عدم سرد داود عليه السلام للصوم إنما هو ليتقوى بالفطر على واجب أعظم وهو جهاد العدو والصبر على مكافحته بقلب لا يجبن وعزم لا ينثني". 2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "7903"، والطبراني في "الكبير" "9/ 195-197 / رقم 8868-8870، 8872، 8874، 8878" بأسانيد عنه، وبعضها صحيح، وانظر: "مجمع الزوائد" "2/ 257". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَنَحْوُ هَذَا مَا حَكَى عِيَاضٌ1 عَنِ ابْنِ وهب أنه آلى أن لا يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمًا صَائِمًا، وَكَانَ شَدِيدَ الْحَرِّ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ. قَالَ: فَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الرَّحْمَةَ وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْإِفْطَارَ. وَكَرِهَ مَالِكٌ إِحْيَاءَ اللَّيْلِ كُلِّهِ2 وَقَالَ: لَعَلَّهُ يُصْبِحُ مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ، ثُمَّ قَالَ: "لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَإِنْ كَانَ يَأْتِيهِ الصُّبْحُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَلَا، وَإِنْ كَانَ وَهُوَ بِهِ فُتُورٌ أَوْ كَسَلٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ". فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ تَعْطِيلَ وَظَائِفَ، كَمَا أَنَّهُ يُسَبِّبُ الْكَسَلَ وَالتَّرْكَ وَيُبَغِّضُ الْعِبَادَةَ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ أَوْ كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً، نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فالإيغال فيه حسن3، وسبب القيام   1 في "ترتيب المدارك" "1/ 430- ط بيروت"، وفيه "نذر ابن وهب .... ". 2 ودليله ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الصلاة، باب في صلاة الليل 2/ 41/ رقم 1342" عن عائشة ضمن حديث طويل، فيه: ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح"، ولفظ الدارمي في "سننه" "1/ 346": "وما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح"، ولفظ مسلم "6/ 27- مع شرح النووي": "ولا صلى ليلة إلى الصبح"، وفي رواية له "6/ 29": وما رأيته قام ليلة حتى الصباح". قلت: والتعليل الآتي يشهد له ما أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 131- رواية يحيى" عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر غدا إلى السوق، وسكنُ سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي، فغلبته عيناه. فقال عمر: "لإن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلى من أقوم ليلة"، وكذلك من يقوم الليل ويسرد الصوم إن كان ذلك بحيث يفوت من حضور الجماعات وصلاة الجنائز، ونشر العلم بالتدريس والتصنيف ونحو ذلك، لا ينبغي له ذلك، قاله اللكنوي في "إقامة الحجة" "ص148-149". 3 هذا ما قرره اللكنوي في كتابه "إقامة الحجة" بتفصيل وإسهاب مع تمثيل من حياة السلف والصالحين والعلماء بما لا مزيد عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 بِالْوَظَائِفِ مَعَ الْإِيغَالِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ أَوِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: دُخُولُ الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ وَإِيغَالُهُ فِيهِ- وَإِنْ كَانَ لَهُ وَازِعُ الْخَوْفِ، أَوْ حَادِي الرَّجَاءِ، أَوْ حَامِلُ الْمَحَبَّةِ- لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا اللَّيْلَ، صَائِمًا النَّهَارَ، واطئنا أَهْلَهُ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ مُوَاصَلَةِ الصِّيَامِ مَعَ الْقِيَامِ عَلَى الْكَسْبِ لِلْعِيَالِ، أَوِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْجِهَادِ عَلَى كَمَالِهَا، وَكَذَلِكَ إِدَامَةُ الصَّلَاةِ مَعَ إِعَانَةِ الْعِبَادِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا تُضَادُّ أَعْمَالًا أُخَر بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ فِيهَا، وَقَدْ لَا تُضَادُّهَا، وَلَكِنْ تُؤَثِّرُ فِيهَا نَقْصًا، وَتَزَاحُمُ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْحُقُوقِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا وَالْحَالَةُ1 هَذِهِ؟ وَلِهَذَا جَاءَ: "مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ" 2. وَأَيْضًا، فَإِنْ سُلِّمَ مِثْلُ هَذَا فِي أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَمُسْقِطِي الْحُظُوظِ، فَكَيْفَ الْحَالُ مَعَ إِثْبَاتِهَا وَالسَّعْيِ فِيهَا وَالطَّلَبِ لَهَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ كَمَا تَقَدَّمَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَرْبَابُ الْحُظُوظِ، وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنِ اسْتِيفَاءِ حُظُوظِهِمُ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِيهَا شَرْعًا، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يُخِلُّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّ بِحُظُوظِهِمْ. فَقَدْ وَجَدْنَا عَدَمَ التَّرَخُّصِ فِي مَوَاضِعِ التَّرَخُّصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مُوقِعًا فِي مَفْسَدَةٍ أَوْ مَفَاسِدَ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا شَرْعًا، وَقَطْعُ الْعَوَائِدِ المباحة قد يوقع في   1 في الأصل: "الحال". 2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا الْمُرُورَ مَعَ الْحُظُوظِ مُطْلَقًا خُرُوجًا عَنْ رِبْقَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ تَقْيِيدٍ ملقٍ حِكْمَةَ الشَّرْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَلِرَفْعِ هَذَا الِاسْتِرْسَالِ جَاءَتِ الشَّرَائِعُ، كَمَا أَنَّ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرٌ لِلْإِنْسَانِ1. فَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الأمرين تحت تظر الْعَدْلِ، فَيَأْخُذُ فِي الْحُظُوظِ مَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ، وَيَتْرُكُ الْحُظُوظَ مَا لَمْ يُؤَدِّ التَّرْكُ إِلَى مَحْظُورٍ، وَيَبْقَى فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى تَوَازُنٍ، فَيَنْدُبُ إِلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي فِيهِ حَظُّهُ كَالنِّكَاحِ مَثَلًا، وَيَنْهَى عَنِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَا حَظَّ فِيهِ عَاجِلًا كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَيَنْظُرُ فِي الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ، وَفِي الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَهُ فِيهِ حَظٌّ -أَعْنِي: الْحَظَّ الْعَاجِلَ-، فَإِنْ كَانَ تَرْكُ حَظِّهِ فِي الْمَنْدُوبِ2 يُؤَدِّي لِمَا يُكْرَهُ شَرْعًا، أَوْ لِتَرْكِ مَنْدُوبٍ هُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا، كَانَ اسْتِعْمَالُهُ الْحَظَّ وَتَرْكُ الْمَنْدُوبِ أَوْلَى، كَتَرْكِ التَّمَتُّعِ بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات، حسبما نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ3: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فأعجبته ..... " 4.   1 ومهيأ لحظوظه، فالمطلوب الاعتدال، فلا حرمان مما هيأه الله له، ولا استرسال فيه. "د". قلت: وفي الأصل "مسخرة للإنسان". 2 أي: فإن كان ترك حظ من حظوظه بسبب فعله مندوبا لا حظ لنفسه فيه يؤدي إلى فعل مكروه شرعا، أو إلى ترك مندوب آخر أفضل منه، كان استعماله لحظه بترك هذه المندوب المؤدي فعله لأحد هذين الأمرين أولى به، وذلك كما إذا كان اشتغاله بنافلة الصلاة يحول بينه وبين التمتع بزوجته، فيؤدي ذلك إلى تطلعه للأجنبيات وتشوقه للنظر إليهن، فيكون ترك النافلة وتمتعه بزوجه أولى. "د". 3 أي، فإنه يفيد أن التمتع بالزوجة يكسر من الشهوة حتى لا ينبعث إلى النظر للأجنبية. "د". 4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 إِلَخْ. وَكَذَلِكَ [تَرْكُ] 1 الصَّوْمِ2 يَوْمَ عَرَفَةَ3، أَوْ لأجل أن يقوى على قراءة القرآن.   = إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها، 2/ 1021/ رقم 1403"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء في الرجل يرى المرأة تعجبه3/ 464/ رقم 1158" -والمذكور لفظه، وتتمته: "فليأت أهله، فإن معها الذي معها"- وأحمد في المسند" "3/ 330، 341، 395" بألفاظ منها المذكور عن جابر رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن مسعود عند الدارمي في "السنن" "2/ 146"، وعن أبي كبشة الأنماري عند البخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 139"، وأحمد في "المسند" "4/ 231"، وأبي نعيم في "الحلية" "2/ 20"، وإسناده حسن، وانظر له: "العلل" "5/ 196" للدارقطني. 1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "وكترك". 2 مثال لما كان فيه فعل المندوب يؤدي إلى ما يكره شرعا، وهو كراهة العبادة والملل منها، وما بعده مثال لما يؤدي إلى ترك مندوب هو أعظم منه أجرًا -ومثله ما في الحديث بعده- ويؤخذ منه أن قراءة القرآن أفضل من الصوم، والمثالان إشارة لما تقدم عن ابن مسعود وابن وهب. "د". 3 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة، 4/ 236-237/ رقم 1988"، وغيره عن أم الفضل بنت الحارث، أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه". وفطره صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كان لحكمة، واختلفوا فيها، فقالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهو قول الخرقي وغيره، وقال غيرهم -منهم شيخ الإسلام ابن تيمية: الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يستحب صومه لهم، قال: "والدليل عليه الحديث الذي في "السنن" عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام". قلت: أخرجه أبو داود "كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق 2/ 320/ رقم 2419"، والترمذي في الجامع" "أبواب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق 3/ 143/ رقم 773"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب النهي عن صوم يوم عرفة، 5/ 252"، وأحمد "4/ 152"، وابن أبي شيبة في المصنف" "3/ 104 و4/ 21"، والدارمي "2/ 23"، والطحاوي "1/335"، وابن حبان "8/ 368/ رقم 3603- الإحسان"، وابن خزيمة في "صحيحه" "رقم 2100"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 803"، والحاكم "1/ 434"، والبيهقي "4/ 298"، والبغوي "1796" عن عقبة بن عامر، وإسناده صحيح. قال ابن تيمية: "وإنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة، لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم". انظر: "زاد المعاد" "1/ 61-62". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّكُمْ قَدِ اسْتَقْبَلْتُمْ عَدُّوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ" 1. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَرْكُ الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَهُ فِيهِ حَظٌّ يُؤَدِّي إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْهُ، غُلِّبَ الْجَانِبُ الْأَخَفُّ، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الْمُتَشَابِهَاتِ2، عَلَى التَّوَرُّعِ عَنْهَا مَعَ عَدَمِ طَاعَتِهِمَا، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الْمُتَشَابِهَاتِ2 لِلنَّفْسِ فِيهَا حَظٌّ، فَإِذَا كَانَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ طُلِبَ التَّوَرُّعُ عَنْهَا وَكُرِهَ تَنَاوُلُهَا لِأَجْلِهِ، فَإِنْ كان في تناولها رضى الْوَالِدَيْنِ، رُجِّحَ جَانِبُ الْحَظِّ هُنَا بِسَبَبِ مَا هُوَ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهِيَةِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْوَالِدَيْنِ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ فِي شُبْهَةٍ أَحْسَنُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ3. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُظُوظَ لِأَصْحَابِ الْحُظُوظِ تُزَاحِمُ الْأَعْمَالَ، فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا فَإِذَا تَعَيَّنَ الرَّاجِحُ ارْتُكِبَ وَتُرِكَ مَا عَدَاهُ، وَبَسْطُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ عُمْدَةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي تَفَارِيعِ الْفِقْهِ.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، 2/ 789/ رقم 1120"، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ: "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم"، و"إنكم مُصَبِّحُو عدوكم، والفطر أقوى لكم". 2 في "ط": "المشتبهات". 3 الوجه في ذلك أن الحاجة إلى الناس مما يترامى بالنفوس على أبواب المهانة، وقد عنيت الشريعة بما يرفعها إلى مراقي العز والشرف حتى أسقطت للمحافظة على كرامة النفس وصيانة ماء المحيا بعض الواجبات، كما أجازت للرجل أن يتيمم ولا يقبل الماء ممن يقدمه له على وجه الهبة لما في مثل ذلك من المنة المكروهة لدى النفوس المتطلعة إلى عز شامخ ومجد أثيل. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وَالثَّانِي: أَهْلُ إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ، غَيْرَ أَنَّ سُقُوطَ حُظُوظِهِمْ لِعُزُوفِ1 أَنْفُسِهِمْ عَنْهَا مَنَعَ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَكَرَاهِيَةِ الْأَعْمَالِ، وَوَفَّقَهُمْ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْحُقُوقِ، وَأَنْهَضَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا لَمْ يَنْهَضْ بِهِ غَيْرُهُمْ، فَصَارُوا أَكْثَرَ أَعْمَالًا، وَأَوْسَعَ مَجَالًا فِي الْخِدْمَةِ، فَيَسَعُهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مَا يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُمْ وَيَعُدُّهُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَأَمَّا أَنَّهُ2 يُمْكِنُهُمُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ مَا كُلِّفَهُ الْعَبْدُ وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَمُتَعَذِّرٌ، إِلَّا فِي الْمَنْهِيَّاتِ، فَإِنَّهُ تَرْكٌ بِإِطْلَاقٍ، وَنَفْيُ أَعْمَالٍ لَا إِعْمَالٍ، وَالنَّفْيُ الْعَامُّ مُمْكِنُ الْحُصُولِ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ، وَلَمَّا سَقَطَتْ حُظُوظُهُمْ صَارَتْ عِنْدَهُمْ لَا تُزَاحِمُ الْحُقُوقَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"3، وَحَقُّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقٌّ لَهُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُ أَوْ سَاقِطٌ، فَصَارَ غَيْرُهُ عنده أقوى من حظ نفسه، فحظه إذن4 آخِرُ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَإِذَا سَقَطَتِ الْحُظُوظُ لَحِقَ مَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهَا5؛ لِأَنَّ زَمَانَ طَلَبِ الْحَظِّ لَا يَبْقَى خَالِيًا، فَدَخَلَ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَثِيرٌ، وَإِذَا عَمِلَ عَلَى حَظِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ كَمَا سَيَأْتِي، فَصَارَ عِبَادَةً بَعْدَ مَا كَانَ عَادَةً، فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ جِهَتِهِ، ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ كَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ هُنَا صَارَ مُسْقِطُ الْحَظِّ أَعْبَدَ النَّاسِ، بَلْ يَصِيرُ أَكْثَرُ عَمَلِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَهُنَا مَجَالٌ رَحْبٌ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. فَصْلٌ 6: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ مَشَقَّةٌ وَهُوَ من   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "عزوب". 2 في الأصل و"خ": "أن". 3 مضى تخريجه "ص239"، وهو صحيح. 4 كذا في "ط" وفي غيره: "أيضًا". 5 في "ط": "منها". 6 تكميل للمقام ببيان أن الأعمال المنهي عنها إذا تسبب عنها مشقة، فإن الشارع لا يقصد فيها المشقة أيضا، وإن جاءت في الطريق بسبب المكلف. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَتَسَبَّبَ عَنْهُ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ، فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى ارْتِكَابِ النَّهْيِ إِدْخَالَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ. إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّرْعِ1 سَبَبًا لِأَمْرٍ شَاقٍّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ قَصْدٌ مِنَ الشَّارِعِ لِإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصْدُ الشَّارِعِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ، كَالْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَمْنُوعَةِ، فَإِنَّهَا زَجْرٌ لِلْفَاعِلِ، وَكَفٌّ لَهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعِظَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِهِ أَيْضًا، وَكَوْنُ هَذَا الْجَزَاءِ مُؤْلِمًا وَشَاقًّا مضاهٍ لِكَوْنِ قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ البشع مُؤْلِمًا وَشَاقًّا، فَكَمَا لَا يُقَالُ لِلطَّبِيبِ: إِنَّهُ قَاصِدٌ لِلْإِيلَامِ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ هُوَ الطَّبِيبُ الْأَعْظَمُ. وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَا يُرِيدُ جَعْلَهُ فِيهِ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: "مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ" 2؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ حَتْمًا عَلَى الْمُؤْمِنِ وَطَرِيقًا إِلَى وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَتَمَتُّعِهِ بِقُرْبِهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ، صَارَ فِي الْقَصْدِ إِلَيْهِ مُعْتَبَرًا، وَصَارَ مِنْ جِهَةِ الْمَسَاءَةِ فِيهِ مَكْرُوهًا3، وَقَدْ يَكُونُ لَاحِقًا بِهَذَا الْمَعْنَى النُّذُورُ الَّتِي يَشُقُّ على الإنسان   1 لعل فيه سقط: "ما يكون" "د". 2 قطعة من آخر حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقائق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا، وقد استشكل بعضهم "التردد" الوارد في الحديث، وانظر له لزاما: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 129-131 و 10/ 58-59"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 1640". وفي "ط": "ولا بد منه". 3 أي: غير مقصود ما فيه من جهة المكروهية، ولكنه مقصود من جهة أنه موصل إلى السعادة، وإنما كان شبيها ولم يكن مما تقدم؛ لأنه ليس في موضوع التكاليف الدنيوية. "د". قلت: وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "18/ 129-131 و 10/ 58-59". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا أُرِيحَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا كَانَ الْتِزَامُهَا مَكْرُوهًا، فَإِذَا وَقَعَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَاتٌ وَإِنْ شَقَّتْ، كَمَا لَزِمَتِ الْعُقُوبَاتُ بِنَاءً عَلَى التَّسَبُّبِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ النُّذُورُ فِيمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، أَوْ كَانَتْ فِي عِبَادَةٍ لَا تُطَاقُ وَشُرِعَتْ لَهَا تَخْفِيفَاتٌ، أَوْ كَانَتْ مُصَادِمَةً لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ أَوْ حَاجِيٍّ فِي الدِّينِ سَقَطَتْ، كَمَا إِذَا حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ، فَإِنَّهُ يُجَزِئُهُ الثُّلْثُ، أَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ رَاجِلًا فَلَمْ يَقْدِرْ، فَإِنَّهُ يَرْكَبُ وَيُهْدِي، أَوْ كَمَا إِذَا نَذَرَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ أَوْ لَا يَأْكُلَ الطعام [الفلاني] ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُهُ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَانْظُرْ كَيْفَ صَحِبَهُ الرِّفْقُ الشَّرْعِيُّ فِيمَا أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ. فَعَلَى هَذَا كَوْنُ الشَّارِعِ لَا يَقْصِدُ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ1 عَامٌّ فِي الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 194] ، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ اعْتِدَاءً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَصْدَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ، وَمَدْلُولُهُ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُعْتَدِي. لِأَنَّا نَقُولُ: تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجاز مَعْرُوفٌ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ2، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] .   1 في الأصل: "العبد". 2 قلت: كلام المصنف في صفة الاستهزاء والمكر وغيرهما من صفات الفعل لله عز وجل من الأمور المردودة غير المقبولة، ومنهج السلف في فهم الأسماء والصفات على خلافها، وما الداعي لهذا المعنى وذات الله غير ذواتنا، وبالتالي أسماؤه وصفاته غير أسمائنا وصفاتنا، فإن التأويل= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 .........................................................................   = لا يكون إلا بعد الوقوع في التشبيه، وحينئذ يكون هنالك داع لصرف اللفظ عن معناه، وهو في حقيقته تعطيل. واعلم وفقني الله وإياك للصواب، أن الصفات إذا كانت كمالا في حال، ونقصا في حال، لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتا مطلقا، ولا تنفى عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا، وذلك كالمكر، وهذه الصفات وغيرها من صفات الأفعال كالكيد والخداع، فهذه تكون كمالا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أنها من صفاته سبحانه بإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسوله بمثلها: كقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] ، وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183] ، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، وقوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] . وقد ألمح ابن القيم إلى نحو ما ذكره المصنف من تأويل هذه الصفات ورده بنحو ما قررناه، فقال في "إعلام الموقعين" "3/ 217-218": "وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة، ومجاز المقابلة، نحو {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، ونحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وقيل: وهو أصوب، بل تسمية ذلك حقيقة على بابه، فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: قبيح، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه. وحسن: وهو إيصاله إلى من يستحقه، عقوبة له. فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده. وأما السيئة، فهي "فيعلة" مما يسوء ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها، فهي سيئة له، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ...........................................................................................   = حسنة من الحكم العدل". وزيادة في توضيح ما سبق أود أن أبين ما يلي: أولا: إن الله لم يصف نفسه بالكيد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف ربه بالإحصاء إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وهذا الوصف على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ كما سيأتي. ثانيا: إن دعوى إطلاق هذه الألفاظ على الله سبحانه بالشرط السابق على سبيل المجاز لأنها توهم التشبيه باطلة، والمراد بهذا المجاز نفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله سبحانه، وهذا باطل، وقد مر معنا الرد على المصنف عندما أَوَّلَ بعض هذه الصفات مثل "الحب والبغض"، راجع "ص195 وما بعدها". ثالثا: إن هذه الأفعال لا تذم على الإطلاق، ولا تمدح على الإطلاق، ومجازاة المسيء بمثل إساءته جائز في جميع الملل، مستحسن في جميع العقول، ولهذا كاد الله سبحانه وتعالى ليوسف حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه، جزاء على كيدهم له مع أبيه. رابعا: هذه المجازة من المخلوق حسنة، فكيف من الخالق، هذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلا، وأنه يجوز عليه كل ممكن، ولا يكون قبيحا فلا يكون المكر وغيره من صفات الفعل منه قبيحا البتة، فلا يمتنع وصفه به ابتداء، لا على سبيل المقابلة على هذا التقدير. وعلى التقديرين، فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ على التقديرين. خامسا: لا يشرع اشتقاق أسماء لله عز وجل من هذه الصفات، ومن فعل ذلك من الجهلة، فقد افترى على الله الكذب، وفاهَ بأمر عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه. قال السفاريني في "الدرة المضيئة"- كما في "العقائد السلفية" "59" في مبحث الأسماء الحسنى: لكنها في الحق توقيفية ... لنا بذا أدلة وفية يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" "3/ 415": "فنسبة الكيد = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 54] . {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطَّارِقِ: 15، 16] . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَا اعْتِرَاضَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَصْلٌ 1: وَقَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ خَارِجٍ، لَا بِسَبَبِهِ، وَلَا بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي عَمَلٍ تَنْشَأُ عنه، فههنا لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي بَقَاءِ ذَلِكَ الْأَلَمِ وَتِلْكَ الْمَشَقَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي التَّسَبُّبِ فِي إِدْخَالِهَا عَلَى النَّفْسِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُؤْذِيَاتِ وَالْمُؤَلِّمَاتِ خَلْقَهَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ وَتَمْحِيصًا2، وَسَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ كَيْفَ شَاءَ وَلِمَا شَاءَ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] ، وَفُهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ الْإِذْنُ فِي دَفْعِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ رَفْعًا3 لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ، وَحِفْظًا عَلَى الْحُظُوظِ الَّتِي أَذِنَ لَهُمْ فيها، بل   = والمكر ونحوها إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى، والفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء وأحدث، ولم يسم بـ "المريد". و"الشائي" و"المحدث"، كما لم يسم نفسه بـ "الصانع" و"الفاعل" و"المتقن"، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وقد أخطأ أقبح الخطأ من اشتق له من كل فعل اسما، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف، فسماه: الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد، ونحو ذلك، وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به، فإنه يخبر عنه بأنه شيء موجود ومذكور ومعلوم ومراد، ولا يسمى بذلك". وانظر في إثبات هذا الصفات أيضا: "مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 32-34"، و"طريق الهجرتين" "427-429"، و"أقاويل الثقات" "72". 1 هذا مقابل لسائر ما تقدم في موضوع لحوق المشقات تكميلا للمقام. "د". 2 انظر ما تقدم "2/ 45". 3 في "ط": "ورفعا" بواو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 أُذِنَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا عِنْدَ تَوَقُّعِهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ، تَكْمِلَةً لِمَقْصُودِ الْعَبْدِ، وَتَوْسِعَةً [عَلَيْهِ، وَحِفْظًا] 1 عَلَى تَكْمِيلِ الْخُلُوصِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعَمِ. فَمِنْ2 ذَلِكَ الْإِذْنُ فِي دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَفِي التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرَاضِ، وَفِي التَّوَقِّي مِنْ كُلِّ مؤذٍ آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْمُتَوَقِّعَاتِ حَتَّى يُقَدِّمَ الْعُدَّةَ لَهَا، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَقُومُ بِهِ عَيْشُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، ثُمَّ رَتَّبَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ دَفْعَ الْمُؤْلِمَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَجَلْبَ مَنَافِعِهَا بِالْتِزَامِ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا رَتَّبَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَكَوْنُ هَذَا مَأْذُونًا فِيهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً. إِلَّا أَنَّ هَذَا الدَّفْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إِنْ ثَبَتَ انْحِتَامُهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عِلْمِنَا أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ رَفْعَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ، كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا دَفْعَ الْمُحَارِبِينَ، وَالسَّاعِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْفَسَادِ، وَجِهَادَ الْكُفَّارِ الْقَاصِدِينَ لِهَدْمِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هُنَا جِهَةُ التَّسْلِيطِ وَالِابْتِلَاءِ؛ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِإِيجَابِ الدَّفْعِ أَنَّ ذَلِكَ مُلْغًى فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْعَقْدِ الْإِيمَانِيِّ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ3 جِهَةُ التَّكْلِيفِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ ابْتِلَاءٌ4؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ أو معصية من جهة.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 كذا في "د" وفي الأصل و"ط" فأول" وفي "خ": "فإن". 3 أي: فكما أن التكليف نفسه ابتلاء كما بينه بقوله: لأنه .... إلخ"، ولا يعتبر فيه هذا الابتلاء بل طولب المكلف بالامتثال، فكذلك هنا طولب المكلف بما يدفع هذا الابتلاء الذي ينزل به من الأمراض وغيرها، وبعبارة أخرى إذا كان ابتداء التكليف العام وأصله ابتلاء ولم يعتبر ذلك حتي يمنع توجهه للمكلفين ليعملوا على ما فيه النجاة من هذا الابتلاء، فكذا هذا التكليف الخاص المطلوب به دفع ابتلاء خاص من ألم الجوع مثلا يكون تكليفا مقبولا، ولا يعتبر الابتلاء مانعا من توجهه. "د". 4 قال ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 656"، "والتكليف كله ابتلاء، وإن تفاضل" في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة". وانظر: "تفسير القرطبي" "6/ 300"، والروح "123". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الْعَبْدِ، خَلْقٌ لِلرَّبِّ، فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ، فَلَيْسَ لَهُ في الأصل حيلة إلا الاستلام لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَثْبُتِ انْحِتَامُ الدَّفْعِ1، فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِهَةِ التَّسْلِيطِ وَالِابْتِلَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّاقَّ مُرْسَلٌ مِنَ الْمُسَلِّطِ الْمُبْلِي، فَيَسْتَسْلِمُ الْعَبْدُ لِلْقَضَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَكُنِ التَّدَاوِي مُحَتَّمًا2 تَرَكَهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَأَذِنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْمَرَضِ، كَمَا فِي حَدِيثِ السَّوْدَاءِ الْمَجْنُونَةِ3 الَّتِي سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا، فَخَيَّرَهَا فِي الْأَجْرِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى حَالَتِهَا أَوْ زَوَالِ ذَلِكَ4، وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ: "وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" 5. وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِهَةِ الْحَظِّ بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ ويتأيَّدُ بِالنَّدْبِ، كَمَا فِي التَّدَاوِي حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "تَدَاوَوْا، فَإِنَّ الَّذِي أنزل الداء أنزل   1 في "ط": "في الدفع" 2 في "ط": "متحتما". 3 كان الأولى أن يقول: التي كانت تصرع" كما هي عبارة الحديث. "د". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح، 10 / 114/ رقم 5652"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، 4/ 1994/ رقم 2576" عن ابن عباس، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف. فدعا لها. لفظ البخاري. 5 جزء من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، 11/ 405-406/ رقم 6541، وكتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو، 10/ 155/ رقم 5705"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين بغير حساب ولا عقاب، 1/ 199/ رقم 220" من حديث ابن عباس رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الدواء" 1، وأما إن ثبتت2 الْإِبَاحَةُ، فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ. وَهُنَا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ3 مِنْ أَوْجُهِ الْمَشَقَّاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ، وذلك مشقة مخالفة الهوى، وهي:   1 مضى تخريجه "1/ 217" من حديث أسامة بن شريك، وهو حديث صحيح. وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 10/ 134/ رقم 5678" عن أبي هريرة مرفوعا: "وما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء". 2 في الأصل: "ثبت". 3 عقد المسألة السابقة لمسمى لفظ المشقة في الوجه الثالث، فتكلم عنه في أولها، وفرق بين ما يعد مشقة معتادة وما لا يعد، وإن كان فيه كلفة، وانجر به الكلام إلى أن الشارع لا يقصد المشقة المعتادة الحاصلة في التكاليف، كما لا يقصد غير المعتادة، بل يقصد الفعل من جهة كونه مصلحة عائدة على المكلف فقط، ثم رتب على ذلك في الفصل الأول أنه ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظرا إلى عظم أجرها، ثم ذكر في الفصل الثاني أن الأعمال المأذون فيها إذا تسبب عنها مشقة، فإما أن تكون معتادة، أو غير معتادة، وتوسع في تفاصيل غير المعتادة التي هي محل مشروعية الرخص، وخارجة عما عقدت له المسألة، ثم مد النفس في تفاصيل غير المعتادة التي تتسبب عن العبادة، إما لخوف الانقطاع عن العمل أو كراهيته، وإما لمزاحمة الوظائف المطلوبة من العبد بعضها لبعض، وذلك في الفصلين الثاني والثالث، ثم أكمل المقام في الفصل الرابع بالأفعال غير المأذون فيها في مقابلة موضوع الفصل الثاني الذي قيده بالمأذون فيها، ثم ذكر فصلا خامسا لمجرد إكمال الكلام في مطلق المشقة، وبمراجعة هذه الفصول لا تجد منها فصلا خاصا بالوجه الثالث، بل عنايته كما رأيت بالوجهين الاول والثاني أكر من عنايته بالوجه الثالث وما يشبهه، الذي فيه المشقة غير معتادة، ولكنها صارت عند قوم كالمعتادة، ثم قال في آخر المسألة: "وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث"، فهذا الصنيع غير موجه، وكان يحسن به أن يضع كل مبحث مما اشتملت عليه تلك الفصول في محله الخاص به من تلك الوجوه الثلاثة حتى تمتاز المباحث بعضها عن بعض ويظهر ارتباطها بتلك الوجوه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالِفَةَ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ شَاقٌّ عَلَيْهَا، وَصَعْبٌ خُرُوجُهَا عَنْهُ، وَلِذَلِكَ بَلَغَ أَهْلُ الْهَوَى فِي مُسَاعَدَتِهِ مَبَالِغَ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ حَالُ الْمُحِبِّينَ1، وَحَالُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَمَّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَضُوا بِإِهْلَاكِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِمُخَالَفَةِ الْهَوَى، حَتَّى قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الْجَاثِيَةِ: 23] . وَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النَّجْمِ: 23] . وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 14] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا قَصَدَ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ2 الْمُكَلَّفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عبدًا لله، فإذن مُخَالَفَةُ الْهَوَى لَيْسَتْ مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَتْ شَاقَّةً فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً حَتَّى يُشْرَعَ التَّخْفِيفُ لِأَجْلِ ذَلِكَ3، لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِمَا وُضِعَتِ الشَّرِيعَةُ لَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَبَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ بَعْدُ إِنْ شاء الله.   1 انظر شيئا من ذلك في كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزي في الباب التاسع والثلاثين وما بعده "ص259 وما بعدها" وفي طوق الحمامة" لابن حزم "ص7 وما بعدها " 2 في "خ" محرفة إلى "إخراس". 3 في "ط": "لأجلها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: كَمَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَكُونُ دُنْيَوِيَّةً، كَذَلِكَ تَكُونُ أُخْرَوِيَّةً، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إِذَا كَانَ الدُّخُولُ فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، فَهُوَ أَشَدُّ مَشَقَّةً بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخِلَّة بِدِينٍ، وَاعْتِبَارُ الدِّينِ مُقَدَّمٌ1 عَلَى اعْتِبَارِ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ هُنَا2، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ3 فِي إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُدْخَلُ4 تَحْتَهَا هَذَا الْمَطْلَبُ مَا فيه كفاية.   1 أي: إن أصول الدين تقدم على اعتبار النفس والأعضاء، فإذا توقف حفظ الدين على المخاطرة بالنفس أو الأعضاء قدم الدين، ولذا وجب الجهاد لحفظ الدين وإن أدى إلى ضياع كثير من النفوس، أما غير أصول الدين، فأنت تعلم أن الأمر فيها غير ذلك، فكثيرا ما يسقط الشارع واجبات دينية محافظة على النفس حتى من نحو المرض، وحينئذ، فليس اعتبار الأمور الدينية مقدما على النفس ولا على المال في كل شيء، والمقام يحتاج إلى بسط أوفى من هذا، ولذا قال صاحب "التحرير" في موضوع الضروريات الخمس: "إن حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد، وعقوبة الداعي إلى البدع"، فلا شك أن هذا فيما يتعلق بأصول الدين، وسيأتي في المسألة العاشرة ما يحتاج فيه إلى الترجيح بين مصلحتين قد تكون إحداهما دينية والأخرى دنيوية، فلو كانت الدينية تقدم مطلقا ما كان هناك حاجة إلى الترجيح المذكور. "د". 2 أي: فالمشقة الدينية مقدمة في الاعتبار على الدنيوية. "د". 3 أي: فمع كونه يقدم ما فيه حفظ الدين -مع كونه مشقته أعظم- على ذي المشقة الدنيوية الصرفة، فإنه لا يقصد إدخال هذه المشقة على المكلف، ولكنها جاءت في طريق حفظ الدين غير مقصودة. "د". 4 لأنه داخل في عموم المشقة التي برهن على أن الشارع لم يقصدها في التكليف مطلقا، وإن جاءت في طريق امتثال التكليف. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ النَّاشِئَةُ مِنَ التَّكْلِيفِ تَخْتَصُّ بِالْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ، كَالْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً1، لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَقَدْ تَكُونُ دَاخِلَةً عَلَى غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ. وَمِثَالُ الْعَامَّةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَالْوَالِي الْمُفْتَقَرِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ ذَا كِفَايَةٍ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَشْغَلُهُ عَنِ الِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْأُنْسِ بِمُنَاجَاتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَمَّ الْفَسَادُ وَالضَّرَرُ، وَلَحِقَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلْحَقُ غَيْرَهُ. وَمِثَالُ الدَّاخِلَةِ عَلَى غَيْرِهِ دُونَهُ كَالْقَاضِي وَالْعَالِمِ الْمُفْتَقَرِ إِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ يَجُرُّهُمَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ2، أَوْ يَشْغَلُهُمَا عَنْ مُهِمٍّ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَهُمَا إِذَا لَمْ يَقُومَا بِذَلِكَ، عَمَّ الضَّرَرُ غَيْرَهُمَا مِنَ النَّاسِ، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا عَنْ طَلَبِهِمَا لِمَصَالِحِهِمَا المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام.   1 هذا نوع آخر من المشقة ليس داخلا في المعاني الأربعة التي تقدمت؛ لأن تلك كان المشقة فيها حاصلة من نفس الفعل، وهنا حصول المشقة يحدث من التعارض للوظائف التي تناط بالمكلف، فإذا قدم بعضها على بعض حصل له ولغيره ضرر أو لغيره فقط، مع كون أصل الفعل المطلوب لم يلاحظ فيه مشقة خارجة عن المعتاد، فالمشقة هنا تحصل من عدم العمل، عكس المعاني الأربعة السابقة "د". 2 من الأمور التي تعرض في القضاء غير الجور في الحكم، فليس القاضي معصوما، وقد يجره الأمر إلى الجور أيضا، وهذا ما دعا مثل أبي حنيفة إلى التنحي عنه مع توجيه الأذى إليه بسبب التنحي، فلا يظهر وجه للانتقاد من بعض الناظرين هنا على ذلك. "د". وكتب "خ" ما نصه: "لا يقع القاضي أو المفتي في أمر غير جائز، إلا أن يحيد عن طريق الاستقامة من تلقاء نفسه؛ إذ الخطأ في الاجتهاد مغتفر والإكراه إنما يخضع أمامه من يؤثر المنصب على الشرف والفضيلة، وليس العزل من الوظيفة عذرا يبيح لمن يتقلدها أن يقول على الله غير الحق، أو يتصرف في حق من حقوق الأمة على وجه يلقي به في تلف أو يهبط بالأمة هاوية ذل وصغار". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالْمَشَقَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ تَكُونُ غَيْرَ مَطْلُوبَةٍ، وَلَا الْعَمَلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا1 مَطْلُوبًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا نَظَرٌ فِي تَعَارُضِ مَشَقَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ لَزِمَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ لِغَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَصَدَّى النَّظَرُ فِي وَجْهِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَشَقَّتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ2 وَإِنْ لَمْ يُمَكِنْ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامَّةُ أَعْظَمَ، اعْتُبِرَ جَانِبُهَا وَأُهْمِلَ جَانِبُ الْخَاصَّةِ3، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ، فَالْعَكْسُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ، فَالتَّوَقُّفُ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.   1أي: إلى المشقة الخارجة عن المعتاد، كما سبق وكما هو مساق كلام المؤلف هنا، أو يقال: إن العمل المؤدي إلى المشقة من حيث تأديته إليها لا يطلب، والطلب إنما هو من جهة كونه مصلحة كما سبق مثله. "د". 2 كأن تكون مشقته من حيث عيش عياله، فتقوم له الأمة بذلك ويقوم لها بوظيفة القضاء أو العلم أو الجندية التي تتضرر بعدمها، وبهذا تجتمع المصلحتان وتنتفي المشقتان. "د". 3 كما إذا كان التعارض بين وظيفة عامة تتعين عليه، وبين مهم ديني غير متأكد عليه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: حَيْثُ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ الْوَاقِعَةُ بِالْمُكَلَّفِ فِي التَّكْلِيفِ خَارِجَةً عَنْ مُعْتَادِ الْمَشَقَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ1، حَتَّى يَحْصُلَ بِهَا فَسَادٌ ديني أو دنيوي،   1 الذي يفهم من قول الشاطبي عن المشقة التي تقتضي التخفيف أنها ما كانت "خارجة عن المعتاد في الأعمال العادية" إنه يرجع في تعيين الخلل على العبد إلى عرف الناس وعاداتهم، ومما يؤكد ذلك قوله في شأن ما يبدو أنه غير معتاد، ولكنه معتاد في الحقيقة: " ... فإذا كان كذلك، فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات". وخلاصة ذلك أن المشقات التي تقتضي التخفيف مما لم يَرِد بشأنها شيء من الشارع، هي المشقات التي تكشف العادات والأعراف عن أنها خارجة عن المعتاد وتلحق خللا في العبد أو ماله أو حال من أحواله. وقد استشكل القرافي في "الفروق" "1/ 119-120- الفرق 14" أن يكون العرف ضابطا للمشقة التي تجلب التيسير فيما لا نص فيه، وذكر أن الفقهاء يحيلون على العرف عند سؤالهم، مع أنهم من أهل العرف، فلو كان هناك عرف قائم لوجدوه معلوما لهم أو معروفا، ولا تصح الإحالة على غير الفقهاء؛ لأنه ليس بعد الفقهاء من أهل العرف إلا العوام، وهم مما لا يصح تقليدهم في الدين. ولذلك، فقد مال القرافي إلى الأخذ بمنهج ابن عبد السلام في التقريب بقواعد الشرع، كما تراه في كتابه" قواعد الأحكام" "2/ 9-10"، ولكن الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" "6/ 271" تعقب كلام القرافي، وذكر أن فيه نظرا ظاهرا، قال: "وأقول فيما استشكله من نوط ما لم يرد في الشرع بالعرف نظر ظاهر، فإن العلماء الذين ناطوا بعض المسائل بالعرف إنما وقع ذلك منهم أفذاذا أثناء البحث أو التصنيف، ويجوز أن يجهل كل فرد منهم العرف العام في كثير من المسائل، وما اجتمع علماء عصر أو قطر للبحث عن عرف الناس في أمر ومحاولة ضبطه وتحديده، ثم عجزوا عن معرفته وأحالوا في ذلك على العامة، أن من العلماء الفقير البائس والضعيف المنة -أي: القوة والجلد- والغني المترف، والقوي الجلد وغير ذلك، فيشق على بعضهم ما لا يشق على الجمهور، ويسهل على بعضهم ما لا يسهل على الجمهور، فالرجوع إلى العرف فيما يشق على الناس وما لا يشق عليهم ضروري لا بد منه، وهو لا يعرف إلا بمباشرة الناس وتعرف شئونهم وأحوالهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 فَمَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا الرَّفْعُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِيهَا الرُّخَصُ مُطْلَقًا. وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ خَارِجَةً عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَعُ الْمَشَقَّةُ فِي مِثْلِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، فَالشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهَا، فَلَيْسَ بِقَاصِدٍ لِرَفْعِهَا أَيْضًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لِرَفْعِهَا لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَادِيٍّ أَوْ غَيْرِ عَادِيٍّ يَسْتَلْزِمُ تَعَبًا وَتَكْلِيفًا عَلَى قَدْرِهِ، قَلَّ أَوْ جَلَّ، إِمَّا فِي نَفْسِ الْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَإِمَّا فِي خُرُوجِ الْمُكَلَّفِ عَمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى الدُّخُولِ فِي عَمَلِ التَّكْلِيفِ، وَإِمَّا فِيهِمَا مَعًا، فَإِذَا اقْتَضَى الشَّرْعُ رَفْعَ ذَلِكَ التَّعَبِ، كَانَ ذَلِكَ اقْتِضَاءً لِرَفْعِ الْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَكَانَ ما يَسْتَلْزِمُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ. إِلَّا أَنَّ هُنَا نَظَرًا1، وَهُوَ أَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ كَالْمَشَقَّةِ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الصِّيَامِ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصِّيَامِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْحَجِّ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ التَّكْلِيفِ، وَلَكِنَّ كُلَّ عَمَلٍ فِي نَفْسِهِ لَهُ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ فِيهِ تُوَازِي مَشَقَّةَ مِثْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، فَلَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْمُعْتَادِ عَلَى الْجُمْلَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَعْمَالَ الْمُعْتَادَةَ2 لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِيهَا تجري على وزان واحد، في   1 هذا هو محل الفائدة من هذه المسألة، يحقق فيه أن المشقة المعتادة نسبية يحتاج فهمها إلى دقة نظر بالنسبة لكل عمل في ذاته، حتى لا تختلط أنواع المشقات، فتختلط الأحكام المترتبة عليها. "د". قلت: انظر في حدود المشقة: "الذخيرة" للقرافي "1/ 340- ط دار الغرب". 2 أي: من أعمال التكليف بدليل سابقه ولاحقه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَيْسَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ1 يُسَاوِي إِسْبَاغَهُ فِي الزَّمَانِ الْحَارِّ، وَلَا الْوُضُوءُ مَعَ حَضْرَةِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فِي اسْتِقَائِهِ يُسَاوِيهِ مَعَ تَجَشُّمِ طَلَبِهِ أَوْ نَزْعِهِ مِنْ بِئْرٍ بَعِيدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ فِي قِصَرِ اللَّيْلِ أَوْ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، مَعَ فِعْلِهِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ 2 جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [الْعَنْكَبُوتِ: 10] بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 2] إِلَى آخِرِهَا. وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الْأَحْزَابِ: 10-11] . ثُمَّ مَدَحَ اللَّهُ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي وَعْدِهِ بِقَوْلِهِ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] . وَقِصَّةُ3 كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي تَخَلُّفِهِمْ عن غزوة   1 جمع سَبْرة، بفتح، فسكون: وهي الغداة الباردة. "د". 2 أي: فالإيمان قد يستتبع الوفاء بواجباته مشقات وفتنًا يجب الصبر عليها، ولا تعد خارجة عن المعتاد في موضوع الإيمان، وهو من أعمال التكليف، وآية الأحزاب فيها مشقة الجهاد دفاعا عن الدين، وطبيعة الجهاد تقتضي مثل هذه المشقة ولا تكون خارجة عن المعتاد في الجهاد، وإن كانت هي في نفسها شاقة، ومدحهم بالصدق فيما عاهدوا الله عليه يقتضي أن ذلك من لوازم عقد الإيمان، وأنه يلزمه الصبر على المشقات بالجهاد وغيره في سبيل المحافظة عليه. "د". 3 أخرجها البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 4/ 2120/ رقم 2769"، وأحمد في "المسند" "3/ 454 و456-459"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وسقتها مع تخريجها في كتابي "الهجر في الكتاب والسنة" "ص157-159". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 تَبُوكَ وَمَنْعُ1 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُكَالَمَتِهِمْ، وَإِرْجَاءُ أَمْرِهِمْ: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 118] . وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ2 عِنْدَ خَشْيَةِ الْعَنَتِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النِّسَاءِ: 25] . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ قَدْ تَبْلُغُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتَادٌ، وَمَشَقَّتُهُ فِي مثله مِمَّا يُعْتَادُ؛ إِذِ الْمَشَقَّةُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ لَهَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، طَرَفٌ أَعْلَى بِحَيْثُ لَوْ زَادَ شَيْئًا لَخَرَجَ3 عَنِ الْمُعْتَادِ، وَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْتَادًا، وَطَرَفٌ أَدْنَى بِحَيْثُ لَوْ نَقَصَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَشَقَّةٌ تُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَوَاسِطَةٌ هِيَ الْغَالِبُ وَالْأَكْثَرُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَثِيرٌ مِمَّا يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ لَا4 يَكُونُ كَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِمَجَارِي الْعَادَاتِ، وَإِذَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْمُعْتَادِ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي رَفْعِهَا، كَسَائِرِ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْعَادَةِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا رُخْصَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْضِعُ مشتبها فيكون محلا للخلاف5.   1 ربما يقال: إن هذا ليس تكليفا لهم، ولكنه نوع من العقوبة؛ لأن غيرهم هو الذي كلف بهجرهم، ولم يكلفوا إلا بهجر نسائهم في آخر المدة تقريبا، وليس هذا من المشقات التي يتوهم فيها الخروج عن المعتاد، فما هو الذي كان يمكنهم فعله ليخلصوا من عقوبة الهجر فلم يفعلوه؟ "د". 2 أي: المشقة في عدم إباحة التزوج بهن إلا عند بلوغ الأمر خوف الزنا، أما ما قبل ذلك من شدة الداعية إلى النكاح، فلا يعتد به وإن كان مشقة، ومع وجود المشقة التي اعتبرت هنا في الرخصة، فقد ندب إلى الصبر عند نكاحهن، فدل على أن المشقة في هذا الباب تقدر بحسبها فيه، لا بحسب نسبتها إلى المشقات في الأبواب الأخرى. "د". 3 في الأصل: "يخرج". 4 في "ط": "ولا". 5 في "ط": "محل خلاف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فَحَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التَّوْبَةِ: 41] ، ثُمَّ قَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التَّوْبَةِ: 39] ، كَانَ هَذَا مَوْضِعَ شِدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا رُخْصَةَ أَصْلًا فِي التَّخَلُّفِ، إِلَّا أَنَّهُ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ مَحْمُولٌ عَلَى أَقْصَى الثِّقَلِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ، بِحَيْثُ يَتَأَتَّى النَّفِيرُ وَيُمْكِنُ الْخُرُوجُ، وَقَدْ كَانَ اجْتَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمْرَانِ: شِدَّةُ الْحَرِّ، وَبُعْدُ الشُّقَّةِ، زَائِدًا عَلَى مُفَارَقَةِ الظِّلَالِ، وَاسْتِدْرَارِ الْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ زَائِدٌ فِي مَشَقَّةِ الْغَزْوِ زِيَادَةً ظَاهِرَةً، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ لَهَا عَنِ الْمُعْتَادِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ، فَكَذَلِكَ أَشْبَاهُهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] : إِنَّمَا ذَلِكَ سَعَةُ الْإِسْلَامِ؛ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ1. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَا أُحِلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ2. وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّهُ جَاءَ فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَرَجِ، فَقَالَ: أَوَلَسْتُمُ الْعَرَبَ؟! [فَسَأَلُوهُ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: أَوَلَسْتُمُ الْعَرَبَ؟!] ثُمَّ قال: ادع رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ [لَهُ] : مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الْحَرَجَةُ مِنَ الشَّجَرِ مَا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ الْحَرَجُ؛ ما لا مخرج له3.   1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 205-206"، وقال ابن العربي في "أحكامه" "3/ 1305" قبله: "وثبت صحيحا عن ابن عباس". قلت: وجاء في الأصل و"خ": " .... ولا مخرج". 2 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1305". 3 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 206" بنحوه، وذكره ابن العربي في "أحكامه" "3/ 1304-1305" بحرفه ونصه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ الْحَرَجَ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَفَسَّرَ رَفْعَهُ بِشَرْعِ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، فَمَا كَانَ مِنْ مُعْتَادَاتِ الْمَشَقَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، فَلَيْسَ بِحَرَجٍ لُغَةً وَلَا شَرْعًا، كَيْفَ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحَرَجِ وُضِعَ لِحِكْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ وَهِيَ التَّمْحِيصُ وَالِاخْتِبَارُ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الشَّاهِدِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ فِي الغائب1، فقد تبين إذن مَا هُوَ مِنَ الْحَرَجِ مَقْصُودُ الرَّفْعِ، وَمَا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الرَّفْعِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ"2 انْتَهَى مَا قَالَ. وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنْ عَنَى بِالْخَاصِّ الْحَرَجَ الَّذِي فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُعْتَادِ، فَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُعْتَادِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَادَ لَا إِسْقَاطَ فِيهِ، وَإِلَّا؛ لَزِمَ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ، فَإِنْ تُصُوِّرَ وُقُوعُ اخْتِلَافٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَرَجَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْخَارِجِ عَنِ الْمُعْتَادِ، لَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَأَيْضًا، فَتَسْمِيَتُهُ خَاصًّا يُشَاحُّ فِيهِ، فَإِنَّهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ عَامٌّ غَيْرُ خاص، إذ   1هذا كالتفسير لكل آية وقع فيها تعليل التكليف بعلم الله نحو: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وصفوة المقال أن الله يعلم السرائر كما يلعم ما سيكون؛ إذ العلم يتعلق بالمعدوم وبالموجود، وإنما يضع التكاليف؛ لتنكشف سريرة العبد حيث إن الجزاء إنما يترتب على ما يقع، كما أن الأحكام إنما تجري على حسب ما يظهر للعيان، فيرجع التعليل بالعلم إلى التعليل بما يلزمه العلم، وهو التبين أو الانكشاف، ويكون المعنى؛ ليتعلق به علمنا موجودا ظاهرا. "خ". 2 أحكام القرآن" "3/ 1306". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 لَيْسَ مُخْتَصًّا بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى التَّعْيِينِ دُونَ بَعْضٍ. وَإِنْ عَنَى بِالْحَرَجِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ جِنْسِ مَا تَقَعُ فِيهِ الرُّخْصَةُ وَالتَّوْسِعَةُ، فَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ فِيهِ أَيْضًا مِمَّا يُشْكَلُ فَهْمُهُ، فَإِنَّ السَّفَرَ مَثَلًا سَبَبٌ لِلْحَرَجِ مَعَ تَكْمِيلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ، فَهَذَا عَامٌّ، وَالْمَرَضُ قَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ لَيْسَ بِعَامٍّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ التَّخْفِيفُ فِي كُلِّ مَرَضٍ؛ إِذْ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِكْمَالِ الصَّلَاةِ قائما أو قاعدا، ومنه مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ، فَهَذَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي نَفْسِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَاصٌّ، وَلَكِنْ لَا يُخَالِفُ فِيهِ مَالِكٌ الشَّافِعِيَّ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوا هَذَا مِنَ الْحَرَجِ الْعَامِّ عِنْدَ تَقْيِيدِ الْمَرَضِ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ الْحَرَجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، فَيَرْجِعُ إِذْ ذَاكَ إِلَى قِسْمِ الْعَامِّ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ مَالِكٌ الشَّافِعِيَّ أَيْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصْعُبُ تَمْثِيلُ الْخَاصِّ، وَإِلَّا؛ فَمَا مِنْ حَرَجٍ يُعَدُّ1 أَنْ يَكُونَ لَهُ تَخْفِيفٌ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ إِلَّا وَهُوَ عَامٌّ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ لَهُ وَحْدَهُ أَوْ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَا اخْتُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خُصَّ بِهِ أحد أَصْحَابِهِ، كَتَضْحِيَةِ أَبِي بُرْدَةٍ بِالْعِنَاقِ الْجَذَعَةِ2 وَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ3 فَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ النُّبُوَّةِ دُونَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ مَا كَانَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَمَا كَانَ خَاصًّا4 بِبَعْضِ الْأَقْطَارِ، أَوْ بَعْضِ الْأَزْمَانِ، أو بعض الناس، وما أشبه   1 في "ط": "يقدر". 2 كما سيأتي "ص410"، وهناك تخريجه. 3 كما سيأتي "ص469"، وهناك تخريجه. 4 مثل له بعضهم بالمسافر ينقطع عن رفقته ومعه تبر، فيأتي دار الضرب بتبره ويأخذ منها دنانير بقدر ما يتخلص من تبره ويعطيهم أجرة الضرب، قال: وقد أجازها مالك مع انها مصلحة جزئية في شخص معين وحالة معينة. ا. هـ. وهذا غير ظاهر؛ لأن كل مسافر هذه حاله فحكمه هكذا، كما يشير إليه قول المؤلف: "فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ عام في ذلك الكلي ..... إلخ". "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 ذَلِكَ1. فَالْجَوَابُ: إِنَّ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُنْظُرُ فِيهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ عَامٌّ فِي ذَلِكَ الْكُلِّيِّ لَا خَاصٌّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخَاصِّ مَا كَانَ الْحَرَجُ فِيهِ خَاصًّا بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ، أَوْ بَعْضِ الْأَزْمَانِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَمْكِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي زَمَانِ النُّبُوَّةِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، كَنَهْيِهِ2 عَنِ ادِّخَارِ لحوم الأضاحي زمن الدافة3، وكتخصيص الكعبة   1 استعمل الأصوليون الكلية والجزئية بهذا المعنى في بحث المصالح التي قد ترجع إلى نوع المشاق، وفسروا الجزئية بما يعرض لبعض الناس أو في حالة مخصوصة، وذكروا الخلاف في حكمها، غير أن المعروف في المذهب المالكي اعتبارها، ومن أمثلتها المسافر يعجله السفر، فيأتي دار الضرب بتبره، فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير بمقدار ما يخلص من تبره، وقد أجاز الإمام مالك هذه الصورة لضرورة الانقطاع عن الرفقة، قال الزركشي في "البحر المحيط": ولكنها مصلحة جزئية بالنسبة إلى شخص معين وحالة معينة"."خ". 2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء 3/ 1651/ رقم 1971" بسنده إلى عبد عبد الله بن واقد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دَفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي". فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون منها الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ ". قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا، وتصدقوا". 3 في حاشية الأصل: "الدافة، بالدال المهملة، وتشديد الفاء: "الجماعة الذين يسيرون سيرا خفيفا، وقد ورد منهم على المدينة في زمنه عليه السلام، فنهى الناس عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم أباح ذلك بعد، وقال لما سئل عن النهي إنه من أجل الدافة، أي: لأنهم إذا نهوا عن الإدخار جاءوا به على أولئك القوم الوافدين وأطعموا منه" ا. هـ. وكتب "د" ما نصه: "الدافة: قوم من الأعراب يردون المصر، وقد نهي عن الادخار حينذاك ليأكل هؤلاء القادمون منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 بِالِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ [بِمَا اشْتُهِرَ مِنْ فَضْلِهَا] 1 عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَتَصَوُّرُ مِثْلِ هَذَا2 فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ غَيْرُ متأتٍّ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ خُصُوصٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَوْعٌ أَوْ صِنْفٌ دَاخِلٌ تَحْتَ جِنْسٍ شَامِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ3. قِيلَ وَفِيهِ أَيْضًا عُمُومٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ شَامِلًا لِمُتَعَدِّدٍ لَا يَنْحَصِرُ فَلَيْسَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ الْخُصُوصُ أَوْلَى بِهِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْعُمُومُ، بَلْ جِهَةُ الْعُمُومِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ فِيهَا كُلِّيٌّ، بِحَيْثُ لَوْ لَحِقَ نَوْعًا آخَرَ أَوْ صِنْفًا آخَرَ لَلَحِقَ بِهِ فِي الْحُكْمِ، فَنِسْبَةُ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ إِلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ أَوِ الْأَصْنَافِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ نِسْبَةُ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي لُحُوقِ الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ إِلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي بَعْضِهَا ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ، وَإِنْ سَقَطَ سَقَطَ فِي الْبَعْضِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ، فَمَسْأَلَتُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهَا كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلُ التَّغَيُّرِ اللَّاحِقِ لِلْمَاءِ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَهُوَ عَامٌ، كَالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، أَوْ خَاصٌّ كَمَا إِذَا كَانَ عَدَمُ   1 جاء في الأصل ما بين المعقوفتين بعد عبارة: "سائر المساجد". 2 أي: فخصوص مثل الخصوص في هذه الأمثلة التي أشار إليها لا يعقل هنا في كلام ابن العربي، فلا يمكن حمل الخصوص في كلامه عليه وغرضه بكثرة الاحتمالات التي يطرقها ثم ينفيها أخذ الطريق على ابن العربي في جملته هذه. "د". 3 في "ط": "أو لغيره". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 الِانْفِكَاكِ خَاصًّا بِبَعْضِ الْمِيَاهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ سَاقِطٌ لِعُمُومِهِ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ لِخُصُوصِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: هَلْ هُوَ طَهُورٌ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ خَاصٌّ، وَكَالتَّغَيُّرِ بِتَفَتُّتِ الْأَوْرَاقِ فِي الْمِيَاهِ خُصُوصًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالطَّلَاقُ قَبْلَ النِّكَاحِ1 إِنْ كَانَ عَامًا سَقَطَ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ خِلَافٌ، كَمَا إِذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنَ الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ أَوْ مِنَ السُّودَانِ أَوْ مِنَ الْبِيضِ أَوْ كُلُّ بِكْرٍ أَتَزَوَّجُهَا أَوْ كُلُّ ثَيِّبٍ وَمَا أَشْبَهَ2 ذَلِكَ، فَهِيَ طَالِقٌ، وَمِثْلُهُ كُلُّ أَمَةٍ اشْتَرَيْتُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ الْوَطْءِ مِنَ الْخَاصِّ3، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ حُرَّةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ مُطْلَقِ الْمِلْكِ مِنَ الْعَامِ فَيَسْقُطُ، فَإِنْ قَالَ فِيهِ: كُلُّ أَمَةٍ اشْتَرَيْتُهَا مِنَ السُّودَانِ كَانَ خَاصًّا، وَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، إِلَّا أَنَّ نَصَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا عَنْ مَالِكٍ بِعَدَمِ الِاعْتِبَارِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ بِالِاعْتِبَارِ يَجِبُ أَنَّ يُحَقَّقَ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ وَفِي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه4، لا   1 في حاشية الأصل: "انظر هذا، فإن حمل مسألة الطلاق قبل الملك على عموم الحرج وخصوصه يقتضي أن سبب خلاف الإمامين مراعاة الحرج وعدمه وليس كذلك، وإنما سبب الخلاف مراعاة الملك التقديري في الخاص عند مالك وعدم مراعاته مطلقا عن الشافعي، كذا قيل، وفيه نظر، والصواب ما عند المصنف، فإن مالكا اعتبر الملك التقديري في الخاص لعموم الحرج أو غلبته فيه وإلا فلا فرق، فلو كان .... ". 2 في الأصل: "أو". 3 لأنه له نكاح غير الإماء، أما الملك فلا يكون لغير الإمام، وقد عمم الحرج بهذه الصيغة، فوسع عليه بإسقاط ما تقتضيه تلك الضيغة، فله أن يملك الإماء، ولكن ليس له نكاحهن، عملا بالعموم في الأول، والخصوص في الثاني. "د". 4 أي: فالخلاف بالاعتبار وعدمه في المذهبين يكون من الخلاف في الفروع لا في الأصول، ولكن ابن العربي نقله على أنه خلاف في الأصول كما هو صريح عبارته، يقول المؤلف: إذا ثبت هذا الخلاف الذي يعزوه ابن العربي إلى المذهبين، كان المراد به ما شرحه المؤلف في هذا الوجه، وكان مقتضى قواعد الأصولية مصححا له لكن على أنه نظر فقهي لا أصولي. "د" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَظَرِ الْأُصُولِ، إِلَّا أَنَّهُ1 إِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ، فَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا2 وَالنَّظَرُ الْأُصُولِيُّ يَقْتَضِي مَا قَالَ، فَإِنَّ الْحَرَجَ الْعَامَّ هُوَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ، فَلَيْسَ بِحَرَجٍ عَامٍ بِإِطْلَاقٍ، إِلَّا أَنَّ الِانْفِكَاكَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَجٌ آخَرُ وَإِنْ كَانَ أَخَفُّ؛ إِذْ لَا يطَّرد الِانْفِكَاكُ عَنْهُ دُونَ مَشَقَّةٍ؛ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ. وأيضا، فكما لا يطَّرد الانفكاك عند دُونَ مَشَقَّةٍ كَذَلِكَ لَا يطَّرد مَعَ وُجُودِهَا، فَكَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ذَا نَظَرَيْنِ، فَصَارَتِ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةٍ: الطَّرَفُ الْعَامُّ الَّذِي لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَيُقَابِلُهُ طَرَفٌ خَاصٌّ يطَّرد الِانْفِكَاكُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ كَتَغَيُّرِ هَذَا الْمَاءِ بِالْخَلِّ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهُ، وَوَاسِطَةٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ هِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، والله أعلم.   1 في الأصل و"خ": "لأنه". 2 في "ط": "ها هنا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الشَّرِيعَةُ جَارِيَةٌ فِي التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ، الْآخِذِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِقِسْطٍ لَا مَيْلَ فِيهِ، الدَّاخِلِ تَحْتَ كَسْبِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ عَلَيْهِ وَلَا انْحِلَالٍ، بَلْ هُوَ تَكْلِيفٌ جارٍ عَلَى مُوَازَنَةٍ تَقْتَضِي فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ غَايَةَ الِاعْتِدَالِ، كَتَكَالِيفِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، أَوْ لِسَبَبٍ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ العلم بطريق العمل، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 215] . {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الْبَقَرَةِ: 219] . وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ التَّشْرِيعُ لِأَجْلِ انْحِرَافِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ وُجُودِ مَظِنَّةِ انْحِرَافِهِ عَنِ الْوَسَطِ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، كَانَ التَّشْرِيعُ رَادًّا إِلَى الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَمِيلُ فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ؛ لِيَحْصُلَ الِاعْتِدَالُ فِيهِ، فِعْلَ الطَّبِيبِ الرَّفِيقِ [أَنْ] 1 يَحْمِلَ الْمَرِيضَ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ وَعَادَتِهِ، وَقُوَّةِ مَرَضِهِ وَضَعْفِهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّتْ صِحَّتُهُ هَيَّأَ لَهُ طَرِيقًا فِي التَّدْبِيرِ وَسَطًا لَائِقًا بِهِ2 فِي جميع أحواله. أولا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ3 فِي ابتداء التكليف خطاب   1 زيادة ما بين المعقوفتين من الأصل فقط. 2 في "ط" "فيه". 3 الترتيب في ذاته صحيح، وأنه تعالى بدأ بإرشاد الخلق وإنارة عقولهم بالحقائق المتعلقة بخلقهم، وبث النعم في هذه الوجود لأجلهم، ولم يصل إلى تكليفهم بعد أصل الإيمان والكليات التي سيشير إليها المؤلف في الكتاب عند الكلام على التكاليف المكية والمدنية، إلا بعد بيانات وإرشادات وإعدادات للعقول إلى فهم هذه التكاليف، هذا مفهوم، ولكن غير المفهوم استشهاده بالآية الأولى وجعلها مما أنزل في ابتداء التكليف مع أنها مدنية، وكان يمكنه أن يجد ما اشتملت = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 التَّعْرِيفِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي بَثَّهَا فِي هَذَا الْوُجُودِ لِأَجْلِهِمْ، وَلِحُصُولِ مَنَافِعِهِمْ وَمَرَافِقِهِمْ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَيْشُهُمْ، وَتَكْمُلُ بِهَا تَصَرُّفَاتُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 22] . وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 32-34] . وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النَّحْلِ: 10] . إِلَى آخِرِ مَا عَدَّ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ، ثُمَّ وُعِدُوا عَلَى ذَلِكَ بِالنَّعِيمِ إِنْ آمَنُوا، وَبِالْعَذَابِ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَلَمَّا عَانَدُوا وَقَابَلُوا النِّعَمَ بِالْكُفْرَانِ، وَشَكُّوا فِي صِدْقِ مَا قِيلَ لَهُمْ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ بِصِدْقِ مَا قِيلَ لَهُمْ وَصِحَّتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا؛ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ، أخبروا   = عليه في آيات مكية، كقوله تعالى في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} إلخ، وفي سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} إلخ، وكالآية الثانية التي ذكرها من سورة إبراهيم؛ لأنها مكية، ثم قوله بعد: فلما عاندوا، أقيمت عليهم البراهين القاطعة، أي: وذلك في آيات مكية أيضا كما في سورة ق، انظر [كتاب الفوائد" "ص5-18" و"التبيان" "425-426" كلاهما" لابن القيم في الاستدلال بها على البعث وقدرة الله، وقوله: "فلما لم يلتفتوا إليها، أُخبِروا بحقيقتها، وضربت لهم الأمثال"، كما في الآيتين بعده وهما مكيتان ولو كان بدلهما مدني لما أضر بترتيبه، ولا ينافي هذا كله أن تكون هذه المعاني في المواطن الثلاثة وجدت أيضا في السور المدنية من باب التوكيد والتقرير، إلا أنه يبقى الكلام في أن هذه الآيات التي اختارها في المعاني الثلاثة مرتبة في النزول حسبما جاء في ترتيبه هو، فعليك بمراجعة تواريخها في النزول؛ لتعرف هل يتم له تقريره في هذا الترتب؟ "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 بِحَقِيقَتِهَا، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ كلَا شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ. وَضُرِبَتْ لَهُمُ الْأَمْثَالُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية [يونس: 24] . وقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} 1 [إلى آخر الآية] [الحديد:20] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الْحَدِيدِ: 20] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 64] . بَلْ لَمَّا آمَنَ النَّاسُ وَظَهَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ في الدنيا رغبة رُبَّمَا أَمَالَتْهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِي طَلَبِهَا أَوْ نَظَرًا2 إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهَرَاتِ الدُّنْيَا" 3. وَلَمَّا4 لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ وَلَا مَظِنَّتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الْأَعْرَافِ: 32] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] .   1 في "ط" بعدها: {وَزِينَةَ} . 2 يعني: وأنه مظنة لذلك كما أشار إليه سابقا. "د". 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 11/ 244/ رقم 6427" من حديث أبي سعيد مرفوعا، "إن أكثر مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ". قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ؟ قال: "زهرة الدنيا"، وذكر أشياء، منها ما تقدم عند المصنف "1/ 177". 4 المراد من كلام المؤلف في مثل هذا أنه قال هذا في مقام كذا، وقال ذلك في مقام كذا، لا أن هناك في الخارج هذا الترتيب، وإلا؛ فالحديث قاله صلى الله عليه وسلم على المنبر في المدينة، والآية في الأعراف وهي مكية، وكذا الآية الثانية في المؤمنون المكية "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وَوَقْعَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ النَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ1، وَالْوَعِيدُ فِيهِ وَالتَّشْدِيدُ، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 2 [فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَنَزَلَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] فَخَفَّفَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ قَلِيلَ الظُّلْمِ وَكَثِيرَهُ منهيٌّ عَنْهُ، لَكِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ مُطْلَقَ الظُّلْمِ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ وَالْهِدَايَةُ؛ لِقَوْلِهِ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ] أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 82] . وَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمن خَانَ" 3، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ إِذْ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَفَسَّرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ حِينَ أَخْبَرُوهُ بِكَذِبٍ وَإِخْلَافٍ وَخِيَانَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِأَهْلِ الْكُفْرِ4. وَكَذَلِكَ لَمَّا5 نَزَلَ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الْآيَةَ [البقرة: 284] شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . وَقَارَفَ6 بَعْضُهُمْ بِارْتِدَادٍ أَوْ غَيْرِهِ وَخَافَ أَنْ لَا يُغْفَرَ لَهُ، فَسُئِلَ في ذلك   1 أي: المطلق الشامل لشرك وغيره من المعاصي. "د". 2 المعروف أن الظلم في الآية هو الشرك كما ورد تفسيره في الحديث بآية: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، ولو رجع قوله: "شق ذلك عليهم" للآية والحديث، وزاد كلمة: "بظلم" قبل قوله: "بكذب" لكان جيدا، وبغير هذا لا يكون لذكر آية الظلم موقع، وفي الواقع هي والحديث بعدها من وادٍ واحد في أنها لما نزلت شق عليهم، ففسرت بما يخفف وقعها عليهم، حيث قالوا: أينا لم يظلم؟ أو نحوه، والتفسير أن رُد إلى الطريق الأعدل. "د" "استدراك5". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89/ رقم 23 ومسلم في "صحيحه" كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/78/ رقم 59"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في علامة المنافق/ رقم 2623"، النسائي في "المجتبى" "كتاب الإيمان باب علامة المنافق 8/ 117". 4 ستأتي هذه التتمة في "3/ 402". 5 مضى تخريجه "ص210، وهو صحيح. 6 في "خ": "قارن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ1 اللَّهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] .   1 أخرج ابن إسحاق في "السيرة" -كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 475"، ومن طريقه أبو بكر النجاد في "مسند عمر" "ق 124/ أ-ب"، والبزار في "البحر الزخار" "1/ 258-260 / رقم 155"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 435"، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي- وابن جرير في "التفسير" "24/ 11"، قال: حدثني نافع عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا للهجرة اعتدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي الميضأة ميضأة بنى غفار، فوق سرف وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس، فلينطلق صاحباه، فحبس عنا هشام بن العاص، فلما قدمنا المدينة فنزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة فكلماه، فقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حتى تراك فَرَقَّ لها، فقلت له: يا عياش1 إنه والله إن يريدك القوم إلا عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد أذى أمك القمل لقد امتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة- أحسبه قال: لاستظلت- فقال: إن لي هناك مالا فأخذه. قال: قلت والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليَّ ألا أن يخرج معهما. فقلت لما لما أبى عليَّ: أما إذ فعلت ما فعلت: فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها. فخرج معهما عليها حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال أبو جهل ابن هشام: والله لقد استبطأت بعيري هذا أفلا تحملني على ناقتك هذه؟ قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه وأوثقاه ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتن. قال: وكنا نقول: والله لا يقبل الله ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا تقبل توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} ، قال عمر: فكتبتها في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طول أصعد بها فيه حتى فهمتها. قال: فألقي في نفسي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت، فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة". قال البزار عقبه: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا نعلم روي عن عمر متصلا إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد". قلت: وإسناده صحيح على شرط مسلم، فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وَلَمَّا ذَمَّ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا، همَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَبَتَّلُوا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَاللَّذَّةَ وَالدُّنْيَا، وَيَنْقَطِعُوا إِلَى الْعِبَادَةِ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" 1. وَدَعَا لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بَعْدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التَّغَابُنِ: 15] ، وَالْمَالُ وَالْوَلَدُ هِيَ الدُّنْيَا2، وَأَقَرَّ الصَّحَابَةَ عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا وَالتَّمَتُّعِ بِالْحَلَالِ مِنْهَا، وَلَمْ يُزَهِّدْهُمْ وَلَا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا، إِلَّا عِنْدَ ظُهُورِ حِرْصٍ أَوْ وُجُودِ مَنْعٍ مِنْ حَقِّهِ، وَحَيْثُ تَظْهَرُ مَظِنَّةُ مُخَالَفَةِ التَّوَسُّطِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَمَا سِوَاهُ، فَلَا. وَمِنْ غَامِضِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا يُجَازِي بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ جَزَاءٌ لِأَعْمَالِهِمْ، فَنَسَبَ إِلَيْهِمْ3 أَعْمَالًا وَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 17] . وَنَفَى الْمِنَّةَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 4 [التِّينِ: 6] . فَلَمَّا منُّوا بِأَعْمَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْحُجُرَاتِ: 17] . فَأَثْبَتَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا هُوَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْطَعُ حَقٍّ، وَسَلَبَ5.   1 مضى تخريجه "1/ 522". 2 أي: التي قد ذمها: "د". 3 في "ط": "لهم". 4 جارٍ على أن المعنى غير ممنون به، وأكثر المفسرين على تفسيره بأنه غير مقطوع. "د". 5 فلم يضف العمل لهم، بل أضافه لنفسه ومَنَّ به عليهم بخلاف غيرهم، فإنه أضافه لهم وسلب المنة فيه عنهم. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 عَنْهُمْ مَا أَضَافَ إِلَى الْآخَرِينَ، بِقَوْلِهِ: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الْحُجُرَاتِ: 17] ، كَذَلِكَ أَيْضًا، أَيْ فَلَوْلَا الْهِدَايَةُ لَمْ يَكُنْ مَا مَنَنْتُمْ بِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ حَدِيثَ شِرَاجِ1 الْحَرَّةِ حِينَ تَنَازَعِ فِيهِ الزُّبَيْرُ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ -فَأْمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ- وَأَرْسِلَ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ": فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنْ كَانَ ابْنُ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إِلَى الْجَدْرِ"، وَاسْتَوْفَى لَهُ حَقَّهُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65] 2. وَهَكَذَا تَجِدُ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا. وَعَلَى نَحْوٍ مَنْ هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي الطَّبِيبُ الماهر، يعطي الغذاء ابتداء   1 الشراج: جمع شرجة، بفتح، فسكون، وهي مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والحرة: أرض ذات حجارة سود، وهي هنا اسم لمكان خاص قرب المدينة. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار 5/ 34/ رقم 2359/ 2360، وكتاب التفسير، باب: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} 8/ 254/ رقم 4585، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الأحكام، باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء 3/ 644/ رقم 1363، وأبواب التفسير، باب ومن سورة النساء 5/ 238-239/ رقم 3027"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 391/ رقم 130"، و"المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب إشارة الحاكم بالرفق 8/ 245"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، أبواب من القضاء 3/ 315-316/ رقم 3637" وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه 1/ 7-8/ رقم 15، وكتاب الرهون، باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء 2/ 829/ رقم 2480" عن عبد الله ابن الزبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاعْتِدَالُ فِي تَوَافُقِ مِزَاجِ الْمُغْتَذِي مَعَ مِزَاجِ الْغِذَاءِ، وَيُخْبِرُ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُغْتَذِي؛ أَهْوَ غِذَاءٌ، أَمْ سُمٌّ، أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَإِذَا أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ بِانْحِرَافِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ، قَابَلَهُ فِي مُعَالَجَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى انْحِرَافِهِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ؛ لِيَرْجِعَ إِلَى الِاعْتِدَالِ وَهُوَ الْمِزَاجُ الْأَصْلِيُّ، وَالصِّحَّةُ الْمَطْلُوبَةُ، وَهَذَا غَايَةُ الرِّفْقِ، وَغَايَةُ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا نَظَرْتَ فِي كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا حَامِلَةً عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَيْلًا إِلَى جِهَةِ طَرَفٍ مِنَ الْأَطْرَافِ، فَذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ وَاقِعٍ أَوْ مُتَوَقَّعٍ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ. فَطَرَفُ التَّشْدِيدِ -وَعَامَّةُ مَا يَكُونُ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وَالزَّجْرِ- يُؤْتَى بِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِانْحِلَالُ فِي الدِّينِ. وَطَرَفُ التَّخْفِيفِ -وَعَامَّةُ مَا يَكُونُ فِي التَّرْجِيَةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْخِيصِ- يُؤْتَى بِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَرَجُ فِي التَّشْدِيدِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ رَأَيْتَ التَّوَسُّطَ لَائِحًا، وَمَسْلَكَ الِاعْتِدَالِ وَاضِحًا، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَالْمَعْقِلُ الَّذِي يُلْجَأُ إِلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا إِذَا رَأَيْتَ فِي النَّقْلِ مِنَ الْمُعْتَبِرِينَ فِي الدِّينِ مَنْ مَالَ عَنِ التَّوَسُّطِ، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةً مِنْهُ لِطَرَفٍ وَاقِعٍ أَوْ متوقع في الجهة الأخرى1،   1 الميل عن التوسط الصالح لأن يكون علاجا للأنفس إنما يصح في العمل ذي الوجوه الجائزة كالعزيمة والرخصة، أما في الفتوى، فقد سوغ بعض أهل العلم للمجتهد أن ينظر إلى حال المكلف المعين ويأخذ له في الفتوى بقول غيره من الصحابة والتابعين عندما يفهم من حاله أنه إن أفتاه بالقول الراجح في نظره، لم يقبل الفتوى، وأفضت به الاستهانة بأمر الدين إلى اقتحام ما هو أشد من المخالفات، وممن قرر المسألة على هذا الوجه وقصر النظر فيها على المجتهد دون المقلد أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم من القواصم"، ولكنا لم نظفر بدليل يشهد بصحة أن يفتي المجتهد بغير ما يراه القول الحق، وسيمر بك تحقيق هذا في بحث العمل بالقول الراجح. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وَعَلَيْهِ يَجْرِي النَّظَرُ فِي الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَأَشْبَاهِهِمَا، وَمَا قَابَلَهَا. وَالتَّوَسُّطُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ1، وَقَدْ يُعْرَفُ بِالْعَوَائِدِ، وَمَا يَشْهَدُ بِهِ مُعْظَمُ الْعُقَلَاءِ كَمَا في الإسراف والإقتار في النفقات.   1 من المفيد أن يعلم أن "الوسط" في نصوص الشرع ليس فقط ما يكون بين شيئين، وإنما جاء بمعنى: العدل الخيار، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، والوسطى بمعنى خيرها وأعدلها وأفضلها، وقال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، أي: خيره وأعدله، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، أي: خيارا عدولا، والمقصود من ذلك جميعه أن يفهم أن الوسطية في الدين هي الخيرية والعدالة الدينية. انظر: "تنوير الأفهام لبعض مفاهيم الإسلام" "ص51" للشيخ محمد شقرة، و"الحقيقة الشرعية" "174". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 النَّوْعُ الرَّابِعُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ1 عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا، كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا2. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النَّصُّ الصَّرِيحُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ خُلِقُوا للتعبد لله، والدخول   1 هذا قصد آخر للشارع من وضع الشريعة غير النوع الأول الذي قرره من أن مقصد الشرع إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي، ولا تنافي بين القصدين، إنما المطلوب منك معرفة الفرق بين القصدين، حتى تميز المباحث الخاصة بكل منهما، فالنوع الأول معناه وضع نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، والرابع أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام، والانقياد له لا لهواه، وهكذا تجد مسائل النوع الأول كلها في تفاصيله، وكذلك سائر الأنواع بطريق الاستقراء التام. "د". قلت: ويتضح الفرق جليا بين النوعين من النظر في مباحث كل منهما، ولكن العبارات التي افتتح بها الكلام في كل من النوعين كافية أيضا في التفريق بينهما. 2 نحوه في "الاعتصام" "1/ 434- ط دار المعرفة و1/ 134-135- ط محمد رشيد رضا" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 346-347، 479"، و"المرآة" "1/ 294- بحاشية الإزميري". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 تَحْتَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56-57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] . وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 21] . ثُمَّ شَرَحَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فِي تَفَاصِيلَ السُّورَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 177] . وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ مَا ذُكِرَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَوْلِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النِّسَاءِ: 36] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالْعِبَادِةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِتَفَاصِيلِهَا عَلَى الْعُمُومِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالِانْقِيَادِ إِلَى أَحْكَامِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ مَعْنَى التَّعَبُّدِ لِلَّهِ. وَالثَّانِي: مَا دَلَّ عَلَى ذَمِّ مُخَالَفَةِ هَذَا الْقَصْدِ مِنَ النَّهْيِ أَوَّلًا عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَذَمِّ من أعرض عن الله، وإيعادهم بالعذاب العادل مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْخَاصَّةِ بِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُخَالَفَاتِ، وَالْعَذَابِ الْآجِلِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالِانْقِيَادُ إِلَى طَاعَةِ الْأَغْرَاضِ الْعَاجِلَةِ، وَالشَّهَوَاتِ الزَّائِلَةِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُضَادًّا لِلْحَقِّ، وَعَدَّهُ قَسِيمًا لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ... الآية [ص: 26] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَاتِ: 37-39] . وَقَالَ فِي قَسِيمِهِ1: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَاتِ: 40-41] . وَقَالَ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجْمِ: 3-4] . فَقَدْ حَصَرَ الْأَمْرَ فِي شَيْئَيْنِ: الْوَحْيِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَالْهَوَى، فَلَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُمَا مُتَضَادَّانِ، وَحِينَ تَعَيَّنَ الْحَقُّ فِي الْوَحْيِ توجَّه لِلْهَوَى ضِدَّهُ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى مُضَادٌّ لِلْحَقِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الْجَاثِيَةِ: 23] . وَقَالَ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الْمُؤْمِنُونَ: 71] . وَقَالَ: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 16] . وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 14] . وَتَأَمَّلْ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْهَوَى، فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ وَلِمُتَّبِعِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: "مَا ذَكَرَ اللَّهُ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا ذَمَّهُ"1 فَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْخُرُوجَ عَنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى والدخول تحت التعبد للمولى.   1 ذكره ابن الجوزي في "ذم الهوى" "ص18"، وعزاه لابن عباس، ولم ينسبه لأحد، ثم وجدته في "الاعتصام" "2/ 688- ط ابن عفان" معزوا لطاوس، قال: "حكى ابن وهب عن طاوس ..... " "وذكره". وأخرجه الهروي في "ذم الكلام" "ص123" بسنده إلى سليمان الأحول قوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وَالثَّالِثُ: مَا عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَحْصُلُ مَعَ الِاسْتِرْسَالِ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالْمَشْيِ مَعَ الْأَغْرَاضِ؛ لِمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّهَارُجِ1 وَالتَّقَاتُلِ وَالْهَلَاكِ، الَّذِي هُوَ مُضَادٌّ لِتِلْكَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَمِّ مَنِ اتَّبَعَ شَهَوَاتِهِ، وَسَارَ حَيْثُ سَارَتْ بِهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَا شَرِيعَةَ لَهُ يَتْبَعُهَا، أَوْ كَانَ لَهُ شَرِيعَةٌ دَرَسَتْ، كَانُوا يَقْتَضُونَ الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ بِكَفِّ كُلِّ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ2، وَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ إِلَّا لِصِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، واطِّراد الْعَوَائِدِ بِاقْتِضَائِهِ مَا أَرَادُوا مِنْ إِقَامَةِ صَلَاحِ الدُّنْيَا، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا السِّيَاسَةَ الْمَدَنِيَّةَ، فَهَذَا أَمُرُّ قَدْ تَوَارَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُستدَل عَلَيْهِ3. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى مُقْتَضَى تَشَهِّي الْعِبَادِ وَأَغْرَاضِهِمْ؛ إِذْ لَا تَخْلُو أَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَمْسَةِ، أَمَّا الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ، فَظَاهِرٌ مُصَادَمَتُهَا لِمُقْتَضَى الِاسْتِرْسَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ؛ إِذْ يُقَالُ لَهُ: "افْعَلْ كَذَا" كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لَا، وَ"لَا تَفْعَلْ كَذَا". كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لَا، فَإِنِ اتَّفَقَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ غَرَضٌ مُوَافِقٌ، وَهَوًى بَاعِثٌ على   1 الهَرْج: القتل والفتنة. 2 أي: من يعد متبعا لهواه بحسب ما يؤدي إليه النظر العقلي عندهم، وقد اطردت العوائد عندهم أن هذا الكف يترتب عليه ما أرادوا من إقامة المصالح. "د". 3 يتفق المصنف في كلامه هذا مع أحداث الآراء الفلسفية التي تُرجع انهيار الحضارات إلى الأهواء الجامحة، كما تراه مثلا في كتاب "منبعا الأخلاق والدين" "ص277" لبرقسون، وسبقه إلى هذا ابن القيم؛ قال في "إعلام الموقعين" "1/ 72": "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم الفساد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 مُقْتَضَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ، فَبِالْعَرْضِ لَا بِالْأَصْلِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ -وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الدُّخُولَ تَحْتَ خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّمَا دَخَلَتْ بِإِدْخَالِ الشَّارِعِ لَهَا تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَغَرَضٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ؟ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ، بَلْ فِي رَفْعِهِ مَثَلًا، كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ؟ فَكَمْ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يودُّ لَوْ كَانَ الْمُبَاحُ الْفُلَانِيُّ مَمْنُوعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وُكِّلَ إِلَيْهِ مَثَلًا تَشْرِيعُهُ لِحَرَّمَهُ، كَمَا يَطْرَأُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِي حَقٍّ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ اخْتِيَارَهُ وَهَوَاهُ فِي تَحْصِيلِهِ يَوَدُّ لَوْ كَانَ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ جَعْلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَوْجَبَهُ، ثُمَّ قَدْ يَصِيرُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْمُبَاحِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْعَكْسِ، فَيُحِبُّ الْآنَ مَا يَكْرَهُ غَدًا، وَبِالْعَكْسِ، فَلَا يستتبُّ فِي قَضِيَّةِ حُكْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَوَارَدُ الْأَغْرَاضُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَيَنْخَرِمُ النظام بسبب فرض اتِّباع الْأَغْرَاضِ وَالْهَوَى، فَسُبْحَانَ الَّذِي أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] . فإذن، إِبَاحَةُ الْمُبَاحِ مَثَلًا لَا تُوجِبُ دُخُولَهُ بِإِطْلَاقٍ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ كَانَ قَضَاءً مِنَ الشَّارِعِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ تَابِعًا لِوَضْعِ الشَّارِعِ، وَغَرَضُهُ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ لَا بِالِاسْتِرْسَالِ الطَّبِيعِيِّ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ إِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَضْعُ الشَّرَائِعِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَثًا، أَوْ لِحِكْمَةٍ، فَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 1 [المؤمنون: 115] .   1 أي: بل لحكمة تقتضي تكليفكم وبعثكم للجزاء، فهي توبيخ للكفار على تغافلهم، وإرشاد إلى أن الشريعة وضعت لحكمة، ولو زاد كلمة "إلخ"، لكان أحسن؛ لأن ظهور الإشارة تام في قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} . "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} 1 [ص: 27] . {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدُّخَانِ: 38-39] . وَإِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، فَالْمَصْلَحَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى الْعِبَادِ، وَرُجُوعُهَا إِلَى اللَّهِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ وَيَسْتَحِيلُ عَوْدُ الْمَصَالِحِ إِلَيْهِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يبقَ إِلَّا رُجُوعُهَا إِلَى الْعِبَادِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى أَغْرَاضِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ إِنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، وَمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَالشَّرِيعَةُ تَكَفَّلَتْ لَهُمْ بِهَذَا الْمَطْلَبِ فِي ضِمْنِ التَّكْلِيفِ، فَكَيْفَ يُنْفَى أَنْ تُوضَعَ الشَّرِيعَةُ عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِ الْعِبَادِ وَدَوَاعِي أَهْوَائِهِمْ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت2 لَهُمْ حُظُوظُهُمْ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُحَقِّقُونَ، أَوْ وُجُوبًا عَلَى مَا يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ حَقًّا، كَانَ مَا يُنَافِيهِ بَاطِلًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ وَضْعَ الشَّرِيعَةِ إِذَا سُلِّمَ أَنَّهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَعَلَى الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ، لَا عَلَى مُقْتَضَى أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلِذَا3 كَانَتِ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ ثَقِيلَةً عَلَى النُّفُوسِ، وَالْحِسُّ وَالْعَادَةُ وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مُخْرِجَةٌ لَهُ عَنْ دَوَاعِي طَبْعِهِ وَاسْتِرْسَالِ أَغْرَاضِهِ، حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْ تَحْتِ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَهُوَ عَيْنُ مُخَالَفَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ، أَمَّا أَنَّ مَصَالِحَ التَّكْلِيفِ عَائِدَةٌ على المكلف في   1 الباطل ما لا حكمة فيه، والآية مقررة لما قبلها من أمر المَعاد والحساب، ولا يكون إلا بعد شرع وبيان، والآية بعدها مثلها، فإن معنى اللعب واللهو ما لا حكمة فيه، وبما ذكرناه ظهر وجه الاستدلال بالآيات، فلا يقال: إن الآيات في أصل الخلق لا في وضع الشريعة. "د". 2 في "د": "ثبَّتت". 3 في الأصل و"ط": "ولذلك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَصَحِيحٌ1 وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَيْلُهُ لَهَا خَارِجًا عَنْ حُدُودِ الشَّرْعِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لَهَا بِنَفْسِهِ دون أن يناولها إياه الشرع، وهو ظَاهِرٌ، وَبِهِ يُتَبَيَّنُ أَنَّ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ نَظَرٌ فِي ثُبُوتِ الْحَظِّ وَالْغَرَضِ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ، لَا مِنْ حَيْثُ اقْتَضَاهُ الهوى والشهوة، وذلك ما أردنا ههنا. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا انْبَنَى عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: - مِنْهَا: أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ كَانَ الْمُتَّبَعُ فِيهِ الْهَوَى بِإِطْلَاقٍ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ التَّخْيِيرِ، فَهُوَ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَمَلِ مِنْ حَامِلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وداعٍ يَدْعُو إِلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِتَلْبِيَةِ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ مَدْخَلٌ، فَلَيْسَ إِلَّا مُقْتَضَى الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْحَقِّ بِإِطْلَاقٍ، فَهَذَا الْعَمَلُ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رِضَيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي "الْمُوَطَّأِ": "إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وتُضَيَّع حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعطِي، يُطِيلُونَ فيه الصلاة ويُقْصِرُون فيه الخطبة، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم2،   1 أما المعاملات، فأثرها في المصالح العاجلة بانتظام حياة الاجتماع والتمتع بنعمة الاستقلال وعزة الجانب، وأما العبادات، فلما في إقامتها من الفوز برضا الخالق الذي هو مبدأ فيضان النعم الروحية، من اطمئنان النفس، وراحة الضمير، واحتقار متاع هذه الحياة، وقلة المبالاة بنوائب البأساء والضراء، وهذه النعم التي هي ملاك الحياة الطيبة ملازمة للقيام بالأعمال الصالحة ملازَمة النتائج لمقدماتها الصحيحة، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . "خ". 2 فعملهم يبدأ قبل ظهور شهوتهم وهواهم فيه، فإذن عملهم يُحمَل عليه شيء آخر غير الهوى، وهو انقيادهم إلى ما شرعه الله، أما هواهم فمرتبته متأخرة عن البدء في العمل، فليسوا فيه متبعين للهوى، بخلاف الفريق الآخر الذي لا يبدأ في العمل إلا بعد ظهور الهوى فيه؛ فإن المتغلب عليه في العمل هواه، وشتان بين الفريقين. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتَضِيعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ وَيُقْصِرُونَ الصَّلَاةَ، يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ"1. فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ، فَكَوْنُهَا بَاطِلَةً ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْعَادَاتُ، فَذَلِكَ2 مِنْ حَيْثُ عَدَمِ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَوُجُودُهَا فِي ذَلِكَ وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي عَدَمِ أَخْذِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُنْعِمِ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ. وَكُلُّ فِعْلٍ كَانَ الْمُتَّبَعُ فِيهِ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ التَّخْيِيرِ، فَهُوَ صَحِيحٌ وحق؛ لأنه قد أتى مِنْ طَرِيقِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَوَافَقَ فِيهِ صَاحِبُهُ قصد الشارع،   1 أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 173" عن يحيى بن سعيد، أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان ..... "وذكره". وإسناده منقطع؛ يحيى بن سعيد لم يسمع من ابن مسعود شيئا، لكن قال ابن عبد البر في "الاستذكار" 6/ 345": "إن هذا الحديث قد روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة". قلت: نعم، أخرجه أبو خيثمة في "العلم" "109" بإسناد حسن، ولكنه مختصر، وأخرجه من طرق عن ابن مسعود البخاريُّ في "الأدب المفرد" "رقم 789"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 3787"، ومن طريقه وغيره الطبراني في "الكبير" "9/ 345/ رقم 9496، 8567". وحسنه ابن حجر في "الفتح" "10/ 510"، وشيخنا الألباني في "صحيح الأدب المفرد" "رقم 605". قلت: ووقع في "خ" محرفا: "فقاؤه" في الموضع الثاني منه. 2 في نسخة "ماء/ ص179": "فكذلك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 فَكَانَ كُلُّهُ صَوَابًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا إِنِ امْتَزَجَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، فَكَانَ مَعْمُولًا بِهِمَا، فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ1 وَالسَّابِقِ2، فَإِنْ كَانَ السَّابِقُ أَمْرَ الشَّارِعِ بِحَيْثُ قَصَدَ الْعَامِلُ نَيْلَ غَرَضِهِ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي إِلْحَاقِهِ3 بِالْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا كَانَ الْمُتَّبَعُ فِيهِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ طَلَبِ الْحُظُوظِ وَالْأَغْرَاضِ لَا يُنَافِي وَضْعَ الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ أَيْضًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَإِذَا جُعِلَ الْحَظُّ تَابِعًا، فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْعَامِلِ. إِلَّا أَنَّ هُنَا شَرْطًا مُعْتَبَرًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَجْهُ الَّذِي حصَّلَ أَوْ يُحَصِّل بِهِ غَرَضُهُ مِمَّا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَهُ لِتَحْصِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَإِلَّا، فَلَيْسَ السَّابِقُ فِيهِ أَمْرَ الشَّارِعِ، وَبَيَانُ هَذَا الشَّرْطِ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ وَالسَّابِقُ هُوَ الْهَوَى وَصَارَ أَمْرُ الشَّارِعِ كَالتَّبَعِ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَعَلَامَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ تَحَرِّي قَصْدِ الشَّارِعِ وَعَدَمُ ذَلِكَ، فَكُلُّ عَمَلٍ شَارَكَ العاملَ فِيهِ هَوَاهُ، فَانْظُرْ؛ فَإِنْ كَفَّ هَوَاهُ وَمُقْتَضَى شَهْوَتِهِ عِنْدَ نَهْيِ الشَّارِعِ4، فَالْغَالِبُ وَالسَّابِقُ لِمِثْلِ هَذَا أَمْرُ الشَّارِعِ، وَهَوَاهُ تَبَع، وَإِنْ لَمْ يكفَّ عِنْدَ وُرُودِ النَّهْيِ عَلَيْهِ، فَالْغَالِبُ وَالسَّابِقُ لَهُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَإِذْنُ الشَّارِعِ تَبَعٌ لَا حُكْمَ لَهُ عِنْدَهُ، فَوَاطِئُ زَوْجَتِهِ وَهَيَ طَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَابِعًا لِهَوَاهُ، أَوْ لِإِذْنِ الشارع، فإن حاضت فانكف، دل عل أَنَّ هَوَاهُ تَبَعٌ، وَإِلَّا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ السابق.   1، 2 أي: الأقوى في الحمل على الفعل، والذي سبق إلى النفس منهما. "د". 3 في "د" و"خ" و"ط": "لحاقه". 4 في "ط" زيادة "له". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى طَرِيقٌ إِلَى الْمَذْمُومِ وَإِنْ جَاءَ فِي ضِمْنِ الْمَحْمُودِ1؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُضَادٌّ بِوَضْعِهِ لِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ، فَحَيْثُمَا زَاحَمَ مُقْتَضَاهَا فِي الْعَمَلِ كَانَ مَخُوفًا. أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّهُ سَبَبُ تَعْطِيلِ الْأَوَامِرِ وَارْتِكَابِ النَّوَاهِي؛ لِأَنَّهُ مُضَادٌّ لَهَا. وَأَمَا ثَانِيًا، فَإِنَّهُ إِذَا اتُّبِعَ وَاعْتِيدَ، رُبَّمَا أَحَدَثَ لِلنَّفْسِ ضَرَاوَةً وَأُنْسًا بِهِ، حَتَّى يَسْرِيَ مَعَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مَخْلُوقٌ مَعَهَا مُلْصَقٌ بِهَا فِي الْأَمْشَاجِ، فَقَدْ يَكُونُ مَسْبُوقًا بِالِامْتِثَالِ الشَّرْعِيِّ فيصير سابقا له، وإذا صَارَ سَابِقًا لَهُ صَارَ الْعَمَلُ الِامْتِثَالِيُّ تَبَعًا لَهُ وَفِي حُكْمِهِ، فَبِسُرْعَةٍ مَا يَصِيرُ صَاحِبُهُ إِلَى الْمُخَالَفَةِ وَدَلِيلُ التَّجْرِبَةِ حَاكِمٌ هُنَا. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَإِنَّ الْعَامِلَ بِمُقْتَضَى الِامْتِثَالِ مِنْ نَتَائِجِ عَمَلِهِ الِالْتِذَاذُ بِمَا هُوَ فِيهِ، وَالنَّعِيمُ بِمَا يَجْتَنِيهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْفُهُومِ، وَانْفِتَاحِ مَغَالِيقِ الْعُلُومِ، وَرُبَّمَا أُكْرِمَ بِبَعْضِ الْكَرَامَاتِ، أَوْ وُضِعَ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، فَانْحَاشَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وحلَّقوا عَلَيْهِ، وَانْتَفَعُوا بِهِ، وأمُّوه لِأَغْرَاضِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ عَلَى السَّالِكِينَ طُرُقَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْخَلْوَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَسَائِرِ الْمُلَازِمِينَ لِطُرِقِ الْخَيْرِ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَانَ لِلنَّفْسِ بِهِ بَهْجَةٌ وَأُنْسٌ، وَغِنًى وَلَذَّةٌ، وَنَعِيمٌ بِحَيْثُ تَصْغُرُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَحْظَةٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ2: "لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَقَاتَلُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ"، أَوْ كَمَا قَالَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَعَلَّ النفس تنزع3   1 بعدها في نسخة "ماء/ ص179": "وذا حقيق". 2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم 81"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" "4/ 127" و"سلوة الأحزان" "رقم 198"، وأبو نعيم "7/ 370". 3 وتشتد رغبتها في القيام بالصلاة والصيام والخلوة للعبادة؛ ليزداد أنسها وبهجتها، ولذتها ونعيمها، وإكرامها بالكرامات وزيادة القبول في الأرض، وكل هذا هوى خالط المحمود من العمل، لكنه قد يسبق إلى النفس، فيخسر صاحبه مرتبته. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 إِلَى مُقَدِّمَاتِ تِلْكَ النَّتَائِجِ، فَتَكُونُ سَابِقَةً لِلْأَعْمَالِ، وَهُوَ بَابُ السُّقُوطِ عَنْ تِلْكَ الرُّتْبَةِ وَالْعِيَاذُ بالله، هذا وإن كان الهوى في الْمَحْمُودُ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَقَدْ يَصِيرُ إِلَى الْمَذْمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَدَلِيلُ هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَحْوَالِ السَّالِكِينَ وَأَخْبَارِ الْفُضَلَاءِ والصالحين، فلا حاجة إلى تقريره ههنا. فَصْلٌ: - وَمِنْهَا: أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُحْتَالُ بِهَا عَلَى أَغْرَاضِهِ، فَتَصِيرُ1 كَالْآلَةِ الْمُعَدَّةِ لِاقْتِنَاصِ2 أَغْرَاضِهِ، كَالْمُرَائِي يَتَّخِذُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ سُلَّمًا لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَبَيَانُ هَذَا ظَاهِرٌ، وَمَنْ تَتَبَّعَ مَآلَاتِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَجَدَ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى جُمْلَةً عِنْدِ الْكَلَامِ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ فِي أَسْبَابِهَا، وَلَعَلَّ الْفِرَقَ الضَّالَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثَ3 أَصْلُ ابْتِدَاعِهَا اتِّبَاعُ أَهْوَائِهَا، دُونَ توخي مقاصد الشرع.   1 في "ط": "حتى تصير". 2 في نسخة "ماء/ ص179": "الانتقاص". 3 سيأتي نصه وتخريجه "ص335". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَانِ: مَقَاصِدٌ أَصْلِيَّةٌ، وَمَقَاصِدٌ تَابِعَةٌ1. فَأَمَّا الْمَقَاصِدُ الْأَصْلِيَّةُ، فَهِيَ الَّتِي لَا حَظَّ فِيهَا للمكلَّف، وَهَى الضَّرُورِيَّاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَا حَظَّ فِيهَا لِلْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا قِيَامٌ بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ، لَا تَخْتَصُّ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَلَا بِصُورَةٍ دُونَ صُورَةٍ، وَلَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، لَكِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى ضَرُورِيَّةٍ عَيْنِيَّةٍ، وَإِلَى ضَرُورِيَّةٍ كِفَائِيَّةٍ. فَأَمَّا كَوْنُهَا عَيْنِيَّةً، فَعَلَى كُلِّ مكلَّف فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ دِينِهِ2 اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَبِحِفْظِ نَفْسِهِ قياما بضروريات حَيَاتِهِ، وَبِحِفْظِ عَقْلِهِ حِفْظًا لِمَوْرِدِ الْخِطَابِ مِنْ رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَبِحِفْظِ نَسْلِهِ الْتِفَاتًا إِلَى بَقَاءِ عِوَضِهِ فِي عِمَارَةِ هَذِهِ الدَّارِ، وَرَعْيًا لَهُ عَنْ وَضْعِهِ فِي مَضْيَعَةِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ الْعَاطِفَةِ3 بِالرَّحْمَةِ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ، وَبِحِفْظِ مَالِهِ اسْتِعَانَةً عَلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ خلاف هذه الأمور لجر عليه، ولحيل بينه   1 في الأصل وفي نسخة "ماء/ ص 180": "تابعية". 2 يحتاج المقام لبيان القدر الذي لا حظ فيه للنفس من هذه الأمور الخمسة، فحفظ نفسه بألا يعرضها للهلاك كأن يقذف بنفسه في مهواة، ودينه بأن يتعلم ما يدفع عن نفسه به الشُّبَه التي تورد عليه مثلا، وعقله بأن يمتنع عما يكون سببا في ذهابه أو غيبوبته، بأي سبب من الأسباب، ونسله بألا يضع شهوته إلا حيث أحلَّ الله حتى تحفظ، وماله بألا يتلفه بحرق أو نحوه مما يوجب عدم الانتفاع به، وبهذا يظهر قوله: "أنه لو فرض اختياره لغير هذه الأمور لحجر عليه"، أما حفظ نفسه بالتحرف والتسبب لينال ما تقوم به حياته من لباس ومسكن وهكذا، فهذا من النوع الثاني، أي: المقاصد التابعة التي فيها حظه، وإن كان ضروريا أيضا كما سيأتي: "د". 3 صفة للأنساب، وقوله: "الرحمة" متعلق بالعاطفة، أي: الأنساب التي من شأنها أن تتعطف الوالد على والده بالرحمة والإحسان. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِ، فَمِنْ هُنَا صَارَ فِيهَا مَسْلُوبَ الْحَظِّ، مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ صَارَ لَهُ فِيهَا حَظٌّ، فَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَابِعَةٍ لِهَذَا الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ. وَأَمَّا كَوْنُهَا كَفَائِيَّةً، فَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَنُوطَةً بِالْغَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، لِتَسْتَقِيمَ الْأَحْوَالُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَقُومُ الْخَاصَّةُ إِلَّا بِهَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُكَمِّلٌ لِلْأَوَّلِ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ فِي كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا؛ إِذْ لَا يَقُومُ الْعَيْنِيُّ إِلَّا بِالْكِفَائِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكِفَائِيَّ قِيَامٌ بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَأْمُورٌ بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ تَخْصِيصٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إِذْ ذَاكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَإِلَّا صَارَ عَيْنِيًّا1، بَلْ بِإِقَامَةِ الْوُجُودِ، وَحَقِيقَتُهُ2 أَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِهِ وَمَا هيء لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ وَالْقِيَامِ بِجَمِيعِ أَهْلِهِ3، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ بِقَبِيلِةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْخَلْقَ خَلَائِفَ فِي إِقَامَةِ الضَّرُورِيَّاتِ الْعَامَّةِ، حَتَّى قَامَ الْمُلْكُ فِي الْأَرْضِ. وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ الْكِفَائِيَّ مُعَرًّى مِنَ الْحَظِّ شَرْعًا أَنَّ الْقَائِمِينَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ4 مَمْنُوعُونَ مِنْ اسْتِجْلَابِ الْحُظُوظِ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا قَامُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لوالٍ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً مِمَّنْ تَوَلَّاهُمْ عَلَى وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا لقاضٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ أُجْرَةً عَلَى قَضَائِهِ5، وَلَا لِحَاكِمٍ عَلَى حُكْمِهِ،   1 في الأصل: "عينا". 2 أي: القائم الكفائي 3 في "ط": "بجميع ما يحتاج إليه". 4 وإنما قال في ظاهر الأمر لأنه وإن لم يأخذ الأجر من خصوص من ترافعوا إليه، فإنه يأخذه من بيت المال الذي يأتي دخله ممن ترافعوا ومن غيرهم، إلا أن هذا ليس كالأجر الذي يأخذه من أرباب القضايا مباشرة، فهو لا يؤثر في ذمته ولا يبعثه على أن يغير حكما حقا رآه بين المتخاصمين، كما هو ظاهر. "د". 5 قرر القرافي في "الفرق الخامس عشر والمئة" بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات أن القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال على القضاء إجماعا، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء إجماعا لأن الأرزاق عامة من الإمام لهم على القيام بالمصالح لا أنها عوض عما يجب عليهم من تنفيذ الحكم عند قيام الحِجاج ونهوضها. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وَلَا لِمُفْتٍ عَلَى فَتْوَاهُ، وَلَا لِمُحْسِنٍ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَلَا لِمُقْرِضٍ عَلَى قَرْضِهِ، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي لِلنَّاسِ فِيهَا مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَتِ الرُّشَا وَالْهَدَايَا الْمَقْصُودُ بِهَا نَفْسُ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِجْلَابَ الْمَصْلَحَةِ1 هُنَا مؤدٍ إِلَى مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ تُضَادُّ حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ فِي نَصْبِ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ يَجْرِي الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَيَصْلُحُ النِّظَامُ، وَعَلَى خِلَافِهِ يَجْرِي الْجَوْرُ فِي الْأَحْكَامِ، وَهَدْمُ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَبِالنَّظَرِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ2 أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْعَيْنِيَّةَ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا، وَلَا قُصْدُ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا، وَلَا نَيْلُ مَطْلُوبٍ دُنْيَوِيٍّ بِهَا، وَأَنَّ تَرْكَهَا سَبَبٌ لِلْعِقَابِ وَالْأَدَبِ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مُوجِبٌ تَرْكَهَا لِلْعُقُوبَةِ3؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهَا أَيَّ مَفْسَدَةٍ فِي الْعَالَمِ. وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ التَّابِعَةُ4، فَهِيَ الَّتِي رُوعِيَ فِيهَا حظ المكلف، فمن جهتها   1 أي: بأخذ الرشوة أو القضاء وما أشبه، يؤدي إلى مفسدة عامة هي الجور وعدم الاستقامة في تأدية واجبات الولاية والقضاء، من رعاية العدالة والنصفة بين الناس، والبعد عن تهمة التحيز. "د". 2 لأنه مسلوب الحظ فيها، وليس له الخيرة في التخلي عنها. "د". 3 هذا إذا تعين النظر على الشخص بوجه من وجوه التعين. "د". 4 وهي التسببات المتنوعة التي لا يلزم المكلف أن يأخذ بشيء خاص منها، بل وكل إلى اختياره أن يتعلق بما يميل إليه وتقوى منته عليه، فلم يلزم بالتجارة دون الصناعة، ولا بالتعليم دون الزراعة، وهكذا من ضروب التسببات التي لا يسعها التفصيل، فهذه كلها مكملة للمقاصد الأصلية وخادمة لها؛ لأنها لا تقوم في الخارج إلا بها، ولو عدمت التابعة رأسا لم تتحقق الأصلية لتوقفها عليها، وفرق آخر، وهو أن الأصلية واجبة والتابعة مباحة: "أي: بالجزء كما تقدم في المسألة الثانية من المباح": وسيأتي له في المسألة التالية عدها من الضروريات أيضا كالمقاصد الأصلية. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 يَحْصُلُ لَهُ مُقْتَضَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ نَيْلِ الشَّهَوَاتِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمُبَاحَاتِ، وَسَدِّ الْخَلَّاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ حِكْمَةَ الْحَكِيمِ الْخَبِيِرِ حَكَمَتْ أَنَّ قِيَامَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِنَّمَا يَصْلُحُ وَيَسْتَمِرُّ بدواعٍ مِنْ قِبَلِ الْإِنْسَانِ تَحْمِلُهُ عَلَى اكْتِسَابِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَخَلَقَ لَهُ شَهْوَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِذَا مَسَّهُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ؛ لِيُحَرِّكَهُ ذَلِكَ الْبَاعِثُ إِلَى التَّسَبُّبِ فِي سَدِّ هَذِهِ الْخَلَّةِ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ لَهُ الشَّهْوَةَ إِلَى النِّسَاءِ لِتُحَرِّكَهُ إِلَى اكْتِسَابِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ خَلَقَ لَهُ الِاسْتِضْرَارَ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالطَّوَارِقِ الْعَارِضَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيَةً إِلَى اكْتِسَابِ اللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، ثُمَّ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَأَرْسَلَ [الرُّسُلَ] 1 مبينة أن الاستقرار ليس ههنا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدَّارُ مَزْرَعَةٌ لِدَارٍ أُخْرَى، وَأَنَّ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ وَالشَّقَاوَةَ الْأَبَدِيَّةَ هُنَالِكَ، لَكِنَّهَا تَكْتَسِبُ أَسْبَابَهَا هُنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ، أو الخروج عَنْهُ، فَأَخَذَ2 الْمُكَلَّفُ فِي اسْتِعْمَالِ الْأُمُورِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَغْرَاضِ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ وَحْدَهُ، لِضَعْفِهِ عَنْ مُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَطَلَبَ التَّعَاوُنَ بِغَيْرِهِ، فَصَارَ يَسْعَى فِي نَفْعِ نَفْسِهِ وَاسْتِقَامَةِ حَالِهِ بِنَفْعِ غَيْرِهِ، فَحَصَلَ الِانْتِفَاعُ لِلْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ إِنَّمَا يَسْعَى فِي نَفْعِ نَفْسِهِ. فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ صَارَتِ الْمَقَاصِدُ التَّابِعَةُ خَادِمَةً لِلْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَمُكَمِّلَةً لَهَا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكُلِّفَ بِهَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحُظُوظِ، أَوْ لَكُلِّفَ بِهَا مَعَ سَلْبِ الدَّوَاعِي الْمَجْبُولِ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَهُ وَسِيلَةً إِلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَجَعَلَ الِاكْتِسَابَ لِهَذِهِ الْحُظُوظِ مُبَاحًا لَا مَمْنُوعًا، لَكِنْ عَلَى قَوَانِينَ شَرْعِيَّةٍ هِيَ أَبْلَغُ فِي الْمَصْلَحَةِ وَأَجْرَى عَلَى الدَّوَامِ مِمَّا يَعُدُّهُ الْعَبْدُ مَصْلَحَةً {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 216] ، وَلَوْ شَاءَ لَمَنَعَنَا فِي الِاكْتِسَابِ الْأُخْرَوِيِّ الْقَصْدَ إِلَى الحظوظ، فإنه المالك وله الحجة البالغة،   1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل. 2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص183": "مأخذ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 وَلَكِنَّهُ رَغَّبَنَا فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْنَا بِوَعْدٍ حَظِيٍّ لَنَا، وَعَجَّلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ حُظُوظًا كَثِيرَةً نَتَمَتَّعُ بِهَا فِي طَرِيقِ مَا كلفنا به، فبهذا اللحظ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ تَوَابِعٌ، وَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْأُصُولُ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِيهُ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِيهِ لُطْفُ الْمَالِكِ بِالْعَبِيدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 المسألة الثالثة 1: قد تحصَّلَ إذن أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ مَقْصُودٌ، كَقِيَامِ2 الْإِنْسَانِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، فِي الِاقْتِيَاتِ، وَاتِّخَاذِ السَّكَنِ3، وَالْمَسْكَنِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنَ الْمُتَمِّمَاتِ، كَالْبُيُوعِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالْأَنْكِحَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ وُجُوهِ الِاكْتِسَابِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْهَيَاكِلُ الْإِنْسَانِيَّةُ. وَالثَّانِي: مَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ مَقْصُودٌ4، كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَالْعِبَادَاتِ5 الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، كَالْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ، مِنَ6 الْخِلَافَةِ، وَالْوِزَارَةِ، وَالنِّقَابَةِ، وَالْعِرَافَةِ7، وَالْقَضَاءِ، وَإِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ، وَالْجِهَادِ، وَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي شُرِعَتْ عَامَّةً لِمَصَالِحَ عَامَّةٍ إِذَا فُرِضَ عَدَمُهَا أَوْ تَرْكُ النَّاسِ لَهَا انْخَرَمَ النِّظَامُ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَمَّا كَانَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ، وَبَاعِثٌ من نفسه يستدعيه.   1 كلام المصنف تحتها تعميق لما في "البرهان" "2/ 919، 938"، للجويني. 2 في الأصل: "لقيام". 3 أي: الزوجة "د". 4 إنما قال: "مقصود" لأن في فروض الكفاية كالولاية حظا عاجلا، كعزة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر، وهكذا مما سيأتي له، إلا أنه غير مقصود شرعا، بل منهي عنه أشد النهي، وسيأتي له تفسير الحظ المقصود بعد. "د". 5 وكغير العبادات، من سائر الضروريات التي ليس فيها حظ عاجل، كما تقدم إيضاحه، "د". 6 في الأصل: "والخلافة". 7 النقابة والعرافة منصب دون الرئاسة، ويطلق على صاحبه "النقيب" و"العريف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 إِلَى طَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الدَّاعِي قَوِيًّا جِدًّا بِحَيْثُ يَحْمِلُهُ قَهْرًا عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُؤَكَّدْ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسِهِ1، بَلْ جُعِلَ الِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ وَالنِّكَاحُ عَلَى الْجُمْلَةِ مَطْلُوبًا طَلَبَ النَّدْبِ لَا طَلَبَ الْوُجُوبِ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَأْتِي فِي مَعْرِضِ الْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةِ: 275] . {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الْجُمْعَةِ: 10] . {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 198] . {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الْأَعْرَافِ: 32] . {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 172] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَخْذَ النَّاسِ لَهُ كَأَخْذِ الْمَنْدُوبِ بِحَيْثُ يَسَعُهُمْ جَمِيعًا التَّرْكُ لَأَثِمُوا2؛ لِأَنَّ الْعَالَمَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاكْتِسَابِ، فَهَذَا مِنَ الشَّارِعِ كَالْحِوَالَةِ عَلَى مَا فِي الْجِبِلَّةِ مِنَ الدَّاعِي الْبَاعِثِ عَلَى الِاكْتِسَابِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ أَوْ جِهَةُ نَازِعٍ طَبْعِيٍّ أَوْجَبَهُ الشرع عينا أو كفاية3، كما   1 أما بالنسبة إلى غيره كالأقارب والزوجات مما لم يكن الداعي للنفس فيه قويا، فسيأتي أن الشارع يوجبه. "د". 2 قد يقال: إذن يكون واجبا كفائيا، وإلا لاختل حد الأحكام الخمسة، إلا أن يقال: إن هذا من المندوب بالجزء الواجب كفاية بالكل كما تقدم في الأحكام، فيصح التأثيم بترك الكل مع كونه مندوبا بالجزء. "د". 3 صرح الإمام الغزالي في كتاب "الوسيط" بأن الحِرف والصنائع لا تندرج في فرض الكفاية، والصواب ما جرى عليه المصنف من دخولها في هذا القبيل، ولا مخلص من إثم الجميع متى تظافروا على ترك حرفة يحتاج إليها في وسائل القوة أو مرافق الحياة، والشعب الذي لا يعني بالصنائع ويعول على أن يستمد حاجاته من أمة أخرى، لا يلبث أن يقع في غمرة بؤس وشقاء، واختلال الحالة الاقتصادية مطية إلى الإفلاس في السياسة، والابتلاء بسيطرة أجنبي يعبث بحقائق الدين وتجول يده في الأموال والثمرات، ويسوق النفوس الشريفة إلى عارٍ خالد أو موتة خاسرة. "خ". قلت: ورجح ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "18/ 82" أن الحرف من باب فرض الكفاية، ومتى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها، وكان الناس محتاجين إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 لَوْ فُرِضَ هَذَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ1، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ فِيهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ مُبَاشَرَةً. وَقِسْمٌ يَكُونُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ فِيهِ بِوَاسِطَةِ الْحَظِّ فِي الْغَيْرِ، كَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَالِاكْتِسَابِ بِمَا لِلْغَيْرِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، كَالْإِجَارَاتِ، وَالْكِرَاءِ، وَالتِّجَارَةِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الصَّنَائِعِ وَالِاكْتِسَابَاتِ، فَالْجَمِيعُ يَطْلُبُ الْإِنْسَانُ بِهَا حَظَّهُ فَيَقُومُ بِذَلِكَ حَظُّ الْغَيْرِ، خِدْمَةً دَائِرَةً بَيْنَ الْخَلْقِ، كَخِدْمَةِ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْضًا حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصْلَحَةُ لِلْجَمِيعِ. وَيَتَأَكَّدُ الطَّلَبُ فِيمَا فِيهِ حَظُّ الْغَيْرِ عَلَى طَلَبِ حَظِّ النَّفْسِ الْمُبَاشِرِ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ هَكَذَا، وَكَانَتْ جِهَةُ الدَّاعِي كَالْمَتْرُوكَةِ2 إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ، وَكَانَ مَا يُنَاقِضُ الدَّاعِيَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ3، بل هو على الضد من ذلك.   1 فالتكسب لنفقة هؤلاء واجب. "د". 2 فلم توجب، بل ندب إليها، أو ذكرت في معرض الإباحة. "د". 3 أي: لما كان الداعي هو المتسلط وحده على الإنسان يدعوه إلى طلب المصلحة ودرء المفسدة من أي طريق كان، وكان ما يناقض الداعي وهو ما يقتضي عدم الدخول في طلب مصلحته ودرء مفسدته ليس له من جهة الطبع ما يخدمه ويعين عليه، صار من الحكمة تخفيف وطأة هذا الداعي بالزواجر الشديدة عن السير وراء الداعي في كل شيء ليقف عند حد عدم المساس بحقوق الغير. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 أُكِّدَتْ جِهَةُ الْكَفِّ هُنَا بِالزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِيعَادِ بِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ، كَالنَّهْيِ عَنْ قتل النفس والزنى، وَالْخَمْرِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالسَّرِقَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الطَّبْعَ النَّازِعَ إِلَى طَلَبِ مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ وَدَرْءِ مَفْسَدَتِهِ يَسْتَدْعِي الدُّخُولَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ جَرَى الرَّسْمُ الشَّرْعِيُّ فِي قِسْمِ الْكِفَايَةِ مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي أَوْ أَكْثَرِ أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّ عِزَّ السُّلْطَانِ، وَشَرَفَ الْوِلَايَاتِ، وَنَخْوَةَ الرِّيَاسَةِ، وَتَعْظِيمَ الْمَأْمُورِينَ لِلْآمِرِ مِمَّا جُبِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى حبه، فكان الأمر بهم جَارِيًا مَجْرَى النَّدْبِ لَا الْإِيجَابِ، بَلْ جَاءَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِالشُّرُوطِ الْمُتَوَقَّعِ خِلَافُهَا، وَأَكَّدَ النَّظَرَ فِي مُخَالَفَةِ الدَّاعِي، فَجَاءَ كَثِيرٌ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَمَّا تَنْزِعُ إِلَيْهِ النَّفْسُ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] إِلَى آخِرِهَا. وَفِي الْحَدِيثَ: "لَا تَطْلُبُ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ طَلَبْتَهَا بِاسْتِشْرَافِ نَفْسٍ وُكِّلْتَ إِلَيْهَا" 1، أَوْ كَمَا قَالَ. وَجَاءَ النَّهْيُ عَنْ غُلُولِ الْأُمَرَاءِ2، وَعَنْ عَدَمِ النُّصْحِ فِي الْإِمَارَةِ3، لما كان   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} ، 11/ 516-517/ رقم 6622، وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 11/ 608/ رقم 6722" من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه. 2 من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول"، وسيأتي تخريجه "3/ 118". 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، 13/ 126-127/ رقم 7150/ 7151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، 1/ 125/ رقم 227، وكتاب الإمارة، باب فضيلة الإم العادل، 3/ 1460" عن معقل بن يسار مرفوعا: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 هَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّاعِي مِنَ النَّفْسِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي الْأَصْلِ، بَلْ الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا فِي مَصَالِحِ الْخَلْقِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا قِسْمُ الْأَعْيَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ مَقْصُودٌ، أُكِّدَ الْقَصْدُ إِلَى فِعْلِهِ بِالْإِيجَابِ، وَنَفْيِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَأَعْنِي بِالْحَظِّ الْمَقْصُودِ مَا كَانَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِوَضْعِهِ السَّبَبَ [الْبَاعِثَ عَلَيْهِ، وَغَيْرَ الْمَقْصُودِ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ بِوَضْعِهِ السَّبَبَ] ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرْعَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا لِنُحْمَدَ عَلَيْهَا، وَلَا لِنَنَالَ بِهَا فِي الدُّنْيَا شَرَفًا وَعِزًّا أَوْ شَيْئًا مِنْ حُطَامِهَا، فَإِنَّ هَذَا ضِدُّ مَا وُضِعَتْ لَهُ الْعِبَادَاتُ، بَلْ هِيَ خَالِصَةٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَرِ: 3] . وَهَكَذَا شُرِعَتْ أَعْمَالُ الْكِفَايَةِ لَا لِيُنَالَ بِهَا عِزُّ السُّلْطَانِ، وَنَخْوَةُ الْوِلَايَةِ، وَشَرَفُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّبَعِ، فَإِنَّ عِزَّ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا وَشَرَفَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لَا يُنْكَرُ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ الْعِزَّةِ فِي الْوِلَايَاتِ مَوْجُودٌ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ يَأْتِي تَبَعًا لِلْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَهَكَذَا الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْوُلَاةِ مِنْ حَيْثُ لَا يُقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمْ1 حَسْبَمَا حَدَّهُ الشَّارِعُ غَيْرِ مُنْكِرٍ وَلَا مَمْنُوعٍ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ مُتَأَكَّدٌ، فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِي الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَعَلَى الْعَامَّةِ الْقِيَامُ بِوَظَائِفِهِ مِنْ بُيُوتِ أَمْوَالِهِمْ إِنِ احْتَاجَ إلى ذلك2، وقد قال تعالى:   1 بأن يكون ذلك من بيت المال لا بالرشوة، ولا بهدايا الخصوم، ولا بأجر منهم. "د". 2 تقوم الأمة بنفقة ولاة الأمور، وهي التي تفرض لهم من بيت المال ما يكفي لسداد حاجاتهم بالمعروف، ولا حق للوالي في أن يعد ما في الخزينة العامة بمنزلة تراث أبيه وجده، فيرمي فيه في سبيل أهوائه الواسعة، وإلى الله المشتكى من ذلك التصرف الذي انطلقت به أيدي كثير من الأمراء والوزراء في بعض الممالك الإسلامية حتى سقطت في بؤس وغرقت دولها في ديون اتخذها الأجنبي في وسائل امتلاك البلاد والقبض على زمام سياستها. "خ". قلت: وقال ابن خلدون في "مقدمته" "ص322": "إن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش"، وانظر: "الإشارة في محاسن التجارة" "38"، و"الأحكام السلطانية" "ص120" للماوردي، و"الأموال" "ص469" لأبي عبيد، و"تحرير المقال" للبلاطنسي. وكان المصنف رحمه الله ممن يرى رأي من يجيز ضرب الخراج على الناس عند ضعفهم وحاجتهم لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما تراه في ترجمته انظر على سبيل المثال: "نيل الابتهاج" "49" ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "11/ 131"، وانظر: "فتاوى الشاطبي" "ص187-188". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} الآية [طه: 132] . وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاقِ: 2-3] . وَفِي الْحَدِيثَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ، تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِهِ"1. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قيام المكلف بحقوق الله سببب لِإِنْجَازِ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرِّزْقِ. فَصْلٌ: فَقَدْ تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ حَظٌّ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ حَظُّهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مِنَ الشَّارِعِ، وَمَا فيه للمكلف حظ بالقصد الأول   1 أخرجه الخطيب في "تاريخه" "3/ 180"، و"الجامع" "رقم 69" والشجري في "أماليه" "1/ 60" من حديث زياد بن الحارث الصدائي مرفوعا. قال الخطيب: "غريب من حديث الثوري عن أبيه عن جده، لا أعلم رواه إلا يونس بن عطاء" قلت: ويونس بن عطاء قال عنه ابن حبان: "يروي العجائب، لا يجوز الاحتجاج به"، وانظر له: "الميزان" "4/ 482" فالحديث مرفوعا ضعيف جدا، ولعله من قول الثوري، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 يَحْصُلُ فِيهِ1 الْعَمَلُ الْمُبَرَّأُ مِنَ الْحَظِّ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَوَّلِ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أوَّلًا مِنْ حَظِّ نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنِ احْتِرَامِ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْفَضْلِ وَالْعَدَالَةِ، وَجَعْلِهِمْ عُمْدَةً فِي الشَّرِيعَةِ فِي الْوِلَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَإِقَامَةِ الْمَعَالِمِ الدِّينِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ زَائِدًا إِلَى مَا جُعِلَ لَهُمْ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَحُبِّ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ لَهُمْ، وَوُضِعَ الْقَبُولُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يُحِبَّهُمْ النَّاسُ وَيُكْرِمُونَهُمْ وَيُقَدِّمُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمَا يُخَصُّونَ بِهِ مِنِ انْشِرَاحِ الصُّدُورِ، وَتَنْوِيرِ الْقُلُوبِ، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَالْإِتْحَافِ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ مُسْنَدًا إِلَى رَبِّ الْعِزَّةِ: "مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارِبَةِ" 2. وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَ مَن هَذَا وصفُه قَائِمًا بِوَظِيفَةٍ عَامَّةٍ لَا يَتَفَرَّغُ بِسَبَبِهَا لِأُمُورِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ وَنِيلِ حُظُوظِهِ، وَجَبَ عَلَى الْعَامَّةِ أَنْ يَقُومُوا له بذلك ويتكلفوا لَهُ بِمَا يُفَرِّغُ بَالَهُ لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ، مِنْ بُيُوتِ أَمْوَالِهِمُ الْمُرْصَدَةِ لِمَصَالِحِهِمْ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَيْلِ حَظِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَأَنْتَ تَرَاهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَيْلِ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي طَرِيقِ تَجَرُّدِهِ عَنْ حُظُوظِهِ، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَعْظَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ اكْتِسَابَ الْإِنْسَانِ لِضَرُورِيَّاتِهِ فِي ضِمْنِ قَصْدِهِ إِلَى الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يَتَنَعَّمُ بِهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمُسْتَلِذَّاتِ، وَلِبَاسَ اللينات، وركوب   1 أي: يحصل بسببه العمل المطلوب منه الذي جعل مما لا حظ فيه كإقامة الحياة بسائر أسبابها من أكل وشرب ولباس ومسكن وغيرها، فالقسم الذي فيه للمكلف حظ يحصل بسبب القسم الذي لا حظ فيه. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع 11/ 340-341/ رقم 6502". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الْفَارِهَاتِ، وَنِكَاحَ الْجَمِيلَاتِ قَدْ تَضَمَّنَ سَدَّ الْخَلَّاتِ وَالْقِيَامَ بِضَرُورَةِ الْحَيَاةِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ضَرُورِيٌّ لَا حَظَّ فِيهِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ فِي اكْتِسَابِهِ بِالتِّجَارَاتِ وَأَنْوَاعِ البِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ قِيَامًا بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ1، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقِ الْحَظِّ، فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَظٌّ لَهُ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ غَرَضٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ طَرِيقٌ إِلَى حَظِّهِ، وَكَوْنُهُ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً غَيْرُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَهَكَذَا نَفَقَتُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَسَائِرِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ شَرَعًا مِنْ حَيَوَانٍ عَاقِلٍ وَغَيْرِ2 عَاقِلٍ، وَسَائِرِ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الْحَظِّ الْمَطْلُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي اعْتِبَارِ حُظُوظِ الْمُكَلَّفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِسْمِ الْكِفَايَةِ، وَجَدْنَا الْأَعْمَالَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ حَظُّ الْمُكَلَّفِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى حَالٍ، وَذَلِكَ الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ وَالْمَنَاصِبُ الْعَامَّةُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَقِسْمٌ اعْتُبِرَ فِيهِ ذَلِكَ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْغَيْرِ فِي طَرِيقِ مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ، كَالصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ الْعَادِيَّةِ كُلِّهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلاب3 حَظَّهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِجْلَابُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِيهِ بِالْعَرْضِ. وَقِسْمٌ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا، فَيَتَجَاذَبُهُ قَصْدُ الْحَظِّ وَلَحْظُ4 الْأَمْرِ الَّذِي لَا حظ   1 أي: فكما أن فيه الضروري العيني، فيه الضروري الكفائي. "د". 2 في "ط": "أو غير". 3 في "د": "واستجلابه". 4 أي: وملاحظة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 فِيهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تتمحض فِي الْعُمُومِ وَلَيْسَتْ خَاصَّةً، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا وِلَايَةُ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ، وَالْأَذَانُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ يَصِحُّ فِيهَا التَّجَرُّدُ مِنَ الْحَظِّ، وَمِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ وَأَنَّهَا كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ الْخَاصَّةِ بِالْإِنْسَانِ فِي الِاكْتِسَابِ يَدْخُلُهَا الْحَظُّ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي هَذَا، فَإِنَّ جِهَةَ الْأَمْرِ بِلَا حَظٍّ غَيْرُ وَجْهِ الْحَظِّ؛ فيؤمر انتدابا أن يقوم به لا لِحَظٍّ، ثُمَّ يُبْذَلُ لَهُ الْحَظُّ فِي مَوْطِنِ ضَرُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، حِينَ لَا يَكُونُ ثمَّ قَائِمٌ بِالِانْتِدَابِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاءِ: 6] . وَانْظُرْ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي أُجْرَةِ الْقَسَّامِ وَالنَّاظِرِ فِي الْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ، وَتَعْلِيمِ الْعُلُومِ عَلَى تَنَوُّعِهَا1، فَفِي ذَلِكَ مَا يُوَضِّحُ هَذَا القسم.   1 ما يصرف لمن يقوم بمصلحة يتعدي نفعها، كالعلم، أو القسام للعقار بين الخصوم، أو ترجمان الحاكم أو كاتبه، هو من باب المعونة على القيام بهذه المصالح، وتقاضيه لهذه المعونة لا يقطع عنه ثواب الله في الآخرة، بل ينال جزاءه الأخروي لقيامه بذلك العمل النافع موفورا، ولباذل المعونة ثواب التبرع بالمال في سبيل المصالح العامة. "خ". قلت: ذهب إلى مشروعية أخذ الأجرة على الطاعات المذكورة ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "30/ 202، 206-207"، وانظر في المسألة: "المغني" "6/ 143- مع الشرح الكبير" و"كشاف القناع" "4/ 12"، و"المحلى" "8/ 191"، و"حاشية ابن عابدين" "6/ 56"، و"بدائع الصنائع" "4/ 191"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 16"، و"فتح العلي المالك "2/ 229"، و"مغني المحتاج" "2/ 344"، و"نيل الأوطار" "5/ 322". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ 1: مَا فِيهِ حَظُّ الْعَبْدِ مَحْضًا -مِنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ- يَتَأَتَّى تَخْلِيصُهُ مِنَ الْحَظِّ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا أُذِنَ فِيهِ أَوْ أُمِرَ بِهِ، فَإِذَا تَلَقَّى الْإِذْنَ بِالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمَأْذُونُ فِيهِ هَدِيَّةً مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، صَارَ مُجَرَّدًا مِنَ الْحَظِّ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا لَبَّى الطَّلَبَ بِالِامْتِثَالِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِمَا سِوَاهُ، تَجَرَّدَ عَنِ الْحَظِّ، وَإِذَا تَجَرَّدَ مِنَ الْحَظِّ سَاوَى2 مَا لَا عِوَضَ عَلَيْهِ شَرْعًا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ لَمَّا صَارَ مُلْحَقًا بِهِ فِي الْقَصْدِ؟ هَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ3 من النظر:   1 إن قلت: إنه كان الأنسب للمؤلف أن يؤخر هذه المسألة ويضمها إلى مسائل القسم الثاني من الكتاب المتعلقة بمقاصد المكلف نفسه، ولا يدرجها في مسائل هذا القسم المتعلقة بمقاصد الشرع بالتكليف؛ لأنها ترجع إلى أن المباح يكون عبادة بقصد المكلف، ثم يكون النظر في أنه حينذاك هل يأخذ الفعل حكم ما كان عبادة ويصير صاحبه كصاحب الولاية فيما ولي عليه، أم يبقى حكمه كصاحب الحظ يتصرف كيف يشاء فيما تحت يده؟ قلنا: بل المقصود من المسألة هذا الأخير، وهو الوجهان من النظر، فإنهما أنسب بمقام النوع الرابع الذي نحن فيه وأولى من عدهما من القسم الثاني الآتي، وأما أول المسألة، فمقدمة فقط. "د". 2 أي: في القصد. "د". 3 ظاهر كلامه هنا أن كلا من الوجهين جارٍ بعد تسليم الخلوص من الحظ، وأن هذا أمر لا نزاع فيه، إنما البحث في أنه هل يحكم لمن هذا شأنه بحكم العمل في قسم ما لا حظ فيه؟ أي: فلا يأخذ عوضا ويكون كقسم ما لا حظ فيه بنوعيه العيني والكفائي؟ هذا هو ظاهر كلامه، وجعله الاستفهام خاصا بمسألة الإلحاق في الحكم، فكأنه سلم جميع ما قبل الاستفهام، مع أنه سيقول في تقرير الوجه الثاني: "فالجميع مبني على إثبات الحظوظ"، وقال أيضا: إذا ثبت هذا، تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ جملة"، وقد كان هذا مسلما في صدر المسألة، ولم يدخل فيه شكا ولا ستفهاما، مع أنه بمقتضى تقريره الآتي يكون هذا بل وما قبله من قوله تجرد عن الحظ، كل هذا يليق به أن يدرج في موضوع النظر. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْحُكْمِ مَا سَاوَاهُ فِي الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ قِسْمَ الْحَظِّ هُنَا قَدْ صَارَ عَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالْقَصْدِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِعِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مُخْتَصَّةٍ بِالْخَلْقِ فِي إِصْلَاحِ أَقْوَاتِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، أَوْ1 صَارَ صَاحِبُهُ عَلَى حَظٍّ مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ يُشْبِهُ الْخُزَّانَ عَلَى أَمْوَالِ بُيُوتِ الْأَمْوَالِ وَالْعُمَّالِ فِي أَمْوَالِ الْخَلْقِ، فَكَمَا لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ هَدِيَّةً وَلَا عِوَضًا عَلَى مَا وَلِيَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى مَا تعبد به، كذلك ههنا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ يَقْتَطِعُهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، كَمَا يَقْتَطِعُ الْوَالِي مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَبْذُلُهُ2 مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، إِمَّا بِهَدِيَّةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إِرْفَاقٍ، أَوْ إِعْرَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ3 يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ من حيث يَأْخُذُ الْغَيْرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ كَالْوَكِيلِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْقَيِّمِ بِمَصَالِحِهِ عَدَّ نَفْسَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهَا نَفْسٌ مَطْلُوبٌ إِحْيَاؤُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ. وَمِثْلُ هَذَا مَحْكِيٌّ الْتِزَامُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ، بَلْ هُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الِاكْتِسَابِ مَاهِرِينَ وَدَائِبِينَ وَمُتَابِعِينَ لِأَنْوَاعِ الِاكْتِسَابَاتِ؛ لَكِنْ لَا ليدخروا لأنفسهم، ولا ليحتجنوا4   1 لعل التنويع إشارة إلى النوعين السابقين فيما لا حظ فيه، وتقدم أنهما إما عبادة بدنية أو مالية، وإما قيام بولاية عامة على مصالح المسلمين، ويدل عليه قوله: "عَلَى مَا وَلِيَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى مَا تعبد به". "د" "استدراك 6". 2 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص186": "بذله". 3 لعلها واو عطف على "يقتطعه"؛ إذ هما قسم واحد كما سيجيء له، نعم، قد يؤخذ من جعل نفسه كالغير أنه يصح له الزيادة عن حاجته، ولكن هذا ليس بمراد بدليل السباق واللحاق. "د". 4 في الأصل: "ليحتنوا"!! واحتجان المال: جمعه وضم ما انتشر منه، كما في "اللسان" "مادة ح ج ن 13/ 109". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 أَمْوَالَهُمْ؛ بَلْ لِيُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَا نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ، وَمَا حَسَّنَتْهُ الْعَوَائِدُ الشَّرْعِيَّةُ، فَكَانُوا فِي أَمْوَالِهِمْ كَالْوُلَاةِ عَلَى بُيُوتِ الْأَمْوَالِ، وَهُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ حَسْبَمَا تَنُصُّهُ أَخْبَارُهُمْ، فَهَذَا وَجْهٌ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا عَامِلِينَ لِغَيْرِ حَظٍّ، عَامَلُوا هَذِهِ الْأَعْمَالَ مُعَامَلَةَ مَا لَا حَظَّ فِيهِ الْبَتَّةَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مُرَاعًى عَلَى الْجُمْلَةِ1 وَإِنْ قُلْنَا بِثُبُوتِ الْحَظِّ، أَنَّ طَلَبَ الْإِنْسَانِ لِحَظِّهِ حَيْثُ أُذِنَ لَهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فإن طلب الحظ إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِوُجُودِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ، [وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَوُجُودِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ] 2 عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ بِهِ، فَقَدْ خَرَجَ فِي نَفْسِهِ عَنْ مُقْتَضَى حَظِّهِ، ثُمَّ إِنَّ مُعَامَلَةَ الْغَيْرِ فِي طَرِيقِ حَظِّ النَّفْسِ تَقْتَضِي مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالْمُسَامَحَةِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَالنَّصِيحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَرْكِ الْغِشِّ كُلِّهِ، وَتَرْكِ الْمُغَابَنَةِ غَبْنًا يتجاوز الحد المشروع، وأن لا تكون العاملة عَوْنًا لَهُ عَلَى مَا يُكْرَهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ طَرِيقًا إِلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعُودُ عَلَى طَالِبِ حَظِّهِ بِحَظٍّ أَصْلًا، فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ فِي طَلَبِ الْحَظِّ إِلَى عَدَمِ الْحَظِّ3. هَذَا وَالْإِنْسَانُ بعدُ فِي طَلَبِ حَظِّهِ قَصْدًا، فَكَيْفَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ حَظِّهِ فِي أَعْمَالِهِ؟ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَى تَحَرِّي4 الْمَشْرُوعِ في الأعمال، لا   1 أي أن ما فيه حظ عُومل معاملة ما لا حظ فيه على الجملة لا التفصيل؛ لأنه قيد فيه الحظ بقيود كثيرة وشديدة، حتى إن الحظ الباقي له بعدها اضمحل بجانبها وصار مغمورا في ثناياها. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 أي: على الجملة: "د". 4 أي: على فعل ما لا حظ فيه بقسميه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَاتِ وَلَا إِلَى الْعَادَاتِ، وَهُوَ مجمَع عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا صَارَ بِالْقَصْدِ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا؛ فإنَّ فَرْضَ هَذَا الْقَصْدِ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَ فَرْضِ طَلَبِ الْحَظِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهِيَ1 دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِمَا يَقْتَضِي سَلْبَ الْحَظِّ2، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِمَا لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ إِلَّا بِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّهُ مَطْلُوبٌ بِهِ طَلَبًا شَرْعِيًّا أَمْ لَا، فَحُكْمُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ الْبَتَّةَ، وَهَذَا3 ظَاهِرٌ، فَالشَّارِعُ قَدْ طَلَبَ النَّصِيحَةَ مَثَلًا طَلَبًا جَازِمًا، بِحَيْثُ جَعَلَهُ الشَّارِعُ عُمْدَةَ الدِّينِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدِّينُ النصيحة" 4، وتوعد   1 أي: المسألة داخلة في نظير "ما لا يتم .... إلخ" يعني: ولا يتم كونه مسلوب الحظ إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه. "د". 2 أي: مطلوب بتخليص العمل لله، فلا يتم ذلك إلا إذا أخذ حكم ما لا حظ فيه ابتداء، وهو القسم العبادي وقسم الولاية العامة؛ لأنه إذا كان حرا في تصرفاته المالية وغيرها، فلا يكون مسلوب الحظ، ويبقى الكلام في قوله: "سواء أقلنا: إنه مطلوب شرعا أم لا"، فإنه إذا لم يكن الطلب شرعيا ولو من باب المكارم ومحاسن الشيم، فلا وجه للبحث برمته؛ لأن الغرض أنه إذا خلص الإنسان قصده في الأعمال ذات الحظ، وأخذها على أنها امتثال صرف أو نيل هدية الله، فهل يطلب منه أن يكون كمن يعمل في القسم الثاني وهو ما لا حظ فيه، فلا يأخذ إلا ما يكفيه من ماله، أو أنه مع هذا يبقى حرا في المال وغيره يدخر منه وينفق حسبما يراه، فإذا لم يكن الكلام في الطلب الشرعي، ضاع البحث، وصار مما لا محصل له، وسيأتي له في آخر المسألة أن ذلك بإلزامهم لأنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء، أي: فهو حال شرعي ومقبول شرعا وإن لم يكن بتكليف الشارع. "د". 3 راجعٌ للمقيس عليه، وهو ما لا حظ فيه ابتداء، يريد به بيانه وضرب الأمثال له، وليس غرضه بيان المدعي المقيس بضرب الأمثال له، وإن كان هذا هو الذي كان منتظرا تتميمًا للوجه الأول من النظر، ومن ذلك تعلم أنه وجه ضعيف لم يوفق فيه لأكثر من ضرب الأمثال بأعمال بعض الصحابة وسيأتي أنها معارضة بأفعالهم أيضا في نفس باب الأموال وادخارها. "د". 4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 74 = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 عَلَى تَرْكِهِ فِي مَوَاضِعَ، فَلَوْ فَرَضْنَا تَوَقُّفَهَا عَلَى الْعِوَضِ أَوْ حَظٍّ عَاجِلٍ، لَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى اخْتِيَارِ النَّاصِحِ وَالْمَنْصُوحِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَكُونَ طَلَبُهَا جَازِمًا. وَأَيْضًا الْإِيثَارُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مَمْدُوحٌ فَاعِلُهُ، فَكَوْنُهُ مَعْمُولًا بِهِ على عوض لا   = / رقم 55"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام، 7/ 156-157"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في النصيحة، 4/ 286/ رقم 4944"، وأحمد في "المسند" "4/ 102و 102-103"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 36-37"، والحميدي في "المسند" "2/ 369/ رقم 837"، والقضاعي في "المسند" "1/ 44 و45/ رقم 17و 18"، وابن زنجويه في "الأموال" "1/ 61/ رقم 1" وأبو عبيد في "الأموال" "90-10"، ووكيع في "الزهد" "2/ 621-622/ رقم 346"، والبخاري في "التاريخ الصغير" "2/ 35"، و"التاريخ الكبير" "1/ 1/ 459 و3/ 2/ 460"، وابن منده في "الإيمان" "1/ 424/ رقم 271 و272"، وابن حبان في "روضة العقلاء" "ص194"، و"الصحيح" "7/ 49- مع الإحسان"، والبغوي في "شرح السنة" "3/ 93"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" "2/ 681-682، 683، 684، 685، 686، 687"، والطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 52-54/ رقم 1260-1268"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 163" و"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 590"، و"شعب الإيمان" "3/ 1/ 14"، وابن الأعرابي في "المعجم" "10/ 194/ أ" مخطوط، والروياني في "المسند" 3/ 263/ أ" مخطوط، وابن خزيمة في "الصحيح" كما في "فتح الباري" "1/ 138"، و"تغليق التعليق" "2/ 56"، وعزاه له في كتاب "السياسة" العيني في "عمدة القاري" "1/ 368" وذكره بسنده. وذكر الحديث البخاري في "صحيحه" "1/ 137- مع الفتح" دون سند، ولم يخرجه مسندا لكونه على غير شرطه، ووقع فيه اختلاف طويل، ورواه محمد بن عجلان عن سهيل، فأخطأ فيه، فجعله من مسند أبي هريرة. قال البخاري في "التاريخ الأوسط": "لا يصح إلا عن تميم" قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "1/ 138"، "ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه البخاري في "صحيحه"، بل لم يحتج فيه بسهيل أيضا، وللحديث طرق دون هذه في القوة". وانظر -غير مأمور: "تغليق التعليق" "2/ 54-61". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ إِيثَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيثَارِ تَقْدِيمُ حَظِّ الْغَيْرِ عَلَى حَظِّ النَّفْسِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ طَلَبِ الْعِوَضِ الْعَاجِلِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَطْلُوبَاتِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ، فَهَذَا وَجْهٌ نَظَرِيٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُقْتَضَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن يقال: إنه يرجع في الحكم إلى أَصْلِهِ مِنَ الْحَظِّ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَثْبَتَ لِهَذَا الْعَامِلِ حَظَّهُ فِي عَمَلِهِ، وَجَعَلَهُ الْمُقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِجَمِيعِهِ كَانَ سَائِغًا، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَدَّخِرَهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبْذُلَهُ1 لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، فَهِيَ هَدِيَّةُ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ2 لَا يَقْبَلُهَا؟ وَهُوَ وَإِنْ أَخَذَهَا بِالْإِذْنِ وَعَلَى مُقْتَضَى حُدُودِ الشَّرْعِ، فَإِنَّمَا أَخَذَ مَا جُعِلَ لَهُ فِيهِ حَظٌّ، وَمِنْ حَيْثُ جُعِلَ لَهُ، وَبِالْقَصْدِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ. وَأَيْضًا3 فَالْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا حَظٌّ، فَهِيَ وَسِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إِلَى حَظِّهِ، فَكَمَا لَمْ يَحْكُمْ لِلْمَقْصِدِ بِحُكْمِ الْوَسِيلَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ من أخذ الإنسان ماليس لَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ حَظٌّ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ4 إِلَى حَظِّهِ كَالْمُعَاوَضَاتِ، فَكَذَلِكَ لَا يُحْكَمُ هُنَا لِلْمَأْذُونِ فِيهِ مِنَ الْحَظِّ بِحُكْمِ مَا تَوَسَّلَ به إليه.   1 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص 186" و"ط": ويبذله". 2 الأصل: كيف". 3 رد لقوله في الوجه السابق: "إن طلب ما فيه حظ مقيد بالقيود الشرعية التي لا حظَّ فيها"، فينتفي أن يكون فيه الحظ، فيرد عليه هنا بأن هذه الحدود إن هي إلا وسيلة إلى حصول حظه، وليس بلازم أن يأخذ المقصد حكم الوسيلة، ألا ترى أن ما فيه حظ الشخص بالقصد الأول كأنواع الحرف والتجارات والمعاوضات لا يصل الشخص فيها إلى غرضه إلا بطريق نفع الغير، ومع ذلك لم يأخذ المقصد فيها حكم ما كان في طريقها من مصلحة الغير، وعد مما كان فيه حظ الشخص أصالة وحظ الغير بالعرض. "د". 4 وإن كان مما فيه مصلحة الغير، إلا أنها جاءت بطريق العرض، فلم يأخذ المقصد حكم هذه الوسيلة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وَقَدْ وَجَدْنَا مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَثِيرًا يَدَّخِرُونَ الْأَمْوَالَ لِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا اكْتَسَبُوهُ عَادُوا إِلَى الِاكْتِسَابِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَتَّخِذُونَ التِّجَارَةَ أَوِ الصِّنَاعَةَ عِبَادَةً لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ1، بَلْ كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّعَفُّفِ وَالْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ، فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ زُمْرَةِ الطَّالِبِينَ لِحُظُوظِهِمْ. وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِصِحَّةِ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ التَّصَرُّفِ حُظُوظُ أَنْفُسِهِمْ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهَا الشَّارِعُ لَهُمْ، فَيَعْمَلُونَ فِي دُنْيَاهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَسَعُهُمْ مِنَ الْحُظُوظِ، وَيَعْمَلُونَ فِي أُخْرَاهُمْ كَذَلِكَ، فَالْجَمِيعُ مَبْنِيٌّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ تَكُونَ الْحُظُوظُ مأخوذة من جهة ما حَدَّ الشَّارِعُ، مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ يَقَعُ فِي طَرِيقِهَا. وَأَيْضًا، فَإِنَّمَا حُدَّتُ الْحُدُودُ فِي طَرِيقِ الْحَظِّ أَنْ لَا يُخِلُّ الْإِنْسَانُ بِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ2، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَضَعْ تِلْكَ الْحُدُودَ إِلَّا لِتَجْرِيَ الْمَصَالِحُ عَلَى أَقْوَمِ سَبِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ3، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فُصِّلَتْ: 46] ، وَذَلِكَ عام في أعمال الدنيا والآخرة.   1 أي: الذي شرحه فيما سبق، ودلل عليه بعمل الصحابة. "د". 2 لأن الإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس، بسبب العقوبات والزواجر وقيم المتلفات، وغيرها من المصائب والنوازل التي تنزل بسبب الارتكابات والمخالفات، وقد أباح الله لمن اعتُدِيَ عليه أن يجازي المعتدي بمثل ما اعتدى، فالإخلال بمصلحة الغير يعود بالإخلال على مصلحة النفس. "د". 3 في نسخة "ماء/ ص 187" زيادة: "وفي غيره". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وَقَالَ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الْفَتْحِ: 10] . وَفِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذِكْرِ الظُّلْمِ وَتَحْرِيمِهِ: "يَا عِبَادِيَ: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إياها" 1. ولا يختص مثل هذا بِالْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ الْمَصَائِبُ النَّازِلَةُ بِالْإِنْسَانِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، لِقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 2 [الشُّورَى: 30] . وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 194] . وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا تَفُوتُ الْحَصْرَ، فالإنسان لا ينفك عن طلب3 حَظَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ طَرِيقٌ إِلَى نِيلِ حَظِّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يُسَاوِي الْأَوَّلَ فِي امْتِنَاعِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ جُمْلَةً. وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي أَخْذِ حُظُوظِهِمْ عَلَى مَرَاتِبَ. - مِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْخُذُهَا إِلَّا بِغَيْرِ تَسَبُّبِهِ4، فَيَعْمَلُ الْعَمَلَ أَوْ يَكْتَسِبُ الشَّيْءَ فَيَكُونُ فِيهِ وَكِيلًا عَلَى التَّفْرِقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا قُدِّرَ، وَلَا يَدَّخِرُ لنفسه من   1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577" من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وسيأتي "ص480"، وهناك تمام تخريجه. 2 في الأصل: "بما قدمت أيديكم"!! 3 في "د": "طلبه". 4 أي أنه لا يأخذ شيئا جاء بتسببه، بل يجعل ذلك لغيره، فكل ما سيق إليه بالتسبب يجعله للخلق، فهو مع كونه هو المتسبب والمحترف يرى أن ما وصل ليده من ذلك من محض الفضل، وأنه كوكيل على تصريفه فقط، وليس له منه شيء، وهذه أعلى المراتب، وما بعدها يجعل نفسه كالوكيل يأخذ إن احتاج، وهو أقل من هذا. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 ذَلِكَ شَيْئًا، بَلْ لَا يَجْعَلُ مِنْ ذَلِكَ حَظًّا لِنَفْسِهِ مِنَ1 الْحُظُوظِ؛ إِمَّا لِعَدَمِ تَذَكُّرِهِ لنفسه لاطراح حظها حتى يصير مِنْ قَبِيلِ مَا يُنْسَى، وَإِمَّا قُوَّةُ يَقِينٍ بالله؛ لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات وَالْأَرْضِ2 وَهُوَ حَسْبُهُ فَلَا يُخَيِّبُهُ، أَوْ عَدَمُ الْتِفَاتٍ إِلَى حَظِّهِ يَقِينًا بِأَنَّ رِزْقَهُ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ النَّاظِرُ لَهُ بِأَحْسَنِ مِمَّا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَنَفَةً مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى حَظِّهِ مَعَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، وَفِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ جَاءَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الْحَشْرِ: 9] . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رِضَيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ لَهَا بِمَالٍ فِي غِرَارَتَيْنِ -قَالَ الرَّاوِي: أَرَاهُ ثَمَانِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ- فَدَعَتْ بِطَبَقٍ وَهَى يَوْمَئِذٍ صَائِمَةٌ، فَجَعَلَتْ تُقَسِّمُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَمْسَتْ وَمَا عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ دِرْهَمٌ، فَلَمَّا أَمْسَتْ قالت: "يا جرية هَلُمِّي أَفْطِرِي"، فَجَاءَتْهَا بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ. فَقِيلَ لَهَا: أَمَا اسْتَطَعْتِ فِيمَا قَسَمْتِ أَنْ تَشْتَرِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: لَا تُعَنِّيني، لَوْ كُنْتِ ذَكَّرْتِنِي لَفَعَلْتُ3. وَخَرَّجَ مَالِكٌ أَنْ مِسْكِينًا سَأَلَ عَائِشَةَ وَهَى صَائِمَةٌ وَلَيْسَ فِي بَيْتِهَا إِلَّا رَغِيفٌ، فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا: اعْطِيهِ إِيَّاهُ. فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. [قالت] : فلما أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٍ   1 في "ط": "في". 2 في "ط": "ملكوت كل شيء". 3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "8/ 67"، والدارقطني في المستجاد" "رقم 36، 37"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ ق 738"، والحاكم في "المستدرك "4/ 13"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 47 و49"، والبغوي في "الجعديات" "1673" بإسناد صحيح، بألفاظ مقاربة. ووقع في بعض طرقه أن معاوية هو الذي بعض إليها بالمال، اشترى به منها دارا، ولا تَعَارُضَ، فهو المرسِلُ، وابنُ الزبيرِ المرسَلُ، إلا إذا حمل على تعدد القصة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 -مَا [كَانَ] يُهْدِي لَنَا- 1 شَاةً وَكَفَنَهَا2 فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ، فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا؛ هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ3 وَرَوَى عَنْهَا أَنَّهَا قَسَّمَتْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَهِيَ تَرْقَعُ ثَوْبَهَا4، وَبَاعَتْ مَا لَهَا بِمِائَةِ أَلْفِ وَقَسَّمَتْهُ، ثُمَّ أَفْطَرَتْ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ5، وَهَذَا يُشْبِهُ الْوَالِي عَلَى بَعْضِ الْمَمْلَكَةِ، فلا يأخذ إلى من الملك؛ لأن قَامَ لَهُ الْيَقِينُ بِقَسْمِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ مَقَامَ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ6، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ بِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرَى تَدْبِيرَ اللَّهِ لَهُ خَيْرًا مِنْ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا دَبَّرَ لِنَفْسِهِ انْحَطَّ عَنْ رُتْبَتِهِ إِلَى مَا هُوَ دونها،   1 لعل الأصل: "ما لا يهدي لنا" أي: أهدى لنا شيئا ما جرت العادة أن يهدي لنا مثله في عظمه، وقوله: "شاة" بدل من ما. "د". قلت صوابه ما أثبتناه، وما بين المعقوفتين، من "الموطأ" وسقط من الأصول كلها. 2 إن العرب- أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف، فإذا سلخوه غطوه كله بعجين دقيق البر، وكفنوه فيه ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم، قاله ابن عبد البر في "الاستذكار" "27/ 407". 3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 997- رواية يحيى- ورقم 2105- رواية أبي مصعب" بلاغا عن عائشة. 4 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 57". 5 أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "23/ 47-48"، وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف. 6 إنفاق الأموال في وجوه الخير عظيم، وهو عنوان الثقة بالله وتفويض الأمر إليه وهذا ما كان السلف الصالح يفعله، وأما السعي في اكتساب الرزق من طرقه المشروعة، فهو مما يحدث عليه الشرع ويستدعيه الاحتفاظ بعزة النفس وشرفها، ولا يحق للرجل أن ينكث يده من العمل وهو قادر عليه بدعوى أن تدبير الله له خير من تدبيره، ومن يفعل ذلك، فليس من الفضيلة في شيء، وليست هذه الدعوى إلا من مظاهر الكسل والإخلاد إلى الرضا مما تجود به أنعم العاملين، فترجع في الحقيقة إلى معنى أن تدبير الخلق له خير من تدبير نفسه. خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ: - وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِدُّ نَفْسَهُ كَالْوَكِيلِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ1، إِنِ اسْتَغْنَى اسْتَعَفَّ، وَإِنِ احْتَاجَ أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ صَرَفَهُ كَمَا يَصْرِفُ مَالَ الْيَتِيمِ فِي مَنَافِعِهِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْحَالِ غَنِيًّا عَنْهُ، فَيُنْفِقُهُ حَيْثُ يَجِبُ الْإِنْفَاقُ، وَيُمْسِكُهُ حَيْثُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، وَإِنِ احْتَاجَ أَخَذَ مِنْهُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ بِحَسَبِ مَا أُذِنَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ، وَهَذَا أَيْضًا بَرَاءَةٌ مِنَ الْحُظُوظِ فِي ذَلِكَ الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِحَظِّهِ لَحَابَى نَفْسَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ، بَلْ جَعَلَ نَفْسَهُ كَآحَادِ الْخَلْقِ، فَكَأَنَّهُ قَسَّامٌ فِي الْخَلْقِ يُعِدُّ نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ واحد، فهم مني وأنا منهم" 2.   1 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 694-695، 701"، وسعيد بن منصور في "السنن" "4/ 1538/ رقم 788- ط الصميعي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 324/ رقم 12690"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 582/ رقم 8597"، وابن سعد في "الطبقات" "3/ 276"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص112"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "6/ 4، 5، 354"، وابن الجوزي في "مناقب عمر" "ص105" من طرق عن عمر، قال: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ثم قضيت" وهو صحيح بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنه قال ذلك لعمار وابن مسعود رضي الله عنهم حين ولاهما أعمال الكوفة، وفيها: "إني وإياكم في مال الله .... " وذكر نحوه، وعبارة المصنف للشافعي في "الأم" "4/ 80"، وعنه السيوطي في "الأشباه" "135"، والبلاطنسي في "تحرير المقال" "144". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأشعريين" باب الشركة في الطعام والنهد والعروض 5/ 128/ رقم 2483"، ومسلم في الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم 4/ 1944-1945/ رقم 2500" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وَفِي حَدِيثِ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هَذَا1، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ فِي مَغَازِيهِ مِنْ هَذَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ2، فَالْإِيثَارُ بِالْحُظُوظِ مَحْمُودٌ3 غَيْرُ مُضَادٍّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" 4،   1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار/ رقم 3782" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل. قال: لا، قال: تكفوننا المئونة، وتُشركوننا في التمر. قالوا: سمعنا وأطعنا". وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 3781"، في الكتاب والباب السابق وفي باب "كيف أخى النبي بين أصحابه" من الكتاب نفسه/ رقم 3937"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح باب منه/ رقم 1427"، وغيرهما من حديث أنس، قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن .... " 2 قلت: أكتفي هنا بذكر مثال واحد وقع في غزوة تبوك، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، 1/ 55-56/ رقم 27" بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى هم بنحر بعض حمائلهم قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره. قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها. قال: حتى ملأ القوم أزودتهم قال: فقال عند ذلك: "أشهدُ أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله، لا يَلْقَى اللهَ بهما عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فيهِمَا إلا دَخَلَ الجَنَّةَ". وأخرجه أحمد في "مسنده" "3/ 11"، وقد تكلم بعضهم في صحة هذا الحديث بكلام متعقب، انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" "1/ 221-223". 3 وهو حاصل في أهل المرتبتين المذكورتين كما سيوضحه، وقوله: "ما أخذوا لأنفسهم" هذا في أهل المرتبة الثانية. "د". 4 أخرج البخاري في "صحيحه"كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، 4/ 294/ رقم 1427"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، 2/ 717/ رقم 1034" عن حكيم بن حزام مرفوعا: "أفضل الصدقة عن ظهر = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 بَلْ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي حَالَتَيْنِ. فَهَؤُلَاءِ والذين قبلهم لم يقيدا أَنْفُسَهُمْ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ، وَمَا أَخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ لَا يُعَدُّ سَعْيًا فِي حَظٍّ؛ إِذْ لِلْقَصْدِ إِلَيْهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنْ يُؤْثِرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هُنَا ذَلِكَ، بَلْ آثَرَ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ سِوَى نَفْسِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ هَؤُلَاءِ بُرَءاء مِنَ الْحُظُوظِ، كَأَنَّهُمْ عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حَظٌّ، وَتَجِدُهُمْ فِي الْإِجَارَاتِ وَالتِّجَارَاتِ1 لَا يَأْخُذُونَ إِلَّا بِأَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّبْحِ أَوِ الْأُجْرَةِ، حَتَّى يَكُونَ مَا حَاوَلَ أَحَدُهُمْ2، مِنْ ذَلِكَ كَسْبًا لِغَيْرِهِ لَا لَهُ، وَلِذَلِكَ بَالَغُوا فِي النَّصِيحَةِ فَوْقَ مَا يَلْزَمُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُكَلَاءُ لِلنَّاسِ لَا لِأَنْفُسِهِمْ، فَأَيْنَ الْحَظُّ هُنَا؟ بَلْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُحَابَاةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِنْ جَازَتْ كَالْغِشِّ لِغَيْرِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَاحِقُونَ حُكْمًا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، بِإِلْزَامِهِمْ أَنْفُسِهِمْ لَا بِاللُّزُومِ الشَّرْعِيِّ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً. - وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ هَؤُلَاءِ، بَلْ أخذوا ما مَا أُذِن لَهُمْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِذْنِ، وَامْتَنَعُوا مِمَّا مُنِعوا مِنْهُ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى الْإِنْفَاقِ في كل ما لهم إليه حاجة،   = غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". وأخرجه أبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 193"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1586" بلفظ: "ليبدأْ أحدكم بمن يعول" ويشهد لما ساقه المصنف أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة 2/ 692-693" عن جابر مرفوعا: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء، فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا" يقول: "فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك". 1 في الأصل: "في التجارات أو مع الإجارات". 2 في الأصل: "أخذهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ بِالِاعْتِبَارِ الْمُتَقَدِّمِ أَهْلُ حُظُوظٍ، لَكِنْ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ أَخْذُهَا، فَإِنْ قِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا: إِنَّهُ تَجَرُّدٌ عَنِ الْحَظِّ، فَإِنَّمَا يُقَالُ مِنْ جِهَةٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهَا بِمُجَرَّدِ أَهْوَائِهِمْ تَحَرٌّزًا مِمَّنْ يَأْخُذُهَا غَيْرَ مُلَاحِظٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذَا هُوَ الْحَظُّ الْمَذْمُومُ؛ إِذْ1 لَمْ يَقِفُ دُونَ مَا حُدَّ لَهُ، بَلْ تَجَرَّأَ كَالْبَهِيمَةِ لَا تَعْرِفُ غَيْرَ الْمَشْيِ فِي شَهَوَاتِهَا، وَلَا كَلَامَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَمْ يَتَصَرَّفْ إِلَّا لِنَفْسِهِ، فَلَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْوَالِي عَلَى الْمَصَالِحِ العامة للمسلمين2، بَلْ هُوَ والٍ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بوالٍ عَامٍّ، وَالْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ هِيَ المبرَّأة مِنَ الْحُظُوظِ، فَالصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الْقِسْمِ مُعَامَلُونَ حُكْمًا بِمَا قَصَدُوا مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحُظُوظِ، فَيَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ3 الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَهُمَا مَنْ لَا يَأْخُذُ بِتَسَبُّبٍ أَوْ يَأْخُذُ بِهِ، لَكِنْ عَلَى نسبة القسمة ونحوها.   1 في "د": "إذا". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "على المسلمين". 3 فلا يجوز لهما بمقتضى ما فرضوه على أنفسهم زهدًا وكمالًا في الأحوال لا بتكليف الشرع. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعَمَلُ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِمَّا عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذَيْنِ فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْرِيعٌ، فَلْنَضَعْ فِي كُلِّ قِسْمٍ مَسْأَلَةً، فَإِذَا وَقَعَ عَلَى مُقْتَضَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ بِحَيْثُ رَاعَاهَا فِي الْعَمَلِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ وَسَلَامَتِهِ مُطْلَقًا، فِيمَا كَانَ بَرِيئًا مِنَ الْحَظِّ1 وَفِيمَا رُوعِيَ فِيهِ الْحَظُّ؛ لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ؛ إِذْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ فِي التَّشْرِيعِ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَهَذَا كافٍ هُنَا. وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ وَفِقْهٌ كَثِيرٌ: مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ -إِذَا رُوعِيَتْ- أَقْرَبُ إِلَى إِخْلَاصِ الْعَمَلِ وَصَيْرُورَتِهِ عِبَادَةً، وَأَبْعَدُ من مُشَارَكَةِ الْحُظُوظِ الَّتِي تُغَيِّرُ فِي وَجْهِ مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَظَّ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يُرَاعِيَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَظُّهُ، عَلَى قَوْلِنَا، إِنَّ إِثْبَاتَ الشَّرْعِ لَهُ وَإِبَاحَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ تَفَضُّلٍ امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ؛ إِذْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ مُرَاعَاةُ مَصَالِحِ الْعَبِيدِ، وَهُوَ أَيْضًا جارٍ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ، فَمُجَرَّدُ قَصْدِ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ والنهي أو الإذن2 كافٍ في   1 أي: رأسا كالعبادات الصرفة، أو كان مما فيه الحظ بالعرض، فلا ينافي أنه عرف المقاصد الأصلية بأجمعها بأنها مما لا حظ فيها للمكلف، ويشير إليه قوله بعد: "ثم يندرج حظه في الجملة"، إلا أن يقال: إن ما فيه الحظ إذا خلصه العامل من الحظ، كان كالمقاصد الأصلية، ويأتي للكلام تتمة. "د". 2 ذكر الإذن بعد ذكر الأمر والنهي يقتضي أنه بمعنى الإباحة، وليس هذا من المقاصد الأصلية؛ لأنها كما تقدم الواجبات عينية أو كفائية، فلو حذفه كان أليق بالمقام، ويدل عليه أيضا قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها" إلا أن يقال: إنه تقدم له في المسألة الرابعة أن ما فيه الحظ -يعني: وهو من المقاصد التابعة- يتأتى تخليصه من الحظ، ويساوي ما كان مأمورًا به على ما سبق في تفصيل المسألة المذكورة والوجهين من النظر فيها، وكما يأتي له في الفصل الأول حيث يقول: "أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ يُصَيِّر تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِ كُلَّهَا عِبَادَاتٍ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَادَاتِ أو العادات" وفي الفصل الثاني يقول: "إن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال إلى أحكام الوجوب". "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 حصول كل غرض، فالمتوجّه إلى مجرد خطاب الشارع، العامل1 على وفقه ملبيًا له بريء مِنَ الْحَظِّ، وَفِعْلُهُ وَاقِعٌ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا حَوْلَهَا ثُمَّ يَنْدَرِجُ حَظُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، بَلْ هُوَ الْمُقَدَّمُ شَرْعًا عَلَى الْغَيْرِ. فَإِذَا اكْتَسَبَ الْإِنْسَانُ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، أَوْ اعْتِبَارًا بِعِلَّةِ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى إِحْيَاءِ النُّفُوسِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِمَاطَةِ الشُّرُورِ عَنْهَا، كَانَ هُوَ2 الْمُقَدَّمُ شَرْعًا: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ" 3، أَوْ كَانَ قِيَامُهُ بِمَا قَامَ بِهِ قِيَامًا بِوَاجِبٍ مَثَلًا، ثُمَّ نَظَرُهُ فِي ذَلِكَ الْوَاجِبِ قَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَنْ يَقْصِدُ الْقِيَامَ بِحَيَاةِ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ بِهَا، أَوْ بِحَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ نَظَرِهِ، وَقَدْ يَتَّسِعُ نَظَرُهُ فَيَكْتَسِبُ لِيُحْيِيَ بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا أَعَمٌّ الْوُجُوهِ وَأَحْمَدُهَا وَأَعْوَدُهَا بِالْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يَفُوتُهُ فِيهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَتَقَعُ نَفَقَتُهُ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ، وَيَقْصِدُ غَيْرَ مَا كَسَبَ4 وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ5 فَإِنَّهُ6 لَمْ يكلِ التَّدْبِيرَ إِلَى رَبِّهِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَدْ جَعَلَ قَصْدَهُ وَتَصَرُّفَهُ فِي يَدِ مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ7، وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِيَسِيرِهِ عَالَمٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَصْرِهِ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحَقُّقِ بِإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ، ولا يفوته من   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "في التوجه إلى ... فالعامل ... ". 2 إشارة إلى قوله: "ثم يندرج حظه في الجملة"، وقوله: "أو كان قيامه ... إلخ" إشارة إلى قوله: "وفعله واقع على الضروريات وما حولها". "د". 3 مضى تخريجه "ص325". 4 في الأصل و"خ": "كتب". 5 في أنه قام بواجب شرعي، وأنه محمود أيضا. "د". 6 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "أنه". 7 في "ط": "وكيل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 حَظِّهِ شَيْءٌ. بِخِلَافِ مُرَاعَاةِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، فَقَدْ يَفُوتُهُ مَعَهَا جُلُّ هَذَا أَوْ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَاعِي مَثَلًا زَوَالَ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَوِ الْبَرْدِ أَوْ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ أَوِ التَّلَذُّذَ بِالْمُبَاحِ مُجَرَّدًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، فَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَلَا رُوعِيَ فِيهِ قَصْدُ الشَّارِعِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ منجرٌّ1 مَعَهُ، وَلَوْ رُوعِيَ قَصْدُ الشَّارِعِ لَكَانَ الْعَمَلُ امْتِثَالًا، فَيَرْجِعُ إِلَى التَّعَلُّقِ بِمُقْتَضَى الْخِطَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا لَمْ يراعَ2، لَمْ يبقَ إِلَّا مُرَاعَاةُ الْحَظِّ خَاصَّةً، هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثانٍ أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ رَاجِعَةٌ إِمَّا إِلَى مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ3 مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي شَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ بِلَا شَكٍّ طَاعَةٌ لِلْأَمْرِ وَامْتِثَالٌ لِمَا أُمِرَ لَا دَاخِلَةَ فِيهِ، وَإِمَّا إِلَى مَا4 فُهِم مِنَ الْأَمْرِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ اسْتَعْمَلَهُ سَيِّدُهُ فِي سُخْرَةِ عَبِيدِهِ، فَجَعَلَهُ وَسِيلَةً وَسَبَبًا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء.   1 أي: فهو وإن كان عمله موافقا لقصد الشارع ولم يخالفه، إلا أنه لم يراعِ ذلك في عمله حتى يكون خارجا عن داعية هواه، أي أنه لم يعمل التفاتا لمقتضى خطاب الشارع أمرا أو نهيا أو إذنا، بل بمقتضى مجرد حاجته هو وداعية شهوته بقطع النظر عن الخطاب. "د". 2 في الأصل: "يرعَ". 3 لم يذكر هنا ما يتعلق بالمباح، فيقول: "أو توجهه للخطاب بالإذن، وقد ذكر الإذن في الوجه الأول، واحتجنا فيه إلى التكلف لتصحيح الكلام بجعله داخلا في المقاصد الأصلية، على أنه في الأول أيضا عند قوله: "فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر ... إلخ"، لم يذكر الإذن، ومحصل الفرق بين هذا الوجه وما قبله أنه جعل هناك حكمة الأمر إحياء النفوس وإماطة الشرور عنها، وهنا جعل الحكمة أنه عبد سخره سيده في مصلحة عبيده وجعله وسيلة لإيصال حاجاتهم إليهم، ولم يقل هنا: "إنه يكون مقدما"، بل قال: "فكأن السيد هو القائم له بحظه"، فهل يعتبر هذا وذاك فيما به التغاير بين الوجهين؟ تأمل. "د". 4 في الأصل: "إذا ما فهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْرُجُ عَنِ اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ، فَهُوَ عَامِلٌ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ، مُسْقِطٌ لِحَظِّهِ فِيهَا، فَكَأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْقَائِمُ لَهُ بِحَظِّهِ، بِخِلَافِ الْعَامِلِ لِحَظِّهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ فَهِمَ مَقْصُودَ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ قَامَ بِهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِجْلَابِ حَظِّهِ أَوْ حَظِّ مَنْ لَهُ فِيهِ حَظٌّ، فَهُوَ إِنِ امْتَثَلَ1 الأمرَ فَمِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَالْإِخْلَاصُ عَلَى كَمَالِهِ مَفْقُودٌ فِي حَقِّهِ، وَالتَّعَبُّدُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ منتفٍ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ، فَذَلِكَ أَوْضَحُ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى التَّعَبُّدِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا فِيهِ، وَقَدْ يَتَّخِذُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَادِيَّيْنِ لَا عِبَادِيَّيْنِ، إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ حَظِّهِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِمَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الأُوَل قَائِمٌ بِعِبْءٍ ثَقِيلٍ جِدًّا، وَحِمْلٍ كَبِيرٍ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يَثْبُتُ تَحْتَهُ طَالِبُ الْحَظِّ فِي الْغَالِبِ، بَلْ يَطْلُبُ حَظَّهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الأمر2 حالة داخلة على المكلف شاء أم3 أَبَى، يَهْدِي اللَّهُ إِلَيْهَا مَنِ اخْتَصَّهُ بِالتَّقْرِيبِ مِنْ عِبَادِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَثْقَلَ الْأَحْمَالِ وَأَعْظَمَ التَّكَالِيفِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى4: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 5] . فَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ اخْتِصَاصٍ زَائِدٍ، بِخِلَافِ طَالِبِ الحظ، فإنه   1 هو بهذا المعنى يكون فعله فعلا لمباح بدون نية لشيء سوى حظه، ومثل هذا لا يقال فيه: إنه امتثل الأمر، بل وافقه؛ لأن الامتثال يحتاج للقصد والنية، ويدل عليه قوله: "والتعبد بذلك منتفٍ". "د". 2 هو القيام على المقاصد الأول، وقوله: "الأول محمول"، أي: له حامل وباعث قوي من جهة سيده، يحفزه على القيام بمشاق الأعمال، فيستريح لها. "د". 3 في "د": "أو". 4 يصح أن يفهم ثقل القول في الآية على الرصانة والامتلاء من الحكمة التي تطمئن إليهما العقول الراجحة، وكذلك القرآن لإنزال حقائقه راسية وأنوار هدايته متدفقة على الرغم من كثرة من يحاول نقده، ويثير غبار الشبه في عين من يؤمن بأنه تنزيل من حكيم حميد. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 عامل بنفسه، وغير مستويين فاعل وَفَاعِلٌ بِنَفْسِهِ، فَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ، وَالثَّانِي عَامِلٌ بِنَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ قَلَمَّا تَجِدُ صَاحِبَ حَظٍّ يَقُومُ بِتَكْلِيفٍ شَاقٍّ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَنْ يَدَّعِي تِلْكَ الْحَالَ، فَاطْلُبْهُ بِمَطَالِبِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، فَإِنْ أَوْفَى بِهِ، فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا، عَلِمْتَ أَنَّهُ مُتَقَوِّلٌ قَلَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ مَا ادَّعَى، وَإِذَا ثَبَتَ أن صاحب المقاصد الأول محمول، فلذلك أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْإِخْلَاصِ، وَصَاحِبُ الْحَظِّ1 لَيْسَ بِمَحْمُولٍ ذَلِكَ الْحِمْلِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ حَظُّهُ، فَإِذَا سَقَطَ حَظُّهُ ثَبَتَ قَصَدُهُ فِي الْمَقَاصِدِ الْأُوَلِ، وَثَبَتَ لَهُ الْإِخْلَاصُ، وَصَارَتْ أَعْمَالُهُ عِبَادَاتٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَسْعَى فِي حَظِّهِ وَقَدْ بَلَغَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا فِي أَهْلِ الدِّينِ، بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ، وَالنِّسَاءَ2 وَالْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ3، وَكَانَ تُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ4، وَيُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ5، وَأَشْبَاهُ ذلك مما هو اتباع لحظ النفس؛ إذ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِمَّا يَشْتَهِيهِ مِنَ الْحَلَالِ، بَلْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ إِذَا وَجَدَهُ، وَقَدْ بَلَغَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا فِي أَهْلِ الدِّينِ، وَهُوَ أَتْقَى الخلق وأزكاهم، و"كان خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"6، فَهَذَا فِي هَذَا الطَّرَفِ. وَنَرَى أَيْضًا كَثِيرًا مِمَّنْ يُسْقِطُ حَظَّ نَفْسِهِ وَيَعْمَلُ لِغَيْرِهِ أَوْ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ صَادِقًا فِي عَمَلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فليس له في الآخرة من   1 أي: الذي خلط في عمله بين الحظ وبين الالتفات إلى الامتثال، ليس له من هذا المقام إلا بمقدار قلة مراعاة للحظ، وسيقول في آخر الفصل: "وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدم الإخلاص ولا أنفيه". "د". 2 مضى "ص240": "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء"، وهو صحيح. 3 مضى "1/ 185". 4 مضى "1/ 185". 5 مضى "1/ 185". 6 كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل 1/ 512-513/ رقم 746". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 خَلَاقٍ، كَكَثِيرٍ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَزَهَّدَ وَانْقَطَعَ عَنِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا وَلَا أَخْطَرَهَا بِبَالِهِ، وَاتَّخَذَ الْعِبَادَةَ وَالسَّعْيَ فِي حَوَائِجِ الْخَلْقِ دَأْبًا وَعَادَةً، حَتَّى صَارَ فِي النَّاسِ آيَةً، وَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى بَاطِلٍ مَحْضٍ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ وَسَائِطُ لَا تُحْصَى تُقَرِّبُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا زَعَمْتَ ظَوَاهِرُ، وَغَائِبَاتُ الْأُمُورِ قَدْ لَا تَكُونُ مَعْلُومَةً، فَانْظُرْ مَا قَالَهُ الْإِسْكَافُ فِي "فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ" فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثلاثٌ" 1 يَلُحْ لَكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلَعِ خلافُ مَا تَوَهَّمْتَ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ الصِّرْفِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ الصِّرْفِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الثَّلَاثِ الصَّلَاةَ، وَهِيَ أَعْلَى الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَهَكَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي سِوَاهَا. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُبِّ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِحَظٍّ لِأَنَّ الْحُبَّ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُمْلَكُ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِيمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ لِمُجَرَّدِ الْحَظِّ، دُونَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِذْنِ؟ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَظِّ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فِي الْقُدْوَةِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ نَحْوُهُ فِي كُلِّ مُقْتَدًى بِهِ مِمَّنِ اشْتُهِرَتْ وِلَايَتُهُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ عَنِ الرُّهْبَانِ2، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْحَظِّ، بَلْ هِيَ عَيْنُ الْحَظِّ، وَاسْتِهْلَاكٌ فِي هَوَى النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْرُكُ حَظَّهُ فِي أَمْرٍ إِلَى حَظٍّ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، كَمَا تَرَى النَّاسَ يَبْذُلُونَ الْمَالَ فِي طَلَبِ الْجَاهِ لِأَنَّ حَظَّ النَّفْسِ فِي الْجَاهِ أَعْلَى، وَيَبْذُلُونَ النُّفُوسَ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ حَتَّى يَمُوتُوا فِي طَرِيقِ ذَلِكَ، وَهَكَذَا الرُّهْبَانُ قَدْ يَتْرُكُونَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا لِلَذَّةِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَإِنَّهَا أَعْلَى، وَحَظُّ الذِّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرِّيَاسَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالْجَاهِ الْقَائِمِ في الناس من أعظم الحظوظ   1 قطعة من حديث صحيح دون لفظة: "ثلاث"، وقد خرجناه "ص240". 2 في "ط": "في الرهبان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الَّتِي يُسْتَحْقَرُ مَتَاعُ الدُّنْيَا فِي جَنْبِهَا، وَذَلِكَ أَوَّلُ1 مَنْهِيٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَلَا كَلَامَ فَيمَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: "حُبُّ الرِّيَاسَةِ آخِرُ مَا يخرُج مِنْ رُءُوسِ الصِّدِّيقِينَ"، وَصَدَقُوا. وَالثَّانِي: أَنَّ طَلَبَ الْحُظُوظِ قَدْ يَكُونُ مُبَرَّءًا مِنَ الْحُظُوظِ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى طَلَبِهِ أَوَّلًا إِمَّا أَنْ يكون أمر الشارع أولا، فَإِنْ كَانَ أَمْرَ الشَّارِعِ، فَهُوَ الْحَظُّ الْمُبَرَّأُ الْمُنَزَّهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ عِنْدَهُ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ، فكما يكون في مصالح غيره مبرءًا عَنِ الْحَظِّ، كَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ، وَلَا يُعَدُّ مِثْلُ هَذَا حَظًّا وَلَا سَعْيًا فِيهِ بِحَسَبَ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّابِعَ إِذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ الْقَصْدَ الْأَصْلِيَّ كَانَ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِهِ، فَلَهُ حُكْمُهُ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَرْتَبِطْ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ سَعْيٌ فِي الْحَظِّ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ هَكَذَا. وَأَمَّا2 شَأْنُ الرُّهْبَانِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، فَقَدْ يَتَّفِقُ لَهُمْ هَذِهِ الْحَالَةُ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةَ الْوَضْعِ، فَيَنْقَطِعُونَ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَيُسْقِطُونَ حُظُوظَهُمْ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى مَعْبُودِهِمْ، وَيَعْمَلُونَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ وُجُوهِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ سَبَبٌ إِلَيْهِ، وَيُعَامِلُونَهُ فِي الْخَلْقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَسْبَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحِقُّ فِي الدِّينِ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وَلَا أَقُولُ: "إِنَّهُمْ غَيْرُ مُخْلِصِينَ، بَلْ هُمْ مُخْلِصُونَ إلى من عبدوا، ومتوجهون صدقا إلى من عَامَلُوا، إِلَّا أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُونَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2-4] والعياذ بالله.   1 لأنه أشد بواعث الهوى الذي وضعت الشريعة لإخراج العبد من ربقته. "د". 2 في الأصل: "وما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وَدُونَهُمْ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَوَارِجِ مَا عَلِمْتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذِي الْخُوَيْصِرَةِ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمُ" 1 الْحَدِيثَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ عِبَادَةً تُسْتَعْظَمُ وَحَالًا يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهُ2، لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" 3، وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِهِمْ4، وَيُوجَدُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ من هذا كثير.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 617-618/ رقم 3610، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب من ترك قتال الخوارج للتألف6 ولئلا ينفر الناس عنه، 12/ 290/ رقم 6933، وكتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فجر به، 9/ 99/ رقم 5058"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744/ رقم 1064 بعد 148" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 2 إن كان المراد من الدين في قوله: "يمرقون من الدين" أصل الإسلام، كان فساد أعمال هذه الفرقة من جهة أنها لم تكن قائمة على أساس الصحة الذي هو الإيمان، أما إذا أريد من الدين الطاعة وذهبنا إلى أنهم داخلون في حساب المسلمين على ما هم من الابتداع، فإنما يبطل من أعمالهم ما لم يأتِ على وضعه الشرعي أو لم يتوجهوا فيه إلى الله بنية خالصة. "خ". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6 / 618/ رقم 3611، وكتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 283/ رقم 6930"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، 2/ 746-747/ رقم 1066" عن علي رضي الله عنه. 4 ورد في آخر الحديث السابق: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم". قال "د": "هذا دليل على أن معنى مروقهم من الدين خروجهم من أصل الإسلام، لا مطلق المعصية، فلا وجه لتردد بعضهم هنا". قلت: وكلامه متعقب من وجوه كثيرة، انظرها في: "منهاج السنة النبوية" "3/ 27، 60 وما بعدها"، و"الرد على البكري" "ص256-260"، و"المسائل الماردينية" "ص65-70"،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ........................................................................................   = و" مجموعة الرسائل والمسائل" "5/ 199 وما بعدها"، وقد قرر المصنف في كتابه "الاعتصام" "2/ 185-187" عدم التكفير، فقال: "وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر: عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم، ألا ترى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، على مقتضى قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية؟! فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة، لم يهاجمهم علي رضي الله عنه ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين، لم يتركهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين. وأيضا، فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر، لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعادة والعداوة والهجران، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض، لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين، وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل، أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين. ومن جهة المعنى إنا وإن قلنا: "إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك، لكانوا كفارا؛ إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا، وهو كفر. وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها، وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة. وأيضا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة والجماعة على مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة. وأيضا، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع"، انتهى كلام الشاطبي، ثم حكى كيف رجع الألفان من الحرورية لما جاءهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وناقشهم فآبوا إلى الحق ورجعوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَالْإِخْلَاصُ فِي الْأَعْمَالِ إِنَّمَا يَصِحُّ خلوصه من اطِّرَاحِ الْحُظُوظِ1، لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ كَانَ مُنْجِيًا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كان [مبنيا] عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ، فَبِالضِّدِّ، وَيَتَّفِقُ هَذَا كَثِيرًا فِي أَهْلِ الْمَحَبَّةِ، فَمَنْ طَالَعَ أَحْوَالَ الْمُحِبِّينَ رَأَى اطِّراحَ الْحُظُوظِ وَإِخْلَاصَ الْأَعْمَالِ لِمَنْ أَحَبُّوا عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ الَّتِي تَتَهَيَّأُ مِنَ الْإِنْسَانِ. فإذن، قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّ الْمَقَاصِدَ التَّابِعَةَ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِهِ، وَلَا أَنْفِيهِ. فَصْلٌ: وَيَظْهَرُ مِنْ هُنَا أَيْضًا أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ يُصَيِّرُ تصرفاتِ الْمُكَلَّفِ كُلَّهَا عِبَادَاتٍ، كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا فَهِمَ مُرَادَ الشَّارِعِ مِنْ قِيَامِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَخَذَ فِي الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى مَا فَهِمَ، فَهُوَ إِنَّمَا يَعْمَلُ مِنْ حَيْثُ طُلِبَ مِنْهُ الْعَمَلُ، وَيَتْرُكُ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ التَّرْكُ، فَهُوَ أَبَدًا فِي إِعَانَةِ الْخَلْقِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ2. أما باليد، فظاهر في وجوه الإعانات.   1 أي: إنما يصح خلوص الإخلاص وكماله بسبب اطراح الحظوظ، وما بقي للحظ رائحة، فليس الإخلاص كاملا، في أي عمل فرضته. "د". 2 قرر رحمه الله في كتابه "الاعتصام" "1/ 32/ 34- ط محمد رشيد رضا" هذا المعنى بتفصيل، وله رسالة كتبها لبعض أصحابه فيها ضرورة الدعوة إلى الحق وأمانة نشره، تراها في "المعيار المعرب" "11/ 139"، و"فتاوى الشاطبي" "ص182-185"، وله أيضا في "المعيار" "11/ 141" وصية يحمل فيها أصحابه على الصبر على البلاء في بث العلم ونشره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وَأَمَّا بِاللِّسَانِ، فَبِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونُوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مُطِيعِينَ لَا عَاصِينَ، وَتَعْلِيمُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَقَاصِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِالدُّعَاءِ بِالْإِحْسَانِ لِمُحْسِنِهِمْ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَبِالْقَلْبِ لَا يُضْمِرُ لَهُمْ شَرًّا، بَلْ يَعْتَقِدُ لَهُمُ الْخَيْرَ، وَيُعَرِّفُهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَوْصَافِ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا وَلَوْ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، وَيُعَظِّمُهُمْ وَيَحْتَقِرُ نَفْسَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِبَادِ. بَلْ لَا يَقْتَصِرُ فِي هَذَا عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ الشَّفَقَةُ عَلَى الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا، حَتَّى لَا يُعَامِلَهَا إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ" 1، وَحَدِيثُ تَعْذِيبِ الْمَرْأَةِ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا"2، وَحَدِيثُ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كل مسلم، فإذا قتلتم،   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2363، وكتاب المظالم، باب الآبار التي على الطريق إذا لم يُتأذَّ منها/ رقم 2466، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم/ رقم 6009" و"الأدب المفرد" "378"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم وإطعامها/ رقم 2244 بعد 153"، ومالك في "الموطأ" "2/ 929-930"، وأحمد في "المسند" "2/ 521"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم/ رقم 2550"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 537- الإحسان"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 46"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "113". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم/ رقم 2318، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2365، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب 54/ رقم 3482"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242، وكتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، 4/ 2022". وانظر تفصيل التخريج في كتابنا "من قصص الماضيين" "ص343-345". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ" الْحَدِيثَ1 إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَالْعَامِلُ بِالْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَامِلٌ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فِي نَفْسِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَيْفَ لَا تَكُونُ تَصَارِيفُ مَن هَذِهِ سَبِيلُهُ عِبَادَةً كلَّها؟ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ عَامِلًا عَلَى حَظِّهِ2، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَلْتَفِتُ [إِلَى] 3 حَظِّهِ أَوْ مَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى حَظِّهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ هُوَ عَامِلٌ فِي مُبَاحٍ إِنْ لَمْ يُخِلَّ بِحَقِّ اللَّهِ أَوْ بِحَقِّ غَيْرِهِ فِيهِ، وَالْمُبَاحُ لَا يُتعبَّد إِلَى اللَّهِ بِهِ، وَإِنْ فَرَضْنَاهُ قَامَ عَلَى حَظِّهِ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُ الشَّارِعُ، فَهُوَ عِبَادَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِنْ فَرَضْتَهُ كَذَلِكَ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ دَاعِيَةِ حَظِّهِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ. فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ يَنْقُلُ الْأَعْمَالَ فِي الْغَالِبِ إِلَى أَحْكَامِ الْوُجُوبِ؛ إِذِ الْمَقَاصِدُ الْأَصْلِيَّةُ دَائِرَةٌ عَلَى حُكْمِ الْوُجُوبِ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ حِفْظًا لِلْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ فِي الدِّينِ المراعاةِ بِاتِّفَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ صَارَتِ الْأَعْمَالُ الْخَارِجَةُ عَنِ الْحَظِّ دَائِرَةً عَلَى الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ بِالْجُزْءِ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالْكُلِّ، وَهَذَا عَامِلٌ بِالْكُلِّ4 فِيمَا هُوَ مَنْدُوبٌ بِالْجُزْءِ أَوْ مُبَاحٌ يَخْتَلُّ النظام باختلاله، فقد صار عاملا بالوجوب.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة 3/ 1548/ رقم 1955"، وغيره عن شداد بن أوس ولكن بلفظ: "شيء" بدل "مسلم" وكذا سيأتي عند المصنف "3/ 396"، ومضى تخريجه "1/ 217". وانظر سائر الأحاديث الواردة في هذا الباب في كتاب السخاوي "تحرير الجواب في ضرب الدواب" بتحقيقنا. 2 في "ماء/ 189": "حظوظه". 3 سقط من "ط". 4 أي: عامل بقصد الأمر الكلي، وهو إقامة المصالح العامة للناس، لا لخصوص نفسه، سواء أكان الفعل الجزئي مندوبا أم كان مباحا يختل النظام إذا اختل. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 فَأَمَّا الْبِنَاءُ [عَلَى الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْحَظِّ الْجُزْئِيِّ، وَالْجُزْئِيُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ، فَالْبِنَاءُ] 1 عَلَى الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ، فَقَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ مُبَاحًا، إِمَّا بِالْجُزْءِ وَإِمَّا بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ مَعًا، وَإِمَّا مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَكْرُوهًا، أَوْ مَمْنُوعًا بِالْكُلِّ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصِدَ2 الْأَوَّلَ إِذَا تَحَرَّاهُ الْمُكَلَّفُ يَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ إِلَى كُلِّ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ فِي الْعَمَلِ مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءِ مَفْسَدَةٍ، فَإِنَّ الْعَامِلَ بِهِ إِنَّمَا قَصْدُهُ تَلْبِيَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ، إِمَّا بَعْدَ فَهْمِ مَا قَصَدَ3، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهُوَ قَاصِدٌ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ أعم المقاصد وأولها وأولاها، وَأَنَّهُ نُورٌ صِرْفٌ لَا يَشُوبُهُ غَرَضٌ وَلَا حَظٌّ، كَانَ الْمُتَلَقِّي لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ آخِذًا لَهُ زَكِيًّا وَافِيًا كَامِلًا، غَيْرَ مَشُوبٍ وَلَا قَاصِرٍ عَنْ مُرَادِ الشَّارِعِ، فَهُوَ حَرٍ أَنْ يَتَرَتَّبَ الثَّوَابُ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ. وَأَمَّا الْقَصْدُ التَّابِعُ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْحَظِّ أَوْ أَخْذَ الْعَمَلِ بِالْحَظِّ قَدْ قَصَرَهُ قَصْدُ الْحَظِّ عَنْ إِطْلَاقِهِ، وَخَصَّ عُمُومَهُ، فَلَا يَنْهَضُ نُهُوضَ الْأَوَّلِ. شَاهِدُهُ قَاعِدَةُ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْخَيْلُ لِرَجل أجرٌ، وَلِرَجُلٍ سترٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فرَجُل رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أصابت في طيلها ذلك من   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 في الأصل: "المقصود". 3 في الأصل: "مقصودا". 4 سيأتي تخريجه "ص355"، وهو في الصحيحين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ، فاستَنَّت شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بنهرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنات" 1، فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْحَدِيثَ لِصَاحِبِ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِارْتِبَاطِهَا سَبِيلَ اللَّهِ، وَهَذَا عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ، فَكَانَ أَجْرُهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ عَامًا أَيْضًا غَيْرَ خَاصٍّ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ" 2 فَهَذَا فِي صَاحِبِ الْحَظِّ الْمَحْمُودِ لَمَّا قَصَدَ وَجْهًا خَاصًّا وَهُوَ حَظُّهُ، كَانَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى مَا قَصَدَ، وَهُوَ السَّتْرُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْقَصْدِ التَّابِعِ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "ورجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ 3، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وزرٌ" 4، فَهَذَا فِي الْحَظِّ الْمَذْمُومِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ أَصْلِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَلَا كَلَامَ فيه هنا.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار 5/ 45-46/ رقم 2371، وكتاب الجهاد، باب الخيل لثلاثة 6/ 63-64/ رقم 2860، وكتاب المناقب، باب منه 6/ 633/ رقم 3646، وكتاب التفسير، باب قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 8/ 726/ رقم 4962، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل 6/ 329/ رقم 7356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة 2/ 680-683/ رقم 987" عن أبي هريرة رضي الله عنه. والمرج: مرعى الدواب ومرج الدابة: أرسلها ترعى، وطيلها: حبلها الذي تربط فيه، والشَّرَف، بالتحريك: الشوط، أي الجري مرة إلى الغاية، وهو الطلق. "2و 4" قطعة من الحديث السابق. 3 اتخاذ أدوات الحرب مناوأة لأهل الإسلام قد يكون فسوقا كمن يتخذ الخيل للإغارة على الأموال المحترمة مثلما يفعل بعض قطاع الطريق، وقد يعد نبذًا للدين جملة، ودخولا في زمرة المخالفين عقيدة وحكما، كمن يركبها منضما إلى جيش العدو والزاحف على بلد إسلامي؛ لتكون كلمته هي العليا ويذيق المسلمين من مرارة سلطته القاهرة عذابا مهينا. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وَيَجْرِي مَجْرَى الْعَمَلِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِالصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ مَا قَصَدُوا يَشْمَلُهُ قَصْدُ الْمُقْتَدِي فِي الِاقْتِدَاءِ، وَشَاهِدُهُ الْإِحَالَةُ فِي النِّيَّةِ عَلَى نِيَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ [بَعْضِ] 1 الصَّحَابَةِ فِي إِحْرَامِهِ: "بِمَا أَحْرَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"2، فَكَانَ حُجَّةً فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ يصيِّرُ الطَّاعَةَ أَعْظَمَ، وَإِذَا خُولِفَتْ كَانَتْ مَعْصِيَتُهَا أَعْظَمَ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْعَامِلَ عَلَى وَفْقِهَا عَامِلٌ عَلَى الْإِصْلَاحِ [الْعَامِّ] لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا قَاصِدٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، وَإِمَّا قَاصِرٌ نَفْسَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ الَّذِي يَدْخُلُ قَصْدِهِ كُلُّ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَإِذَا فَعَلَ [ذَلِكَ] جُوزِيَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أَحْيَاهَا، وَعَلَى كُلِّ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ قَصَدَهَا، وَلَا شَكَّ فِي عِظَمِ هَذَا الْعَمَلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ أَحْيَا النَّفْسَ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا3، وَكَانَ الْعَالِمُ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْمَاءِ4 بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَعْمَلْ عَلَى وَفْقِهِ، فَإِنَّمَا يَبْلُغُ ثَوَابُهُ مَبْلَغَ قَصْدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَمَتَى كَانَ قَصْدُهُ أَعَمَّ، كَانَ أَجْرُهُ أَعْظَمَ، وَمَتَى لَمْ يَعُمَّ قصده، لم يكن   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. وفي "ط": "قول الصحابي". 2 هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روى جابر في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم في "كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 888/ رقم 1218"، وفيه: "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: " ماذا قلت حين فرضت الحج؟ ". قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ... " إلخ. 3 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223". 4 مضى النص الوارد في ذلك "1/ 363". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 أَجْرُهُ إِلَّا عَلَى وِزَانِ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ الْعَامِلَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَامِلٌ عَلَى الْإِفْسَادِ الْعَامِّ، وَهُوَ مُضَادٌّ لِلْعَامِلِ عَلَى الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ قَصْدَ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ يَعْظُمُ بِهِ الْأَجْرُ، فَالْعَامِلُ عَلَى ضِدِّهِ يعظم به وزره، ولذلك كان ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ وِزْرِ كُلِّ مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ الْمُحَرَّمَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ1، وَكَانَ مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَ "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" 2. فَصْلٌ: وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ أُصُولَ الطَّاعَاتِ وَجَوَامِعَهَا إِذَا تُتُبِّعَتْ وُجِدَتْ رَاجِعَةً إِلَى اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَبَائِرُ الذُّنُوبِ إِذَا اعْتُبِرَتْ وُجِدَتْ فِي مُخَالَفَتِهَا، وَيَتَبَيَّنُ لك ذلك بِالنَّظَرِ فِي الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَمَا أُلْحِقَ بِهَا قِيَاسًا، فَإِنَّكَ تَجِدُهُ مطَّرِدًا إِنْ شَاءَ الله.   1 سيأتي النص الوارد في ذلك "ص386" ومضى "1/ 222-223". 2 سيأتي تخريجه "ص385"، ومضى "1/ 223". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 الْمُسَالَةُ السَّادِسَةُ: الْعَمَلُ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تُصَاحِبَهُ الْمَقَاصِدُ الْأَصْلِيَّةُ، أَوْ لَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَعَمَلٌ بِالِامْتِثَالِ بِلَا إِشْكَالٍ1، وَإِنْ كَانَ سَعْيًا فِي حَظِّ النَّفْسِ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَعَمَلٌ بِالْحَظِّ وَالْهَوَى مُجَرَّدًا. وَالْمُصَاحَبَةُ إِمَّا بِالْفِعْلِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: هَذَا الْمَأْكُولُ، أَوْ هَذَا الْمَلْبُوسُ، أَوْ هَذَا الْمَلْمُوسُ، أَبَاحَ لِيَ الشَّرْعُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ، فَأَنَا أَسْتَمْتِعُ2 بِالْمُبَاحِ وَأَعْمَلُ بِاسْتِجْلَابِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَإِمَّا بِالْقُوَّةِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي التَّسَبُّبِ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَاحِ مِنَ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لَكِنَّ نَفْسَ الْإِذْنِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ، وَإِنَّمَا خَطَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ3 مِنَ الطَّرِيقِ الْفُلَانِيِّ، فَإِذَا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَهَذَا في الحكم الأول، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ الَّتِي تُوصِّلُ إِلَى الْمُبَاحِ مِنْ جِهَتِهِ مُبَاحًا، إِلَّا أَنَّ الْمُصَاحَبَةَ بِالْفِعْلِ أَعْلَى، وَيَجْرِي غَيْرُ4 الْمُبَاحِ مَجْرَاهُ فِي الصُّورَتَيْنِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَبَيَانُ كَوْنِهِ عَامِلًا5 بِالْحَظِّ والامتثال أمران:   1 سيأتي استشكاله، إلا أن يقال: إن هذا منه تنبيه على أن لم يبقَ بعد الجواب أثر للإشكال في نظره. "د". 2 أي: يقضي شهوة نفسه؛ لأنه مأذون فيه، فقد جمع بين الأمرين كما ترى. "د". 3 أي: فتخيره للطريق المباح من بين الطرق، وتحريه عنه ما جاء إلا من جهة التفاته لإذن الشارع، فيكون في قوة القول المذكور. "د". 4 وهو المندوب. "د". 5 أي: في الصورتين، والغرض بيان صحة مصاحبة الحظ والمقاصد التابعة للمقاصد الأصلية، وأن ذلك لا يكون اتباعا للهوى. "د". قلت: وفي الأصل: "عاملا بالحق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ1 لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَمْرٍ عَادِيٍّ حَتَّى يَكُونَ الْقَصْدُ فِي تَصَرُّفِهِ مُجَرَّدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ فِي حَظِّ نَفْسِهِ وَلَا قَصْدٍ فِي ذَلِكَ2، بَلْ كَانَ يَمْتَنِعُ3 لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ حَتَّى يَسْتَحْضِرَ هَذِهِ النِّيَّةَ وَيَعْمَلَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الْحَظِّ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِاتِّفَاقٍ، وَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَهَى عَنْ قَصْدِ الْحُظُوظِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ عَلَى حَالٍ، مَعَ قَصْدِ الشَّارِعِ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ وَعَدَمِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، وَأَنْ لَا يلْحَظَ فِيهَا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ لِلْحَظِّ فِي الْأَعْمَالِ إِذَا كَانَتْ عَادِيَّةً لَا يُنَافِي أَصْلَ الْأَعْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَأَتَّى قَصْدُ الشَّارِعِ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ وَعَدَمُ التَّشْرِيكِ فِيهَا؟ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً عَلَى مُقْتَضَى الْمَشْرُوعِ، لَا يُقْصَدُ بِهَا عَمَلٌ جَاهِلِيٌّ، وَلَا اخْتِرَاعٌ شَيْطَانِيٌّ، وَلَا تَشَبُّهٌ بِغَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ، كَشُرْبِ الْمَاءِ أَوِ الْعَسَلِ فِي صُورَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ مَا صُنِعَ لِتَعْظِيمِ أَعْيَادِ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى وَإِنْ صَنَعَهُ الْمُسْلِمُ، أَوْ مَا ذُبِحَ عَلَى مُضَاهَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ4، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَوْعٌ مِنْ تَعْظِيمِ الشِّرْكِ. كَمَا رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ أن إبراهيم بن هشام بن   1 لأنه يكون انغماسا في اتباع الهوى المنهي عنه؛ لأن صاحبة الحظ إذا كانت مسقطة لما صاحبها من قصد الامتثال كان ما ذكره لازما. "د". 2 في الأصل و"ط": "لذلك". 3 أي: وأكل الميتة للمضطر من باب الواجب المتعلق بأمر عادي وهو إقامة الحياة. "د". 4 بعدها في "ط": "ودعاء الجاهلية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ أَجْرَى عَيْنًا، فَقَالَ لَهُ الْمُهَنْدِسُونَ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ: لَوْ أَهْرَقْتَ عَلَيْهَا دَمًا كَانَ أَحْرَى أَنْ لَا تَغِيضَ وَلَا تَهُورَ، فَتَقْتُلَ مَنْ يَعْمَلُ فِيهَا. فَنَحَرَ جَزَائِرَ حِينَ أُرْسِلَ الْمَاءُ فَجَرَى مُخْتَلِطًا بِالدَّمِ، وَأَمَرَ فَصُنِعَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْهَا طَعَامٌ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ الْعُمَّالِ فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا صَنَعَ، مَا حَلَّ لَهُ نَحْرُهَا وَلَا الْأَكْلُ مِنْهَا، أَمَا بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَهَى1 أَنْ يُذبَح لِلْجِنِّ"2؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا وَإِنْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مضاهٍ لِمَا ذُبِحَ   1 كتب بعض الناظرين هنا أن دعوى رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح كلها خرافات ومزاعم سخيفة ابتدعت بعد صدر الإسلام. ا. هـ. [قلت: هذا كلام "خ"، وسيأتي في آخر التعليق الآتي] . وأقول: إن الكلام في رؤية الجن مع كونه نابيًا عن المقام هنا، فهو مخالف لما ورد في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي"، وحديث البخاري عن أبي هريرة في حراسة الزكاة، وأنه علمه أن يقرأ آية الكرسي فلا يقربه شيطان حتى يصبح، إلى غير ذلك. "د" قلت: سيأتي تخريج حديث تفلت الجني "ص441". 2 أخرجه أبو عبيد في "الغريب" "2/ 221"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 314" عن الزهري مرسلا بإسناد فيه عمر بن هارون، وهو متفق على ضعفه، واتهمه ابن معين وصالح جزرة بالكذب. وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" "2/ 19"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 302" من طريق عبد الله بن أذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا. قال ابن حبان عن ابن أذينة: "منكر الحديث جدا، يروي عن ثور ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به"، وقال الحاكم والنقاش: "روى أحاديث موضوعة". انظر: "اللسان" "3/ 257". وقال البيهقي عقب الحديث: "قال -أي الزهري: وأما ذبائح الجن أن تشتري الدار، وتستخرج العين، وما أشبه ذلك، فتذبح لها ذبيحة للطيرة، وقال أبو عبيد: وهذا التفسير في الحديث معناه أنهم يتطيرون إلى هذا الفحل مخافة أنهم إن لم يذبحوا فيطعموا أن يصيبهم فيها شيء من = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 عَلَى النُّصُبِ وَسَائِرِ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ "مُعَاقَرَةِ الْأَعْرَابِ"1، وهي أن يتبارى الرجلان   = الجن يؤذيهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا، ونهى عنه". قلت: الحديث موضوع، ومعناه المذكور يدخل فيه الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن الطيرة. وفي "ط": "نهى عن ذبائح الجن، يريد، نهى أن يُذبَح للجن". وكتب "خ": "مضى صدر الإسلام وليس من مدَّعٍ رؤية الجن أو التلقي عنهم أو التزوج بهم أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح والأطعمة، حتى قام من يزعم ذلك كله واتسع خرق هذه الضلالة، فكانت إحدى العلل التي فتكت بعقول كثيرة وألقت بها في تخيلات سخيفة ومزاعم يتبرأ منها الشرع الحكيم قبل أن يتهكم بها النظر الصحيح". وانظر -لزاما- الهامش السابق. 1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب 3/ 101/ رقم 2820 -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 313"- عن أبي ريحانة، عن ابن عباس به. قال أبو داود: "اسم أبي ريحانة عبد الله بن مطر، وغندر أوقفه على ابن عباس". قلت: يشهد للمرفوع ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف" رقم 6690"- ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 197"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز" باب النياحة على الميت، 4/ 16"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر، 3/ 216/ رقم 3222"، وابن حبان في "الصحيح" "7/ 415-416/ رقم 3146- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 62و 9/ 314"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 461و 11/ 227 - عن أنس مرفوعا: "لا عقر في الإسلام". وإسناده صحيح على شرط الشيخين. قال عبد الرزاق: "كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة"، وقال البيهقي عقبه: "قال أبو زكريا -أي: يحيى بن معين: "العقر" يعني الأعراب عند الماء يعقر هذا، ويعقر هذا، فيأكلون لغير الله ورسوله". وقال: "وقال أبو سليمان الخطابي فيما بلغني عنه: معاقرة الأعراب أن يتبارى الرجلان، كل واحد منهما يجادل صاحبه، فيعقر هذا عددا من إبله، ويعقر صاحبه، فأيهما كان أكثر عقرا غلب صاحبه، وكره لحومها لئلا يكون مما أهل به لغير الله". وأفاد ابن الأثير في "النهاية" أنهم كان يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي: ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف، وهو قائم. ونقل كلام المصنف بحروفه السوسي في "الرحلة الحجازية" "1/ 162-163". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فَيَعْقِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، يُجَاوِدُ بِهِ صَاحِبَهُ، فَأَكْثَرُهُمَا عَقْرًا أَجْوَدُهُمَا، نَهَى عَنْ أَكْلِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ بِحَضْرَةِ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ عِنْدَ قُدُومِهِمُ الْبُلْدَانَ، وَأَوَانِ1 حَوَادِثَ يَتَجَدَّدُ لَهُمْ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: "نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ"2، وَهُمَا الْمُتَعَارِضَانِ لِيُرَى أَيُّهُمَا يَغْلِبُ صاحبه، فهذا وما كان نحوه إنما   1 كذكريات حوادث الموت الأربعينية والسنوية، وما شاكل ذلك. "د". قلت: وفي "خ" و"ط": "حدوث". 2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في طعام المتبارين 3/ 344/ رقم 3754" من طريق زيد بن أبي الزرقاء، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت، قال: سمعت عكرمة يقول: كان ابن عباس يقول ... "وذكره". وقال عقبه: "أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، وهارون النحوي ذكر فيه ابن عباس، وحماد بن زيد لم يذكر ابن عباس". قلت: أخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 128-129"، والطبراني في "الكبير" "11/ 340/ رقم 11942" من طريق هارون بن موسى عن الزبير به. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 509، 551"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6067" من طريق بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم به موصولا أيضا. وقال البغوي: "والصحيح أنه عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا". وقال ابن عدي عقبه في الموطن الأول: "وهذا الحديث الأصل فيه مرسل، وما أقل من أوصله، وممن أوصله بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم". قلت: وللموصول طريق أخرى، كما عند ابن عدي في "الكامل" "5/ 1874"، والخطيب في "تاريخه" "3/ 240" من طريق يزيد بن عمر -هو ابن جنزة- عن عاصم بن هلال، عن أيوب، عن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 شُرِعَ عَلَى جِهَةِ أَنْ يُذْبَحَ عَلَى الْمَشْرُوعِ بِقَصْدِ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ، فَإِذَا زِيدَ فِيهِ هَذَا الْقَصْدُ، كَانَ تَشْرِيكًا فِي الْمَشْرُوعِ، وَلَحْظًا لِغَيْرِ أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفيتا مِنِ ابْنِ عَتَّابٍ بِنَهْيِهِ عَنْ أَكْلِ اللُّحُومِ فِي النَّيْرُوزِ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: إِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ لغير الله به، وهو باب واسع.   = عكرمة عن ابن عباس رفعه. قال ابن عدي بعد أن ساقه وغيره من الأحاديث: "وهذه الأحاديث عن أيوب بهذا الإسناد ليست هي محفوظة". وعاصم بن هلال ضعفه ابن معين ووهَّاه النسائي. وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 7-8"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 123" عن طريق سليمان بن الحجاج، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: "نَهِيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ طعام المباهاة وطعام المتبارين". وسليمان بن الحجاج الغالب على حديثه الوهم، كما قال العقيلي، وأورد الذهبي في "الميزان" "2/ 198" هذا الحديث في ترجمته، وقال: "لا يُعرَف، عداده في أهل الطائف". وقال العقيلي عقبه: "يروي عن الزبير بن خريت، عن عكرمة، عن ابن عباس، رفعه9 بعضهم وأوقفه بعضهم على عكرمة؛ الصحيح الموقوف". قلت: وهو مما فات أبو حفص الموصلي في "الوقوف على الموقوف"، فدار الحديث من رواية الثقات على الزبير بن خريت، ولذا لما سأل علي ابن المديني أبا داود سليمان بن عمرو النخعي الكذاب عن الحديث، قال له: "عكرمة، إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين". قال: "حدثنا خصيف، عن عكرمة". قال ابن المديني: "فبان أمره، ولم يروِ هذا غير الزبير بن الخريت"، كذا في "تاريخ بغداد" "9/ 17-18"، وتصحف فيه "المتباريين" إلى المتنازين" فلتصحح. إلا أن الحديث شاهدا بإسناد صحيح، أخرجه ابن السماك في "جزء من حديثه"، "ق 64/ أ" كما في "الصحيحة" "رقم 626"، وابن لال والديلمي كما في "فيض القدير" "6/ 259"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 129/ رقم 6068" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما". وقال الخطابي في "معالم السنن" "4/ 240" في شرح الحديث: "وإنما كره ذلك؛ لما فيه من الرياء والمباهاة، ولأنه داخل في جملة ما نهى عنه من أكل المال بالباطل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَصْدُ الْحَظِّ مِمَّا يُنَافِي الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ، لَكَانَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ رَجَاءً فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ دُخُولِ النَّارِ عَمَلًا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَيَبْطُلُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ. أَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ؛ فَلِأَنَّ طَلَبَ الْجَنَّةِ أَوِ الْهَرَبَ مِنَ النَّارِ سَعْيٌ فِي حَظٍّ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا أَبَاحَهُ لَهُ الشَّارِعُ وَأَذِنَ لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَظٌّ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَاجِلٌ وَالْآخَرَ آجِلٌ، وَالتَّعْجِيلُ وَالتَّأْجِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرْدِيٌّ كَالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ فِي الدُّنْيَا لَا مُنَافَسَةَ1 فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الْحَظِّ الْآجِلِ سَائِغًا2 كَانَ طَلَبُ الْعَاجِلِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ سَائِغًا. وَأَمَّا بُطْلَانُ التَّالِي3، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جَاءَ بِأَنَّ مَنْ عَمِلَ جُوزِيَ، وَاعْمَلُوا يُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ، وَاتْرُكُوا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَا تَعْمَلُوا كَذَا فَتَدْخُلُوا النَّارَ، وَمَنْ يَعْمَلْ كَذَا يُجْزَ بكذا، وهذا بلا شَكّ تحريض عَلَى الْعَمَلِ بِحُظُوظِ النُّفُوسِ، فَلَوْ كَانَ طَلَبُ الْحَظِّ قَادِحًا فِي الْعَمَلِ، لَكَانَ الْقُرْآنُ مُذَكِّرًا بِمَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسأَل عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَيُبْعِدُ مِنَ النَّارِ، فَيُخْبِرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِرَازٍ وَلَا تَحْذِيرٍ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ قَالَ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9] .   1 كذا في ط"، وفي غيره: "لا مناسبة". 2 الأولى أن يقول: ولما كان طلب الحظ الآجل بالطاعات سائغا، كان طلب الحظ العاجل بالعادات أولى بالجواز كما سيشير إليه بقوله: "فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ قَادِحًا فِي الْعِبَادَاتِ .... إلخ" وهذا في قوة قولنا، لكن التالي باطل، فيثبت نقيض المقدم وهو أن قصد الحظ لا ينافي صحة الأعمال العادية إذا انضم إليه قصد الامتثال ولو حكما. "د". 3 في الأصل و"خ": "الثاني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 10] . وَفِي الْحَدِيثِ: "مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا .... " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ1، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْعَمَلِ عَلَى الْحَظِّ وَفِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْأَنْصَارِ قَوْلُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِكَ، فَلَمَّا اشْتَرَطَ، قَالُوا: فَمَا لَنَا؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ" الحديث2.   1 أخرج البخاري في الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 495-496/ رقم 3459" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إنما أَجَلُكُم في أَجَلِ من خَلَا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى"، فقالوا: "نحن أكثر عملا وأقل عطاء"، قال الله: "هل ظلمتكم من حقكم شيئا"؟ قالوا: لا، قال: "فإنه فضلي أعطيه من شئت". وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار، 4/ 445/ رقم 2268" عن ابن عمر مطولا مرفوعا، وفيه: "مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء .... " نحوه. وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى صلاة العصر 4/ 446-447/ رقم 2269"، وكتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام 96/ 66/ رقم 5021" عن ابن عمر نحوه. وأخرجه في "صحيحه" أيضا "كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل، 4/ 447 / رقم 2271" عن أبي موسى مرفوعا نحوه، وفيه: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما". 2 أخرج ابن شيبة في "المصنف" "14/ 598" -ومن طريقه ابن أبي عاصم في = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وَبِالْجُمْلَةِ، فَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَجَمِيعُهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَظِّ1، وَإِنْ لَمْ يَقُلِ: اعْمَلْ لِكَذَا، فَقَدْ قَالَ: اعْمَلْ يَكُنْ لَكَ كذا، فإذا لم   = الآحاد والمثاني" "3/ 394/ رقم 1818"، والطبراني في "الكبير" "17/ 256/ رقم 710"- وأحمد في المسند" "4/ 120" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "2/ 451"- من طريقين عن مجاهد عن عامر عن عقبة بن عمرو وأبي مسعود البدري، قال: "وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيل العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلا، قال عقبة: وإني لأصغرهم سنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أوجزوا في الخطبة، فإني أخاف عليكم كفار قريش". فقلنا: يا رسول الله! سلنا لربك، وسلنا لنفسك، وسلنا لأصحابك، وأخبرنا بما لنا من الثواب على الله تعالى وعليك. فقال: "أسأل لربي أن تؤمنوا به ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم أن تطيعوني أهدِكم سبيل الرشاد، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم وأن تمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، فإذا فعلتم ذلك، فلكم على الله عز وجل الجنة وعلي". قال: فمددنا أيدينا فبايعناه. وإسناده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد. وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 119-120"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 450، 451" من طرق عن زكريا ابن أبي زائدة عن عامر الشعبي به مرسلا، ورجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" "6/ 47"، وقوى إسناده الزرقاني في "شرحه على المواهب"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 186/ رقم 1757"، و"الصغير" "2/ 110"، و"الأوسط" بنحوه، ورجاله ثقات، كما في المجمع" "6/ 49"، وأخرج ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 389/ رقم 1809"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 410/ رقم 3772"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 234" من طرق عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن حميد، عن أنس أن ثابت بن قيس خطب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا يا رسول الله؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: رضينا. وإسناده ضعيف، خالد بن عبد الله الواسطي ضعيف، إلا أنه توبع، فأخرجه ابن السكن كما في "الإصابة" "2/ 14" من طريق ابن أبي عدي، عن حميد به. وهذه الطرق تدلل على أن للقصة أصلا، والأشهر فيها أنه وقعت في حديث بيعة الأنصار، كما قال المصنف، واحتمال تعداد الوقوع ضعيف، والله أعلم. 1 في الأصل و"خ" و"ط": "بالحظ على العمل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 يَكُنْ مِثْلُهُ قَادِحًا فِي الْعِبَادَاتِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ قَادِحًا فِي الْعَادَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مِثْلُ هَذَا قَادِحٌ فِي الْعَمَلِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْمَعْقُولُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ بِقَصْدِ الْحَظِّ قَدْ جَعَلَ حَظَّهُ مَقْصِدًا وَالْعَمَلَ وَسِيلَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصِدًا لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا بِالْعَمَلِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، وَكَذَلِكَ العمل1 لو لَمْ يَكُنْ وَسِيلَةً لَمْ يُطْلَبِ الْحَظُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ؛ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ حَظُّهُ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْحَظِّ وَسِيلَةٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَسَائِلَ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِلْمَقَاصِدِ بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَتِ الْمَقَاصِدُ سَقَطَتِ الْوَسَائِلُ، وَبِحَيْثُ لَوْ تُوُصِّلَ إِلَى الْمَقَاصِدِ دُونَهَا لَمْ يُتَوَسَّلْ بِهَا، وَبِحَيْثُ لَوْ فَرَضْنَا عَدَمَ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً لَمْ يَكُنْ لِلْوَسَائِلِ اعْتِبَارٌ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ كَالْعَبَثِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَعْمَالُ الْمَشْرُوعَةُ2 إِذَا عُمِلَتْ لِلتَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى حُظُوظِ النُّفُوسِ، فَقَدْ صَارَتْ غَيْرَ مُتَعَبَّدٍ بِهَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْحَظِّ، فَالْحَظُّ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَمَلِ لَا التَّعَبُّدُ، فَأَشْبَهَتِ3 الْعَمَلَ بِالرِّيَاءِ لِأَجْلِ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنَ الرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْأَعْمَالُ الْمَأْذُونُ فِيهَا4 كُلُّهَا يَصِحُّ التَّعَبُّدُ بِهَا إِذَا أُخذت مِنْ حَيْثُ أذن فيها، فإذا أخذت من جهة   1 طريق آخر يتوصل به إلى أن العمل وسيلة للحظ، وهو أقرب إلى أن يكون طريقا آخر في التقرير والتصوير فقط، ولا يخفى أنه في هذا الإشكال من أوله إلى آخره لم يأخذ فيه سوى العمل والحظ، ولم يذكر المقصد الأصلي المشارك للحظ الذي قال فيه: "فأما الأول "فعمل بالامتثال بلا إشكال" فإن الحظ موضوعنا ليس هو المقصود وحده، بل معه القيام بالمصلحة ودرء المفسدة، الذي هو غاية لإذن الشارع فيه، وأخذ المكلف له من هذه الجهة. "د". 2 وهي ما فِي الْتِزَامِهَا نَشْرُ الْمَصَالِحِ بِإِطْلَاقٍ، وَفِي مُخَالَفَتِهَا نشر المفاسد بإطلاق، يعني ما ليست عبادة بالأصالة لأنها موضوع المسألة هنا. "د". 3 ولم تكن رياء محضا؛ لأنه مع طلب حظه والسعي فيه يضم إلى ذلك غرضه من إقامة المصلحة ودرء المفسدة بدليل أخذه لها من جهة الإذن. "د". 4 هي نفس الأعمال المشروعة في كلامه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 الْحُظُوظِ سَقَطَ كَوْنُهَا مُتَعَبَّدًا بِهَا، فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالْمُتَعَبَّدِ بِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَشْبَاهِهِمَا، يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ التَّعَبُّدُ بِهَا، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنْ عَادَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ مَأْمُورٌ بِهِ فَحَظُّ النَّفْسِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ1، فَإِذَا أُخِذَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِهِ سَقَطَ كَوْنُهُ عِبَادَةً، فَصَارَ مُهْمَلَ الِاعْتِبَارِ فِي الْعِبَادَةِ، فَبَطُلَ التَّعَبُّدُ فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ غَيْرَ صَحِيحٍ. وَأَيْضًا، فَهَذَا الْمَأْمُورُ أَوِ الْمَنْهِيُّ بِمَا فِيهِ حَظُّهُ، يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي كَانَ يَصْنَعُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَرِيٌّ عَنِ الْحُظُوظِ؟! هَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِلَا بُدٍّ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ لَا وَسِيلَةٌ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ: هَبِ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسْلُهُ ... وَجَاحِمَةَ النَّارِ لَمْ تُضْرَمْ أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ المستحَقِّ ... ثَنَاءُ الْعِبَادِ عَلَى الْمُنْعِمِ وَيَعْنِي بِالْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، فَإِذَا جُعِلَ وَسِيلَةً، أُخْرِجَ عَنْ مُقْتَضَى الْمَشْرُوعِ، وَصَارَ الْعَمَلُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى غَيْرِ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ، وَالْقَصْدُ الْمُخَالِفُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ بَاطِلٌ، وَالْعَمَلُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، فَالْعَمَلُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْحَظِّ كَذَلِكَ. وَإِلَى هَذَا، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِهِ مَعَ رَبِّهِ حَقٌّ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهُ وَلَا أَنْ يَسْقِيَهُ وَلَا أَنْ يُنَعِّمَهُ، بَلْ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كان لَهُ ذَلِكَ بِحَقِّ الْمُلْكِ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَامِ: 149] ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّعَبُّدِ، فَحَقُّهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ حَظٍّ، فَإِنَّ طَلَبَ الْحَظِّ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِحُقُوقِ السَّيِّدِ بَلْ بِحُظُوظِ نفسه.   1 أي: لا يخلو من حظ للنفس يمكن أن يتعلق به. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وَأَمَّا النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النَّظَرِ، فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى إِخْلَاصِ الْأَعْمَالِ لِلَّهِ، وَعَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ مِنْهَا فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [الْبَيِّنَةِ: 5] . وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] . وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ" 1. وَفِيهِ: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" 2، أَيْ: لَيْسَ لَهُ مِنَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْهِجْرَةِ شَيْءٌ، فَإِنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ عُقِلَ مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ، فَفِيهِ تَعَبُّدٌ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْعَامِلُ لحظِّه مُسْقِطٌ لِجَانِبِ التَّعَبُّدِ، وَلِذَلِكَ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْعَامِلَ لِلْأَجْرِ خَدِيمَ السُّوءِ وَعَبْدَ السُّوءِ، وَفِي الْآثَارِ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ، وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَ كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} [الزُّمَرِ: 3] . وَأَيْضًا: فَقَدْ عَدَّ النَّاسُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ قَادِحٌ فِي الْإِخْلَاصِ وَمُدْخَلٌ لِلشَّوْبِ فِي الْأَعْمَالِ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ3: "كُلُّ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ القلب قل أم كَثُرَ إِذَا تَطَرَّقَ إِلَى الْعَمَلِ، تَكَدَّرَ بِهِ صفوه، وقل4 به   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله / رقم 2985". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1/ 9/ رقم 1"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" 3/ 1515/ رقم 1907" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتقدم "1/ 459". 3 في "الإحياء" "4/ 380". 4 كذا في جميع النسخ، وفي "الإحياء": "وزال". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 إِخْلَاصُهُ"1. قَالَ: "وَالْإِنْسَانُ مُنْهَمِكٌ فِي حُظُوظِهِ وَمُنْغَمِسٌ فِي شَهَوَاتِهِ، قَلَّمَا يَنْفَكُّ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَعِبَادَةٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ عَنْ حُظُوظٍ مَا، وَأَغْرَاضٍ عَاجِلَةٍ [مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ] ، وَلِذَلِكَ [قِيلَ] : مَنْ سلم له من عُمْرِهِ خَطْرَةٌ وَاحِدَةٌ خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ نَجَا، وَذَلِكَ لِعِزِّ الْإِخْلَاصِ، وَعُسْرِ تَنْقِيَةِ الْقَلْبِ عَنْ هَذِهِ الشَّوَائِبِ، بَلِ الْخَالِصُ هُوَ الَّذِي لَا باعث عليه إِلَّا طَلَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى"2. ثُمَّ قَالَ:"وَإِنَّمَا الْإِخْلَاصُ تَخْلِيصُ الْعَمَلِ عَنْ هَذِهِ الشَّوَائِبِ كُلِّهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، حَتَّى يَتَجَرَّدَ فِيهِ قَصْدُ التَّقَرُّبِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ بَاعِثٌ سِوَاهُ". قَالَ: "وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنْ مُحِبٍّ لِلَّهِ مستهتَر، مُسْتَغْرِقِ الْهَمِّ بِالْآخِرَةِ، بِحَيْثُ لَمْ يبقَ لِـ[حُبِّ] الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ قَرَارٌ، حَتَّى لَا يُحِبُّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ أَيْضًا، بَلْ تَكُونُ رَغْبَتُهُ فِيهِ كَرَغْبَتِهِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَرُورَةُ الْجِبِلَّةِ3، فَلَا يَشْتَهِيَ الطَّعَامَ لِأَنَّهُ طَعَامٌ؛ بَلْ لِأَنَّهُ يُقَوِّيهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَيَتَمَنَّى [أَنْ] لَوْ كُفِيَ شَرَّ الْجُوعِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى الْأَكْلِ، فَلَا يَبْقَى في قلبه حظ من الْفُضُولِ الزَّائِدَةِ عَلَى الضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ قَدْرِ الضَّرُورَةِ مَطْلُوبًا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ، فَلَا يَكُونُ لَهُ همٌّ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، فَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ قَضَى حَاجَتَهُ، كَانَ خَالِصَ الْعَمَلِ صَحِيحَ النِّيَّةِ فِي جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلا حتى يريح نَفْسَهُ ليتقوَّى4 عَلَى الْعِبَادَةِ بَعْدَهُ؛ كَانَ نَوْمُهُ عِبَادَةً وَحَازَ دَرَجَةَ الْمُخْلِصِينَ، ومَن لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَبَابُ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ كَالْمَسْدُودِ عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ"، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى بَاقِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَهُ5 فِي "الْإِحْيَاءِ" مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَوَاضِعُ يَعْرِفُهَا مِنْ زَوَالِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على   1 أما كونه إذا شارك طلب الحظ قصد الامتثال يضعف الإخلاص، فلا كلام فيه، ولكن يلزم منه المطلوب وهو بطلانه رأسا. "د". 2 الهوامش من "2-5" في الاستدراك: "رقم 7". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 خِلَافِ1 مَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا تُعُبِّد الْعِبَادُ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِبَادَاتُ الْمُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ بِالْأَصَالَةِ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَتَوَابِعُهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَالثَّانِي: الْعَادَاتُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ الَّتِي فِي الْتِزَامِهَا نَشْرُ الْمَصَالِحِ بِإِطْلَاقٍ، وَفِي مُخَالَفَتِهَا نَشْرُ الْمَفَاسِدِ بِإِطْلَاقٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْقِسْمُ الدُّنْيَوِيُّ الْمَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَالْأَوَّلُ هُوَ حَقُّ اللَّهِ مِنَ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَشْرُوعُ لِمَصَالِحِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَظُّ [الْمَطْلُوبُ] 2 دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا. فَإِنْ كَانَ أُخْرَوِيًّا، فَهَذَا حَظٌّ قَدْ أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا ثَبَتَ شَرْعًا، فَطَلَبُهُ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ صَحِيحٌ؛ إِذْ لَمْ يتعدَّ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ، وَلَا أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ غَيْرَهُ، وَلَا قَصَدَ مُخَالَفَتَهُ؛ إِذْ قَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّارِعِ حِينَ رَتَّبَ عَلَى الْأَعْمَالِ جَزَاءً أَنَّهُ قَاصِدٌ لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَصَارَ الْعَامِلُ لِيَقَعَ لَهُ الْجَزَاءُ عَامِلًا لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ غير قادح في   1 لم يقل: "سقط كونه متعبدا بها" مع أن هذا هو محل الإشكال على أصل المسألة، بل قال كلاما مجملا عاما يمكن حمله على أنه لم يكن الإخلاص تاما، وهو الذي يصح أن يكون نتيجة لقوله: "وأيضا إلى هنا"، ويصح أن يحمل على الاستدلال على ما قاله من الإشكال، وهو أن جهة التعبد ساقطة وملغاة لمشاركة الحظ لها، وهذا هو الذي دلل عليه قبل قوله: "وأيضا"، واستنتج فيه قوله: "فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد"، ولو اقتصر عليه كان أولى؛ لأن ما بعده زائد عن الغرض. "د". وفي "ط": "فالعامل ملتفتا إلى ... ". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ونسخة "ماء/ ص193". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 إِخْلَاصِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ وَالْعَمَلَ الْمُوصِلَ مَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا مَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الآية [الصافات: 40-43] . فَإِذَا كَانَ قَدْ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ المخلَص -وَمَعْنَى كَوْنِهِ مخلَصا أَنْ لَا يُشْرِكَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ1، فَهَذَا قَدْ عَمِلَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، وَطَلَبُ الْحَظِّ لَيْسَ بِشِرْكٍ؛ إِذْ لَا يُعْبَدُ الْحَظُّ نَفْسُهُ2، وَإِنَّمَا يُعْبَدُ مَنْ بِيَدِهِ بَذْلُ الْحَظِّ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنْ لَوْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ [مَنْ ظَنَّ بِيَدِهِ بَذْلُ حَظٍّ مَا مِنَ الْعِبَادِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْرَكَ، حَيْثُ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ] 3 غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَاللَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا فِيهِ شِرْكٌ، وَلَا يَرْضَى بِالشِّرْكِ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَصْدَ الْحَظِّ الْأُخْرَوِيِّ فِي الْعِبَادَةِ لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ فِيهَا، بَلْ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يُوصِلُهُ إِلَى حَظِّهِ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَذَلِكَ بَاعِثٌ لَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ، قَوِيٌّ لِعِلْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْقَطِعُ طَلَبُهُ لِلْحَظِّ4 لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ أَقْصَى حُظُوظِ الْمُحِبِّينَ التَّنَعُّمُ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَحْبُوبِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ مِنْهُ، وَالتَّلَذُّذُ بِمُنَاجَاتِهِ، وَذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مَا فِي الدَّارَيْنِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى حَظِّ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] .   1 لا أنه لا يقصد مع العبادة شيئا آخر مطلقا حتى ما أثبته الشرع. "د". 2 في نسخة "ماء/ ص194": "بنفسه". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 4 في الأصل و"ط" و"خ": "الحظ .... للعبد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وَإِلَى هَذَا، فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ نَادِرٌ قَلِيلٌ إِنْ وُجِدَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَ الْجَمِيعَ بِالْإِخْلَاصِ، وَالْإِخْلَاصُ الْبَرِيءُ عَنِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ عَسِيرٌ جِدًّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا خَوَاصُّ الْخَوَاصِّ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَطْلُوبُ قَرِيبًا مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذَا شَدِيدٌ. وَعَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَظٍّ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْحُظُوظِ صِفَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَمَنِ ادَّعَاهُ، فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ: "وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ1 "يَعْنِي: الصُّوفِيَّةَ" الْبَرَاءَةَ عَمَّا يُسَمِّيهِ النَّاسُ حُظُوظًا، وَذَلِكَ الشَّهَوَاتُ الْمَوْصُوفَةُ فِي الْجَنَّةِ فَقَطْ، فَأَمَّا التَّلَذُّذُ بِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَهَذَا حَظُّ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا لَا يَعُدُّهُ النَّاسُ حَظًّا، بَلْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ". قَالَ: "وَهَؤُلَاءِ لَوْ عُوِّضُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ من لذة الطاعة والمناجاة، وملازمة الشهوة للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة، لا ستحقروها وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا، فَحَرَكَتُهُمْ لِحَظٍّ2، وَطَاعَتُهُمْ لِحَظٍّ، وَلَكِنَّ حَظَّهُمْ مَعْبُودُهُمْ دُونَ غَيْرِهِ". هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ إِثْبَاتٌ لِأَعْظَمِ الْحُظُوظِ3، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ على ضربين:   1 أي بقولهم: "إن البراءة عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسيرة جدا، لا يصل إليها إلا خواص الخواص" أي: فهي ممكنة، فكيف يقال: من ادعاها كافر؟ فأبو حامد يجمع بينهما بأن براءة خواص الخواص إنما هي من قصد النعيم المذكور لأهل الجنة من أكل وشرب ولباس وتمتع بحور وما أشبه، لا كل حظ، وإلا، فحظ المعرفة والمناجاة والنظر ونحوها حظوظ خواص الخواص، فلم يتبرؤوا من الحظوظ رأسا، حتى يشاركوا الإله في وصفه. "د". 2 في الموضعين من الأصل: "لحظة". 3 ادعى بعض الفلاسفة أن الإنسان قد يعمل لمجرد كونه خيرا، وأن يتقين أنه لا ينال من أثره نفعا، والراسخ في علم أحوال النفس لا يكاد يصدق بأن في طبيعة النفس الناطقة ما يساعدها على أن تقبل على العمل دون أن تشعر بأنها ستنال في عاقبته قسطا من اللذة أو السعادة، غير أن من الغايات ما يكون محمودا وتزداد النفس بالقصد إليه كالفوز برضوان الله، وما يترتب عليه من سعادة باقية، ومنها ما يكون رذيلة كمن يعمل حرصا على منفعة خاصة ولا يبالي أن تجر في أذيالها ضررا يتعدى إلى غيره. "خ". قلت: سيأتي بسط ذلك في التعليق على "ص364". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 أَحَدُهُمَا: مَنْ يَسْبِقُ لَهُ امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ الْحَظَّ، فَإِذَا أُمر أَوْ نُهِي لبَّى قَبْلَ حُضُورِ الْحَظِّ، فَهُمْ عَامِلُونَ بِالِامْتِثَالِ لَا بِالْحَظِّ، وَأَصْحَابُ هَذَا الضَّرْبِ عَلَى دَرَجَاتٍ، وَلَكِنَّ الْحَظَّ لَا يَرْتَفِعُ خُطُورُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِلَّا نَادِرًا، وَلَا مَقَالَ فِي صِحَّةِ إِخْلَاصِ هَؤُلَاءِ. وَالثَّانِي: مَنْ يَسْبِقُ لَهُ الْحَظُّ الِامْتِثَالَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْأَمْرَ أَوِ النَّهْيَ خَطَرَ لَهُ الْجَزَاءُ، وَسَبَقَ لَهُ الْخَوْفُ أَوِ الرَّجَاءُ، فَلَبَّى دَاعِيَ اللَّهِ، فَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ مُخْلِصُونَ أَيْضًا؛ إِذْ طَلَبُوا مَا أُذِنَ لَهُمْ فِي طَلَبِهِ، وَهَرَبُوا عَمَّا أُذِنَ لَهُمْ فِي الْهَرَبِ عَنْهُ، مِنْ حَيْثُ لَا يَقْدَحُ فِي الإخلاص كما تَقَدَّمَ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ الْمَطْلُوبُ بِالْعِبَادَاتِ مَا فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى صَلَاحِ الْهَيْئَةِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ عِنْدَ النَّاسِ، وَاعْتِقَادِ الْفَضِيلَةِ لِلْعَامِلِ بِعَمَلِهِ. وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى نَيْلِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إِلَى مَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ مُرَاءَاةِ النَّاسِ بِالْعَمَلِ. وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُرَاءَاةِ لِيَنَالَ بِذَلِكَ مَالًا أَوْ جَاهًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 أَحَدُهَا: يَرْجِعُ إِلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ عِنْدَ النَّاسِ وَاعْتِقَادِ الْفَضِيلَةِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَصْدُ مَتْبُوعًا، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ رِيَاءٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَبْعَثُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ قَصْدُ الْحَمْدِ وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ الْخَيْرُ، وَيَنْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ كَوْنُهُ يُصَلِّي فَرْضَهُ أَوْ نَفْلَهُ، وَهَذَا بيِّن. وَإِنْ كَانَ تَابِعًا، فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَوَقَعَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ"1 فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُصَلِّي لِلَّهِ ثُمَّ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ2 أَنْ يُعْلَمَ، وَيُحِبُّ أَنْ يُلْقَى3 فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى3 فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ، فَكَرِهَ رَبِيعَةُ هَذَا، وَعَدَّهُ مَالِكٌ مِنْ قَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ الْعَارِضَةِ لِلْإِنْسَانِ، أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي لِلْإِنْسَانِ إِذْ سَرَّهُ مَرْأَى النَّاسِ لَهُ عَلَى الْخَيْرِ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ لمراءٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ لَا يُمْلَكُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] . وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 84] . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا، فَقَالَ عُمَرُ: لِأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا"4. وَطَلَبُ الْعِلْمِ5 عِبَادَةٌ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "سَأَلَتُ شَيْخَنَا الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيَّ الصُّوفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]   1 "1/ 498- مع "البيان والتحصيل"، وكذا في "المقدمات" "ص30" لابن رشد، وفيه زيادة بيان وإيضاح. 2 في "العتبية": "يجب"، بالجيم. 3 في الموطنين: "يلفى"، بالفاء. 4 سيأتي تخريجه "3/ 146"، وهو في الصحيحين". 5 الذي هو موضوع حديث ابن عمر؛ لأنهم كانوا في مجلسه صلى الله عليه وسلم يسألهم في العلم، ومع كونه في مقام عبادة، قال: لأن تكون قلتها .... إلخ الذي يؤول إلى أن عمر لم يخشَ في عبادة ابنه بطلب العلم حظا هو اعتقاد الفضيلة فيه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 مَا بَيَّنُوا؟ قَالَ: أَظْهَرُوا أَفْعَالَهُمْ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاحِ وَالطَّاعَاتِ. قُلْتُ: وَيَلْزَمُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ لِتَثْبُتَ أمانته، وتصح إمامته، وتقبل شهاداته"1. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "وَيَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَالْغَزَالِيُ يَجْعَلُ مِثْلَ هَذَا مِمَّا لَا تَتَخَلَّصُ فِيهِ2 الْعِبَادَةُ". وَالثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إِلَى مَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ، مَعَ الْغَفْلَةِ [عَنْ مُرَاءَاةِ الْغَيْرِ] 3، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْأُنْسِ بِالْجِيرَانِ، أَوِ الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ لِمُرَاقَبَةٍ، أَوْ مُرَاصَدَةٍ، أَوْ مُطَالَعَةِ أَحْوَالٍ. وَالثَّانِي: الصَّوْمُ؛ تَوْفِيرًا لِلْمَالِ، أَوِ اسْتِرَاحَةً مِنْ عَمَلِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ، أَوِ احْتِمَاءً لِأَلَمٍ يَجِدُهُ، أَوْ مَرْضٍ يَتَوَقَّعُهُ أَوْ بِطْنَةٍ تَقَدَّمَتْ لَهُ. وَالثَّالِثُ: الصَّدَقَةُ لِلَذَّةِ السَّخَاءِ وَالتَّفَضُّلِ عَلَى النَّاسِ. وَالرَّابِعُ: الْحَجُّ؛ لِرُؤْيَةِ الْبِلَادِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْأَنْكَادِ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِتَبَرُّمِهِ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ إِلْحَاحِ الْفَقْرِ.   1 إذا كان كذلك لا يكون هذا الحظ إلا المصلحة العامة ونفع الخلق بالقصد الأول، ويكون ما يرجع إليه هو تابعا صرفا. "د". وقال "خ": "كان عليه الصلاة والسلام يبين بالقول تارة وبالفعل أخرى، وكذلك العالم لو أوفى البيان بالقول حقه لخلصت ذمته من واجب التبليغ، فتفسير أبي منصور الشيرازي قوله تعالى: {وَبَيَّنُوا} بإظهار الفعل إنما هو بعض ما يتناوله اللفظ، وليس هو الطريق الوحيد للتبيين، والوجه الذي ينحصر فيه المراد من الآية بحيث لا يكفي التبيين بالأقوال الصريحة". قلت: وكلام ابن العربي في "أحكام القرآن" "1/ 118، 136 و2/ 511"، وعنه القرطبي في "التفسير" "5/ 423-424" مع تعقب له، فانظره لزامًا. 2 في "ط": "به". 3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وَالْخَامِسُ: الْهِجْرَةُ؛ مَخَافَةُ الضَّرَرِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْأَهْلِ أَوِ الْمَالِ. وَالسَّادِسُ: تعلُّم الْعِلْمِ؛ لِيَحْتَمِيَ بِهِ عَنِ الظُّلْمِ. وَالسَّابِعُ: الْوُضُوءُ؛ تَبَرُّدًا. وَالثَّامِنُ: الِاعْتِكَافُ؛ فِرَارًا مِنَ الْكِرَاءِ. وَالتَّاسِعُ: عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ؛ ليُفعَل بِهِ ذَلِكَ. وَالْعَاشِرُ: تَعْلِيمُ الْعِلْمِ؛ لِيَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ كَرْبِ الصَّمْتِ وَيَتَفَرَّجَ بِلَذَّةِ الْحَدِيثَ. وَالْحَادِي عَشَرَ: الْحَجُّ مَاشِيًا؛ لِيَتَوَفَّرَ لَهُ الْكِرَاءُ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا مَحَلُّ اخْتِلَافٍ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْمَذْكُورُ تَابِعًا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ، وَقَدِ الْتَزَمَ الْغَزَالِيُّ1 فِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ أَخَفَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ، وَأَمَّا ابْنُ الْعَرَبِيِّ، فَذَهَبَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ2 مَجَالَ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدِينَ أَوْ عَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا، فَابْنُ الْعَرَبِيِّ يَلْتَفِتُ إِلَى وَجْهُ الِانْفِكَاكِ، فَيُصَحِّحُ الْعِبَادَاتِ، وَظَاهِرُ الْغَزَالِيِّ الِالْتِفَاتُ إِلَى مُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ وُجُودًا، كَانَ الْقَصْدَانِ مِمَّا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُمَا أَوْ لَا، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا وَاقِعٌ، وَرَأْيُ أَصْبَغَ فِيهَا الْبُطْلَانُ3، فإذا كان كذلك، اتجه   1 انظر: "الاتجاه الأخلاقي" "ص53 وما بعدها"، وتابع الغزالي في رأيه هذا الحارث المحاسبي في "الرعاية" "ص150"، ونقله عن الحارث وأيده القرطبي في "تفسيره" "5/ 180-181 و9/ 14". 2 في الأصل و"خ": "كان". 3 أي: مع وجود الانفكاك كما هو رأي الغزالي، وقوله: "على أن" تأييد لرأي ابن العربي. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 النَّظَرَانِ، وَظَهَرَ مَغْزَى الْمَذْهَبَيْنِ. عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِانْفِكَاكُ أَوْجَهُ1، لما جاء   1 سر المسألة أن القائلين بعدم الانفكاك ظنوا في بداية الأمر أن القصد الذي يتطلع صاحبه إلى ثمرات الأعمال ونتائجها وحظوظه منها مزاحم للقصد المتجه إلى الله، فيكون ذلك تشريكا يجب أن ننزه عنه نياتنا، ومن هنا اندفعوا جاهدين كي ينتزعوا من أعماق نفوسهم تلك الخواطر والمقاصد التي تتطلع إلى محبوباتها من الأعمال المشروعة، فلما وجدوا صعوبة في الأمر تحول دون تحقيق المراد رموا الدنيا وراء ظهورهم، وقصروا تطلعاتهم على الأعمال التي أُمروا بتحقيقها، وجاهدوا النفوس كي لا يبقى لهم مراد غير ذلك المراد. ولا يفوتنا ونحن نبحث في أصل المسألة أن نقرر ما قرره المحققون من العلماء من أن الشارع قصد في وضعه للشريعة مصالح العباد في العاجل والآجل، وقد قرر المصنف هذه المسألة بما لا مزيد عليها في أول هذا "كتاب المقاصد" فإذا كان هذا مقررا، فكيف يجوز أن نمنع العابد من أن يتطلع إلى المصالح التي قصدها الشارع من أعمال المكلفين؟! لو ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بمنع العباد من النظر والتطلع إلى مصالح ونتائج لا يرتضي الشارع أن تُجعل الأعمال المتعبد بها وسيلة إليها، لكان هذا القول مرضيا ومقبولا؛ لأن المكلف مطالب بألا يتوجه ولا يقصد إلا ما قصده الشارع من المصالح، أما أن نرفض جواز التطلع إلى الخير المترتب على أعمالنا المتعبد بها مع أن الشارع ارتضاه وقصده، فهذا في غاية الصعوبة. ونستطيع هنا أن نتقدم خطوة، فنقول: إن قصد هذه الحظوظ من الأعمال المتعبد بها مقصودة للشارع ومطلوبة من المكلف؛ لأنها تناسب حاله، وعمله على هذا النحو يصلح أمره ويحفظ عليه دنياه وأخراه، ويحسن أن نقرر بوضوح أن التطلع إلى ثمرات الأعمال المتعبد بها سواء أكانت عبادات أصلا أم عاديات متعبد بها، لا يضاد الإخلاص ولا يناقضه، ما دمنا نقصد مقاصد الشارع المترتبة على الأعمال. ولقد أحدثت هذه النظرية شرخا في نفوس المسلمين؛ لأن هؤلاء حاروا بين هذه النظرية التي تدعوهم إلى المثالية والترفع في مقاصدهم وبين واقع حالهم؛ إذ وجدوا أنفسهم غير مطيقين للانسلاخ من رغباتهم، وصرف أنفسهم عن النظر إلى نتائج الأعمال. كيف نريد من الذي يريد طهارة وضوء أو غسلا- ألا يقصد مع قصد التقرب إلى الله تعالى التنظف والتطيب؟ وإذا كان الجو حارا كيف نريد من هذا الإنسان ألا يقصد التبرد وإنعاش= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ...................................................................................   = نفسه؟ فإن قَصَد هذا القصد حكمنا على عمله بالبطلان والفساد، وهب هذا الإنسان راغم نفسه كي تنصرف عما تحسه وتطلبه، فكيف السبيل إلا أن يقصر نفسه على مجرد الامتثال للفعل؟ ومن ذا الذي يتذوق سرور العبادة ولذاتها ثم يطيق ألا يقصد هذا النعيم؟ وهل إذا قصدنا من وراء إخراج الزكاة المتقرب بها سد خلة الفقير وصلة الأرحام وتقديم الخير لبني الإنسان نكون أقمنا مقاصد مضادة للإخلاص؟! ألم يأمرنا الله بأن نقاتل في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟! ألم يقرنا الله على أن نحصل بالجهاد أمرا نحبه ونرضاه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيب} [الصف: 13] . وهب أننا استطعنا أن نصرف قصدنا في أمور العبادات عن النظر إلى ثمرات الأعمال في الدنيا، فهل نطيق ذلك في الأمور العادية إذا قصدنا التعبد بها؟ فالزواج والطعام والشراب واللباس إذا قصدت التقرب بها إلى الله تعالى بأن آخذها من الطريق التي شرعها، وأبتعد عما حرم منها، وأقصد الاستعانة بها على طاعة الله، أأستطيع أن أصرف النظر عن الثمرات الناتجة عنها والتي تحبها النفس وتتطلبها منها؟! إن العاملين بأعمال دنيوية من المسلمين، أطباء، ومهندسين، وباحثين، يستطيعون أن يجعلوا أعمالهم قربات عند إحداث نية صالحة حين القيام بهذه الأعمال، وهذا لا يلزمهم ألا يقصدوا حظوظهم من وراء هذه الأعمال. لا يجوز أن يحتج في هذا بأن الشارع لم يرتضِ أن يقاتل المسلم شجاعة أو حمية: بل يجب أن يقصر قصده على القتال كي تكون كلمة الله هي العليا، وبدون ذلك لا يكون جهاده في سبيل الله؛ لأننا قررنا من قبل أن الثمرات والنتائج التي نجيز التطلع إليها هي التي أقرها الشارع ورضيها، والقتال بقصد هذه الأمور لم يرتضه الشارع. نعم؛ نتائج الأعمال المطلوبة والمقصودة للشارع قد تخفى علينا، وقد لا ندركها خاصة في العبادات، ومن هنا قد نظن أمرا ما مقصودا للشارع، فنطلبه مع أنه واقع الأمر ليس بمطلوب ولا مقصود له. وهذه نظرة وجيهة يجب أن يراعيها العابد، فلا يقصد إلا المصالح التي نص الشارع عليها،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم} [الْبَقَرَةِ: 198] ، يَعْنِي: فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْفِرَارِ مِنَ الْأَنْكَادِ بِالْحَجِّ أَوْ الْهِجْرَةِ: "إِنَّهُ دَأَبُ الْمُرْسَلِينَ، فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصَّافَّاتِ: 99] ، وَقَالَ الْكَلِيمُ: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشُّعَرَاءِ: 21] ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصلاة1، فكان يستريح إليها   = والمصالح التي استنبطناها من النصوص، لا تلك المصالح التي ارتضيناها بأهوائنا. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن الشريعة لم توضع لطائفة من الناس، وإنما هي شريعة عامة جعلت لعموم الناس، والناس أصناف شتى، ولذلك رغبهم في العمل بالشريعة بمرغبات مختلفة، كي تصبح مؤثرات ودواعي تحركهم إلى العمل وتدفعهم إليه، لننظر في هذه المرغبات التي يجليها نوح لقومه كي يحققوا مراد الله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12] . ولننظر إلى موعود الله لهذه الأمة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] ، ولننظر إلى وعد الله للأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] . هذه الآيات وأمثالها كثير تستثير في النفس الإنسانية آمالها وتطلعاتها، وتحرك جذوتها، فتندفع إلى تحقيق ما يطلب منها، ولكن بإرادة صادقة وعزيمة قوية، تطلب في ذلك خيرها من حيث يريد الله تعالى، وهذه وايم الله العبودية الحقة التي يريدها الله من عباده، وحسبنا أن الله أثنى على الذين يطلبون منه خيري الدنيا والآخرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب} ، نعم لو قالوا ما قرره المصنف سابقا بأن قصر النظر على الأعمال وعدم التطلع إلى النتائج أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله، لكان قولهم صوابا. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص398 وما بعدها". 1 مضى تخريجه "ص240". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا1، وَكَانَ فِيهَا نَعِيمُهُ وَلَذَّتُهُ، أَفَيُقَالُ: إِنَّ دُخُولَهُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَادِحٌ فِيهَا؟ كَلَّا، بَلْ هُوَ كَمَالٌ فِيهَا وباعث على الإخلاص فيها". في "الصَّحِيحِ"2: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه لو وِجَاءٌ" 3. ذَكَرَ ابْنُ بَشْكُوَالَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَدَّادِ، قَالَ: حَضَرْتُ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ بْنَ زَرْبٍ شَكَا إِلَى التَّرْجِيلِيِّ الْمُتَطَبِّبِ ضَعْفَ مَعِدَتِهِ وَضَعْفَ هَضْمِهِ، عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَعْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الدَّوَاءِ، فَقَالَ: اسْرُدْ الصوم تصلح معدتك. فقال: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! عَلَى غَيْرِ هَذَا دُلَّنِي، مَا كُنْتُ لِأُعَذِّبَ نَفْسِيَ بِالصَّوْمِ إِلَّا لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَلِي عَادَةٌ فِي الصَّوْمِ الْاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ لَا أَنْقُلُ نَفْسِي عَنْهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٌّ: وَذَكَرْتُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَدِيثَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -يَعْنِي: هَذَا الْحَدِيثَ- وَجَبُنْتُ عَنْ إِيرَادِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي [ذَلِكَ] الْمَجْلِسِ، وأحسبني ذاكراته فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ، فَسَلَّمَ للحديث4.   1 فكان صلى الله عليه وسلم يقول: "أرحنا بها يا بلال"، ومضى تخريجه "ص240". 2 ومثله حديث: "إذن تكفى همك" لمن قال له عليه السلام: إني أحب الصلاة عليك أأجعل لك ربع صلاتي، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها. فإذا راعى ذلك في صلاته كان من هذا القبيل، ومنه ما ورد في الاستغفار {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} الآية فيها ترتب حظ دنيوي بل حظوظ على الاستغفار، وهو عبادة. "د". قلت: وحديث "إذن تكفى همك" خرجته بإسهاب في تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم، وفيه تعليق جيد عليه. 3 سيأتي تخريجه "3/ 143"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه. 4 الفرق بين الواقعة المذكورة والحديث أن الواقعة تشير إلى قصد إصلاح المعدة، وهي معدودة من الحظوظ النفسية، أما الحديث، فيتضمن القصد بالعبادة إلى التعفف الذي هو واجب شرعي، ولكن المصنف سينبه إلى أن العلة في صحة العبادة التي قصد فيها إلى طاعة أخرى كون هذه الطاعة مأذونا فيها فيلحق بها ما كان غير عبادة من المأذون فيه، ومن يرى أن القصد إلى حظ دنيوي يكدر صفو العمل الخالص يذهب إلى أن العلة في صحة القصد إلى طاعة أخرى إنما هي كونها من جنس العبادة في طلب الشارع لها ووعده بالثواب عليها. "خ". قلت: في الأصل: "أبا بكر بن زنب"، و" ..... وذكرت ذلك في ..... "، وما بين المعقوفتين سقط منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 وَقَدْ بَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجُلًا لِيَكُونَ رَصَدًا فِي شِعْبٍ، فَقَامَ يُصَلَّى وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِالْإِقَامَةِ فِي الشِّعْبِ إِلَّا1 الْحِرَاسَةَ وَالرَّصْدِ2.   1 لا يريد حقيقة الحصر كما هو ظاهر. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، 1/ 280" معلقا عن جابر، قال: "ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فرمي رجل بسهم فنزفه الدم، فركع وسجد ومضى في صلاته". وأخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الوضوء من الدم، 1/ 50-51/ رقم 198"- ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "1/ 140"، وابن بشكوال في "الغوامض" "رقم 143"، والدارقطني في "السنن" "1/ 223-224"، وابن خزيمة في الصحيح "1/ 24-25/ رقم 36" ومن طريقه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 114، 115"، وأحمد في "المسند" "3/ 343-344، 359"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 156-157" ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" "2/ رقم 604- بتحقيقي"، و"السنن الكبرى" "1/ 140، 9/ 150"، و"الصغرى" "1/ 31/ رقم 40"-، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 375-376/ رقم 1096- الإحسان" من طرق عن ابن إسحاق عن صدقة بن يسار بن جابر وهو عقيل بن جابر، سماه سلمة الأبرش، عن جابر به مطولا جدا، قال الحاكم: "هذا الحديث صحيح الإسناد، فقد احتج مسلم بأحاديث محمد بن إسحاق، وأما عقيل بن جابر الأنصاري، فإنه أحسن حالا من أخويه محمد وعبد الرحمن". قال ابن حجر في "الفتح": "وعقيل لا أعرف راويا عنه غير صدقة، ولهذا لم يجزم به المصنف- أي: البخاري- إما لكونه اختصره، أو للخلاف في ابن إسحاق"، وقال: "وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم". قلت: أي بإخراجهم له في "الصحيح"، ونقل ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا يُرَاعِيهِ الْإِمَامُ فِي صِلَاتِهِ مِنْ أَمْرِ الْجَمَاعَةِ، كَانْتِظَارِ الدَّاخِلِ1 لِيُدْرِكَ الرُّكُوعَ مَعَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ2، وَمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَالِكٌ3 فَقَدْ عَمِلَ بِهِ غَيْرُهُ، وكالتخفيف لأجل   = 280" عن الدارقطني قوله: "إسناده صالح"، ولا يوجد ذلك في مطبوع "السنن"، وفي المطبوع نقص وتصحيف، أرجو الله أن ييسر له تحقيقا على وجه جيد. قلت: والحق أن إسناده ضعيف، فعقيل لم يوثقه غير ابن حبان، بذكره له في "الثقات" "5/ 272"، ولم يرو عنه غير صدقة، انظر: "تهذيب الكمال" "20/ 134"، ولعله من أجله علقه البخاري في "صحيحه" بصيغة التمريض، ولم يشر لذلك ابن حجر فيما تقدم من النقل عنه، ولكنه قال في "تغليق التعليق" زيادة للاحتمالين المذكورين، أعني: الاختصار، والاختلاف في ابن إسحاق، قال: "وما انضاف إليه من عدم العلم بعدالة عقيل" وفي طريق أبي داود وغيره تصريح ابن إسحاق بالسماع له من صدقة، وصدقة وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود وابن سعد وغيرهم، وروى له مسلم في "الصحيح". والرجل المذكور هو عباد بن بشر، كما في "الغوامض" "رقم 143"، والمستفاد" "ص80- ط الشيخ حماد الأنصاري"، وسمي في رواية عند البيهقي في "الدلائل" "3/ 378-379" من حديث صالح بن خوات عن أبيه، ولكن بإسناد واهٍ بمرة. 1 هل الانتظار لإدراك الداخل للركوع أمر دنيوي؟ أم هو لتكميل العبادة، ومثله يقال في التخفيف في المسائل بعده بدليل الحديث الآتي: "مخافة أن تفتن أمه" وفتنتها شغلها عن الصلاة. "د". 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الظهر، 1/ 212-213/ رقم 802"، وأحمد في "المسند" "4/ 356"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 337" من طريق محمد بن جحادة عن رجل عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر في صلاته ما سمع وقع نعل. قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 28-29": "والرجل لا يعرف، وسماه بعضهم طرفة الحضرمي، وهو مجهول، أخرجه البزار وسياقه أتم، وقال الأزدي: طرفة مجهول" انتهى، فالحديث ضعيف. قال المزي في "تحفة الأشراف" "4/ 291" في زياداته: "رواه أبو إسحاق الحميسي عن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 الشَّيْخِ وَالضَّعِيفِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: "إني لأسمع بكاء   = محمد بن جحادة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى، وطوله". وقد وصله البيهقي في "الكبرى" "2/ 66"، ولكن وقع عنده "عن طرفة الحضرمي" بدل "كثير" فليتأمل، ويترجح ما عند البيهقي بأن كثير الحضرمي لما ذكره المزي في "تهذيب الكمال" لم يذكر في شيوخه عبد الله بن أبي أوفى، ولا محمد بن جحادة فيمن روى عنه، وقد جزم الحافظ الضياء بأن الذي لم يسمَّ في هذه الرواية هو"طرفة"، وكذا ذكر ابن حبان في "ثقات التابعين" "4/ 398" طرفة، وأنه يروي عن عبد الله بن أبي أوفى، ويروي عنه محمد بن جحادة، أفاده ابن حجر في "النكت الظراف" "4/ 291" و"ترتيب مسند الإمام أحمد" "3/ 330". واللفظ الذي أوردناه آنفا هو ما ساقه ابن حجر في "التلخيص"، ولفظ أبي داود وأحمد: "كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم"، وهو أيضا يدل على قول المصنف: "انتظار الداخل ليدرك الركوع معه"، فتأمل. وينظر في فقه المسألة: "مختصر المزني" "1/ 113"، و"المجموع" "4/ 130"، و"تفسير القرطبي" "5/ 180"، و"نيل الأوطار" "3/ 147"- وفيها ما يدل على كراهية هذا الانتظار، وذهب بعض الشافعية إلى بطلان الصلاة بسببه-، و"قواعد الأحكام" "1/ 151"، وفيه: " .... ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف، هل كان شركا ورياءً أو عملا صالحا لله تعالى؟! " قلت: يتأكد قوله بما ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي"، فهل هذا النقصان يناقض النية الخالصة الصحيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلل ذلك بقوله: "ما أعلم من شدة وجد أمه لبكائه". وهل مقصد مالك بن الحويرث رضي الله عنه كما ثبت عنه في "صحيح البخاري" "2/ 163- الفتح" عندما كان يصلي بالناس ما يريد بصلاته إلا أن يعلمهم الرياء والسمعة؟ وهل في ذلك ما يناقض النية الصحيحة؟ وأخيرا ... عقد المجد ابن تيمية في كتابه "المنتقى" "باب إطالة الإمام الركعة الأولى وانتظار من أحس به داخلا ليدرك الركعة"، فانظره. 3 أي: وما يكره عند مالك من انتظار الداخل حال الركوع، فقد قال به غيره. "د". قلت: وفي "ط": "وإن لم يعمل ............ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الصَّبِيِّ" 1 الْحَدِيثَ. وَكَرَدِّ السَّلَامِ2 فِي الصَّلَاةِ3، وَحِكَايَةِ المؤذن4، وما أشبه ذلك مما هو   1 مضى تخريجه "ص248". 2 وهل رد السلام وحكاية المؤذن أمر دنيوي؟ نعم، هو خارج عن حقيقة الصلاة إلا أنه ليس دنيويا، بل عبادة، وقوله: "بل لو كان شأن العبادة .... إلخ" يفيد أن ما ذكر قبله ليس عبادة، وأنه مما نحن فيه من مشاركة أمر دنيوي لقصد العبادة، وهو كما ترى. "د". 3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، 1/ 243-244/ رقم 927"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، 2/ 204/ رقم 368"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب المصلي يسلم عليه كيف يرد، 1/ 325/ رقم 1017"، وأحمد في "المسند" "2/ 30"، والدارمي في "السنن" "1/ 316" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه. وبسط جعفر بن عون "أحد الرواة" كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق. وقد ذهب إلى الحديث الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فقال المروزي في "المسائل" "ص22": "قلت "يعني لأحمد": يسلم على القوم وهم في الصلاة؟ قال: نعم. فذكر قصة بلال حين سألة ابن عمر، كيف كان يرد؟ قال: كان يشير. قال إسحاق: كما قال". واختار هذا بعض محققي المالكية، فقال القاضي أبو بكر بن العربي في "العارضة" "2/ 162": "قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام لأمر ينزل بالصلاة، وقد تكون في الحاجة تعرض للمصلي، فإن كانت لرد السلام، ففيها الآثار الصحيحة كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في قباء وغيره، وقد كنت في مجلس الطرطوشي، وتذاكرنا المسألة، وقلنا الحديث واحتججنا به، وعامي في آخر الحلقة، فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهيا لئلا يشغلوه، فعجبنا من فقهه، ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي أنه كان لرد السلام قطعي في الباب، على حسب ما بيناه في أصول الفقه"، أفاده شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 185". 4 وحكاية الأذان في الصلاة لا تشرع عند الشافعي، وقالوا: فإذا فرغ منها قال الأذان، وقال ابن قدامة في "المغني" "1/ 443- "الشرح الكبير": "دخل المسجد، فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله، وافتتح الصلاة، فلا بأس"، نص عليه أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 عَمَلٌ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ، مَفْعُولٌ فِيهَا مَقْصُودٌ يُشْرِكُ قَصْدَ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِي حَقِيقَةِ إِخْلَاصِهَا. بَلْ لَوْ كَانَ شَأْنُ الْعِبَادَةِ أَنْ يَقْدَحَ فِي قَصْدِهَا قَصْدُ شيء آخر سواها، لَقَدَحَ فِيهَا مُشَارَكَةُ الْقَصْدِ إِلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى، كَمَا إِذَا جَاءَ الْمَسْجِدَ قَاصِدًا لِلتَّنَفُّلِ فِيهِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَالْكَفِّ عَنْ إِذَايَةِ النَّاسِ، وَاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، فَإِنَّ كُلَّ قَصْدٍ مِنْهَا شَابَ غَيْرَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ إِخْلَاصِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِاتِّفَاقٍ، بَلْ كُلُّ قَصْدٍ مِنْهَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَحْمُودٌ شَرْعًا، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ غَيْرَ عِبَادَةٍ مِنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، فَحُظُوظُ النُّفُوسِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِنْسَانِ1 لَا يُمْنَعُ اجْتِمَاعُهَا مَعَ الْعِبَادَاتِ، إِلَّا مَا كَانَ بِوَضْعِهِ مُنَافِيًا لَهَا، كَالْحَدِيثِ2، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالنَّوْمِ، وَالرِّيَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَمَّا مَا لَا مُنَافَاةَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَقْدَحُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ فِي الْعِبَادَةِ؟ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُنَازَعُ فِي أَنَّ إِفْرَادَ قَصْدِ الْعِبَادَةِ عَنْ قَصْدِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْلَى3، وَلِذَلِكَ إِذَا غَلَبَ قَصْدُ الدُّنْيَا عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ كان   1 وهي التي ليس فيها مراءاة الآخرين، بل محصورة بينه وبين نفسه، كمن يقصد في صومه "الحمية"، وفي اغتساله "التبرد"، وفي حجه "التفسح" .... وهذا مع وجود قصد التعبد أيضا، المهم أنه ليس في عمله مراعاة الآخرين، ولكن له مقاصد مصلحية غير مقاصد التعبد، وهذا ما فصلناه آنفا، وهو الذي قرره العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/ 151"، والقرافي في "الفروق" "3/ 22". 2 في الأصل و"ط" "كالحدث". 3 ودليله ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "13/ 51- شرح النووي" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة، تم لهم أجرهم". وهذا دليل آخر على صحة الانفكاك؛ إذ فيه قصد الغنيمة مع الجهاد، فينقص بذلك الأجر ولم يبطل بالكلية، كما قال ابن رجب. انظر: "الدين الخالص" "2/ 283" لصديق حسن خان، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "26/ 29-30". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، فَلَمْ يُعْتَدْ بِالْعِبَادَةِ، فَإِنْ غَلَبَ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَالْحُكْمُ لَهُ، وَيَقَعُ التَّرْجِيحُ فِي الْمَسَائِلِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلْمُجْتَهِدِ. وَالثَّالِثُ: مَا يُرْجَعُ إِلَى الْمُرَاءَاتِ، فَأَصْلُ هَذَا إِذَا قُصِدَ بِهِ نَيْلُ الْمَالِ أَوِ الْجَاهِ، فَهُوَ الرِّيَاءُ المذموم شرعا، وادعى مَا فِي ذَلِكَ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا بِقَصْدِ إِحْرَازِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَيَلِي ذَلِكَ عَمَلُ الْمُرَائِينَ الْعَامِلِينَ بِقَصْدِ نَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِطَالَةِ فِيهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ إِصْلَاحًا لِلْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْعِبَادِ، كَالنِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْعَاجِلَةِ، فَهُوَ حَظٌّ أَيْضًا قَدْ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ وَرَاعَاهُ1 فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ بِالْقَوَانِينِ الْمَوْضُوعَةِ [لَهُ] 2، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، فَطَلَبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، فَكَانَ حَقًّا وصحيحا، هذا وجه.   1 فلا يأمر إلا بما فيه القيام بالمصلحة، ولا ينهى إلا عما يترتب عليه ضياع المصلحة، والقوانين التي وضعها لسائر المعاملات روعي فيها أنها تقوم بحفظ هذه المصالح والحظوظ العاجلة، وتدرأ المفاسد عنها، والنواهي عما نهى عنه إنما لحكمة أنه يجلب المفاسد ويضر باستقامة هذه الحظوظ. "د". 2 ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وَوَجْهٌ ثانٍ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبُ الْحَظِّ فِي ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْتِمَاسِهِ وَطَلَبِهِ، لَاسْتَوَى مَعَ الْعِبَادَاتِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ إِلَى الِامْتِثَالِ وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَادَاتِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهَذَا كافٍ فِي كَوْنِ الْقَصْدِ إِلَى الْحَظِّ لَا يَقْدَحُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَنْهَا ذَلِكَ الْحَظُّ، بَلْ لَوْ فَرَضْنَا رَجُلًا تَزَوَّجَ لِيُرَائِيَ بِتَزَوُّجِهِ، أَوْ لِيُعَدَّ مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، لَصَحَّ تَزَوُّجُهُ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يشرع فيه نية العبادة من حيث هو تَزَوَّجَ فَيَقْدَحَ فِيهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ طَلَبُ الْحَظِّ فِيهَا سَائِغًا، لَمْ يَصِحَّ النَّصُّ عَلَى الِامْتِنَانِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الرُّومِ: 21] . وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يُونُسَ: 67] . وَقَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 22] . وَقَالَ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الْقَصَصِ: 73] . وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النَّبَأِ: 10-11] . إِلَى آخِرِ الآيات، إلى غيبر ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى. وَذَلِكَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ لَا يَقَعُ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كُلْفَةٌ وَخِلَافٌ لِلْعَادَاتِ1، وَقَطْعٌ لِلْأَهْوَاءِ، كَالصَّلَاةِ،   1 في الأصل: "العادات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، إِلَّا مَا نَحَا نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1 [الْبَقَرَةِ: 216] بَعْدَ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 216] بِخِلَافِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَتُقْضَى بِهِ الْأَوْطَارُ، وَتُفْتَحُ بِهِ أَبْوَابُ التَّمَتُّعِ وَاللَّذَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَتُسَدُّ بِهِ الْخَلَّاتُ الْوَاقِعَةُ مِنَ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ، وَأَضْرَابِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ مُنَاسِبٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَى هَذَا الْبِسَاطُ الْأَخْذَ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا وَقَعَتِ الْمِنَّةُ بِهَا، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ عَلَى ذَلِكَ قَدْحًا فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا نَقْصًا مِنْ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر الذي امْتَنَّ بِهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ لَهَا بِقَصْدِ التَّجَرُّدِ عَنِ الْحَظِّ قَادِحًا أَيْضًا؛ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَفْهُومُ مِنَ الشَّارِعِ إِثْبَاتَ الْحَظِّ وَالِامْتِنَانَ بِهِ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يُقَالُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِمَا تَقَدَّمَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ أَخْذَهَا مِنْ حَيْثُ تَلْبِيَةِ الْأَمْرِ أَوِ الْإِذْنِ قَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِهِ الْحَظُّ وَبِالتَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نُدِبَ إِلَى التَّزَوُّجِ مَثَلًا فَأَخَذَهُ مِنْ حَيْثُ النَّدْبِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ لَمْ يُنْدَبُ إِلَيْهِ لَتَرَكَهُ مَثَلًا، فَإِنَّ أَخْذَهُ مِنْ هُنَالِكَ قَدْ حَصَلَ لَهُ بِهِ أَخْذُهُ مِنْ حَيْثُ الْحَظِّ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ التَّنَاسُلَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ آثَارًا حَسَنَةً مِنَ التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ، وَالِانْغِمَارِ فِي نِعَمٍ يَتَنَعَّمُ بِهَا الْمُكَلَّفُ كَامِلَةً، فَالتَّمَتُّعُ بِالْحَلَالِ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، فَكَانَ قَصْدُ هَذَا القاصد2 بريئا من الحظ، وقد انجر   1 أي: فهو امتنان عليهم بأن يجعل ما يكرهونه خيرا لهم، وأصل القتال من التكاليف المجردة عن الحظوظ، يعني: وهذا النوع قليل الوقوع أن يمتن في مقام مجرد التكليف، وقد يقال: إن هذا لا يحتاج إلى استثناء؛ لأن الامتنان بشيء آخر غير نفس المكلف به المجرد عن الحظ، فليس امتنانا بنفس القتال، بل بأنه سبحانه وتعالى تفضل علينا بأن يجعل من المكروه لنا أيا كان نوعه خيرا وفائدة عظمى حتى يصير ما نكرهه هو الخير الصرف. "د". 2 في الأصل: "القاصدين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 فِي قَصْدِهِ الْحَظُّ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ نَفْسَ التَّمَتُّعِ، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ، بَلْ لَهُ مُوَافَقَتَانِ: مُوَافَقَةٌ مِنْ جِهَةِ قَبُولِ مَا قَصَدَ الشَّارِعِ أَنْ يَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، وَهُوَ التَّمَتُّعُ، وَمُوَافَقَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَمْرَ الشَّارِعِ فِي الْجُمْلَةِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْمُكَلَّفِ لَهُ فِي حُسْنِ الْأَدَبِ، فَكَانَ لَهُ تَأَدُّبٌ مَعَ الشَّارِعِ فِي تَلْبِيَةِ الْأَمْرِ، زِيَادَةً إِلَى حُصُولِ مَا قَصَدَهُ مِنْ نَيْلِ حَظِّ الْمُكَلَّفِ. وَأَيْضًا1 فَفِي قَصْدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ الْقَصْدُ إِلَى الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ مِنْ حُصُولِ النَّسْلِ، فَهُوَ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ ملبٍ لِلشَّارِعِ فِي هَذَا الْقَصْدِ، بِخِلَافِ طَلَبِ الْحَظِّ فَقَطْ، فَلَيْسَ لَهُ هذه المزية. فإن قيل: فطالب الحظ على هَذَا الْوَجْهِ مَلُومٌ؛ إِذْ أَهْمَلَ قَصَدَ الشَّارِعِ فِي الْأَمْرِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُهْمِلْهُ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ حِينَ أَلْقَى مَقَالِيدَهُ فِي نَيْلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ لِلشَّارِعِ عَلَى الْجُمْلَةِ حَصَلَ لَهُ بِالضِّمْنِ مُقْتَضَى مَا قَصَدَ الشَّارِعُ، فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ فِي نَيْلِ الْحُظُوظِ مُنَافِيًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْأَصْلِيِّ. وَأَيْضًا، فَالدَّاخِلُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْحُظُوظِ دَاخِلٌ بِحُكْمِ الشَّرْطِ الْعَادِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَلِدُ2، وَيَتَكَلَّفُ التَّرْبِيَةَ وَالْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ إِذَا أَتَى الْأَمْرُ مِنْ بَابِهِ أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهَا، لَكِنْ لَا يَسْتَوِي الْقَصْدَانِ: قَصْدُ الِامْتِثَالِ ابْتِدَاءً حَتَّى كَانَ الْحَظُّ حَاصِلًا بِالضِّمْنِ، وَقَصْدُ الْحَظِّ ابْتِدَاءً حَتَّى صَارَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ بِالضِّمْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَصْدَ الْحَظِّ فِي هَذَا القسم.   1 موافقة ثالثة. "د". 2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "لم يلد"، وكتب "د" بناء عليه: "اللائق بالمقام حذف "لم"، أي: فالذي يقصد التمتع فقط بالنكاح داخل ضمنا وبحسب العادة على أنه سيلد، ويتكلف تربية الأولاد، والإنفاق على الزوجات، فهو قاصد ضمنا لمقصد الشارع الأصلي من النكاح، وهو النسل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَمَلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَطَالِبُ الْحَظِّ إِذَا فَرَضْنَاهُ لَمْ يَقْصِدْ الِامْتِثَالَ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا طَلَبَ حَظَّهُ مُجَرَّدًا، بِحَيْثُ لَوْ تَأَتَّى لَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَأَخَذَ بِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، فَهَلْ يَكُونُ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ مَوْجُودًا بِالْقُوَّةِ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى حَظِّهِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ، فَرُجُوعُهُ إِلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ قَصْدٌ إِلَيْهِ، وَقَصْدُ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ يَتَضَمَّنُ امْتِثَالَ الْأَمْرِ أَوِ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ، وَهُوَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ الْأَصْلِيُّ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِي مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالْحَظِّ وَالْهَوَى بِحَيْثُ [لَوْ] 1 يَكُونُ قَصْدُ الْعَامِلِ تَحْصِيلَ مَطْلُوبِهِ وَافَقَ الشَّارِعُ أَوْ خَالَفَهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا كَوْنُهُ عَامِلًا عَلَى قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ، فَظَاهِرٌ أَنَّهُ عَامِلٌ بِالْهَوَى لَا بِالْحَقِّ، وَأَمَّا عَمَلُهُ عَلَى غَيْرِ قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ فَلَيْسَ عَامِلًا بِالْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ الْعَامِلَ بِالْجَهْلِ فَيُخَالِفُ أَمْرَ الشَّارِعِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّاسِي، فَلَا يُنْسَبُ عَمَلُهُ إِلَى الْهَوَى هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، وإذا وافق أمر الشرع جهلا، فسيأتي أنه يَصِحَّ عَمَلُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا يَكُونُ عَمَلُهُ بِالْهَوَى أَيْضًا، وَإِلَى هَذَا، فَالْعَامِلُ بِالْهَوَى إِذَا صَادَفَ أَمْرَ الشَّارِعِ فَلِمَ تَقُولُ: إِنَّهُ عَامِلٌ بِالْهَوَى وَقَدْ وَافَقَ قَصْدُهُ مَعَ مَا مَرَّ آنِفًا أَنَّ مُوَافَقَةَ أَمْرِ الشَّارِعِ تُصَيِّرُ الْحَظَّ مَحْمُودًا. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ عَلَى غَيْرِ قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا له، بل الحالات ثلاث:   1 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها، ومن "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 حَالٌ يَكُونُ فِيهَا قَاصِدًا لِلْمُوَافَقَةِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُصِيبَ بِإِطْلَاقٍ، كَالْعَالِمِ يَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَ، فَلَا إِشْكَالَ، أَوْ يُصِيبُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ أَوْ لَا يُصِيبُ، فَهَذَانِ قِسْمَانِ يَدْخُلُ فِيهِمَا الْعَامِلُ بِالْجَهْلِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ إِذَا ظَنَّ فِي تَقْدِيرِهِ أَنَّ الْعَمَلَ هَكَذَا، وَأَنَّ الْعَمَلَ مَأْذُونٌ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ، لَمْ يَقْصِدْ مُخَالَفَةً، لَكِنْ فَرَّطَ فِي الِاحْتِيَاطِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ1، فَيُؤَاخَذُ فِي الطَّرِيقِ، وَقَدْ لَا يُؤَاخَذُ إِذَا لَمْ يُعَدَّ مُفَرِّطًا2، وَيَمْضِي عَمَلُهُ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا. وَأَمَّا إِذَا قَصَدَ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الشَّارِعِ، فَسَوَاءٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَافَقَ أَوْ خَالَفَ [فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَتِهِ كَمَا] لَا اعْتِبَارَ بِمَا يُخَالِفُ فِيهِ3 لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ الْقَصْدَ بِإِطْلَاقٍ، وَفِي الْعَادَاتِ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ مَا وَافَقَ4 دُونَ مَا خَالَفَ؛ لِأَنَّ مَا لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي صِحَّتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَتِهِ فِي الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ وَلَا مُخَالَفَتِهِ، كمن عقد   1 في الأصل: "في ذلك"، وفي "ط": "على ذلك". 2 عقد القرافي الفرق الثالث والتسعين بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه وبنى الفرق على قاعدة هي ما حكاه الإمام الشافعي في رسالته والإمام الغزالي في "إحيائه" أن الإجماع على أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، ثم عقد الفرق الرابع والتسعين بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرا فيه وقاعدة ما يكون عذرا فيه، وخلاصة الفرق بينهما أن الجهل المعفو عنه ما يتعذر الاحتراز عنه. عادة وغير المعفو عنه ما لا يتعذر الاحتراز عنه في العادة. "خ". قلت: انظر أيضا في العذر بالجهل وحده: "طريق الهجرتين" "412-414"، و"تفسير الآلوسي" "1/ 154" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 21و 11/ 406-407 و20/ 59-61 و19/ 23، 219"، و"الإحكام" "5/ 111 -114" لابن حزم. 3 في الأصل: "بما وافق أو خالف فيه"، وفي "خ": "بما يخالف". 4 أي: فما فعله على نية المخالفة، ولكنه صادف موافقة الطريق المشروع كان معتبرا، أي غير باطل، فتنسحب عليه أحكام الصحيح، وأما إذا صادف مخالفة المشروع، فهو باطل لا يأخذ حكم المشروع، وقوله: "لأن ما لا تشترط النية .... إلخ" توجيه لا عتبار ما وافق مع كونه ناويا المخالفة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 عَقْدًا يَقْصِدُ أَنَّهُ فَاسِدٌ فَكَانَ صَحِيحًا، أَوْ شَرِبَ جُلَّابًا يَظُنُّهُ خَمْرًا، إِلَّا أَنَّ عَلَيْهِ فِي قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ دَرْكَ الْإِثْمِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ مُوَافَقَةً وَلَا مُخَالَفَةً، فَهُوَ الْعَمَلُ عَلَيَّ مُجَرَّدِ الْحَظِّ أَوِ الْغَفْلَةِ، كَالْعَامِلِ وَلَا يَدْرِي مَا الَّذِي يَعْمَلُ، أَوْ يَدْرِي وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ1 مُجَرَّدَ الْعَاجِلَةِ، مُعْرِضًا عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَحُكْمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمُ الصِّحَّةِ، لِعَدَمِ نِيَّةِ الِامْتِثَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفُ النَّاسِي وَلَا الْغَافِلُ وَلَا غَيْرُ الْعَاقِلِ، وَفِي الْعَادَاتِ الصِّحَّةُ إِنْ وَافَقَ قَصْدَ الشَّارِعِ، وَإِلَّا، فَعَدَمُ الصِّحَّةِ. وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَظَرٌ إِذْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَقْصِدَ2 هُنَا لَمَّا انْتَفَى، فَالْمُوَافَقَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِإِمْكَانِ الِاسْتِرْسَالِ بِهَا فِي الْمُخَالَفَةِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِهَذَا تَأْثِيرٌ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمَحْجُورِ، كَالطِّفْلِ وَالسَّفِيهِ الَّذِي لَا قَصْدَ لَهُ إِلَى مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي إِصْلَاحِ الْمَالِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ بِعَدَمِ نُفُوذِ تَصَرُّفَاتِهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ وَافَقَتِ الْمَصْلَحَةِ، وَقِيلَ بِنُفُوذِ مَا وَافَقَ الْمَصْلَحَةَ مِنْهَا لَا مَا خَالَفَهَا، عَلَى تَفْصِيلٍ أَصْلُهُ هَذَا النَّظَرُ، وَهُوَ أَنَّ مُطْلَقَ الْقَصْدِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ غَيْرُ مُنْتَهِضٍ، فَهُوَ بِهَذَا الْقَصْدِ مُخَالِفٌ لِلشَّارِعِ، وَقَدْ يُقَالُ: الْقَصْدُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ، وَقَدْ نَشَأَ هُنَا مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ مُوَافَقَةُ قَصْدِ الشَّارِعِ، فَصَحَّ. فَصْلٌ: حَيْثُ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْعَادِيَّةِ وَإِنْ خَالَفَ الْقَصْدُ قَصْدَ الشَّارِعِ، فَإِنَّ مَا مَضَّى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي نَوْعِ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ، فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الإطلاق، لكن بالتفسير المقدم3، والله أعلم.   1 في "د": "قصده". 2 في "ط": "القصد". 3 وهو عدم ترتب الآثار الأخروية عليه من مرجو الثواب. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كان من قبيل العادات الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، فِي الِاكْتِسَابَاتِ وَسَائِرِ الْمُحَاوَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، الَّتِي هِيَ طُرُقُ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ، كَالْعُقُودِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَالتَّصَارِيفِ الْمَالِيَّةِ عَلَى تَنَوُّعِهَا. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَادَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْمُكَلَّفِ، مِنْ جِهَةِ تَوَجُّهِهِ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَالنِّيَابَةُ فِيهِ صَحِيحَةٌ1، فَيَقُومُ فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَنُوبُ مَنَابَهُ2 فِيمَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَهُ فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ لَهُ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُ، بِالْإِعَانَةِ وَالْوِكَالَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي يَطْلُبُ بِهَا الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَالِحَةٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا سِوَاهُ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارَةِ3، وَالْخِدْمَةِ، وَالْقَبْضِ، وَالدَّفْعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لِحِكْمَةٍ لَا تَتَعَدَّى الْمُكَلَّفَ عَادَةً أَوْ شَرْعًا، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ، وَالسُّكْنَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ، وَكَالنِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ التَّابِعَةِ لَهُ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّتِي لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا شَرْعًا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مَفْرُوغٌ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ؛ لِأَنَّ حِكْمَتَهُ لَا تَتَعَدَّى صَاحِبَهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ وُجُوهُ الْعُقُوبَاتِ وَالِازْدِجَارِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الزَّجْرِ لَا يَتَعَدَّى صَاحِبَ الْجِنَايَةِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْمَالِ، فَإِنَّ النِّيَابَةَ فِيهِ تَصِحُّ، فَإِنْ كان دائرا بين الأمر المالي   1 في نسخة "ماء/ ص 196": "تصح". 2 في الأصل: "ويقوم مقامه". 3 في الأصل و"خ" و"ماء/ ص197": "والاستجارة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وَغَيْرِهِ، فَهُوَ مَجَالُ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، كَالْحَجِّ1 وَالْكَفَّارَاتِ، فَالْحَجُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ التَّعَبُّدُ، فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، أَوِ الْمَالُ، فَتَصِحُّ، وَالْكَفَّارَةُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا زَجْرٌ فَتَخْتَصُّ، أَوْ جَبْرٌ فَلَا تَخْتَصُّ، وَكَالتَّضْحِيَةِ2 فِي الذَّبْحِ بِنَاءً عَلَى مَا بُنِيَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ حِكْمَةَ الْعَادِيَّاتِ إِنِ اخْتُصَّتْ بِالْمُكَلَّفِ، فَلَا نِيَابَةَ، وَإِلَّا، صَحَّتِ النِّيَابَةُ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْتَعَبُّدَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يَقُومُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُغْنِي فِيهَا عَنِ الْمُكَلَّفِ غَيْرُهُ، وَعَمَلُ الْعَامِلِ لَا يُجْتَزَى بِهِ غَيْرُهُ3، وَلَا يُنْتَقَلُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ إِنْ وُهِبَ، وَلَا يُحْمَلُ إِنْ تَحَمَّلَ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ الْقَطْعِيِّ نَقْلًا وَتَعْلِيلًا4. فَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:   1 التمثيل بالحج هنا غير واضح؛ لأن تقدير كلامه إن كان الأمر العادي دائرا بين المال والعقوبة كالكفارات، فهو مجال نظر، وليس الحج كذلك، بل هو أمر عبادي وفيه نوع ارتباط بالمال، فإذا تغلب أحدهما روعي، ومثله يقال في الضحية، ولو أنه جعل التقسيم إلى ثلاثة أضرب، فأضاف إلى هذين الضربين ضربا يدور بين العبادة والأمور المالية لكان أوجه. "د". 2 في الأصل و"خ" و"ط": "الضحية". 3 فصل هذه المعاني وإن كانت متقاربة أو متلازمة لتأتي الأدلة في الآيات بعدها على طبقها صراحة، فعليك بتطبيق الأدلة على تلك المعاني. "د". 4 انظر في تفصيل ذلك: "المغني" "5/ 92"، و"المجموع" "3/ 15"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 142-143 و24/ 306-313"، و"الفروق" "3/ 188"، و"بداية المجتهد" "1/ 273"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 1442-1446"، و"فتح القدير" "3/ 144-145"، و"حاشية ابن عابدين" "1/ 355". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْأَنْعَامِ: 164] . {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 39] . وَفِي الْقُرْآنِ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْإِسْرَاءِ: 15] فِي مَوَاضِعَ. وَفِي بَعْضِهَا: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فَاطِرٍ: 18] . ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه} [فَاطِرٍ: 18] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 12] . [وَقَالَ] 1: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم} [الْقِصَصِ: 55] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 52] . وَأَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ لَا يَمْلِكُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الِانْفِطَارِ: 19] ، فَهَذَا عَامٌّ فِي نَقْلِ الْأُجُورِ أَوْ حَمْلِ الْأَوْزَارِ وَنَحْوِهَا. وَقَالَ: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لُقْمَانَ: 33] . وَقَالَ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الآية: [البقرة: 48] .   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَفِي الْحَدِيثِ حِينَ أَنْذَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ: "يَا بَنِي فُلَانٍ! إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" 1. وَالثَّانِي: الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادَاتِ الْخُضُوعُ لِلَّهِ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَالتَّذَلُّلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِانْقِيَادُ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ حَاضِرًا مَعَ اللَّهِ، وَمُرَاقِبًا لَهُ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَاعِيًا فِي مَرْضَاتِهِ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ، وَالنِّيَابَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَقْصُودَ وَتُضَادِّهِ2؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونِ الْعَبْدُ عَبْدًا، وَلَا الْمَطْلُوبُ بِالْخُضُوعِ وَالتَّوَجُّهِ خَاضِعًا وَلَا مُتَوَجِّهًا، إِذَا نَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، فَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَاضِعُ الْمُتَوَجِّهُ، وَالْخُضُوعُ وَالتَّوَجُّهُ وَنَحْوُهُمَا إِنَّمَا هُوَ اتِّصَافٌ بِصِفَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالِاتِّصَافُ لَا يَعْدُو الْمُتَّصِفَ بِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالنِّيَابَةُ إِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الْمَنُوبَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِبِ، حَتَّى يُعَدُّ الْمَنُوبُ عَنْهُ مُتَّصِفًا بِمَا اتَّصَفَ بِهِ النَّائِبُ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي الْعِبَادَاتِ كَمَا يَصِحُّ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَإِنَّ النَّائِبَ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ مثلا لما قام مقام المديان صار المديان مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِدِينِهِ، فَلَا مُطَالَبَةَ لِلْغَرِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ، وَهَذَا فِي التَّعَبُّدِ لَا يُتَصَوَّرُ مَا لَمْ يَتَّصِفْ الْمَنُوبُ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِ النَّائِبُ، وَلَا نِيَابَةَ إِذْ ذَاكَ عَلَى حَالٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ3 لَصَحَّتْ فِي الْأَعْمَالِ.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية، 6/ 551/ رقم 3527"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، 1/ 192-193/ رقم 204، 206" عن أبي هريرة وفيه طول، والمذكور نحوه. 2 نحوه في "الفروق" "2/ 205"، و"قواعد الأحكام" "1/ 135". 3 إنما جعلها هي الملزوم ومناط الاستدلال في هذا الوجه-وإن كان الأصل فيما سبق = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الْقَلْبِيَّةِ، كَالْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَالرِّضَى وَالتَّوَكُّلِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنِ التَّكَالِيفُ مَحْتُومَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَيْنًا لِجَوَازِ النِّيَابَةِ، فَكَانَ يَجُوزُ أَمْرُهُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالِاسْتِنَابَةِ، وَلَصَحَّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَصَالِحِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَعْيَانِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْوِقَاعِ وَاللِّبَاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَفِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرَاتِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الزَّجْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُخْتَصَّةٌ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّعَبُّدَاتِ. وَمَا تَقَدَّمَ1 مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا عُمُومَاتٌ لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ؛ لِأَنَّهَا مُحْكَمَاتٌ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ2 احْتِجَاجًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَرَدًّا عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ حَمْلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ أَوْ دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ عِنَادًا، وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي هَذَا   = عاما- لأنها بقطع النظر عن الأدلة هي التي يتوهم فيها ذلك، ويظهر أثره فيها بالقيام بالنيابة وعدم القيام بها بخلاف القلبية، فلا يظهر ذلك فيها، ولا يعقل فيها النيابة رأسا، فلا يعقل أن يقوم أحد عن أحد بالإيمان مثلا، وقوله: "ولم تكن التكاليف ..... إلخ"، أي: مطلقا بدنية أو قلبية، وقوله: "وكل ذلك باطل"، أي: اللوازم الثلاثة باطلة، أي: فالملزوم مثلها، وعليه يكون قوله: "مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُخْتَصَّةٌ" راجعا لخصوص الدليل الثالث، أي أن التعبدات مختصة بالمكلف بها كما سبق بيانه، فتكون كالعاديات المختصة كالأكل والوقاع مثلا، فلما كانت هذه لا نيابة فيها كانت جميع التعبدات لا نيابة فيها، ويصح أن يعود قوله: "وكل ذلك باطل" إلى ما دخل تحت قوله: "ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة وفي الحدود وأشباهها"، ويكون حذف بطلان اللازم من الدليلين الأولين. "د". قلت: انظر في معنى ما قرر المصنف: "حاشية الدسوقي" "2/ 18". 1 لو قدم هذا على الثاني، وهو المعنى ليكون تكميلا للدليل الأول وهو النصوص، لكان أنسب وإن كان وجه تأخره ارتباطه بالإشكال بعده، حيث يقول فيه: "وتبين أن ما تقدم في الكلية ليست على العموم". "د". 2 أي: ما عدا الآية الأخيرة، فإنها من سورة البقرة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 الْمَعْنَى، لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِهَا حُجَّةٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعُمُومَ إِذَا خُصَّ لَا يَبْقَى حُجَّةً فِي الْبَاقِي، فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ، فَلِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ النَّاظِرُ الْعُمُومَاتِ الْمَكِّيَّةَ وَجَدَ عَامَّتَهَا1 عَرِيَّةً عَنِ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعَارِضَةِ، فَيَنْبَغِي لِلَبِيبٍ أَنْ يَتَّخِذَهَا عُمْدَةً فِي الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا؟ وَقَدْ جَاءَ فِي النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَاكْتِسَابِ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ مِنَ الْغَيْرِ، وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مِنْهَا أَنَّ "الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ" 2. وَأَنَّ "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً، كَانَ له أجرها أو عليه وزرها" 3.   1 سيأتي لذلك في الأدلة مبحث واسع شاف، وقوله: "الأمور المعارضة"، أي: العشرة المشهورة التي منها الإضمار والحقيقة والمجاز ..... إلخ، والكلام يحتاج إلى دقة في وزنه وتطبيقه، وسيأتي في محله. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، 3/ 152/ رقم 1290"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 638/ رقم 927"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز باب النياحة على الميت، 4/ 16-17"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت/ رقم 1002"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجنائز، باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه / رقم 1593" عن عمر موقوفا. وانظر في معنى الحديث وتوجيهه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "24/ 369-378"، و"عمدة القاري" "4/ 79"، و"تهذيب السنن" "4/ 290-293" لابن القيم، و"مجموعة الرسائل المنيرية" "2/ 209". 3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير رضي الله عنه، ومضى "1/ 222". قلت: وفي "خ" كان الحديث: "كان عليه وزرها وله أجرها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وَأَنْ "الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ" 1 وَأَنَّهُ "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا" 2. وَفِي الْقُرْآنِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطُّورِ: 21] . وَفُسِّرَ بِأَنَّ الْأَبْنَاءَ يُرْفَعُونَ إِلَى مَنَازِلِ الْآبَاءِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا ذَلِكَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" 3. وَفِي رِوَايَةٍ: "أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُجْزِئُهُ"؟ قَالَتْ: نَعَمْ: قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" 3.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255/ رقم 1631"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت، 6/ 251"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب في الوقف،3/ 660/ رقم 1376"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، 3/ 117/ رقم 2880"، وأحمد في "المسند" "2/ 372"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 38" عن أبي هريرة مرفوعا، ولفظ مسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا في ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته- 6/ 364/ رقم 3335"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، 3/ 1303-1304/ رقم 1677" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وتقدم "1/ 222". 3 أخرج الرواية الأولى البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، 4/ 66/ رقم 1853، 1854"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، 2/ 973/ رقم 1334" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي "ط": "فريضة الله الحج أدركت ... ". وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" نحو الرواية الثانية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 "وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلَيُّهُ" 1. وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ. قَالَ: "فَاقْضِهِ عَنْهَا" 2. وَقَدْ قَالَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُبَرَاءُ وَعُلَمَاءُ، وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا بِجَوَازِ هِبَةِ الْعَمَلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ نَوْعِهَا، وَتَبَيِّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ لَنَا قَاعِدَةً يُرْجَعُ إِلَيْهَا غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَهِيَ قَاعِدَةُ الصَّدَقَةِ عَنِ الْغَيْرِ، وَهَى عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ صَدَقَةً إِذَا قُصِدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ، فَإِذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ عَنِ الرَّجُلِ، أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنِ الْمُتَصَدَّقِ عنه وانتفع   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب من مات وعليه صوم، 4/ 192 / رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147"، وأبو داود في "السنن":"كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام، 2/ 791-792/ رقم 2400"، وأحمد في "المسند" "6/ 69" والبيهقي في الكبرى" "4/ 255" وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر، 11/ 583/ رقم 6698"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر، 3/ 1260 / رقم 1638" أن ابن عباس قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فاقضه عنها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 بِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَهَذِهِ عِبَادَةٌ حَصَلَتْ فِيهَا النِّيَابَةُ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الصَّدَقَةِ فَرْضًا كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ إِخْرَاجَهَا عَنِ الْغَيْرِ جَائِزٌ وَجَازَ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَالزَّكَاةُ أُخَيَّةُ الصَّلَاةِ1. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لَنَا قَاعِدَةً أُخْرَى مُتَّفَقًا عَلَيْهَا أَوْ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا2، وَهَى تَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ لِلدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، فَإِنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُتْلِفَ زَيْدٌ فَيُغَرَّمُ عَمْرٌو، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُ أَيْضًا نِيَابَةُ الْإِمَامِ عَنِ الْمَأْمُومِ فِي الْقِرَاءَةِ وَبَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مِثْلَ الْقِيَامِ، وَالنِّيَابَةُ عَنْهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَتَوَجُّهٌ إِلَيْهِ، وَالْغَيْرُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ مَلَائِكَةً عِبَادَتُهُمْ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا وَلِمَنْ فِي الْأَرْضِ عُمُومًا، وَقَدِ اسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبَوَيْهِ3 حَتَّى نَزَلَ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] .   1 جملة خطابية، يقوى بها الإشكال ليجري فيما ليس فيه شائبة مالية. "د". 2 المخالف فيها قليل، راجع "إعلام الموقعين" "2/ 16-17" ط محمد عبد الحميد. 3 الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فلم يأذن له ربه عز وجل، وأما سبب النزول، فقيل: نزلت في ذلك كما عند الطبري في "التفسير" "11/ 43" من مرسل قتادة، وعن ابن عباس عنده أيضا "11/ 42" بإسناد ضعيف، فيه عطية العوفي. والنهي عن الاستغفار ثابت في غير حديث، منها: ما أخرجه مسلم في "الصحيح" "2/ 672 بعد 977/ 106" -ولم يسبق لفظه- والترمذي في "الجامع" "3/ 370/ رقم 1054" مختصرا، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 117"، وأحمد في "المسند" "5/ 355 و356"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 376"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76" و"الدلائل" "1/ 189"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 652 و653 و664"، والجورقاني في الأباطيل" "1/ 229-230"، والطبري في "التفسير" "11/ 42" وابن مردويه عن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أتي رسم قبر فجلس عليه، فجعل = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 ...............................................................................................   يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلنا: يا رسول الله! إنا رأينا ما صنعت، قال: "إني استأذنت ربي في زيارة أمي فأذن لي، وأستأذنته في الاستغفار لها، فلم يأذن لي". وما أخرجه مسلم "كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، 2/ 671/ رقم 976 و977"، وأبو داود "كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، 3/ 218/ رقم 3235"، والنسائي "كتاب الجنائز، باب زيارة قبر المشرك، 4/ 90"، وعنه الجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" "1/ 230"، وابن ماجه "كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، 1/ 501/ رقم 1572"، وأحمد في "المسند" "2/ 441"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 89"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "4/ 76 و7/ 190"، و"دلائل النبوة" "1/ 190"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 463/ رقم 1554"، و"معالم التنزيل" "3/ 115" من طريقين عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم استأذن في الاستغفار لأمه، فلم يؤذن له". والصحيح في سبب النزول أنها نزلت في عمه أبي طالب. أخرج البخاري "كتاب التفسير، باب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين} ، 8/ 341/ رقم 4675، وباب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، 8/ 506/ رقم 4772"، ومسلم "كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع -وهو الغرغرة-ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم، ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل، 1/ 54/ رقم 24"، والنسائي في "السنن الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 561/ رقم 250 و2/ 144/ رقم 403"، وكما في "تحفة الأشراف" "8/ 387"، و"المجتبى" "4/ 90-91"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 14-15"، وأحمد في "المسند" "5/ 433"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 187"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 37"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 978- الإحسان"، وابن جرير في "التفسير" "11/ 30 و20/ 59"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 342-343"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 55-56"، وابن البناء في "فضل التهليل" "رقم 47"، والواحدي في "أسباب النزول" "177" من طرق عدة عن الزهدي عن سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن، قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الملك = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وَقَالَ فِي ابْنِ أُبَيٍّ: "لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" 1 حَتَّى نَزَلَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُم} [التَّوْبَةِ: 80] ، [وَنَزَلَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية] 2 [التوبة: 84] . وَإِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ، فَلَمْ يُنه عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ كَانَ حَيًّا مِنْهُمْ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" 3. وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَالدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ مِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ضَرُورَةٌ. وَالرَّابِعُ: إِنَّ النِّيَابَةَ فِي الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ غَيْرُ الْعِبَادَاتِ4 صَحِيحَةٌ، وكذلك   = ابن أبي أمية بن المغيرة، فقال: "أي عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجَّ لك بها عند ال له؟ " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله". قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين} ، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} . وهذا لفظ البخاري في الموطن الثاني. 1 بل قالها في عمه أبو طالب، كما تقدم في الحديث السابق. 2 ما بين المعقوفتين سقط من "ط". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب منه، 6/ 514/ رقم 3477، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: منه 12/ 282/ رقم 6929"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417/ رقم 1792" عن ابن مسعود رضي الله عنه، والمذكور لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "رب اغفر ..... ". 4 ليس محل نزاع، ولكنه جاء به لتوسيع المجال في الإشكال، وأنها لكونها مشروعة جازت فيهم النيابة، فإذن كل ما كان مشروعا تجوز فيه النيابة، ومنه العبادات، ولا يخفى عنك أن أهم شيء في هذا الوجه ما يتعلق بالجهاد من جهة كونه عبادة، وأما مجرد مشروعيته التي جاء بها؛ ليجعلها كَعِلَّة للقياس، فهي ضعيفة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 بَعْضُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْإِنْسَانِ عَيْنًا، وَكَذَلِكَ الْمَالِيَّةُ، وَأَوَّلُهَا الْجِهَادُ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ بِهِ غَيْرَهُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ، إِذَا أَذِنَ الْإِمَامُ، وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ، فَإِذَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي مِثْلِ هَذَا، فَلْتُجْزَ فِي بَاقِي الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَشْرُوعٌ. وَالْخَامِسُ: إِنَّ مَآلَ الْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ أَنْ يُجَازَى عَلَيْهَا، وَقَدْ يُجَازَى الْإِنْسَانُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، خَيْرًا كَانَ الْجَزَاءُ أَوْ شَرًّا، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَصَائِبُ النَّازِلَةُ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَعِرْضِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ بِاكْتِسَابٍ1 كُفِّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وأُخِذ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ وَزِرَهُ، وَ [لَوْ] لَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ2، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجِدَ أَلَمَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ3، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ، فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ، وَكَمَا جَاءَ فِيمَنْ "غَرَسَ غَرْسًا أَوْ زرع زرعا يأكل منه   1 أي: اكتساب الغير، وقوله: "بغير اكتساب"، أي: بأن كانت من الله محضا. "د". 2 لعل الأصل: "وإن لم يعلم بذلك" ليلتئم مع قوله: "فضلا عن أن يجد ألمه". "د". 3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم 4/ 1997/ رقم 2581"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/ 613/ رقم 2418"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد في المسند" "2/ 334"، والبغوي في "شرح السنة" "14/ 360/ رقم 4164"، وعبد الغني المقدسي في "ذكر النار" "رقم 6" عن أبي هريرة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أتدرون ما المفلس"؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 إِنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَنَّهُ لَهُ أَجْرٌ" 1 وَفِيمَنِ "ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَكَلَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، أَوْ شَرِبَ فِي نَهْرٍ، أَوِ استنَّ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، فَهِيَ لَهُ حَسَنَاتٌ" 2، وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: النِّيَّاتُ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْأَعْمَالَ3 كَمَا جَاءَ: "إِنَّ الْمَرْءَ يُكْتَبُ لَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ أَوِ الْجِهَادُ إذا حبسه عنه عذر" 4.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438/ رقم 6012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع 3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة". 2 مضى تخريجه "ص340"، وهو قطعة من حديث في "الصحيحين"، قال "د": "لعلها رواية بالمعنى، وإلا، فما تقدم له في الفصل الثاني من المسألة الخامسة يقتضي أن قوله: "ولم يرد ذلك" راجع إلى خصوص الشرب، نعم، إن ذلك هو مناط الإشكال؛ لأنه لو قصد شيئا من ذلك لم يكن فيه ما يعترض به هنا". 3 انظر في تحقيق هذا النوع مع أمثلة عليه: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 740-742 و6/ 575 و14/ 123 و35/ 52". 4 قلت: والعذر نصص عليه في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة 6/ 136/ رقم 2996" من حديث أبي موسى مرفوعا، "إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا". والنوم عذر في حق من كان له نصيب من قيام الليل، ودليله ما أخرجه النسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 1344"، وابن نصر في "قيام الليل" "ص38"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 311"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 15" بسند صحيح عن أبي الدرداء مرفوعا: "من نام ونيته أن يقوم، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه". وأخرج مالك في "الموطأ" "1/ 117" -ومن طريقه أبو داود في "السنن" "رقم 1314"، والنسائي في "المجتبى" "1/ 255"، وأحمد في "المسند" "6/ 180"، وابن نصر في "قيام الليل"= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي المتمنِّي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يَعْمَلُ بِهِ مِثْلَ عَمَلِ فُلَانٍ: "فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ"، وَفِي الْآخَرِ: "فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سواء" 1.   = "ص78"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 15" من حديث عائشة مرفوعا: "ما من امرئ تكون له صلاة بليل، يغلبه عليها نوم، إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة". أما الجهاد، فدليله ما أخرجه الشيخان في "صحيحهما" من حديث جابر مرفوعا: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم المرض"، وفي رواية عند مسلم: "إلا شركوكم في الأجر". وورد في المرض خاصة حديث عقبة بن عبار مرفوعا: "ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا! عبدك فلان قد حبسته! فيقول الرب عز وجل: اختموا له على مثله عمله حتى يبرأ أو يموت" أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 146" بإسناد صحيح، وأخرج أحمد في "المسند" "4/ 123" من حديث شداد والحاكم في "المستدرك" "4/ 313" من حديث أبي أمامة، وأحمد "3/ 238" من حديث أنس ما يشهد له. 1أخرج وكيع في "الزهد" "رقم 240" -ومن طريقه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية 2/ 1413/ 4228"، وأحمد في "المسند" "4/ 230"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 106"- بإسناد صحيح عن أبي كبشة الأنماري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا، عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، فهو يخبط في ماله، ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤتِهِ الله علما ولا مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الوزر سواء ". وأخرجه من طرق عن أبي كبشة هناد في "الزهد" "رقم 568"، والمروزي في "زياداته على زهد ابن المبارك" "رقم 354"، وأحمد في "المسند" "4/ 230، 231"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الدنيا مثل أربعة نفر 4/ 562/ رقم 2325" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 105، 106"، وابن ماجه في "السنن" "2 1413-1414". وصححه ابن كثير في "فضائل القرآن" "ص63". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وَحَدِيثُ: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا؛ كُتِبَتْ له حسنة" 1. "والمسلمان يلتقيان بسيفهما" 2 الْحَدِيثَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدِّ الْمُكَلَّفِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالْعَامِلِ نَفْسِهِ فِي الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ، فَإِذَا كَانَ كَالْعَامِلِ وَلَيْسَ بِعَامِلٍ وَلَا عَمَلَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَأَوْلَى3 أَنْ يَكُونَ كَالْعَامِلِ إِذَا اسْتَنَابَ غَيْرَهُ عَلَى الْعَمَلِ.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة 11/ 323/ رقم 6491"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب 1/ 117/ رقم 131" من ضمن حديث إلهي رواه ابن عباس رضي الله عنهما. 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، 1/ 84-85/ رقم 31، وكتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} 12/ 192/ رقم 6875، وكتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفهما 13/ 31-32/ رقم 7083"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما 4 / 2213-2214/ رقم 2888"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل 7/ 125"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الفتن، باب في النهي عن القتال في الفتنة 4/ 103/ رقم 4268، 4269"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما 2/ 1311/ رقم 3965" عن أبي بكرة مرفوعا: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قال: فقلت "أو قيل": يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد قتل صاحبه" وفي رواية: "إذا التقى المسلمان ..... ". 3 أي: لأن النية حينئذ حاصلة، وقد حصل المنوي بالفعل، وإن كان من غيره وهذا ظاهر إذا رجعنا قوله: "فإذا كان كالعامل ..... إلخ" إلى الضرب الثاني فقط، إلا أنه لا يكون قد عمل للأول نتيجة، ولا بين وجه الاستدلال به، أما إذا رجعناه للضربين فيكون قد رتب على الأول أيضا نتيجته، لكن السياق في ذكره للأعمال في الثاني يشهد للتقرير الأول. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ بِصِحَّةِ1 النِّيَابَةِ، فَإِنَّ لِلنَّظَرِ فِيهَا مُتَّسَعًا. أَمَّا قَاعِدَةُ الصَّدَقَةِ عَنِ الْغَيْرِ وَإِنْ عَدَدْنَاهَا عِبَادَةً، فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي نِيَابَةٍ فِي عِبَادَةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَجُّهٌ إِلَيْهِ، وَالصَّدَقَةُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَا كَلَامَ فِيهَا. وَأَمَّا قَاعِدَةُ الدُّعَاءِ، فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّعَاءِ نِيَابَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَفَاعَةٌ لِلْغَيْرِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا قَاعِدَةُ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، فَإِنَّهَا مَصَالِحٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ نِيَّةٌ، بَلِ الْمَنُوبُ عَنْهُ إِنْ نَوَى الْقُرْبَةَ فِيمَا لَهُ سَبَبٌ فِيهِ، فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مِنْهُ صَدَرَتْ لَا مِنَ النَّائِبِ، وَالنِّيَابَةُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّفْرِقَةِ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ التَّقَرُّبِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ، وَالْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَعْدُودَةِ فِي الْعِبَادَاتِ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتِي هِيَ مَصَالِحُ للدنيا، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا الْأَجْرُ الْأُخْرَوِيُّ إِلَّا إِذَا قَصَدَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، فَإِنْ قَصَدَ الدُّنْيَا، فَذَلِكَ حَظُّهُ، مَعَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْجِهَادِيَّةَ قَائِمَةٌ، كَقَاعِدَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ شُعْبَةٌ مِنْهَا، عَلَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ كَرِهَ النِّيَابَةَ فِي الْجِهَادِ [بِالْجُعْلِ] 2، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَكَةِ فِي عَرْضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، وَلَوْ فُرِضَ هُنَا قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِالْعَمَلِ، لَمْ يَصِحَّ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ نِيَابَةٌ أَصْلًا، فَهَذَا [الْأَصْلُ] 2 لَا اعْتِرَاضَ بِهِ أَيْضًا. وَأَمَّا قَاعِدَةُ الْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ، فَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ في التعبد، وإنما   1 في "خ" و"ط": "في صحة". 2 ما بين المعقوفات في الموضعين ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 الْأَجْرُ وَالْكَفَّارَةُ فِي مُقَابَلَةِ مَا نِيلَ مِنْهُ لَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، وَكَوْنُ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ تُعْطَى الْمَظْلُومَ، أَوْ سَيِّئَاتُ الْمَظْلُومِ تُطْرَحُ عَلَى الظَّالِمِ، فَمِنْ بَابِ الْغَرَامَاتِ، فَهِيَ مُعَاوَضَاتٌ؛ لِأَنَّ1 الْأَعْوَاضَ الْأُخْرَوِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأُجُورِ وَالْأَوْزَارِ؛ إِذْ لَا دِينَارَ هُنَاكَ وَلَا دِرْهَمَ، وَقَدْ فَاتَ الْقَضَاءُ فِي الدُّنْيَا. وَمَسْأَلَةُ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ فِي الْمَالِ، وَمِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ بِهِ إِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِ مَالِكِهِ. وَمَسْأَلَةُ الْعَاجِزِ عَنِ الْأَعْمَالِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَامِلِ بِلَا نِيَابَةٍ؛ إِذْ عُدَّ فِي الْجَزَاءِ بِسَبَبِ نِيَّتِهِ كَمَنْ عَمِلَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَجْرِي فِي الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ عِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا لَعَمِلَهَا إِنَّ لَهُ أَجْرَ مَنْ عَمِلَهَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ مِمَّا يُقْضَى، كَمَا أَنَّهُ لَوْ تَمَنَّى2 أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا أَوْ يَسْرِقَ أَوْ يَفْعَلَ شَرًّا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ، كَانَ لَهُ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ، وَلَا يُعَدُّ فِي الدُّنْيَا كَمَنْ عَمِلَ، حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْفَاعِلِ حَقِيقَةً، فَلَيْسَتْ مِنَ النِّيَابَةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ فُرِضَتِ النِّيَابَةُ، فَالنَّائِبُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ، فَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ، فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ لَا تَنْقُضُ مَا تَأَصَّلَ3. وَنَرْجِعُ إِلَى مَا ذُكِرَ أَوَّلَ السُّؤَالِ، فَإِنَّهُ عُمْدَةُ من خالف في المسألة.   1 في "ط": "لكن". 2 أي: عزم وصمم، ولكنه فاته غرضه بأمر خارج عن إرادته. "د". 3 وانظر تفصيل ما تقدم في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية: "التحفة العراقية"، و"مجموع الفتاوى" "6/ 575 و10/ 740-742 و14/ 123 و35/ 52"، و"فتح الباري" "11/ 327-328"، و"الأشباه والنظائر" "ص34" للسيوطي، و"تفسير القرطبي" "18/ 241 و12/ 35 و4 / 294"، و"مقاصد المكلفين" "ص142 وما بعدها" ورسالة الشوكاني "رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس". وهي مطبوعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فَحَدِيثُ تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ [بِبُكَاءِ] الْحَيِّ1 ظَاهِرُ حَمْلِهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَحْرِيضِ الْمَرِيضِ -إِذَا ظَنَّ الْمَوْتَ- أَهْلَهُ عَلَى الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا " مَنْ سَنَّ سُنَّةً .... " 2، وَحَدِيثُ ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ3 وَحَدِيثُ انْقِطَاعِ الْعَمَلِ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ4، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى عَمَلِ الْمَأْجُورِ أَوِ الْمَوْزُورِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ أَوَّلًا، فَعَلَى جَرَيَانِ سَبَبِهِ تَجْرِي الْمُسَبِّبَاتُ، وَالْكِفْلُ الرَّاجِعُ إِلَى الْمُتَسَبِّبِ "الْأَوَّلِ" نَاشِئٌ عَنْ عَمَلِهِ، لَا عَنْ عَمَلِ الْمُتَسَبِّبِ الثَّانِي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية [الطور: 21] ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ كَسْبٌ مَنْ كَسْبِهِ، فَمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ فَكَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَبِ، وَبِذَلِكَ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب} [الْمَسَدِ: 2] أَنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَا غَرَوَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلَتِهِ وَتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِ5، كَمَا تَقَرُّ عَيْنُهُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء} [الطُّورِ: 21] . وَإِنَّمَا يَشْكُلُ مِنْ كُلِّ مَا أَوْرَدَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّهَا كَالنَّصِّ فِي مُعَارَضَةِ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا، وَبِسَبَبِهَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا نَصَّ فِيهَا خَاصَّةً -وَذَلِكَ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ- وَأَمَّا النَّذْرُ، فَإِنَّمَا كَانَ صِيَامًا فَيَرْجِعُ إِلَى الصِّيَامِ. وَالَّذِي يُجَابُ بِهِ فِيهَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا مضطربة، نبه البخاري ومسلم على   1 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385" وما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص385". 3 انظر الحديث الوارد في ذلك "ص386". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان ..... / رقم 3631" وغيره عن أبي هريرة. 5 لكن يبقى التوفيق بينه وبين آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فإن الذرية حازت منزلة عالية لم تستحقها بسعيها وإنما جاءت بسعي الآباء. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 اضْطِرَابِهَا، فَانْظُرْهُ فِي "الْإِكْمَالِ"، وَهُوَ مِمَّا يَضْعُفُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا إِذَا لَمْ تُعَارِضْ أَصْلًا قَطْعِيًّا، فَكَيْفَ إِذَا عَارَضَتْهُ؟ وَأَيْضًا، فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ قَالَ فِي حَدِيثِ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" 1: إِنَّهُ لَمْ يُرْوَ إِلَّا مِنْ طريق عائشة، وقد تركته لم تَعْمَلْ بِهِ وَأَفْتَتْ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ الَّتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ: إِنَّهُ لَا يَرْوِيهِ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ خَالَفَهُ وَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ2. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ عَلَى أَقْوَالٍ3 فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ مَا صَحَّ مِنْهَا بِإِطْلَاقٍ، كَأَحْمَدَ بن حنبل، ومنهم مَنْ قَالَ بِبَعْضِهَا، فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ دُونَ الصِّيَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ بِإِطْلَاقٍ، كَمَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ، فَأَنْتَ تَرَى بَعْضَهُمْ لَمْ يَأْخُذْ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ صَحَّ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْأَخْذِ بِهَا فِي النَّظَرِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ4، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا فِي الْحَجِّ لِمَكَانِ رَكْعَتِي الطواف؛ لأنها تَبَعٌ، وَيَجُوزُ فِي التَّبَعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، كَبَيْعِ الشَّجَرَةِ بِثَمَرَةٍ قَدْ أُبِّرَتْ، وَبَيْعِ الْعَبْدِ بِمَالِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْمَنْعِ فِي الأعمال القلبية.   1 مضى تخريجه "ص387". 2 الحديث الذي يعمل راويه على خلافه وظهر أنه بما خالفه عن اجتهاد لا يسقط الاحتجاج به اتفاقا، وجرى الخلاف فيما إذا لم يعلم وجه عمله على خلافه، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى سقوط الاحتجاج به؛ مستندة إلى أن الراوي إنما خالفه لدليل يقضي بتعطيله، والراجح القول بأن العبرة بالرواية، وأن مذهب الراوي لا يؤثر عليها شيئا، لاحتمال أن يكون إنما خالفها عن اجتهاد منه. "خ". قلت: ونقل المصنف عن الطحاوي من كتابه: "شرح مشكل الآثار" 6/ 176- ط المحققة" بتصرف. 3 في "ط": "على قولين". 4 في "أحكام القرآن" "1/ 228، 289". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وَالثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الْأَحَادِيثَ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ تَرْكَ اعْتِبَارِهَا مُطْلَقًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنِ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ وَالصَّوْمِ، فَأَنْفَذُوا مَا سُئِلُوا فِيهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَيْرًا، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جازٍ عَنِ الْمَنُوبِ عَنْهُ1، وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا: فَإِنْ عَمِلَهُ فَهُوَ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 39] . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ خَاصَّةً بِمَنْ كَانَ لَهُ تَسَبُّبٌ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، كَمَا إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ سَعْيٌ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 39] وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: "صَامَ عَنْهُ وَلَيُّهُ" مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَهُوَ الصَّدَقَةُ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَارَةً يَكُونُ بِمِثْلِ الْمَقْضِيِّ، وَتَارَةً بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ2، وَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ الْإِطْعَامُ، وَفِي الْحَجِّ النَّفَقَةُ عمن يحج عنه، أو   1 لكن هذا يبعده قوله عليه الصلاة والسلام،: "أرأيت لو كان على أبيك دين .... " إلى أن قال: "فدين الله أحق أن يقضى". "د". قلت: ونحو المذكور عند ابن العربي في "أحكامه" "1/ 289"،والقرطبي في "تفسيره "4/ 152". ومما يبعده استحالة أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم السائلين على خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجوا وصوموا، ويجزئ ذلك عمن فعلتموه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك، هذا ما لا يكون أبدا، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. انظر: "مقاصد المكلفين" "ص276". 2 مثله في "العناية شرح الهداية" "2/ 360"، والمذكور ضعيف؛ إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، ومكلف بأن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فهل يمكن بعد ذلك أن يعبر بالصيام عن الإطعام على سبيل المجاز، ولكل منهما مدلول شرعي ولغوي يغاير الآخر، فهل هذا يناسب الفصاحة، أم يناسب البيان؟ وهو تعبير يوقع المكلفين في حيرة وارتباك، ولذا قال النووي في "المجموع" "6/ 429" عقبه -ونقله عن بعض الشافعية المنتصرين للقول الجديد في مذهبهم: "تأويل باطل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى قِلَّتِهَا مُعَارِضَةٌ لِأَصْلٍ ثَابِتٍ فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ، وَلَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ وَلَا الْمَعْنَوِيِّ، فَلَا يُعَارِضُ الظَّنُّ الْقَطْعَ، كَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُعَارِضُهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ أَصْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ1، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ نُكْتَةُ الْمَوْضِعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِيهِ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ تَضْعِيفٌ لِمُقْتَضَى التَّمَسُّكِ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ وُضِّحَ مَأْخَذُ هَذَا الْأَصْلِ الْحَسَنِ2، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي مَسْأَلَةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ هِبَةِ الثواب، وفيها نظر.   1 روى المدنيون والمغاربة عن الإمام مالك أن الخبر مقدم على القاعدة، وروى عنه البغداديون تقديم القاعدة المقطوع بها إذا تعذر الجمع بينها وبين الحديث وسيأتي للمصنف في أوائل كتاب الأدلة ناقلا عن ابن العربي أن مشهور قول مالك والذي عليه المعول أن الحديث المعارض لقاعدة إِنْ عَضَّدَتْهُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى قَالَ بِهِ، وَإِنْ كان وحده تركه. "خ". 2 الأحسن منه أن يقال: إن رد الأحاديث ليس بجيد، ويصار إلى ما ذكره المصنف وأبو العباس القرطبي قبله، فيما نقله عنه ابن حجر في "فتح الباري" "4/ 70" إذا لم يمكن التوفيق، وهنا يمكن التوفيق، كما تراه في "تهذيب السنن" "3/ 272" لابن القيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 فَلِلْمَانِعِ1 أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ2: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهِبَةَ إِنَّمَا صَحَّتْ فِي الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْمَالُ، وَأَمَّا فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ، فَلَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا3 دَلِيلٌ، فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ الشَّارِعِ كَالْمُسَبِّبَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النِّسَاءِ: 13] . ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] 4} [النِّسَاءِ: 14] . وَقَوْلُهُ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14] .   1 المانعون الشافعية والحنابلة، غير أنهم فرقوا بين ما تصح فيه النيابة فيجوز التبرع بثوابها، وما لا تصح فيه النيابة فلا يصح التبرع به، مع ميل متأخريهم إلى جواز التبرع بالكل، انظر في ذلك: "الروح" لابن القيم، و"حاشية قليوبي وعميرة" "3/ 175-176"، و"حاشية الدسوقي" "2/ 10"، و"التذكرة" للقرطبي- مع تعليقنا عليه- و"الفروق" "3/ 194"، و"إفادة الطلاب بأحكام القراءة على الموتى ووصول الثواب"، وذكر فيه الجواز، وانظر المنع وأدلته القوية في "نيل الأوطار" "4/ 79"، و"فتاوى العز بن عبد السلام" "ص95-97"، و"تفسير المنار" "8/ 254-270"، و" أحكام الجنائز" "ص219 وما بعدها - ط المعارف". 2 وهنالك وجه ثالث، وهو قوي جدا، ولا سيما على قواعد المصنف، وهو قول ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" "ص54": "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرءوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل". 3 في "ط": "عليها". 4 زيادة من الأصل، وفيه وفي "خ" و"ط": "ندخله" بالنون، أي: المواطنين، وهي قراءة نافع وابن عامر، كما في السبعة في القراءات" "ص228". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [النَّحْلِ: 32] . وَهُوَ كَثِيرٌ. وَهَذَا أَيْضًا كَالتَّوَابِعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَبَوِّعَاتِ، كَاسْتِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ مَعَ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَاسْتِبَاحَةِ الْبِضْعِ مَعَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلَا خِيَرَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَفَضُّلٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَامِلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، اقْتَضَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَيْسَ لِلْعَامِلِ فِيهِ نَظَرٌ وَلَا اخْتِيَارٌ، وَلَا فِي يَدِهِ مِنْهُ شيء، فإذن لَا يَصِحُّ فِيهِ تَصَرُّفٌ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَلَيْسَ فِي الْجَزَاءِ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ لِلْعَامِلِ تَصَرُّفٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، كَمَا لَا يَصِحُّ لِغَيْرِهِ. وَلِلْمُجِيزِ1 أَنْ يَسْتَدِلَّ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَدِلَّتَهُ مِنَ الشَّرْعِ هِيَ الْأَدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا، إِمَّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ عُمُومِهَا أَوْ إِطْلَاقِهَا، وَإِمَّا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِ وَالثَّوَابِ عِوَضٌ مُقَدَّرٌ، فَكَمَا جَازَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّدَقَةِ عَنِ الْغَيْرِ أَنَّهَا هِبَةُ الثَّوَابِ2، لَا يَصِحُّ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، صَحَّ وُجُودُ الدَّلِيلِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمَنْعِ وَجْهٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْجَزَاءِ مَعَ الْأَعْمَالِ كَالْمُسَبِّبَاتِ مَعَ الْأَسْبَابِ، وَكَالتَّوَابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ، يَقْضِي بِصِحَّةِ الْمِلْكِ لِهَذَا الْعَامِلِ، كَمَا يَصِحُّ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ صَحَّ التَّصَرُّفُ بِالْهِبَةِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الثَّوَابَ لَا يُمْلَكُ كَمَا يُمْلَكُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يكون في الدار.   1 وهذا مذهب الحنفية، كما في "فتح القدير" "3/ 142"، والحنابلة، كما في "المغني" "2/ 567". 2 أين هذا؟ فالذي تقدم أنها من باب التصرف المالي، فكأنه أعطى المال للمتصدق عليه، وناب عنه في صرفه فقط، فقد ملكه المال نفسه، والثواب شيء آخر. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 الْآخِرَةِ فَقَطْ، وَهُوَ النَّعِيمُ الْحَاصِلُ هُنَالِكَ وَالْآنَ لَمْ يُمْلَكْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِمَّا أَنْ يُمْلَكَ هُنَا مِنْهُ شَيْئًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الْآيَةَ [النَّحْلِ: 97] ، فَذَلِكَ بِمَعْنَى1 الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ أَنَّهُ يَنَالُ فِي الدُّنْيَا طِيبَ عَيْشٍ مِنْ غَيْرِ كَدَرٍ مُؤَثِّرٍ فِي طِيبِ عَيْشِهِ، كَمَا يَنَالُ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا النَّعِيمَ الدَّائِمَ، فَلَيْسَ لَهُ أَمْرٌ يَمْلِكُهُ الْآنَ حَتَّى تَصِحَّ هِبَتُهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَصِحُّ حَوْزُهَا وَمِلْكُهَا الْآنَ. لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْجَزَاءِ، فَقَدْ كُتِبَ لَهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَقَرَّ لَهُ مِلْكًا بِالتَّمْلِيكِ، وَإِنْ لَمْ يَحُزْهُ الْآنَ، وَلَا يَلْزَمْ مِنَ الْمِلْكِ الْحَوْزِ، وَإِذَا صَحَّ مِثْلُ هَذَا الْمَالِ، وَصَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا، صَحَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ، مَا وَرِثْتُهُ مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ وَهَبْتُهُ لِفُلَانٍ، وَيَقُولُ: إِنِ اشْتَرَى لِي وَكِيلِي عَبْدًا، فَهُوَ حُرٌّ أَوْ هِبَةٌ لِأَخِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَوْزِهِ، وَكَمَا يَصِحُّ هَذَا التَّصَرُّفُ فِيمَا بِيَدِ الْوَكِيلِ فِعْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُوَكِّلُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحُوزَهُ مِنْ يَدِ الْوَكِيلِ، يَصِحُّ أَيْضًا التَّصَرُّفُ بِمِثْلِهِ فِيمَا هُوَ بِيَدِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ2، فَقَدْ وَضَحَ إِذَا مَغْزَى النَّظَرِ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، والله الموفق للصواب.   1 أي من بابه، وشبيه به. "د". 2 في كلامه هذا نظر؛ لأنه جعل ملك الحسنات كملك الأعيان، ولعل الأولى أن يقال: إن الثواب كما يكون ثمرة عمل الإنسان قد يكون ثمرة عمل غيره، إذا ناب عنه بعد إذن الشرع، على الرغم ما فيه!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِي الْأَعْمَالِ1 دَوَامُ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَاضِحٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُون} [المعارج: 22-23] . وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [الْبَقَرَةِ: 3] . وَإِقَامُ الصَّلَاةِ بِمَعْنَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا بِهَذَا فُسِّرَتْ الْإِقَامَةُ حَيْثُ ذُكِرَتْ مُضَافَةً إِلَى الصَّلَاةِ، وَجَاءَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْأَمْرُ بِهِ صَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ [كَثِيرَةٍ] 2، كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَةِ: 83] . وَفِي الْحَدِيثِ: "أحب العمل إلى الله ما داوم صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" 3. وَقَالَ: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تملوا" 4.   1 أي: أعمال العبادات التي تتكرر أسبابها، أما زكاة وجبت هذا العام لحصول النصاب ولم يحصل في العام بعده، فلا، وهكذا يقال في غيرها، فهو ظاهر في العبادات المذكورة. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". 3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب من نام عند السحر، 3/ 16/ رقم 1132، وكتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل 11/ 294/ رقم 6461، 6462" ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب في صلاة الليل، 1/ 511/ رقم 741" عن عائشة نحوه بألفاظ متقاربة، منها: "كان أحب العمل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يدوم عليه صاحبه". وأخرج البخاري برقم "6464، 6467" عنها ضمن حديث: "وأن أحب الأعمال أدومها وإن قل". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782"، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً1. وَأَيْضًا، فَإِنَّ فِي تَوْقِيتِ الشَّارِعِ وَظَائِفُ الْعِبَادَاتِ، مِنْ مَفْرُوضَاتٍ وَمَسْنُونَاتٍ، وَمُسْتَحَبَّاتٍ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةِ الْأَسْبَابِ ظَاهِرَةٍ وَلِغَيْرِ أَسْبَابٍ، مَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْقَطْعِ بِقَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى إِدَامَةِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الَّذِينَ تَرَهَّبُوا: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الْحَدِيدِ: 27] ، إِنَّ عَدَمَ مُرَاعَاتِهِمْ لَهَا هُوَ تَرْكُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا وَالِاسْتِمْرَارِ. فَصْلٌ: فَمِنْ هُنَا يُؤْخَذُ حُكْمُ مَا أَلْزَمَهُ الصُّوفِيَّةُ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْأَوْرَادِ فِي الْأَوْقَاتِ، وَأُمِرُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقٍ، لَكِنَّهُمْ قَامُوا بِأُمُورٍ لَا يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُمْ، فَالْمُكَلَّفُ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي عَمَلٍ غَيْرِ وَاجِبٍ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى سُهُولَةِ الدُّخُولِ فِيهِ ابْتِدَاءً حَتَّى يَنْظُرَ فِي مَآلِهِ فِيهِ، وَهَلْ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ طُولَ عُمْرِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ شِدَّةِ التَّكْلِيفِ فِي نَفْسِهِ، بِكَثْرَتِهِ أَوْ ثِقَلِهِ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: مِنْ جهة المداومة عليه وإن كن فِي نَفْسِهِ خَفِيفًا. وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهَا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهَا خَفِيفَةٌ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا مَعْنَى الْمُدَاوِمَةِ ثَقُلَتْ، وَالشَّاهِدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ   1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها ضمن حديث طويل، وفيه: "وكان إذا صلى صلاة داوم عليها" ومضى لفظه في التعليق على "1/ 526". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [الْبَقَرَةِ: 45] ، فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً حَتَّى قَرَنَ بِهَا الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ، وَاسْتَثْنِي الْخَاشِعِينَ فَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهِمْ كَبِيرَةً، لِأَجْلِ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءِ الَّذِي هُوَ حَادٍ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} الآية: [البقرة: 46] ، فَإِنَّ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ يُسَهِّلَانِ الصَّعْبَ، فَإِنَّ الْخَائِفَ مِنَ الْأَسَدِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ تَعَبُّ الْفِرَارِ، وَالرَّاجِي لِنَيْلِ مَرْغُوبِهِ يَقْصُرُ عَلَيْهِ الطَّوِيلُ مِنَ الْمَسَافَةِ، وَلِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي الْفِعْلِ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِمْرَارِ وُضِعَتِ التَّكَالِيفُ عَلَى التَّوَسُّطِ وَأُسْقِطَ الْحَرَجُ، وَنُهِيَ عَنِ التَّشْدِيدِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى"1، وَقَالَ: "مَنْ يُشَادُّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ" 2، وَهَذَا يَشْمَلُ التَّشْدِيدَ بِالدَّوَامِ، كَمَا يَشْمَلُ التَّشْدِيدَ بِأَنْفَسِ الأعمال، والأدلة على هذا المعنى كثيرة3.   1 مضى تخريجه بإسهاب في "ص236". 2 مضى تخريجه 251". 3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 623". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِالْخِطَابِ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا الطَّلَبِيَّةِ1 بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا يُحَاشَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا مُكَلَّفٌ الْبَتَّةَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ وَاضِحٌ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الْمُتَضَافِرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَأٍ: 28] 2. وَقَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] . وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "بُعِثْتُ إلى الأحمر والأسود" 3.   1 تغليب على الإباحة، وإلا، فهي حكم شرعي لا اختصاص فيه أيضا، ويبقى الكلام فيما يقابل الطلبية، وهو الوضعية، ولا يظهر أنه يقصد الاحتراز عنها؛ إذ كون الزوال سببا في وجوب الظهر عام لا يختص به مكلف دون آخر ما دام شرط التكليف موجودا، ومثله يقال في بقيتها، تراجع المسألة الأولى في خطاب الوضع. "د". 2 لأن المعنى على المشهور: وما أرسلناك بهذه الشريعة إلا للناس كافة، فالشريعة مأمور بتبليغها للناس كافة، وفي آية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} دلالة على وجوب تبليغ جميع الشريعة، فالجمع بين الآيتين يقتضي المطلوب في المسألة، أما الآيات هنا وحدها، فربما يتوقف في إفادتها للمطلوب؛ لأنه ما المانع من أن يكون مرسلا لجميع الناس، ولكن على توزيع المرسل به، فيكون البعض للبعض، وهذا إنما يمنع منه وجوب تبليغ جميع المرسل به للجميع، وإنما يؤخذ من الآيتين كما أشرنا إليه، فتأمل، وقد يقال: إن حذف المعمول يؤذن بالعموم، والمعمول هو قولنا: "بهذه الشريعة" فتكفي كل واحدة من هذه الآيات هنا في إفادة المطلوب. "د". 3 قطعة من حديث أوله: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي .... "، وفيه: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" أخرجه مسلم في "الصحيح "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وَأَشْبَاهِ هَذِهِ النُّصُوصِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَةَ عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مُخْتَصًّا بِمَا لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُ1، لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا لِلنَّاسِ جَمِيعًا؛ إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ أَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مُرْسَلًا2 بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالِهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ، فَظَاهِرُ الْأَمْرِ فِيهِ3. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَالْعِبَادُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ مِرْآةٌ4، فَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْخُصُوصِ، لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ بِإِطْلَاقٍ، لَكِنَّهَا كَذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ أَحْكَامَهَا عَلَى الْعُمُومِ لَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا مَا كَانَ اخْتِصَاصًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِي} إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] .   1 أي: بما لم يخاطب به غيره، أما تعبيره، ففيه نبو عن الغرض. "د". قلت: انظر في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: "إيضاح الدلالة على عموم الرسالة" لابن تيمية، ضمن "مجموع الفتاوى" "19/ 9-65"، و"الرسال المنيرية" "2/ 99-152"، و"الدلالة على عموم الرسالة" للسبكي، مضمن في "فتاويه" "2/ 594-625"، و"غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن الملقن "ص259". 2 بالتأمل نراه يدخل في الدليل عموم المتعلق، وهو ما أشرنا إليه بقولنا: "بهذه الشريعة"، فدليله متوقف على هذا؛ إذ مجرد كون المرسل إليهم الناس جميعا لا يكفي إلا بمراعاة العموم أيضا فيما هو مرسل به. "د". 3 أي: فما فيه من الأحكام الطلبية متوجه إلى أوليائهم. "د". 4 أي: تنطبع فيهم هذه المصالح على السواء؛ لأنهم مطبوعون بطابع النوع الإنساني المتحد في حاجياته وضرورياته وما يكملها. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية [الأحزاب: 51] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ بِهِ بِالدَّلِيلِ، وَيَرْجِعُ إِلَى هَذَا مَا خَصَّ هُوَ بِهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ1 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ، كَاخْتِصَاصِ2 أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ بالتضحية بالعناق   1 لأنه لما شهد للرسول عليه الصلاة والسلام في حادثة الأعرابي في البيع وكان مستنده في الشهادة الإيمان بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، فلأن يكون صادقا في هذه الشئون الصغيرة من باب أولى، فاختصاص خزيمة في هذا رجوع إلى اختصاص الرسول عليه السلام بقبول شهادة واحد له في هذا العقد وصحته، يراجع "إعلام الموقعين" في هذا، وبيانه أن خزيمة تنبه لهذه الحكمة قبل أن يتفطن إليها غيره من الصحابة الحاضرين. "د". قلت: وسيأتي تخريج شهادة خزيمة "ص469"، وهذا نص كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 83-84": "وأما قوله: وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين دون غيره ممن هو أفضل منه، فلا ريب أن هذا من خصائصه، ولو شهد عنده صلى الله عليه وسلم أو عند غيره، لكان بمنزلة شاهدين اثنين، وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي، وكان فرض على كل من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم، وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به، فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا، وهذا لا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا، فلما تفطن خزيمة دون من حضر لذلك، استحق أن تجعل شهادته بشهادتين". 2 بين ابن القيم الحكمة من هذا الاختصاص في كتابه" إعلام الموقعين" "2/ 246" بقوله: "وأما تخصيصه أبا بردة بن نيار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده، فلموجب أيضا، وهو أنه ذبح قبل الصلاة متأولا غير عالم بعدم الإجزاء، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك ليست بأضحية وإنما هي شاة لحم، أراد إعادة الأضحية، فلم يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شاتي لحم، فرخص له في التضحية بها لكونه معذورا، وقد تقدم منه ذبح تأول فيه وكان معذورا بتأويله وذلك كله قبل استقرار الحكم، فلما استقر الحكم، لم يكن بعد ذلك يجزئ إلا ما وافق الشرع المستقر، وبالله التوفيق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 الْجَذَعَةِ، وَخَصَّهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" 1، فَهَذَا لَا نَظَرَ فِيهِ؛ إِذْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّصُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فِي مَوَاضِعِهِ2 إِعْلَامًا بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ خَارِجَةٌ عَنْ قَانُونِ الِاخْتِصَاصِ. وَالثَّالِثُ: إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِذَلِكَ صَيَّرُوا أَفْعَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً لِلْجَمِيعِ فِي أَمْثَالِهَا، وَحَاوَلُوا فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ وَلَيْسَ لَهَا صِيَغٌ عَامَّةٌ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْعُمُومِ، إِمَّا بِالْقِيَاسِ، أَوْ بِالرَّدِّ إِلَى الصِّيغَةِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَاوَلَاتِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي النَّازِلَةِ الْأَوْلَى مُخْتَصًّا بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر، 2/ 447-448/ رقم 955، وباب الخطبة بعد العيد، 2 / 453/ رقم 965، وباب التبكير إلى العيد، 2/ 456/ رقم 968، وباب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، 2/ 471/ رقم 983، وكتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، 10/ 3/ رقم 5545، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك"، 10/ 12/ 5556، 5557، وباب الذبح بعد الصلاة، 10/ 19/ رقم 5560، وباب من ذبح قبل الصلاة أعاد 10/ 20 / رقم 5563"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب وقتها، 3/ 1552/ رقم 1961"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة، 4/ 93/ رقم 1508"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يجوز من السن من الضحايا، 3/ 96/ رقم 2800"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الأضاحي، باب ذبح الضحية قبل الإمام، 7/ 222" عن البراء بن عازب مرفوعا. 2 وهي الآية والحديثان، والنص على التخصيص نفسه دليل على أن سائر الشريعة -مما لم ينص فيه على التخصيص- عام "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 37] ، فَقَرَّرَ الْحُكْمَ فِي مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ1 عَامًا في الناس، وتقرير2 صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدٍ لِوُضُوحِهِ عِنْدَ مَنْ زَاوَلَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ3. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ خِطَابُ الْبَعْضِ4 بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَخُصَّ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ بَعْضَ النَّاسِ، لَجَازَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُخَاطَبُ بِهَا بَعْضُ مَنْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْلِيفِ بِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الأمر، وهذا باطل بإجماع، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَلَا أَعَنِي بِذَلِكَ5 مَا كَانَ نَحْوَ الْوِلَايَاتِ وَأَشْبَاهِهَا، مِنَ الْقَضَاءِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْفُتْيَا فِي النَّوَازِلِ، وَالْعِرَافَةِ وَالنِّقَابَةِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّعْلِيمِ لِلْعُلُومِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّظَرِ فِي شَرْطِ التَّكْلِيفِ بِهَا، وَجَامِعُ الشُّرُوطِ فِي التَّكْلِيفِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَالْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْوَظَائِفِ مُكَلَّفٌ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، فَالتَّكْلِيفُ عام لا خاص،   1 إلا أن في الآية النص على أن هذا الخاص أساس لحكم شرعي عام، فالآية وإن كانت صيغتها خاصة لا عامة، إلا أنها أُعْقِبَت بالنص على ما يفيد العموم، حتى تستفاد الحكمة فيما حصل، ولا يتوهم أنها خصوصية. "د". 2 في النسخ المطبوعة: "وتقرر". 3 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 82 و443 وما بعدها"، والمسألة الخامسة من كتاب "الأدلة الشرعية". 4 في "ط" زيادة بعدها: "دون البعض". 5 أي: ولا أعني بذلك خروج ما كان موهما لتخصيص الخطابات، كالولايات .... إلخ، فإنها داخلة في القاعدة، وهو أنها مكلف بها كل من توفر فيه شرط التكليف بها، كغيرها من سائر التكاليف، فالزكاة مثلا مكلف بها على العموم، ولكن مع مراعاة النصاب مثلا وسائر الشروط كذلك الولايات وفروض الكفايات المتوقفة على شروط، فتعتبر عامة بهذا المعنى، ولو قال: "ولا يخرج عن ذلك ما كان .... إلخ"، لكان أوضح. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 [وَبِسُقُوطِهِ أَيْضًا عَامٌ لَا خَاصٌّ] مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ أَوْ عَدَمِهَا لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي كُلِّ مَا كَانَ مُوهِمًا لِلْخِطَابِ الْخَاصِّ، كَمَرَاتِبِ1 الْإِيغَالِ فِي الْأَعْمَالِ، وَمَرَاتِبِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الدِّينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَهَذَا الأصل يتضم فَوَائِدَ عَظِيمَةً: - مِنْهَا: أَنَّهُ يُعْطَى قُوَّةً عَظِيمَةً فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِبَعْضِ النَّاسِ وَالْحُكْمِ الْخَاصِّ كَانَ وَاقِعًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا، وَلَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِدَلِيلٍ عَامٍ يَعُمُّ أَمْثَالَهَا مِنَ الْوَقَائِعِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ- إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخُصُوصُ الْوَاقِعُ غَيْرَ مُرَادٍ، وَلَيْسَ فِي الْقَضِيَّةِ لَفْظٌ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي إِلْحَاقِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ بِالْمَذْكُورِ، فَأَرْشَدَنَا ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ إِذْ ذَاكَ أَنْ يُلْحَقَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ، وَتَأَيَّدَ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَانْشَرَحَ الصَّدْرُ لِقَبُولِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا يُبْسَطُ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. - وَمِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَمْ يَتَحَقَّقُ بِفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ يَظُنُّ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ جَرَتْ عَلَى طَرِيقَةٍ غَيْرِ طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهُمُ امْتَازُوا بِأَحْكَامٍ غَيْرِ الْأَحْكَامِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُرَشِّحُونَ ذَلِكَ2 بِمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَجِبُ فِي زكاة كذا،   1 تقدم له أن الناس في ذلك على ضربين: مسقط لحظوظه، وآخذ لها على وجهها الشرعي، أي، فليس الأول مخاطبا بما لم يخاطب به الثاني، حتى يعد من باب تخصيص الخطاب في الشريعة. "د". 2 أي: يصلحونه ويربونه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 فَقَالَ: عَلَى مَذْهَبِنَا أَوْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ؟ ثُمَّ قَالَ: أمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا، فَالْكُلُّ لِلَّهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ، فَكَذَا وَكَذَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ افْتَرَقَ النَّاسُ فِيهِمْ فَمِنْ مصدِّق بِهَذَا الظَّاهِرِ، مُصَرِّحٍ بِأَنَّ الصُّوفِيَّةَ اخْتُصِّتْ بِشَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ أَعْلَى مِمَّا بُثَّ فِي الْجُمْهُورِ، وَمِنْ مُكَذِّبٍ وَمُشَنِّعٍ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ وَيَنْسِبُهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَالْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي طَرَفٍ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ دَاخِلٌ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْخَلْقِ، كَمَا تَبَيَّنَ آنِفًا، وَلَكِنَّ رُوحَ الْمَسْأَلَةِ الْفِقْهُ فِي الشَّرِيعَةِ1، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ أُبِيحُ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَمْ تُبَحْ لِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ ترقَّوا عَنْ رُتْبَةِ الْعَوَامِّ الْمُنْهَمِكِينَ فِي الشَّهَوَاتِ، إِلَى رُتْبَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ سُلِبُوا الِاتِّصَافَ بِطَلَبِهَا وَالْمَيْلِ إِلَيْهَا، فَاسْتَجَازُوا لِمَنِ ارْتَسَمَ فِي طَرِيقَتِهِمْ إِبَاحَةَ بَعْضِ الْمَمْنُوعَاتِ فِي الشَّرْعِ بِنَاءً عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ عَنِ الْجُمْهُورِ، فَقَدْ ذُكِرَ نَحْوُ هَذَا فِي سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَإِنْ قُلْنَا بِالنَّهْيِ عَنْهُ2، كَمَا أَنَّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنِ اسْتَبَاحَ شُرْبَ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى قَصْدِ التَّدَاوِي بِهَا، وَاسْتِجْلَابِ النَّشَاطِ فِي الطَّاعَةِ، لَا عَلَى قَصْدِ التَّلَهِّي، وَهَذَا بَابٌ فتحته الزنادقة بقولهم: إن   1 وما تقدم له في مراتب الإيغال في الأعمال وأن الناس على ضربين، فيه فقه المسألة، وأنهم كغيرهم داخلون تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق. "د". 2 نقل المصنف عن مالك أنه سئل عن قوم يقال لهم: الصوفية يأكلون كثيرا ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا أو صبيا. ثم قال المصنف: "إن ذلك من البدع المحرمات الموقعة في الضلالة المؤدية إلى النار والعياذ بالله". انظر: "المعيار المعرب" "11/ 39 وما بعدها"، و"منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية" "ص188"، و"فتاوى الشاطبي" "ص193"، و"ترتيب المدارك" "2/ 53-54". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 التَّكْلِيفَ خَاصٌّ بِالْعَوَامِّ سَاقِطٌ عَنِ الْخَوَاصِّ1، وَأَصْلُ هَذَا كُلُّهُ إِهْمَالُ النَّظَرِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فليُعتَنَ به، وبالله التوفيق ....   1 دس هذه المقالة بعض الزنادقة وسعى في ترويجها الفساق من المدعين للولاية، حتى يجدوا مسرح الشهوات واسع المجال بعيد ما بين الجوانب، وانطلت هذه الدسيسة على كثير من الأغبياء، فطرحوا من أيديهم أن يزنوا سيرة المدعي للولاية بميزان الشريعة، ومما ساعد على انتشار هذه الضلالة الهادمة لقانون الشرع أن بعض المنتسبين للعلم يهابون التعرض لكل من ادعى الولاية بحاله أو مقاله، وما هو إلا ضعف البصيرة، وقلة الرسوخ في العلم بحقائق الدين التي يضمحل أمامها كل باطل، وتسقط تجاهها كل دعوى مزيفة. "خ". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 432-446، 11/ 170-171، 225-227"، وتعرض شيخ الإسلام ابن تيمية إلى بسط ما أجمله المصنف في "درء تعارض العقل والنقل" و"منهاج السنة النبوية" و"الصفدية" وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: كَمَا أَنَّ الْأَحْكَامَ وَالتَّكْلِيفَاتِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ، كَذَلِكَ الْمَزَايَا وَالْمَنَاقِبِ1، فَمَا مِنْ مَزِيَّةٍ أُعْطِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَا وَقَعَ اسْتِثْنَاؤُهُ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَتْ أُمَّتُهُ مِنْهَا أُنْمُوذَجًا2، فَهِيَ عَامَّةٌ كَعُمُومِ التَّكَالِيفِ، بَلْ قَدْ زَعَمَ ابن العربي أن سنة الله   1 المزايا: جمع مزية، وهي في كل شيء التمام والكمال، ويقال: له عندي مزية، أي: فضيلة ومنزلة ليست لغيره، والمناقب: جمع منقبة، وهي المفخرة ضد المثلبة. "ماء/ ص201". 2 ما من نبي إلا وهو سلالة قومه وخلاصة عنصرهم، كما تخرج زهرة من غصن شجرة، أو جوهرة من بطن حجر، فهو جامع لأشتات محاسنهم، طاهر من أدناسهم، فإن لكل قوم محاسن ومساوئ مختلفة كما ترى ذلك في أنواع خلق الله تعالى، وهذا هو أقرب من سنن الفطرة كما هو أولى بالحكمة، ولذلك ترى النبي سبق إليه من قومه أكرمهم وأطهرهم، ومن ههنا فضل السابقين من المؤمنين، كأن الله تعالى أطلع نورا من الأفق، فأشرق أولا على أعلى الشواهق ثم الأقرب فالأقرب، وأنزل ماء من السماء، فاخضرت من الأرض أولا أخصبها، فهكذا تتنبه الأمة في ذات نبيها، ثم في ذوات الصديقين والشهداء والصالحين منهم وأتباعهم، فإذا كمل وتم زمان النماء جمع الحب وأُلقِي العصف في النار. ومن ههنا تبينت لك حكمة الصبر الشديد للنبي وأصحابه؛ لكيلا يبقى في الكافرين والمنافقين من فيه مثقال حبة من الإيمان، فإذا محَّص الله المؤمنين أهلك الكافرين، وفي هذا التمحيص أيضا يخرج من بين المؤمنين من دخل فيه بغير نور، وصرح بذلك القرآن في غير موضع، وتفصيل منه في باب المعجزات. فإذا كان النبي سلالة قومه كان هو وقومه كمرآتين على جانبيك، ترى بعضهم في بعض، فإن رأيت أن النبي على غاية علو الهمة وسعة التدبير تيقنت أن قومه أحرارٌ أذكياء، وهكذا إن علمت من قومه أحسن أخلاقه، تيقنت أن نبيهم جامع لها، وهذا يعطيك مفتاحًا لفهم سيرة أمة ونبيها، فتستدل من بعضهما إلى بعض، ثم تستدل بذلك في فهم شريعة أمة؛ لأنها تنزل حسب استعداد الأمة كما قال تعالى في سورة المائدة بعد ما ذكر إنزال التوراة والإنجيل والقرآن: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] حسب عموم سنته كما جاء في آخر سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [الأنعام: 165] ، فلا يبتلي الله الأمة إلا فيما آتاهم، فلذلك جعل شرائع كل أمة حسب حالها، ومن هذه الجهة اختلافهم، وجاءت أكمل الشرائع لأكمل الأمم، أفاده الفراهي في "القائد إلى العقائد" "ص133-134". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 جرت أنه إذا أَعْطَى اللَّهُ نَبِيًّا شَيْئًا أَعْطَى أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَأَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةً؛ وَمَا قَالَهُ يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ. أَمَّا أَوَّلًا؛ فَالْوِرَاثَةُ الْعَامَّةُ1 فِي الِاسْتِخْلَافِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَتَعَبَّدَ الْأُمَّةُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَمَا حُدَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِنْبَاطٍ، وَكَانَتْ تَكْفِي الْعُمُومَاتُ وَالْإِطْلَاقُ حَسْبَمَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ منَّ عَلَى الْعِبَادِ بِالْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي خَصَّ بِهَا نَبِيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ إِذْ قَالَ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} [النِّسَاءِ: 105] . وَقَالَ فِي الْأُمَّةِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النِّسَاءِ: 83] . وَهَذَا وَاضِحٌ، فَلَا نطوِّل بِهِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، نَقْتَصِرُ مِنْهَا عَلَى ثَلَاثِينَ وَجْهًا: أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ تَعَالَى فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} الآية [الأحزاب: 56] . وَقَالَ فِي الْأُمَّةِ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} الآية [الأحزاب: 43] .   1 في نسخة "ماء/ ص202" زيادة بعدها: "في الاستقراء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 وَقَالَ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [الْبَقَرَةِ: 157] . وَالثَّانِي: الْإِعْطَاءُ إِلَى الْإِرْضَاءِ، قَالَ تَعَالَى فِي النَّبِيِّ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحَى: 5] . وَقَالَ فِي الْأُمَّةِ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الْحَجِّ: 59] . وَقَالَ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [الْمَائِدَةِ: 119] . وَالثَّالِثُ: غُفْرَانُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الْفَتْحِ: 2] . وَفِي الْأُمَّةِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ: هَنِيئًا مَرِيئًا، فَمَا لَنَا؟ فَنَزَلَ1: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الْفَتْحِ: 5] ، فعمَّ مَا تقدم وما تأخر.   1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 7/ 450-451/ رقم 4172" ثني أحمد بن إسحاق ثنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} ، قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} . قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت، فذكرت له، فقال: أما {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} فعن أنس، وأما "هنيئا مريئا" فعن عكرمة. وأخرجه هكذا من طريق عثمان بن عمر البيهقي في "الدلائل" "4/ 157". وأخرجه مختصرا دون ذكر سبب النزول الذي أورده المصنف البخاري في "صحيحه"، كتاب التفسير، باب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 8/ 583/ رقم 4834"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية 3/ 1413/ رقم 1786" من طرق عن قتادة. وأخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد، عن شعبة، وجمع في الحديث بين أنس وعكرمة، وساقه مساقا واحدا، أفاده ابن حجر في "الفتح" "7/ 451". = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 والرابع: وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى إِتْمَامُ النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الْفَتْحِ: 2] . وَقَالَ فِي الْأُمَّةِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} الآية [المائدة: 6] .   = قلت: وساقه مساقا واحدا عن شعبة خالد الحذاء، كما عند النسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 2/ 304/ رقم 522"، وحرمي بن عمارة، كما في "المستدرك" "2/ 459"، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "26/ 70" من طريق محمد بن جعفر غِندر، عن شعبة، وذكره كما عند المصنف عن عكرمة مرسلا، واختلف عليه فيه، فرواه بعضهم عنه بسياقة واحدة دون تفصيل، كما تراه عند ابن جرير "26/ 70"، واختلف على معمر فيه، فرواه ابن ثور عنه عن قتادة مرسلا، كما عند ابن جرير في "التفسير" "26/ 70"، وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "3/ 225"، ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الفتح، رقم 3263"، وأحمد في "المسند" "3/ 197"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 322/ رقم 6410- الإحسان" عن معمر عن قتادة عن أنس مساقا واحدا، فيه المذكور عند المصنف. وكذا ساقه مطولا مع سبب النزول المذكور جماعة عن قتادة عن أنس، منهم: سعيد بن أبي عروبة كما عند أحمد في "المسند" "3/ 215"، وابن جرير في "التفسير" "26/ 69"، والواحدي في "أسباب النزول" "256". والحكم بن عبد الملك، كما عند "المستدرك" "2/ 460". وهمام بن يحيى، كما عند أحمد في "المسند" "3/ 134، 252"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 135-136"، و"أسباب النزول" "256"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 158". واختلف على هؤلاء فيه، وأخرجه مسلم في "صحيحه" عن بعضهم مختصرا دون ذكر سبب النزول، وما أرى الأمر إلا على النحو الذي فصله الإمام البخاري، وقد قدمناه، والتفصيل في الكتب التي أفردت عن المدرج مثل كتاب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني، كما ذكر هو في "الفتح" "7/ 451". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وَالْخَامِسُ: الْوَحْيُ وَهُوَ النُّبُوَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} [النِّسَاءِ: 163] ، وَسَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدٍ، وَفِي الْأُمَّةِ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ 1 مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا من النبوة" 2.   1 إذا كان معنى الحديث أن الرؤيا كانت له عليه الصلاة والسلام قبل الوحي ستة أشهر، يري فيها رؤيا صادقة كفلق الصبح، ثم جاء الوحي بعدها، ومجموع ذلك مع الوحي ثلاث وعشرون سنة على قول، أو أن الوحي بعد الأشهر الستة ثلاث وعشرون سنة، فتكون نسبة الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من زمن النبوة والوحي، فعليه لا يكون في الحديث ما يدل على مُدَّعَاه؛ إذ ليس الغرض أن النبوة تتجزأ إلى هذه الأجزاء والرؤيا جزء منها، فهو غير معقول في ذاته أن تكون الرؤيا الصادقة جزء من نبوة الوحي مهما صغر هذا الجزء؛ لأن للنبوة ماهية شرعية لا يندرج فيها جزئي بمجرد الرؤيا الصادقة، وزعم ابن خلدون أن حمل الحديث على النسبة الزمانية بعيد عن التحقيق، ولكنه لم يأتِ في ذلك بمقنع، وما رده به من اختلاف العدد في بعض الروايات لا يفيد، فإن كلامنا في شرح هذه الرواية الصحيحة التي عدها بعضهم متواترة، وكونه لم يثبت أن رؤيا الأنبياء كذلك لا يضر؛ لأننا نحمل الحديث على رؤياه صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، وكانت كفلق الصبح، ودعواه أن الكلام في الرؤيا العامة التي يستوي فيها سائر الخلق لا يظهر. "د". قلت: اعتنى الزركشي في بيان مفردات الأجزاء المذكورة من النبوة، فقال في "البحر المحيط" "1/ 62": "وقد اجتهدت في تحصل الستة والأربعين ما هي، فبلغت منها إلى الآن اثنين وأربعين، وقد ذكرتها في كتاب "الوصف والصفة"، وأنا في طلب الباقي"، وهذا يدل على صحة ما ذكره المصنف، فتأمل، وردَّ ابن حجر في "فتح الباري" "12/ 364 وما بعدها"- وذكر فيه "12/ 366-367" الوجوه الستة والأربعين، فراجع كلامه فإنه كلامه فإنه مهم ومفيد- ما اعتمده "د"، فانظر كلامه. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة 12/ 373/ رقم 6987"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب: منه 4/ 1774/ رقم 2264"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب في الرؤيا 4/ 304/ رقم 5018"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرؤيا، باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة "4/ 532/ رقم 2271"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التعبير، باب الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح 4/ 383"، وأحمد في "المسند" "5/ 316، 319" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وَالسَّادِسُ: نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [الْبَقَرَةِ: 144] ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحِبُّ أَنْ يُرَدَّ إِلَى الْكَعْبَةِ1، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الْأَحْزَابِ: 51] ، لَمَّا كَانَ قَدْ حَبَّبَ إِلَيْهِ النِّسَاءَ فَلَمْ يُوقَفْ2 فِيهِنَّ عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ. وَفِي الْأُمَّةِ قَالَ عُمَرُ: "وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوِ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى! فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ،   1 أخرج نحوه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان 1/ 502/ رقم 399"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5 / 207-208/ رقم 2962"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب القبلة 1/ 322-323/ رقم 1010"، وأحمد في "المسند" 4/ 274" عن البراء بن عازب رضي الله عنه. 2 ليس موضوع الآية الإذن بعدم وقوفه عند الأربع التي أذن بها لسائر الأمة بل الكلام4 في موضوع القسم بين نسائه، وما إلى ذلك من تسريح من يشاء وإمساك من يشاء، كما يعلم من مراجعة كتب التفسير، وقد تابعه بعض الناظرين هنا أن الموضوع ما قاله، ولكنه خالفه فيما زعمه من السبب، وهو مصيب في هذه المخالفة لا في الموافقة على معنى الآية، وإن كانوا نسبوا إلى الحسن أنه قال: "تنكح من تشاء من نساء أمتك، وتترك نكاح من تشاء منهن"، وأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب واحدة لا يخطبها غيره حتى يتركها، هكذا نسبوا إليه، ولكنه على ما ترى في عداد الإكثار من الاحتمالات والنقول. "د". وقال "خ": "ليس سبب الإذن له عليه الصلاة والسلام في التزوج بما فوق الأربعة هو محبته للنساء، وإنما أذن له بذلك لمقاصد أخرى كتأكيد الصلة بينه وبين أقاربهم وعشائرهن، وإن يتلقين عنه أحكام الشريعة ولا سيما الأحكام العائدة إلى النساء ما لا يطلع عليه إلا الأزواج، وتعدد زوجاته عليه السلام مما يقوم بها شاهد من شواهد صدقه، فإنهن مع كثرتهن لم يشهدن من حاله في السر إلا ما يطابق استقامته وإرشاداته العلنية، ونحن نرى من يدعي الصلاح كاذبا لا يلبث أن تنكشف سريرته ويفتضح أمره في الغالب على أيدي من يلابسه في بيته من الأزواج أو الخادمات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. قَالَ: وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُ نِسَائِهِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ، فَقُلْتُ: "إنِ انتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللهُ رسولَهُ خَيْرًا منكُنَّ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية1 [التحريم: 5] . وَحَدِيثُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ زَوْجِي ظَاهَرَ مِنِّي، وَقَدْ طَالَتْ صُحْبَتِي مَعَهُ، وَقَدْ وَلَدْتُ لَهُ أَوْلَادًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "قَدْ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ". فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إِلَيْهِ، ثُمَّ عَادَتْ، فَأَجَابَهَا، ثُمَّ ذَهَبَتْ لِتُعِيدَ الثَّالِثَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 2 الآية: [المجادلة: 1] .   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة 1/ 504/ رقم 402، وكتاب التفسير باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} 8/ 168/ رقم 4483، وباب في سورة الأحزاب 8/ 527/ رقم 4790، وباب في سورة التحريم 8/ 660 / رقم 4916"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1865/ رقم 2399" مختصرا عن عمر. 2 ذكر هذا البغوي في "معالم التنزيل" "5/ 323"، والواحدي في "الوسيط" "4/ 259" من غير إسناد. وأصله عند البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 13/ 372" معلقا عن عائشة مختصرا. ووصله النسائي في "المجتبى" "6/ 168"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2063"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2063"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 481"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 5-6"، والواحدي في "أسباب النزول" "273" بسياق فيه تفصيل نحو المذكور وليس فيه: "قد حرمت عليه"، وإسناده صحيح. ولهذا التفصيل شواهد من حديث خويلة -أو خولة- بنت ثعلبة، أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2214، 2215"، وأحمد في "المسند" "6/ 410-411"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 107-108"/ رقم 4279- الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 746"، وابن جرير في = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وَمِنْ هَذَا كَثِيرٌ لِمَنْ تَتَبَّعَ. وَنَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنَ الْإِفْكِ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَتْ، إِذْ قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ1 أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها2.   = "التفسير" "28/ 5"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 616"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 389، 391" بسند ضعيف، فيه معمر بن عبد الله، وهو مجهول. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه البزار في "المسند" "رقم 1513- زوائده"، والطبراني في "الكبير" "11/ رقم 11689"، وابن جرير في "التفسير" "28/ 3-4"، والبيهقي في الكبرى" "7/ 392"، وذكره مفصلا، وفيه أبو حمزة الثمالي، وزاد في متن الحديث ما خالف فيه الثقات، وهو لين. وأخرجه من حديث ابن عباس مختصرا دون تعيين للرجل ولا للمرأة: أبو داود في "السنن" "رقم 2223"، والنسائي في "المجتبى" "6/ 167"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1199"، وابن ماجه في "السنن" رقم "2065"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 747"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 204، والبيهقي في الكبرى" "7/ 386"، بسند حسن، وحسنه ابن حجر في "الفتح" "9/ 343"، وليس في هذه الروايات جميعا "قد حرمت عليه"، وفي بعضها نحو التفصيل الوارد. وأخرجه باللفظة المذكورة عبد الرازق في "التفسير" "2/ 277" عن عكرمة مرسلا، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات "8/ 379"، عن عمران بن أبي أنس مرسلا، ولكن ورده فيه هذه اللفظة على لسان المظاهر، وكذا وردت في حديث ابن عباس من رواية أبي حمزة الثمالي عنه، وهو الأشبه والله أعلم. 1 في "ط": "ما كنت أظن ..... ". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} 8/ 454/ رقم 4750" في آخر حديث الإفك الطويل، وقد أفرده يوسف بن عبد الهادي في جزء مفرد، وهو مطبوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وَقَالَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلْيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يبرِّئ ظَهْرِي من الحد. فنزل1: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم} الآية [النور: 6] وَهَذَا خَاصٌّ بِزَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ بِانْقِطَاعِهِ. وَالسَّابِعُ: الشَّفَاعَةُ، قَالَ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] . وَقَدْ ثَبَتَتْ2 شَفَاعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ فِي أُوَيْسٍ: "يُشَفَّعُ في مثل ربيعة ومضر" 3.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 8/ 449/ رقم 4747"، وغيره ضمن حديث طويل عن ابن عباس. 2 في "د": "ثبت". 3 الشفاعة لمثل ربيعة ومضر ثابتة في غير حديث، أحسنها وأصحها ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب: منه 4/ 626/ رقم 2438" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، 2/ 1443-1444/ رقم 4316"، وأحمد في "المسند" "3/ 469، 470, 5/ 366"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "5/ 26"، والطيالسي في "المسند" "2/ 229- التحفة"، والدارمي في "السنن" "2/ 328"، وابن خزيمة في "التوحيد" "313"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 70، 71"، وابن حبان في "الصحيح" "16/ 376/ رقم 7376- الإحسان"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "3/ 196"، والمزي في "تهذيب الكمال" "14/ 359-360" عن عبد الله بن أبي الجدعاء مرفوعا: "ليدخُلَنَّ الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم"، وإسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أحمد في "المسند" "5/ 256، 261، 267"، والآجُرِّي في "الشريعة" "351"، والطبراني في "الكبير" "8/ 169"، عن أبي أمامة مرفوعا: "ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة، ومضر"، ورجاله رجال الصحيح، وفيه عبد الرحمن بن ميسرة، وهو مقبول كما في "التقريب"، وقد توبع، تابعه أبو غالب حزور، أخرجه الطبراني في "الكبير" "8/ 330"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 287"، فإسناد حسن، وكذا قال العراقي فيما نقل عنه المناوي في "فيض القدير" "4/ 130". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 "أئمتكم شفعاؤكم"1، وغير ذلك.   = وهذا الرجل المبهم الثابتة له الشفاعة، قيل: إنه عثمان، وقيل: إنه أويس، ويدل على الثاني ما أخرجه علقمة بن مرثد في "زهد الثمانية من التابعين" "ص74" عن عمر مرفوعا: "يدخل الجنة بشفاعة أويس مثل ربيعة ومضر"، وإسناده متقطع. وما أخرجه ابن عدي في "الكامل" "7/ 2533" عن ابن عباس مرفوعا: "سيكون في أمتي رجل يقال له: أويس بن عبد الله القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر"، وإسناده واهٍ، فيه وهب بن حفص، كل أحاديثه مناكير غير محفوظة، وهو متهم بالوضع، انظر: "تاريخ بغداد" "13/ 488، واللسان" "6/ 234". وما أخرجه أحمد في "الزهد" "343، 344" عن الحسن مرفوعا: "ليخرجن من النار بشفاعة رجل ما هو بنبي أكثر من ربيعة ومضر": قال الحسن: "وكانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه، أو أويس القرني رضي الله عنه"، وفي رواية أخرى: "قال هشام: فأخبرني حوشب عن الحسن، قال: هو أويس القرني". وأخرج الترمذي في "الجامع" "رقم 2439" من مرسل الحسن أنه عثمان أيضا، وترى ذلك مبسوطا في ترجمته في "تاريخ دمشق"، والله الموفق. والخلاصة: الحديث صحيح من غير ذكر تعيين أويس والله أعلم. 1 قال العراقي "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 175- مع شرحه "إتحاف السادة": "أخرجه الدارقطني والبيهقي، وضعف إسناده من حديث ابن عمر، والبغوي وابن قانع والطبراني في "معاجمهم"، والحاكم من حديث مرثد بن أبي مرثد نحوه، وهو منقطع، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف". قلت: أورد العراقي هذا عند قول الغزالي: "قال صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم إلى الله .... ". وحديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 87-88"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 90" عن ابن عمر مرفوعا: "اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله عز وجل". قال البيهقي: "إسناده ضعيف"، قلت: فيه حسين بن نصر لا يُعرَف، قاله ابن القطان، كما في "نصب الراية" "2/ 26"، وعمر بن يزيد منكر الحديث، كما في "الكامل" "5/ 1687" لابن عدي، وسلام بن سليمان ضعيف، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، وانظر: "الأحكام = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وَالثَّامِنُ: شَرْحُ الصَّدْرِ، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} الآية [الشرح: 1] . وَقَالَ فِي الْأُمَّةِ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} [الزُّمَرِ: 22] . وَالتَّاسِعُ: الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحِبَّةِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَذَاكَرُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَبًا! إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى، كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحِهِ، وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: "قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَنَا أول مشفَّع ولا فخر،   = الوسطى" "1/ 322-323" لابن القطان. وحديث مرثد أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 244/ رقم 317"-ومن طريقه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق 197/ أ"-والطبراني في "الكبير" "20/ 328/ رقم 777"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 222"، وابن منده في "المعرفة" "2/ ق 174/ ب" عن مرثد بن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "إن سركم أن تُقبَل صلاتكم فليؤمكم خياركم؛ فإنهم وفودكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل". وإسناده ضعيف، قال الدارقطني: "إسناد غير ثابت، وعبد الله بن موسى ضعيف". قلت: وكذا من روى عنه وهو يحيى بن يعلى الأسلمى، وبه أعَلَّه العراقي كما تقدم، والهيثمي في "المجمع" "2/ 64"، والقاسم الشامي لم يدرك مرثد، على ما بسطه ابن حجر في "الإصابة"، وإليه أشار العراقي بقوله: "وهو منقطع"، فالحديث ضعيف غير صحيح، وقد تابع المصنف الغزاليَّّ في إيراده باللفظ المذكور، وهذا قصور منه، عفى الله عنا وعنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَق الْجَنَّةِ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَلَا فَخْرَ"1. وَفِي الْأُمَّةِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54] . العاشر: وَجَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يدخل الجنة وأن أمته كذلك. الحادي عشر: وَأَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأُمَّةِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] .   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم 5/ 587-588/ رقم 3616"-وقال: "هذا حديث غريب"، والدارمي في "السنن" "1/ 26"، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 573"-عن ابن عباس بإسناد ضعيف، فإنه من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة به، ورواية زمعة عن سلمة ضعيفة، ضعف زمعةَ أحمدُ ويحيى وأبو حاتم وغيرهم، وقال أبو زرعة: "واهي الحديث"، وقال البخاري: "يخالف في حديثه، تركه ابن مهدي أخيرا". انظر: "التاريخ الكبير" "3/ 451"، و"الجرح والتعديل" "3/ 624"، و"الضعفاء الكبير" "2/ 94"، و"تاريخ ابن معين" "رقم 301- رواية الدوري"، و"أسئلة ابن طهمان" "رقم 62"، و"الضعفاء والمتروكين" "2/ 759" لأبي زرعة، و"تهذيب الكمال" "9/ 386". ومع هذا، فقد وثقه ابن معين مرة، فقال في "تاريخه" "رقم 553"-رواية الدوري": "صويلح الحديث"، وقال ابن عدي: "ربما يهم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه لا بأس به"، وروى له مسلم مقرونا بمحمد بن أبي حفصة، فهو بيِّن الأمر في الضعفاء، وروايته عن سلمة بن وهرام ضعيفة، قال عبد الله بن أحمد في "العلل" "رقم 3479" عن أبيه: "روى عنه زمعة أحاديث مناكير، أخشى أن يكون حديثه حديثا ضعيفا"، وقال ابن عدي في ترجمة "سلمة": "أرجو أنه لا بأس بروايات الأحاديث التي يرويها عنه غير زمعة". وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/ 399"، وقال: "يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه". فالحديث ضعيف، ولبعضه شواهد في "الصحيح" وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ جُعِل شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ، اخْتُصَّ1 بِذَلِكَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] . وَالثَّالِثَ عَشَرَ: خَوَارِقُ الْعَادَاتِ مُعْجِزَاتٌ وَكَرَامَاتٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَقِّ الْأُمَّةِ كَرَامَاتٌ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ، هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَحَدَّى الْوَلِيُّ بِالْكَرَامَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌ أَمْ لَا؟ وَهَذَا الْأَصْلُ شَاهِدٌ لَهُ، وَسَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ [وَقُدْرَتِهِ] 2. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: الْوَصْفُ بِالْحَمْدِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَبِغَيْرِهِ3 مِنَ الْفَضَائِلِ، فَفِي الْقُرْآنِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصَّفِّ: 6] ، وَسُمِّيَتْ أُمَّتُهُ الْحَمَّادِينَ. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: الْعِلْمُ مَعَ الْأُمِّيَّةِ4، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الْجُمُعَةِ: 2] . وَقَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّه} الآية [الأعراف: 158] .   1 غير ظاهر مع آية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد} قال المفسرون: هو نبيهم، إلا أن يكون مراده أنه وحده الذي يشهد على أمته بخلاف الأمم السابقة، فيشهد عليهم مع أنبيائهم كما تشهد أمته عليهم، وهو بعيد من كلامه. "د". 2 سقط من "ط". 3 في "ط": "وبغيرها". 4 العلم مع الأمية فيه صلى الله عليه وسلم واضح، وهو إحدى معجزاته، والآيات صريحة فيه، وأمية الأمة تصرح بها الآيات، لكن أين في الآيات والحديث الوصف للأمة بالعلم الذي لا يكون عادة مع الأمية والمدلول عليه في مثل آية: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ ..... } إلخ العلم الذي هو الإيمان ولواحقه، التي لا يلزم منها الاتصاف بالعلم على الإطلاق كوصفه عليه السلام. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وَفِي الْحَدِيثِ: "نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ" 1. وَالسَّادِسَ عَشَرَ 2: مُنَاجَاةُ الْمَلَائِكَةِ، فَفِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُهُ الْمَلَكُ، كَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ3، وَنُقِلَ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ هَذَا. وَالسَّابِعَ عَشَرَ: الْعَفْوُ قَبْلَ السُّؤَالِ، قَالَ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم} [التَّوْبَةِ: 43] . وَفِي الْأُمَّةِ: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 152] . وَالثَّامِنَ عَشَرَ: رَفْعُ الذِّكْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الشَّرْحِ: 4] . وَذُكِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ قَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فِي عَقْدِ الْأَيْمَانِ، وَفِي كَلِمَةِ الْأَذَانِ، فَصَارَ ذِكْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرْفُوعًا مُنَوَّهًا بِهِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَّةِ وَمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ كَثِيرٌ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ قال:   1 مضى تخريجه "1/ 56"، والحديث في "الصحيحين" عن ابن عمر بلفظ: "إنا أمة .... " بتقديم "نكتب" على "نحسب". 2 هذا الوجه كما ترى لم يُقِم عليه دليلا محدودا. "د". 3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب جواز التمتع 2/ 899/ رقم 1226 بعد 167" عن عمران، قال: "وقد كان يسلم عليَّ حتى اكتويت، فتركت، ثم تركت الكي فعاد". وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" "9/ 11"، وابن أبي أسامة والدارمي، كما في "الإصابة" "3/ 26-27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "9/ 146-147/ رقم 103"، وعزاه للبخاري، ولم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" "ورقم 10846". 4 لا يظهر هنا سؤال ولا عفو قبله، وعلى فرض أن هنا موضع سؤال وعتب على انصرافهم عنهم ومخالفتهم لأمره عليه السلام، فمن أين أن العفو كان قبل السؤال؟ "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَمَةِ أَحْمَدَ"1 لِمَا وُجِدَ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ2. وَالتَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ مُعَادَاتَهُمْ مُعَادَاةٌ لِلَّهِ، وَمُوَالَاتَهُمْ مُوَالَاةُ لِلَّهِ3، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه} [الْأَحْزَابِ: 57] [هِيَ عِنْدَ طَائِفَةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ] . وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ آذَانِي، فَقَدْ آذى الله" 4.   1 أخرجه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 54"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص30-31" عن الربيع بن النعمان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مطولا، وفيه المذكور. قال أبو نعيم عقبه: "وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذه الوجه، تفرد به الربيع بن النعمان وبغيره من الأحاديث عن سهيل، وفيه لين". قلت: وله طرق كثيرة كما بينته بإسهاب في تعليقي على رسالة ابن قيم الجوزية "الفوائد الحديثة" وهي مطبوعة، وأصحها ما أخرجه أبو الحسين بن المنادي في "متشابه القرآن العظيم" "ص22" بسند حسن عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "الإتقان" "1/ 185"- بسندهما إلى قتادة، قال: حدثنا رجال من أهل العلم، وذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة. 2 كما تراه في "الجواب الصحيح" "3/ 313 وما بعدها"، و"هداية الحيارى" "61 وما بعدها"، و"أعلام النبوة" "ص128 وما بعدها" للماوردي، و"محمد نبي الإسلام" "ص7 وما بعدها" لمحمد عزت الطهطاوي، و"إظهار الحق"، و"نبوة محمد في الكتاب المقدس"، و"محمد في التوراة والإنجيل والقرآن"، و"الأدلة على صدق النبوة المحمدية ورد الشبهات عنها" "الفصل الأول، الباب الأول، ص50-89" لهدى مرعي. 3 لم يذكر الموالاة في الأمة، وذكرها في الرسول عليه السلام، وسيأتي في السابع والعشرين ما يتضمنه، ولو قال: "ومفهوم من آذى لي وليا .... إلخ، أن من والى لي وليا ...... إلخ"، لأكمل المطلوب. "د". 4 قطعة من حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب: منه 5/ 696 = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارِبَةِ" 1. وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النِّسَاءِ: 80] . وَمَفْهُومُهُ مَنْ لَمْ يطعِ الرَّسُولَ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ. وَتَمَامُ الْعِشْرِينَ: الِاجْتِبَاءُ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الْأَنْعَامِ: 87] . وَفِي الْأُمَّةِ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الْحَجِّ: 78] . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق2.   = / رقم 3863" -وقال: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه- وأحمد في "المسند" "4/ 87 و5 / 54، 57"، و"الفضائل" "رقم 1، 3"، وابنه عبد الله في "زياداته على الفضائل" "رقم 2، 4"، وابن أبي عاصم في "السنة "رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح" "16م 244/ رقم 7256- الإحسان"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص321"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" والخطيب في "تاريخ بغداد" "9/ 123"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3860"، والضياء المقدسي في "جزء النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب" "رقم 3، 4- بتحقيقي" عن عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الله بن عبد الرحمن -وفي بعض طرق عبد الرحمن بن زياد أو عبد الرحمن بن عبد الله- عن عبد الله بن المغفل مرفوعا، أوله: "اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي ...... ". وإسناده ضعيف، تابعيُّه مجهول، لم يروِ عنه عبيدة بن أبي رائطة، ولم يوثقه غير ابن حبان في "الثقات" "5/ 46". 1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" وغيره ضمن حديث إلهي. 2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/ 1782/ رقم 2276" وغيره عن واثلة بن الأسقع مرفوعا: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". وفي "مسند أحمد" "6/ 25" وغيره: "وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وَقَالَ فِي الْأُمَّةِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فَاطِرٍ: 32] . وَالْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّسْلِيمُ مِنَ اللَّهِ، فَفِي أَحَادِيثِ إِقْرَاءِ السَّلَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ1. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] . و: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 54] . وَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَدِيجَةَ: "اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي"2. وَالثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: التَّثْبِيتُ عِنْدَ تَوَقُّعِ التَّفَلُّتِ الْبَشَرِيِّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 74] .   1 ورد ذلك في حديث عند أبي الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 610" عن سعيد المقبري، عن عائشة رفعته: "يا عائشة! لو شئت لسارت معي جبال الذهب؛ جاءني ملك، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ... ". وإسناده ضعيف، فيه أبو معشر سيئ الحفظ، وسعيد لم يسمع من عائشة. 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها 7/ 134/ رقم 3820"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 4/ 1887/ رقم 2432" عن أبي هريرة، قال: "أتى جبريل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب". وأخرجه أيضا بنحوه في "كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 465/ رقم 7497"، إلا أن فيه: "فأقرئها من ربها السلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وَفِي الْأُمَّةِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] . وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْعَطَاءُ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ1، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون} [الْقَلَمِ: 3] . وَقَالَ فِي الْأُمَّةِ: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} [التِّينِ: 6] . وَالرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [الْقِيَامَةِ: 17-19] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} [الْقِيَامَةِ: 19] ، عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِكَ. وَفِي الْأُمَّةِ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} [الْقَمَرِ: 17] . والخامش والعشرون: جعل السلام عليكم مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ؛ إِذْ يُقَالُ فِي التَّشَهُّدِ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ"2. وَالسَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ سَمَّى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجُمْلَةٍ من أسمائه كالرؤوف الرَّحِيمِ، وَلِلْأُمَّةِ نَحْوَ الْمُؤْمِنِ وَالْخَبِيرِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ. وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر} [النساء: 59] .   1 وعلى التفسير الآخر وهو أن الممنون المقطوع يكون التشريك في هذا المعنى، فيحل وجه بدل وجه. "د". 2 وإن كان يشمل كل عبد لله صالح كما في الحديث، فالصالح من أمته مندرج من باب أولى. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ. وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي، فَقَدْ أَطَاعَنِي" 1. وَقَالَ: "مَنْ يطعِ الرَّسُولَ، فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ" 2. وَالثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الْخِطَابُ الْوَارِدُ ومورد الشَّفَقَةِ وَالْحَنَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2] . وَقَوْلِهِ: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الْأَعْرَافِ: 2] . {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطُّورِ: 48] . وَفِي الْأُمَّةِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 6] . {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] . {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] . {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 29] . وَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْعِصْمَةُ مِنَ الضَّلَالِ بَعْدَ الْهُدَى3، وَغَيْرُ ذلك من   1 هو قطعة من الحديث الآتي. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 13/ 111/ رقم 7137"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 3/ 1466/ رقم 1835". 3 على هذا يحتاج إلى تأويل الحديث الوارد في "المصابيح" وصححه الترمذي: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل"، ثم قرأ هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} ، إلا أن أدلته غير واضحة الدلالة على المطلوب، فإن حديث: "لا تجتمع أمتي ..... " إنما هو في مجموعة الأمة لا في الأفراد ولو جماعة من الأمة، وآية: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وُجُوهِ الْحِفْظِ الْعَامَّةِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَجَاءَ فِي الْأُمَّةِ: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على ضلالة" 1.   = ليس المخلصون إلا الجزء القليل من المهتدين، وحديث: "احفظ الله" لا يخرج عن رسم طريق للحفظ من الغواية والضلال وغيرهما من الشرور الدنيوية والأخروية، وحديث: "ما أخاف عليكم أن تشركوا" متوجه لمجموع الأمة وجمهورها، وإلا، فقد ثبت على أشخاص الارتداد بعد الإيمان في عهده صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يستدعي خوفا من الجمهور المعني بذلك الحديث، فلعله يعني إثبات العصمة بعد الهدى لمجموع الأمة لا ما يشمل عصمة الإفراد، وعبارته مطلقة ومحتملة، والإفراد في قوله: "احفظ الله" لا يقتضي أن يكون شاملا للأفراد وإن كان الظاهر منه هذا المعنى، وبعيد أن يراد به خصوص المجموع من الأمة وإذا تمَّ ما قلناه، لا يحتاج الحديث إلى الصرف عن ظاهره. "د". وقال "خ": "هذه حقيقة جلية، ومن نراه يتخبط في ريب الإلحاد وقد نبت في بيت إسلامي؛ فلأنه لم يأخذ عقائد الدين وآدابه على بينة وأسلوب حكيم، وإنما سمى نفسه أو سماه آباؤه مسلما، وليس المقلد في أصل الدين على بصيرة وهدى حتى يكون انحلال عقيدته شكا بعد يقين وضلالا بعد هدى". 1 أخرجه ابن ماجة في "السنن" "كتاب الفتن، باب السواد الأعظم 2/ 1303/ رقم 3950"، وابن أبي عاصم في "السنة" "1/ 41/ رقم 84"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 105/ رقم 153"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 113"، وأفاد ابن حجر أن الدارقطني أخرجه في "الإفراد عن أنس مرفوعا بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة". وإسناده واهٍ؛ فيه معان بن رفاعة، لين الحديث، كثير الإرسال، وأبو خلف الأعمى البصري متروك، ورماه ابن معين بالكذب. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116-117" من طريق آخر عن أنس، وفيه مبارك بن سحيم، قال الحاكم: "ممن لا يمشي في هذا الكتاب، لكن ذكرته اضطرارا". وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 83"، من طريق آخر عن أنس بلفظ: "إن الله أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة"، وإسناده ضعيف، فيه مصعب بن إبراهيم، وهو منكر الحديث. وأخرجه الترمذي في "الجامع" أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 4/ 466/ رقم 2167"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 80"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 115- = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 .............................................................................   = 116"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص322"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 37"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 154"، والطبراني في الكبير" "رقم 13623"، وابن حزم في "الإحكام" "4/ 192"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 109" عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: "إن الله لا يجمع أمتي -أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على ضلالة"، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان". قلت: وكذا قال الدارقطني في "علله"، وزاد: "ليس بالقوي، يتفرد بما لا يتابع عليه". والراوي عنه هنا المعتمر بن سليمان، وقد اختلف عليه فيه من سبعة أوجه سردها الحاكم، وقال: "لا يسعنا أن نحكم عليها كلها بالخطأ ولا الصواب"، وقال: "وقد كنت أسمع أبا علي الحافظ يحكم بالصواب لقول من قال: عن المعتمر، عن سليمان بن سفيان المدني .... " وهذا الذي صوبه البخاري والترمذي والدارقطني، وتبعهم ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 110-111"، وسليمان ضعيف كما قدمنا. وأخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4233"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3440" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 106"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 92"، والداني في "الفتن" "ق 45/ ب" عن أبي مالك الأشعري مرفوعا: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال .... " آخرها: "وأن لا تجتمعوا على ضلالة". وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع؛ شريح بن عبيد لم يسمع من أبي مالك الأشعري، وبهذا أعله الزركشي في "المعتبر" "ص58"، وابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 35" بقوله: "في إسناد هذا الحديث نظر"، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 141": "وفي إسناده انقطاع"، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 82" من طريق آخر عن أبي مالك واسمه كعب بن عاصم بإسناد فيه سعيد بن زربي وهو منكر الحديث، وفيه عنعنة الحسن البصري، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 116" عن ابن عباس مرفوعا: "لا يجمع الله أمتي -أو قال: هذه الأمة- على الضلالة أبدا". وفيه إبراهيم بن ميمون، قد عدله عبد الرزاق وأثنى عليه، وعبد الرزاق إمام أهل اليمن، وتعديله حجة، ووثق ابن ميمون أيضا ابن معين. وأخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 208" عن سمرة مرفوعا: "إن أمتي لا تجتمع = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 ...............................................................................   = على ضلالة". وإسناده ضعيف، فيه أبو عون الأنصاري: مقبول، وعتبة بن أبي حكيم صدوق يخطيء كثيرًا، وبقية مدلس وقد عنعن. وأخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" -كما قال الزركشي في "المعتبر" "ص61"، وأحمد في "المسند" "6/ 396"، والطبراني في "الكبير" "رقم 2171"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 105-106"، وابن عبد البر في "الجامع" "1/ 756/ رقم 1390" عن أبي بصرة الغفاري مرفوعا: "سألت ربي عز وجل أربعا، فأعطاني ثلاثا، ومنعنى واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة، فأعطانيها"، وإسناده ضعيف فيه راوٍ مبهم، وسائر رجاله ثقات. وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 13373" في سورة الأنعام عن الدورقي عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري مرسلا. وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 85"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 244-245"، والطبراني في "الكبير" "17/ رقم 647، 648، 649"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 506-507"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 167، واللالكائي في "السنة" رقم 162، 163"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 114-115" عن أبي مسعود البدري بألفاظ منها: "فإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالته". وإسناده صحيح موقوف، رجاله رجال الشيخين، وحسنه ابن حجر، وقال الزركشي في "المعتبر" "ص62": "وحديث أبي مسعود رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وذكرها من طريق وضعفها، والظاهر وقفه على أبي مسعود". ثم قال: "واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة، ولا يخلو من علة، وإنما أوردت منها ذلك؛ ليتقوى بعضها ببعض"، ثم قال: "ومن شواهده ما في "الصحيحين" -"صحيح البخاري" "رقم 1367، 2642"، و"صحيح مسلم" "رقم 949"- عن أنس، قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال: "وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا شرا، فقال: "وجبت" فقيل: يا رسول الله! لم قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال: "شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض"، وفي لفظ لمسلم: "من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتهم عليه شرا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". "ثلاثا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وَجَاءَ: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ" 1. وَفِي الْقُرْآنِ: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ". وَفِي قَوْلِهِ: "وَإِنَّى وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا" 2. وَتَمَامُ الثَّلَاثِينَ: إِمَامَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أمَّ بِالْأَنْبِيَاءِ، قَالَ: "وَقَدْ رَأَيْتُنِي [فِي] جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ....... فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ" 3. وَفِي حَدِيثِ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: "إِنَّ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهَا، وَإِنَّهُ يصلي مؤتما بإمامها" 4.   1 مضى تخريجه "1/ 315". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها 11/ 243-244/ رقم 6426" من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. 3 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال 1/ 156-157/ رقم 172" عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه: "وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعني: نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم". قلت: وما بين المعقوفتين ساقط في الأصل. 4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام 6/ 491/ رقم 3449"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 1/ 136-137/ رقم 155 بعد 244" عن أبي هريرة مرفوعا: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم فيكم؟ " لفظ الشيخين. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وَمَنْ تَتَبَّعَ الشَّرِيعَةَ وَجَدَ مِنْ هَذَا كَثِيرًا [مَجْمُوعُهُ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمَّتَهُ تَقْتَبِسُ مِنْهُ خَيْرَاتٍ وَبَرَكَاتٍ، وَتَرِثُ أَوْصَافًا وَأَحْوَالًا مَوْهُوبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُكْتَسَبَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: - مِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ مَا أُعْطِيَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْمَزَايَا وَالْكَرَامَاتِ، وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْيِيدَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ إِنَّمَا هِيَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ عَلَى مِقْدَارِ الِاتِّبَاعِ، فَلَا يَظُنُّ ظانٌّ أَنَّهُ حَصَلَ عَلَى خَيْرٍ بدون وساطة1 نبوية، كيف وهو السراج المنير الذي يستضيء بِهِ الْجَمِيعُ، وَالْعَلَمُ الْأَعْلَى الَّذِي بِهِ يُهْتَدَى فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: قَدْ ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِي الْأُمَّةِ أُمُورٌ لَمْ تَظْهَرْ عَلَى يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا سِيَّمَا الْخَوَاصُّ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ، كفرار الشيطان من ظل   = وفي لفظ لمسلم "برقم 155 بعد 245": "وأمكم"، وفي لفظ "برقم 155 بعد 246": "فأمكم منكم"، وفيه: قال ابن أبي ذئب -بعض رواته: تدري ما "أمكم منكم"؟ قلت: -الوليد بن مسلم: تخبرني؟. قال: "فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم". فليس في هذا "وأنه يصلي مؤتما بإمامها". نعم، ورد في "صحيح مسلم" "رقم 156" عن جابر مرفوعا: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا. فيقول: لا، لا تكرمة الله هذه الأمة". وهذا الأمير في هذه الرواية هو الإمام في الرواية الأولى، وهو المهدي بن عبد الله الحسيني، قال أبو ذر ابن سبط ابن العجمي في تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 137"، وانظر -لزاما- تعليقنا عليه. 1 في "ماء / ص203: "واسطة" وفي "ط": "وساطة النبوة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ نازع النبي صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاتِهِ الشَّيْطَانُ1وَقَالَ لِعُمَرَ: "مَا سَلَكَتَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ" 2. وَجَاءَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ تَسْتَحِي مِنْهُ"3 وَلَمْ يرد مثل هذا بالنسبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ فِي أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ: "أَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا، فَافْتَرَقَ النُّورُ مَعَهُمَا"4، وَلَمْ يُؤْثَرْ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ ظَهَرَ مِثْلُهُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيُقَالُ: كُلُّ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ أَوِ الْعُلَمَاءِ5 أَوْ يُنْقَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ من   1 سيأتي لفظه وتخريجه في التعليق على "ص441". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق 6/ 339/ رقم 3294، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه 7/ 40/ رقم 3683، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك 10/ 503/ رقم 6085"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد بن أبي وقاص ضمن حديث طويل في آخره: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك". لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "غير ذلك". 3 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن عائشة، وذكرت قصته، وفي آخرها، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟ "، وأخرجه أحمد في "المسند" بألفاظ "1/ 71 و6/ 62، 155، 288". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة أسيد بن حضير وعباد ابن بشر رضي الله عنهما 7/ 124-125/ رقم 3805" عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "إن رجلين خرجا من عند ..... ". 5 في "ط": "والعلماء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 الْأَحْوَالِ وَالْخَوَارِقِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ أَفْرَادٌ وَجُزْئِيَّاتٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ كُلِّيَّاتِ مَا نُقِلَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، غير أَفْرَادَ الْجِنْسِ وَجُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيِّ قَدْ تَخْتَصُّ1 بِأَوْصَافٍ تَلِيقُ بِالْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْكُلِّيُّ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ كُلِّيٌّ2، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْجُزْئِيِّ مَزِيَّةٌ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجُزْئِيِّ خَاصٌّ بِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْكُلِّيِّ، كَيْفَ وَالْجُزْئِيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إِلَّا بِجُزْئِيٍّ3؟ إِذْ هُوَ مِنْ حَقِيقَتِهِ وَدَاخِلٌ فِي مَاهِيَّتِهِ، فَكَذَلِكَ الْأَوْصَافُ الظَّاهِرَةُ عَلَى الْأُمَّةِ لَمْ تَظْهَرْ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ كَالْأُنْمُوذَجِ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَرَامَاتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَلَى مقدار الاتِّباع والاقتداء به4، ولو كان ظَاهِرَةً لِلْأُمَّةِ عَلَى فَرْضِ الِاخْتِصَاصِ بِهَا وَالِاسْتِقْلَالِ   1 أي: إن جزئيات الكلى تمتاز بمشخصات تليق بهذه الجزئيات، فالجزئيات التي وجدت لبعض الصحابة من الكرامات -وإن ظهر ببادي الرأي أنها أمور غير داخلة في كلي كرامات الرسول- فالواقع ليس كذلك، بل هي جزئيات من كليته، وكليته أكمل كما سيصوره المؤلف في عصمته عليه الصلاة والسلام العصمة المطلقة من الشيطان، وفي فراره من عمر الذي لا يقتضي تمام العصمة، فكم يفر العدو ممن يراه أقوى منه، ولكنه قد يكر عليه فلا ينجو منه في بعض الغفلات؟ "د". 2 في نسخة "ماء/ ص203": "قلت: وانظر إلى أصل الشجرة وما يتفرع منه، وما يظهر في الفرع من ورق وشوك وثمر". 3 لعل الصواب: "لا يكون جزئيا إلا بكلي". "د". قلت: المذكور متجه، ولا داعي للتصويب المذكور؛ إذ الكلي يتكون من مجموع الجزئيات، فتأمل. 4 ليس هذا على إطلاقه، قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 283": "ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك؛ لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وقرر أيضا في "11/ 323" أن عدم الخوارق لا تضر المسلم في دينه، ولا ينقص ذلك من مرتبته عند الله بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه. وانظر -غير مأمور: "مجموع الفتاوى" "10/ 29-32 و499-500 و11/ 202، 204-208، 212-215، 275 وبعدها، 322 وما بعدها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 لَمْ تَكُنِ الْمُتَابَعَةُ شَرْطًا فِيهَا، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فِي شَأْنِ عُمَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ خَاصِّيَّتَهُ الْمَذْكُورَةَ هِيَ هُرُوبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، وَذَلِكَ حِفْظٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِهِ وَحَمْلِهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ التَّامَّ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ خَاصِّيَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ كَانَ مَعْصُومًا عَنِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا، فَتِلْكَ النُّقْطَةُ الْخَاصَّةُ بِعُمَرَ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ فِرَارَ الشَّيْطَانِ أَوْ بُعده مِنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحِفْظُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَدْ زَادَتْ مَزِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خَوَاصُّ: - مِنْهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْدَرَهُ اللَّهُ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، حَتَّى هَمَّ أَنْ يَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَذَّكَّرَ قول سليمان عليه السلام: {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 1 [ص: 35] وَلَمْ يَقْدِرْ عُمَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذلك.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَان} 6/ 457/ رقم 3423، وكتاب التفسير، باب {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 8/ 546/ رقم 4808"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة 1/ 384/ رقم 541" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن عفريتا من الجن تفلَّت عليَّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ، فردَّه خاسئًا" لفظ البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 - وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اطَّلع عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ1 وَمِنْ عُمَرَ2 وَلَمْ يطَّلِع عُمَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ. - وَمِنْهَا: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزعات الشَّيْطَانِ وَإِنْ قَرُبَ مِنْهُ، وَعُمَرُ لَمْ يَكُنْ آمِنًا وَإِنْ بعُد عَنْهُ. وَأَمَّا مَنَقَبَةُ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ نَقُولُ: هُوَ أَوْلَى بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهَا عَدُمُهَا. وَأَيْضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ لِخَاصِّيَّةٍ كَانَتْ فِيهِ وَهَى شِدَّةُ حَيَائِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً، وَأَشَدَّ3 حياء من العذارء فِي خِدْرِهَا4، فَإِذَا كَانَ الْحَيَاءُ أَصْلَهَا، فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الَّذِي حَوَاهُ عَلَى الْكَمَالِ. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي الْقَوْلُ فِي أُسَيْدٍ وَصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ الْإِضَاءَةُ حَتَّى يُمْكِنَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ لَيْلًا بِلَا كُلْفَةٍ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنِ الظَّلَامُ يَحْجُبُ بَصَرَهُ، بَلْ كَانَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ5، بَلْ كَانَ لَا يَحْجُبُ بَصَرَهُ مَا هُوَ أَكْثَفُ مِنْ حِجَابِ الظلمة، فكان يرى   1، 2 أي: في شأنه صلى الله عليه وسلم وفي شأن عمر. "د". 3 في "ط": "أو أشد". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3562، وكتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 10/ 513/ رقم 6102، وباب الحياء 10/ 521/ رقم 6119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 4/ 1809/ رقم 2320" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. 5 أخرج تمام في "الفوائد" "رقم 1430- تربيته"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1534" -ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "6/ 74-75"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 118/ رقم 266"، والخطيب في تاريخ بغداد" "4/ 271-272"، ومكي المؤذن في "حديثه" "1/ 236"، والضياء المقدسي في "المنتقى من حديث أبي علي الأوقي" "1/ 2"-كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 341"- من طريق زهير بن عباد الرواسي عن عبد الله بن المغيرة عن المعلي بن هلال = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ1، وَهَذَا أَبْلَغُ، حَيْثُ كَانَتِ الْخَارِقَةُ فِي نَفْسِ الْبَصَرِ لَا فِي الْمُبْصِرِ بِهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَرَامَاتِهِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أُمَّتِهِ [مِنْ] 2 بَعْدِهِ وَفِي زَمَانِهِ. فَهَذَا التَّقْرِيرُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ3، وَالْأَخْذُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ   = عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ". وإسناده ضعيف جدا، قال البيهقي: "هذا إسناد فيه ضعف"، وقال ابن الجوزي: "لا يصح". المعلى بن هلال اتفق النقاد على تكذيبه، كما قال ابن حجر، والراوي عنه عبد الله بن محمد بن المغيرة، قال أبو حاتم: "ليس بقوي" وقال ابن يونس: "منكر الحديث"، وقال العقيلي: "يحدث بما لا أصل له"، كذا في "اللسان" "3/ 332"، وأورد الذهبي في "الميزان "2/ 487-488" في ترجمته جملة من الأحاديث منها المذكور، ثم قال: "قلت: وهذه موضوعات"، وضعف هذا الحديث ابن دحية في كتابه "الآيات البينات"، قاله المناوي في "فيض القدير" "5/ 215". قلت: ونقل تضعيفه فيه عن ابن بشكوال، كما قال ابن الملقن في "غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم "ص299". وعزاه السيوطي في "الخصائص الكبرى" "1/ 61" لابن عساكر، وهو في "تاريخه" مرسلا، وفيه بعض المجاهيل، أفاده شيخنا الألباني. وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 75" بسند فيه جماعة مجهولون عن مغيرة بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار من الضوء". وقال: "ليس بالقوي". ووردته قصة تدل على وهاء هذا الحديث، ولكنها من القصص التي لا تثبت، كما تراه في هامش "غاية السول" "ص472". 1 سيأتي تخريجه "ص274"، وهذا خاص به صلى الله عليه وسلم في الصلاة فحسب. 2 سقط من "ط". 3 الأحسن من هذا الذي قرره المصنف ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 398": "ليس كل عمل أورث كشوفا أو تصرفا في الكون يكون أفضل من العمل = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 جِهَتِهِ لَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَرُبَّمَا يَقَعُ لِلنَّاظِرِ فِيهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ إِشْكَالٌ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا بِحَوْلِ اللَّهِ. وَانْظُرْ فِي كَلَامِ الْقَرَافِيِّ فِي قَاعِدَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْخَاصِّيَّةِ. فَصْلٌ: وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى كُلِّ خَارِقَةٍ صَدَرَتْ عَلَى يَدَيْ أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فِي كَرَامَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعْجِزَاتِهِ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ، فَغَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَإِنْ ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا كَرَامَةٌ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَوَارِقِ بِكَرَامَةٍ1، بَلْ مِنْهَا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ2. وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالْمِثَالِ أَنَّ أَرْبَابَ التَّصْرِيفِ بِالْهِمَمِ3 وَالتَّقَرُّبَاتِ بِالصِّنَاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةِ قَدْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَفَاعِيلُ خَارِقَةٌ، وَهِيَ كُلُّهَا ظلمات   = الذي لا يورث كشفا وتصرفا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا، وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار، ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تُتَلقى من مثل هذا، وإنما تُتَلقى من دلالة الكتاب والسنة .... ". وقال: إن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقا، مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدا، فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك". 1 في الأصل: "كرامة". 2 انظر نحوه في "النبوَّات"، و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" "ص62 وما بعدها"، والموطن المذكورة آنفا من المجلد الحادي عشر من "مجموع الفتاوى"، و"مدارج السالكين" "1/ 47-48"، و"قطر الولي" "ص253"، و"التنكيل" "2/ 238-239". 3 في الأصل: "الهمة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، لَيْسَ لَهَا فِي الصِّحَّةِ مَدْخَلٌ، وَلَا يُوجَدُ لَهَا فِي كَرَامَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْبَعٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِدُعَاءٍ مَخْصُوصٍ، فَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَلَا تَجْرِي فِيهِ تِلْكَ الْهَيْئَةُ، وَلَا اعْتَمَدَ عَلَى قِرَانٍ1 فِي الْكَوَاكِبِ، وَلَا الْتُمِسَ سُعُودُهَا أَوْ نُحُوسُهَا، بَلْ تحرَّى مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ عَلَى مَنْ إِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَاللَّجَأُ إِلَيْهِ، معرِضا عَنِ الْكَوَاكِبِ وَنَاهِيًا عَنِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا؛ إِذْ قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ" 2 الْحَدِيثَ، وَإِنْ تَحَرَّى وَقْتًا أَوْ دَعَا [إِلَى تحرِّيه] 3، فَلِسَبَبٍ بَرِيءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، كَحَدِيثِ التَّنَزُّلِ4، وَحَدِيثِ اجْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ طَرَفَيْ النهار5، وأشباه ذلك.   1 في الأصل: "قرار". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" في مواطن، منها "كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذ سلم 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء 1/ 83-84/ رقم 71" من حديث زيد بن خالد، ومضى الحديث "1/ 201". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/ 29/ رقم 1145، وكتاب الدعوات، باب الدعاء نصف الليل 11/ 128-129/ رقم 6321، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} 13/ 464/ رقم 7494"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه 1/ 521/ رقم 758" عن أبي هريرة مرفوعا: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثُلُثُ الليل الآخرُ، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له". 5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر 2/ 33/ رقم 55، وكتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 6/ 306/ رقم 3223، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} 13/ 415/ رقم 7429، وباب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكةَ 13/ 461/ رقم 7486"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1/ 439/ رقم 632" عن أبي هريرة مرفوعا: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم؛ وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وَالدُّعَاءُ أَيْضًا عِبَادَةٌ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ؛ أَعْنِي الْكَيْفِيَّاتِ الْمُسْتَفْعِلَةَ وَالْهَيْئَاتِ الْمُتَكَلَّفَةَ الَّتِي لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ الَّتِي لَا تَجِدُّ مُسَاقَهَا فِي مُتَقَدِّمِ الزَّمَانِ وَلَا مُتَأَخِّرِهِ، وَلَا مُسْتَعْمَلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَالَّتِي رُوعِيَ فِيهَا طَبَائِعُ الْحُرُوفِ فِي زَعْمِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ كَتَسْلِيطِ الْهِمَمِ عَلَى الْأَشْيَاءِ حَتَّى تَنْفَعِلَ، فَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتِ النَّقْلِ، وَلَا تَجِدَ لَهُ أَصْلًا، بَلْ أَصْلُ ذَلِكَ حَالٌ حُكْمِيٌّ وَتَدْبِيرٌ فَلْسَفِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ؛ هَذَا وَإِنْ كَانَ الِانْفِعَالُ الْخَارِقُ حَاصِلًا بِهِ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الصِّحَّةِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى ظَاهِرًا بِالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، بَلْ قَدْ يُوصَلُ بِالسَّحَرِ وَالْعَيْنِ إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ شَاهِدًا عَلَى صِحَّتِهِ؛ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ صِرْفٌ، وتعدٍ مَحْضٌ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَزَلَّة قَدَمٍ لِلْعَوَامِّ وَلِكَثِيرٍ مِنَ الْخَوَاصِّ، فلْتُنَبَّهْ لَهُ. فَصْلٌ: وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَنَدَبَ1، وَتَصَرَّفَ بِمُقْتَضَى الْخَوَارِقِ مِنَ الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ، وَالْكَشْفِ الْوَاضِحِ، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، كَانَ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ مِمَّنِ اخْتُصَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى   1 أي: إنه صلى الله عليه وسلم رتب على فراسته ورؤياه وإلهاماته بشارة للبعض، ونذارة لآخر، وتصرفات في بعض الشئون، وهكذا؛ فمن فعل مثله صلى الله عليه وسلم كان على صواب في عمله، وقد علمت مما سبق أن صدق ذلك تابع لقوة المتابعة، ولذا قال: "فمن اختص بشيء .... إلخ" وقوله: "شرط ذلك"، أي: الآتي في المسألة التالية. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 طَرِيقٍ مِنَ الصَّوَابِ1، وَعَامِلًا بِمَا لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْمَشْرُوعِ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ شَرْطِ ذَلِكَ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ زَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَتَحْذِيرًا وَتَبْشِيرًا وَإِرْشَادًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ حُكْمَهُمْ فِي ذَلِكَ حُكْمُهُ، شَأْنُ كُلِّ عَمَلٍ صَدَرَ مِنْهُ وَلَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا تَرَكَ بَعْدَهُ فِي أُمَّتِهِ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْبِشَارَةُ وَالنِذَارَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِقْدَامُ وَالْإِحْجَامُ. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَاهُ الْمَلَكَيْنِ2 وَقَوْلِهِمَا لَهُ: "نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ تُكْثِرُ الصَّلَاةَ"، فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذلك يكثر الصلاة3.   1 أسهب ابن القيم في الكلام على حجية "الفراسة"، وذكر أمثلة كثيرة على عمل الصحابة والتابعين بها، وذلك في أول كتابه "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا. 2 أي: فقد رتب على رؤيا عبد الله نفسه ما رتب، ويظهر أن مقالة الرسول لأبي ذر وثعلبة وأنس كلها من قبيل الفراسة، ولتراجع رواية البخاري في "كتاب الرؤيا، باب الأمن وذهاب الروع في المنام، ففيها أن ملكا ثالثا قال له: "لم ترع، نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة"، فليست من كلام الملكين، كما أن لفظ الرسول في هذه الرواية "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يكثر الصلاة في الليل" وهو نص الرواية الأخرى التي رواها المؤلف، فليس بظاهر جعل قوله: "نعم .... إلخ" مقولا لقال ولا لقولهما إلا بتكليف. "د". قلت: بل الأمر كما ذكر المصنف، كما في الموطنين الثاني والثالث في "صحيح البخاري" من الهامش الآتي. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل 3/ 6/ رقم 1121، 1122، وباب فضل من تعارَّ من الليل، فصلى 3/ 40/ رقم 1157، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7 / 89-90/ رقم 3738، 3739"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927-1928/ رقم 2479" عن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّيْلِ" 1. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ: "إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تأمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تولَّينَّ مَالَ يَتِيمٍ" 2. وَقَوْلُهُ لِثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ وَسَأَلَهُ الدُّعَاءَ لَهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ: "قَلِيلٌ تُؤَدِي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تطيقه" 3.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 7/ 90/ رقم 3740، 3741، وكتاب التعبيرات، باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام 12/ 403/ رقم 7016، وباب الأمن وذهاب الروع في المنام 12/ 418/ رقم 7029، وباب الأخذ على اليمين في النوم 12/ 419/ 7031"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4/ 1927/ رقم 2478" عن حفصة مرفوعا. 2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، ومضى تخريجه "1/ 177". 3 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "8/ 260/ رقم 7873"، و"الأحاديث الطوال" "25/ 225- في "تفسيره" "2/ 312"، وأبو نعيم في "المعرفة" "3/ 272"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص252"، والبيهقي في "الدلائل" "5/ 289"، وابن عبد البر في "الاستيعاب" "1/ 204"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 284"، وابن حزم في "المحلى" "11/ 208" عن أبي أمامة الباهلي رفعه، فيه معان بن رفاعة لين الحديث، وعلى بن يزيد الألهاني متروك، فإسناده ضعيف جدا، كما قال ابن حجر في "الكافي الشاف" "ص77"، وضعفه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 372"، وقال ابن حجر في "الفتح" "3/ 266": "حديث ضعيف لا يحتج به"، وقال ابن حزم في "المحلى" "11/ 208": "وهذا باطل بلا شك"، وضعفها البيهقي بقوله: "في إسناده نظر" والقرطبي في "تفسيره" "8/ 210"، والذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" "1/ 66"، والهيثمي في "المجمع" "7/ 35"، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وَقَالَ لِأَنَسٍ: "اللَّهُمَّ كَثِّرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ" 1. وَدَلَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُنَاسًا شَتَّى عَلَى مَا هو أفضل الأعمال في حق كل وحد مِنْهُمْ، عَمَلًا بِالْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ فِيهِمْ، وَقَالَ2: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ" 3، فَأَعْطَاهَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: إِنَّهُ "لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُقَمِّصَكَ قَمِيصًا: فَإِنْ أَرَادُوكَ على خلعه، فلا تخلعه" 4.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم 4/ 228/ رقم 1982، وكتاب الدعوات، باب قوله الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} 11/ 136/ رقم 6334، وباب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة 11/ 182/ رقم 6378"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب: منه 4/ 1928/ رقم 2480"، والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب لأنس بن مالك 5/ 682/ رقم 3829"، وأحمد في "المسند" "6/ 430" عن أم سليم "والدة أنس" وغيرهم. 2 هذا وما بعده للآخر يدخل تحت الاطلاع الغيبي، وهي عبارة مجملة تشمل ما كان من قبيل الوحي الملكي والإلهام، وأُتي بها كذلك؛ لتصح فيها المشاركة للأمة على ضرب من التسامح "د". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7/ 70/ رقم 3701"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه 4/ 1872/ رقم 2406" عن سهل بن سعد مرفوعا. 4 أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 114" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "281، عثمان"- عن عائشة، وفي مسندها خلافا لما قاله ابن حجر في "أطراف مسند الإمام أحمد" = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 فَرَتَّبَ عَلَى الِاطِّلَاعِ الْغَيْبِيِّ وَصَايَاهُ النَّافِعَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَتَكُونُ لَهُمْ أَنْمَاطٌ وَيَغْدُو أَحَدُهُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةً وَتُرْفَعُ أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْحَدِيثِ: "وأنتم اليوم خير منكم يومئذ" 1.   = "9/ 297/ رقم 12309": "وقع هذا في مسند عثمان"، ثنا محمد بن كناسة الأسدي ثنا إسحاق ابن سعيد عن أبيه، قال: بلغني أن عائشة قالت به، وهذا منقطع. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 48-49"-ومن طريقه ابن أبي عاصم في "السنة "2/ 558-559/ رقم 1172"،وابن حبان في "الصحيح" "15/ 346/ رقم 6915- الإحسان" -ثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن عبد الله بن قيس عن النعمان بن بشير عن عائشة. وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 149" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "278- ترجمة عثمان"- عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية به، وفيه: "عبد الله بن أبي قيس". وإسناده صحيح، رجاله رجال مسلم غير عبد الله بن قيس وهو اللخمي الشامي، وثقه ابن حبان في "الثقات" "5/ 45"، وروى عنه غير واحد، قال ابن حبان عقبه: "هذا عبد الله بن قيس اللخمي مات سنة أربع وعشرين ومئة، وليس هذا بعبد الله بن أبي قيس صاحب عائشة". وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 5/ 628/ رقم 3705"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "277" من طرق عن معاوية بن صالح، وأحمد في "المسند" "6/ 86" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 276- ترجمة عثمان"- من طريق الوليد بن سليمان، كلاهما عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله -وتصحف في مطبوع "جامع الترمذي" إلى عبد الملك" فليصحح- ابن عامر عن النعمان بن بشير به، وإسناده صحيح، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وللحديث طرق أخرى، انظرها في "سنن ابن ماجه" "رقم 112"، و"المستدرك" "3/ 99-100"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 1174، 1179، 1180"، و"تاريخ دمشق" "ص276 وما بعدها-ترجمة عثمان". 1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 629/ رقم 3631، وكتاب النكاح، باب الأنماط ونحوها للنساء، 9/ 225/ رقم 5161"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب جواز اتخاذ الأنماط، 3/ رقم 3/ 1650/ رقم 2083" عن جابر مرفوعا: "هل لكم من أنماط؟ " قلت: وأنى يكون لنا الأنماط؟ قال: " أما وإنها ستكون لكم الأنماط"، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 ................................................................................   = والتتمة المذكورة عند المصنف في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 647/ رقم 2476"-وقال: "هذا حديث حسن" من طريق هناد في "الزهد" "رقم 757" وإسناده ضعيف، كما في "الإصابة" "3/ 421"، وهو من طريق ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث، وهو في القطعة المطبوعة من "سيرته" "174"، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" "3/ 157" لأبي يعلى، وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 314": "وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات". قلت: إلا أن الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، منها: حديث واثلة بن الأسقع، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "2/ 23"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق 560"، وفي إسناده سليمان ابن حيان مترجم في الجرح والتعديل" "4/ 106"، و"التاريخ الكبير" "4/ 8"، و"تاريخ دمشق" "7/ ق 650-651"، ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، ووقع في مطبوع "الحلية" تصحيف شنيع أوهم جامع "حديث خيثمة" "ص190" أنه من حديث خيثمة بن سليمان الأطرابلسين وكشفنا عن هذا الوهم في التعليق على "رجحان الكفة" "ص304" للسخاوي". وحديث طلحة بن عمرو النصري، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 487"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 6684- الإحسان"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "رقم 1434، 1435"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 277-278"، وحماد بن إسحاق في "تركة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص58"، والحاكم في "المستدرك" 3/ 15"، والبزار في "مسنده" "رقم 3673- زوائده"، والطيراني في "الكبير" "رقم 8160، 8161"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 524"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 374" من طرق كثيرة عن داود بن0 أبي هند به، وإسناده صحيح. وحديث سعد بن مسعود أخرجه هناد في "الزاهد" "رقم 759" وفيه الإفريقي عبد الرحمن بن أنعم وهو ضعيف، وسعد في صحبته اختلاف. وحديث عروة بن الزبير أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 116"، ومن حديث أبيه الزبير أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 628-629"، وفي إسنادهما موسى بن عبيدة الربذين وهو ضعيف. وآخر من مرسل قتادة أخرجه أحمد في "الزهد" "37"، ومن مرسل سعد بن هشام أخرجه هناد في "الزهد" "رقم 767". ومن حديث إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه؛ أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 166"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 200"، وفي سنده الواقدي. قلت: في الأصل: "يوضع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وَأَخْبَرَ بِمُلْكِ مُعَاوِيَةَ وَوَصَّاهُ1، وَأَنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الفئة الباغية2، وبأمراء   1 المذكور عبارة القاضي عياض في "الشفا" "1/ 656"، ويعتمد المؤلف عليه كثيرا في نقل الأحاديث، وقال السيوطي في "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا" "رقم 733": "البيهقي من طرق عن معاوية". قلت: أخرج أحمد في "المسند" "4/ 101" وابن أبي الدنيا وابن منده -كما في "البداية والنهاية" "8/ 123"- عن سعيد بن عمرو بن العاص يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة، فبينا هو يوضِّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين، فقال: "يا معاوية! إن وليت أمرًا، فاتق الله واعدل". وهذا إسناد ضعيف؛ لأنه مرسل. وأخرجه أبو يعلى في "المسند" "13/ 370/ رقم 7380" ثنا سويد بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده سعيد بن عمرو بن العاص، عن معاوية به. وهذا موصول، إلا أنه ضعيف؛ لضعف سويد بن سعيد، قال الهيثمي في "المجمع" "9/ 355-356": "رواه أحمد واللفظ له، وهو مرسل، ورواه أبو يعلى، فوصله، فقال فيه: عن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباقي بنحوه، ورواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وقال في "الأوسط" " .... فأقبل، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح". قلت: رواية أحمد مرسلة، وقد صرح الهيثمي بذلك "5/ 186"، ورواية أبي يعلى فيها سويد، فهي ضعييفة، وأفاد الهيثمي في "المجمع" "5/ 186" أن رواية الطبراني مختصرة عن عبد الملك بن عمير عن معاوية، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وهو ضعيف، وقد وثق. قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 148- ط الهندوية و7/ 280- ط دار الفكر"، و" المسند" -كما في "المطالب العالية" "رقم 4085"، ومن طريقه قوام السنة في "الحجة" "2/ 376/ رقم 378"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 446" عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير به. قال البيهقي عقبه: "إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف عند أهل المعرفة بالحديث" ثم = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 ..............................................................................   = قال: "غير أن لهذا الحديث شواهد" وذكر مرسل سعيد بن عمرو بن العاص، وقال: "ومنها حديث راشد بن سعد عن معاوية مرفوعا: "إنك إن اتبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم". قلت: الحديث الأخير أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4888، 4889"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 248"، والطبراني في "الكبير" "19/ 890"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5760- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 333"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 118" بإسناد صحيح باللفظ المذكور، وهو بعيد في شهادته للفظ المصنف، ولا يستلزم من عدم تتبع عورات الناس الإمارة عليهم، إلا أن يستشهد بلفظ حديث المقدام بن معدي كرب وأبي أمامة مرفوعا: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم". أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 4889"، وأحمد في "المسند" "6/ 4"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 378" بإسناد حسن. فبمجموع الحديثين يتأيد سياق البيهقي على أن المذكور أخيرا شاهد غير الحديث الذي أورده المصنف وهو صحيح، فتأمل، والله أعلم. وأخرجه قوَّام السنة في "الحجة" "رقم 379" عن طريق الحسن عن معاوية رفعه: "أما إنك ستلى أمر أمتي من بعدي"، وفيه يحيى بن غلاب، عن أبيه، قال الذهبي في "المغني" "رقم 7030" وتبعه ابن حجر في "اللسان" "6/ 273": "ذكر خبرا موضوعا في فضائل معاوية". 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد 1/ 541/ رقم 447، وكتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله 6/ 30/ رقم 2812"، وأحمد في "المسند" 3/ 5، 22، 28، 91" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية". وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء 4/ 2235"، وأحمد في "المسند" 5/ 306، 306-307" من طريق أخرى عن أبي سعيد مرفوعا: "بؤس ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية". والحديث مشهور متواتر، كما نص عليه ابن عبد البر في "الاستيعاب" "2/ 481"، وابن حجر في "الإصابة" "2/ 512". وانظر: "تالي التلخيص" 254" للخطيب، وتعليقنا عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا1 ثُمَّ وَصَّاهُمْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ، وَأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ بَعْدَهُ أَثَرَةً، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ2 إِلَى سَائِرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا فَوَائِدُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّبْشِيرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَالثَّانِي: عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ وَالْإِلْهَامِ وَالْوَحْيِ النَّوْمِيِّ، كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: "إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكَ وَأُخْتَاكَ"3. وَقَوْلِ عُمَرَ: "يَا ساريةُ! الجبلَ" 4، فَاعْمَلِ النَّصِيحَةَ الَّتِي أَنْبَأَ عنها الكشف.   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الندب إلى وضع الأيدي على الرُّكَب في الركوع ونسخ التطبيق 1/ 378-379" عن ابن مسعود ضمن حديث طويل فيه: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها". وأخرجه أحمد وابنه في "المسند" "1/ 399-400"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2865" عن ابن مسعود، وصرح برفعه، وإسناده قوي على شرط مسلم. 2 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" 7/ 117/ رقم 3792"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم 3/ 1474/ رقم 1845" عن أسيد بن حضير مرفوعا: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض". 3 قاله رضي الله عنه لابنته عائشة لما أبطل نحلته لها عشرين وسقا. أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 483-484- رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 468- رواية يحيى الليثي وص236- رواية سويد بن سعيد- ط دار الغرب"، وإسناده صحيح، وانظر: "الاستذكار" "22/ 293-295" لابن عبد البر. 4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 525-528"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص286- ترجمة عمر و7/ ق 10-13 ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" "رقم 2537"، و"كرامات الأولياء" "رقم 67"، وابن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وَنَهْيِهِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ: "أَخَافُ أَنْ تَنْتَفِخَ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّرَيَّا"1 وَقَوْلِهِ لِمَنْ قَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَآهُمَا يَقْتَتِلَانِ، فَقَالَ: مَعَ أَيِّهِمَا كُنْتَ؟ قَالَ: مَعَ الْقَمَرِ. قَالَ: "كُنْتُ مَعَ الْآيَةِ الممحوة، لا تلى [لي] عملا أبدا"2.   = الأعرابي في "كرامات الأولياء"، والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة" "4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية" "ص44-46"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 5" بأسانيد بعضها حسن، كما قال الحافظ ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق: "فهذه طرق يشد بعضها بعضا". وألف القطب الحلبي في صحته جزء قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة" "رقم 461". 1 أخرج أحمد في "المسند" "1/ 18"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "1/ 10" نحوه بسند صحيح"، وصححه السيوطي في "تحذير الخواص" "233"، والهيثمي في "المجمع" "1/ 189"، وأفاد السيوطي أن ابن عساكر أخرج نحوه أيضا "ص239"، والمذكور لفظ الإحياء" "3/ 326". 2 حكاه أبو سعد الواعظ في كتابه "تفسير الأحلام الكبير" "ص262"، وأفاد صاحبه أن القصة وقعت لقاضي حمص مع عمر، وفي آخرها: "وصرفه عن عمل حمص، فقضى أنه خرج مع معاوية إلى صفين، فقتل"، ثم ظفرت به مسندا، فعزاه الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 548" إلى أبي يعلى، قال: حدثنا غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن عمر به، ثم ظفرت به من طريق حماد عند ابن أبي الدنيا في "الإشراف" "رقم 255". ورجال إسناده ثقات، إلا أن إسناده ضعيف، حماد سمع من عطاء قبل اختلاطه وبعده ولم يتميز حديثه، فترك، وفي سماع محارب من عمر نظر، انظر ترجمة "محارب" في "تهذيب الكمال" "27/ 255"، وتابع حمادا ابنُ فضيل، وعنه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 241- ط دار الفكر"، ولكن فيه: "عن عطاء، قال: حدثني غير واحد أن قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب، فقال ..... " وذكر نحوه، ولم يعزه في "كنز العمال" "11/ 349/ رقم 21709" إلا له. فائدة: طبع كتاب "تفسير الأحلام الكبير" منسوبا لابن سيرين وهو خطأ، وصوابه أنه لأبي سعد الواعظ، وكنت نفيت صحة نسبته لابن سيرين في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 275 وما بعدها"، وسردت أدلة على ذلك، ووقفت فيما بعد على اسم مؤلفه، وهو ممن يروي عن ابن جميع الصيداوي وطبقته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 وَيَكْثُرُ نَقْلُ مِثْلِ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ وَلَكِنْ يَبْقَى هُنَا النَّظَرُ فِي شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَحْتَمِلُ بَسْطًا، فَلْنُفْرِدْهُ بِالْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهِيَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُرَاعَى وتُعتبر، إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَخْرِمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا قَاعِدَةً دِينِيَّةً1، فَإِنَّ مَا يَخْرِمُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَيْسَ بِحَقٍّ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ إِمَّا خَيَالٌ أَوْ وَهْمٌ، وَإِمَّا مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ يُخَالِطُهُ مَا هُوَ حَقٌّ وَقَدْ لَا يُخَالِطُهُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ مِنْ جِهَةِ مُعَارَضَتِهِ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ مَشْرُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّشْرِيعَ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ لَا خَاصٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا، وَأَصْلُهُ لَا يَنْخَرِمُ، وَلَا يَنْكَسِرُ لَهُ اطِّراد، وَلَا يُحَاشَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ مُكَلَّفٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكُلَّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مُضَادًّا لِمَا تَمَهَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ فَاسِدٌ بَاطِلٌ. وَمَنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ رُشْدٍ فِي حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي أَمْرٍ، فَرَأَى الْحَاكِمُ فِي مَنَامِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "لَا تَحْكُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا بَاطِلٌ"، فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الرُّؤْيَا لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا بِشَارَةٍ وَلَا نِذَارَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَخْرِمُ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ2، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَأْتِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ.   1 انظر تقعيد ذلك والأدلة عليه في: "الاعتصام" "2/ 153، وما بعدها" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 226، 227، 10/ 473-474 و13/ 73-176 و20/ 45 و11/ 77، 208-210، و20/ 42-47"، و"شرح العقيدة الطحاوية" "ص498، 500" و"مدارج السالكين" "3/ 228"، و"شرح مراقي السعود" "288"، وأضواء البيان" "4/ 159"، و"قطر الولي" "ص252"، و"الجامع لأخلاق الراوي" "1/ 80"، و"الفروق" "4/ 244"، و"فتح الباري" "12/ 388"، و"إرشاد الفحول" "249"، و"قواعد التحديث" "ص149"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 146" للأشقر، و"مشتهى الخارف الجاني" "ص268". 2 انظر نص فتوى ابن رشد في "فتاويه" "1/ 611-612"، ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "10/ 217-218"، وانظر في المسألة أيضا: "البحر المحيط" "1/ 62-63" للزركشي، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 262-263"-ط رشيد رضا و1/ 334-335، ط ابن عفان"، وذكر فيه ما حكاه عن ابن رشد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وَمَا رُوِيَ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفَذَ وَصِيَّةَ رَجُلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِرُؤْيَا رؤيت"1، فَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا تَقْدَحُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِاحْتِمَالِهَا، فَلَعَلَّ الْوَرَثَةَ رَضُوا بِذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا خَرْمُ أَصْلٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ حَصَلَتْ لَهُ مُكَاشَفَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْمَعِينَ مَغْصُوبٌ أَوْ نَجِسٌ، أَوْ أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ كَاذِبٌ، أَوْ أَنَّ الْمَالَ لِزَيْدٍ وَقَدْ تَحَصَّلَ بِالْحُجَّةِ لِعَمْرٍو، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَلَا تَرْكُ قَبُولِ الشَّاهِدِ، وَلَا الشَّهَادَةِ2 بِالْمَالِ لِزَيْدٍ عَلَى حَالٍ، فَإِنَّ الظَّوَاهِرَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهَا بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ أَمْرٌ آخَرُ، فَلَا يَتْرُكُهَا اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الْمُكَاشَفَةِ أَوِ الْفِرَاسَةِ، كَمَا لَا يَعْتَمِدُ فِيهَا عَلَى الرُّؤْيَا النَّوْمِيَّةِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَجَازَ نَقْضُ الْأَحْكَامِ3 بِهَا، وَإِنْ تَرَتَّبَتْ فِي الظَّاهِرِ مُوجِبَاتُهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِحَالٍ، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي "الصَّحِيحِ": "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي، ولعل بعضكم أن يكون   1 وقعت له هذه الرؤيا مع صهيب، كما في "مصنف ابن أبي شيبة" "7/ 240- ط دار الفكر"، وكذا أمضى عمر رؤيا في المنام، كما تراه في "مصنف عبد الرزاق" "9/ 242". 2 لعلها: ولا الحكم. "د". 3 أي: وإبطالها بعد صدورها من القاضي اعتبارا بأن الكشف أظهر الخطأ البين الذي ينقض به الحكم غير صحيح، فكذا ترك موجبات الحكم بحسب الظاهر على مقتضى قواعد الشريعة تعويلا على كشف أو غيره لا يكون صحيحا، وقد يقال: إن نقض الأحكام إنما يكون في جزئيات نادرة مقيدة بقيود كثيرة، فهو أبعد من ترك بعض موجبات الحكم إذا حصل تعارض بينها، فالملازمة ممنوعة؛ أي أنه لا يلزم من التنحي عن الأخذ بالشهادة المعتبرة شرعا إلى الأخذ بالكشف لزوم نقض الحكم الذي صدر بالفعل بناء على هذه الشهادة لحصول الكشف؛ وذلك لأن نقض الأحكام يترتب عليه فساد كبير وتعليل للأحكام، كما أشار إليه المؤلف في موضع آخر. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 ألحنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْكُمُ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ" 1 الْحَدِيثَ، فَقَيَّدَ الْحُكْمَ بِمُقْتَضَى مَا يَسْمَعُ وَتَرَكَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُجْرَى عَلَى يَدَيْهِ يُطلع عَلَى أَصْلِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ حُقٍّ وَبَاطِلٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْكُمْ إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعَ، لَا عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَ2، وَهُوَ أَصْلٌ فِي مَنْعِ الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا شَهِدَتْ3 عِنْدَهُ الْعُدُولُ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ خِلَافَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُمْ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ كَانَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ، هَذَا مَعَ كَوْنِ عِلْمِ الْحَاكِمِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا رِيبَةَ فِيهَا، لَا مِنَ الْخَوَارِقِ الَّتِي تُدَاخِلُهَا الْأُمُورُ، وَالْقَائِلُ4 بِصِحَّةِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، فذلك بالنسبة إلى العلم.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين 5/ 288/ رقم 2680، وكتاب الحيل، باب منه 12/ 339/ رقم 6967"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة 3/ 1337/ رقم 1713" عن أم سلمة مرفوعا. 2 لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة، والحكم بطريق الباطن غير الحكم بما علمه من طريق الرؤية أو السماع، وهذا هو الذي يعد بعضهم الحكم به من خصائصه عليه السلام، ويرى آخرون أنه طريق مشروع لغيره من القضاة، إما بإطلاق، وإما في مواضع مخصوصة، ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام: "فأقضي له على نحو ما أسمع"، فإن التنصيص على السماع* لا ينفي حكمه [على] بعض الوقائع على حسب ما علم فيها بالطرق المعهودة من رؤية أو سماع، والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقا للواقع ليس بخطأ؛ لأنه حكم بما أمر الله. "خ". 3 في "ط": "شهد". 4 قال ابن العربي في "كتاب الأحكام" "اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يَقتُل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، هل يحكم بعلمه أم لا؟ " "د".   * في الأصل: "إسماع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْعَادَاتِ، لَا مِنَ الْخَوَارِقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ1 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْعُظْمَى، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّاشِيِّ الْمَالِكِيِّ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيًا، قَالَ: "وَلِشَيْخِنَا فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ2 جزء في الرد عليه"، هذا ما قاله، وَهُوَ حَقِيقٌ بِالرَّدِّ إِنْ كَانَ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ سِوَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ أَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، فَقَدِ امْتَنَعَ أَقْوَامٌ عَنْ تَنَاوُلِ أَشْيَاءَ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ فِي الظَّاهِرِ تَنَاوُلُهَا، اعْتِمَادًا عَلَى كَشْفٍ أَوْ إِخْبَارٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَاءَ عَنِ الشِّبْلِيِّ حِينَ اعْتَقَدَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ، فَرَأَى بِالْبَادِيَةِ شَجَرَةَ تِينٍ، فهمَّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا فَنَادَتْهُ الشَّجَرَةُ: أَنْ لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي لِيَهُودِيٍّ3. وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ الْمُهْتَدِي أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً؛ فَلَيْلَةُ الدُّخُولِ وَقَعَ عَلَيْهِ نَدَامَةٌ، فَلَمَّا أَرَادَ الدنوَّ مِنْهَا زُجِرَ عَنْهَا، فَامْتَنَعَ وَخَرَجَ، فَبَعْدَ ثلاثة أيام ظهر لها زوج4.   1 أي: فقد كان يطلع على ما في الأمر من حق وباطل، ومع ذلك كان يعول في حكمه على القانون الشرعي من اعتبار مقتضى الظواهر. "د". 2 هو محمد بن أحمد رئيس الشافعية في وقته، كان يلقب بالخبير لدينه وورعه وعلمه وزهده، توفي سنة "507هـ"، له ترجمة في "السير" "19/ 393"، وانظر مدح ابن العربي له واستفادته منه في كتابه "قانون التأويل" "ص111-113"، ونقله المزبور في "أحكام القرآن" "3/ 1131"، وعنه القرطبي في "التفسير" "10/ 44-45" "النحل: 75". 3 أي: مملوكة، وليست من أشجار البادية الخالية من الملكية، وأما كونها ليهودي بهذا الوصف، فلا تأثير له في أصل الحكم، ولكنه يفيد زيادة ورع حتى إنه تنحى عنها وهي لكافر. "د". قلت: القصة في "رسالة القشيري" "ص173-174" -وليس فيها: "فإني ليهودي"- و" الاعتصام" "1/ 271- ط ابن عفان". 4 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص167"، وعلق عليها بقوله: "هذه هي الكرامة على الحقيقة؛ حيث حفظ عليه العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَامَةٌ عَادِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ عَادِيَّةٍ يَعْلَمُ بِهَا، هَلْ هَذَا الْمُتَنَاوَلُ حلام أَمْ لَا؟ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ حَيْثُ كَانَ لَهُ عِرْقٌ فِي بَعْضِ أَصَابِعِهِ إِذَا مَدَّ يَدَهُ إِلَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ تَحَرَّكَ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ1. وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَفِيهِ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ الْقَوْمُ. وَقَالَ: "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ" وَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ2 الْحَدِيثَ، فَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَانْتَهَى هُوَ وَنَهَى أَصْحَابَهُ عَنِ الْأَكْلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ. وَهَذَا أَيْضًا مُوَافِقٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ شَرْعٌ لَنَا إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَاسِخٌ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ أُمِرُوا بِذَبْحِهَا وَضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِهَا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ، فَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ3 بِالْقِصَاصِ، وَفِي قِصَّةِ الْخَضِرِ فِي خَرْقِ   1 ذكر هذه القصة القشيري في "رسالته" "ص12" والمصنف في "الاعتصام" "1/ 270- ط ابن عفان". 2 هذا لفظ أبي داود في "السنن" "كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟ 4/ 174-175/ رقم 4512" عن أبي هريرة، ونقله المصنف من "الشفا" للقاضي عياض "1/ 607"؛ فإنه كثير المتابعة له في ذلك. وأصل الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في سَم النبي صلى الله عليه وسلم 10/ 244/ رقم 5777، وكتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سُمَّت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر 7/ 497/ رقم 4249" عن أبي هريرة مطولا ومختصرا. وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين 5/ 230 / رقم 2617"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب السم 4/ 1721/ رقم 2190" عن أنس رضي الله عنه. 3 في الأصل: "الحكم عليه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ1، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْثَرُ فِي معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكرامات الأوليات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ كَالْعَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، فَكَمَا لَوْ دَلَّنَا أَمْرٌ عَادِيٌّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ غَصْبِهِ لَوَجَبَ علينا الاجتناب، فكذلك ههنا؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِخْبَارٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ، وَرُؤْيَتِهَا بِعَيْنِ الْكَشْفِ الْغَيْبِيِّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى هَذَا كَمَا يبنى على ذلك2.   1 مضى تخريجه "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره. 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى "11/ 65-66": "وأما خواص الناس، فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى، كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد، ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يَزِنُوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب، وقد كانت تقع له وقائع، فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صديقه التابع له الآخذ عنه، الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه. ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة، لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا، فهو كافر". وأسهب رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "13/ 68-70" في ذكر الحجج والأدلة على الاستئناس بالمكاشفات التي لا تضاد الشريعة، وبين أنه لا يجوز الاعتماد عليهم بالكلية، وفي هذا يقول علي القاري رحمه الله تعالى في رسالته "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة" "ص16- بتحقيقي: "لا اعتبار لمكاشفات الأولياء ومحاضرات الأصفياء، بحيث يعتمد عليها بالكلية في الأمور الشرعية، أو في الأطوار الحقيقية، فإن الإنسان ما دام في هذه الدار المشوبة بالأكدار لا تصفى له الأسرار، ولا تتجلى له الأنوار، بخلاف الأنبياء الأبرار والرسل الكبار، ولذا قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} [ق: 22] . قلت: سيأتي في القسم الأخير من الكتاب إشارة من المصنف في الفرق بين إلهامات الأنبياء وغيرهم، فانظره هناك، تولى الله هداك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ أَبْعَدَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ لَا نِزَاعَ بَيْنِنَا فِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ مَا ذُكِرَ صَوَابًا، وَعَمَلًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاعْتِبَارُ بِمَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْقِيَاسِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، إِذَا لَمْ يَثْبُتُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْخَوَارِقِ مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مِنْ] 1 حَيْثُ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُعْجِزًا، وَتَكُونُ قِصَّةُ الْخَضِرِ عَلَى هَذَا مِمَّا نُسِخَ2 فِي شَرِيعَتِنَا، عَلَى أَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ3 بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، بِنَاءً عَلَى مَا ثبت عنده من العادات، أما قتل   1 سقط من "ط". 2 لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت هذه القصة في معناه، حتى يقاس عليه، فلا نعول إلا على ما كان قد صدر في معناه شيء في شرعنا، فنلحق به بطريق القياس. "د". قلت: انظر تعليقنا على الهامش الآتي. 3 أي أنه إذا قامت القرائن المؤكدة أن المال لا ينجو من الغصب إلا بهذا العمل، فلا مانع منه، أي: وعليه فلا حاجة إلى دعوى النسخ. "د". ومن الجدير بالذكر أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما كما قدمنا أن الخضر قال له: "يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه". وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة. وقد ثبت في "الصحاح" من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء، قال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 ..................................................   = عن متابعة موسى وطاعته مستغنيا عنه بما علمه الله، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنى على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا. وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة، ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل، وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ، ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى، لما وافقه. ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب وإن كان قد يكون أفضل من الأول، مثل شخصين دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف، وذلك مباح في الشريعة، والآخرالذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف. وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة إذا علموا ذلك أن يخرقوها؛ لئلا يأخذها الملك؛ لأن بقاءها مع الخرق فيها خير من انتزاعها منه. وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه؛ لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال، ولهذا ثبت في "صحيح البخاري" أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان، قال: "إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام، فاقتلهم، وإلا، فلا تقتلهم". وكذلك في "الصحيحين"، أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد وكان مراهقا لما ظنه الدجال، فقال: "إن يكنه، فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله"، فلم يقل: إن يكنه، فلا خير لك في قتله، بل قال: "فلن تسلط عليه" وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه؛ لقطع فساده لم يكن ذلك محذورا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيا، فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم، كان الأخص عديم التأثير. وأما بناء الجدار، فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بيَّن الخضر أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعا.= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 ................................................   = والمقصود من هذا كله أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق، أفاده شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" "11/ 420 وما بعدها". ولله در أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله تعالى، فقد قال فيما نقله عنه تلميذه الإمام القرطبي المفسر في تفسيره: "الجامع لأحكام القرآن" "11/ 40-41" ما نصه: "ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هدم الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم كما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون". قال الإمام القرطبي: "قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول -أي: قول الزنادقة، هذه الأحكام .... - زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسالة السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عن رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75] . وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام: 124] . وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] .... إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري وإجماع السلف والخلف على أن لا طريقة لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها، إلا من جهة الرسل. فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر يُقتَل ولا يستتاب ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة" ا. هـ. ونحوه في "7/ 39". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 الْغُلَامِ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ مَنْسُوخَةٌ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَمُحْكَمَةٌ عَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ عَلَى وَفْقِ الْقَوْلِ الْمَذْهَبِيِّ فِي قَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ. وَالثَّانِي: عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْأَوْلَى؛ إِذِ الْجَارِي عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ إِنْ قَدَّرْنَا عَدَمَهُ، فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى نَصٍّ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ طَلَبُ اجْتِنَابِ حَزَّازِ الْقُلُوبِ الَّذِي1 هُوَ الْإِثْمُ، وَحَزَّازُ الْقُلُوبِ يَكُونُ بِأُمُورٍ لَا تَنْحَصِرُ، فَيَدْخُلُ فِيهَا هَذَا النَّمَطُ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، والإثم ما حاك في صدرك" 2، فإذن لَمْ يَخْرُجْ هَذَا عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى نصوص شرعية عند   1 في الأصل: "إذ هو". 2 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 193، 194، 194-195" -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "22/ 219"/ رقم 585"، و"مسند الشاميين" "رقم 782" وأبو نعيم في "الحلية "2/ 30"- وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ ق 10" عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا، "البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" وإسناده جيد، كما قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 95"، وورد نحو لفظ المصنف من حديث وابصة بن معبد الجهني، أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 228"، والدارمي في "السنن" "2/ 245-246"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 1586-1587" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 292" -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 703"- وإسناده ضعيف منقطع، فيه الزبير أبو عبد السلام وهو ضعيف، وبينه وبين أيوب بن عبد الله بن مكرز انقطاع، أفاده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94"، وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 مَنْ فَسَّرَ حَزَّازَ الْقُلُوبِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي اعْتِبَارِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يُخِلُّ بِقَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ ابْنِ رُشْدٍ وَأَشْبَاهِهَا، وَقَتْلِ الْخَضِرِ الْغُلَامَ عَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمِثْلِهِ فِي شَرِيعَتِنَا الْبَتَّةَ، فَهُوَ حَكَمٌ مَنْسُوخٌ، وَوَجْهُ مَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ مِنَ الْحِكَايَاتِ مَا يُشْعِرُ بِمُقْتَضَى السُّؤَالِ، فَعُمْدَةُ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ خُصُوصًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاعْتِقَادِ فِي الْغَيْرِ عُمُومًا أَيْضًا، فَإِنَّ سَيِّدَ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إِعْلَامِهِ بِالْوَحْيِ يُجْرِي الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فِي الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ عَلِمَ بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُخْرِجِهِ عَنْ جَرَيَانِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَا قَالَ: "خَوْفًا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" 1، فَالْعِلَّةُ أَمْرٌ آخَرُ لَا مَا زُعِمَتْ، فَإِذَا عُدِمَ مَا عُلِّلَ به، فلا حرج.   = 227"، والطبراني في "الكبير" "22/ رقم 402"، والبزار في "مسنده" "رقم 183- زوائده"، والبيهقي في الدلائل" "6/ 292"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "17/ ق 702" بإسناد فيه أبو عبد الله الأسدي، وسماه بعضهم أبو عبد الرحمن السلمي، وهو مجهول، وقيل فيه أشد من ذلك. قال البزار: أبو عبد الله الأسدي لا نعلم أحدا سماه"، وقال فيه الهيثمي في "المجمع" "1/ 175": "ولم أجد من ترجمه"، وأفاد أن الرواة اختلفوا في كنيته، وهو هو، وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "2/ 94": "والسلمي هذا قال علي بن المديني: مجهول، وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي، وقال البزار: لا نعلم أحدا سماه، كذا قال، وقد سمي في بعض الروايات "عند ابن عساكر" محمدا، قال عبد الغني بن سعيد الحافظ: لو قال قائل: إنه محمد بن سعيد المصلوب لما دفعت ذلك، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة، وهو مشهور بالكذب والوضع ولكنه لم يدرك وابصة والله أعلم". 1 أخرج البخاري في "الصحيح" كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية 6/ 546/ رقم 3518" عن جابر ضمن قصة: "قال: عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لئن رجعنا = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ؛ لِأَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلى أن يُحْفَظَ تَرْتِيبُ الظَّوَاهِرِ، فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ، فَالْعُذْرُ فِيهِ [ظَاهِرٌ] 1 وَاضِحٌ، وَمَنْ طَلَبَ قَتْلَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَمْرٍ غَيْبِيٍّ رُبَّمَا شَوَّشَ الْخَوَاطِرَ، وَرَانَ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَقَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ سَدُّ هَذَا الْبَابِ جُمْلَةً، أَلَا تَرَى إِلَى بَابِ الدَّعَاوَى الْمُسْتَنِدِ إِلَى أَنَّ "الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"2، وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، حَتَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتاج إلى البينة   = إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال عمر: ألا نقتُل يا نبي الله هذا الخبيث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه". وأخرجه بنحوه البخاري أيضا "كتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُم} 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة} 8/ 653/ رقم 4905". 1 سقط من "ط". 2 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "10/ 252" من طريق أبي القاسم الطبراني، عن الفريابي: ثنا سفيان، عن نافع، عن أبي مليكة، عن ابن عباس رفعه، بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، وقال: "قال أبو القاسم: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي". وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه/ رقم 2514، وكتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود/ رقم 2668، وكتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} رقم 4552"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه / رقم 1711" بلفظ: "واليمين على المدعى عليه" دون "البينة على المدعي". وذكر "البينة ..... " من أخطاء سفيان أو الفريابي، فإن الجماهير رووه عن نافع دونها، وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 264-265/ رقم 2641". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "35/ 391" في هذا الحديث باللفظ المذكور: ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة"، ونحوه عند ابن القيم في "الطرق الحكمية" "87-88، 110-111". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 فِي بَعْضِ مَا أَنْكَرَ فِيهِ مِمَّا كَانَ اشْتَرَاهُ، فَقَالَ: "مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ "، حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ شَهَادَتَيْنِ1، فَمَا ظَنُّكَ بِآحَادِ الْأُمَّةِ؟ فَلَوِ ادَّعَى أَكْفَرُ2 النَّاسِ عَلَى أَصْلَحِ النَّاسِ لَكَانَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ، وَالنَّمَطُ وَاحِدٌ، فَالِاعْتِبَارَاتُ الْغَيْبِيَّةُ مُهْمَلَةٌ بِحَسَبِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا لَمْ يَعْبَأِ النَّاسُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِكُلِّ كَشْفٍ أَوْ خِطَابٍ خَالَفَ الْمَشْرُوعَ، بَلْ عدُّوا أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مُحْتَمَلَةٌ3. وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْلِيمِ الشَّجَرَةِ، فَلَيْسَ بِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، بِحَيْثُ يَكُونُ تَنَاوُلُ التِّينِ مِنْهَا حَرَامًا عَلَى الْمُكَلَّمِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ فِي الْفَلَاةِ صَيْدًا، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مَمْلُوكٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ تَرَكَهُ لِغِنَاهُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ مِنْ يَقِينٍ بِاللَّهِ، أَوْ ظَنِّ طَعَامٍ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ نَقُولُ: كَانَ الْمُتَنَاوَلُ مُبَاحًا لَهُ، فَتَرَكَهُ لِهَذِهِ الْعَلَامَةِ كَمَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ لِمَشُورَةٍ أَوْ رؤيا أو غير   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به 3/ 308/ رقم 3607"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع 7/ 301-302"، وأحمد في "المسند" "5/ 215-216"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "4/ 115، 116/ رقم 2084، 2085"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 87"، والطبراني في "الكبير" "4/ 101/ رقم 3730"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17-18"، وإسناده صحيح. وكتب "خ" هنا ما نصه: "خص الله خزيمة بهذه المزية دون سائر الصحابة؛ مكافأة له؛ حيث بادر إلى الشهادة للنبي عليه الصلاة والسلام على مبايعة الأعرابي مستندا في تصديقه إلى البراهين القائمة على عصمته من أن يقول على الله أو يدعي على مخلوق ما ليس بحق". 2 كذا في الأصل وفي "د"، وفي النسخ المطبوعة: "أكبر" بالباء. قال "د": "لعلها أكذب". 3 أي: لما يأتي بعدُ. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 ذَلِكَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَاءِ الَّذِي كُوشِفَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَوْ مَغْصُوبٌ، وَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهَا بِحَيْثُ لَا يَنْخَرِمُ لَهُ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ في الظاهر، بل يصير منتفلا مِنْ جَائِزٍ إِلَى مَثْلِهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ لِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْكَشْفِ إِعْمَالًا لِلظَّاهِرِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَتِهِ بِهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا لَوْمَ؛ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ بِالْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ أَنْ تَخْرِقَ أَمْرًا شَرْعِيًّا، وَلَا أَنْ تَعُودَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بِالنَّقْضِ، كَيْفَ وَهِيَ نَتَائِجُ عَنْ اتِّباعه، فَمُحَالٌ أَنَّ يُنْتِجَ الْمَشْرُوعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، أَوْ يَعُودَ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالنَّقْضِ، هَذَا لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ. وَتَأَمَّلْ مَا جَاءَ فِي شَأْنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، إِذْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا، فَهُوَ لِفُلَانٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا، فَهُوَ لِفُلَانٍ" 1، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَهِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْمَكْرُوهِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: "لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ" 2، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ هِيَ الْمَانِعَةُ، وَامْتِنَاعُهُ مِمَّا هَمَّ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَفَرَّسَ بِهِ لَا حُكْمَ لَهُ حِينَ3 شَرِعِيَّةِ الْأَيْمَانِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ الْأَيْمَانِ مَا قَالَ الزَّوْجُ، لَمْ تَكُنِ الْأَيْمَانُ دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهَا. وَالْجَوَابُ عَلَى4 السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ الخوارق وإن صارت لهم كغيرها،   1 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور 8/ 449/ رقم 4747" من حديث ابن عباس، ولفظ آخره: "أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء" فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن". وورد الحديث عن ابن مسعود وسهل بن سعد رضي الله عنهم بألفاظ متعددة. 2 انظر تخريج الحديث السابق. 3 في الأصل: "حينئذ"، وفي "ط": "مع". 4 في "ط": "عن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِإِعْمَالِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، إِذَا1 لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ شَرْعًا مَعْمُولًا بِهِ، وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْخَوَارِقَ إِنْ جَاءَتْ تَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ، فَهِيَ مَدْخُولَةٌ قَدْ شَابَهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، كَالرُّؤْيَا غَيْرِ الْمُوَافِقَةِ، كَمَنْ يُقَالُ لَهُ: "لَا تَفْعَلْ كَذَا"، وَهُوَ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِفِعْلِهِ، أَوْ "افْعَلْ كَذَا"، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا لِمَنْ لَمْ يُبَنْ أَصْلُ سُلُوكِهِ عَلَى الصَّوَابِ، أَوْ مَنْ سَلَكَ وَحْدَهُ بِدُونِ شَيْخٍ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَ الْأَوْلِيَاءِ وَجَدَهُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ فِيهَا إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَقَدْ بُنِيَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهَا يُعْمَلُ عَلَيْهَا. قِيلَ: إِنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا بِخَرْمِ قَاعِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَأَمَّا الْعَمَلُ عَلَيْهَا مَعَ الْمُوَافَقَةِ، فَلَيْسَ بِمَنْفِيٍّ. فَصْلٌ: إِذَا تَقَرَّرَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَأَيْنَ يُسَوَّغُ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهَا؟ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْجَائِزَاتِ أَوِ الْمَطْلُوبَاتِ الَّتِي فِيهَا سِعَةٌ يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهَا بِمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ، كَأَنْ يَرَى الْمُكَاشِفُ أَنَّ فُلَانًا يَقْصِدُهُ فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ يَعْرِفُ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ فِي إِتْيَانِهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ أَوْ مُخَالَفَةٍ، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حَدِيثٍ أَوِ اعْتِقَادِ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَعْمَلُ عَلَى التَّهْيِئَةِ لَهُ حَسْبَمَا قَصَدَ إِلَيْهِ، أَوْ يَتَحَفَّظُ مِنْ مَجِيئِهِ إِنْ كَانَ قَصْدُهُ الشَّرَّ، فَهَذَا مِنَ الْجَائِزِ لَهُ، كَمَا لَوْ رَأَى رُؤْيَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُعَامِلُهُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا لِفَائِدَةٍ يَرْجُو نجاحها، فإن العاقل لا يدخل   1 في "ط": "إذ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 عَلَى نَفْسِهِ مَا لَعَلَّهُ يَخَافُ عَاقِبَتَهُ، فَقَدْ يَلْحَقَهُ بِسَبَبِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا عَجَبٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْكَرَامَةُ كَمَا أَنَّهَا خُصُوصِيَّةٌ، كَذَلِكَ هِيَ فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِذَا عَرَضَتْ حَاجَةٌ، أَوْ كَانَ لِذَلِكَ سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ، فَلَا بَأْسَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِالْمُغَيَّبَاتِ1 لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُخْبِرْ بِكُلِّ مَغَيَّبٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى مُقْتَضَى الْحَاجَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ أَنَّهُ "يَرَاهُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ" لِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ2، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ مِنْ غير إخبار بذلك، وهكذا سائر.   1 ولم يكن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلَمُ شيئا من الغيب، إلا بما أظهره الله عليه، وهذا في نص القرآن، قال الله تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26-27] . 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلاة، باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة 1/ 514/ رقم 418، وكتاب الأذان، باب الخشوع في الصلاة 2/ 225/ رقم 741"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها 1/ 319/ رقم 423"، وأحمد في "المسند" "2/ 303، 375"، وأبو عوانة في "صحيحه" "2/ 152"، جميعهم من طريق مالك في "الموطأ" "1/ 167" عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: "إني لأراكم من وراء ظهري". وقد اختُلِف في معنى هذه الرؤية، فقيل: الوحي أو الإلهام، وقيل: تنطبع صور من خلفه في حائط قبلته، وقيل: يرى من عن يمينه ومن عن يساره، وقيل: يراهم من عينين كانا بين كتفيه، أو من وراء ظهره يبصر بهما، لا يحجبهما شيء، وهذا كله تكلف ظاهر، والصواب ما قاله الإمام أحمد فيما نقل عنه ابن عبد البر في "التمهيد" "18/ 346"، قال: "أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد المؤمن، قال: أخبرنا عبد الحميد بن أحمد بن عيسى الوراق، قال: أخبرنا الخضر بن داود، قال: أخبرنا أبو بكر الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل رحمه الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أراكم من وراء ظهري"؟ فقال: كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. قلت له: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه وشماله. فأنكر = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 كَرَامَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ، فَعَمَلُ أَمَّتِهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْلَى1 مِنْهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ خَوْفِ الْعَوَارِضِ كَالْعُجْبِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِخْبَارِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسَلَّمٌ، وَلَا يَخْلُو إِخْبَارُهُ مِنْ فَوَائِدَ، وَمِنْهَا تَقْوِيَةُ إِيمَانِ كُلِّ مَنْ رَأَى ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ بِهِ، وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَنْقَطِعُ مَعَ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَحْذِيرٌ أَوْ تَبْشِيرٌ؛ لِيَسْتَعِدَّ لِكُلِّ عُدَّتِهِ، فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ، كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ يَنْزِلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، أَوْ لَا يَكُونُ إِنْ فَعَلَ كَذَا، فَيَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ عَلَى وِزَانِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، فَلَهُ أَنْ يُجْرِيَ بِهَا مَجْرَى الرُّؤْيَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ تُرْكَانَ، قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ، فَفُتِحَ عَلَيَّ بِدِينَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلِّي أَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَهَاجَ بِي وَجَعُ   = ذلك إنكارا شديدا". قلت: ومن الجدير بالذكر أن هذه الرؤية محصورة وهو صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ولم يتم دليل على عمومها، وانظر حولها: "الشفا" "1/ 92"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "4/ 149"، و"فتح الباري" "1/ 514"، و"الخصائص الكبرى" "1/ 61" للسيوطي، و"غاية السول" "ص271-272"، و"الرسالة الناصرية" "ص34" للزاهدي. قال الشيخ "خ": "هذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من حمل الرؤية في حديث: "إني لأراكم من وراء ظهري" على ظاهرها، أعني: الرؤية البصرية، وذهب فريق آخر إلى أنها رؤية القلب، وهي على كلا الوجهين آية صدق وعلم من أعلام النبوة، ولا يطعن في هذا الحديث سؤاله عليه الصلاة والسلام كما ورد في بعض الأحاديث عن أناس صدرت منهم أفعال أو أقوال في حال ائتمامهم به في الصلاة، فإنه كان عليه السلام يترقى في فضائله الخاصة ولا سيما ما كان من نوع المعجزة، فكانت تخلع فيه فضيلة بعد أخرى فيصح أن تكون هذه المزية ما أكرمه الله بها بعد وقائع السؤال". 1 لأن الأول لم ينظر منه إلى الفائدة التي يرجو نجاحها، بل مجرد أمر جائز، أما هنا، فإنه وإن كان جائزا أو في حكمه خشية العوارض، إلا أنه مقيد بأن يكون لفائدة يرجو نجاحها. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 الضِّرْسِ فَقَلَعَتْ سِنًّا، فَوَجِعَتِ الْأُخْرَى حَتَّى قَلَعْتُهَا، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: إِنْ لَمْ تَدْفَعْ إِلَيْهِمْ الدِّينَارَ لَا يَبْقَى فِي فِيكَ سِنٌّ وَاحِدَةٌ1. وَعَنِ الرُّوذْبَارِيِّ2 قَالَ: فيَّ اسْتِقْصَاءٍ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ، فَضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً؛ لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي، فَقُلْتُ: ياَ رَبِّ! عَفْوُكَ، فَسَمِعَتْ هَاتِفًا يَقُولُ: الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ، فَزَالَ عَنِّي ذَلِكَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمِ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي3 الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الخَوارق، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ؛ لِتَكُونَ مِثَالًا يُحْتَذَى حَذْوَهُ وَيُنْظَرُ فِي هَذَا الْمَجَالِ إِلَى جِهَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ هَذَا النَّحْوُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وهي:   1 ذكره القشيري في "رسالته" "ص168" وعلق عليه بقوله: "وهذا في باب الكرامة أتم من أن يضع عليه دنانير كثيرة ينقض العادة". 2 هو أحمد بن عطاء، والمنقول عنه عند القشيري في "رسالته" "ص163"، وفيها عنه: "كان لي استقضاء في أمر الطهارة ..... ". 3 في الأصل: "وفي"، وفي "ط": "كان بي ...... ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ كَمَا أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُخْتَلِفَاتِ أَحْوَالِهِمْ، فَهِيَ عَامَّةٌ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مُكَلَّفٍ، فَإِلَيْهَا نَرُدُّ كُلَّ مَا جَاءَنَا مِنْ جِهَةِ الباطن، كما نرد إليها كل كُلَّ مَا فِي الظَّاهِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ. - مِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مِنْ تَرْكِ اعْتِبَارِ الْخَوَارِقِ إِلَّا مَعَ مُوَافَقَةِ ظاهر الشريعة. - والثاني: أن الشريعة حكامة لَا مَحْكُومٌ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ مِنَ الْخَوَارِقِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ حَاكِمًا عَلَيْهَا بِتَخْصِيصِ عُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدِ إِطْلَاقٍ، أَوْ تَأْوِيلِ ظَاهِرٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَكَانَ غَيْرُهَا حَاكِمًا عَلَيْهَا، وَصَارَتْ هِيَ مَحْكُومًا عَلَيْهَا بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ. - وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُخَالَفَةَ الْخَوَارِقِ لِلشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهَا فِي نَفْسِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي ظَوَاهِرِهَا كَالْكَرَامَاتِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ أَعْمَالًا مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ، كَمَا حَكَى عِيَاضٌ1 عَنِ الْفَقِيهِ أَبِي مَيْسَرَةِ الْمَالِكِيِّ2 أَنَّهُ كَانَ لَيْلَةً بِمِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ، وَقَدْ وَجَدَ رِقَّةً، فَإِذَا الْمِحْرَابُ قَدْ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ نُورٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ بَدَا لَهُ وَجْهٌ كَالْقَمَرِ، وَقَالَ لَهُ: "تَمَلَّأْ مِنْ وَجْهِي يَا أَبَا مَيْسَرَةَ، فَأَنَا رَبُّكَ الْأَعْلَى"، فَبَصَقَ فِيهِ وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ يَا لَعِينُ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَكَمَا يُحْكَى عَنْ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ أَنَّهُ عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا، فَإِذَا سَحَابَةٌ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِ شِبْهَ الرَّذَاذِ حَتَّى شَرِبَ، ثُمَّ نُودِيَ مِنْ سحابة3: "يا   1 في "ترتيب المدارك" "3/ 359- ط بيروت". 2 اسمه أحمد بن بزار، يكنى بأبي جعفر، من الفقهاء العباد المتبتلين، وكان مجانبا لأهل الأهواء، توفي سنة 337هـ"، أفاد القاضي عياض. 3 في "ط": "السحابة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 فُلَانُ! أَنَا رَبُّكَ وَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحَرَّمَاتِ". فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ يَا لَعِينُ. فَاضْمَحَلَّتِ السَّحَابَةُ. وَقِيلَ لَهُ: بِمَ عَرَفْتَ أَنَّهُ إِبْلِيسُ؟ قَالَ: بِقَوْلِهِ: "قَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحْرِمَاتِ"1. هَذَا وَأَشْبَاهُهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الشَّرْعُ حَكَمًا فِيهَا لَمَا عُرِفَ أَنَّهَا شَيْطَانِيَّةٌ. وَقَدْ نَزَعَتْ إِلَى هَذَا الْمَنْزَعِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحَيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خديجة بنت خوليد زَوْجُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَإِنَّهَا قَالَتْ لَهُ: "أَيِ ابْنَ عَمِّ! أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ. فَلَمَّا جَاءَ أخبرها، فقالت: قم يا ابن عَمِّ، فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِيَ الْيُسْرَى. فَجَلَسَ، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ حَوَّلَتْهُ إِلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى، ثُمَّ إِلَى حِجْرِهَا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَقُولُ: هَلْ تَرَاهُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ الرَّاوِي: فَتَحَسَّرَتْ، وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: لَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ! اثْبُتْ وَأَبْشِرْ، فوالله إنه لملك، ما هذا بشيطان2.   1 ذكرها ابن العماد في "شذرات الذهب" "4/ 200"، وانظر: "مشتهى الخارف الجاني" "ص65". 2 أخرجه ابن إسحاق- كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 192" - حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حُدِّثَ عن خديجة به، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 151- 152"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 172، 174". وإسناده منقطع، وفي متنه نكرة، إلا أن يقال ما أورده البيهقي عقبه: "قلت: وهذا شيء كانت خديجة رضي الله عنها تصنعه، تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقها، فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى". قال ابن إسحاق عقبه: "فحدثت عبد الله بن الحسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: "أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام. قلت: وعبد الله بن الحسن هو ابن حسن بن على بن أبي طالب، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو حاتم: وفاطمة بنت الحسين هي أمه، كما قال الذهبي في "تراجم رجال روى محمد بن إسحاق عنهم" "ص36"، فهذه الرواية إسنادها صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ثَمَّ مَدَارِكَ أُخَرَ يُخْتَصُّ بها الوالي، لَا يَفْتَقِرُ بِهَا إِلَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتُ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِهِ، فَتِلْكَ الْمَدَارِكُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ؛ إِذْ لَا يَخْتَصُّ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْخَوَارِقِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ حَكَمٍ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا، وَشَاهِدٍ يَشْهَدُ لَهَا، وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِدَعْوَى الْوِجْدَانِ، " [فَإِنَّ الْوِجْدَانَ] 1 مِنْ حَيْثُ هُوَ وِجْدَانٌ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى صحة ولا فساد2؛ لِأَنَّ الْآلَامَ وَاللَّذَّاتِ مِنَ الْمَوَاجِدِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِهَا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهَا، فَالْغَضَبُ مَثَلًا إِذَا هَاجَ بِالْإِنْسَانِ أَمْرٌ لَا يُنْكَرُ كَالْمَوَاجِدِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا إِذَا كَانَ غَضَبًا لِلَّهِ، وَمَذْمُومًا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ الله، ولا يفرق بينهما3 إِلَّا النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْغَضَبُ قَدْ أَدْرَكَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مَحْمُودٌ لَا مَذْمُومٌ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ رَاجِعَانِ إِلَى الشَّرْعِ لَا إِلَى الْعَقْلِ، فَمِنْ أَيْنَ أَدْرَكَ أَنَّهُ مَحْمُودٌ شَرْعًا؟ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَهُ كَذَلِكَ بِغَيْرِ الشَّرْعِ أَصْلًا، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَنْسُبَ تَمْيِيزَهُ إِلَى الْمُرَبِّي وَالْمُعَلِّمِ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ جارٍ فِيهِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا الَّذِي يُشْكِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَوَارِقَ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى كَسْبِهَا وَلَا عَلَى دَفْعِهَا؛ إِذْ هِيَ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده،   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "صحته ولا فساده". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بينها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَى صَاحِبِهَا، فَلَا حُكْمَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهَا غَيْرُ مُوَافِقَةٍ لَهُ، كَوُرُودِ الْآلَامِ وَالْأَوْجَاعِ عَلَى الْإِنْسَانِ بَغْتَةً، أَوْ وُرُودِ الْأَفْرَاحِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ، فَكَمَا لَا تُوصَفُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ شَرْعًا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، بَلْ أَشْبَهُ شَيْءٌ بِهَا الْإِغْمَاءُ أَوِ الْجُنُونُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، فَلَا حُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَإِنْ فَرَضْنَا لُحُوقَ الضَّرَرِ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ، كَمَا إِذَا أَتْلَفَ الْمَجْنُونُ مَالًا، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي حَالِ جُنُونِهِ، أَلَا تَرَى مَا يُحْكَى عَنْ جُمْلَةٍ مِنْهُمْ فِي اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الْأَحْوَالِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِمْ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ1، وَيَقَعُ مِنْهُمُ الْوَعْدُ فَيُؤْخَذُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِي الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُنَازَلَاتِ، فَلَا يَفُونَ، وَيُكَاشِفُونَ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ بِحَيْثُ يَطَّلِعُونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ2 إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا وَمَا كَانَ مِثْلُهُ إِذَا كَانَ وَاقِعًا مِنْهُمْ وَمَنْقُولًا عَنْهُمْ، وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَيْهِمْ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، فَكَيْفَ يُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعَدُّ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا اعْتِرَاضَ بِهِ، فَإِنَّ الْخَوَارِقَ وَإِنْ كَانَتْ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي كَسْبِهَا وَلَا دَفْعِهَا، فَلِقُدْرَتِهِ تَعَلُّقٌ بِأَسْبَابِ هَذِهِ الْمُسَبَّبَاتِ3. وَقَدْ مر أن الأسباب هي التي خوطب   1 ما كان لأهل العلم أن يأخذوا مثل هذه الدعوى مسلمة، ويثقوا بأن تكون الغفلة عن بعض الواجبات الشرعية ناشئة عن حال هي أثر من آثار الارتقاء في مقام التقوى والولاية، ويكفي للتوقف في صحتها أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الذين هم أصفى الناس بصائر، وأشدهم صلة بالله، وأرفعهم لديه منزلة، أنه استغرق في حال من المكاشفات يقظة حتى مضى عليه وقت من أوقات الصلاة. "خ". 2 وهو محرم بحسب الشريعة، لكنهم مقهورون عليه ليس لهم فيه اختيار. "د". 3 ليس هذا على إطلاقه، نعم، عدم تعرض المصنف للذي ليس له تعلق بقدرة المكلف حسن، فقد نقل المقري شيخ المصنف في كتابه "القواعد" "2/ 465-466" في "القاعدة الثالثة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 .....................................................................................   = والعشرين بعد المئتين" عن المازري قوله: "تقدير خوارق العادات ليس من دأب الفقهاء، أي: من عاداتهم لما فيه من تضييع الزمان بما لا يعني أو غيره"، ثم قال: أما الكلام على المحقق من ذلك، فقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليوم الذي كسنة، أتجزئ فيه صلاة يوم؟ فقال: "لا، اقدروا له قدره" [والحديث في "صحيح مسلم" "4/ 2252] . قلت: على حسب الشتاء والصيف معتبرا أوله بالزمان الذي ابتدأ فيه. وقد نزل الشافعي اجتماع عيد وكسوف، واعتذر عن الغزالي بأنه تكلم على ما يقتضيه الشرع غير ملتفت إلى الحساب، أو على ما يقتضيه الفقه لو تأتى، ورده المازري بالقاعدة" انتهى. ونص كلام الشافعي في "الأم" "1/ 239- 240": وإن كسفت الشمس يوم الجمعة ووافق ذلك يوم الفطر بدأ بصلاة العيد، ثم صلى الكسوف إن لم تنجل الشمس قبل أن يدخل في الصلاة". وكسوف الشمس لا يمكن أن يقع إلا في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، والعيد إنما يكون في اليوم الأول من الشهر في عيد الفطر، أو في عاشره في عيد الأضحى، فمن هنا استحال اجتماع عيد وكسوف. انظر: "حاشية الدسوقي على شرح الكبير" "1/ 404"، و"التاج والإكليل" "2/ 204". بقي بعد هذا أن يقال: هل للمؤمن أن يعمل على حصول الكرامات الخارقة؟ الخارقة فعل اضطراري من الله تعالى، ولكن بيد النبي أو الولي أسباب بعض هذه المسببات، كرميه صلى الله عليه وسلم التراب في وجوه الكفار، فأوصله الله إلى أعينهم، وعندما عطش الجيش طلب النبي صلى الله عليه وسلم بقية ماء في قدح، فوضع يده فيه، فنبع الماء من بين أصابعه حتى ملأ الجيش كل ما عندهم من الآنية، فهذا الرمي منه صلى الله عليه وسلم، ووضع يده فيه، ودعاء الله هو سبب حصول المعجزة. فهل للمؤمن أن يقتدي بذلك؛ أن يحاول بالرياضة التوصل إلى التمكن من ذلك، وأن يفعل الأسباب الموصلة إلى الخوارق؟ ذهب الجويني في "الإرشاد" "ص316"، وعليش في "هداية المريد"، والسنوسي في "شرح هداية المريد" "ص177" إلى أن كرامة الولي لا تقع بقصد منه، بل تقع دون قصد. وجوز المصنف وقوعها بالقصد، وتابع القشيري في "رسالته" "ص662- تحقيق عبد الحليم = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 الْمُكَلَّفُ بِهَا أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَمُسَبِّبَاتُهَا خَلْقٌ لِلَّهِ، فَالْخَوَارِقُ مِنْ جُمْلَتِهَا. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مَا نَشَأَ عَنِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ، فَمَنْسُوبٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ حُكْمُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَبُّبِ، لِأَجْلِ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ فِي الْمُسَبَّبَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْوِجَاجِ، وَالِاعْتِدَالِ وَالِانْحِرَافِ، فَالْخَوَارِقُ مُسَبِّبَاتٌ عَنِ الْأَسْبَابِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَبِقَدْرِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي الْأَعْمَالِ وَتَصْفِيَتِهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَكْدَارِ وَغُيُومِ الْأَهْوَاءِ تَكُونُ الْخَارِقَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ1، فَكَمَا أن يُعْرَفُ مِنْ نَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ صَوَابُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَوْ عَدَمِ صَوَابِهَا، كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطُّورِ: 16] . وَقَالَ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يُونُسَ: 52] . "إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إياها" 2.   = محمود" على ذلك، وبنى عليه في الوجه الثالث عشر من "المسألة العاشرة" المتقدمة قريبا جواز تحدي الولي بالخارق لإثبات ولايته، وانظر: "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 258" للأشقر، ونقل ابن تيمية في "قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات" "ص25" عن أبي علي الجوزجاني قوله: "كن طالبا للاستقامة، وربك يطلب منك الاستقامة" وعلق عليه بكلام جيد، ثم قسم طالبي الكرامات "ص37" إلى أقسام، وقرر أن بعضهم أعذر من بعض في ذلك، فراجع كلامه إن أردت الاستزادة. 1 ليس هذا على إطلاقه كما سبق بيانه في التعليق على "440-441". 2 قطعة من حديث إلهي طويل أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم 2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 656-657/ رقم 2495"- وقال: "هذا حديث حسن"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم 4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في "تاريخه" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "ص65، 159، 213، 214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 125-126" من حديث أبي ذر رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَفُرُوعُ الْفِقْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ شَاهِدَةٌ هُنَا كَشَهَادَةِ الْعَادَاتِ، فالموضع مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَا ظَهَرَ فِي الْخَارِقَةِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ، فَمَنْسُوبٌ إِلَى الرِّيَاضَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالنَّتَائِجُ تَتْبَعُ الْمُقْدِمَاتِ بِلَا شَكٍّ، فَصَارَ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ مُتَعَلِّقًا بِالْخَوَارِقِ مِنْ جِهَةِ مُقَدِّمَاتِهَا، فَلَا تَسْلَمُ لِصَاحِبِهَا، وَإِذْ ذَاكَ لَا تَخْرُجُ عَنِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَأَشْبَاهِهِمَا مِمَّا لَا سَبَبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ تَسَبَّبَ فِي تَحْصِيلِهِ، لَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَلَتَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إِلَيْهِ، كَالشُّكْرِ1 وَنَحْوِهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الشَّرْعَ حَاكِمٌ عَلَى الْخَوَارِقِ وَغَيْرِهَا، لَا يَخْرُجُ عَنْ حَكَمِهِ شَيْءٌ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ خَارِقَةٍ حَدَثَتْ أَوْ تَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَصِحُّ رَدُّهَا وَلَا قَبُولُهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ سَاغَتْ هُنَاكَ2، فَهِيَ صَحِيحَةٌ مَقْبُولَةٌ فِي مَوْضِعِهَا، وَإِلَّا لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا الْخَوَارِقُ الصَّادِرَةُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَا نَظَرَ فِيهَا لِأَحَدٍ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ قَطْعًا، فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَلِأَجْلِ هَذَا حَكَمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمُقْتَضَى رُؤْيَاهُ، وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصَّافَّاتِ: 102] ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَا انْخَرَقَ مِنَ العادات على يد غير المعصوم.   1 لعله السكر بالسين يدخله على نفسه بشرب المسكر مثلا فيكون معاملا بنتائجه. "د". 2 في الأصل: "هنالك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وَبَيَانُ عَرْضِهَا أَنْ تُفْرَضَ الْخَارِقَةُ وَارِدَةً1 مِنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ، فَإِنْ سَاغَ الْعَمَلُ بِهَا عَادَةً وَكَسْبًا، سَاغَتْ فِي نَفْسِهَا، وَإِلَّا فَلَا، كَالرَّجُلِ يُكَاشِفُ بِامْرَأَةٍ أَوْ عَوْرَةٍ بِحَيْثُ اطَّلَعَ مِنْهَا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَهُ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتَهُ وَهُوَ يُجَامِعُ زَوْجَتَهُ وَيَرَاهُ عَلَيْهَا، أَوْ يُكَاشِفُ بِمَوْلُودٍ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِحَيْثُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى بَشَرَتِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهَا الَّتِي لَا يَسُوغُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي الْحِسِّ، أَوْ يَسْمَعُ نِدَاءً يُحِسُّ فِيهِ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا رَبُّكَ، أَوْ يَرَى صُورَةً مُكَيَّفَةً مُقَدَّرَةً تَقُولُ لَهُ: أَنَا رَبُّكَ، أَوْ يَرَى وَيَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ لَهُ: قَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ المحرمات، وما أشبه ذلك من الأمور لَا يَقْبَلُهَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى حَالٍ، وَيُقَاسُ على هذا ما سواه، وبالله التوفيق.   1 في الأصل: "وارداة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ مَبْنِيًّا على استقرار عَوَائِدِ الْمُكَلَّفِينَ1، وَجَبَ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَحْكَامِ العوائد لما بنبني عَلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ حُكْمِ التَّكْلِيفِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَجَارِيَ الْعَادَاتِ فِي الْوُجُودِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا مَظْنُونٌ، وَأَعْنِي فِي الْكُلِّيَّاتِ لَا فِي خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذلك أمور: أحدها: أَنَّ الشَّرَائِعَ بِالِاسْتِقْرَاءِ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَتُعْتَبَرُ2 بِشَرِيعَتِنَا، فَإِنَّ التَّكَالِيفَ الْكُلِّيَّةَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُكَلَّفُ مِنَ الْخَلْقِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ3، وَعَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بِحَسَبِ مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَاتِ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ، وَأَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِهَا إِذَا كَانَ الْوُجُودُ بَاقِيًا عَلَى تَرْتِيبِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْعَوَائِدُ فِي الْمَوْجُودَاتِ، لَاقْتَضَى ذَلِكَ اخْتِلَافَ التَّشْرِيعِ وَاخْتِلَافَ التَّرْتِيبِ وَاخْتِلَافَ الْخِطَابِ، فَلَا تَكُونُ الشَّرِيعَةُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِخْبَارَ الشَّرْعِيَّ قَدْ جَاءَ بِأَحْوَالِ هَذَا الْوُجُودِ عَلَى أَنَّهَا دَائِمَةٌ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ4 إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَالْإِخْبَارِ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بينهما وما   1 سواء أكانت تابعة لفطر وغرائز فيهم، أم كانت تابعة للموجودات الأخرى التي لهم بها علاقة وارتباطا ما في هذه الحياة، كما يؤخذ من تقريره بعد. "د". 2 في "د" ولنعتبر". 3 فمثلا كل مكلف مطلوب بالصلوات الخمس جزما، والصبح ركعتان للجميع، والظهر أربع كذلك، وشرائطها وأركانها واحدة، ومبطلاتها واحدة، وآدابها واحدة، لا اختلاف في ذلك بين عصر متقدم ولا زمان متأخر؛ لأن العوائد التي بنى عليها الشارع تكليفه مستقرة، فلا تكون في قرن من القرون حرجة وفي قرن ميسورة، وقس على ذلك بقية التكاليف. "د". 4 في نسخة "ماء/ ص 208": "مختلة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 فِيهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ1 وَالتَّصَارِيفِ وَالْأَحْوَالِ، وَأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَأَنَّ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ بِإِلْزَامِ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ أَيْضًا، وَالْخَبَرُ مِنَ الصَّادِقِ لَا يَكُونُ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ2 بِحَالٍ، فَإِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا "مُحَالٌ"3. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اطِّرَادَ الْعَادَاتِ معلوم، لما عرف الذين مِنْ أَصْلِهِ، فَضْلًا عَنْ تَعَرُّفِ فُرُوعِهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا عِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهَا إِلَّا بِوَاسِطَةِ4 الْمُعْجِزَةِ وَلَا مَعْنَى لِلْمُعْجِزَةِ إِلَّا أَنَّهَا فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَلَا يَحْصُلُ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ اطِّرَادِ الْعَادَةِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ كَمَا اطَّرَدَتْ فِي الْمَاضِي، وَلَا مَعْنَى لِلْعَادَةِ إِلَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْمَفْرُوضَ لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُهُ غَيْرَ مُقَارِنٍ لِلتَّحَدِّي لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ فِي أَمْثَالِهِ، فَإِذَا وَقَعَ مُقْتَرِنًا بِالدَّعْوَةِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَا اطَّرَدَ إِلَّا وَالدَّاعِي صَادِقٌ، فَلَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، لَمَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِ اضْطِرَارًا5 لِأَنَّ وُقُوعَ مِثْلِ ذَلِكَ الْخَارِقِ لَمْ يَكُنْ يُدْعَى بِدُونِ اقْتِرَانِ الدَّعْوَةِ وَالتَّحَدِّي، لَكِنَّ الْعِلْمَ حَاصِلٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ مَعْلُومٌ أَيْضًا، وهو المطلوب.   1 كمنافع الشمس والقمر وسائر الكواكب، والماء والنار، والأرض وما عليها، والبحار وما فيها، والتصاريف أي الأسباب والمسببات في هذه الأمور وفي أفعال الإنسان والحيوان، وما ينشأ عن ذلك، والأحوال، أي من الحياة والموت والصحة والمرض والملاذ والشهوات، إلى غير ذلك من السنن الكونية التي ربط بها الخالق هذه الكائنات. "د". 2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص 209": "بخلاف غيره". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 4 في "ط": "بوساطة". 5 لأن لا سبب للعلم بالمصدق إلا العلم باستقرار العادة، وأن خرقها لا يكون بدون الدعوة والتحدي، فقوله: لأن وقوع ..... إلخ" تكميل لتوجيه الملازمة. "د". قلت: في الأصل: "حصل العمل العلم" ولا محل لهذه الزيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 فإن قيل: هذا معارض بما يدل على أَنَّ اطِّراد الْعَوَائِدِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلْ إِنْ كَانَ فَمَظْنُونٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِمْرَارَ أَمْرٍ فِي الْعَالَمِ مساوٍ لِابْتِدَاءِ وَجُودِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِمْدَادِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالْإِمْدَادُ مُمْكِنٌ أَنْ لَا يُوجَدَ، كَمَا أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَنِ1 الْأَوَّلِ كان ممكنا فلما وجد حَصَلَ أَحَدُ طَرَفَيِ الْإِمْكَانِ مَعَ جَوَازِ بَقَائِهِ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، فَكَذَلِكَ وَجُودُهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي مُمْكِنٌ، وَعَدَمُهُ كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ إِمْكَانِ عَدَمِ اسْتِمْرَارِ وَجُودِهِ الْعِلْمُ بِاسْتِمْرَارِ وَجُودِهِ، هَلْ هَذَا إِلَّا عَيْنُ الْمُحَالِ؟ وَالثَّانِي: إِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ فِي الْوُجُودِ غَيْرُ قَلِيلٍ، بَلْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَلَا سِيَّمَا مَا جَرَى عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا انْخَرَقَ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِي الْأُمَمِ قَبْلَهَا مِنَ الْعَادَاتِ، وَالْوُقُوعُ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، فَهُوَ أَقْوَى في الدلالة، فإذن لا يصح أن أَنْ يَكُونَ مَجَارِيَ الْعَادَاتِ مَعْلُومَةً الْبَتَّةَ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ غَيْرُ مُنْدَفِعٍ عَقْلًا، وَإِنَّمَا انْدَفَعَ بِالسَّمْعِ الْقَطْعِيِّ، وَإِذَا انْدَفَعَ بِالسَّمْعِ وَهُوَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، لَمْ يُفِدْ حُكْمَ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَعَارُضٌ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَهُوَ مُحَالٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا يَكُونُ مُحَالًا إِذَا تَعَارَضَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هُنَا، بَلِ الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ هُنَا باقٍ عَلَى حُكْمِهِ فِي أَصْلِ الْإِمْكَانِ، وَالِامْتِنَاعِ السَّمْعِيِّ رَاجِعٌ إِلَى الْوُقُوعِ، وَكَمْ مِنْ جَائِزٍ غَيْرُ وَاقِعٍ؟! وَكَذَلِكَ نَقُولُ: "الْعَالَمُ كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِ مُمْكِنًا أَنْ يَبْقَى على أصله من العدم   1 في "ط": "الزمان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وَيُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ، فَنِسْبَةُ اسْتِمْرَارِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ أَوْ إِخْرَاجِهِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ كَانَ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، فَوَاجِبٌ وُجُودُهُ، وَمُحَالٌ اسْتِمْرَارُ عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُمْكِنُ الْبَقَاءِ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَلِذَلِكَ1 قَالُوا: مِنَ الْجَائِزِ تَنْعِيمُ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَعْذِيبُ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَائِزَ مُحَالُ الْوُقُوعِ مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْمُعَذَّبُونَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمُنَعَّمُونَ، فَلَمْ يَتَوَارَدِ الْجَوَازُ وَالِامْتِنَاعُ والوجوب2 على مرمى واحد، كذلك ههنا، فَالْجَوَازُ مِنْ حَيْثُ نَفْسِ الْجَائِزِ، وَالْوُجُوبِ أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْ حَيْثُ أَمْرٍ خَارِجٍ، فَلَا يَتَعَارَضَانِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ الْمَحْكُومَ3 بِهِ عَلَى الْعَادَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي كُلِّيَّاتِ الْوُجُودِ لَا فِي جُزْئِيَّاتِهِ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ مِنْ بَابِ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي لَا تَخْرِمُ كُلِّيَّةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَابِ الْعَوَائِدِ شَكًّا وَلَا تَوَقُّفًا4 فِي الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَاتِ الْبَتَّةَ، وَلَوْلَا اسْتِقْرَارُ الْعِلْمِ بِالْعَادَاتِ، لَمَا ظَهَرَتِ الْخَوَارِقُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مِنْ أَنْبَلِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْعِلْمِ بِمَجَارِيَ الْعَادَاتِ، وَأَصْلُهُ لِلْفَخْرِ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا رَأَيْنَا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط، دَلَّنَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْخَوَارِقُ مِنْ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ اقْتَرَنَتْ بِالتَّحَدِّي، أَوْ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ أَوِ اقْتَرَنَتْ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْدَحُ انْخِرَاقُهَا فِي عِلْمِنَا بِاسْتِمْرَارِ الْعَادَاتِ الْكُلِّيَّةِ، كَمَا إِذَا رَأَيْنَا عَادَةً جَرَتْ فِي جُزْئِيَّةٍ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ، غَلَبَ عَلَى ظُنُونِنَا أَيْضًا اسْتِمْرَارُهَا في الاستقبال،   1 في "ط": "وكذلك". 2 في "ط": "أو الوجوب". 3 في "ط": "محكوم". 4 وإلا لما عمرت الدنيا؛ لأن عمارتها بأخذ الناس في أسباب ذلك مبنية على أن العوائد في ترتب المسببات مستمرة، وإن كانوا يشاهدون أحيانا شيئا من انخرام العادة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وَجَازَ عِنْدَنَا خَرْقُهَا بِدَلِيلِ انْخِرَاقِ مَا انْخَرَقَ مِنْهَا، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عِلْمِنَا بِاسْتِمْرَارِ الْعَادِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ، وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ قَطْعِيٌّ، وَالْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قَطْعِيٌّ، وَالْعَمَلَ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ الظَّنِّيَّيْنِ قَطْعِيٌّ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَإِذَا جِئْتَ إِلَى قِيَاسٍ مُعَيَّنٍ لِتَعْمَلَ بِهِ كَانَ الْعَمَلُ [بِهِ] ظَنِّيًّا، أَوْ أَخَذْتَ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَجَدْتَهُ ظَنِّيًّا لَا قَطْعِيًّا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْعَوَائِدُ الْمُسْتَمِرَّةُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعَوَائِدُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي أَقَرَّهَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوْ نَفَاهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ أَمَرَ بِهَا إِيجَابًا أَوْ نَدْبًا، أَوْ نَهَى عَنْهَا كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا، أَوْ أَذِنَ فِيهَا فِعْلًا وَتَرْكًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: هِيَ الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْيِهِ وَلَا إِثْبَاتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَثَابِتٌ أَبَدًا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا قَالُوا فِي سَلْبِ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَفِي الْأَمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَطَهَارَةِ التَّأَهُّبِ1 لِلْمُنَاجَاةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عَلَى الْعُرْيِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ فِي النَّاسِ، إِمَّا حَسَنَةً عِنْدَ الشَّارِعِ أَوْ قَبِيحَةً، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وإن اختلفت آرَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا2، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحَسَنُ [فِيهَا] 3 قَبِيحًا وَلَا الْقَبِيحُ حَسَنًا، حَتَّى يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ الْعَبْدِ لَا تَأْبَاهُ مَحَاسِنُ الْعَادَاتِ الْآنَ، فَلْنُجِزْهُ4، أَوْ إِنْ كَشْفُ الْعَوْرَةِ الْآنَ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا قَبِيحٍ، فَلْنُجِزْهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ إِذْ لَوْ صَحَّ مثل هذا لكان.   1 في "ط": "وطهارات المتأهب". 2 لأنها نص عليها الشارع بخصوصها، وأثبت لها حكما شرعيا، فتغير عادة الناس فيها من استقباح إلى استحسان لا يغير حكم الشرع عليها، بخلاف الضرب الثاني، فإنه ليس فيه من الشرع دليل على حسنه أو قبحه، لكنه ينبني على عرف الناس فيه حكم شرعي يختلف باختلاف عرفهم. "د". قلت: انظر في هذا "الأشباه والنظائر" "ص93" للسيوطي، و"مفهوم تجديد الدين" "ص263" لبسطامي محمد سعيد. 3 سقط من "ط". 4 في الأصل و"خ" في هذا الموضع والذي يليه: "فليجزه"، وفي "ماء/ ص209": "فليجز". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 نَسْخًا لِلْأَحْكَامِ الْمُسْتَقِرَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَالنَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، فَرَفْعُ الْعَوَائِدِ الشَّرْعِيَّةِ بَاطِلٌ1. وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْعَوَائِدُ ثَابِتَةً، وَقَدْ تَتَبَدَّلُ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَهِيَ أَسْبَابٌ لِأَحْكَامٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. فَالثَّابِتَةُ كَوُجُودِ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْوِقَاعِ وَالنَّظَرِ، وَالْكَلَامِ، وَالْبَطْشِ وَالْمَشْيِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ أَسْبَابًا لِمُسَبِّبَاتٍ حَكَمَ بِهَا الشَّارِعُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهَا وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا وَالْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهَا دَائِمًا. وَالْمُتَبَدِّلَةُ. - مِنْهَا: مَا يَكُونُ مُتَبَدِّلًا فِي الْعَادَةِ مِنْ حُسْنٍ إِلَى قُبْحٍ، وَبِالْعَكْسِ، مِثْلَ كَشْفِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْبِقَاعِ فِي الْوَاقِعِ، فَهُوَ لَذَوِي الْمُرُوءَاتِ قَبِيحٌ فِي الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ، وَغَيْرُ قَبِيحٍ فِي الْبِلَادِ الْمَغْرِبِيَّةِ، فَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ2، وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ غَيْرَ قَادِحٍ. - وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقَاصِدِ، فَتَنْصَرِفُ الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنًى إِلَى3عِبَارَةٍ أُخْرَى، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْأُمَمِ كَالْعَرَبِ مَعَ غيرهم، أو   1 انظر: "الفروق" "1/ 43 وما بعدها"، و"إعلام الموقعين" "1/ 324"، و"العرف والعادة في رأي الفقهاء" "ص83". 2 وذلك بشروط بيناها وتكلمنا عليها في كتابنا "المروءة وخوارمها" "ص143-148- ط الأولى"، وانظر استحباب غطاء الرأس: "تمام المنة" "164-165"، و"الأجوبة النافعة" "110"، والدين الخالص" "3/ 214"، و"الأدلة الشرعية" "34 وما بعدها"، وكتابي: "القول المبين" "58-60". 3 لعل الأصل: "إلى معنى عبارة". "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 بالنسبة إلى الأمة والواحدة كَاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ بِحَسَبَ اصْطِلَاحِ أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ فِي صَنَائِعِهِمْ مَعَ اصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، حَتَّى صَارَ ذَلِكَ اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْبَقُ مِنْهُ إِلَى الْفَهْمِ مَعْنًى مَا، وَقَدْ كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ، أَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا فَاخْتَصَّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ أَيْضًا يَتَنَزَّلُ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَادٌ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ اعْتَادَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَجْرِي كَثِيرًا فِي الْأَيْمَانِ وَالْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ، كِنَايَةً وَتَصْرِيحًا1. - وَمِنْهَا: مَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَفْعَالِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا، كَمَا إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ فِي النِّكَاحِ قَبْضَ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فِي الْبَيْعِ الْفُلَانِيِّ أَنْ يَكُونَ بِالنَّقْدِ لَا بِالنَّسِيئَةِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ إِلَى أَجَلِ كَذَا دُونَ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ أَيْضًا جارٍ عَلَى ذَلِكَ حَسْبَمَا هو مسطور في كتب الفقه2.   1 انظر: "الفروق" "1/ 44 و4 / 203"، و"الأشباه والنظائر" "ص83-84"، و"المدخل للفقه الإسلامي" "2/ 889" لمصطفى الزرقاء. 2 قال القرطبي في حديث: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف": "في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات خلافا للشافعية، ورد الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال بأن الشافعية إنما* العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد إليه، والعرف عند من يقول به كالمالكية إنما يؤخذ به تخصيص العام أو تقييد المطلق، وأما أن يؤثر في إبطال واجب أو إباحة حرام يذهب إليه أحد من علماء المسلمين، قال ابن الغرسي عند قول تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} المعنى: اقض بكل ما عرفته مما لا يرده الشرع" "خ". قلت: النوع الأخير الذي ذكره المصنف هو المعنى في قول الفقهاء "العادة محكمة"، وليس هو بحد ذاته حكما شرعيا، ولكنه متعلق ومناط الحكم الشرعي، فهو من جهة كونه حكما لا يتغير، ولكن الشرع أناطه بالعرف، وجعل الحكم يدور معه، وهذا ما سيذكره المصنف في الفصل الآتي. وانظر- غير مأمور: "الفروق" "1/ 45 و4/ 203"، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" "281-292"، و"تغير الفتوى" "ص50-53".   * كذا في الأصل، ولعل سقطا وقع فيه، تقديره: "إنما نفوا العمل ....... ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 خُصُوصِ مَسْأَلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} [الطَّلَاقِ: 3] . وَوِكَالَةُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ وَكَالَةِ غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم} الآية [هود: 55] ، وَلَمَّا عَقَدَ أَبُو حَمْزَةَ عَقْدًا طُلِبَ بِالْوَفَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُم} [النَّحْلِ: 91] . وَأَيْضًا: فَإِنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ أُنَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا وَقَعَ سَوْطُهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا رَفَعَهُ إِلَيْهِ1، فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: رَبِّ! إِنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّكَ إذ رَأَوْهُ، وَأَنَا أُعَاهِدُكَ2 أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا. قَالَ: فَخَرَجَ حَاجًّا مِنَ الشَّامِ يُرِيدُ مَكَّةَ ...... إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ الْأَخْذِ بِعَزَائِمَ الْعِلْمِ؛ إِذْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ مَا عَقَدَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَلَيْسَ بجارٍ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ، وَلِذَلِكَ لَمَّا حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ3 الْحِكَايَةَ قَالَ: "فَهَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ، فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَبِهِ فَاقْتَدُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَهْتَدُوا". وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْأَرْضِ الْمَسْبَعَةِ وَدُخُولُ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ، فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ وُجُودُ الْأَسْبَابِ وَعَدَمُهَا عِنْدَهُمْ سَوَاءً، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَخَالِقُ مُسَبَّبَاتِهَا، فَمَنْ كَانَ هَذَا حاله، فالأسباب عنده   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس 2/ 721/ رقم 1042"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة 2/ 121/ رقم 1624"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب البيعة على الصلوات الخمس 1/ 229"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب البيعة رقم 2867"، وأحمد في "المسند" "6/ 27" عن عوف بن مالك رضي الله عنه. 2 في "ط": "عاهدتك". 3 في "أحكام القرآن" "3/ 1111-1112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 كَعَدَمِهَا؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَخَافَةٌ مِنْ مَخُوفٍ مَخْلُوقٍ، [وَلَا رَجَاءٌ فِي مرجوِّ مَخْلُوقٍ] 1؛ إِذْ لَا مَخُوفَ وَلَا مرجوَّ إِلَّا اللَّهُ، فَلَيْسَ هَذَا إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّدْ هَلَكَ، وَإِنْ قَارَبَ السَّبُعَ هَلَكَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، فَلَا؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ الْغَزَالِيُّ2 فِي دُخُولِ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ اعْتِيَادَ3 الصَّبْرِ وَالِاقْتِيَاتِ بِالنَّبَاتِ، وَكُلُّ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى حُكْمٍ عَادِيٍّ. وَلَعَلَّكَ تَجِدُ مَخْرَجًا فِي كُلِّ مَا يَظْهَرُ عَلَى أيدي الأولياء الذين ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُمْ، بِحَيْثُ يُرْجَعُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ؛ بَلْ لَا تَجِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَّا كَذَلِكَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعَادِيِّ، كَالْمُكَاشَفَةِ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُمْ فِيهِ حُكْمَ أَهْلِ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ، بِحَيْثُ يُطْلَبُونَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَا عَلَيْهِ النَّاسُ؟ أَمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةً أُخْرَى خَارِجَةً عَنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَوَائِدِ الظَّاهِرَةِ فِي النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا فِي تَحْقِيقِ الْكَشْفِ الْغَيْبِيِّ مُوَافِقَةٌ لَا مُخَالِفَةٌ. وَالَّذِي يَطَّرِدُ بِحَسَبِ مَا ثَبَتَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَمَا قَبْلَهَا أَنْ لَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ مُخْتَصًّا، بَلْ يُرَدُّونَ إِلَى أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَوَائِدِ الظَّاهِرَةِ وَيَطْلُبُهُمُ الْمُرَبِّي بِذَلِكَ حَتْمًا، وَقَدْ مَرَّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَيْضًا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَحْكَامَ لَوْ وُضِعَتْ عَلَى حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها   1ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 في "الإحياء" "4/ 266". 3 في الأصل: "اعتقاد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 قَاعِدَةٌ، وَلَمْ يَرْتَبِطْ لِحُكْمِهَا مُكَلَّفٌ إِذْ كَانَتْ؛ لَكَوْنِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا دَاخِلَةً تَحْتَ إِمْكَانِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، فَلَا وَجْهَ إِلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، فَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَتِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُحْكَمُ بِتَرَتُّبِ ثَوَابٍ، وَلَا عِقَابٍ، وَلَا إِكْرَامٍ وَلَا إِهَانَةٍ، وَلَا حَقْنِ دَمٍ، [وَلَا إِهْدَارِهِ] 1، وَلَا إِنْفَاذِ حُكْمٍ مِنْ حَاكِمٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُشَرَّعَ مَعَ فَرْضِ اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ2، وَهُوَ الَّذِي انْبَنَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ لَا تَطَّرِدُ أَنْ تَصِيرَ حُكْمًا يُبْنَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَإِذَا اخْتَصَّتْ لَمْ تَجْرِ مَعَ غَيْرِهِمْ، فَلَا تَكُونُ قَوَاعِدُ الظَّوَاهِرِ شَامِلَةً لَهُمْ، وَلَا أَيْضًا3 تَجْرِي فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَمَ بِمُقْتَضَى الْخَوَارِقِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَنْ أَهْلِهَا بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَعْنِي فِي نَصْبِ أَحْكَامِ الْعَامَّةِ4؛ إِذْ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ أَنْ يَحْكُمَ لِلْوَلِيِّ بِمُقْتَضَى كَشْفِهِ، أَوْ [كَشْفِ] السُّلْطَانِ نَفْسِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ مُعَامَلَةٍ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا أَيْضًا لِلْوَلِيَّيْنِ إذا ترافعا إلى الحاكم في قضية. الثالث: وَإِذَا فُرِضَ أَنَّهَا غَيْرُ شَامِلَةٍ لَهُمْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ5 الْبُرْهَانُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَامَّةٌ وَأَحْكَامُهَا عَامَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الخلق وفي جميع الأحوال، كيف وهو يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَعْصِي وَالْمَعَاصِي جَائِزَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا فِعْلَ يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ ظَاهِرَ الشَّرْعِ إِلَّا وَالسَّابِقُ إِلَى بَادِئِ الرَّأْيِ مِنْهُ أَنَّهُ عِصْيَانٌ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْخَارِقَ الَّذِي لَا يَجْرِي على ظاهر الشرع مشرع؛ لتطرق   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 إذ النظر العقلي الصحيح مساند للنظر الشرعي، وهذا ما وضحه بما لا مزيد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في موسوعة "درء تعارض العقل والنقل"، والشيخ مصطفى صبري في كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين". 3 في "ماء/ ص212": "وأيضا لا .... ". 4 في "ط": "نصب الأحكام". 5 في "ط": "على خلاف ما تقدم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 الاحتمالات. وَالرَّابِعُ: أَنَّ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهَذَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا مَا نَصَّتْ شَرِيعَتُهُ عَلَيْهِ مِمَّا خُصَّ بِهِ وَلَمْ يَعْدُ1 إِلَى غَيْرِهِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ لَهُ: "يُحِلُّ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مَا شَاءَ"، وَمَنْ قَالَ: "إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ". فَغَضِبَ وَقَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي" 2. وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُسْتَشْفَى بِهِ وبدعائه3، ولم يثبت أنه مس   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2/ 781/ رقم 1110" عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظه، وأخرج نحوه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 9/ 104/ رقم 5063"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لم تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1401" عن أنس رضي الله عنه. 2 أما الاستشفاء بدعائه، فقد ثبت في حديث المرأة السوداء التي كانت تصرع، وقد مضى "262"، وأما الاستشفاء به، فأحسن ما يستدل به عليه ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب: منه 5/ 569/ رقم 3678" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"- وابن ماجه في السنن" "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة 1/ 441/ رقم 1385"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 659"، وأحمد في "المسند" "4/ 138"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 313 عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك". قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في" لفظ الترمذي. وإسناده حسن، وانظر له: "صحيح الترغيب والترهيب" "رقم 681"، و"التوسل" "68". 3 ضبطها ناسخ "ط": "يعد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 بَشَرَةَ أُنْثَى مِمَّنْ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ أَوْ ملك يمين1، وكان النِّسَاءُ يُبَايِعْنَهُ وَلَمْ تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ أُنْثَى قَطُّ2، وَلَكِنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ وَإِنَّ كَانَ عَالِمًا بِهَا، وَقَدْ مَرَّ مِنْ هَذَا أَشْيَاءُ، وَهُوَ الَّذِي قَعَّدَ الْقَوَاعِدَ وَلَمْ يستثنِ وَلِيًّا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ حَقِيقًا بِذَلِكَ لَوْ نَزَلَ الْحُكْمُ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْوَلِيِّ وَأَصْحَابِ الْخَوَارِقِ3، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لهم بإحسان، وهو الْأَوْلِيَاءُ حَقًّا، وَالْفُضَلَاءُ صِدْقًا. وَفِي قِصَّةِ الرُّبَيِّع بَيَانٌ لِهَذَا، حَيْثُ قَالَ وَلَيُّهَا أَوْ مَنْ كَانَ4: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ" 5.   1 انظر الحديث في التعليقة الآتية. 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة 5/ 312/ رقم 2713، وكتاب الأحكام باب بيعة النساء 13/ 203/ رقم 7214"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء 4/ 1489" / رقم 1866" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: "كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتنحة: 12] ، قالت: وما مَسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها" لفظ البخاري. وفي لفظ لمسلم: "ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط". 3 من وجب عليه حد أو يتعلق بذمته حق وفر إلى ضريح ولي، فإنه يخرج منه كما يخرج من المسجد، والعامل على إخراج هذا الجاني مثاب على عمله، آمن من أن يلحقه ضرر، وإذا نزل به قضاء عقب هذا العمل، فمن الجهل اعتقاد أن ذلك من أثر غيرة الولي على حرمته كما تتوهم العامة، وإنما هو من بيان الصدفة وموافقة القدر، ومتى كانت العقيدة على أن صاحب الضريح ولي، فمن شرط ولايته عدم الترضي بتعطيل الحكم الشرعي واتخاذ حرمه ملجأ للفاسقين. "خ". 4 القائل هو أنس بن النضر، كما صرح به البخاري في "صحيحه"، أو أم الربيع كما صرح به مسلم في "صحيحه"، وفيه: "إن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا ....... "، وما عند المصنف رواية البخاري. 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 8/ 177/ رقم 4500، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان 3/ 1302/ رقم 675" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وَلَمْ يكتفِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبرَّه، فَكَانَ يُرْجِئُ الْأَمْرَ حَتَّى يَبْرُزَ أَثَرُ الْقَسَمِ، بَلْ أَلْجَأَ إِلَى الْقِصَاصِ الَّذِي فِيهِ أَشَدُّ مِحْنَةً حَتَّى عَفَا أَهْلُهُ، فَحِينَئِذٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" 1، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَسَمَ قَدْ أَبَرَّهُ اللَّهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَتَّى ظَهَرَ لَهُ كُرْسِيٌّ2 وهو العفو، والعفو منتهض في ظاهر الْحُكْمِ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْخَوَارِقَ فِي الْغَالِبِ إِذَا جَرَتْ أَحْكَامُهَا مُعَارِضَةً لِلضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا تَنْتَهِضُ أَنْ تَثْبُتَ وَلَوْ كَضَرَائِرِ الشِّعْرِ3، فَإِنَّ ذَلِكَ إِعْمَالٌ لِمُخَالَفَةِ الْمَشْرُوعَاتِ، وَنَقْضٌ لِمَصَالِحِهَا الْمَوْضُوعَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِالْمُنَافِقِينَ وَأَعْيَانِهِمْ، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنْهُمْ فَسَادًا فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَتْلِهِمْ لِمُعَارِضٍ هُوَ أَرْجَحُ فِي الِاعْتِبَارِ، فَقَالَ: "لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" 4، فَمِثْلُهُ يُلْغَى فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْخَوَارِقِ عَلَى أَصْحَابِهَا، حَتَّى5 لَا يَعْتَقِدَ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ لِلصُّوفِيَّةِ شَرِيعَةً أُخْرَى، وَلِهَذَا وَقَعَ إِنْكَارُ الْفُقَهَاءِ لِفِعْلِ أَبِي يَعْزَى6 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ انْفِرَادِ أَصْحَابِ الْخَوَارِقِ بِأَحْكَامٍ خَارِجَةٍ عَنْ أَحْكَامِ الْعَادَاتِ الْجُمْهُورِيَّةِ قول يقدح في القلوب   1 هو قطعة من الحديث السابق، أوله: "كتاب الله القصاص ..... ". 2 هكذا الأصل، وهو غير ظاهر، والصواب أثره وهو ..... إلخ، ويدل عليه سياق الكلام المتقدم. ا. هـ. مصححة. "خ". 3 لعلها "كضرورة الشعر". "د". 4 مضى تخريجه "ص467". 5 في الأصل ونسخة "ماء/ ص213": "إذ يعتقد". 6 صوابه "أبو يزيد" يعني: النخشبي المتقدمة قصته في حديثه مع خادمه. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 أُمُورًا1 يُطْلَبُ بِالتَّحَرُّزِ مِنْهَا شَرْعًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصُّوا بِزَائِدٍ عَلَى مَشْرُوعِ الْجُمْهُورِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْغَالِينَ فِيهِمْ مَذْهَبَ الْإِبَاحَةِ، وَعَضَّدُوا بِمَا سَمِعُوا مِنْهَا رَأْيَهُمْ، وَهَذَا [كُلُّهُ] تَعْرِيضٌ لَهُمْ إِلَى سُوءِ الْمَقَالَةِ. وَحَاشَ لله أن يكون أولياء الله إلا بُرءاء مِنْ هَذِهِ الْخَوَارِقِ الْمُنْخَرِقَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ جرى2 إلى الخوص فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَقَدْ عُلِمَ مِنْهُمُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حُدُودِ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُمُ الْقَائِمُونَ بِأَحْكَامِ السُّنَّةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، الْمُحَافِظُونَ عَلَى اتِّبَاعِهَا، لَكِنَّ انْحِرَافَ الْفَهْمِ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَفِيمَا قَبْلَهَا طَرَقَ فِي أَحْوَالِهِمْ مَا طَرَقَ، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، حَتَّى يَتَقَرَّرَ بِحَوْلِ اللَّهِ مَا يُفهم بِهِ عَنْهُمْ مَقَاصِدُهُمْ، وَمَا تُوزَن بِهِ أَحْوَالُهُمْ، حَسْبَمَا تُعْطِيهِ حَقِيقَةُ طَرِيقَتِهِمُ الْمُثْلَى، نَفَعَهُمُ اللَّهُ وَنَفَعَ بِهِمْ. ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى تَمَامِ الْمَسْأَلَةِ3، فَنَقُولُ: وَلَيْسَ الاطِّلاع عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ وَلَا الْكَشْفُ الصَّحِيحُ بِالَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْجَرَيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ، وَالْقُدْوَةُ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي انْخِرَاقِ الْعَادَاتِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} [الْمَائِدَةِ: 67] ، وَلَا غَايَةَ وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَتَحَصَّنُ بِالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ4، وَيَتَوَقَّى مَا الْعَادَةُ أَنْ يُتوقَّى، ولم يكن ذلك   1 منها الاعتقاد المذكور بعدُ. "د". 2 في "ط": "جر". 3 مرتبط بأول الفصل. "د". 4 كما ثبت في أحاديث كثيرة، تجدها في "صحيح البخاري" "كتاب الجهاد، باب ومن يترس بترسي صاحبه 6/ 93، وباب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب 6/ 99". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 نُزُولًا عَنْ رُتْبَتِهِ الْعُلْيَا إِلَى مَا دُونَهَا، بَلْ هِيَ أَعْلَى. وَمَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِوَاءِ الْعَوَائِدِ وَعَدَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، فَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْعَوَائِدِ عَلَى مُقْتَضَاهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانُوا حَازُوا رُتْبَةَ التوكُّل، وَرُؤْيَةَ إِنْعَامِ الْمُنْعَمِ مِنَ الْمُنْعِمِ لَا مِنَ السَّبَبِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتْرُكُوا الدُّخُولَ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي نُدِبوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يَتْرُكْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تُسْقِطُ حُكْمَ الْأَسْبَابِ وَتَقْضِي بِانْخِرَامِ الْعَوَائِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْعَزَائِمُ الَّتِي جَاءَ الشَّرْعُ بِهَا؛ لِأَنَّ حَالَ انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ لَيْسَ بِمَقَامٍ يُقَامُ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ مَحَلُّ الرُّخْصَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "قَيِّدْهَا وتَوَكَّلْ" 1. وَقَدْ كَانَ المُكمَّلون مِنَ الصُّوفِيَّةِ يَدْخُلُونَ فِي الْأَسْبَابِ تأدُّبًا بِآدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ وَضْعَ اللَّهِ تَعَالَى أَحْوَالَ الْخَلْقِ عَلَى الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ يُوَضِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ الدُّخُولُ تَحْتَ أَحْكَامِ الْعَوَائِدِ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَتْرُكُوا الْأَفْضَلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِصَّةٌ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الْكَهْفِ: 82] ، فَيُظْهِرُ بِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ2، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَى الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَلِأَمْرٍ مَا3، وَلَيْسَتْ جَارِيَةً على شرعنا، والدليل على ذلك   1 مضى تخريجه "1/ 304"، وهو حديث حسن. 2 قال: ابن حجر في كتابه "الزهر النضر في نبأ الخضر" "2/ 234- مع الرسائل المنيرية"، و"الذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته" وقال أيضا: "وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزندقة، اعتقاد كون الخضر نبيًّا؛ لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي". وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص463 وما بعدها" عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. 3 سيشير إليه بقوله: "وعلى مقتضى عتاب موسى .... إلخ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ لِوَلِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، وَإِنَّ عَلِمَ أَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَبَدًا، وَأَنَّهُ إِنْ عَاشَ أَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَإِنْ أُذِنَ لَهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ قَرَّرَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مُقْتَضَى شَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَعَلَى مُقْتَضَى عِتَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْلَامِهِ أَنَّ ثَمَّ عِلْمًا آخَرَ وَقَضَايَا أُخر لَا يَعْلَمُهَا هُوَ1. فَلَيْسَ كُلُّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْوَلِيُّ مِنَ الْغُيُوبِ يُسَوِّغُ لَهُ شَرْعًا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا خَالَفَ الْعَمَلُ بِهِ ظَوَاهِرَ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِحَّ رَدُّهُ إِلَيْهَا، فَهَذَا لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يُخَالِفْ [الْعَمَلُ] 2 بِهِ شَيْئًا مِنَ الظَّوَاهِرِ، أَوْ إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خِلَافٌ، فَيَرْجِعُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ إِلَيْهَا، فَهَذَا يُسَوَّغُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الطَّرِيقُ، فَهُوَ الصَّوَابُ، وَعَلَيْهِ يُرَبِّي الْمُرَبِّي، وَبِهِ يُعَلَّقُ هِمَمُ السَّالِكِينَ تَأَسِّيًا بِسَيِّدِ الْمَتْبُوعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ مُقْتَضَى الْحُظُوظِ، وَأَوْلَى بِرُسُوخِ الْقَدَمِ، وَأَحْرَى بِأَنْ يُتَابَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَيُقْتَدَى به فيه، والله أعلم.   1 انظر لزاما في تقرير هذا وتأكيده: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 420 وما بعدها"، و"مدرج السالكين" "2/ 475 و3/ 416، 431-433"، و"فتح الباري" "1/ 221"، و"عجالة المنتظر في شرح حال الخضر" لابن الجوزي، وكتابنا "من قصص الماضين" "ص33 وما بعدها"، و"فوائد حديثية" لابن القيم "ص81" مع تعليقي عليه. قلت: والعبارة في الأصل: "ثم علماء أخر". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْعَوَائِدُ أَيْضًا ضَرْبَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوعِهَا فِي الْوُجُودِ: أَحَدُهُمَا: الْعَوَائِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْأَحْوَالِ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ، وَالنَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ، وَالْمَيْلِ إِلَى المُلائم وَالنُّفُورِ عَنِ الْمُنَافِرِ، وَتَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُؤْلِمَاتِ وَالْخَبَائِثِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: الْعَوَائِدُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْأَحْوَالِ، كَهَيْئَاتِ اللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَاللِّينِ فِي الشِّدَّةِ وَالشِّدَّةِ فِيهِ، وَالْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ فِي الْأُمُورِ، وَالْأَنَاةِ وَالِاسْتِعْجَالِ، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُقْضَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَجَارِيَ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ وَعَلَى سُنَنِهِ لَا تَخْتَلِفُ عُمُومًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ مَا جَرَى مِنْهَا فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ مَحْكُومًا بِهِ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُطْلَقًا، كَانَتِ الْعَادَةُ وُجُودِيَّةً أَوْ شَرْعِيَّةً. وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَا يَصِحُّ أن يقضى به على من تَقَدَّمَ الْبَتَّةَ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ من خارج، فإذا ذَاكَ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى مَا مَضَى بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا بِمَجْرَى الْعَادَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَيْضًا الْعَادَةُ الْوُجُودِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ1.   1 يحتاج إلى توفيق بينه وما سبق في أول المسالة الرابعة عشرة من أن العوائد الشرعية التي أمر بها الشارع أو نهى عنها أو أذن فيها لا تتبدل، بل هي دائمة ثابتة، وأن التي تتبدل إنما هي العوائد غير الشرعية، فإنها قابلة للتبدل في بعض أنواعها، إلا أن يقال: إنها ليست الشرعية بالمعنى المتقدم بل مثل اختلاف الهيئات والملابس، واختلاف التعبير والاصطلاحات بين الناس، فقد تكون في عهد الشرع على حال ثم تتبدل، فتعد شرعية بهذا المعنى بحصول الإذن بها على وجه عام، ثم تتغير العادة ويختلف حكم الشارع عليها لرجوعها إلى أصل شرعي آخر، فلا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية؛ فإنها غير مستقرة في ذاتها، على أنها لو كانت من قسم الشرعيات المطلوبة؛ فإنها حيث كانت متبدلة غير مستقرة لا يتأتى الحكم بها على القرون الماضية الذي هو موضوع المسألة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى عَادَةٍ كُلِّيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ، وُضِعَتْ عَلَيْهَا الدُّنْيَا وَبِهَا قَامَتْ مَصَالِحُهَا فِي الْخَلْقِ، حَسْبَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ، وَعَلَى وِفَاقِ ذَلِكَ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ أَيْضًا؛ فَذَلِكَ الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ باقٍ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا؛ وَهِيَ الْعَادَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لَا مَظْنُونَةٌ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي؛ فَرَاجِعٌ إِلَى عَادَةٍ جُزْئِيَّةٍ دَاخِلَةٍ تَحْتَ الْعَادَةِ الْكُلِّيَّةِ1، وَهِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُحْكَمَ بِالثَّانِيَةِ عَلَى مَنْ2 مَضَى لِاحْتِمَالِ التَّبَدُّلِ وَالتَّخَلُّفِ بِخِلَافِ الْأُولَى. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ؛ لِتَكُونَ حُجَّةً فِي الْآخِرِينَ، وَيَسْتَعْمِلَهَا الْأُصُولِيُّونَ كَثِيرًا بِالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَرَدِّ القضاء بالعلمية3 إِلَيْهَا وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ بِصَحِيحٍ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا فَاسِدٍ بِإِطْلَاقِ؛ بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَنْشَأُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمٌ ثَالِثٌ يَشْكُلُ الْأَمْرُ فِيهِ: هَلْ يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ فَيَكُونَ حجة، أم لا فلا يكون حجة؟   1 فالعادة الكلية أنه لا بد للإنسان من الطعام والمسكن والملبس، وتحت كل أنواع وهيئات كثيرة، صالحة لوقوع ذلك الكلي في ضمنها. "د". 2 في الأصل: "ما". 3 كذا في الأصل و"خ" و"ط" و"م"، وفي "د": "بالعامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ 1: الْمَفْهُومُ مِنْ وَضْعِ الشَّارِعِ أَنَّ الطَّاعَةَ أَوِ الْمَعْصِيَةَ تَعْظُمُ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ أَعْظَمَ الْمَصَالِحِ جريانُ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الْخَمْسَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَأَنَّ أَعْظَمَ الْمَفَاسِدِ مَا يَكِرُّ2 بِالْإِخْلَالِ عَلَيْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا؛ كَمَا فِي الْكُفْرِ وقتلِ النَّفْسِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا وُضِعَ لَهُ حَدٌّ أَوْ وَعِيدٌ3، بِخِلَافِ مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى حَاجِيٍّ أَوْ تَكْمِيلِيٍّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَصَّ بِوَعِيدٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا بِحَدٍّ مَعْلُومٍ يَخُصُّهُ؛ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَالِاسْتِقْرَاءِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَسْطِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا بِهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ أَوْ فَسَادِهِ، كَإِحْيَاءِ النَّفْسِ فِي الْمَصَالِحِ، وَقَتْلِهَا فِي الْمَفَاسِدِ. وَالثَّانِي: مَا بِهِ كَمَالُ ذَلِكَ الصَّلَاحِ أَوْ ذَلِكَ الْفَسَادِ، وَهَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ، وَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ عَلَى مَرَاتِبَ أَيْضًا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَوَّلِ وَجَدْنَا الدِّينَ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ يُهْمَلُ فِي جَانِبِهِ النَّفْسُ وَالْمَالُ وَغَيْرُهُمَا4، ثُمَّ النَّفْسَ، وَلِذَلِكَ يُهْمَلُ فِي جَانِبِهَا اعْتِبَارُ قِوَامِ النسل والعقل   1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20-48-61". 2 أي: يرجع. 3 في نسخة "ماء/ ص215": "حدًّا ووعيدًا". 4 فالجهاد لحراسة الدين، ولتكون كلمة الله هي العليا تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأولاد. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وَالْمَالَ؛ فَيَجُوزُ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى الزِّنَى أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِهِ1 وَلِلْمَرْأَةِ إِذَا اضْطُرَّتْ وَخَافَتِ الْمَوْتَ وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُطْعِمُهَا إِلَّا بِبَذْلِ بُضعِها؛ جَازَ لَهَا ذَلِكَ؛ وَهَكَذَا سَائِرُهَا. ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا إلى بيع الغرر مثلا وجدنا الْمَفْسَدَةَ فِي الْعَمَلِ [بِهِ] 2 عَلَى مَرَاتِبَ؛ فَلَيْسَ مَفْسَدَةُ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ كَمَفْسَدَةِ بَيْعِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الْحَاضِرَةِ الْآنَ وَلَا بَيْعِ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ كَبَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ مُمْكِنُ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَصَالِحُ فِي التَّوَقِّي عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الطَّاعَةُ وَالْمُخَالَفَةُ تُنْتِجُ مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِد أَمْرًا كُلِّيًّا ضَرُورِيًّا؛ كَانَتِ الطَّاعَةُ لَاحِقَةً بِأَرْكَانِ الدِّينِ، وَالْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَإِنْ لَمْ تُنْتِجْ إِلَّا أَمْرًا جزئيا؛ فالطاعة3 لَاحِقَةٌ بِالنَّوَافِلِ وَاللَّوَاحِقِ الْفَضْلِيَّةِ، وَالْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةٌ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَلَيْسَتِ الْكَبِيرَةُ فِي نَفْسِهَا مَعَ كُلِّ مَا يُعَدُّ كَبِيرَةً عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا كُلُّ رُكْنٍ مَعَ مَا يُعَدُّ رُكْنًا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الطَّاعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ؛ بَلْ لكل منها مرتبة تليق بها.   1 هذا القول حكاه بعضهم على إطلاقه وأخذ به سحنون، ولكنه شرط أن يكون المكره به هو المرأة نفسها، وأن لا يكون لها زوج، ومن حجة هذا المذهب أن قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان} جعل الإكراه على القول عذرا ينبغي أن يلحق به الفعل، ويحكم له بحكمه؛ إما على الإطلاق، أو على شرط أن لا يتعلق به حق لمخلوق. "خ". قلت: انظر تفصيل المسألة في: "تفسير القرطبي" "10/ 186"، و"أحكام القرآن" "3/ 1074"، لابن العربي، و"الطرق الحكمية" "47-49"و"بدائع الصنائع" "9/ 4484". و"الإكراه في الشريعة الإسلامية" "ص124 وما بعدها". 2 سقطت من "ط". 3 في "د": "فطاعة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المكلَّف التَّعَبُّدُ دُونَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَأَصْلُ الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي1. أَمَّا الْأَوَّلُ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: مِنْهَا الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَإِنَّا وَجَدْنَا الطَّهَارَةَ تَتَعَدَّى مَحَلَّ مُوجِبِهَا2، وَكَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ خُصَّتْ بِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى هَيْئَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إِنْ خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ عِبَادَاتٍ، وَوَجَدْنَا الموجِبَات فِيهَا تَتَّحِدُ مَعَ اخْتِلَافِ الموجَبَات3، وَأَنَّ الذِّكْرَ الْمَخْصُوصَ4 فِي هَيْئَةٍ مَا مَطْلُوبٌ، وَفِي هَيْئَةٍ أُخْرَى غير مطلوب، وأن   1 انظر في تقرير هذه القاعدة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/ 385 وما بعدها". وإعلام الموقعين" "1/ 299-301"، والاعتصام للمصنف "2/ 132-133"- ونقله عن مالك- والقواعد" لشيخ المصنف المقري "قاعدة" رقم 73، 74، 296"، ونقله عن الشافعي، ونقل عن أبي حنيفة "الأصل التعليل حتى يتعذر"، وقال: "والحق أن ما لا يعقل معناه تلزم صورته وصفته" و"البرهان" "2/ 926" للجويني، و"تخريج الفروع على الأصول" "ص38-40" للزنجاني، و"مذكرة في أصول الفقه" "ص34". وقرر المصنف فيما مضى "1/ 334" أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة وإن لم يعلم ذلك على التفصيل. 2 هذا في الطهارة الحديثة بخلاف الثوب والبدن والمكان من الأخباث؛ فأنها لا تتعدى، بل تقف عند حد من أصيب بالنجاسة. "د". 3 فالحيض والنفاس يسقطان الصلاة، ولا يسقطان الصوم ولا سائر العبادات المفروضة من أركان الإسلام. "د". 4 هذا كثير؛ فالقنوت -وهو ذكر ودعاء- يطلب في بعض الصلوات دون بعض، والدعاء يطلب في السجود لا في الركوع، والنوافل تطلب في أوقات وتمنع فيما بعد صلاة الصبح إلى أن تشرق الشمس مثلا، وهكذا من أوقات النهي، وكل هذا لا يعرف إلا بموقف من قبل الوحي، وليس للعقل فيه مجال الخروج عما حد. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 طَهَارَةَ الْحَدَثِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ وَإِنْ أَمْكَنَتِ النطافة بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ -وَلَيْسَتْ فِيهِ نَظَافَةٌ حِسِّيَّةٌ- يَقُومُ1 مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ؛ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ2، وَغَيْرِهِمَا؛ وَإِنَّمَا فَهِمْنَا مِنْ حِكْمَةِ التَّعَبُّدِ الْعَامَّةِ3 الِانْقِيَادَ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِفْرَادِهِ بِالْخُضُوعِ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ4 لَا يُعْطِي عِلَّةً خَاصَّةً يُفهم مِنْهَا حُكْمٌ خَاصٌّ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يُحَدَّ لَنَا أَمْرٌ مَخْصُوصٌ، بَلْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ بِمَا حُدَّ وَمَا لَمْ يُحَدَّ، ولكان المخالف لما حد غير ملوم إذا كَانَ التَّعْظِيمُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ الْمُطَابِقِ لِنِيَّتِهِ حَاصِلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، فَعَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ الْأَوَّلَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِذَلِكَ الْمَحْدُودِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ شَرْعًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّوْسِعَةَ فِي وُجُوهِ التَّعَبُّدِ بِمَا حُدَّ وَمَا لَمْ يُحَدَّ؛ لَنَصَبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا، كَمَا نَصَبَ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي وُجُوهِ الْعَادَاتِ أَدِلَّةً5 لَا يُوقَفُ مَعَهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ دُونَ مَا شَابَهَهُ وَقَارَبَهُ وَجَامَعَهُ فِي الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، ولكان 6 ذلك يتسع في أبواب   1 أي: حيث لا يقوم الماء الطاهر غير المطهر الذي هو منقىً من كل أثر. "د". 2 أي: فهما من الأمور المحدودة التي لا يفهم تحديدها من غير الشرع، ولا يستقل العقل بإدراك حدودها وحكمها. "د". 3 في نسخة "ماء/ ص216" بدل "العامة كلمة "بالجميع". 4 في نسخة ماء / ص216": "والتوجه إليه، لا غير ذلك؛ لأن هذا المقدار ..... ". 5 كما في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " إلى أن قال: "أجتهد رأيي ولا آلو"، فأقره على الاجتهاد برأيه في القضاء فيما لا نص فيه إذا جامع ما نص عليه في المعنى المفهوم منه". "د". قلت: والحديث ضعيف، وسيأتي عند المصنف "4/ 298" وتخريجه هناك. 6 مرتب على قوله: "لنصب"؛ أي: ولو نصب الأدلة لاتسع الأمر في العبادات، وقوله: ولما لم نجد .... إلخ" أي: ولما لم تقم الأدلة على التوسعة فيها، ولا وجدت فيها التوسعة؛ دل على المطلوب. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 الْعِبَادَاتِ، وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَلْ عَلَى خِلَافِهِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَحْدُودِ؛ إِلَّا أَنْ يُتَبَيَّنَ بِنَصٍّ1 أَوْ إِجْمَاعٍ مَعْنًى مُرَادٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلَا لَوْمَ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ، فَلَيْسَ بِأَصْلٍ؛ وَإِنَّمَا الْأَصْلُ مَا عَمَّ فِي الْبَابِ وَغَلَبَ فِي2 الْمَوْضِعِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ فِيهَا3 مَعْدُودٌ عِنْدَهُمْ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ4، كَالْمَشَقَّةِ فِي قَصْرِ الْمُسَافِرِ وَإِفْطَارِهِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ5. وَإِلَى هَذَا؛ فَأَكْثَرُ الْعِلَلِ الْمَفْهُومَةِ الْجِنْسِ فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ غير مفهومة   1 وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام فيمن وقصته الدابة: "لا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" فقد نص على حكمته عدم مسه بالطيب، فإذا حمل عليه كل من مات قبل تمام حجه، وأنه لا يمس بطيب لهذا لمعنى المتبين بالنص؛ فلا مانع منه، وهكذا ما كان من قبيله، وهو كمحترز لقوله: "يتسع"؛ أي: بل هو قليل كهذا. "د". قلت: الحديث في "صحيح البخاري" "كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة 4/ 52/ رقم 1839"، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما. 2 في ط": "وغلب على ..... " 3 المناسب: هو ما كانت له علة مفهومة وحكمة مناسبة، تدركها العقول، ويقر بها، وفيها؛ أي: في العبادات. وفي "ط": ما هو فيها". 4 أي: إن المناسب وهو الوصف الذي اعتبر علة للحكم في العبادات عدوه من أقسام ما لا نظير له، وهو قسم مما عدل به عن سنن القياس، فالمشقة لم يعتد بها في غير الصوم وقصر الصلاة في السفر، ولو كانت المشقة أضعاف ما يحصل في السفر، وأصل القياس مبني على تعدية حكمة العلة لكل فرع وجدت فيه، فكان ذلك خروجا عن سنن القياس، وسمي هذا النوع لا نظير له، يعني: وهذا مما يضعف معنى التعليل في العبادات، ويرجع بها إلى التعبد؛ لأنه حتى عند فرض وجود النظر للمعنى فيها؛ فإنه يكون بحالة قاصرة. "د". 5 ليكن على بالك ما قدمه في "ص42"؛ ففيه تعليل لبعض الطاعات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 الْخُصُوصِ، كَقَوْلِهِ: "سَهَا1 فَسَجَدَ"2 وَقَوْلِهِ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ" 3، وَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ طَرَفَيِ النَّهَارِ"4، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بأن   1 هذه الأمثلة من مسالك العلة الصريحة، فالترتيب بالفاء كزنى ماعز فرجم، والشرط في إذا، واللام في قوله: "أنها تطلع ...... إلخ"، ولكنها كما يقول: لا يفهم منها الخصوص. "د". 2 ورد سهوه صلى الله عليه وسلم والسجود بسببه في كثير من الأحاديث، منها في "صحيح البخاري" "كتاب السهو 3/ 92 وما بعدها"، و"صحيح مسلم" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 398 وما بعدها". وظفرت بعبارة فيها: "فسها، فسجد" ضمن حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو 2/ 240-241/ رقم 395"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم 1/ 273/ رقم 1039"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين 3/ 26" عن عمران بن حصين رضي الله عنه. ووَهِم من قال: إن مراد المصنف حديث ذي اليدين؛ إذ ليس فيه هذه اللفظة، قاله الزركشي في "المعتبر" "رقم 117". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور 1/ 234/ رقم 135، وكتاب الحيل، باب في الصلاة 12/ 329/ رقم 6954"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 1/ 204/ رقم 225" عن أبي هريرة. وورد نحوه عن غير واحد من الصحابة، وخرجتها في تعليقي على "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 54-58". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 61/ رقم 588"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1/ 566/ رقم 825" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس. وفي الباب عن غير واحد من الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، منها عن ابن عمر وسيأتي قريبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ1. وَكَذَلِكَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْخِلَافِيِّونَ فِي قِيَاسِ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ بِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تَعَدَّتْ مَحَلَّ مُوجَبِهَا، فَتَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ مُنَاسِبٍ يَصْلُحُ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُسَمَّى شُبَهًا2، بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ الْقَائِلُونَ، وَإِنَّمَا يَقِيسُ بِهِ مَنْ يَقِيسُ بَعْدَ أَنْ لَا يَجِدَ سِوَاهُ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لَنَا عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ تَشْهَدُ لَهَا الْمَسَالِكُ الظَّاهِرَةُ3؛ فَالرُّكْنُ الْوَثِيقُ الَّذِي يَنْبَغِي الِالْتِجَاءُ إليه   1 ورد ذلك في عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس 2/ 58/ رقم 582، وباب لا يُتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 2/ 60/ رقم 585، وكتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد قباء 3/ 68/ رقم 1192، وكتاب الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر 3/ 488 / رقم 1629، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 6/ 335/ رقم 3273"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 2/ 567" عن ابن عمر مرفوعا: "ولا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقرني شيطان" لفظ مسلم، ولفظ البخاري في آخر موطن مذكور: "ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان". 2 الراجح أن هذا النوع من القياس ليس بحجة؛ فإنه لخلوه من إدراك المناسبة لا يفيد ظن العلية ظنا يعتد به في تقرير أحكام الله، ثم إن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا به في حال. "خ". 3 هي المناسبة، والنص بأنواعه، والإجماع، والسبر والتقسيم ثم الدوران، أما الشبه، فليس من المسالك عند الشافعية، قال السبكي: "وقد كثر التشاجر في تعريف هذه المنزلة، ولم أجد لأحد تعريفا صحيحا فيها"، ثم قال: "إنه يطلق على معانٍ، والمراد به هنا وصف مناسبته للحكم ليست بذاته، بل بسبب مشابهته للوصف المناسب لذاته شبها خاصا؛ أي: يشبهه فيما يظن كونه علة الحكم أو مستلزما لها، سواء أكانت المشابهة في الصورة أم المعنى، وذلك كالطهارة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حُدَّ، دُونَ التَّعَدِّي إِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا الشَّرِيعَةَ حِينَ اسْتَقْرَيْنَاهَا تَدُورُ عَلَى التَّعَبُّدِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتُ، فَكَانَ أَصْلًا فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ وُجُوهَ التَّعَبُّدَاتِ فِي أَزْمِنَةِ الْفَتَرَاتِ لَمْ يهتدِ إِلَيْهَا الْعُقَلَاءُ اهْتِدَاءَهُمْ لِوُجُوهِ مَعَانِي الْعَادَاتِ؛ فَقَدْ رَأَيْتُ الْغَالِبَ فِيهِمُ الضَّلَالَ فِيهَا1، وَالْمَشْيَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَمِنْ ثَمَّ حَصَلَ التَّغْيِيرُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِ مَعَانِيهَا وَلَا بِوَضْعِهَا، فَافْتَقَرْنَا إِلَى الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الأمر كذلك عذر2 أهل الفترات في   = لاشتراط النية؛ فإنها تناسبه بواسطة كونها عبادة بخلاف الإسكار لحرمة الخمر؛ فإنه مناسب لها بذاته، بحيث يدرك العقل مناسبته لها وإن لم يرد به الشرع، وحينئذ؛ فالشبه -أي هذا النوع من المسالك- يحتاج في إثبات عليته إلى دليل مثبت للعلية، ولذلك قيل في تعريفه: وصف لم تثبت مناسبته للحكم إلا بدليل منفصل، مثاله أن يقال في إلحاق إزالة الخبث بإزالة الحدث في تعين الماء لها: طهارة تراد للصلاة، فلا يجزي فيها غير الماء كالوضوء، فكون كل منهما طهارة تراد للصلاة هو الوصف الجامع بينهما لتعين الماء لهما، وهو وصف شبهي لا تظهر مناسبته لتعين الماء في إزالة الخبث، وقالوا: إنه إذا ثبت بأحد مسالك العلة المعتبرة أن وصف كون الطهارة تراد للصلاة يصح علة تعين الماء لإزالة الخبث لزم، وإلا، فلا يوجبه مجرد اعتبار الماء في الحدث"، ومثله أيضا مثال المؤلف، قال ابن الحاجب: "وتثبت عليه الشبه بجميع المسالك"، وفي شرحه: وقد يقال: الشبه للوصف المجامع لآخر إذا تردد به الفرع بين أصلين، فالأشبه فيهما هو الشبه، كالنفسية والمالية في العبد المقتول تردد بين الحر والفرس مثلا، وهو بالحر أشبه؛ لأن مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر؛ فتتعارض مناسبتان، فترجع إحداهما، ولكنه ليس من الشبه الذي فيه كلام المؤلف بدليل مثاله. "د". قلت: انظر عن مسالك العلة "3/ 136-137". 1 أي: الفترات، وانظر: "حجة الله البالغة" "2/ 146". 2 هذا مذهب الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، كما في "الحاوي" "2/ 353" للسيوطي، و"تعظيم المنة" "ص167"، و"فتاوى ابن رشد" "3/ 652"، ومذهب المعتزلة والماتريدية أنهم في النار؛ إذ عليهم أن يستدلوا بعقولهم؛ انظر: "جمع الجوامع" "1/ 62"= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165] . والحجة ها هنا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَهَا الشَّرْعُ فِي رَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الرُّجُوعِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى مُجَرَّدِ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ، وَهُوَ مَعْنَى التَّعَبُّدِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الْوَاقِفُ مَعَ مُجَرَّدِ الِاتِّبَاعِ فِيهِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَأَجْرَى عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُوَ رَأْيُ مَالِكٍ1 رَحِمَهُ اللَّهُ؛ إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ فِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّظَافَةِ حَتَّى اشْتَرَطَ النِّيَّةَ وَالْمَاءَ الْمُطْلَقَ، وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ مَقَامَهُ وَالتَّسْلِيمِ كَذَلِكَ، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَدَدِ فِي الْكَفَّارَاتِ؛ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُبَالَغَاتِهِ الشَّدِيدَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَحْضِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ مَا مَاثَلَهُ، فَيَجِبُ أَنَّ يُؤْخَذَ فِي هَذَا الضَّرْبِ التَّعَبُّدُ دُونَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي أَصْلًا يبنى2 عليه، وركنا يُلجأ إليه.   = السبكي، و"المسامرة" "ص274-275/ مع نتائج المذاكرة"، ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يدخله الله فيها، وعلى هذا أدلة كثيرة، انظرها في: "الجواب الصحيح" "1/ 312"، والا عتقاد" "ص91-92" للبيهقي -واختار هذا القول- و"طريق الهجرتين" "ص 689 وما بعدها" و"تفسير ابن كثير" "3/ 35"، وفتح الباري" "3/ 45-46"، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" "4/ 74"، و"أضواء البيان" "3/ 483". 1 الفروع المذكورة ليست من انفرادات مالك رحمه الله تعالى، بل قال بأغلبها الشافعي وأحمد أيضا، انظر مثلا: الفرع الأول في "الطهور" لأبي عبيد "ص 201 وما بعدها مع تعليقنا عليه". 2 في "ط": ينبني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 فَصْلٌ: وَأَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي، فَلِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا: الِاسْتِقْرَاءُ، فَإِنَّا وَجَدْنَا الشَّارِعَ قَاصِدًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَالْأَحْكَامُ الْعَادِيَّةُ1 تَدُورُ [مَعَهُ] 2 حَيْثُمَا دَارَ، فَتَرَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يُمْنَعُ فِي حَالٍ لَا تَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ جَازَ، كَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ، يَمْتَنِعُ فِي الْمُبَايَعَةِ3، وَيَجُوزُ فِي الْقَرْضِ، وَبَيْعِ الرَّطْبِ بِالْيَابِسِ، يَمْتَنِعُ حَيْثُ يَكُونُ مُجَرَّدَ غَرَرٍ وَرِبَا مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ4، وَلَمْ نَجِدْ هَذَا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ مَفْهُومًا كَمَا فَهِمْنَاهُ فِي الْعَادَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [الْبَقَرَةِ: 179] . وَقَالَ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَةِ: 188] . وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانٌ" 5. وَقَالَ: "لَا ضَرَرَ ولا ضرار" 6.   1 أي: الأحكام المتعلقة بالعادات نظير الأحكام العبادية. 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 لما فيها من المشاحة والمغالبة، وقصد الاستفادة المالية بخلاف القرض الذي هو لوجه الله خاصة، ففيه تزكية نفس المقرض كالصدقة، وفيه تنفيس كُرَب الناس، ويقع* الحرج إذا منع القرض أيضا. "د". قلت: ويمكن التمثيل على ما ذكره المصنف سابقا بالتسعير. 4 كما في ثمر العرايا توسعة على الخلق، ولرفع الحرج والضرر على المعري، إذا تردد المعرى داخل بستانه ونخله، فكان منع ذلك مؤديا إلى ألا يعري أحد أحدا نخله. "د". 5 مضى تخريجه "ص231". 6 مضى تخريجه "ص72".   * في المطبوع: "ويرفع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وقال: "القاتل لا يرث" 1.   1 أخرج النسائي في "الكبرى" "كتاب الفرائض"-كما في "تحفة الأشراف" "6/ 220"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 220" من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ليس للقاتل من الميراث شيء". ثم أخرجه ابن عدي في "الكامل" "1/ 293"، والدارقطني من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج ويحيى بن سعيد، وزاد الدارقطني: "والمثنى بن الصباح عن عمرو به، إسناده ضعيف، إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وهذا منها، إلا أنه توبع، فقد أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 189-190/ رقم 4564"، والبيهقي من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب به، وذكر حديثا طويلا فيه: "ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئا" وإسناده فيه ضعف أيضا، سليمان صدوق، فقيه في حديثه بعض اللين، والراوي عنه ابن راشد صدوق يهم. ولكن للحديث شواهد عديدة، منها حديث أبي هريرة بلفظ المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "2109"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2645، 2735"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 220"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 322" بسند ضعيف فيه إسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة، قال الترمذي عقبه: "هذا حديث لا يصح، لا يعرف إلا من هذا الوجه، وإسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة قد تركه بعض أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل"، وقال البيهقي: "إسحاق بن عبيد الله لا يحتج به، إلا أن شواهده تقويه". قلت: نعم هو صحيح بشواهده، منها حديث عمر، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 49"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2646"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 219"، والدارقطني في "السنن" "4/ 96"، ومنها حديث ابن عباس أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 404"/ رقم 17787"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "6/ 220". وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 85"، و"نصب الراية" "4/ 428"، و"الإرواء" "رقم 1670-1672". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 "وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ"1. وَقَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" 2. وَفِي الْقُرْآنِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ   1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، 4/ 1153/ رقم 1513" عن أبي هريرة قال: نهى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيع الحصاة، وعن بيع الغرر"، وبيع الحصاة فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. والثاني: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي هذه الحصاة. والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعا، فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا. وبيع الغرر: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن ..... ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع، وعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وعسيب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهي عن الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهي عنها لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة. 2 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر مرفوعا: "كل مسكر حرام". وأخرج برقم "2003" عن ابن عمر مرفوعا: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". وأخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5585" ومسلم في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1585/ رقم 2001" عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ فقال: "كل شراب أسكر، فهو حرام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى، وَجَمِيعُهُ يُشِيرُ بَلْ يُصَرِّحُ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ لِلْعِبَادِ، وَأَنَّ الْإِذْنَ دَائِرٌ مَعَهَا أَيْنَمَا دَارَتْ، حَسْبَمَا بَيَّنَتْهُ مَسَالِكُ الْعِلَّةِ1، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَادَاتِ مِمَّا اعْتَمَدَ الشَّارِعُ فِيهَا الِالْتِفَاتَ إِلَى الْمَعَانِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّارِعَ تَوَسَّعَ2 فِي بَيَانِ الْعِلَلِ وَالْحِكَمَ فِي تَشْرِيعِ بَابِ الْعَادَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ، وَأَكْثَرُ مَا عَلَّلَ فِيهَا بِالْمُنَاسِبِ الَّذِي إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ3، فَفَهِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ فِيهَا اتِّبَاعَ الْمَعَانِي، لَا الْوُقُوفَ4 مَعَ النُّصُوصِ، بِخِلَافِ بَابِ الْعِبَادَاتِ5، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ فِيهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، حَتَّى قَالَ فِيهِ بِقَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ6، وَقَالَ فِيهِ بِالِاسْتِحْسَانِ7، ونُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُ تسعة أعشار   1 وما ذكره من الأمثلة الثانية من باب مسلك التنبيه والإيماء الذي هو ترتيب الحكم على الوصف، فيفهم لغة أنه علة له؛ ولذا جعلوه من مسلك النص غير الصريح "د". 2 كمقابل لقوله في الوجه الثاني في العبادات: "ولكان ذلك يتسع في أبواب العبادات". "د". 3 هذا هو تعريف أبي زيد للمناسب، وعرفه غيره بأنه وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء، وهو حصول مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها، وقالوا: إن تعريف أبي زيد لا يمكن إثباته في المناظرة؛ إذ يقول الخصم لا يتلقاه عقلي بالقبول، وإن كان التعريفان متقاربين في المعنى "د". 4 في نسخة "ماء/ ص217": "بالوقوف". 5 ليكن على بالك ما قرره المصنف "1/ 111" أن تلمس "الحكم" في هذا الباب من ملح العلم لا من متنه عند المحققين، وهذا ما ذكره شيخ المصنف المقري في كتابه "القواعد" "2/ 406". "6و 7" بيان المقام على وجه يشفي النفس يرجع فيه إلى كتاب "الاعتصام" "2/ 607وما بعدها -ط ابن عفان" للمؤلف في تحديدهما وتمثيلهما. "د". = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 الْعِلْمِ"، حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ1. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْمَعَانِي قَدْ كَانَ مَعْلُومًا فِي الْفَتَرَاتِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ، حَتَّى جَرَتْ بِذَلِكَ مَصَالِحُهُمْ، وَأَعْمَلُوا كُلِّيَّاتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَاطَّرَدَتْ لَهُمْ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْحِكْمَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي جُمْلَةٍ مِنَ التَّفَاصِيلِ، فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ لِتُتِمَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ جَاءَتْ مُتَمِّمَةً لِجَرَيَانِ التَّفَاصِيلِ فِي الْعَادَاتِ عَلَى أُصُولِهَا المعهودات، ومن ههنا أَقَرَّتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَرَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَالدِّيَةِ، وَالْقِسَامَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ2 يَوْمَ الْعَرُوبَةِ -وَهِيَ الْجُمْعَةُ- لِلْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالْقِرَاضِ، وَكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَحْمُودًا، وَمَا كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ3 عِنْدَهُمْ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي الْإِسْلَامِ أُمُورٌ نَادِرَةٌ مَأْخُوذَةٌ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.   = وقال "خ": "هي مصلحة يتلقاها العقل بالقبول، ولا يشهد أصل خاص من الشريعة بإلغائها أو اعتبارها، وإنما يتمسك بها الإمام مالك على شرط التئامها بالمصالح التي تشهد لها الأصول، وقد اعترض القول بها إمام الحرمين من وجهين: أحدهما أنها تستلزم المفسدة من وجهين، أحدهما تحكيم العوام بحسب آرائهم في ملاءمتهم ومنافرتهم، والثاني اختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص والبقاع والأوقات، وأجاب المالكية عن ذلك بأن الحكم في المصلحة منوط بالاجتهاد؛ لأنه دليل حكم لا حكم حتى يعمل بها العامي، وعن الثاني بالتزامه وهو معنى دوام الشريعة ومناسبتها لكل زمان" قلت: مقولة مالك في "العتبية" "4/ 155- مع الشرح"، وانظر: "الذخيرة" "1/ 152-153- ط دار الغرب" للقرافي، و"أساس القياس" "ص 98-99" للغزالي. 1 انظر: "5/ 198". 2 أي: باعتبار ما فيه من المصلحة العامة، حتى يكون مما نحن فيه، لا من جهة كون الصلاة وسماع الخطبة عبادة. "د". 3 من تتمة الدليل الثالث. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَادَاتِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي، فَإِذَا وُجِدَ فِيهَا التَّعَبُّدُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالْوُقُوفِ مَعَ الْمَنْصُوصِ، كَطَلَبِ الصَّدَاقِ1 فِي النِّكَاحِ، وَالذَّبْحِ فِي [الْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ2 فِي] الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَالْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْمَوَارِيثِ، وَعَدَدِ الْأَشْهُرِ فِي الْعِدَدِ الطَّلَاقِيَّةِ وَالْوَفَوِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي فَهْمِ مَصَالِحِهَا الْجُزْئِيَّةِ، حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْوَلِيِّ وَالصَّدَاقِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، لِتَمْيِيزِ النِّكَاحِ عَنِ السِّفَاحِ، وَأَنَّ فُرُوضَ الْمَوَارِيثِ تَرَتَّبَتْ عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْبَى مِنَ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْعِدَدَ وُالِاسْتِبْرَاءَاتِ الْمُرَادُ بِهَا اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ خَوْفًا مِنْ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَلَكِنَّهَا أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِجْلَالَ عِلَّةُ شَرْعِ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ لَا يَقْضِي بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ فِيهَا، بِحَيْثُ يُقَالُ: إِذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ بِأُمُورٍ أُخَرَ مَثَلًا لَمْ تُشْتَرَطْ تِلْكَ الشُّرُوطُ، وَمَتَى عُلِمَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ لَمْ تُشْرَعِ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ وَلَا بِالْأَشْهُرِ، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ تُوجَدُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّاتِ عِلَّةٌ يُفْهَمُ مِنْهَا مَقْصِدَ الشَّارِعِ. عَلَى الْخُصُوصِ أَمْ لَا؟   1 تأمل، فإن فيه المعنى الذي أشارت إليه الآية: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، أي: فالصداق والنفقة مكملان لحق القيامة والرياسة للأزواج عليهن، وسيأتي للمؤلف تعليله بتمييز النكاح عن السفاح، وإن كان قد يقال: إن الزنا فيه دفع مال من الزاني للبغي. "د". 2 أي: مع أن تطهير الرحم من الدم الذي هو مسكن الجراثيم المرضية غالبا قد لا يتوقف على خروجه من الودجين والحلقوم، وليراجع أهل الذكر في هذا فقد يكون له علة ومعنى مقصود. "د". قلت: وما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا أُمُورُ التَّعَبُّدَاتِ، فَعِلَّتُهَا الْمَطْلُوبَةُ مُجَرَّدُ الِانْقِيَادِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قَضَاءِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ، قَالَتْ لِلسَّائِلَةِ: "أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ " إِنْكَارًا عَلَيْهَا أَنْ يُسْئَلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا؛ إِذْ لَمْ يُوضَعْ التَّعَبُّدُ أَنْ تَفْهَمَ عِلَّتَهُ الْخَاصَّةَ، ثُمَّ قَالَتْ: "كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ"1، وَهَذَا يُرَجِّحُ التَّعَبُّدَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْمَشَقَّةِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي مَسْأَلَةِ تَسْوِيَةِ الشَّارِعِ بين دية الأصابع: "هي السنة با ابْنَ أَخِي"2، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ لَا عِلَّةَ. وَأَمَّا الْعَادِيَّاتُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَيْضًا، فَلَهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ، وَهُوَ ضَبْطُ وَجُوهِ الْمَصَالِحِ؛ إِذْ لَوْ تُرِكَ الناسُ والنظرَ لَانْتَشَرَ3 وَلَمْ يَنْضَبِطْ، وَتَعَذَّرَ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، وَالضَّبْطُ أَقْرَبُ إِلَى الِانْقِيَادِ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، فَجَعَلَ الشَّارِعُ لِلْحُدُودِ مَقَادِيرَ مَعْلُومَةً، وأسباب معلومة لا تتعدي، كالثمانين في القذف، والمئة وتغريب العام في الزنا على غير إخصان، وخص قطع اليد بالكوع4 وفي   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة 1/ 265/ رقم 335". وقولها رضي الله عنها: "أحرورية أنت؟ " أي: أنت تنتسبين إلى الحروريين، وهم جماعة خالفوا عليا رضي الله عنه من الخوارج، يبالغون في العبادات، ينتسبون إلى حروراء، قرية بالكوفة على ميلين منها. "ماء / ص218". 2 نحوه في "معالم السنن" للخطابي "4/ 28"، و"فقه الإمام سعيد بن المسيب" "4/ 67"، وسيأتي بتمامه في "5/ 387". 3 أي: لتشتت وكثر فيه الخلاف والتفرق. 4 اختلف أهل اللغة فيه على أقوال: الأول: هو طرف الزند الذي يلي الإبهام، نقله الجوهري في "الصحاح" "3/ 1278"، وبه قال ابن السكيت، كما في "تهذيب اللغة" "3/ 41"، وكذا في "المحكم" "2/ 200" لابن سيده، و"الكليات" "5/ 124" للكفوي. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 النِّصَابِ الْمُعَيَّنِ1، وَجَعَلَ مَغِيبَ الْحَشَفَةِ حَدًّا فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَشْهُرُ وَالْقُرُوءُ فِي الْعِدَدِ، والنصاب والحول في الزكوات، وَمَا لَا يَنْضَبِطُ رُدَّ إِلَى أَمَانَاتِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسَّرَائِرِ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَسَائِرِ مَا لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُ إِلَى أَصْلٍ مُعَيَّنٍ ظَاهِرٍ، فَهَذَا مِمَّا قَدْ يُظَنُّ الْتِفَاتُ الشَّارِعِ إِلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ. وَإِلَى هذا المعنى2 يشير أصل سد الذارئع، لَكِنْ لَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ تَشَعُّبِهِ وَانْتِشَارِ وُجُوهِهِ إِذَا تَتَبَّعْنَاهُ، كَمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَثَلًا، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ التَّكْلِيفَاتِ ثَبَتَ كَوْنُهَا مَوْكُولَةً إِلَى أَمَانَةِ الْمُكَلَّفِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلتفت مِنْهُ3 إِلَّا إلى المنصوص عليه.   = الثاني: هو طرف الزند في الذراع مما يلي الرسغ، نقله الليث، وقال: "هكذا زعمه أبو الدفيش الأعرابي، وهما كوعان، كذا في "تاج العروس" "22/ 141-142"، واللسان" "8/ 316، و"تهذيب اللغة" "3/ 41". والثالث: من الأقوال: أنه أخفاهما وأشدهما درمة، وهذا نقله الصاغاني في "العباب"، وفسر "الدرم" بالتحريك بأن لا يظهر للعظم حجم، وكذا في "التاج" "22/ 142". فهذه ثلاثة أقوال في تفسير "الكوع" ذكرها الزبيدي في "القول المسموع في الفرق بين الكوع والكرسوع" "ص19-21"، والمراد والله أعلم من كلام المصنف القول الثاني. 1 يعني: نصاب القطع في السرقة. 2 أي: فقاعدة سد الذرائع -التي هي منع الشارع لأشياء لجرِّها إلى منهي عنه، والتوسل بها إليه- هذه القاعدة تلتئم وتتناسب تمام المناسبة مع المعنى، وهو ضبط وجوه المصالح خشية الانتشار وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط في هذا أقرب إلى الانقياد، لكن السد الذرائع نظران ..... إلخ، أي: فلا يؤخذ هكذا بطريق كلي بل لا بد فيه من إدخاله تحت هذا الضابط الذي قرره. "د". 3 أي: من المعنى المذكور إلا ما نص عليه من الشارع بذكر ضوابطه؛ لأن كثيرا من التكاليف وَكَّلَها الشارع إلى أمانة المكلف، فلا نتوسع في ضبطها وتقييدها بحجة سد الذرائع وخوف الانتشار، والنظر الآخر أنه وإن انتشرت فروعه؛ لكن له ضوابط سهلة المأخذ يمكن التعويل عليها، فمتى أمكن إجراء الضوابط في مظانها أخذ بها وعول عليها، فيكون هذا توسطا بين الأمرين وإعمالا لكلا النظرين. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 وَنَظَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَهُ ضَوَابِطَ قَرِيبَةَ الْمَأْخَذِ وَإِنِ انْتَشَرَتْ فُرُوعُهُ، وَقَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى كليِّه، فَلْيَجْرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فِي مَظَانِّهِ، وَقَدْ مَنَعَ الشَّارِعُ مِنْ أَشْيَاءَ من جهة جرها إلى منهي عنه والتسول بِهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ قَدْ اعْتَبَرَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ تَوَسَّطَ بِنَظَرٍ ثَالِثٍ، فَخَصَّ هَذَا الْمُخْتَلَفَ فِيهِ بِالظَّاهِرِ1، فَسَلَّطَ الْحُكَّامَ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنْهُ ضَبْطًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَوَكَّلَ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إلى أمانته.   1 كان النظرين السابقين لم يفرق فيهما بين الظواهر والسرائر لكن هذا الثالث فرق بينهما بما قاله. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اعْتِبَارُ التَّعَبُّدِ؛ فَلَا تَفْرِيعَ فِيهِ1، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي دُونَ التَّعَبُّدِ2؛ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ التَّعَبُّدِ؛ لِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ3 مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ، عَرَفَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الْحُكْمُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، بِخِلَافِ اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ مُكَلَّفٌ، فَإِذَا أَمَرَهُ سَيِّدُهُ لَزِمَهُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ اعْتِبَارَهَا غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مُكَلَّفٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالتَّعَبُّدُ لَازِمٌ لَا خِيَرَةَ فِيهِ، وَاعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ الْخِيَرَةُ، [وَمَا فِيهِ الْخِيَرَةُ] 4 يَصِحُّ تَخَلُّفُهُ عَقْلًا، وإذا وقع الأمر   1 أي: لا يقاس فيه ولما كانت هذه الدعوى الأولى واضحة لم يستدل عليها، وإن كان يؤخذ التنبيه عليها أثناء الاستدلال على الدعوى الثانية، ولم يقل: "ففيه التفريع"؛ لأنه مع كونه متشعب الخلاف بين القائلين بالقياس، فإن الذي يعنيه هو إثبات أن فيه أيضا نوع من التعبد بمعنى من المعاني التي سيقررها. "د". 2 أي: دون أن يثبت التعبد، وليس الغرض أن يثبت اعتبار عدم التعبد، وإلا لتناقض الكلام، وقوله: "فلا بد فيه من اعتبار التعبد" ليس المراد به التعبد بالمعنى الخاص المتقدم الذي يجب ألا يدخله القياس والتفريع، بل المراد به أن يكون لله فيه حق، إذا قصده المكلف بالفعل أثيب، وتكون مخالفته قبيحة يستحق العقاب عليها، وينضم إليه معنى آخر وهو أنه لا بد لنا في كل مصلحة عرفناها من وقفة عندها: هل تعينت هذه العلة للمصلحة بحيث لا يكون للحكم علة ومصلحة إلا هذه؟ فهذا التوقف نوع من التعبد، بمعنى عدم معقولية المعنى تعقلا كاملا، وغير ذلك من المعاني الآتية التي يتقرر بها معنى التعبد في الأوجه المذكورة بعد، فالتعبد هنا بمعنى عام لا ينافي القياس والتفريع إذا وجدت شروطه. "د". 3 أي: فعليه الانقياد ولا يخلص من التكليف إلا بالامتثال بخلاف تحقيق المصلحة وتحصيلها، فغير لازم بل نفس معرفة المصلحة في التكليف غير لازمة فضلا عن قصدها. "د". 4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وَالنَّهْيُ شَرْعًا لَمْ يَصِحَّ تَخَلُّفُهُمَا عَقْلًا1 فَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَالتَّعَبُّدُ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ لَازِمٌ بِإِطْلَاقٍ2، وَاعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ غَيْرُ لَازِمٍ بِإِطْلَاقٍ؛ خِلَافًا لِمَنْ أَلْزَمَ اللُّطْفَ وَالْأَصْلَحَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ3 لَازِمٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَلْزَمَ الْأَصْلَحَ وَقَالَ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ؛ فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ هِيَ عِلَّةُ الْأَمْرِ بِالْعَقْلِ، يَلْزَمُ الِامْتِثَالَ مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ قَبِيحَةٌ، وَمِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ أَيْضًا، فَإِنَّ تَحْصِيلَهَا وَاجِبٌ عَقْلًا بِالْفَرْضِ، فَالْأَمْرَانِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَازِمَانِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ مُخَالَفَةَ الْعَبْدِ أَمْرَ سَيِّدِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ غَيْرُ قَبِيحٍ، [بَلْ هُوَ قَبِيحٌ] 4 عَلَى رَأْيِهِمْ وَهُوَ مَعْنَى لُزُومِ التَّعَبُّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا فَهِمْنَا بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ حِكْمَةً مُسْتَقِلَّةً فِي شَرْعِ الْحُكْمِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَمَصْلَحَةٌ ثَانِيَةٌ وَثَالِثَةٌ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَغَايَتُنَا أَنَّا فَهِمْنَا مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً تَصْلُحُ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ، فَاعْتَبَرْنَاهَا بِحُكْمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، وَلَمْ نَعْلَمْ حَصْرَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحُكْمِ بِمُقْتَضَاهَا فِي ذَلِكَ الَّذِي ظَهَرَ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَنَا بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا ظَنٌّ، لَمْ يَصِحَّ لَنَا الْقَطْعُ بِأَنَّ لَا مَصْلَحَةَ لِلْحُكْمِ إِلَّا مَا ظَهَرَ لَنَا؛ إِذْ هُوَ قَطْعٌ عَلَى غَيْبٍ بِلَا دَلِيلٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَقَدْ بَقِيَ لَنَا إِمْكَانُ حِكْمَةٍ أُخْرَى شُرِعَ لَهَا الْحُكْمُ، فَصِرْنَا مِنْ تِلْكَ الجهة واقفين مع التعبد5.   1 أي: عما يقتضيان من اشتغال ذمة المأمور والمنهي حتى يؤدي. "د". 2 أي: سواء فيما ثبت فيه اعتبار التعبد وما ثبت فيه اعتبار المعاني، وكذا اعتبار المصالح غير لازم فيما ثبت فيه اعتبار التعبد، وهو ظاهر، ولا فيما ثبت فيه اعتبار المعاني كما قال. د" 3 أي: التعبد "د". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 5 وهو هنا بمعنى عدم القطع بمعقولية المعنى مستقلا. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ نقضِ بِالتَّعَدِّي1 عَلَى حَالٍ، فَإِنَّا إِذَا جَوَّزْنَا وُجُودَ حِكْمَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى، لَمْ نَجْزِمْ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَهَا2؛ فَقَطْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ جُزْءَ علة3، أو لجواز خلو الْفَرْعِ عَنْ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الَّتِي جَهِلْنَاهَا وَإِنْ وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي عَلِمْنَاهَا، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ وَالتَّفْرِيعُ حَتَّى نَتَحَقَّقَ أَنْ لَا عِلَّةَ سِوَى مَا ظَهَرَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقِيَاسِ وَلَا الْقَضَاءِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَشْرُوعٌ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالتَّعَدِّي لَا يُنَافِي جَوَازَ4 التَّعَبُّدِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ صَحَّ كَوْنُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَلَا يَكُونُ شَرْعِيًّا إِلَّا عَلَى وَجْهٍ نَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ عَادَةً، وَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ لَنَا عِلَّةٌ تَصْلُحُ لِلِاسْتِقْلَالِ بِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ، وَلَمْ نُكَلَّفْ أَنْ نَنْفِيَ مَا عداها،   1 أي: تعدي الحكم لما ثبت فيه العلة كما هو الشأن في القياس في المسائل التي عرف فيها اعتبار المعاني والعلل. "د". 2 أي: للحكمة الموجودة الظاهرة في الأصل. "د". 3 أي: وجزء العلة لا يعدي الحكم للفرع، ولا يبني عليه قياس، وقوله: "أو لجواز ... إلخ" عطف على سابقه تكميل لتعليل قوله: "لم نجزم بأن الحكم لها فقط" الذي يشمل صورتين: أن يكون لها مع غيرها بأن تكون جزء علة، أو يكون الحكم لها أو لغيرها بأن تكون هناك علة أخرى مستقلة، فقوله أولا: "لجواز" توجيه للاحتمال الأول، وقوله: "أو لجواز" توجيه للاحتمال الثاني، وقوله: "خلو النوع عن تلك الحكمة"، أي: المستقلة أيضا كما أن المعلومة مستقلة، وقوله: "فإذا امكن ذلك"، أي: احتمال أن تكون المعلومة جزء علة، واحتمال أن تكون ليست وحدها المعلل بها وإن كانت علة كاملة، وقوله: "سوى ما ظهر"، أي: لا يوجد جزء آخر متمم للعلة المعلومة، ولا علة أخرى كاملة يصح أن يبني عليها الحكم، وقوله في الجواب: "لكن غلبة الظن كافٍ" فيه جواب التجويز الأول، وقوله: "وأيضًا" فيه جواب التجويز الثاني. "د". 4 جعله جوازا، فكأنه لا يلزم المجتهد أن يراعي إمكان حكمة أخرى، ويعتبر كأمر كمالي بخلاف الوجه الأول، وهو امتثال المأمورات على تفصيل في ذلك معروف في الفروع من جهة النية وعدمها. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ مِمَّا يُجَوِّزُونَ كَوْنَ الْعِلَّةِ خِلَافَ مَا ظَهَرَ لَهُمْ، أَوْ كَوْنَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ جُزْءَ عِلَّةٍ لَا عِلَّةً كَامِلَةً، لَكِنْ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَنَّ مَا ظَهَرَ مُسْتَقِلٌّ بالعلِّية، أَوْ صَالِحٌ لِكَوْنِهِ عِلَّةً، كافٍ فِي تَعَدِّي الْحُكْمِ بِهِ. وَأَيْضًا فَقَدَ أَجَازَ الْجُمْهُورُ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِأَكْثَرِ مِنْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ1 وَكُلٌّ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ، وَجَمِيعُهَا مَعْلُومٌ، فَنُعَلِّلُ بِإِحْدَاهَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأُخْرَى وَبِالْعَكْسِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْأُخْرَى فِي الْفَرْعِ أَوْ لَا تَكُونَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ فِيمَا ظَهَرَ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يبقَ لِلسُّؤَالِ مَوْرِدٌ، فَالظَّاهِرُ هُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَلَا عَلَيْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ 2: أَنَّ الْمَصَالِحَ فِي التَّكْلِيفِ ظَهَرَ لَنَا مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَسَالِكِهِ الْمَعْرُوفَةِ، كَالْإِجْمَاعِ، وَالنَّصِّ، وَالْإِشَارَةِ، وَالسَّبْرِ3، وَالْمُنَاسَبَةِ، وَغَيْرِهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الظاهر الذي   1 انظر تفصيل ذلك في "المستصفى" "2/ 96"، و"الإحكام" "3/ 218" للآمدي، و"البحر المحيط" "3/ 210-211"، و"البرهان" "2/ 832" و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 167"، و"المسودة" "417"، و"صول الفقه وابن تيمية" "1/ 385-388"، و"كشف الأسرار" "4/ 45"، و"جمع الجوامع" "2/ 245-246 مع "شرح المحلي"، و"نشر البنود" "2/ 145-146"، و"إرشاد الفحول" "209". 2 هذا الوجه إنما يثبت اعتبار التعبد في نوع خاص مما اعتبر فيه المعاني دون التعبد، بخلاف الوجهين السابقين، فعامان في سائر فروعه، والوجه الرابع عام أيضا، وكذلك الخامس والسادس. "د". 3 مثاله أن يقول: المستدل في علة ربا الفضل العلة، أما الطعم، أو الاقتيات، أو الادخار، أو التقدير بالكيل، أو الوزن، ثم يستدل على إبطال اثنين منتفين كون الثالث هو العة، والحق مع من أنكر عده في مسالك العلة كان الوصف المبقي أن اشتمل على مصلحة، فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط، فالأول المناسبة، والثاني الشبه، وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا، فهو الطرد. "خ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 نُعَلِّلُ بِهِ، وَنَقُولُ: إِنَّ شَرْعِيَّةَ الْأَحْكَامِ لِأَجْلِهِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِتِلْكَ1 الْمَسَالِكِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَا يُطَّلع عَلَيْهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ، كَالْأَحْكَامِ2 الَّتِي أَخْبَرَ الشَّارِعُ فِيهَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لِلْخِصْبِ وَالسِّعَةِ وَقِيَامِ أُبَّهَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي أَخْبَرَ فِي مُخَالَفَتِهَا أَنَّهَا أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ وَتَسْلِيطِ الْعَدُوِّ، وَقَذْفِ الرُّعْبِ، وَالْقَحْطِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ. وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الشَّرِيعَةِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ أَنَّ3 ثَمَّ مَصَالِحَ أُخَرَ غَيْرَ مَا يُدْرِكُهُ المكَلف، لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِهَا وَلَا عَلَى التَّعْدِيَةِ بِهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ إِذْ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَحَلِّ الْآخَرِ وَهُوَ الْفَرْعُ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ الْبَتَّةَ، لَمْ يَكُنْ إِلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْقِيَاسِ سبيل، فبقيت موقوفة على التعبد المحض؛ لأنها لَمْ يَظْهَرْ لِلْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ بِهَا شَبِيهٌ إِلَّا مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِطْلَاقِ أَوِ الْعُمُومِ الْمُعَلَّلِ4، وإذا   1 في "ط": "لتلك". 2 فمثلا ورد: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} الآية، هل يجعل الاستغفار علة أيضا في قوة الأبدان وسعة العلم، وغير ذلك فقياس على الأمداد بالأموال والبنين؟ وقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} ، وهل يقاس على الفشل وذهاب القوة والعزة ذهاب القوة البدنية والأموال وغيرها؟ فهذه الأسباب ذكرها الشرع عللا لأحكام لكنها لا تعلم إلا من جهته، فهل يدخل فيها القياس والتفريع، يقول المؤلف: إنها مع كونها علل بها الشرع، ولا يصح أن يدخلها القياس والتفريع؛ لأنها وإن كانت أحكاما عادية إلا أن عللها ليست مما تدرك العقول ترتب هذه الأحكام عليها، فلا بد أن تكون تعبدية نقف فيها عند ما أثبت الشارع فقط؛ لأن التشابه الذي ندركه فيما نريد أن نجعله فرعا إنما هو في المطلقات والعمومات المعلل بها، وليس هذا القدر كافيا في صحة العلية حتى يتأتى الإلحاق والقياس. "د". 3 في الأصل و"خ": "وإن". 4 لعل فيه حذف كلمة "به". "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 ذَاكَ يَكُونُ أَخْذُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهَا مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ بِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ الشَّارِعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ السَّائِلَ إِذَا قَالَ لِلْحَاكِمِ: لِمَ لَا تَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؟ فَأَجَابَ بِأَنِّي نُهِيتُ عَنْ ذَلِكَ، كَانَ مُصِيبًا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا قَالَ: لِأَنَّ الْغَضَبَ يُشَوِّشُ عَقْلِي وَهُوَ مَظِنَّةُ عَدَمِ التَّثَبُّتِ فِي الْحُكْمِ، كَانَ مُصِيبًا أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ جَوَابُ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ، وَالثَّانِي جَوَابُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعْنَى، وَإِذَا جَازَ اجْتِمَاعُهُمَا وَعَدَمُ تَنَافِيهِمَا، جَازَ الْقَصْدُ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَإِذَا جَازَ الْقَصْدُ إِلَى التَّعَبُّدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ تَعَبُّدًا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ تَوَجُّهُ القصد إلا مَا لَا يَصِحُّ الْقَصْدُ إِلَيْهِ مِنْ مَعْدُومٍ أَوْ مُمْكِنٍ أَنْ يُوجَدَ أَوْ لَا يُوجَدَ، فَلَمَّا صَحَّ الْقَصْدُ مُطْلَقًا، صَحَّ الْمَقْصُودُ لَهُ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، [وَهُوَ الْمَطْلُوبُ] 1. وَالْخَامِسُ: أَنَّ كَوْنَ الْمُصْلِحَةِ مُصْلِحَةٌ تُقْصَدُ بِالْحُكْمِ، وَالْمَفْسَدَةِ مَفْسَدَةٌ كَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالشَّارِعِ، لَا مَجَالَ2 للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي   1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل. 2 هذا ظاهر فيما إذا كان مسلك العلة الإجماع أو النص بقسميه أو المناسبة أيضا؛ لأنه لا بد في المعتبر منها أن يكون مؤثرا أو ملائما، وكل منهما لا بد أن يستند إلى نص أو إجماع؛ أما المؤثر؛ فهو ما اعتبر عينه في عين الحكم بنص كما في الحدث بالمس لقوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ" * أو إجماع كولاية المال بالصغر، وأما الملائم فهو ما رتب الحكم على وفقه في الأصل مع ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم بنص أو إجماع؛ وسمى ملائما لكونه مناسبا لما اعتبره الشارع، ومثاله الصغر في حمل نكاح الثيب الصغيرة على نكاح البكر الصغيرة في أن الولايات للأب عند الحنفية، ويبقى الكلام في السبر والتقسيم والدوران من أنواع المسالك، فعليك بالنظر فيها لتعرف هل يشملها كلامه، وأن المصالح فيها أيضًا بوضع الشرع. "د".   * انظر تخريجه وطرقه في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "2/ 244، مسألة رقم 20". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ1، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ شَرَعَ الْحُكْمَ لِمَصْلَحَةٍ مَا، فَهُوَ الْوَاضِعُ لَهَا مَصْلَحَةً، وَإِلَّا، فَكَانَ يُمْكِنُ عَقْلًا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ؛ إِذِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِهَا الْأَوَّلِ مُتَسَاوِيَةٌ لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ فِيهَا بِحُسْنٍ ولا قبح؛ فإذن كَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً هُوَ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ، فَالْمَصَالِحُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَصَالِحُ قَدْ آلَ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى أَنَّهَا تَعَبُّدِيَّاتٌ2، وَمَا انْبَنَى عَلَى التَّعَبُّدِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا تَعَبُّدِيًّا. وَمِنْ هُنَا يَقُولُ الْعُلَمَاءُ3: إِنَّ مِنَ التَّكَالِيفِ "مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ خَاصَّةً"، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ" وَيَقُولُونَ فِي هَذَا الثَّانِي: إِنَّ فِيهِ حَقًّا لِلَّهِ، كَمَا فِي قاتل العمد إذ عفي عنه ضُرِب مئة وسُجِن عَامًا، وَفِي الْقَاتِلِ غِيلَةً إِنَّهُ لَا عفوَ فِيهِ، وَفِي الْحُدُودِ إِذَا بَلَغَتِ السُّلْطَانَ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ كَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ لَا عَفْوَ فِيهِ وَإِنْ عَفَا مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ بَائِعِ الْجَارِيَةِ إِسْقَاطُ الْمُوَاضَعَةِ وَلَا مِنْ مُسْقِطِ الْعِدَّةِ عَنْ مُطَلِّقِ الْمَرْأَةِ4، وَإِنْ كَانَتْ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا حَقًّا لَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّعَبُّدِ وَإِنْ عُقِلَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الْحُكْمُ، فقد صار إذن كُلُّ تَكْلِيفٍ حَقًّا لِلَّهِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ، فَرَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ إِذْ كَانَ لِلَّهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ للعبد حقا أصلا5.   1 انظر ما مضى بهذا الصدد "1/ 125" مع التعليق عليه، وما سيأتي "3/ 28". 2 في الأصل: "تعبدات". 3 المذكور قول القرافي في كتابه "الفروق" "2/ 140، الفرق الثاني والعشرون"، وانظر أيضا: "المنار" "886- مع حواشيه"، و"شرح التلويح على التوضيح" "2/ 155". 4 لعل الأصل: "عن المرأة المطلقة". "د". 5 وعليه، فالشريعة هي أساس الحقوق الخاصة، وليست الحقوق الخاصة هي أساس الشريعة، والحق ليس منحة من المجتمع أو القانون الذي تضعه الأمة، وليس هو حقا طبيعيا لصاحبه، بل هو منحة إلهية وهبها الله سبحانه للإنسان من أجل أن يتحقق بها مصالحه الدنيوية والأخروية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 ومن هذا الموضع يقول كثير م الْعُلَمَاءِ: "إِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ بِإِطْلَاقٍ"1، عُلِمَتْ مَفْسَدَةُ النَّهْيِ أَمْ لَا، انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي لأجله نهي عن العمل أولا، وُقُوفًا مَعَ نَهْيِ النَّاهِي لِأَنَّهُ حَقُّهُ، وَالِانْتِهَاءُ هُوَ الْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ فِي النَّهْيِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ، فَالْعَمَلُ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ لَا يَخْلُو عَنِ التَّعَبُّدِ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُ، فَهُوَ مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَالطَّهَارَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. إِلَّا أَنَّ التَّكَالِيفَ الَّتِي فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ مِنْهَا مَا يَصِحُّ بِدُونِ نِيَّةٍ، وَهِيَ الَّتِي فَهِمْنَا مِنَ الشَّارِعِ فِيهَا تَغْلِيبَ جَانِبِ الْعَبْدِ، كَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَذَلِكَ مَا فَهِمْنَا فِيهِ تَغْلِيبَ حَقِّ اللَّهِ؛ كَالزَّكَاةِ وَالذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ، وَالَّتِي تَصِحُّ بِدُونِ نِيَّةٍ إِذَا فُعِلت بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَعَلَهَا بِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ وَهِيَ نِيَّةُ التَّعَبُّدِ، أُثِيبَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ التُّرُوكُ إِذَا تُرِكت بِنِيَّةٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ حُقُوقًا لِلْعِبَادِ خاصة ولم يكن لله فيها حَقٌّ، [لَمَا] 2 حَصَلَ الثَّوَابُ فِيهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ حُصُولَ الثَّوَابِ فِيهَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا طَاعَةً مِنْ حَيْثُ هِيَ مُكْتَسَبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ مُتَقَرَّبٌ إِلَى اللَّهِ بِهِ، وَكُلُّ طَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى نِيَّةٍ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ حَيْثُ هي طاعة مفتقرة إلى نية   1 انظر تحرير هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 299، 23/ 25، 29/ 281 وما بعدها، و32/ 88 و33/ 18، 99"، و"إعلام الموقعين" "1/ 108"، و"كشف الأسرار "4/ 134-135"، و"تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" للعلائي، و"النهي يقتضي الفساد بين العلائي وابن تيمية" لصديقنا رعد عبد العزيز، و"النهي وأثره في الفقه الإسلامي" لمحمد سعود المعيني. 2 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أُمِرَ بِهَا مِنْ حَيْثُ حَقِّ الْعَبْدِ خَاصَّةً، وَمِنْ جِهَةِ حَقِّ الْعَبْدِ حَصَلَ فِيهَا الثَّوَابُ؛ لَا مِنْ كَوْنِهَا طَاعَةً مُتَقَرَّبًا بِهَا. قِيلَ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَصَحَّ الثَّوَابُ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، لَكِنَّ الثَّوَابَ مُفْتَقِرٌ فِي حُصُولِهِ إِلَى نِيَّةٍ. وَأَيْضًا، فَلَوْ حَصَلَ الثَّوَابُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، لَأُثِيبَ الْغَاصِبُ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ الْمَغْصُوبَ كرها، ليس كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ حَصَلَ حَقُّ الْعَبْدِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي كَوْنِ الْعَمَلِ عِبَادَةً، وَالنِّيَّةُ الْمُرَادَةُ هُنَا نِيَّةُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا جَارِيًا فِي كُلِّ فِعْلٍ وَتَرْكٍ، ثَبَتَ أَنَّ فِي الْأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا طَلَبًا تَعَبُّدِيًّا عَلَى الْجُمْلَةِ. وَهُوَ دَلِيلٌ سَادِسٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَفْتَقِرَ كُلُّ عَمَلٍ إِلَى نِيَّةٍ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ عَمَلُ مَنْ لَمْ ينوِ، أَوْ يَكُونَ عَاصِيًا. قِيلَ: قَدْ مَرَّ أَنَّ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ تَارَةً يَكُونُ هُوَ المغلب، وقد يكون جِهَةُ التَّعَبُّدِ هِيَ الْمُغَلَّبَةَ، فَمَا كَانَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ التَّعَبُّدُ، فمسلَّم ذَلِكَ فِيهِ، وَمَا غُلِّبَ فِيهِ جِهَةُ الْعَبْدِ، فَحَقُّ الْعَبْدِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَيَصِحُّ الْعَمَلُ هُنَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا يَكُونُ عِبَادَةً لِلَّهِ، فَإِنْ رَاعَى جِهَةَ الْأَمْرِ، فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ عِبَادَةٌ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ، أَيْ: لَا يَصِيرُ عِبَادَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ، لَا أَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ النِّيَّةُ أَوْ يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الِامْتِثَالِ صَيَّرَتْهُ عِبَادَةً، كَمَا إِذَا أَقْرَضَ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، أَوْ أَقْرَضَ بِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَغَيْرُهَا، وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُثَابِرُونَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 إِحْضَارِ النِّيَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ، وَيَتَوَقَّفُونَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنْهَا حَتَّى تَحْضُرَهُمْ1. فَصْلٌ: وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أُمُورٌ، مِنْهَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بخالٍ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلَاقٍ2، فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُجَرَّدًا3 فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ. كَمَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: "حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا عَبَدُوهُ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ" 4 وَعَادَتُهُمْ فِي تَفْسِيرِ "حَقِّ"   1 انظر في هذا: "قواعد الأحكام" "2/ 66 وما بعدها". 2 هذا هو التحقيق في التعبير عن حق الله خلافا للقرافي، حيث ذهب في الفرق الثاني والعشرين إلى أن حق الله أمره ونهيه لا نفس العبادة، وزعم أن هذا هو المحرر عند العلماء، وقد تعرض أبو القاسم بن الشاط إلى التنبيه على هذا الغلط، وأنكر أن يحرر العلماء ما يخالف قوله عليه الصلاة والسلام: "حق الله تعالى عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شيئا". "خ". قلت: وانظر في تعريفه: "قواعد الأحكام" "1/ 103"، و"تيسير التحرير" "2/ 174-181"، و"شرح المنار" "886- مع حواشيه"، و"كشاف اصطلاحات الفنون" "1/ 329-330". 3 كالقصاص، فالعفو عنه حق للعبد، على معنى أنه إن عفا سقط الحق كله. "د". 4 جزء من حديث، وفيه حق الله على العباد أيضا، وسيأتي عند المصنف "ص544"، أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار رقم 2856، وكتاب اللباس، باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه رقم 5967، وكتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك رقم 6267، وكتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه رقم 6500، وكتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى رقم 7373"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/ 58-59/ رقم 30" من حديث معاذ رضي الله عنه. قلت: وفي الأصل و"خ": "لا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 اللَّهِ" أَنَّهُ مَا فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ، كَانَ لَهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ، "وَحَقُّ الْعَبْدِ" مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصَالِحِهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَعْنَى "التَّعَبُّدِ" عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ1 عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَصْلُ الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ، وَأَصْلُ الْعَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ. فَصْلٌ: وَالْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ الْآدَمِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ2: أَحَدُهَا: مَا هُوَ حُقٌّ لِلَّهِ خَالِصًا كَالْعِبَادَاتِ، وَأَصْلُهُ التَّعَبُّدُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا طَابَقَ الْفِعْلُ الْأَمْرَ، صَحَّ؛ وَإِلَّا؛ فَلَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّعَبُّدَ رَاجِعٌ إِلَى عَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، وَبِحَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ، وَإِذَا لَمْ يُعْقَلُ مَعْنَاهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّهُ لَا يَتَعَدَّى، فَإِذَا وَقَعَ3 طَابَقَ قَصْدَ الشَّارِعِ وَإِنْ لَا؛ خَالَفَ4، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ قَصْدِ الشَّارِعِ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ، فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل.   1 أي: ما لا تعقل فيه الحكمة والمصلحة الخاصة التي يصح أن تكون أساسا للقياس، أما العلل العامة، فهي موجودة حتى في التعدي، كما سبقت الإشارة إليه. "د". 2 انظر: "الفروق" "2/ 140-141"، و"المجموع" "6/ 154"، و"المغني" "6/ 63". 3 أي: الوقوف المذكور. "د". 4 في الأصل: "أو خالف"، وفي "د": "أو لا خالف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وَأَيْضًا؛ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ عَدَمَ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْوُقُوفُ عند ما حده الشارع، فيكفي في ذلك عدم تحقيق الْبَرَاءَةِ مِنْهُ [وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ الْبَرَاءَةُ] 1 وَعَدَمُ تَحَقُّقِ الْبَرَاءَةِ [مِنْهُ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ الْمُطَابَقَةُ، وَعَدَمُ تَحْقِيقِ الْبَرَاءَةِ] 1 مُوجِبٌ لِطَلَبِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِفِعْلٍ مُطَابِقٍ، لَا بِفِعْلٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ. وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا نَظِيرُ الْأَمْرِ، فَإِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ إِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ بِإِطْلَاقٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، إِمَّا بِأَصْلِهِ، كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَإِمَّا بِوَصْفِهِ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَمْ ينهَ عَنْهُ، وَلَأُمِرَ بِهِ أو أذن فيه، فإن الإذن هو المعرِّف2 أَوَّلًا بِقَصْدِ الشَّارِعِ فَلَا تَتَعَدَّاهُ. فَعَلَى هَذَا إِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ، أَوِ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُطَابِقِ؛ فَذَلِكَ إِمَّا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ عِنْدَهُ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَتْمٍ وَلَا نَهْيٍ حَتْمٍ، وَإِمَّا لِرُجُوعِ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى وَصْفٍ مُنْفَكٍّ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ، وَإِمَّا لِعَدِّ النَّازِلَةِ من باب المفهوم [و] 3 المعنى الْمُعَلَّلِ بِالْمَصَالِحِ، فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ هَذَا قَلِيلٌ، وَأَنَّ التَّعَبُّدَ هُوَ الْعُمْدَةُ. وَالثَّانِي: مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، وَحُكْمُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ إِذَا صَارَ مطَّرَحًا شَرْعًا، فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُعْتَبَرِ؛ إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ، وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ كقتل النفس؛ إذ ليس   1 ما بين المعقوفات زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة كلها. 2 في "د": "المعروف". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، و"ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 لِلْعَبْدِ خِيَرَةٌ فِي إِسْلَامِ نَفْسِهِ لِلْقَتْلِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَالْفِتَنِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْمَنْهِيَّ أَوِ الْمَأْمُورَ غَيْرَ الْمُطَابِقِ بَعْدَ الْوُقُوعِ؛ فَذَلِكَ لِلْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ1، وَلِأَمْرٍ رَابِعٍ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِيهِ هُوَ الْمُغَلَّبُ. وَالثَّالِثُ: مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ الْعَبْدِ هُوَ الْمُغَلَّبُ، وَأَصْلُهُ مَعْقُولِيَّةُ الْمَعْنَى، فَإِذَا طَابَقَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الصِّحَّةِ؛ لِحُصُولِ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا حَسْبَمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ، وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَفَةُ فَهُنَا نَظَرٌ؛ أَصْلُهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَ ذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَوْ بَعْدَ الْوُقُوعِ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُطَابَقَةِ أَوْ أَبْلَغَ، أَوْ لَا؛ فَإِنْ فَرَضَ غَيْرَ حَاصِلٍ؛ فَالْعَمَلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ لَمْ يَحْصُلْ، وَإِنْ حَصَلَ -وَلَا يَكُونُ2 حُصُولُهُ إِلَّا مُسَبِّبًا عَنْ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ السَّبَبِ الْمُخَالِفِ- صَحَّ وَارْتَفَعَ مُقْتَضَى النَّهْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْعَبْدِ3 وَلِذَلِكَ يُصَحِّحُ مَالِكٌ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ إِذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِأَجْلِ فَوْتِ الْعِتْقِ، فَإِذَا حَصَلَ4، فَلَا مَعْنَى لِلْفَسْخِ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْمَمْلُوكِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ   1 انظر لِمَ لَمْ يعتبر الوجه الرابع السابق هنا؛ وهو عد النازلة من باب المعلل، فيجري على حكمه، مع أنه في هذا أقرب من سابقه؛ لأن سابقه كان في التعبد المحض الذي يبعد فيه الحمل على هذا الوجه، بخلاف هذا النوع الثاني الذي فيه الحقان؛ فإنه حمله على المعلل أقرب من سابقه، إلا أن يقال: إنه أهدر الرابع رأسا حيث قال: "وَقَدْ مَرَّ أَنَّ هَذَا قَلِيلٌ وَأَنَّ التَّعَبُّدَ هو العمدة" "فلذلك لم يلتفت إليه هنا. "د". 2 لأنه لا يتأتى أن ينهى الشارع عن فعلٍ؛ محافظةً على مصلحة العبد، ثم يكون هذا الفعل المنهي عنه بنفسه محصلا لهذه المصلحة. "د". 3 أي: وأما بالنسبة إلى حق الله وهو الإقدام على المخالفة؛ فلم يرتفع مقتضاه من الإثم، سواء من جهة البائع أو جهة المشتري، وفضل العتق شيء آخر. "د". 4 أي: وقد حصل على وجه أبلغ؛ لأنه نجز عتقه، بخلاف المدبر؛ فإن عتقه مؤجل وقد لا يتم. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 الْغَيْرِ إِذَا أَسْقَطَ ذُو الْحَقِّ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ فَرَضْنَاهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَإِذَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِهِ؛ فَلَهُ ذَلِكَ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْعَمَلَ الْمُخَالِفَ بَعْدَ الوقوع؛ فذلك لأحد الأمور الثلاثة1.   1 وتطبيقه في مسألة العبد جارٍ على الوجه الثالث، وهو أن المخالفة راجعة إلى وصف منفك؛ فالعتق وقع على ذات العبد الذي يمكن انفكاكه عن كونه مدبرا إلى أن يكون قنًّا صرفًا مثلا، كما قالوه في الدار المغصوبة؛ فالصلاة منفكة عن المكان المغصوب، والمكان المغصوب ينفك عن أن تقع فيه الصلاة؛ لأن الوصف ليس من الأوصاف اللازمة. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: لَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا مَخْلُوقَةً؛ لِيَظْهَرَ فِيهَا أَثَرُ الْقَبْضَتَيْنِ1، وَمَبْنِيَّةً عَلَى بَذْلِ النِّعَمِ لِلْعِبَادِ؛ لِيَنَالُوهَا وَيَتَمَتَّعُوا بِهَا، وَلِيَشْكُرُوا2 اللَّهَ عَلَيْهَا فَيُجَازِيهِمْ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى، حَسْبَمَا بيَّن لَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ الَّتِي عَرَّفَتْنَا بِهَذَيْنِ مَبْنِيَّةً عَلَى بَيَانِ وَجْهِ الشُّكْرِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ3، وَبَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّعَمِ الْمَبْذُولَةِ مُطْلَقًا. وَهَذَانِ الْقَصْدَانِ أَظْهَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِمَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْلِ: 78] . وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] .   1 ورد في ذلك أحاديث كثيرة جدا عن جمع غفير من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قال الشيخ صالح المقبلي في "الأبحاث المسددة" -كما في "فتح البيان" "3/ 406" لصديق حسن خان: "ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك". وتجد كثيرا من هذا الأحاديث في تفسير سورة الأعراف "آية 172" عند ابن جرير وابن كثير والسيوطي في "الدر المنثور" و"تفسير النسائي" "1/ 504-507"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 424-425"، وفي "السنة" لابن أبي عاصم "باب ذكر أخذ ربنا الميثاق من عباده 1/ 87 وما بعدها، والسلسلة الصحيحة" "الأرقام 47-50، 848، 1623". 2 في الأصل: "ويشكروا". 3 وهو ما يشير إليه فيما بعد بقوله: "والثاني من جهة الوضع التفصيلي ..... إلخ"، وقوله: وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا "أي: بوجه عام" سيشير إليه بقوله: "من جهة الوضع الكلي ..... إلخ" والآيات من هذا النوع الثاني الكلي الإجمالي؛ أما التفصيل؛ فيكون بذكر تفاصيل الأحكام الشرعية وبيان ما يحل تناوله وما لا يحل ..... إلخ. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وَقَالَ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 152] . وَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النَّحْلِ: 114] . وَقَالَ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الآية [إبراهيم: 7] . وَالشُّكْرُ هُوَ صَرْفُ مَا أُنعم عَلَيْكَ فِي مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَعْنَى بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى مَرْضَاتَهُ بِحَسْبِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "حَقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوه بِهِ شَيْئًا" 1. وَيَسْتَوِي فِي هَذَا مَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ؛ فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ؛ فَهِيَ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْعَادَاتُ؛ فَهِيَ أَيْضًا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ الْكُلِّيِّ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الْآيَةَ [الأعراف: 32] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 87] . فَنَهَى عَنِ التَّحْرِيمِ، وَجَعَلَهُ تَعَدِّيًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا هَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُحَلَّلَاتِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ رغب عن سنتي، فليس مني" 2.   1 جزء من حديث أخرجه الشيخان، وقد تقدم تخريجه ص"538". 2 مضى تخريجه "1/ 522". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا وَضَعَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [الْمَائِدَةِ: 103] . وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} الآية [الأنعام: 138] . فَذَمَّهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ فِي الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ اخْتَرَعُوهَا، منها مجرد التحريم، وهو المقصود ههنا. وَأَيْضًا؛ فَفِي الْعَادَاتِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْكَسْبِ وَوَجْهِ الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا أَيْضًا، وَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْعَبْدِ، فَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، حَتَّى يَسْقُطَ حَقُّهُ بِاخْتِيَارِهِ في بعض الجزئيات1، لا في   1 نستفيد من هذا أمورا مهمة؛ هي: أولا: أن ناحية التعبد موجودة في كل حكم، حتى في الإباحة والحقوق، سواء كان معقول المعنى، بيِّنَةٌ حكمتُهُ أم غير معقول. ثانيا: حق الله وحق الفرد متلازمان، إذا وجد أحدهما وُجِد الآخر؛ فهما دائمان مجتمعان. ثالثا: بهذا لا ينفصل المعنى الديني عن كل معاملة أو تصرف؛ أداء لحق الله في صدق العبودية. رابعا: أن طبيعة الحق الفردي في الإسلام ليس فرديا خالصًا؛ بل هو حق مشترك، وتثبت له صفة مزدوجة هي الفردية والجماعية في وقت معًا. أما الفردية؛ فلأن الحق ليس بذاته وظيفة، بل هو ميزة تخول صاحبها الاستئثار بثمرات حقه؛ فحق الفرد أصلا شخصي. وأما الجماعية؛ فتبدو في تقييد هذا الحق بمنع اتخاذه وسيلة إلى الأضرار بغيره فردًا أو جماعة، قصدا أو بدون قصد، بالنظر إلى نتائج استعماله، كما سيأتي مفصلا عند المصنف. وما يحسن إيراده هنا ما ذكره أستاذنا الشيخ محمد المبارك رحمه الله تعالى في كتابه "ذاتية الإسلام" "ص10"، قال بعد كلام: "فالتشريع الإسلامي بالإضافة إلى موضوعيته وتنظيمه على أسس ظاهرة وضوابط موضوعية له جذور خلقية في النفس، وأصول اعتقادية تغذية وتمده وتدعم = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 الْأَمْرِ الْكُلِّيِّ1، وَنَفْسُ الْمُكَلَّفِ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَقِّ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّسْلِيطُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِالْإِتْلَافِ. فإذن الْعَادِيَّاتُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ الْكُلِّيِّ الدَّاخِلِ تَحْتَ الضَّرُورِيَّاتِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَإِجْرَاءُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أقسام2   = بناءه، فالتشريع غير منقطع الصلة بالأخلاق، وينفي عن التشريع الإسلامي صفة الفردية"، ويقول أيضا: "والإنسان الذي يؤمن هذا الإيمان ويعمل في الحياة في هذا الطريق ليس هو الإنسان الفرد المنعزل، بل هو الإنسان الموجود في إطار اجتماعي". خامسا: قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 108": "والحقوق نوعان: حق الله، وحق الآدمي؛ فحق الله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكوات، والكفارات، ونحوها؛ وأما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعارضة عليها". 1 أيك فليس كل حق للعبد له إسقاطه؛ فالنفس للشخص حق المحافظة عليها ولله ذلك الحق أيضا، ولكنه لا يسقط إذا أسقطه العبد بتعريضها للتلف، بل يؤاخذ المعتدي والمعترض، وهكذا كل الضروريات العادية من عقل ونسل ومال، وهو ما يشير إليه قوله: "من جهة الوضع الكلي الداخل تحت الضروريات". "د". قلت: انظر في هذا: "الفروق" "2/ 140 وما بعدها، الفرق الثاني والعشرون"، و"أصول الفقه" "ص46" لأبي زهرة. 2 لأن العادات فيها حق الله الصرف؛ وهو النظر الكلي، حتى لا يصح مثل تحريم ما أحل الله؛ وحق لله على العبد بالنسبة لغيره يسقط إذا أسقطه العبد، وحق له كذلك لا يسقط ولو أسقطه، فالأخيران حق لله على العباد يتعلق بهم بالنسبة لأشخاص آخرين كما هو ظاهر في الأمثلة بخلاف القسم الأول؛ فهو حق لله على العبد مباشرة ألا يحرم ما أحله ولا يفسد مال نفسه مثلا بقطع النظر عن عبد آخر. "د". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وَفِيهَا1 أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جِهَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُجَازًى عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ2، موقَّىً بِسَبَبِهِ عَذَابَ الْجَحِيمِ. وَالثَّانِي: جِهَةُ أَخْذِهِ لِلنِّعْمَةِ3 عَلَى أَقْصَى كَمَالِهَا فِيمَا يَلِيقُ بالدنيا؛ لكن يحسبه فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] ، وبالله التوفيق. [انتهى السفر الأول من كتاب [الموافقات] 4.   1 أي: في العادات، والوجه الأول يتحقق إذا سار فيها على مقتضى مرضاته تعالى وأدى شكرها. "د". 2 في الأصل: "بالنعيم". 3 فانتفاع العبد بالطيبات من النعم جعله الله تعالى حقا من حقوقه بحسب ما هيأه له من ذلك كما قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الأعراف: 32] . فجعل ذلك حقا له؛ لكن لا مطلقا بل حسبما سن له ورسم حتى لا يكون فيه اعتداء على حق الغير، وكل شخص بحسب ما قسم له من ذلك؛ فليس الناس في ذلك سواء. "د". 4 زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها ومن "ط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 الاستدراكات : استدراك 1: وهو مأخوذ من "كشف علوم الآخرة" "ص76" للغزالي، وهو طافح بالموضوعات والأباطيل، وحذر من أحاديثه ابن حجر في "الفتح" "11/ 434" بقوله: "وقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها؛ فلا يغتر بشيء منها". وورد زيادة على المذكور هنا أشياء آخر، ولكن في خبر لكعب الأحبار عند أبي نعيم في "الحلية" "5/ 372-374"، وفي سنده الفرات بن السائب وهو متروك. استدراك 2: 1- كذا في "النفائس"، وفي جميع النسخ: "وقد". 2- في "نفائس الأصول": "الدخان، وزفر الأذهان، فيلزم .... " استدراك 3: 1- في"النفائس": "أو مفسدة". 2- في "النفائس": فإنه تعالى يتوعَّد على". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 5- في "النفائس": فإن المفيد هو .... ". 6- كذا في "ط" و"نفائس الأصول" وفي سائر النسخ: "أن". استدراك 4: وفي "ط": "التفصيل"، بالصاد المهملة مجودة، وفي "نفائس الأصول": "التفضل"، وهو الصواب، وبناء عليه تعلم ما في كلام "د" السابق. استدراك 5: قلت: قاله بسبب السقط الذي وقع عنده، وهو بين معقوفتين، وسبب النزول الآتي مضى تخريجه "1/ 93". استدراك 6: قلت: جاء في "ط" ما يصرح بذلك، ففيه: "صار صاحبه" [واليا] ، على حظ [عام] .... ". استدراك 7: 1- "الإحياء" "4/ 380"، وما بين المعقوفتين منه فقط، وفيه: "مرتبط بدل "منهمك"، و"لحظة بدل "خطرة" -وفي الأصل: "خطوة"- وفي النسخ كلها: "في عمره" و"باعث فيه"، والمثبت منه. 2- كذا في "الإحياء" وفي النسخ جميعها: "الحياة". 3- كذا في "الإحياء"، وفي النسخ جميعها: "ليريح نفسه ويقوي". 4- انظره في "الإحياء" "4/ 380". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 الموضوعات والمحتويات : الموضوع الصفحة كتاب المقاصد 7 المقاصد لغة 7 كتب أُلِّفَت في موضوع المقاصد 7 قسما المقاصد 7 ما يرجع إلى قصد الشارع 7 ما يرجع إلى قصد المكلف 8 الأنواع الأربعة لقصد الشارع 8 وضع الشريعة لمصالح العباد ووضعها على معهود الأميين 8 تفصيل للأنواع الأربعة لمقاصد الشارع 8 توضيح المقاصد المطروقة في هذاالكتاب مقدمة كلامية مسلمة عند المصنف 9 توضيح حول قوله مسلمة، وتوجيهها بما يتفق أول الكلام بآخره 9 أحكام الله هل هي معللة؟ 9-12 من قال إنها غير معللة 9 من قال إنها معللة 11 موقف ابن القيم من القياس ومعارضيه 10 موقف المصنف من الظاهرية 10 قول الجويني في الظاهرية 10 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 مناقشة المصنف في نسبة نفي التعليل للرازي من أوجه عديدة 10-11 التعليل الفلسفي عند الرازي 10 بين الأشاعرة والمعتزلة 10 هل الخلاف في المسألة لفظي؟ 10 الرازي كثير الاضطراب بخلاف الغزالي 11 العلل بمعنى العلامات 11 مراجع لتوضيح المسألة والمذاهب فيها 11 إثبات علل تنقض قول الرازي 12 الاعتماد على الاستقراء لإثبات القاعدة المسلمة عند المصنف 12 الاستقراء مفيد للعلم 13 ثبوت الاجتهاد والقياس بإثبات العلة 11-13 الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَقَاصِدُ الشَّارِعِ 15 النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ 17 الشريعة والشرعة 17 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى 17 تَكَالِيفُ الشَّرِيعَةِ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مقاصدها في الخلق وهي: الضرورية والحاجية والتحسينية 17 تفسير الضرورية 17-18 حفظ الضروريات بأمرين من جانب الوجود ومن جانب العدم وتوضيح بعض ذلك في الحاشية 18 تمثيل الحفظ في أصول العبادات 18-19 التهارج ومعناه 18 الجهاد وحفظ الدين 18-19 تمثيل الحفظ في العادات والمعاملات والجنايات 18-20 مقصود المحافظة عند المصنف 18 البيوع هل مطلقها من الضروري؟ 19 الحرص على شرح كلام المصنف وتحريره 19-20 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 مجموع الضروريات الخمس، وأنها في كل ملة وترتيبها في الحاشية والاختلاف فيها 20، 21 حكم تعريض الأمم السابقة الغنائم للنار 21 تفسير الحاجيات وتمثيلها في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات 21-22 تفريق المصنف بين العادات والمعاملات 21-22 تفسير التحسينات وتمثيلها من السابقتين 22-23 المسألة الثانية 24 انضمام ما هو كالتتمة والتكملة إلى هذه المراتب 24 تمثيل ذلك للضروريات والحاجيات والتحسينات 24-25 الاهتمام بالضروريات وأنها الأصل 25 المسألة الثالثة 26 شرط كل تكملة أَنْ لَا يَعُودَ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ 26 توضيح ذلك بوجهين 26 خرق التكملة لمصلحة الأصل 26-27 ذكر صور لموضوع واحد يكون فيه ضروري وحاجي أو قد يكون تحسينيا 26-27 فائدة مهمة عن الجهاد وإقامته على كل حال من المصنف ومن أحد المحشِّين 27 تخريج حديث الجهاد مع جميع ولاة الأمر 28 قولهم: راوٍ في معنى المجهول 28 فائدة فقهية مهمة في الاستدلال على الجهاد مع ولاة الجور 28 الاهتمام بالصلاة أيضا حتى خلف المبتدعة وأئمة الجور حرصا عليها وعلى جماعة المسلمين 29 فوائد في الحاشية إتمام أركان الصلاة 29 إحالة المصنف على مصنف للغزالي لشرح أكبر وتأصيل 30 المسألة الرابعة المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية وباختلاله يختلان وبإخلالهما يختل الضروري جزئيا 31 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 وفيه مطالب خمسة: 31 الأول: أن الضروري أصل لما سواه 31 الثاني: اختلاله يؤدي إلى اختلال غيره 31 الثالث: اختلال الحاجي والتكميلي لا يلزم منه اختلال الضروري بإطلاق 31 الرابع: احتلالهما بإطلاق قد يلزم منه اختلال الضروري بوجه ما 31 الخامس: ينبغي المحافظة عليهما للمحافظة على الضروري 31-32 بيان المطلب الأول وأمثلة عليه 32-33 بيان المطلب الثاني وأمثلة عليه 33-35 حكم الوسائل مع المقاصد 34-35 تمثيل بأجزاء الصلاة 34 بيان المطلب الثالث 35-38 تمثيل بأنواع كثيرة منها العذر 36 بيان المطلب الرابع من أوجه 38 أحدها أن الضروريات آكد من غيرها 38 تخريج حديث الحلال بيِّن 38-39 التدرج في المعاصي بالأخف وهو أصل مقطوع به 39-40 تفسير حديث: لعن الله السارق يسرق البيضة 39 اقتصار المصلي على الفرض فيها 40 ثانيها: أَنَّ كُلَّ دَرَجَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ آكد منها كالنفل إلى الفرض 40 والمندوب بالجزء ينتهض أن يكون واجبا بالكل 40 ثالثها: أَنَّ مَجْمُوعَ الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ يَنْتَهِضُ أَنْ يَكُونَ كل واحد منهما كفرد من الضروريات 41 الضيق والسعة ومكارم الأخلاق ومعاني العادات 41 تخريج حديث: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 41 رابعها: الحاجي والتحسيني خادم للأصل الضروري 42 الخشوع في الصلاة 42-43 بيان المطلب الخامس: ويتضح بما تقدم 43 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 فائدة البحث 43 المسألة الخامسة 44 النظر في المصالح المبثوثة للعباد في الدنيا من جهتين: مواقع الوجود، وتعلق الخطاب الشرعي بها 44 المصالح في الدنيا غير محضة، بل تخالطها المفاسد والعكس صحيح 44-45 جريانها على التغليب والترجيح بينها 45 النظر الثاني تعلق الخطاب الشرعي بها 46 وأن الغالب في المصلحة هو المطلوب وقوعها والمفاسد الغالبة هي المطلوب دفعها، والمغلوبةمدفوعة شرعا 46-47 الخلاف لفظي في المسألة وثمرتها معلومة عقلا 47 الأدلة على ما سبق من ترجيح المصالح والمفاسد 47-48 أولًا: أن الجهة المغلوبة لو كانت مُعْتَبَرَةً عِنْدَ الشَّارِعِ لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مَأْمُورًا به بإطلاق ولا منهيا عنه بإطلاق 47-48 والثاني: أنه التكليف بما لا يطاق 48 إشارة إلى مذهب المعتزلة أن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع 49-50 توجيه كلامهم في موضوع البحث، وأنه خارج البحث 50 المصالح في الشريعة 51 فصل: المصلحة أو المفسدة الخارجة عن حكم الاعتياد إذا انفردت 50 التمثيل عليها بأكل الميتة والنجاسات اضطرارا 51 الترجيح والتساوي في الأدلة المتعارضة 51-53 الحكم الشرعي للمجتهد وقاعدة مراعاة الخلاف 52 المسألة السادسة 54 المصالح والمفاسد في الآخرة على ضربين 54 ممتزجة وغير ممتزجة خالصة 54 الكلام على درجات النعيم والجحيم والعذاب 54-61 حرمان أهل الجنة من بعض ما استعجلوه مما حرم عليهم في الدنيا 58 مراتب العلماء والأنبياء 58 -59 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 فضل الأنصار 59 التفضيل والخيرية 60 -61 أهمية البحث في التفضيل وفائدتها وثمرتها 61 التفضيل بين الأنبياء 61 المسألة السابعة 62 مقاصد التشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية دون اختلال النظام 62 المسألة الثامنة 63 جلب المصالح ودفع المفاسد في الدنيا إنما هو بالنظر إلى الآخرة 63 أولا: إخراج المكلفين عن دواعي الهوى حتى يكونوا عبادا لله 63 ربط هذه المسألة بالمسألة الخامسة 63 ذم الشهوات 63 ثانيا: أن المنافع مشوبة بالمضار وكذلك العكس فليست محضة في الطرفين 64 التغليب فيها هو المعتمد والراجح 64 ثالثا: أن المنافع والمضار عامتها إضافية لا حقيقية 65 تفسير الإضافي هنا 65 رابعا: اختلاف الأغراض في الأمر الواحد فصل 66 قواعد تنبني على ما سبق 66 عدم استمرار إطلاق أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ وَفِي الْمَضَارِّ المنع 66-68 محاولة التوفيق بين كلام المصنف وبين كلام الرازي 66 هل يجتمع الإذن والنهي على أمر واحد والعمل بالترجيح 67 التمثيل بالخمر 67 إيراد إشكال للقرافي ومحاولة الإجابة عليه في باب المصالح والمفاسد واختلاطهما 68 ذكر مذهب المعتزلة في المصلحة والمفسدة والعلل 68 المباح والمصلحة والمفسدة 68 الوعيد والمصلحة والمفسدة 69 تفضيل مطلق المصلحة على مطلق المفسدة 69-70 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 تزلزل قواعد الاعتزال 68-70 مذهب الأشاعرة في المصلحة والمفسدة 70 مذهب المعتزلة كذلك وتتمته 71 إدراك المصلحة عندهم 71 العزيمة والرخصة عند الرازي 72 إشكلات عليه 72 تخريج حديث "لا ضرر ولا ضرار" 72-75 مدار الفقه على أحاديث منها هذا الحديث 75 متابعة الإشكالات على تعريف الرازي للرخصة 75 الموانع 75 ومن الفوائد في أصل البحث: بفهمها يحصل فهم كثير من آيات القرآن؛ أي التي في الموضوع 76 ومن الفوائد فهم كلام من قال: إن مصالح الآخرة تعرف بالشرع ومصالح الدنيا تعرف بالعقل، وأوجه النظر فيه 77-78 مصالح الدنيا والآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع 78 المسألة التاسعة 79 أصول الشريعة وأصول أصولها قطعية، وأدلتها قطعية كذلك عقلية كانت أو نقلية 79 والظنية لا تفيد القطع ولا يستند إليها 79 هل في النصوص ما يفيد القطع نقلا بالتواتر مع قطعية الدلالة؟ 79-80 هل إذا احتفت بها قرائن يختلف الأمر؟ 80 الإجماع وكفايته في الموضوع، والإشكالات عليه 80-81 إثبات المسألة بالاستقراء وهو من كل الأدلة 81-82 استناد الإجماع إلى قياس أو اجتهاد 81 خبر الواحد والتواتر وإفادة العلم 82 المسألة العاشرة تخلف آحاد الجزئيات عن هذه الكليات لا يرفعها 83 التمثيل على ذلك 83-85 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 الاستقراء 84 مناهج العلوم ومنهج الشريعة 84 تخلف جزئيات الأصول العقلية والشرعية 84 تنبيه على تخلف الجزئيات أنها قد تكون داخلة ومعارضة أو لم يظهر وجه دخولها أو تخلفها لِحِكَمٍ خارجة عن مقتضى الكلي 84 المسألة الحادية عشرة 86 الْأَمْرُ فِي الْمَصَالِحِ مطَّرد مُطْلَقًا فِي كُلِّيَّاتِ الشريعة وجزئياتها 86 الرَّاجِحَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّيْءَ وَالنَّقِيضَ 86 تعدد الصواب والخلاف بين العلماء ومواطن الإجماع 86-89 المصالح والمفاسد وصفات الأعيان عند المعتزلة 89-90 المسألة الثانية عشرة 91 الشريعة والأمة تبعا للنبي صلى الله عليه وسلم كلهم معصومون 91 الاستدلال على ذلك بالنصوص والتفسير للآيات ومعنى حفظ الذكر 91-93 تحريف الإنجيل والتوراة 92 الاستدلال الثاني بالاعتبار الوجودي الواقع من زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى الساعة من قيام العلماء في شتى المجالات 93-95 المسألة الثالثة عشرة ثبوت قاعدة كلية في الأصول الثلاث لا يرفعها آحاد الجزئيات بل لا بد من المحافظة على القاعدة والجزئيات التابعة لها والاستدلال على ذلك بأوجه 96 منها الْعَتَبِ عَلَى التَّارِكِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ عذر 96 ومنها: أن المعاتبة والوعيد مستثنيان في الأعذار 96 ومنها: لا يصح القصد إلى التكليف بالكلي إذا كانت جزئياته غير مقصودة 96 مناقشة المؤلف في ذلك ومنها: مقصود الشارع جريان الأمور على نظام وترتيب بدون تفاوت واختلاف 97 توجيه المسألة هذه مع السابقة، وإيضاح عموم القاعدة عدم العارض المعارض 98-99 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 النَّوْعُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ للإفهام 101 المسائل الخمس الأولى ضوابط لفهم مقاصد الشرع بالقرآن والسنة المسألة الأولى 101 القرآن الكريم عربي لغة وأسلوبا، ونقل عن الإمام الشافعي 101-104 هل في القرآن ألفاظ أعجمية 101-102 هل ينبني على الخلاف ثمرة 103 فهم اللغة عن طريق أخرى 104 المسألة الثانية تبيان ما تشترك فيه اللغة الغربية مع اللغات وما تنفرد به عنها من الألفاظ 105-106 فصل: في ترجمة القرآن 106-107 فصل: توضيح لما سبق وتأكيد عليه 107-108 المسألة الثالثة 109 الشريعة والأمة أميان وتفسير ذلك 109 الحكمة في ذلك 109 الاستدلال على ذلك بـ: 1- النصوص المتواترة لفظا ومعنى 109-111 الخلاف في كتابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية 110-111 2- مناسبتها للأمة التي بعثت فيها 111 3- أنها لو لم تكن مناسبة لم تكن معجزة 111-112 زيادة توضيح لكلام المصنف وتمثيلها بالمواقيت 111-112 فصل: في ذكر العلوم التي عند العرب وما صحح وأبطل من الشارع 112 علم النجوم للاهتداء بها 112-113 تنبيه على أن هناك علوما وإشارات لا يفهمها العرب وتحتاج إلى ما يسمى الإعجاز العلمي للقرآن 113-114 علم الأنواء وأوقات نزول الأمطار 114 التحذير من الشرك في علم الأنواء 115 تخريج أحاديث في ذلك 116 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية 117-118 تنبيه على أن القرآن لا يجاري كل ما عند العرب 117-118 من العلوم التي أبطلها الشارع: العرافة وَالزَّجْرِ وَالْكِهَانَةِ وَخَطِّ الرَّمْلِ وَالضَّرْبِ بِالْحَصَى وَالطِّيَرَةِ وإثبات الفأل وتفسير بعضٍ من هذه المصطلحات 118-119 الإلهام والرؤية الصادقة والفراسة 119 الطب وذكر أصوله 120-121 علوم البلاغة والفصاحة 121 ضرب الأمثال 122 توضيح ذلك 122 الأخلاق ومكارمها وإبقاء ما كان عند العرب وإبطال ما يبطل 122-124 ومن الأخلاق ما كان غير مألوف وبعضها مألوف وبعضها محرف عن الحق 124-125 والصواب 126 تحديثهم عن نعيم الجنة وخيرها 125-126 تضعيف حديث فضل قس بن ساعدة 126 الجدل والموعظة في القرآن وعند العرب 126 المسألة الرابعة: ما ينبني على ماسبق من قواعد: 127 الابتعاد عن إضافة علوم ليست مقصودة لكلام الله في القرآن وذكر جملة منها 127-128 ذكر ما للمتصوفة منها 127 العلوم الكونية والجدل والجنة ونعيمها والجحيم وعذابها ومعهودات العرب 128 التفسير العلمي للقرآن، الإسراء والمعراج 128 أدلة إضافة كل العلوم إلى القرآن ومناقشة ذلك 129 الحروف المقطعة في فواتح السور 129-130 أكثر من كذب عليه في هذه الأمة هو علي بن أبي طالب 130 علم الحيوان والتاريخ الطبيعي وعلوم العرب وما يصح إضافته إلى علوم القرآن من علوم العرب 130-131 التفسير العلمي للقرآن 130 فصل: لا بد من اتباع معهود الأميين في فهم الشريعة 131 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الألفاظ والمعاني عند العرب وأن العرب تقصد المعاني لا ألفاظها 131 أدلة ذلك: أولا: جريان العمل على عدم اطراد ذلك عندهم 131 ثانيا: الاستغناء عندهم ببعض الألفاظ بما يرادفها ويقاربها 32-133 حديث: نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر 132 تفسير الشخت والبؤس واليبس 133 ثالثا: قد تهمل العرب بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره في الجملة 134 تنبيه على تصحيف في بيت شعر ونسبته إلى مصادره وشرح غريبه 134 رابعا: مدح العرب الكلام البعيد عن تكلف الاصطناع 135 تفسير العواهن عند العرب في سياق قصة في ذم التكلف 135 استدراك على المصنف 135 فصل: عموم مسلك الفهم والإفهام في الشرع لجميع العرب دون فرق 136 تفسير الأحرف السبعة للحديث 136، 137، 138 تفسير "منآدهم" 137 فصل: الِاعْتِنَاءُ بِالْمَعَانِي الْمَبْثُوثَةِ فِي الْخِطَابِ هُوَ الْمَقْصُودَ الأعظم للشرع 138 تمييز المعاني الإفرادية عن الإضافية التركيبية 138-139 ذكر قصة عن عمر تدل على ذلك 140 لطيفة عن النووي في فهم "إيلاج الحشفة" 140 فصل: سهولة التكاليف بما يسع الأمي تعقلها 140 التكاليف الاعتقادية سهلة الفهم للجميع 141 فائدة عن الأسماء والصفات من المصنف 141-142 ذم السؤال والخوض فيما لا يعني 142 ذم التعمق 143 التكليف في العمليات بالتقريبات في الأمور وبالجلائل في الأعمال 143 لم يطالبوا بالحساب الدقيق 143-144 الورع استحضار النيات 145 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 المتشابه في الشرع 145 التعمق في الشرع 146 الورع وأنواعه 147 التفاوت في الشريعة في الأمور المطلقة 147 فهم الأمية على العوام والعلماء 147 التدرج في تنفيذ الأحكام 148-149 اعتياد الخير وتخريج حديث "الخير عادة" 150 المسألة الخامسة الدلالة على المعاني الأصلية والتابعة والتردد بينها 151 دلالتها على الأحكام لفهم معان زائدة في المعاني التابعة عن المعنى الأصلي 151 أثبتها فريق واستدل لها 151 تخريج حديث "تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي" 152 نجاسة الماء 153 أقل مدة الحمل 154 أمثلة أخرى 154-156 تبدل السماوات والأرض 158 خلود الكفار بالنار وما نسب لابن تيمية فيها 158-159 فصل: التنبيه على تعارض الأدلة وترجيح المصنف لمذهب المانعين163 إيراد إشكال فيه أمثلة سبعة 163 منها النداء والدعاء 163-164 الكناية فيما يستحيا من الألفاظ 165 الالتفات في الكلام 165-166 منها: الأدب في ترك التنصيص في نسبة الشر لله 166 منها: الأدب في المناظرة 167 ومنها: الآداب في إجراء الأمور على العادات 167-169 المنافقون ودخولهم في جملة المسلمين!! 168 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ للتكليف بمقتضاها 171 المسألة الأولى: القدرة سبب أو شرط التكليف، والاعتراض على السببية هنا ومذهب المعتزلة والحنفيه فيه 171 التكليف بما يظهر أنه فوق قدرة العبد وتوجيه آيات وأحاديث في ذلك 171-174 تخريج حديث: "كن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل" 172-173 تخريج حديث: "لا تمت وأنت ظالمٌ" 172-173 المسألة الثانية: الأوصاف الطبيعية كالشهوات المختلفة في الإنسان لا يطالب برفعها أصلا 175 المسألة الثالثة: 176 ما كان كالأوصاف الطبيعية فحكمها مثلها سواء أكانت خفية أو ظاهرة 176 تخريج أحاديث في الجبلة والغرائز كالجبن والشجاعة والخيانة والكذب 176-177 أقسام تعلق الطلب الظاهر من الإنسان 178 الأول: ما لا يكون داخل تحت كسبه 178 الثاني: ما يدخل تحت كسبه 178 الثالث: ما يشتبه الأمر فيه كالحب والبغض، وتخريج أحاديث في ذلك 178-181 ومنها: الشهوات والمثيرات لها 180-181 النظر إلى المحرمات أو النساء 180-181 الغضب 181 فصل [مهم] : فقه الأوصاف الباطنة السيئة كالكبر والحسد .... واليقين والخوف أي المقصود اكتسابها 182-183 المسألة الرابعة 184 قسما الْأَوْصَافُ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى جَلْبِهَا ولا دفعها ما كان نتيجة عمل وما كان فطريا 184 تعلق الجزاء بها 184 الفطري منها ما هو محبوب أو مبغوض للشارع والنظر فيه 184-190 فصل: ويصح تعلق الحب والبغض بالأفعال كما هو في الذوات والصفات190 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 تنبيه على كتب أبي الليث السمرقندي ومن على شاكلته 191 تعلق الثواب والعقاب على الصفات المطبوعة والأوجه في ذلك مع الأدلة 193 الكلام في الصفات 194 - فما بعد الأجور على المصائب 201 المسألة الخامسة: 204 الكلام على التكليف الشاق وبما لا يطاق مذاهب العلماء والفرق فيها 204-206 نقل عن ابن القيم في الموضوع 204-206 النظر في معنى الشاق من أربعة أوجه اصطلاحية 207 أحدها: أن يكون في مقدور المكلف 207 الثاني: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ خارج عن المعتاد ومنها ما يكون خاصا بأعيان الأفعال المكلف بها ومنها ما لا يكون خاصا 207-208 الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فيه من التأثير في تعب النفس 209 الرابع: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَا يَلْزَمُ عَمَّا قَبْلَهُ 209 توضيح في المسائل التالية: المسألة السادسة 210 لم يقصد الشارع إلى التكليف بالشاق الإعنات 210 الاستدلال على ذلك: أولا: بالنصوص 210-212 ثانيا: ما ثبت من مشروعية الرخص 212 ثالثا: الإجماع على عدم وقوعه 212-213 المسألة السابعة: 214 قصد الشارع للتكليف بما فيه كلفة ومشقة وإن كان لا يسمى في العادة المستمرة كذلك 214 أقسام المشاق: قسم لا تنفك عنه العبادة وقسم تنفك 214 تفرعات القسم الثاني 214 لفظ التكليف جاء في معرض النفي 215-216 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 مناقشة هذا القول 215 الجواب على المناقشة 216 توضيح حول ما يقصد به المكلف المشقة لا الأجر والثواب 217-221 فصل: توضيح قصد المكلف المشقة، وهل الأجر على قدرها؟ 222-229 فصل: الأفعال المأذون فيها وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إِبَاحَةً إِذَا تَسَبَّبَ عنها مشقة معتادة أو غير معتادة وقصد الشارع إلى المشقة فيها 229 من كان يخشى على نفسه الفساد من الدخول في العمل 230 من لم يخش على نفسه وظن خلاف ذلك 231 اعتياد المشقة التي هي في الأصل غير معتادة 232 فصل: أسباب رفع الحرج عن المكلفين 233 أولا: الخوف للانقطاع عن العبادة ثانيا: خوف التقصير عند مزاحمة الأعمال 233 تخريج حديث: "إن هذا الدين متينٌ" 236-239 احتمال المشقة في الصالحات وأمثلة من اجتهاد السلف 242-244 فصل: المكلف مطلوب بأعمال ووظائف لا بد منها .... فإذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه عن الوظائف التي هي إما حقوق لله أو حقوق للعبيد 247 تأكيد علة النهي عن الإيغال في العمل 250 أقسام الناس في الحظوظ أحدها: أرباب الحظوظ 251 عدم الترخص في موضع الترخص 251-252 السير مع الحظوظ مطلقا 252 الثاني: أهل إسقاط الحظوظ 255 فصل: المنهي عنه المسبب عنه مشقة أولى بالنهي 255 الكلام في الصفات 257-260 فصل: الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ خَارِجٍ لَا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل 260 الإذن إلى دفعها ومراتبه 260 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 المسألة الثامنة: مخالفة الهوى شاق، وقصد الشارع إخراج المكلف عن اتباع هواه 264 المسألة التاسعة: انقسام المشقات إلى دنيوية وأخروية، والمشقات إذا أدت إلى تعطيل عمل شرعي آخر 265 المسألة العاشرة: المشقات الخاصة والعامة 266 تعارض المشقات والترجيح بينها 267 المسألة الحادية عشرة 268 العرف والمشقة 268 رفع الاعمال التي ترافقها مشقة غير معتادة 268-269 اختلاف المشقات 269-271 مشقات الإيمان 270 الحرج في الدين 272-273 فصل: الحرج العام والحرج الخاص ومناقشة ابن العربي 273 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: 279 الشَّرِيعَةُ جَارِيَةٌ فِي التَّكْلِيفِ بمقتضاها على الطريق الأوسط الأعدل وتقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال 279 تدرج خطاب الشرع في التكليف وأمثلة على ذلك 279 سبب نزول قول الله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ على لاتقنطوا ... } 283 ذم الدنيا، والدعاء بكثرة المال لبعض الصحابة 284 جزاء المؤمنين في الآخرة 284 فصل: الشريعة حاملة على التوسط والميل عن التوسط لأحد الطرفين إنما هو لمعنى مقصود 286-287 كيفية معرفة التوسط 287 النَّوْعُ الرَّابِعُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي دخول المكلف تحت أحكام الشريعة 289 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: 289 الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ 289 أدلة ذلك: أولا: النص الصريح على أن العباد خلقوا للعبادة 289 ثانيا: مَا دَلَّ عَلَى ذَمِّ مُخَالَفَةِ هَذَا الْقَصْدِ 290 كل موضع ذكر فيه الهوى في القرآن فهو في موضع الذم 291-292 ثالثا: ما علم أن الاسترسال مع الهوى لا يحصل بسببه المصالح 292 إرجاع انهيار الحضارات إلى الأهواء 292 هل يمكن تصور وضع الشرائع للعبث 293-294 فصل: قواعد ينبني عليها ما سبق 295 منها: بطلان العمل المبني على الهوى دون التفات لأمر أو لنهي أو تخيير في المعاملات والعبادات 295-296 علامة الفرق بين العمل المبني على الهوى دون الالتفات للأمر وغيره وبين ما هو متبع للأمر أو ما ينوب مكانه 297 فصل: منها اتِّبَاعَ الْهَوَى طَرِيقٌ إِلَى الْمَذْمُومِ وَإِنْ جَاءَ في ضمن المحمود، لأسباب 298 أنه سبب تعطيل الأحكام 298 اعتياد النفس على الهوى التذاد النفس بالهوى 298 فصل: اتباع الهوى مظنة للاحتيال بالأحكام الشرعية على أغراضه 299 أصل ابتداع الفرق الضالة، إنما هو الهوى 299 المسألة الثانية المقاصد الشرعية: مقاصد أصلية ومقصاد تابعة 300 المقاصد الأصلية: لَا حَظَّ فِيهَا لِلْمُكَلَّفِ وَهَى الضَّرُورِيَّاتُ الْمُعْتَبَرَةُ في كل ملة 300 كونها عينية على كل مكلف 300 أو كفائية 301 المقاصد التابعة وهي التي روعي فيها حظ المكلف 302 -303 حكمة الشرع في خلق الشهوات ووضع الفطر في الإنسان 303 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية 303 المسألة الثالثة: 305 أقسام الضروريات: مَا كَانَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ مَقْصُودٌ 305 ما ليس في حظ عاجل مقصود 305 أمثلة عليها وتوضيح لها 305-306 الصناعات والحرف من فروض الكفاية 306 القيام بالمصالح لحظ النفس وبواسطة الحظ في الغير 307 فروض الكفاية وحظوظ النفس 308 فروض الأعيان وحظوظ النفس 309 فصل: ما ليس للمكلف حظ بالقصد يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني، وَمَا فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ حَظٌّ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ يَحْصُلُ فيه العمل المبرأ من الحظ 310-311 بيان ذلك 311-312 فصل: بالنظر إِلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي اعْتِبَارِ حُظُوظِ الْمُكَلَّفِ بالنسبة إلى قسم الكفاية نجد الاعمال أقساما ثلاثة: الأول: لا حظ فيه للمكلف معتبر بالقصد الأول 312 الثاني اعتبار حظوظ المكلف 312 الثالث: قسم متوسط بينهما يتجاذبه الطرفان كولاية أموال الأيتام 312-313 المسألة الرابعة: المباح المأذون فيه وصيرورته عبادة وعملا لله خالصا إذا خلصه العبد من الحظوظ 314 الاعتراض على المصنف في إيراد المسألة هنا وحقه إيرادها في قسم مقاصد الشرع بالتكليف والإجابة عن الإشكال 314 هل يَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ لَمَّا صَارَ مُلْحَقًا بالقصد؟ يحتمل وجهين 314 الأول: أن يقال إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في القصد؛ وهو القيام بعبادة من العبادات المختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم 315 صور من أفعال السلف في هذا الوجه 315 الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُرْجَعُ فِي الْحُكْمِ إلى أصله من الحظ 319 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 أمثلة على هذا الوجه من افعال السلف 319 المسألة الخامسة: 328 العمل على وفق المقاصد الشرعية يقع إما على المقاصد الأصلية؛ وهي هذه المسألة، وإما على وفق المقاصد التابعة؛ وهي المسألة التالية 328 ما كان على المقاصد الأصلية فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا 328 ينبني عليه قواعد وفقه كثير حصول الإخلاص في العمل وصيرورته عبادة وبيان ذلك 328 مناقشات حول ذلك كعمل الرهبان والفرق الضالة حكم أهل الأهواء 335-336 فصل: به تصير تصرفات المكلف كلها عبادات 337 كنحو مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 337-338 فصل: بنقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب 339 فصل: تحريه من الْمُكَلَّفُ يَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ إِلَى كُلِّ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ فِي الْعَمَلِ مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ أَوْ درء مفسدة 340 فصل: يصير الطاعة أعظم ومعصيتها أعظم 343 فصل: قاعدة أصول الطاعة وجوامعها راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية وكبائرالذنوب وجدت في مخالفتها 343 المسألة السادسة: قد تصاحب المقاصد الأصلية العمل الواقع على وفق المقاصد التابعة وقد لا يصاحب والمصاحب بالامتثال وإلا فالهوى 344 المصاحب بالفعل 344 بيان كون المكلف عاقلا بِالْحَظِّ وَالِامْتِثَالِ، أَمْرَانِ: 344 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ أمر عادي حتى يكون القصد مجرد الامتثال 345 حكم الذبح للجن والذبح للسلطان وتخريج حديث في ذلك وإثبات وجود الجن 346-347 النهي عن معاقرة الأعراب ومعنى الحديث 347-348 النهي عن طعام المتباريين 348-349 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 ثانيهما: إذا كان القصد إلى الحظ ينافي الأعمال العادية لكان العمل بالطاعات رجاء دخول الجنة أو الخوف من النار؛ كان عملا بغير الحق، وبيان بطلان ذلك بالأمثلة 350 مناقشة هذا وإبطال الأعمال بهذا القصد 353 الجواب عن الإيرادات وتقسيم العبادات 357 فصل: قسما الحظ المطلوب بالعبادات: 360 الأول: يَرْجِعُ إِلَى صَلَاحِ الْهَيْئَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ عِنْدَ الناس وتفصيل فيما إذا كان تابعا أو متبوعا 360 الثاني: يرجع إلى نيل حظه من الدنيا هذا قد يكون مراءاة، وقد يكون لحظ نفسه دون مراءاة 361-362 الثاني: ما يرجع إلى حظ نفسه دون مراءاة وأمثلة عنه، وذكر موطن الخلاف فيه وهي ما يسمى بمسألة الانفكاك 364 قصد العبادة مع العبادة 372 من حظوظ النفس قصد المراءات وهو باطل 373 فصل: العمل يكون إصلاحا للعادات الجارية بين الناس وهو حظ مراعىً من الشارع 373 وهو لا يستوي مع العبادات في اشتراط النية 374 قد صح الامتنان به في القرآن 374 الاعتراض بأن التجرد للحظ هنا قادح، ومناقشة ذلك 375 فصل: المقصود بالصحة والبطلان هنا 379 المسألة السابعة: 380 ضربا المطلوب الشرعي والنيابة فيهما الأول: العادات الجارية بين الخلق الثاني: العبادات اللازمة إن اختصت حكمتها بالمكلف 380 النيابة في الأول صحيحة إلا إذا اختصت حكمتها بالمكلف 380-381 الثاني: لا تصح النيابة فيه 381 الأدلة على ذلك: الأول: النصوص الدالة على ذلك 381-382 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 الثاني: المقصود من العبادات الخضوع لله 383 الثالث: لَوْ صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لَصَحَّتْ في الأعمال القلبية 383-384 فإن قيل: جاءت نصوص تدل على خلاف ما أصلتم 385 ثانيا: قاعدة الصدقة على الغير 387 ثالثا: تحمل العاقلة الدية في قتل الخطأ 388 استغفار النبي لأبويه 388-389 الاستغفار لأموات المشركين وأحيائهم 390 رابعا: النيابة في الأعمال الدبنية -غَيْرُ الْعِبَادَاتِ- صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ 390-391 خامسا: قد يجازى الإنسان على ما لم يعمل أ- كالمصائب النازلة 391 ب- النيات التي تتجاوز الأعمال 392 الجواب على هذه الإيرادات إجمالا 395 ثم بالتفصيل 396-397 التنبيه على أن المشكل هو الأحاديث التي هي معارضة للقاعدة والإجابة عنها: أولا: الأحاديث فيها مضطربة وتوضيح ذلك 397 ثانيا: اختلاف العلماء في تفسيرها 398 ثالثا: هناك من تأولها بترك اعتبارها مطلقا 399 رابعا: احتمال الخصوصية 399 خامسا: حمل بعض الأحاديث على ما تصح النيابة فيه 399 سادسا: مع قلة هذه الأحاديث فهي معارضة لأصل ثابت 400 فصل: مسألة هبة الثواب 400 أدلة من منع هبة الثواب 401 الأول: الهبة صحت في شيء مخصوص في المال 401 الثاني: العقاب والثواب وضعها الشارع كالمسببات إلى الأسباب 401 أدلة من أجاز: الأول: إذا جاز بالمال فالقياس يدخلها أو العموم 402 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 ثانيا: إذا كانت كالمسببات مع الأسباب صح الملك فيها والتصدق فيها 402 مناقشة حول الموضوع 402-403 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: 404 مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِي الْأَعْمَالِ دوام المكلف عليها 404 فصل: حكم إلزام الصوفية أنفسهم من الأوراد وغيرها 405 المشقة قسمان: قسم يدخل من شدة التكليف وقسم من جهة المداومة عليه 405 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ 407 الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ لا يختص بحكم من أحكامها بعض دون بعض 407 الاستدلال: أولا: بالنصوص المتضافرة 407 ثانيا: وضع الأحكام ومصالح العباد يقتضي هذا وإلا لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق: 408 الاستثناءات لا تضر 409 ثالثا: الإجماع 410 رابعا: لو جاز خروج بعض المكلفين في الأحكام لجاز في قواعد الإسلام 411 فصل: فوائد المسألة 412 أولا: إثبات القياس: 412 ثانيا: حسن الظن بالصوفية 412-413 مناقشات للمصنف في هذه الدعوى 413-414 المسألة العاشرة: كل مزية أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم فقد أعطيت أمته بعضا منها 415 توضيح ذلك: أولا: بالوراثة العامة 416 ثانيا: ذكر ثلاثين مثلا يوضح المقصود .... سردها 416-438 فصل: ما ينبني على ما سبق من قواعد 438 جَمِيعَ مَا أُعْطِيَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْمَزَايَا وَالْكَرَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْيِيدَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ إِنَّمَا هِيَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لكن على مقدار الاتباع 438 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 ذكر كرامات لصالحي الأمة وصحابتها وإظهار أنها من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم 438 فصل: تبيان أن كل كرامة أو خارقة ليس لها أصل في كرامات الرسول صلى الله عليه وسلم فهي غير صحيحة 444 تبيان ذلك بالأدلة والتمثيل من خوارق أهل الفلك والأحكام النجومية 444-445 الدعاء عبادة 446 طبائع الأحرف 446 فصل: تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بِمُقْتَضَى الْخَوَارِقِ مِنَ الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ وَالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ والكشف الواضح والرؤيا الصالحة 446 إثبات ذلك بالأحاديث 447 ومن عمل الصحابة 454 نسبة كتاب تفسير الأحلام المشهور 456 المسألة الحادية عشرة 457 مراعاة ما سبق تكون إلا أن تخرم حكما شرعيا أو قاعدة دينية 457 الحكم بالشهادة والعلم أو الرؤيا 457 أمثلة من السلف إثباتا ونفيا 458 الخوارق والمكاشفات عند الأولياء 462 قياس الخوارق بِمَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم 463 الخضر وموسى 463-466 استناد الحكايات عن الأولياء نص شرعي وهو طلب اجتناب حزاز القلب 466 أين يجوز العمل بالمكاشفات على الشرط السابق؟ 471 أحدها: العمل في أمر مباح 471 الثاني: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا لِفَائِدَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا 471 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في الصلاة من وراء ظهره 472-473 الثالث: أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَحْذِيرٌ أَوْ تَبْشِيرٌ لِيَسْتَعِدَّ بكل عدته 473 المسألة الثانية عشرة: 475 عموم الشريعة إلى المكلفين جميعا، في كل أحوالهم، وفي عالم الغيب والشهادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وحكم الظاهر والباطن يرد إلى الشريعة 475 الدليل على ذلك أمور: 475 أولا: تَرْكِ اعْتِبَارِ الْخَوَارِقِ إِلَّا مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الشريعة 475 ثانيا: الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ثالثا: مُخَالَفَةَ الْخَوَارِقِ لِلشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهَا فِي نفسها 475 الخوارق مواهب من الله لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى كَسْبِهَا وَلَا عَلَى دفعها 477 فصل: كل خارقة إلى يوم القيامة لا يَصِحُّ رَدُّهَا وَلَا قَبُولُهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا على أحكام الشريعة 481 تبيان ذلك 482 المسألة الثالثة عشرة: 483 التكليف مبني على استقراء عوائد المكلفين 483 مجاري العادات في الوجود أمر معلوم في الكليات لا مظنون، وأدلة ذلك: 483 أولا: الاستقراء في الشرائع إنما جيء بها على ذلك 483 ثانيا: الْإِخْبَارَ الشَّرْعِيَّ قَدْ جَاءَ بِأَحْوَالِ هَذَا الْوُجُودِ على أنها دائمة غير مختلفة 483 ثالثا: لولا إطراد العادات لما عرف الدين من أصله 484 قيل: بل الإطراد مظنون في أفضل أحواله، وأدلته 485 الإجابة على هذا 485 المسألة الرابعة عشرة ضربا العوائد المستمرة 488 أولا: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي 488 ثانيا: الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ بِمَا لَيْسَ فِي نفيه ولا إثباته دليل 488 ثبوت العوائد الشرعية كسائر الأمور الشرعية 488 قد تتبدل العوائد الثابتة وذكر أمثلة للثابتة والمستبدلة 489 المستبدل: كغطاء الرأس من حسن إلى قبيح 489 أو تغير التعبير عن المقاصد 489 -490 أو تغير الأفعال في المعاملات كالنكاح 490 أو أمور خارجة عن المكلف كالبلوغ 491 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 أو أمور خارقة للعادة 491 فصل: اختلاف العوائد وأصل الخطاب وثبات الشريعة 491 المسألة الخامسة عشرة: العوائد الجارية في الضربين السابقين ضرورية الاعتبار شرعا 493 التدليل عليها من أربعة أوجه 493-495 فصل: انخراق العوائد المعتبرة شرعا لا يقدح في انخراقها، ذكر أمثلة متنوعة عنها 495 فصل: المكاشفات وأهلها وحكم الرجوع إلى أحكام العموم والإحالة على المسألة الثانية عشرة 501 الاستدلال على ردهم إلى حكم أهل العوائد الظاهرة: 501 أولا: أَنَّ الْأَحْكَامَ لَوْ وُضِعَتْ عَلَى حُكْمِ انْخِرَاقِ العوائد لم تنتظم لها قاعدة 501-502 ثانيا: أَنَّ الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ لَا تَطَّرِدُ أَنْ تَصِيرَ حكما يبنى عليه 502 ثالثا: عموم الشريعة، لا يجوز للوالي مخالفة الشريعة؛ لأنه داخل في عمومها 502-503 رابعا: أن أولى الخلق بالخروج عن أحكام العموم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولم يقع منهم ذلك 503-504 خامسا: أَنَّ الْخَوَارِقَ فِي الْغَالِبِ إِذَا جَرَتْ أَحْكَامُهَا مُعَارِضَةً لِلضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا تَنْتَهِضُ أَنْ تَثْبُتَ ولو كضرائر الشعر 505 الاطلاع على المغيبات لا يَمْنَعُ مِنَ الْجَرَيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ 506 الدخول في الأسباب تأدبا بآداب النبي صلى الله عليه وسلم 507 الخضر هل هو نبي؟ 507 كل ما اطلع عليه من أمور الغيب، فهو على ضربين: 508 إما مخالف لظواهر الشريعة، وإما غير مخالف، وتنبيه على حكم العمل بهما 508 المسألة السادسة عشرة: 509 العوائد بالنسبة إلى وقوعها في الوجود ضربان: 509 الأول: العوائد العامة التي لا تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال 509 الثاني: العوائد التي تختلف 509 يقضى بالأول على جميع الأعصار متقدمها ومتأخرها، والثاني لا يقضى به على من تقدم البتة حتى يأتي دليل على الموافقة من خارج 509 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 الاعتراض على المصنف بتعارضها مع المسألة الرابعة عشرة 509-510 فائدة المسألة 510 المسألة السابعة عشرة: 511 وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظمان بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا الاستدلال على ذلك بالوعيد على انتهاك الضروري بخلاف التكميلي والحاجي 511 أقسام المصالح والمفاسد: الأول: ما به صلاح العالم وفساده الثاني: ما به كمال الصلاح أو الفساد 511 التمثيل على ذلك 512 المسألة الثامنة عشرة: 513 الأصل في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإنما هو التعبد، والعادات الأصل فيها المعاني 513 الاستدلال على العبادات وأن الأصل فيها ما ذكر: أولا: استقراء الادلة 513 ثانيا: لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّوْسِعَةَ فِي وُجُوهِ التَّعَبُّدِ بِمَا حُدَّ وَمَا لَمْ يُحَدَّ لَنَصَبَ الشَّارِعُ عليه دليلا واضحا كما نصب على العادات 514 ثالثا: عدم اهتداء العقول في أزمنة الفترات لأوجه التعبدات كنحو اهتدائهم لأوجه معاني العادات 518 فصل: أدلة الالتفات إلى المعاني في العادات: 520 أولا: استقراء أدلة الشرع 520 ثانيا: التوسع في تبيان العلل والحكم في هذا الباب 523 ثالثا: علم أهل الفترات بمعاني العادات والالتفات إليها 524 فصل: لا بد من وجود عادات فيها تعبد ولا بد من التسليم لها 525 علة بعض العادات مجرد الانقياد 526 الكوع وتفسيره 526-527 أصل سد الذرائع والنظر فيه 527 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 الأول: من جهة تشعبه 527 الثاني: من جهة ضوابطه 528 المسألة التاسعة عشرة: 529 كل ما ثبت اعتبار التعبد فيه فلا تفريع "قياس" عليه، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعنى دُونَ التَّعَبُّدِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ التعبد لأوجه: 529 الأول: مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ حيث هو مكلف، عرف المعنى الذي شرع لأجله الحكم أو لم يعرف 529 هو لازم على رأي من قال بالحسن والقبح العقليين!! 530 الثاني: فَهْمُ حكمة من حكم شرع الحكم لا يمنع أن تكون ثَمَّ حكمة أخرى 530 الثالث: انقسام المصالح في التكليف على قسمين: الأول منهما: مَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَسَالِكِهِ الْمَعْرُوفَةِ كالإجماع 532 الثاني: ما لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالوحي فقط 533 الرابع من الأوجه: إذا جاز القصد إلى التعبد مع جواز اجتماع التعبد والالتفات إلى المعاني 534 الخامس: كون المصلحة تقصد بالحكم والمفسدة كَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالشَّارِعِ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ نَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ 534-535 - حق الله في التكاليف وحق العباد 535 - قاعدة النهي يقتضي الفساد 536 السادس: لو حَصَلَ الثَّوَابُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَأُثِيبَ الْغَاصِبُ إِذَا أخذ منه المغصوب كرها 537 هل يلزم أن يفتقر كل عمل إلى نية؟ 537 فصل: نتيجة ما سبق أن الفعل غير خالٍ من حق لله وحق العبيد معا 538 فصل: الأقسام الثلاثة للأفعال بالنسبة إلى حق الله وحق الآدمي 539 الأول: حق الله الخالص 539 الثاني: ما هو حق لله وحق العبيد -مشتمل عليهما- والمغلب فيه حق لله 540 الثالث: ما اشتركا أيضا ولكن حق العبيد هو المغلب 541 فائدة هذا القسم معرفة سبب من صحح العمل المخالف بعد الوقوع 542 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 المسألة العشرون: شكر النعم والاستمتاع بها 543 خلقت الدنيا لِيَظْهَرَ فِيهَا أَثَرُ الْقَبْضَتَيْنِ وَمَبْنِيَّةً عَلَى بَذْلِ النعم للعباد 543 تواتر أحاديث القبتضتين 543 اقتضاء ذلك أن تكون الشريعة عرفتنا بَيَانِ وَجْهِ الشُّكْرِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ، وَبَيَانِ وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا 543 وضوح ذلك في الاستدلال 543 تفسير الشكر 544 تعلق حق الله في العاديات ثلاثة أقسام: 546 الأول: مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ الْكُلِّيِّ الدَّاخِلِ تَحْتَ الضروريات 546 الثاني: مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ بين الخلق الثالث: وهو تتمة الثاني: إجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة 546 حق العبيد أيضا له نظران: من جهة الدار الآخرة والثواب عليه ومن جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها 547 الاستدراكات 549 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 المجلد الثالث تابع كتاب المقاصد القسم الثاني: مقاصد المكلف ... [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم] 1 [الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْكِتَابِ] 2: فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِ فِي التَّكْلِيفِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى3: إِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا المعنى لا تنحصر.   1 زيادة من الأصل وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع النسخ المطبوعة، وأثبتناه من "ط". 3 تعرض المصنف هنا لنظرية "الباعث" أو"الدافع"، وهذا ما ركز عليه ابن تيمية في فقهه عموما، وترى ذلك في "الفتاوى الكبرى" "3/ 227"، و"مجموع الفتاوى" "18/ 256 وما بعدها 26/ 23 وما بعدها" له، وفي ترجمة أبي زهرة له أيضا "ص50 وما بعدها"، وتابعه على هذا تلميذه ابن القيم، ويستطيع الباحث أن يقرر أن الذي أصله المصنف هنا هو عين ما ذهب إليه ابن قيم الجوزية قبله؛ إذ جعل الباعث أو الدافع أصلا معنويا عاما تنهض به أدلة لا تحصى كثرة، حيث يقول في "إعلام الموقعين" "3/ 95-96": "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن "المقاصد" والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات؛ فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما [في الأفعال] ، وصحيحا أو فاسدا [في العقود] ، وطاعة أو محرمة [في العبادات] ، أو صحيحه أو فاسدة"، ثم يشير إلى عين ما أشار إليه المصنف من أن الأدلة على هذا الأصل تفوت الحصر، ويأتي بالأدلة التفصيلية من القرآن والسنة في موضوعات شتى، تفيد بمجموعها إقامة هذا الأصل المعنوي العام على سبيل القطع. هذا ويؤكد الإمام ابن القيم هذا المعنى في غير ما موضع من موسوعته الفقهية "إعلام = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وَيَكْفِيكَ مِنْهَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ1 تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُوَ عَادَةٌ وَمَا هُوَ عِبَادَةٌ، وَفِي الْعِبَادَاتِ بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ، وَفِي الْعَادَاتِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ، والصحيبح وَالْفَاسِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ يُقْصَدُ بِهِ أَمْرٌ فَيَكُونُ عِبَادَةً2، وَيُقْصَدُ بِهِ شيء آخر، فلا يكون   = الموقعين" حيث يقول "3/ 109-110": "وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده [قضاء] ، وفي حله وحرمته [ديانة] ، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد، تحليلا وتحريما؛ فيصير حلالا تارة، وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافهما"، ويأتي بالأمثلة التطبيقية من أحكام الشريعة المستقاة من النصوص التفصيلية على ما يقول؛ كالذبيح الذي أهل ذبحه لغير الله، وكذلك الحلال "غير المحرم" يصيد الصيد للمحرم، فيحرم عليه، ويصيده للحلال؛ فلا يحرم عليه، وصورة الفعل واحدة، وإنما اختلفت "النية والقصد"؛ أي: الباعث. ويقول أيضا "3/ 82": "القصد روح العقد ومصححه ومبطله؛ فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ .... "، ويقول "2/ 111": "النية روح العمل وقوامه، هو تابع لها في الحكم؛ يصح بصحتها، ويفسد بفسادها"، ويظهر هذا في كلامه على إبطال الحيل، وسيأتي بيان ذلك في موطنه من هذا الكتاب في القسم الخامس منه. انظر التعليق على المسألة "المسألة العاشرة" من الطرف الأول منه. 1 انظر في الذي سيذكره المصنف: "قواعد الأحكام" "1/ 207"، و"الذخيرة" "1/ 236- ط مصر"، و"الحطاب على خليل" "1/ 234"، و"الأشباه والنظائر" "ص12" للسيوطي. 2 كما تقدم في العادات المغلب فيها حق العبد، تكون عبادة بالنية، فإذا فقدت النية خرجت عن كونها عبادة؛ كالمباحات يأخذها من جهة الإذن الشرعي أو من جهة الحظ الصرف، والصلاة والعبادات يقصد بها الامتثال تكون عبادة، والرياء والجاه فتكون معصية. "د". قلت: ومن الأمثلة على أن النية تؤثر في الفعل؛ تارة حراما، وتارة حلالا، وصورته واحدة الذبح؛ فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لله، ويحرمه إذا ذبح لغيره، والصورة واحدة. والرجل يشترى الجارية لموكله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحدة، وقال ابن القيم في كتاب "الروح": "الشيء الواحد تكون صورته واحدة، وهو ينقسم إلى محمود ومذموم، فمن ذلك التوكل والعجز، والرجا والتمني، والحب لله والحب مع الله، والنصح والتأديب، وحب الدعوة إلى الله وحب الرياسة، وعلو أمر الله والعلو في الأرض، والعفو والذل، والتواضع والمهانة، والموجدة والحقد، والاحتراز وسوء الظن، والهدية والرشوة، والإخبار بالحال والشكوى، والتحدث بالنعم شكرا والفخر بها، فإن الأول من كل ما ذكر محمود، وقرينه مذموم، والصورة واحدة، ولا فارق بينهما إلا القصد". انظر: "منتهى الآمال" "ص117-118" للسيوطي، و"مقاصد المكلفين" "ص71". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 كَذَلِكَ، بَلْ يُقْصَدُ بِهِ شَيْءٌ فَيَكُونُ إِيمَانًا، وَيُقْصَدُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ فَيَكُونُ كُفْرًا، كَالسُّجُودِ لِلَّهِ أَوْ لِلصَّنَمِ. وَأَيْضًا؛ فَالْعَمَلُ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا؛ كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْغَافِلِ وَالْمَجْنُونِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى1: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الْبَيِّنَةِ: 5] . {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَرِ: 2] . {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ} [النَّحْلِ: 106] . وقال: {لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التَّوْبَةِ: 54] . [وَقَالَ] 2: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [لِتَعْتَدُوا] 3} [الْبَقَرَةِ: 231] بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الْبَقَرَةِ: 231] . [وَقَالَ] 2: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النِّسَاءِ: 12] [وَقَالَ] 2: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [الآية] 2. إلى قوله:   1 رجوع لأصل الدعوى، وبيان اعتبار النية في العبادات والعادات. "د". 2 في جميع المواضع المعقوفات زيادة من الأصل. 3 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آلِ عِمْرَانَ: 28] . وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمريء مَا نَوَى ...... " إِلَى آخِرِهِ1. وَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" 2. وَفِيهِ: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ [مَعِي] فِيهِ شَرِيكًا؛ تَرَكْتُ نَصِيبِي لِشَرِيكِي" 3. وَتَصْدِيقُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] . وَأَبَاحَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ4 لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ لحم الصيد ما لم يصده أو   1 مضى تخريجه "2/ 355" 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالما جالسا، 1/ 222/ رقم 123، وكتاب الجهاد، باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، 6/ 27-28/ رقم 2810، وكتاب فرض الخمس، باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، 6/ 226/ رقم 3126، وكتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ، 13/ 441/ رقم 7458"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فهو في سبيل الله، 3/ 1512-1513/ رقم 1904" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. 3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله/ رقم 2985" بلفظ: "تركته وشركه"، وما بين المعكوفتين سقط من الأصل. 4 وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "صيد البر حلال لكم، ما لم يصيدوه أو يصد لكم"، وعند بعضهم: "لحم صيد البر ... " أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، 3/ 203-204/ رقم 846"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الحج، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، 5/ 187"، وأبو داود في "السنن" "كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، 2/ 428/ رقم 1851"، والشافعي في "المسند" "رقم 839 – ترتيبه"، وأحمد = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 ...................................................................................................   = في "المسند" "3/ 362"، وابن خزيمة في "صحيحه" "4/ 180"، والطحاوي في "شرح ومعاني الآثار "2/ 171"، وابن حبان في "صحيحه" "9/ 283/ رقم 3971 – الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "2/ 290"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 452، 476"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 190"، وابن عبد البر في "التمهيد" "9/ 62"، والبغوي في "شرح السنة" "7/ 263 – 264/ رقم 1989" من طرق عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب عن جابر به مرفوعا. وإسناده ضعيف، وفيه علل: الأولى: الانقطاع بين المطلب وجابر. قال الترمذي عقبه: "المطلب لا نعرف له سماعا من جابر". وقال أبو حاتم في "المراسيل" "ص210": "عامة أحاديثه مراسيل، لم يدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع من جابر"، وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل"، وقال البخاري: ""لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الدارمي: "لا نعرف له سماعا من أحد من الصحابة"، كذا في "التلخيص الحبير" "2/ 276". الثانية: ضعف عمرو بن أبي عمرو. قال النسائي عقبه: "عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان هو روى عنه مالك"، وقال ابن حزم في "المحلى" "7/ 253": "خبر ساقط؛ لأنه عن عمرو بن أبي عمرو، وهو ضعيف". الثالثة: اضطراب عمرو بن أبي عمرو فيه. قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 191" "فالحديث في نفسه معلول، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه". قلت: واضطراب عمرو بن أبي عمرو في هذا الحديث على النحو الآتي: - أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 189" ثنا سريج ثنا ابن أبي الزناد عن عمرو بن أبيي عمرو أخبراني رجل ثقة من بني سلمة عن جابر. - وأخرجه الشافعي في "المسند" "1/ 323"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 171"، والدارقطني في "السنن" "2/ 290 – 291" من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عمرو بن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 يُصَدْ لَهُ1، وَهَذَا الْمَكَانُ أَوْضَحُ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَقَاصِدَ وَإِنِ اعْتُبِرَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَلَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً بِإِطْلَاقٍ2، وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ: - مِنْهَا: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَجِبُ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا شَرْعًا، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْفِعْلِ يُعْطِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ امْتِثَالَ أَمْرِ الشَّارِعِ؛ إِذْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِكْرَاهُ إِلَّا لِأَجْلِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَهُوَ قَاصِدٌ لِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَهُوَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ، وَهُوَ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ، كَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يُطَالَبَ بِالْعَمَلِ أَيْضًا ثَانِيًا، وَيَلْزَمُ فِي الثَّانِي مَا لَزِمَ فِي الْأَوَّلِ، وَيَتَسَلْسَلُ أو يكون الإكراه   = أبي عمرو عن رجل من بني سلمة "وفي روايات: عن رجل من الأنصار" عن جابر. وأخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 290" من طريق الدراوردي عن سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن رجل من بني سلمة عن جابر. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 171" عن ابن أبي داود ثنا ابن أبي مريم أخبرنا إبراهيم بن سويد ثني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. الرابعة: الكلام في المطلب؛ فهو مختلف فيه، وإن كان من رجال "الصحيحين"، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "2/ 276". وأقوى العلل الأولى، وأضعفها الأخيرة، وقد أجيب عن الثانية بكلام ضعيف، وعن الثالثة بكلام فيه نوع قوة؛ إذ أقام بعض الثقات ممن روى عن عمرو إسناده، وإليه أشار الشافعي وتبعه البيهقي. وعلى آية حال، الإسناد ضعيف، وقد عزاه ابن حجر في "التلخيص" ل "أصحاب السنن" وهو ليس عند ابن ماجه، والله الموفق. 1 أي: فللقصد دخل في الحل والحرمة. "د". 2 في الأصل: "على الإطلاق"، وفي "ط": "بمعتبرة بإطلاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 عَبَثًا1: وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ، أَوْ يَصِحَّ2 الْعَمَلُ بِلَا نِيَّةٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. - وَمِنْهَا أَنَّ الْأَعْمَالَ ضَرْبَانِ: عَادَاتٌ، وَعِبَادَاتٌ، فَأَمَّا الْعَادَاتُ؛ فَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّهَا لَا تَحْتَاجُ فِي الِامْتِثَالِ بِهَا إِلَى نِيَّةٍ، بَلْ مُجَرَّدُ وُقُوعِهَا كَافٍ؛ كَرَدِّ الْوَدَائِعِ والغصوب3، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِهَا؛ فَكَيْفَ يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ؟ وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ؛ فَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِمَشْرُوطَةٍ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ أَيْضًا، بَلْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا؛ فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ4 بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ   1 أي أن الإكراه إما أن يتسلسل، وإما أن يقف عند حد دون أن يحصل غرض الشارع من الفعل امتثالا؛ فيكون الإكراه الذي حصل عبئا لم يفد مقصود الشارع، والعبث من الشارع محال؛ كما أن التسلسل في ذاته محال؛ فلم يبق إلا أن يكون العمل صحيحا مؤديا غرض الشارع بدون النية؛ فلا يتم الأصل المدعى. "د". 2 في الأصل: "فيصح". 3 في "د": "والمغضوب". 4 هم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية، وكذلك الغسل، وزاد الأوزاعي والحسن: التيمم، قاله العيني في "عمدة القاري" "1/ 36"، واختلف على الأوزاعي فيه اختلافا شديدا، انظره عند ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 370". انظر في المسألة: "المبسوط" "1/ 72"، و"أحكام القرآن" "3/ 23"، و"معالم التنزيل" "2/ 218 - ط دار الفكر"، وانظر في الرد على من لم يشترط النية للوضوء والغسل: "الطهور" "ص201 – 207 بتحقيقي" لأبي عبيد، و"الخلافيات" "1/ مسألة رقم 7 – بتحقيقي" للبيهقي، و"المحلى" ""1/ 73"، و"المجموع" "1/ 312"، و"المغني" "1/ 91"، و"الأوسط" "1/ 369 وما بعدها"، و"بدائع الفوائد" "3/ 186-193"، و"إعلام الموقعين" "1/ 274-275، 2.293/ 287-3.288/ 122-124"، و"تهذيب السنن" "1/ 48". بقي بعد هذا تحرير مذهب مالك، نقل القرطبي في "تفسيره" "5/ 213 و15/ 233" عن الوليد بن مسلم عن مالك أنه كان لا يشترط النية في الوضوء، وحكى هذه الرواية عنه العيني في "العمدة" "1/ 36"، والباجي في "المنتقى" "1/ 52"، وابن العربي في "الأحكام" "2/ 559"، وأفاد ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 370" أن الوليد حكاه عن مالك والثوري، وعقب عليه بقوله:: أما حكايته عن الثوري، فكما حكى لموافقته حكاية الأشجعي والعدني وعبد الرزاق والفريابيي عنه، وأما ما حكاه عن مالك؛ فما رواه أصحاب مالك عنه: وابن وهب وابن القاسم [في "المدونة" "1/ 32"] أصح، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 الصَّوْمُ1 وَالزَّكَاةُ2، وَهِيَ عِبَادَاتٌ، وَأَلْزَمُوا الْهَازِلَ الْعِتْقَ وَالنَّذْرَ، كَمَا أَلْزَمُوهُ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، والرجعة" 3.   1 انظر ما سيأتي في التعليق على "ص19". 2 هو مذهب الأوزاعي، نظر إلى أن الزكاة عبادة مالية؛ فقاسها على إعادة الدين ورد العارية والمغضوب، هذا ونقل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه"أصول الفقة" "ص324" أن مذهب جمهور الفقهاء: أن الزكاة لا يحتاج أداؤها إلى نية، وهو خطأ، انظر: "المجموع" "6/ 184". نعم، تستثنى النية عند بعضهم كالحنفية استحسانا فيما إذا تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة، وعللوا هذا الاستحسان بقولهم: "إن النية وجدت دلالة؛ لأن الظاهر أن من عليه زكاة لا يتصدق بجميع ماله، ويغفل عن الزكاة"، قاله الكاساني في "البدائع" "2/ 40"، وفي الهداية "2/ 492"، "الواجب عليه جزء منه، فكان متعينا فيه؛ فلا حاجة إلى التعيين"، وكذا زكاة الصبي والمجنون والمعتوه، وكذا ما قرره الفقهاء أن الممتنع من أداء الزكاة يكره على أدائها وتجزئ عنه. انظر: "الأم" "1/ 18، 19"، "والمجموع" "6/ 190"، و"الأشباه والنظائر" "ص22" لابن نجيم، و"الإنصاف" "3/ 196" للمرداوي، و"إبراز الحكم من حديث رفع القلم" "ص84" للسبكي، و"مقاصد المكلفين" "ص325-328". 3 أخرجه أو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل، 2/ 664/ رقم 2194"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق 3/ 490/ 1184" وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا، 1/ 658/ رقم 2039"، وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1603"، والدارقطني في = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا، أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا، أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا؛ فَقَدْ جَازَ"1. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إِذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعِتَاقُ، والنكاح، والنذز1" 2.   = "السنن" "3/ 256، 4.257/ 18-19"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 712"، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر" "4/ رقم 54"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 219" من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة. قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين"، وتعقبه الذهبي؛ فقال: "فيه لين". قلت: قال النسائي فيه: "منكر الحديث" ووثقه ابن حبان، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 210" عن عبد الرحمن بن حبيب: "وهو مختلف فيه، قال النسائي: "منكر الحديث"، ووثقه غيره؛ فهو على هذا حسن. قلت: قوله "غيره" المراد به هو ابن حبان، وهو متساهل كما هو معروف؛ فإسناد الحديث ضعيف؛ إلا أنه صالح للشواهد، والحديث له شواهد كثيرة يجبر بها، ويصل إن شاء الله تعالى إلى درجة الحسن. وانظر: الحديث الآتي، و"نصب الراية" "3/ 293 – 294"، و"التلخيص الحبير" "3/ 209"، و"الإرواء" "1826". 1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 135/ رقم 10250" عن ابن جريج؛ قال: أخبرت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "من طلق أو نكح لاعبا؛ فقد أجاز"، وإسناده معضل. وأخرجه أيضا برقم "10249" عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بن سليم؛ أن أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق وهو لاعب؛ فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب؛ فعتاقه جائز، ومن أنكح وهو لاعب؛ فنكاحه جائز"، وإسناده واه بمرة، إبراهيم هو الأسلمي، متروك، وفيه انقطاع. 2 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1609، 1610"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 81- ط دار الفكر" من طريق الحجاج بن أرطأة عن سليمان بن سحيم عن سعيد بن المسيب به. ورجاله ثقات؛ إلا أن الحجاج مدلس، وقد عنعن. والأثر صحيح، له طرق عند عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 134/ رقم 10248"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 341". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَازِلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هَازِلٌ لَا قَصْدَ لَهُ فِي إِيقَاعِ مَا هَزَلَ1 بِهِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ2 فِيمَنْ رَفَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ وَلَمْ يُفْطِرْ أَنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ3، وَمَنْ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ مَثَلًا ظَانًّا لِلتَّمَامِ؛ فَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ أَجَزَأَتْ عَنْهُ رَكْعَتَا النَّافِلَةِ عَنْ رَكْعَتَيِ الْفَرِيضَةِ، وَأَصْلُ مَسْأَلَةِ الرَّفْضِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا4؛ فَجَمِيعُ هَذَا ظَاهِرٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ فِيهَا حَقِيقَةً5. - وَمِنْهَا: أَنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُمْكِنُ فيه قصد الامتثال عقلا، وهو النظر   1 انظر: "الفتاوي الكبرى" "3/ 149". 2 نقل القرافي في "الذخيرة" "1/ 511 – ط مصر" البطلان عن مالك، وعند الشافعية قولان مشهوران، أصحهما لا يبطل، انظر: "المجموع" "6/ 331"، وما مضى "1/ 344" مع التعليق عليه. 3 هو وإن كان قولا ضعيفا يكفي في ترويج السؤال. "د". 4 انظر بسط الخلاف في "المجموع" 1/ 388، 3/ 250 و6/ 331-332"، و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"الحطاب على خليل" "1/ 240" و"الفروق" "1/ 204 و2/ 27" و"الذخيرة" "1/ 244، 511 – ط المصرية و1/ 217 و2/ 520- ط دار الغرب"، و"المحلى" "6/ 174"، و"مقاصد المكلفين" "ص239–242، وما مضى "1/ 344". 5 فالمدة التي وقع عليها الرفض عريت عن قصائد العبادة، وكذا الركعتان لم ينو فيهما الفرضية، ونية النفل لا تجزي عن نية الفرض عنده. "د". قلت: عدم الإجزاء هو مذهب الجمهور، انظر: "المغني" "1/ 468"، و"المجموع" "3/ 251"، و"فتح الباري" "12/ 328"، و"المحلى" "3/ 232 و4/ 50". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 الْأَوَّلُ الْمُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَالْعِلْمِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ؛ فَإِنَّ قَصْدَ الِامْتِثَالِ فِيهِ مُحَالٌ حَسَبَمَا قَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يَصِحُّ بِدُونِ نِيَّةٍ؟ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كُلُّهُ دَلَّ عَلَى نَقِيضِ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَمَلٍ بِنِيَّةٍ وَلَا أَنَّ كَلَّ تَصَرُّفٍ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ هَكَذَا مُطْلَقًا. لِأَنَّا نُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَعْمَالِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخْتَارٌ، وَهُنَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ فِيهِ شَرْعًا، قُصِدَ بِهِ امْتِثَالُ أَمْرِ الشَّارِعِ أَوْ لَا، وَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِعَمَلِهِ غَرَضًا مِنَ الْأَغْرَاضِ، حَسَنًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا، مَطْلُوبَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ أَوْ غَيْرَ مَطْلُوبٍ شَرْعًا، فَلَوْ فَرَضْنَا الْعَمَلَ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِيَارِ كَالْمُلْجَأِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَؤُلَاءِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِمْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ؛ فَلَيْسَ هَذَا النَّمَطُ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ؛ فَبَقِيَ مَا كَانَ مَفْعُولًا بِالِاخْتِيَارِ لَا بد فيه من القصد، وإذ ذلك تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الْكُلِّيَّةِ عَمَلٌ أَلْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَا أُورِدَ فِي السُّؤَالِ لَا يَعْدُو هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؛ فَإِنَّهُ إِمَّا مَقْصُودٌ لِمَا قُصِدَ لَهُ مِنْ رَفْعِ مُقْتَضَى الْإِكْرَاهِ أَوِ الْهَزْلِ أَوْ طَلَبِ الدَّلِيلِ أَوْ غَيْرِ ذلك؛ فيتنزل على ذَلِكَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِالِاعْتِبَارِ [وَعَدَمِهِ، وَإِمَّا غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ عَلَى حَالٍ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ؛ فَمِنْ بَابِ خِطَابِ] الْوَضْعِ لَا مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ فَالْمُمْسِكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ لِنَوْمٍ أَوْ غَفْلَةٍ إِنْ1 صَحَّحْنَا صَوْمَهُ؛ فَمِنْ جِهَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ، كَأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ نَفْسَ الْإِمْسَاكِ سَبَبًا فِي إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ شَرْعًا، لَا بِمَعْنَى أنه مخاطب به وجوبا، وكذلك ما   1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "وإن" بزيادة واو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 فِي مَعْنَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فِعْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعَبُّدِيَّاتِ من حيث هي تعبديات؛ كُلَّهَا الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَا تَصِيرُ تَعَبُّدِيَّةً إِلَّا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ، أَمَّا مَا وُضِعَ عَلَى التَّعَبُّدِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا؛ فَلَا إشكال فيه، وأما العادايات، فَلَا تَكُونُ تَعَبُّدُيَّاتٍ إِلَّا بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْءٌ إِلَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ قَصْدَ التَّعَبُّدِ فِيهِ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ أَلْبَتَّةَ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَمَّا تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِنَفْسِ الْعَمَلِ1؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِهِ، بِخِلَافِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَصَارَ فِي عِدَادِ مَا لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ تَتَضَمَّنْهُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى طَلَبِ هَذَا الْقَصْدِ أَوِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا. وَالثَّانِي: مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ بِالْكَلَامِ عَلَى تَفَاصِيلِ مَا اعْتُرِضَ بِهِ. فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ؛ فَمَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى نِيَّةِ التَّعَبُّدِ وقصد امتثال الأمر؛ فلا يصح في عِبَادَةٌ2، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ حَصَلَتْ فَائِدَتُهُ فَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ شَرْعًا؛ كَأَخْذِ3 الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي الْغُصَّابِ، وَمَا افْتَقَرَ مِنْهَا إِلَى نِيَّةِ التَّعَبُّدِ؛ فلا يجزيء فِعْلُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكْرَهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ حتى ينوي القربة4 كالإكراه   1 الذي هو النظر؛ فهنا عمل وهو النظر الموصل للمعرفة وهو ممكن؛ فيتوجه التكليف به، وأما قصد الامتثال بهذا النظر؛ فغير ممكن لأنه لا يكون قصد الامتثال لأمر الله إلا بعد معرفة الله بهذا بالنظر؛ فصار القصد غير ممكن؛ فلا يخاطب به. "د". 2 في الأصل و"ط": "عادة". 3 في الأصل: "لأخذ". 4 قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "26/ 30" الإجماع على أن الذي يؤدي العبادة خوفا من الضرب أو من السلطان، أو تقليدا للآباء والأجداد لا تقبل منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 عَلَى الصَّلَاةِ، لَكِنَّ الْمُطَالَبَةَ تَسْقُطُ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ فَلَا يُطَالِبُهُ الْحَاكِمُ بِإِعَادَتِهَا لِأَنَّ باطن الأمر غير معلوم للعباد، فلم يطلبوا بِالشَّقِّ عَنِ الْقُلُوبِ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْعَادِيَّةُ –وَإِنْ لَمْ تَفْتَقِرْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا إِلَى نِيَّةٍ-؛ فَلَا تَكُونُ عِبَادَاتٍ وَلَا مُعْتَبَرَاتٍ فِي الثَّوَابِ إِلَّا مَعَ قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَإِلَّا كَانَتْ بَاطِلَةً1، وَبَيَانُ بُطْلَانِهَا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ التَّعَبُّدِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا بَانٍ عَلَى أَنَّهَا كَالْعَادِيَّاتِ وَمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ فَالطَّهَارَةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الصَّوْمُ2؛ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّ3 قَدِ اسْتَحَقَّهُ الْوَقْتُ؛ فَلَا يَنْعَقِدُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَصْرِفُهُ   1 أي: بالمعنى الثاني المتقدم في مبحث البطلان، وهو عدم ترتب الثواب عليه في الآخرة. "د". وقال"خ": "صرح القرافي في الفرق الخامس والستين بما أشار إليه المصنف هنا من أن أداء الديون وما يشابهه ليس فيه ثواب حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى، ووافقه أبو القاسم بن الشاط في حال ما إذا نوى المكلف سببا للأداء غير الامتثال؛ كتخوفه أن لا يداينه أحد إذا عرف بالامتناع من الأداء، ثم قال: وإن عري عن نية الامتثال ونية غيره، ولم ينو إلا مجرد أداء دينه؛ فلقائل أن يقول: لا يحرم صاحب هذه الحالة الثواب استدلالا بسعة بابه، وهذا الوجه غير متين؛ فإن رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الدلائل قامت على أن ثواب العمل مرتبط بالتوجه إليه من حيث إنه مطلوب للشارع، والعمل الذي لا يصاحبه هذا القصد، فلا يصح أن نثبت لصاحبه ثوابا إلا بدليل خاص". قلت: في "ط": "باطلا". 2 مذهب الحنفية أن ما كان وقته معينا كرمضان والنذر المعين لا يشترط فيه التبييت ولا التعيين؛ حتى إذا قصد غيره كأن نوى برمضان قضاء رمضان الفائت، أو نوى بالنذر المعين قضاء رمضان أو نفلا؛ فإن الصوم لا ينصرف إلا لصاحب الوقت، ويصح. "د". قلت: ما ذكره المصنف هو مذهب عطاء ومجاهد وزفر من الحنفية، ذكر الكاساني في "بدائع الصنائع" "2/ 83" ما يمكن أن يحتج به لزفر؛ فقال: "النية إنما تشترط للتعيين، والحاجة إلى التعيين إنما تكون عند المزاحمة، ولا مزاحمة لأن الوقت لا يحتمل إلا صوما واحدا في حق المقيم، وهو صوم رمضان؛ فلا حاجة إلى التعيين بالنية". انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 قَصْدُ سِوَاهُ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْعَادِيَّاتِ؛ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُنْعَقِدٌ عَلَى وجه الصحة وإن لم يقصدوه1.   = وقرر ابن رشد في "بداية المجتهد" "1/ 300" أن سبب الاختلاف في هذه المسألة ما ذكره المصنف، وهو الاحتمال المتطرق إلى الصوم: أهو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فهو يرى كما قرر المصنف أن من ذهب إلى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها معقولة المعنى؛ قال: قد حصل المعنى إذا صام ولم ينوِ. وما مضى من نقل يوضح المثال الذي ذكره المصنف، بقي بعد هذا أمران: الأول: الجمهور يردون على الرأي السابق بالنصوص الآمرة بالنية في العبادات عموما، وأولى الشافعي في "الأم" "2/ 83" هذه المسألة اهتماما جيدا، وألزمهم بصورة قد تقع في الصلاة، ورد حجتهم في أن الصوم لا يحتاج إلى نية، لأنه معين بصورته؛ إذ له وقت محصور محدود، بأن هذا يمكن أن يقع في الصلاة؛ فوقت الصلاة قد يتضيق حتى لا يسع إلا الفرض، ومع ذلك لا بد للصلاة التي وقعت في الوقت المتضيق من نية. الثاني: أنكر الكرخي أن زفر يقول بصحة الصوم من الحاضر بغير نية، وادعى أن مذهب زفر كمذهب مالك، جواز الصوم بنية واحدة من أول الشهر، وقال آخرون: إن زفر رجع عن ذلك لما كبر. انظر: "الهداية" "2/ 92". انظر في المسألة: "المجموع" "6/ 336"، و"المحلى"" "6/ 161" و"غمز عيون البصائر" "2/ 78"، و"شرح ميارة على ابن كاشر" "ص341"، و"السيل الجرار" "1/ 20"، و"مقاصد المكلفين" "ص339-341"، وفيه اعتراض على توجيه المسألة على سبب الاختلاف الذي ذكره ابن رشد، وفي صنيعه هذا نظر، والله الموفق. 3 في الأصل: "التكلف". 1 مذهب أبي حنيفة أن الوليين لو صرحا بأن يكون بضع كل صداقا للأخرى؛ صح العقد ووجب مهر المثل لهما، وهذا مبني على أن العقد يصح ولو مع نفي المهر عنده؛ فإن الشغار آيل إلى نفي المهر، ويظهر أن الأصل: "وإن قصدوه"؛ أي: قصدوا الشغار، أي: فقد قصدوا ضد النكاح الشرعي، ومع ذلك لم يبطل؛ لأن العقد يصرفه إلى الحقيقة الشرعية، فيصح ويلزم مهر المثل، ويكون الشرط باطلا وقد يقال قوله: "وإن لم يقصدوه"؛ أي: الوجه الذي يصح العقد، بل قصدوا ما ينافيه؛ فتكون العبارة صحيحة، إلا أنه يبقى الكلام مع المؤلف في التمثيل به لأنه إذا كان المهر غير ركن ولا شرط في صحة العقد، بل مع نفيه في صلب العقد يصح؛ فقصده وعدم قصده لا يفيد في موضوعنا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 وَأَمَّا النَّذْرُ وَالْعِتْقُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَاصِدَ لِإِيقَاعِ السَّبَبِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْمُسَبَّبِ لَا يَنْفَعُهُ عَدَمُ قَصْدِهِ لَهُ عَنْ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، وَالْهَازِلُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِإِيقَاعِ السَّبَبِ1 بِلَا شَكٍّ، وَهُوَ فِي الْمُسَبَّبِ إِمَّا غَيْرُ قَاصِدٍ لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَإِمَّا قَاصِدٌ [أَنْ لَا يَقَعَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فيلزمه المسبب شاء أم أبى، وإذا قُلْنَا بِعَدَمِ اللُّزُومِ؛ فَبِنَاءً] عَلَى أَنَّهُ نَاطِقٌ بِاللَّفْظِ غَيْرُ قَاصِدٍ لِمَعْنَاهُ2، وَإِنَّمَا3 قَصَدَ مُجَرَّدَ الْهَزْلِ بِاللَّفْظِ، وَمُجَرَّدُ الْهَزْلِ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حُكْمٌ إِلَّا حُكْمُ نَفْسِ الْهَزْلِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ أَوْ غَيْرُهَا، وَقَدْ عُلِّلَ اللُّزُومُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّ الْجِدَّ وَالْهَزْلَ أَمْرٌ بَاطِنٌ4؛ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جِدٌّ وَمُصَاحِبٌ لِلْقَصْدِ لِإِيقَاعِ مَدْلُولِهِ، أَوْ يُقَالُ5: إِنَّهُ قَاصِدٌ بِالْعَقْدِ –الَّذِي هُوَ جِدٌّ شَرْعِيٌّ- اللَّعِبَ؛ فَنَاقَضَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ؛ فَبَطَلَ حُكْمُ الْهَزْلِ فِيهِ، فَصَارَ إِلَى الْجِدِّ. وَمَسْأَلَةُ رَفْضِ نِيَّةِ الصَّوْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ انْعَقَدَ على الصحة؛ فالنية الأولى   1 وهو مجرد اللفظ. "د". 2 إن كان مراده بغير قاصد لمعناه أنه غير قاصد لحصول المسبب عنه وهو الطلاق والعتق؛ فغير وجيه لما ذكره آنفا، وإن كان مراده غير قاصد لنفس المعنى الموضوع له اللفظ؛ فغير واضح ونية الهزل باللفظ لا تخرجه عن كونه فاهما معناه وملاحظا له، غايته أنه لا يكون قاصدا به حصول المسبب هذا ما يقتضيه الهزل؛ فهذا القول كما ترى. "د". 3 في الأصل: "وأما". 4 أي: وهي مسائل كما ترى لها آثار عظمى في النسب والحرية والالتزامات، يحافظ الشارع عليها أشد المحافظة؛ فيعمل أسبابها الظاهرة كما هي، ولا يقبل فيها محاولة الهزل لأنه أمر باطن؛ فيجب أن يحمل على الجد، وإلا لانفتح باب واسع يفسد العصم، ويضيع الحربة والالتزامات التي يلتزمها المكلف بالنذر، حتى تكون دعواه الهزل كأنها ندم على ما حصل. "د". 5 لا ينافي الوجه قبله، ويصح ضمه إليه وإعمالها معا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 مُسْتَصْحَبَةٌ حُكْمًا حَتَّى يَقَعَ الْإِفْطَارُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ لم يكن1؛ فيصح الصَّوْمُ، وَمِثْلُهُ نِيَابَةُ رَكْعَتَيِ النَّافِلَةِ عَنِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْإِتْمَامِ لَمْ يَقْطَعْ عِنْدَ الْمُصَحِّحِ حُكْمَ النِّيَّةِ الْأُولَى، فَكَانَ السَّلَامُ بَيْنَهُمَا وَالِانْتِقَالُ إلى نية التنقل لَغْوًا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ تَجْرِي مَسْأَلَةُ الرَّفْضِ. وَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ؛ فَقَصْدُ التَّعَبُّدِ فِيهِ مُحَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الوجه الأول، وبالله التوفيق.   1 في الأصل و"ط": "لم يقع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَصْدُ الشَّارِعِ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي الْعَمَلِ مُوَافِقًا لِقَصْدِهِ فِي التَّشْرِيعِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ وَضْعِ الشريعة؛ إذ قد مر أنها موضوعة   1 ولذا منع مالك في "المدونة" "4/ 253، 254" بيع الخشبة لمن يستعملها صليبًا، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا؛ كما يحرم بيع السلاح لمن يعلم أنه يريد به قطع الطريق على المسلمين أو إثارة الفتنة بينهم، وكذا لا يجوز في مذهب مالك بيع الجارية المملوكة من قوم عاصين يتسامحون في الفساد وعدم الغيرة، وهم آكلون للحرام ويطعمونها منه، ونص ابن فرحون في "التبصرة" "2/ 147" على حرمة بيع الدار لمن يعملها كنيسة، وفي "الشرح الكبير" للدردير مع "حاشية الدسوقي" عليه: "ويمنع بيع كل شيء علم أن المشتري قصد به أمرًا لا يجوز"، وذكر الأمثلة المتقدمة، وزاد: "وبيع أرض لتتخذ كنيسة أو خمارة"، و"النحاس لمن يتخذه ناقوسا"، وقيد ابن رشد أن الخلاف في هذا مقيَّد بما إذا علم البائع أن المشتري يفعل ذلك. ويستفاد من كلام المصنف في هذه المسألة والتي تليها التوسع في تطبيق مبدأ الذرائع، وهو مبدأ يتجه اتجاهين: الأول اتجاه إلى الباحث على التصرف، والثاني اتجاه إلى مآل التصرف. ومن الجدير بالذكر أن اعتبار القصد والباعث في العبادات والعادات أمر مجمع عليه ديانة؛ غير أن الخلاف بين الشافعية والحنفية من جهة، والحنابلة والمالكية من جهة أخرى في الطريقة التي يستدل بها على هذا؛ فذهب الأولون إلى أنه لا عبرة به إلا إذا دل دليل مادي ظاهر من العبارة تدرج في صيغة العقد، وأضاف الحنفية إلى ذلك أنه يعتبر أيضا إذا أمكن استخلاصه من طبيعة محل العقد، وتعينه طريقا إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة، أما الآخرون؛ فيكتفون بكل ما يدل عليه من ظروف وقرائن. انظر: "الأم" "3/ 65 و6/ 198"، و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص236 - ط الإفتاء" و"إعلام الموقعين" "3/ 92"، و"المغني" "9/ 331"، و"تبيين الحقائق" "4/ 190"، و"تبصرة الحكام" "2/ 14"، و"حاشية ابن عابدين" "5/ 250"، و"السيل الجرار" "3/ 23"، وكتابنا "المال الحرام وأحكامه" يسر الله إتمامه. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن نظرية الباعث التي فصل المصنف فيها القول لم يكتشفها التشريع الوضعي إلا في العصر الحديث، وقد سماها "نظرية السبب الحديثة"، والاجتهاد بالرأي في التشريع = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ خِلَافَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ، وَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ خُلِقَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْقَصْدِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ –هَذَا مَحْصُولُ الْعِبَادَةِ-؛ فَيَنَالَ بِذَلِكَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ مَرَّ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا رَجَعَ إليها من الحاجيات والتحسينات، وَهُوَ عَيْنُ مَا كُلِّفَ بِهِ الْعَبْدُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِالْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا عَلَى الْمُحَافَظَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ1 أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي2 إِقَامَةِ هَذِهِ الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ   = الإسلامي كان له فضل السبق في استنباطها على نحو كلي واسع، جعلها تنبسط بظلها على جزئيات وقوعية، ومعاملات جارية في المجتمع لا تحصى كثرة، مما يقيم الدليل البين على اعتبار الجزئي بالكلي، واعتبار الكلي بالجزئي كيلا يقع التخالف المحظور شرعا كما قدمنا، فضلا عن أنها نظرية جاءت توثيقًا وحماية لمقاصد التشريع. هذا بالنسبة للتطبيق الذي ينهض به المكلفون عامة؛ امتثالا لأحكام التشريع، وتنفيذًا لها، أما بالنسبة للمجتهد بوجه خاص؛ فإن عليه أن يحدد "المقصد الشرعي" في حكم كل مسألة على حدة ليتمكن من تبين صحة أو دقة اندراجها في المقاصد العامة للتشريع التي اتجهت جملة التكاليف إلى تحقيقها اعتبارا للجزئي بالكلي، وهذا لون من الجهد العقلي الاجتهادي. 1 أي: حقيقة كون العبد مكلفا بالمحافظة على الضروريات، وما يرجع إليها أن يكون خليفة الله في إقامتها بمباشرته الأسباب الظاهرة التي رسمها الله تعالى في الشرائع وأودع في العقول إدراكها. "د". 2 انظر في استخدام هذا اللفظ: "زاد المعاد" "2/ 37"، و"مفتاح دار السعادة" "ص165" -كلاهما لابن القيم- وقرر فيهما: إن أريد بإضافة "الخليفة" إلى الله سبحانه وتعالى أنه خليفة عنه؛ فالصواب منعه لأن الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره، وهذا محال في حق الله تعالى؛ لأنه شاهد غير غائب، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله؛ فهذا لا يمتنع فيه الإضافة. وانظر: "معجم المناهي اللفظية" "ص156-157 - ط الأولى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وَمِقْدَارِ وُسْعِهِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ خِلَافَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ عَلَى كُلِّ مَنْ تَعَلَّقَتْ لَهُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" 1. وَفَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الْحَدِيدِ: 7] . وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [الْبَقَرَةِ: 30] . وَقَوْلُهُ: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 129] . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 165] . وَالْخِلَافَةُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ حَسَبَمَا فَسَّرَهَا الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ: "الْأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ؛ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" 2، وَإِنَّمَا أَتَى بِأَمْثِلَةٍ3 تُبَيِّنُ أَنَّ الْحُكْمَ كلي عام غير مختص؛ فلا يختلف عَنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْوِلَايَةِ، عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ، يُجْرِي أحكامه ومقاصده مجاريها، وهذا بين.   1 سيأتي تخريجه قريبا. 2 أخرجه البخاري في "صحيحة" "كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، 2/ 380/ رقم 893، وكتاب الاستقراض، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، 5/ 69/ رقم 2409، وكتاب العتق، باب العبد راع في مال سيده ونسب النبي صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد، 5/ 181/ رقم 2558، وكتاب الوصايا، باب تأويل قوله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، 5/ 377/ رقم 2751، وكتاب الأحكام، باب قوله الله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، 13/ 111/ رقم 7138"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، 3/ 1459/ رقم 1829" عن ابن عمر رضي الله عنهما بألفاظ متقاربة، وفي الباب عن أنس وابن عباس والمقدام بن معدي كرب وأبي لبابة وأبي موسى وأبي هريرة وعائشة وابن مسعود قوله تكلمت على تخريجها في تحقيقي لـ"فضيلة العادلين" لأبي نعيم مع "تخريجه" للسخاوي "رقم 1". وفي الأصل: والمرأة راعية في بيت". 3 أي: فليس الغرض الحصر فيما ذكره؛ لأنه لم يذكر أعم الولايات وهي ولاية الشخص ورعايته لما رسم بالنسبة لنفسه، ولم يذكر في هذه الرواية أيضا ولاية العبد في مال سيده التي ذكرت في طريق آخر؛ فهذا يدل على ما قال، وهو أنه إنما ذكر أمثلة فقط. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 مختص؛ فلا يختلف عَنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْوِلَايَةِ، عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ، يُجْرِي أَحْكَامَهُ وَمَقَاصِدَهُ مَجَارِيَهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ. فَصْلٌ: وَإِذَا حَقَّقْنَا تَفْصِيلَ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ وَجَدْنَاهَا تَرْجِعُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ1، وَفِي مَسْأَلَةِ دُخُولِ الْمُكَلَّفِ فِي الْأَسْبَابِ2؛ إِذْ مَرَّ هُنَالِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ مِنْهَا يُؤْخَذُ الْقَصْدُ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ؛ فَعَلَى النَّاظِرِ هُنَا مُرَاجَعَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ مَا أَرَادَ إن شاء الله3.   1 في المسألة السادسة هناك أن الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكُ بِالْمَقَاصِدِ. "د". 2 في المسألة السادسة من النوع الرابع، وهو دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، حيث جعل ما تعبد الله به العباد نوعين: دينيًا، ودنيويًا، ثم جعل الديني من حيث قصد المكلف نوعين، وجعل الدنيوي من حيث قصده ثلاثة أقسام. "د". قلت: غلط الشيخ دراز في إحالة المصنف، والصواب أنه أحال على المسألة السادسة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 321 وما بعد". 3 سبق أن قرر المصنف في المسألة الثالثة من مسائل الأحكام الوضعية "1/ 308" "أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها"؛ أي: أن المكلف يكفيه أن يأتي بالأسباب على وجهها الصحيح المشروع، وليس مكلفا بالقصد إلى مسبباتها = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كُلُّ1 مَنِ ابْتَغَى فِي تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ غَيْرَ مَا شُرِعَتْ لَهُ؛ فَقَدْ نَاقَضَ   = لأنه غير مكلف بالمسببات "النتائج"؛ فالله تعالى هو الذي يتولى أمر المسببات ويرتبها على أسبابها، قال هنالك "1/ 316-317": "فإذًا: قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط بها بالقصد التكليفي؛ فلا يلزم قصد المكلف إليه؛ إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه"، وقال "1/ 315": "فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد إلى المسبب". وقرر في بداية هذه المسألة "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع"؛ فهذا يقتضي أن يقصد المكلف بالأسباب ما شرعت لأجله من المسببات، فالقصد إلى المسببات -وعلى وفق ما قصده الشارع بها- مطلوب إذًا من فاعل الأسباب، بينما الذي سبق تقريره أن المكلف غير ملزم بهذا؟! والمصنف لم يكن غافلًا عن هذا "التناقض"، والذي أحالنا عليه فيه تعرض بتفصيل وتقعيد لرفعه، ومفاده أنه على أقسام ومراتب، فمنه ما يلتفت فيه إلى المقاصد والمسببات، ومنه ما لا يلتفت. 1 دليل منطقي مؤلف من صغرى وكبرى، ثم النتيجة، وقال: إن الكبرى ظاهرة، ولم يترك التنبيه عليها؛ فقال: "فإن المشروعات إنما وضعت ... إلخ"، ودلل على الصغرى بالأدلة الستة، إلا أنه بالتأمل يرى أن الدليل الأول منها جميعه ما عدا قوله أخيرًا: "فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار ... إلخ"، هو في الواقع بيان وشرح للتنبيه على المقدمة الكبرى، وبسط للكلام فيما ينبني عليه قوله: "فإذا خولفت لم يكن ... إلخ"؛ فهذا الكلام في الدليل الأول مرتبط ارتباطا تاما ببيان المقدمة الكبرى، وليس بنا حاجة إليه في الاستدلال على المقدمة الصغرى، ويكفي في الدليل الأول أن يقول: لأنه إذا قصد المكلف غير ما قصده الشارع؛ فقد جعل ما قصده الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل ... إلخ، ولا حاجة لما قبل ذلك من المقدمات. "د". قلت: لئن كان المطلوب من المكلف بصفة إجمالية أن يجعل قصده في العمل موافقا لقصد الشارع من التشريع؛ فإن عامة المكلفين قد لا يعرفون بالتفصيل مقاصد الشارع في كثير من أحكامه وتكاليفه؛ فكيف يفعلون حتى يكون قصدهم في كل عمل موافقًا غير مخالف لقصد الشارع في ذلك العمل، ويكونوا على اطمئنان من ذلك؟ والجواب على هذا السؤال نجده في المسألة الثامنة؛ فانظره هناك. ومما ينبغي ذكره أن الاجتهاد تكليف من تكاليف الشريعة لأنه فرض كفائي؛ فيدخل في مضمون هذا الأصل وحكمه، ولذا اشترط المصنف في كتابه الاجتهاد "القسم الخامس" في المسألة الثانية من الطرف الأول منه أن العالم لا يبلغ درجة الاجتهاد؛ إلا إن فهم مقاصد الشريعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 الشريعة، و [كل] 1 ما نَاقَضَهَا؛ فَعَمَلُهُ فِي الْمُنَاقَضَةِ بَاطِلٌ، فَمَنِ ابْتَغَى فِي التَّكَالِيفِ مَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ؛ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ. أَمَّا أَنَّ الْعَمَلَ الْمُنَاقِضَ بَاطِلٌ؛ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّ2 الْمَشْرُوعَاتِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا خُولِفَتْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي خُولِفَ بِهَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ وَلَا دَرْءُ مَفْسَدَةٍ. وَأَمَّا أَنَّ مَنِ ابْتَغَى فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ؛ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لَهَا؛ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَفْعَالَ والتُّرُوكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَفْعَالٌ أَوْ تُرُوكٌ مُتَمَاثِلَةٌ عَقْلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُقْصَدُ بِهَا؛ إِذْ لَا تَحْسِينَ لِلْعَقْلِ وَلَا تَقْبِيحَ3، فَإِذَا جاء الشارع   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". 2 في نسخة "ماء/ ص227": "لأن". 3 يسلم الأشاعرة أن للفعل حسنا وقبحا، بمعنى أنه منشأ للمصلحة أو المفسدة، وإنما ينكرون الحسن والقبح على معنى أن يكون الثواب والعقاب مرتبط بذلك الوجه، بحيث لا يصح في العقل أن يتخلف الثواب والمدح عما فيه مصلحة، والعقاب والذم عام فيه مفسدة؛ إذ لا يرون أن الأمر بما فيه فساد والنهي عما فيه صلاح يخل بوصف الحكمة؛ لأن الحكمة في صفات الباري ليست في مذهبهم رعاية المصالح والمفاسد، بل هي اتصافه بصفات العلم والإرادة وغيرها من صفات الكمال. "خ". قلت: انظر مناقشة الأشاعرة في "مجموع الفتاوى" "8/ 90 وما بعدها، وما مضى "1/ 125". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 بِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنَ لِلْمَصْلَحَةِ وَتَعْيِينِ الْآخَرِ لِلْمَفْسَدَةِ؛ فقد بين الوجه الذي منه تحصيل الْمَصْلَحَةُ فَأَمَرَ بِهِ أَوْ أَذِنَ فِيهِ، وَبَيَّنَ الْوَجْهَ الَّذِي بِهِ تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ؛ فَنَهَى عَنْهُ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ، فَإِذَا قَصَدَ الْمُكَلَّفُ عَيْنَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالْإِذْنِ؛ فَقَدْ قَصَدَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ؛ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا قَصَدَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ كِفَاحًا؛ فَقَدْ جَعَلَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ مُهْمَلَ الِاعْتِبَارِ، وَمَا أَهْمَلَ الشَّارِعُ مَقْصُودًا مُعْتَبَرًا، وَذَلِكَ مُضَادَّةٌ لِلشَّرِيعَةِ ظَاهِرَةٌ. وَالثَّانِي 1: أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْقَصْدِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مَا رَآهُ الشَّارِعُ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدُ هَذَا الْقَاصِدِ ليس بحسن، وما لم يره في الشَّارِعُ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدَهُ حَسَنٌ، وَهَذِهِ مُضَادَّةٌ أَيْضًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: 115] . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مصيرا"2، والأخذ في خلاف مآخذ   1 قريب مما قبله؛ لأن إهمال ما قصده الشارع وقصد ما أهمله إنما يكون غالبا لتوهم أن المصلحة والحسن فيما قصد. "د". 2 أخرجه الآجري في "الشريعة" "48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 386" -ومن طريقه اللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" "رقم 134"- وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1176/ رقم 2326" من طريقين عنه، أحدهما فيها انقطاع بين مالك وعمرو بن عبد العزيز، والآخر فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وله طرق به يصح، وانظر: "4/ 461". وكان مالك رحمه الله يعجبه هذا الأثر، ويستدل به على المبتدعة، قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 172 - ط بيروت": "قال مطرف: سمعت مالكا إذا ذكر عنده فلان من أهل الزيغ والأهواء يقول: قال عمر بن عبد العزيز "وذكره"، قال: "وكان مالك إذا حدث بها ارتج سرورًا"، وسيأتي نحوه عند المصنف "4/ 460، 461". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ مُشَاقَّةٌ ظَاهِرَةٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْآخِذَ بِالْمَشْرُوعِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشَّارِعُ ذَلِكَ الْقَصْدَ آخِذٌ فِي غَيْرِ مَشْرُوعٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا شَرَعَهُ لِأَمْرٍ مَعْلُومٍ بِالْفَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ بِالْقَصْدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ؛ فَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ الْمَشْرُوعِ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَاقَضَ الشَّارِعَ فِي ذَلِكَ الْأَخْذِ، مِنْ حَيْثُ صَارَ كَالْفَاعِلِ لِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ [وَالتَّارِكِ لِمَا أُمِرَ بِهِ] 1. وَالْخَامِسُ: [أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنَّمَا كُلِّفَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ جهة قصد الشارع بها2   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، ومن نسخة "ماء/ ص227". 2 فالنكاح مثلا طلبه الشارع للنسل ولغيره من لواحقه، فإذا قصد به تحليل الزوجة لغيره؛ كان النكاح وسيلة لما قصد من التحليل، ولم يكن مقصودا بقصد الشارع، فما كان مقصودا عند الشارع؛ صار وسيلة عنده، وهذا مناقضة للشريعة، وقد يقال: هو عند الشارع أيضا وسيلة؛ إلا أنها لمقصود آخر هو النسل وما معه إلا للتحليل؛ فلا يخرج هذا الدليل عن مآل الدليل الأول، وهو أن ما قصده الشارع مهمل الاعتبار عنده، وما أهمله الشارع اعتبره، أما محاولة جعله دليلًا مستقلًا من حيث كان مقصودًا في نظر الشرع، فجعله هو وسيلة فغير واضح؛ لأنه وسيلة على كل حال، إلا أن المقصد مختلف. وجوابه أن ذلك جار في بعض التكاليف، كما إذا مثل بالصلاة والصوم والحج، وهكذا من العبادات المحضة إذا قصد بها الرياء مثلا؛ فقد جعلها وسيلة لنيل دنيا أو جاه، أو إسقاط عقوبات تركها في الدنيا كإسقاط القتل عن تارك الصلاة؛ فالشارع اعتبر هذه العبادة مقاصد تطلب لذاتها، لكن الشخص جعلها وسيلة إلى غرض من أغراضه، وبهذا يتجه كلام المؤلف ويتبين استقلال هذا الدليل، ويؤيده ما يذكره في المسألة الرابعة تمثيلا للضرب الثاني من القسم الثالث بمن يصلي رياء لينال دنيا ... إلخ. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِذَا قَصَدَ] 1 بِهَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ كَانَتْ بِفَرْضِ الْقَاصِدِ وَسَائِلَ لِمَا قَصَدَ لَا مَقَاصِدَ، إِذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا قَصْدَ الشَّارِعِ فَتَكُونَ مَقْصُودَةً، بَلْ قَصَدَ قَصْدًا آخَرَ جَعَلَ الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ وَسِيلَةً لَهُ؛ فَصَارَ مَا هُوَ عِنْدَ الشَّارِعِ مَقْصُودٌ وَسِيلَةً عِنْدَهُ، وَمَا كَانَ شَأْنُهُ هَذَا نَقْضٌ لِإِبْرَامِ الشَّارِعِ، وَهَدْمٌ لِمَا بَنَاهُ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ هَذَا الْقَاصِدَ مُسْتَهْزِئٌ بِآيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ مِنْ آيَاتِهِ أَحْكَامَهُ الَّتِي شَرَعَهَا، [وَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْكَامٍ شَرَعَهَا] 1: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الْبَقَرَةِ: 231] . وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا غَيْرَ مَا شَرَعَهَا لِأَجْلِهَا، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ حَيْثُ2 قَصَدُوا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التَّوْبَةِ: 65] . وَالِاسْتِهْزَاءُ بِمَا وُضِعَ عَلَى الْجِدِّ مُضَادَّةٌ لِحِكْمَتِهِ ظَاهِرَةٌ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَلِلْمَسْأَلَةِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ؛ كَإِظْهَارِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ قَصْدًا لِإِحْرَازِ الدَّمِ وَالْمَالِ، لَا لِإِقْرَارٍ3 لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالصَّلَاةِ لِيُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الصَّلَاحِ، وَالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالْهِجْرَةِ لِيَنَالَ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةً يَنْكِحُهَا، وَالْجِهَادِ للعصبية أو ينال شرف الذكر في الدنيا، والسلف ليجربه نَفْعًا، وَالْوَصِيَّةِ بِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ لِلْوَرَثَةِ، وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ لِيُحِلَّهَا لِمُطَلِّقِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَدْ يُعْتَرَضُ هَذَا الْإِطْلَاقُ4 بِأَشْيَاءَ: - مِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ كَنِكَاحِ الْهَازِلِ وَطَلَاقِهِ وَمَا ذُكِرَ   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 في "ط": "حين". 3 في "ط": "للإقرار". 4 وهو الكلية في رأس المسألة، وبعبارة أخرى نتيجة القياس المشار إليه سابقا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 مَعَهُمَا؛ فَإِنَّهُ قَاصِدٌ غَيْرَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ وَمِنْ ذَلِكَ الْمُكْرَهُ بِبَاطِلٍ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُهُ شَرْعًا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ؛ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَالْيَمِينِ، وَالنَّذْرِ1، وَمَا يَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ يَنْعَقِدُ كَذَلِكَ، لَكِنْ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ وَرِضَاهُ، إِلَى مَسَائِلَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ الْحِيَلَ فِي رَفْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَتَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مَقْصُودٌ بِهِ خِلَافُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مَعَ أَنَّهَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهَا صَحِيحَةٌ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ أَلْفَى مِنْهَا مَا لَا يَنْحَصِرُ، وَجَمِيعُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ إِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَسَائِلَ الْإِكْرَاهِ إِنَّمَا قِيلَ بِانْعِقَادِهَا شَرْعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِأَدِلَّةٍ قَرَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقِرَّ أَحَدٌ بِكَوْنِ الْعَمَلِ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ثُمَّ يُصَحِّحُهُ2، لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ إِنَّمَا هُوَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَقْرَبُ إِلَى تَفْهِيمِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْعَمَلَ صَحِيحٌ شَرْعًا مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؟ هَلْ هَذَا إِلَّا عَيْنُ الْمُحَالِ؟ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْحِيَلِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَا مُطْلَقًا، فَإِنَّمَا قَالَ بِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلشَّارِعِ قَصْدًا فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ المفاسد، بل الشريعة لهذا   1 أي: فقصد الشارع بهذه العقود أن تحصل باختيار عاقدها، ومع كونها وقعت على غير ما شرعت ووقعت مناقضة للشريعة؛ لم تبطل، بل وقعت صحيحة. "د". قلت: انظر تفصيل ذلك في: "المبسوط" "24/ 64"، و"بدائع الصنائع" "9/ 4500"، و"أحكام القرآن" "3/ 193" للجصاص، ووردت نصوص تبطل الزواج بالإكراه، انظر: "نيل الأوطار" "7/ 286-287"، و"تفسير القرطبي" "10/ 185، 614"، و"المحلى" "8/ 387"، و"بداية المجتهد" "2/ 4-7"، و"المغني" "7/ 382"، و"كشاف القناع" "3/ 141". 2 في "ط": "يصح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وُضِعَتْ، فَإِذَا صَحَّحَ مَثَلًا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ؛ فَإِنَّمَا صَحَّحَهُ عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ الْإِذْنُ فِي اسْتِجْلَابِ [مَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ خَوْفَ] 1 الْقَتْلِ أَوِ التَّعْذِيبِ، وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ دَلِيلٍ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى إِبْطَالِ كُلِّ حِيلَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى تَصْحِيحِ كُلِّ حِيلَةٍ؛ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ مِنْهَا مَا كَانَ مُضَادًّا لِقَصْدِ الشَّارِعِ خَاصَّةً، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَارَضُ فِيهَا الْأَدِلَّةُ، وَلِهَذَا مَوْضِعٌ يُذْكَرُ فِيهِ فِي هَذَا القسم إن شاء الله تعالى.   1 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَاعِلُ الْفِعْلِ أَوْ تَارِكُهُ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ مُوَافَقَةَ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالَفَتَهُ؛ فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا وَقَصْدُهُ الْمُوَافَقَةُ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا، يَقْصِدُ بِهَا امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَدَاءَ مَا وَجَبَ عليه أو ندب إليه، وكذلك ترك الزنى وَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، يَقْصِدُ بِذَلِكَ الِامْتِثَالَ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا وَقَصْدُهُ الْمُخَالَفَةُ؛ كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ قَاصِدًا لِذَلِكَ؛ فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرُ الْحُكْمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُوَافِقًا وَقَصْدُهُ الْمُخَالَفَةُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعْلَمَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مُوَافِقًا. وَالْآخَرُ: أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ: كَوَاطِئِ زَوْجَتِهِ ظَانًّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَشَارِبِ الْجُلَّابِ1 ظَانًّا أَنَّهُ خَمْرٌ، وَتَارِكِ الصَّلَاةِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ قَدْ أَوْقَعَهَا وَبَرِئَ مِنْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ حَصَلَ فِيهِ قَصْدُ الْعِصْيَانِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَيَحْكِي الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذَا النَّحْوِ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْعِصْيَانِ فِي مَسْأَلَةِ "مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ"، وَحَصَلَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَفْسَدَةَ النَّهْيِ لَمْ تَحْصُلْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مَنْ فَعَلَهُ، فَحَصَلَتِ الْمَفْسَدَةُ؛ فَشَارِبُ الْجُلَّابِ لَمْ يَذْهَبْ عَقْلُهُ، وَوَاطِئُ زوجته لم يختلط   1 أي: ماء الورد. "ماء/ ص229". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 نَسَبُ مَنْ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ، وَلَا لَحِقَ الْمَرْأَةَ بِسَبَبِ هَذَا الْوَطْءِ مَعَرَّةٌ1، وَتَارِكُ الصَّلَاةِ لَمْ تَفُتْهُ مَصْلَحَةُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ وَمُخَالَفَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ وَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْمُخَالَفَةِ؟ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ؛ فَمَأْذُونٌ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ؛ فَلَا عِصْيَانَ فِي حَقِّهِ، لَكِنَّهُ عَاصٍ بِاتِّفَاقٍ، هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ وَقَعَ مُخَالِفًا؛ فَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَوْنِهِ مُوَافِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لَوْ كَانَ مُخَالِفًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَكَانَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ، وَالزَّجْرُ عَلَى الشَّارِبِ، وَشِبْهُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ بِاتِّفَاقٍ أَيْضًا، هَذَا خُلْف. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَمَلَ هُنَا آخِذٌ بِطَرَفٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي الْقَصْدِ قَدْ وَافَقَ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَجَدْنَاهُ لَمْ تَقَعْ بِهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا فَاتَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى قَصْدِهِ وَجَدْنَاهُ مُنْتَهِكًا حُرْمَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَهُوَ عَاصٍ فِي مُجَرَّدِ الْقَصْدِ2 غَيْرُ عَاصٍ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ آثِمٌ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ، غَيْرُ آثِمٍ مِنْ جِهَةِ حَقِّ الْآدَمِيِّ3، كَالْغَاصِبِ لِمَا يَظُنُّ   1 وينظر فيمن وطء زوجته وهو يتخيَّل غيرها في "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي "7/ 252-253". 2 وجهت الشريعة نظرها إلى عمل الطاعات وتنظيم شئون المعاملات؛ محافظة على جلب المصالح ودر المفاسد المترتبة عليها، وأفرغت مع ذلك عنايتها في الغاية التي عني بها علم الأخلاق، والمحور الذي تدور عليه قوانينه وهي الإرادة؛ فكان من أهم تعاليم الإسلام تنظيم تلك المحكمة التي إمامها الله في الضمير الإنساني والسير بها في سبيل العدالة ليكون سلطانها الغالب وكلمتها النافذة، ومن وسائل هذا التنظيم تمرين النفس على الإصغاء إلى ذلك الصوت الذي ينبعث من صميم القلب؛ فيحثها على العمل أو يزجرها ويحدها عليه أو يوبخها، وهذا ما اقتضى أن يكون للعزم على الفسوق والمآثم نصيب من الوعيد والإنذار. "خ". 3 أي: حقه نفسه؛ فإنه مأذون له في التمتع بزوجته وبشرب الجلاب مثلا، وليس مطلبا بصلاة بعد أن أداها؛ إلا أنه انتهك حرمة الأمر والنهي ولم يبال بهما، فمن جهة أنه فعل حقا له مأذونا فيه لا يتوجه عليه حد ولا غيره كالغاصب في مثاله؛ لا يعقل أن نطالبه بمتاع للشخص الذي ظن أنه اغتصب متاعه، والواقع أنه مال نفسه، فكذلك لا يتوجه عليه حد ولا غيره؛ فيبقى حق الله في الأمر والنهي وقد انتهكه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أَنَّهُ مَتَاعُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِذَا هُوَ مَتَاعُ الْغَاصِبِ نَفْسِهِ؛ فَلَا طَلَبَ عَلَيْهِ لِمَنْ قُصِدَ الْغَصْبُ مِنْهُ؛ وَعَلَيْهِ الطَّلَبُ مِنْ جِهَةِ حُرْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ. وَلَا يُقَالُ: إِذَا كَانَ فَوْتُ الْمَفْسَدَةِ أَوْ عَدَمُ فَوْتِ الْمَصْلَحَةِ مُسْقِطًا لِمَعْنَى الطَّلَبِ؛ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَلَمْ يَذْهَبْ عَقْلُهُ، أَوْ زَنَى فَلَمْ يَتَخَلَّقْ1 مَاؤُهُ فِي الرَّحِمِ بِعَزْلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَقَّعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَلَا يَكُونَ آثِمًا إِلَّا مِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ خَاصَّةً. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ [هَذَا] 2 الْعَامِلَ قَدْ تَعَاطَى3 السَّبَبَ الَّذِي تَنْشَأُ عَنْهُ الْمَفْسَدَةُ أَوْ تَفُوتُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَهُوَ الشُّرْبُ وَالْإِيلَاجُ الْمُحَرَّمَانِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُمَا مَظِنَّتَانِ لِلِاخْتِلَاطِ وَذَهَابِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَضَعِ الشَّارِعُ الْحَدَّ بِإِزَاءِ زَوَالِ الْعَقْلِ أَوِ4 اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، بَلْ بِإِزَاءِ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَالْمُسَبِّبَاتُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْمُتَسَبِّبِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ فِعْلِ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَاللَّهُ هُوَ خَالِقُ الْوَلَدِ مِنَ الْمَاءِ، وَالسُّكْرِ عَنِ الشُّرْبِ كَالشِّبَعِ مَعَ الْأَكْلِ، وَالرِّيِّ مَعَ الْمَاءِ، وَالْإِحْرَاقِ مَعَ النار، كما تبين في موضعه، وإذ كان كذلك؛ فالمولج والشارب قد   1 في الأصل: "يختلقه". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 أي: بخلاف من فعل الموافق بقصد المخالفة في هذا القسم؛ فإنه لم يتعاط السبب في الواقع وإن كان قصد السبب المخالف، لكنه أخطأه. "د". 4 في الأصل: "واختلاط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 تَعَاطَيَا السَّبَبَ عَلَى كَمَالِهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِيقَاعِ مُسَبَّبهِ وَهُوَ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا عُمِلَ فِيهِ بِالسَّبَبِ لَكِنَّهُ أَعْقَمَ، وَأَمَّا الْإِثْمُ؛ فَعَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، وَهَلْ يَكُونُ فِي الْإِثْمِ مُسَاوِيًا لِمَنْ أَنْتَجَ سَبَبُهُ أَمْ لَا؟ هَذَا نَظَرٌ آخَرُ، لَا حاجة إلى ذكره ههنا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُوَافِقًا إِلَّا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْمُوَافَقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَصْدُهُ الْمُخَالَفَةُ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُصَلِّيَ رِيَاءً لِيَنَالَ دُنْيَا أَوْ تَعْظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ لِيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ الْقَتْلَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ أَشَدُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذَا الْعَامِلَ قَدْ جَعَلَ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي جُعِلَتْ مقاصد، وسائل لأمور أخرى لَمْ يَقْصِدِ الشَّارِعُ جَعْلَهَا لَهَا؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ النِّفَاقُ وَالرِّيَاءُ وَالْحِيَلُ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ عَيْنًا؛ فَلَا يَصِحُّ جُمْلَةً، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّسَاءِ: 145] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُخَالِفًا وَالْقَصْدُ مُوَافِقًا؛ فَهُوَ أَيْضًا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمُخَالَفَةِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَهْلِ بِذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمُخَالَفَةِ2؛ فَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، كَإِنْشَاءِ العبادات   1 في المسألة الأولى. 2 أي: فيكون الفعل مخالفا في الواقع لما شرعه الشارع، وهو يعلم أنه لم يشرعه، ولكنه يقصد به الطاعة والعبادة، متأولا غالبا أن هذا الفعل يعد طاعة؛ فهذا هو معنى مخالفة الفعل -أي في الواقع- وموافقة القصد -أي لما يزعمه- طاعة وعبادة، وإن كان يعلم أنه لم يرد في الشرع جعله عبادة؛ فلا يقال: إن هذا القسم الأول من قسمي الرابع لا يتصور حصوله من العاقل لأنه كيف يعلم أنه مخالف ويقصد به الموافقة لقصد الشارع؟ فمحصل هذا الضرب أن الفعل موافق في زعمه، وإن لم يكن جهلا صرفا كالضرب الثاني. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 الْمُسْتَأْنَفَةِ وَالزِّيَادَاتِ عَلَى مَا شَرَّعَ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا يُتَجَرَّأَ عَلَيْهِ إِلَّا بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ مَذْمُومٌ حَسَبَمَا جَاءَ فِي القرآن والسنة، والموضع مستغن عن إيراده ههنا، وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ تَقْرِيرٍ بَعْدَ هَذَا [إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ هُنَا أَنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ مَذْمُومَةٌ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى] 1: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 159] . وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الْأَنْعَامِ: 153] . وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" 2. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَحَادِيثِ كَالْمُتَوَاتِرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَسَّمُوا الْبِدَعَ بِأَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهَا بِإِطْلَاقٍ هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ؛ فَلَيْسَ الذَّمُّ3 فِيهِ بِإِطْلَاقٍ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ؛ فَغَيْرُ قَبِيحٍ شَرْعًا، فَالْوَاجِبُ مِنْهَا وَالْمَنْدُوبُ حَسَنٌ بِإِطْلَاقٍ، وَمَمْدُوحٌ فَاعِلُهُ وَمُسْتَنْبِطُهُ، وَالْمُبَاحُ حَسَنٌ بِاعْتِبَارٍ؛ فَعَلَى الْجُمْلَةِ مَنِ اسْتَحْسَنَ مِنَ الْبِدَعِ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْأَوَّلُونَ لَا يَقُولُ: إِنَّهَا مَذْمُومَةٌ وَلَا مُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ أَيَّ مُوَافَقَةٍ؛ كَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَالتَّجْمِيعِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الْحَسَنَةِ الَّتِي اتفق الناس على   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. 3 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة كلها: "فهو الذم"، وكتب "د" في الهامش: "لعل الأصل: "فليس الذم"، وما احتمله هو الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 حُسْنِهَا أَعْنِي السَّلَفَ الصَّالِحَ وَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأُمَّةِ "وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ"1؛ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ؛ إِذْ هِيَ أَفْعَالٌ مُخَالِفَةٌ لِلشَّارِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا مُقْتَرِنَةً بِقَصْدِ مُوَافِقٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا إِلَّا الصَّلَاحَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْبِدَعُ كُلُّهَا مَذْمُومَةً خِلَافَ الْمُدَّعَى. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ مِمَّا وَقَعَتِ التَّرْجَمَةُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْفِعْلَ مُخَالِفٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّارِعُ، وَمَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ بِحَالٍ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جَمْعَ الْمُصْحَفِ مَثَلًا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ2 بِالْحِفْظِ فِي الصُّدُورِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ يُخَافُ بِسَبَبِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِيهِ نَازِلَتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؛ كَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بن حكيم رضي الله عنهما3،   1 سيأتي تخريجه "ص41". 2 أي لا لأنه نهي عنه حتى يكون للشارع فيه وضع مخصوص يعد من فعله مخالفا لما وضعه الشارع من النهي، بل كان الترك للاستغناء عنه. "د". 3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، 5/ 73/ رقم 2419، وكتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، 9/ 23/ رقم 4992، وباب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا، 9/ 87/ رقم 5041، وكتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6936، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، 13/ 520، رقم 7550"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، 1/ 560/ رقم 818" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لبَّبته بردائه، فجئت بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرسله، اقرأ". فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هكذا أنزلت". ثم قال لي: "اقرأ" فقرأت؛ فقال: "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فاقرءوا ما تيسر منه". لفظ مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 وَقِصَّةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا1، وَفِيهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تُمَارُوا فِي الْقُرْآنِ؛ فإن المرء فيه كفر" 2.   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، 1/ 561-562/ رقم 820" عن أبي بن كعب؛ قال كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه؛ فلما قضينا الصلاة؛ دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه؛ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما؛ فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري؛ ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا؛ فقال لي: "يا أبي! أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إلي الثانية: "اقرأه على حرفين"، فرددت إليه: أن هون على أمتي؛ فرد إليّ الثالثة: "اقرأه على سبعة أحرف؛ فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم؛ حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم". فالرجل الذي وقع اختلاف أبي معه لم يسمه مسلم، وقال أبو ذر بن سبط بن العجمي في "تنبيه المعلم" "رقم 328 - بتحقيقي": "لا أعرفه"، وأفاد "برقم 329" عند قوله: "فقرأ قراءة أنكرتها"؛ فقال: "وفي "عشرة ابن خليل" أن هذه السورة هي النحل". قلت وعين المبهم بابن مسعود بن جرير في "تفسيره"، أفاده الديوبندي في "فتح الملهم" "2/ 363". 2 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 258 و286 و300 و424 و475 و478 و494 و503 و4/ 205"، ومن طريقه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب النهي عن الجدال في القرآن، 4/ 199/ رقم 4603"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 223"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 59 و1780 - موارد الظمآن"، وأبو نعيم في "الحلية الأولياء" "5/ 192 و6/ 215"، والدارمي في "الرد على الجهمية" "رقم 16"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 11"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 303 و410"، والحديث صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ جَمْعَ الْمُصْحَفِ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقُرْآنِ وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَنَا كَافِرٌ بِمَا تَقْرَأُ بِهِ؛ صَارَ جَمْعُ الْمُصْحَفِ وَاجِبًا وَرَأَيًا رَشِيدًا فِي وَاقِعَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِهَا عَهْدٌ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُخَالَفَةٌ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَمْ تَحْدُثْ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ بِدَعَةً، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا النَّظَرِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ الْمُلَائِمِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ، وَكُلُّ مَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِوَجْهٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُخَالِفِ لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ أَصْلًا، كَيْفَ وَهُوَ يَقُولُ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ"1، "وَلَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ" 2؛ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ فقد خرج هذا   1 أخرجه الطيالسي في "المسند" "رقم 246"، وأحمد في "المسند" "رقم 3600 - ط شاكر"، والطبراني في "الكبير" "9/ 18/ رقم 8582، 8583، 8593"، والبزار في "مسنده" "رقم 130- زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 78-79"، وأبو نعيم في الحلية "1/ 377-378"، والبيهقي في "المدخل" "ص8"، و"الاعتقاد" "ص162"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 150" بأسانيد بعضها حسن عن ابن مسعود موقوفا، قال الزركشي في "المعتبر" "رقم 294": "لم يرد مرفوعا، والمحفوظ وقفه على ابن مسعود". قلت: أخرج الخطيب في "تاريخه" "4/ 165" نحوه مرفوعا، وفيه سليمان بن عمرو النخعي كذاب. قال ابن القيم في "الفروسية" "ص298 - بتحقيقي" عنه: "إن هذا ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله، ذكره الإمام أحمد وغيره موقوفا عليه". 2 مضى تخريجه "2/ 434". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 الضَّرْبُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُخَالِفًا لِلشَّارِعِ، وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الْمَذْمُومَةُ؛ [فَهِيَ الَّتِي خَالَفَتْ مَا وَضَعَ الشَّارِعُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوِ التُّرُوكِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ هَذَا] 1 الْمَعْنَى بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ2. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمُخَالِفُ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُخَالَفَةِ؛ فَلَهُ وَجْهَانِ3: أَحَدُهُمَا: كَوْنُ القص مُوَافِقًا؛ فَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَنِيَّةُ هَذَا العمل عَلَى الْمُوَافَقَةِ، لَكِنَّ الْجَهْلَ أَوْقَعَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَمَنْ لَا يَقْصِدُ مُخَالَفَةَ الشَّارِعِ كِفَاحًا لَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُخَالِفِ بِالْقَصْدِ وَالْعَمَلِ مَعًا؛ فَعَمَلُهُ بِهَذَا النَّظَرِ مَنْظُورٌ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا مُطَّرَحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: كَوْنُ الْعَمَلِ مُخَالِفًا؛ فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِامْتِثَالُ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلْ؛ فَقَدْ خُولِفَ قَصْدُهُ، وَلَا يُعَارِضُ الْمُخَالِفَةَ مُوَافَقَةُ الْقَصْدِ4 الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ قَصْدُ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ5، وَلَا طَابَقَ الْقَصْدَ الْعَمَلُ؛ فَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُخَالِفًا كَمَا لَوْ خُولِفَ فِيهِمَا مَعًا؛ فلا يحصل الامتثال.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 وانظر تفصيلا حسنا للمصنف في "الاعتصام" "1/ 36 وما بعدها"، وآخر لابن تيمية في "اقتضاء الصراد المستقيم" "ص276". 3 أي من النظر، نظر يفيد صحته واعتباره، ونظر يفيد بطلانه واطراحه. "د". 4 أي: قصد المكلف الذي حمله على العمل وهو الامتثال، وقوله: "ولا طابق القصد العمل"؛ أي: قصد المكلف الامتثال لم يطابق العمل؛ لأن العمل ليس فيه امتثال، وإنما يكون الامتثال بالمشروع والفرض أنه ليس بمشروع؛ فالمخالفة حاصلة لم يعارضها قصده الامتثال الذي لم يصادف محلا، وقوله: "فصار المجموع مخالفا؛ أي: العمل وهو ظاهر والقصد أيضا، لأنه لم يصادف محلا، وصار كأنه قصد المخالفة في عمل المخالف. "د". 5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وجه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يُعَارِضُ الْآخَرَ فِي نَفْسِهِ1، وَيُعَارِضُهُ في الترجيح؛ لأنك إن رجحت أحدهما عراضك فِي الْآخَرِ وَجْهٌ مُرَجَّحٌ؛ فَيَتَعَارَضَانِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ صَارَ هَذَا الْمَحَلُّ2 غَامِضًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِإِيرَادِ شَيْءٍ مِنَ الْبَحْثِ فِيهِ. وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا رَجَّحْتَ جِهَةَ الْقَصْدِ الْمُوَافِقِ بِأَنَّ الْعَامِلَ مَا قَصَدَ قَطُّ إِلَّا الِامْتِثَالَ وَالْمُوَافَقَةَ، وَلَمْ يَنْتَهِكْ حُرْمَةً لِلشَّارِعِ بِذَلِكَ الْقَصْدِ؛ عَارَضَكَ أَنَّ قَصْدَ الْمُوَافَقَةِ مُقَيَّدٌ بِالِامْتِثَالِ الْمَشْرُوعِ لَا بِمُخَالَفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا؛ فَقَصْدُ الْمُكَلَّفِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا فَهُوَ كَالْعَبَثِ، وَأَيْضًا إِذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا صَارَ غَيْرَ مُوَافِقٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْأَعْمَالِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عَلَى الِانْفِرَادِ3. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ الْقَصْدَ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ قَبْلَ الشَّرَائِعِ، كَمَا ذُكِرَ عَمَّنْ آمَنَ4 فِي الْفَتَرَاتِ وَأَدْرَكَ التَّوْحِيدَ، وَتَمَسَّكَ بِأَعْمَالٍ يَعْبُدُ اللَّهَ بِهَا وَهَى غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ إِذْ لَمْ تَثْبُتْ فِي شرع بعد5.   1 أي: كما قرره في بيان الوجهين، وقوله: "في الترجيح"؛ أي: كما سيقرره في قوله: "ويتبين ذلك ... إلخ" الذي ذكر فيه ثلاثة مباحث في ترجيح اعتبار القصد ومعارضتها من جانب من يهمل القصد ما لم يوافق العمل أيضا. "د". 2 في الأصل: "العمل". 3 أي: بل لا بد من وقوعه على عمل مشروع؛ فالمشروع هو المجموع. "د". 4 كزيد بن عمرو بن نفيل وصل إلى توحيد الله بعقله، وخالف المشركين في ذبائحهم وفي كثير في أعمالهم؛ فكان يحيي الموءودة، وكان يقول: الشاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض النبات، وأنتم تذبحونها لغير الله. "د". 5 أي: عند تمسكه بها لم تكن ثبتت في شرع؛ فقد عمل بها قبل أن يرد الشرع باعتبارها وعدمه، وليس بلازم في المعارضة أنه بعد ورود الشرع لم يعتبرها، بل إذا اعتبرها بعد ورده أيضا يكون تقرير الكلام صحيحا. "د". قلت: وانظر "الاعتصام" "1/ 215- ط ابن عفان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 قِيلَ لَكَ: إِنْ فُرض أُولَئِكَ فِي زَمَانِ فَتْرَةٍ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرِيعَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ؛ فَالْمَقَاصِدُ الْمَوْجُودَةُ لَهُمْ مَنَازِعُ1 فِي اعْتِبَارِهَا بِإِطْلَاقٍ، فَإِنَّهَا كَأَعْمَالِهِمُ الْمَقْصُودِ بِهَا التَّعَبُّدُ؛ فَإِنْ قُلْتَ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ كَيْفَ كَانَ؛ لَزِمَ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنْ قُلْتَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ؛ لَزِمَ ذَلِكَ فِي القصد2. وأيضا؛ فكلامنها فِيمَا بَعْدَ الشَّرَائِعِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ3 بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَذَلِكَ وَاضِحٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4 يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَإِنْ خَالَفَتْ قَدْ تُعْتَبَرُ؛ فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ أَرْوَاحُ الْأَعْمَالِ؛ فَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ ذَا رُوحٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اعْتُبِرَ بِخِلَافِ مَا إِذَا خَالَفَ الْقَصْدُ وَوَافَقَ الْعَمَلُ، أَوْ خَالَفَا مَعًا؛ فَإِنَّهُ جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ5؛ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4 لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ. قِيلَ: إِنْ سُلِّمَ؛ فَمُعَارَضٌ بُقُولِهِ عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس   1 أي: للمجتهدين أنظار مختلفة؛ فمنهم من يصححها، ومنهم من لا يصححها، وهي كأعمالهم المقصود بها التعبد، لا فرق بين مقاصدهم وأعمالهم في ذلك؛ فالمصحح لمقاصدهم مصحح لأعمالهم، وبالعكس. "د". 2 في الأصل: "الأصل". 3 أي: كما ورد عن زيد بن عمرو أنه قال: "اللهم! إني أشهدك أني على ملة إبراهيم"، وقوله: "فذلك واضح"؛ أي: لخروجه عن فرض المسألة، فإن عمله يكون موافقا كما أن قصده كذلك. "د". 4 مضى تخريجه "2/ 355". 5 أي: في صورة العمل الموافق والقصد المخالف، أما فيما خولفا معا؛ فلا روح ولا جسد. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ" 1، وَهَذَا الْعَمَلُ لَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام، فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا بَلْ كَانَ مَرْدُودًا. وَأَيْضًا؛ فَإِذَا لَمْ يُنْتَفَعُ [بِجَسَدٍ بِلَا رُوحٍ، كَذَلِكَ لَا يُنْتَفَعُ بِرُوحٍ فِي غَيْرِ جَسَدٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هُنَا قَدْ فُرِضَتْ] 2 مُخَالِفَةً؛ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، فَبَقِيَتِ النِّيَّةُ مُنْفَرِدَةً فِي حُكْمٍ عَمَلِيٍّ؛ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا، وَتَكْثُرُ الْمُعَارَضَاتُ فِي هَذَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ؛ فَكَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةً جِدًّا. وَمِنْ هُنَا صَارَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الْقَصْدِ؛ فَتَلَافَوْا مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا يَجِبُ تَلَافِيهِ، وَصَحَّحُوا الْمُعَامَلَاتِ، وَمَالَ فَرِيقٌ إِلَى الْفَسَادِ بِإِطْلَاقٍ، وَأَبْطَلُوا كُلَّ عِبَادَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ خَالَفَتِ الشَّارِعَ مَيْلًا إِلَى جَانِبِ الْعَمَلِ الْمُخَالِفِ3، وَتَوَسَّطَ فَرِيقٌ فَأَعْمَلُوا الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنْ عَلَى أَنْ يُعْمَلَ مُقْتَضَى الْقَصْدِ فِي وَجْهٍ، [وَيُعْمَلُ مُقْتَضَى الْفِعْلِ فِي وَجْهٍ] 2 آخَرَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى إعمال الجانبيين أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُتَنَاوِلَ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ عَالِمٍ بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، 5/ 301/ رقم 2697"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، 3/ 1343/ رقم 1718" بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"، وورد بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"، علقه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل، 13/ 317"، ووصله مسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، 3/ 1343-1344". وانظر: "فتح الباري" "5/ 302"، و"تغليق التعليق" "3/ 396 و5/ 326". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 أي: ميلا منهم إلى أن العمل متى كان مخالفا بطل ولو كان القصد موافقا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الْقَصْدِ -إِذْ لَمْ يَتَلَبَّسْ إِلَّا بِمَا اعْتَقَدَ إباحته- ومخالفة الفعل لأنه فاعل ما نُهِيَ عَنْهُ؛ فَأُعْمِلَ مُقْتَضَى الْمُوَافَقَةِ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ، وَأُعْمِلَ مُقْتَضَى الْمُخَالَفَةِ1 فِي عَدَمِ الْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، حَتَّى صُحِّحَ مَا يَجِبُ أَنْ يُصَحَّحَ مِمَّا فِيهِ تَلَافٍ، مَيْلًا [فِيهِ] 2 إِلَى جِهَةِ الْقَصْدِ أَيْضًا، وَأُهْمِلُ مَا يَجِبُ أَنْ يُهْمَلَ مِمَّا لَا تَلَافِيَ فِيهِ. فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِبَارُ الطَّرَفَيْنِ بِمَا يَلِيقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ كَالْمَرْأَةِ يَتَزَوَّجُهَا رَجُلَانِ وَلَا يَعْلَمُ الْآخَرُ بِتَقَدُّمِ نِكَاحِ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ بِنَائِهِ بِهَا؛ فقد   1 أي على الجملة، بدليل قوله: "حتى صحح ... إلخ"؛ فمقتضى موافقة القصد انبنى عليه عدم الحد في الدنيا وعدم العقوبة في الآخرة، ومقتضى المخالفة فصل فيه، فما لا تلافي فيه أهمل وما فيه التلافي صحح، مراعى فيه جانب القصد، وقوله: "يتزوجها" أي: يعقد عليها "رجلان"، ودخل بها الثاني ثم علم بعقد الأول؛ فتفوت على الأول، وصحح الثاني الذي يجب أن يصحح لترجحه بالدخول بدون علم ميلا إلى جانب القصد الموافق، وأما مسألة المفقود؛ ففيها الأمران معًا: البناء على الفعل المخالف، وتصحيحه إذا قدم زوجها، أي علمت حياته بعد البناء ميلاً إلى صحة القصد وإلى الترجح بالدخول مع عدم علمه بحياته، وعدم البناء عليه وإهماله إذا قدم قبل البناء كما هو أحد القولين، والفرض الأول في كلامه في مسألة المفقود غير ظاهر مع قوله: "تزوجت"؛ لأنه إن كان المراد بالنكاح في قوله: "قبل نكاحها" العقد فقط؛ فخلاف أصل المسألة، وإن كان المراد به البناء؛ فهو عين الفرض الثالث الذي في قوله: "وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان"؛ إلا أن يقال: إن معنى قوله: "تزوجت" حلت للأزواج بحكم الحاكم، ثم رأيت في "الاعتصام" "2/ 147-148" ما نصه: "في امرأة المفقود إذا قدم قبل نكاحها؛ فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها ... " إلخ ما قال هنا، ثم قال: "فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته؛ فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها، أو ليس بقاطع للعصمة؛ فكيف تباح لغيره وهي في عصمة المفقود؟ "، وبهذا تعلم أن قوله: "تزوجت" التي استشكلناها ليست في كتابه "الاعتصام"، وما ورد فيه واضح لا إشكال عليه. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 فَاتَتْ1 بِمُقْتَضَى فَتْوَى عُمَرَ2 وَمُعَاوِيَةَ3 وَالْحَسَنِ4، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ5. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَنَظِيرُهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ إِذَا تَزَوَّجَتِ امْرَأَتُهُ ثُمَّ قَدِمَ؛ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا، وَالثَّانِي أَوْلَى بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا، وَفِيمَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْبِنَاءِ قَوْلَانِ6، وَفِي الْحَدِيثِ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مواليها؛ فنكاحها باطل   1 وفي "الاعتصام" "2/ 147": "فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم ... إنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول؛ فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ومصححًا لعقده الذي لم يصادف محلًا ومبطلًا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة لا إباحة زوج غيره دائما، ومنع زوجها عنها" انتهى. 2 كما في "سنن سعيد بن منصور" "رقم 1314، 1316"، و"مصنف ابن أبي شيبة" "4/ 238"، و"مصنف عبد الرزاق" "6/ 313/ رقم 10979 و10980"، و"السنن الكبرى" "7/ 446" للبيهقي، و"المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 314"، و"الاعتصام" "2/ 147" وهو صحيح. 3 كما في "الاعتصام" للمؤلف "2/ 147" أيضا. 4 كما في "المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 316"، و"الاعتصام" "2/ 147". 5 كما في "مصنف عبد الرزاق" "6/ 313-314، 314/ رقم 10979، 10981"، و"سنن البيهقي" "7/ 446-447"، و"المحلى" "10/ 140"، و"الاستذكار" "17/ 315-316، 317". 6 القولان مرويان عن الإمام مالك، والذي أخذ به أصحابه أن زوجة المفقود لا يفيتها عليه إلا دخول الثاني، ومذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن المفقود إن قدم بعد تزوج امرأته يخير بينها وبين مهرها، وهو يرجع إلى تخييره بين إجازة ما فعله الحاكم ورده، فإن اختار المهر؛ كان مجيزا لما فعله الحاكم، وإجازته تجعل التفريق مأذونا فيه؛ فيكون نكاح الثاني صحيحا، وإن اختار زوجته؛ كان غير مجيز لما فعله الحاكم؛ فيكون التفريق باطلا. "خ". قلت: انظر تفصيل ذلك في "منح الجليل" "4/ 320". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 بَاطِلٌ بَاطِلٌ 1، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا؛ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا أصاب منها" 2، وعلى هذا يجري   1 أي: فيفسخ النكاح لمخالفته للمشروع، ويكون لها المهر، ويسقط الحد والعقوبة، وصحح ما أمكن تلافيه من ثبوت المهر، ويبقى الكلام في أن هذا إنما يكون من مسألتنا إذا حصل النكاح بقصد الموافقة والجهل بركنية الولي، أما إذا حصل مع العلم بالركنية فلا يكون منها؛ فهل حكمه كذلك؟ وإذا كان الحكم في العلم كالحكم في حال الجهل لا تكون المسألة مما يدل على موضوعنا من إعمال الجانبين كما يقول المؤلف، ولا تكون المسألة مبنية على هذه القاعدة، بل لها مبنى آخر، وسيأتي في فصل مراعاة الخلاف في أواخر الكتاب ما ينحو هذا النحو في البناء بعد الوقوع، ومراعاة الحالة الحاصلة وإن لم يكن أصل النكاح صحيحا؛ فيثبت استحقاق الميراث مثلا، إلى غير ذلك مما له علاقة بموضوعنا، وإن لم يبحثوا هناك عن القصد مخالفة وموافقة، بل بنوه هناك على قاعدة أخرى. "د". قلت: انظر "4/ 370 و5/ 106 وما بعد". 2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب النكاح، باب في الولي، 2/ 229/ رقم 2083"، والترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، 3/ 407-408/ رقم 1102" - وقال: هذا حديث حسن"-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، 1/ 605/ رقم 1879"، والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" "12/ 43"- وأحمد في "المسند" "6/ 47، 165"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1463"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 128"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 195، رقم 10472"، والدارمي في "السنن" "2/ 137"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 700"، والشافعي في "الأم" "2/ 11"، والحميدي في "المسند" "1/ 112-113/ رقم 228"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 698، 699"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، وابن حبان في "الصحيح" "9/ 384/ رقم 4074- الإحسان"، والدارقطني في "السنن" "3/ 221، 225-226"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 168"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 105، 113، 124-125، 125، 138"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1115-1116"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 39/ رقم 2262"، والخطيب في "الكفاية" "ص380" والسهمي في: "تاريخ جرجان" "1/ 8" وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 188" من طرق كثيرة عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عورة عن عائشة مرفوعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 .......................................................   = قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". قلت: بل هو حسن؛ فسليمان بن موسى لم يخرج له البخاري وأخرج له مسلم في "المقدمة"، وقال ابن حجر في "التقريب": "صدوق، فقيه، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل". وقد أعله أحمد بن صالح بقوله: "أخبرني من رأى هذا الحديث في كتاب ذاك الخبيث محمد بن سعيد -أي: المصلوب- عن الزهري، وأنا أظن أنه ألقاه إلى سليمان بن موسى وألقاه سليمان إلى ابن جريج"، كذا أسنده عنه أبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى" "1/ 290". قلت: ولا يستلزم من وجوده في كتاب ذاك الخبيث أنه تفرد به، والمشهور أن من ضعف هذا الحديث يستدل بما ذكره أحمد في "مسنده" "6/ 27" عقبه؛ فقال: "قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث؛ فلم يعرفه". وتعقبه الترمدي بقوله: "وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: لم يذكر هذا الحرف عن ابن جريج إلا إسماعيل بن إبراهيم، قال يحيى بن معين: وسماع إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج ليس بذلك، إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ما سمع من ابن جريج، وضعف يحيى رواية إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج". قال الترمذي: "والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة وغيرهم". وقال الحاكم بعد أن صحح الحديث: "فقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات سماع الرواة بعضهم من بعض؛ فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية وسؤاله ابن جريج عنه، وقوله: إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه؛ فقد ينسى الثقة الحافظ الحديث بعد أن حدث به، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث". وذكره الحافظ في "التلخيص" "3/ 157"، وقال: "وليس أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية، وأعل ابن حبان وابن عدي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه. وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي "7/ 107"، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي "3/ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 بَابُ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَبَابُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ فِي تَشَعُّبِ مَسَائِلِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ عُمْدَةَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، بَلْ عُمْدَةُ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارُ الْجَهْلِ فِي الْعِبَادَاتِ اعْتِبَارَ النِّسْيَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَعَدُّوا مَنْ خَالَفَ فِي الْأَفْعَالِ أَوِ الْأَقْوَالِ جَهْلًا عَلَى حُكْمِ النَّاسِي، وَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَصْدِ مُخَالِفًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لَعَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْعَامِدِ؛ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَهَذَا وَاضِحٌ فِي أَنَّ لِلْقَصْدِ الْمُوَافِقِ أَثَرًا، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي الطِّهَارَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ1 وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العبادات، وكذلك في كثير   = 1115-1116". على أن سليمان بن موسى لم يتفرد به؛ فقد تابعه جعفر بن ربيعة عند أحمد في "المسند" "6/ 66"، وأبي داود في "السنن" "رقم 2084"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 106"، وعبيد الله بن أبي جعفر عند الطحاوي "3/ 7"، وحجاج بن أرطأة عند ابن ماجه في "السنن" "رقم 1886"، وأحمد في "المسند" "1/ 250 و6/ 260"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 130"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 7"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 106 و106-107". وأخرجه الترمذي في "العلل الكبير" "1/ 430" من طريق زمعة بن صالح، والدارقطني في "السنن" 3/ 227" من طريق محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، كلاهما عن الزهري به، وزمعة بن صالح ومحمد بن يزيد بن سنان وأبوه فيهم ضعف؛ فبمجموع هذه الطرق يتقوى الحديث ويصح. وصححه ابن حبان وابن الجارود وأبو عوانة وغيرهم، وأعله الطحاوي بالحكاية الباطلة عن ابن جريج، وللحديث شواهد جمعها الشيخ مفلح بن سليمان الرشيدي في كتابه المطبوع "التحقيق الجلي لحديث لا نكاح إلا بولي"، وانظر: "نصب الراية" "3/ 185". 1 عاملوا الجاهل بحرمة الشهر أبو بحرمة الفطر معاملة الناسي؛ فلا كفارة، وكذا كل ما ذكروه في التأويل القريب هو من باب الجهل، وعدوه كالناسي لا كفارة عليه، وكذا في الأطعمة والأشربة لا حرمة في تعاطي المحرمات منها عند جهله بأنها من المحرم؛ كشارب الخمر معتقدا أنه جلاب مثلا، وآكل المتنجس معتقدا طهارته لا شيء عليه، وعليك باستيفاء البحث في الفروع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 مِنَ الْعَادَاتِ؛ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ، وَغَيْرِهَا. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا يَنْكَسِرُ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا تُضَمَّنُ فِي الْجَهْلِ وَالْعَمْدِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْحُكْمُ فِي التَّضْمِينِ فِي الْأَمْوَالِ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِيهَا مساوٍ لِلْعَمْدِ فِي تَرَتُّبِ الْغُرْمِ فِي إِتْلَافِهَا. وَالثَّالِثُ: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى رَفْعِ الْخَطَأِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَفِي الْكِتَابِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الْأَحْزَابِ: 5] . وَقَالَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 268] . وَفِي الْحَدِيثِ: "قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ" 1. وَقَالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . وَفِي الْحَدِيثِ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" 2. وَهُوَ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لا مخالف فيه، وإن اختلفوا فيما يتعلق3 بِهِ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ، هَلْ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ خَاصَّةً أَمْ لَا؛ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا4 أَيْضًا أَنَّ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِإِطْلَاقٍ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا كان كذلك؛ ظهر أن كل   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومضى "2/ 210". 2 مضى تخريجه "1/ 236"، وكتب "خ" ما نصه: "قال الإمام أحمد: من زعم أن الخطأ مرفوع؛ فقد خالف الكتاب، فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة، والجواب عن هذا أن المراد من الحديث رفع المؤاخذة بالخطأ في الآخرة دون الحقوق الواقعة بين الناس". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "تعلق". 4 أي: بل أجمعوا على أنه لا بد من نوع من المؤاخذة، وهو مع اتفاقهم على رفع المؤاخذة في الجملة يدل على اعتبار الطرفين. "د". قلت: هذه المسألة هي المسماة "عموم المقتضى"، ونشأ عنه خلاف في كثير من المسائل، انظر: "أصول السرخسي" "2/ 251-252"، و"الإزميري على المرآة" "2/ 75-76"، و"تسهيل الوصول" "ص106"، و"إبراز الحِكَم" للسبكي، و"المناهج الأصولية" "ص379 وما بعدها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُعْتَبَرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ 1: جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَلْزَمَ عَنْهُ إِضْرَارُ الْغَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَلْزَمَ عَنْهُ ذَلِكَ. وَهَذَا الثَّانِي ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ ذَلِكَ الْإِضْرَارِ؛ كَالْمُرَخِّصِ فِي سِلْعَتِهِ قَصْدًا لِطَلَبِ مَعَاشِهِ، وَصَحِبَهُ قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْصِدَ إِضْرَارًا بِأَحَدٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِضْرَارُ عَامًّا؛ كَتَلَقِّي السِّلَعِ، وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ بَيْعِ دَارِهِ أَوْ فَدَّانِهِ، وَقَدِ اضْطَرَّ إِلَيْهِ النَّاسُ لِمَسْجِدٍ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ2. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَهُوَ نَوْعَانِ:   1 يمكن تسمية هذا المسألة "قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس ومضارهم"، والمراد من تقسيم المصنف للمصالح والذرائع هنا إرساء قواعد أصوليه تحكم استعمال الحقوق. وانظر في هذا: "قواعد الأحكام" "1/ 98 وما بعدها"، و"الحسبة" "ص64" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية" "ص310"، و"مفتاح السعادة" "2/ 14 وما بعدها"، و"الأشباه والنظائر" "87" للسيوطي، و"ضوابط المصلحة" "249 وما بعدها". 2 نصصت كتب الفقه الحنفي مثل "الاختيار" "3/ 383"، و"فتاوى قاضي خان" "4/ 293" على المثل الأخير، وهو مذهب المالكية، وترى كلاما حسنا حوله في "المدخل الفقهي" "1/ 227"، "ونزع ملكية العقار للمصلحة العامة" "ص437 وما بعدها" لعبد العزيز بن عبد المنعم، و"قيود الملكية الخاصة" "ص493 وما بعدها" لعبد الله بن عبد العزيز المصلح، و"المثامنة في العقار" للشيخ بكر أبو زيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ الْجَالِبَ أَوِ الدَّافِعَ بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ؛ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى فِعْلِهِ؛ كَالدَّافِعِ عَنْ نَفْسِهِ مُظْلَمَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا تَقَعُ بِغَيْرِهِ، أَوْ يَسْبِقُ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى صَيْدٍ أَوْ حَطَبٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَالِمًا أَنَّهُ1 إِذَا حَازَهُ اسْتَضَرَّ غَيْرُهُ بِعَدَمِهِ، وَلَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ اسْتَضَرَّ2. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا، أَعْنِي الْقَطْعَ الْعَادِيَّ3؛ كَحَفْرِ الْبِئْرِ خَلْفَ بَابِ الدَّارِ فِي الظَّلَامِ، بِحَيْثُ يَقَعُ الدَّاخِلُ فِيهِ بِلَا بُدٍّ، وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا؛ كَحَفْرِ الْبِئْرِ بِمَوْضِعٍ لَا يُؤَدِّي غَالِبًا إِلَى وُقُوعِ أَحَدٍ فِيهِ، وَأَكْلِ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي غَالِبُهَا4 أَنْ لَا تَضُرَّ أَحَدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَا نَادِرًا، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبًا كَبَيْعِ السِّلَاحِ5 من أهل الحرب، والعنب من   1 في "ط": "بأنه". 2 بعدها في نسخة "ماء/ ص232": "وهذا فيه خلاف". 3 يقصد بالقطع العادي ما يمكن تخلفه، ولكن في حالات نادرة جدا، يقابله "القطع العقلي" وهو ما يستحيل تخلفه أبدا، فإن تخلف؛ لم يعتبر قطعيا. 4 أي: وقد تضر بعض الناس ندورا؛ فاستعمال الشخص لها مع ندور الضرر سيأتي حكمه أنه باق على الإذن. "د". 5 الفرض أن يكون الضرر خاصا لا عاما، وهل بيع السلاح من أهل الحرب يكون ضرره خاصا مع أن تلقي السلع ضرره عام؟ وكذا يقال في بيع العنب ممن يصنعه خمرا، وبيع ما يمكن أن يغش به لمن لا يؤمن على الغش به: هل كان هذا من الخاص؟ وسيأتي له أمثله في إعطاء المال للمحاربين وللكفار فداء الأسرى. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الْخَمَّارِ، وَمَا يُغَشُّ بِهِ1 مِمَّنْ شَأْنُهُ الْغِشُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لَا غَالِبًا، كَمَسَائِلِ بُيُوعِ الْآجَالِ2؛ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ3. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَبَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِذْنِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الدَّلِيلِ عَلَى الْإِذْنِ ابْتِدَاءً. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى الْإِضْرَارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِضْرَارٌ؛ لِثُبُوتِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنْ "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ"4، لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ قَصْدُ نَفْعِ النَّفْسِ وَقَصْدُ إِضْرَارِ الْغَيْرِ؛ هَلْ يُمْنَعُ مِنْهُ فَيَصِيرُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، أَمْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ مِنَ الْإِذْنِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمُ مَا قُصِدَ؟ هَذَا مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْخِلَافُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وهو جار على مسألة5   1 في نسخة "ماء/ ص232": "يعيش به". 2 كمثاله الآتي في بيع الجارية لزيد بن أرقم. "د". 3 وفي حاشية الأصل: "قوله ثمانية أقسام بيانها وترتيبها ما تقتضيه تلك التقسيمات هكذا: الأول: ما لا يلزم عليه إضرار الغير. الثاني: ما يلزم عليه الإضرار، ويقصد الفاعل الإضرار. الثالث: ما لا يقصد فيه الإضرار، وكان الإضرار اللازم فيه عاما. الرابع: ما لا قصد فيه، والإضرار اللازم خاص والفعل محتاج إليه. الخامس: ما كان كذلك، والفعل غير محتاج إليه ويؤدي إلى مفسدة قطعا. والسادس: أن تكون المفسدة على سبيل الندور. السابع: أن تكون على سبيل الكثرة ولزومها أغلبي. الثامن: ما لزومها غير أغلبي. وبترجمتها هكذا يسهل فهمها ونشرها واستخراج أحكامها، والله تعالى أعلم". 4 مضى تخريجه "2/ 72". 5 مما كان فيه النهي لوصف منفك؛ ففي صحته خلاف. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَيَحْتَمِلُ فِي الِاجْتِهَادِ تَفْصِيلًا1: وَهُوَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِذَا رُفِعَ ذَلِكَ الْعَمَلُ، وَانْتَقَلَ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي اسْتِجْلَابِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَرْءِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ؛ حَصَلَ لَهُ مَا أَرَادَ أولا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَنْعِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ الْوَجْهَ إِلَّا لِأَجْلِ الْإِضْرَارِ؛ فَلْيُنْقَلْ عَنْهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ؛ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ الْإِضْرَارِ2، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَحِيصٌ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَسْتَضِرُّ مِنْهَا الغير؛   1 بالتأمل في كلام المصنف السابق واللاحق نستخلص ما يلي: أولا: كلامه هذا هو بعينه النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق، إن لم يكن أرقى منها في بعض الجوانب من حيث دقة التفصيل والتعليل، ولا سيما إذا نظر إليها بالقياس إلى العصر الذي كتبت فيه. ثانيا: أقام المصنف هذه النظرية على المقصد الكلي للشريعة؛ فالتعسف عنده في استعمال الحق من باب "التعدي بطريق التسبب"، وقد يرد على ذلك اعتراضات تفطن لها المصنف فيما مضى "1/ 376 وما بعدها". ثالثا: إن عناصر التعدي عند المصنف هي ما يلي: أولا: تمحض قصد الإضرار بالفعل، وهو يعتبر تعديا من الطراز الأول. ثانيا: مظنة قصد الإضرار التي تستفاد من القرائن. ثالثا: الإهمال للمعنى الاجتماعي الذي أمر به الإسلام، ومفاده اتخاذ الاحتياط للحيلولة دون الإضرار بالغير، أو بعبارة أخرى: التقصير في إدراك الأمور على وجهها الصحيح وإهمال المقاصد الشرعية منها,. رابعا: أن المصنف يكيف التعسف بأنه تعد بطريق التسبب، ولا يلتزم في ذلك ضابط التعدي عند جماهير الفقهاء الأقدمين. انظر: "نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص55 وما بعدها"، و"النظرية العامة للموجبات والعقود" "1/ 53" لصبحي المحمصاني. 2 ذكر مثله ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "ص265" عند شرح "لا ضرر ولا ضرار" ويمثل عليه بمن أراد أن يحفر بئرا في ملكه، ويضر بجدار جاره، قال صاحب "البهجة شرح التحفة "2/ 336": "وأما إن وجد عنه مندوحة ولم يتضرر بترك حفره؛ فلا يمكن من حفره لتمحض قصد إضراره بجاره". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 فَحَقُّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ مُقَدَّمٌ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِنَفْيِ قَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكَسْبِ، لَا يَنْفِي الْإِضْرَارَ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلَا يَخْلُو أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَنْعِهِ الْإِضْرَارُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْجَبِرُ1 أَوْ لَا؛ فَإِنْ لَزِمَ قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، عَلَى تَنَازُعٍ يُضْعِفُ مُدْرِكَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ التُّرْسِ الَّتِي فَرَضَهَا الْأُصُولِيُّونَ فِيمَا إِذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِمُسْلِمٍ، وَعُلِمَ أَنَّ التُّرْسَ إِذَا لَمْ يُقْتَلِ اسْتُؤْصِلَ2 أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَمْكَنَ3 انْجِبَارُ الْإِضْرَارِ وَرَفْعُهُ جُمْلَةً؛ فَاعْتِبَارُ الضَّرَرِ الْعَامِّ أَوْلَى؛ فَيُمْنَعُ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ مِمَّا هَمَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ4، بِدَلِيلِ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي السلع، وعن بيع   1 كفقد الحياة أو عضو من أعضائه وما ماثل ذلك. "د". 2 وقد يقال: إن الفرض إنه يلحقه ضرر لا ينجبر إذا منع من استعمال حقه، وإذا استعمل حقه لحق غيره ضرر؛ فالضرر إما ان يلحقه وحده، وإما أن يلحق كثيرا من الناس؛ كبيع الحاضر للبادي، أما مسألة الترس؛ فيقول: إنه يلزم من الأخذ بحقه وعدم قتله استئصال أهل الإسلام، يعني هو وغيره من سائر المسلمين أو جميع الجيش على الأقل؛ فالضرر لاحق به على كل حال، فلذلك قصر الضرر على الترس واستبقى سائر المسلمين أو سائر الجيش؛ فالفرق بين المسألتين واضح على هذا التصوير، إما إذا صورت المسألة بأنه إما أن يفقد الترس أو يفقد الجيش الإسلامي في هذه الجهة مثلا؛ فإنه يتناسب مع الفرض. "د". قلت: في "ط": "إن لم يقتل استؤصل". 3 بأن يكون في أمور مالية مثلا. "د". 4 ولو لحق الفرد من جراء ذلك ضرر؛ لأنه ينجبر بالتعويض، ولأن في رعاية المصلحة العامة وتقديمها رعاية للمصلحة الخاصة ضمنا، كما أشار إلى ذلك الحديث: "نجوا جميعا". وانظر: "قواعد الأحكام" "2/ 162" للعز بن عبد السلام، و"المستصفى" "1/ 303"، و"الأشباه والنظائر" "1/ 122 - مع شرحه"، و"الاعتصام" "2/ 121-122" للمصنف، و"الطرق الحكمية" "ص289". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ1 مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمُ الْأَمَانَةُ، وَقَدْ زَادُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا رَضِيَ أَهْلُهُ وَمَا لَا، وَذَلِكَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْخُصُوصِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْخُصُوصَ مَضَرَّةٌ2. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَإِنَّ الْمَوْضِعَ فِي الْجُمْلَةِ يَحْتَمِلُ نَظَرَيْنِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِسْقَاطِهَا، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْحُظُوظَ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ مُقَدَّمٌ وَإِنِ اسْتَضَرَّ غَيْرُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ دَفْعَ الْمَضَرَّةَ مَطْلُوبٌ لِلشَّارِعِ مَقْصُودٌ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَتِ الْمَيْتَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ، وَأُبِيحَ الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ لِلْمُقْرِضِ، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالرُّطَبُ بِالْيَابِسِ فِي الْعَرِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ فِي طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٍ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَا سَبَقَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ فِيهِ شَرْعًا، بِحَوْزِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَسَبْقُهُ إِلَيْهِ لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِلشَّارِعِ؛ فَصَحَّ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ تَقْدِيمَ حَقِّ الْمَسْبُوقِ عَلَى حَقِّ السَّابِقِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَرْعًا إِلَّا مَعَ إِسْقَاطِ السَّابِقِ لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد   1 لو لم يقع تضمينهم لادعى بعضهم التلف، فضاعت حقوق الناس، وانظر النقولات عن السلف في: "مصنف عبد الرزاق" "8/ 216-223"، و"مسائل الكوسج". 2 أي: مضرة لا تنجبر أما أصلها؛ فهو الفرض". "د". قلت: ومثله منع التجار من احتكار ما يحتاج إليه الناس، ويؤمرون ببيعه بثمن المثل، وإلا بيع عليهم جبرا، والحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس أو المتعهد بتأجير المواصلات وغيرها، ومنع الأفراد من إقامة فرن للخبز في سوق البزازين، على ما ذكر ابن نجيم ونحوه إقامة مصنع للإسمنت في وسط حي للسكان. انظر هذه الأمثلة وغيرها في "إعلام الموقعين" "3/ 138-139"، و"الطرق الحكمية" "302-307"، و"فتاوى ابن رشد" "1/ 262-265"، و"المعيار المعرب" "1/ 243-246"، و"غمز عيون البصائر" "1/ 122"، و"تبصرة الحكام" "2/ 347"، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص236-237". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حَقُّ نَفْسِهِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ خِيرَةٌ فِي إِسْقَاطِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمِنْ حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى ظَنٍّ أَوْ شَكٍّ، وَذَلِكَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ فِي جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ إِنْ كَانَ عَدَمُهَا يُضَرُّ بِهِ. وَقَدْ سُئِلَ الدَّاوُدِيُّ1: "هَلْ تَرَى لِمَنْ قَدَرَ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ غُرمِ هَذَا الَّذِي يُسَمَّى بِالْخَرَاجِ إِلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَفْعَلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ وَضَعَهُ السُّلْطَانُ على أهل بدلة وَأَخَذَهُمْ بِمَالٍ مَعْلُومٍ يُؤَدُّونَهُ2 عَلَى أَمْوَالِهِمْ؛ هَلْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَ؟ وَهُوَ إِذَا تَخَلَّصَ أُخِذَ سَائِرُ أَهْلِ الْبَلَدِ بِتَمَامِ مَا جُعِلَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السَّاعِي يَأْخُذُ مِنْ غَنَمِ أَحَدِ الْخُلَطَاءِ شَاةً وَلَيْسَ فِي جَمِيعِهَا3 نِصَابٌ: إِنَّهُ مَظْلَمَةٌ دَخَلَتْ عَلَى مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ، لَا يَرْجِعُ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ عَلَى أَصْحَابِهِ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَلَسْتُ بِآخِذٍ4 فِي هَذَا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا أُسْوَةَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يُولِجَ نَفْسَهُ فِي ظُلْمٍ مَخَافَةَ أَنْ يُوضَعَ الظُّلْمُ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ 5 عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 24] ". هذا ما قال6.   1 في "الأموال" للداودي "ص153": "وقيل له -أي: لأحمد بن نصر وهو الداودي-"، وساق المذكور هنا بحرفه. 2 هكذا وقع في مطبوع "الأموال" و"ط": "يؤدونه"، وفي باقي النسخ: "يردونه". 3 أي: ليس في مجموع غنم الخلطاء شاة، بأن كان المجموع أقل من أربعين، وبذلك صح أنه مظلمة من باب الغصب. "د". 4 في الأصل و"ط": "آخذ". 5 فقد حصر السبيل والمؤاخذة في نفس الظالم، أما غيره؛ فلا سبيل عليه، ولو كلف غير الظالم بمشاركته للمظلوم في حمل بعض ما ظلم فيه يكون السبيل حينئذ على غير الظالم. "د". 6 ونقله صاحب "المعيار المعرب" "5/ 150، 151 و9، 565" أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ نَحْوَ هَذَا عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَطْرَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَطْرَحُهُ عَلَى غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ الْمَطْرُوحُ جَوْرًا بَيِّنًا. وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي "الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ"1 عَنْ جماد2 بْنِ أَبِي أَيُّوبَ؛ قَالَ: قُلْتُ لِحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِنِّي أَتَكَلَّمُ فَتُرْفَعُ عَنِّي النَّوْبَةُ، فَإِذَا رُفِعَتْ عَنِّي وُضِعَتْ عَلَى غَيْرِي. فَقَالَ: إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي نَفْسِكَ، فَإِذَا رُفِعَتْ عَنْكَ؛ فَلَا تُبَالِي عَلَى مَنْ وُضِعَتْ. وَمِنْ ذَلِكَ الرِّشْوَةُ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَإِعْطَاءُ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِينَ وَلِلْكُفَّارِ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى، وَلِمَانِعِي3 الْحَاجِّ حَتَّى يُؤَدُّوا خَرَاجًا، كُلُّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ بِتَمْكِينٍ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ طَلَبُ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِمَوْتِ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ قَتْلِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ، بَلْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "وَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ" 4 الْحَدِيثَ. وَلَازِمُ ذَلِكَ دُخُولُ قَاتِلِهِ النَّارَ، وَقَوْلُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [الْمَائِدَةِ: 29] ، بَلْ الْعُقُوبَاتُ كُلُّهَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ يَلْزَمُ عَنْهَا5 إِضْرَارُ الْغَيْرِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلْغَاءٌ لِجَانِبٍ الْمَفْسَدَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ جَانِبَ الْجَالِبِ والدافع أولى6،   1 "ص21". 2 ضبطه عبد الغني بن سعيد بالجيم في أوله، وكذا في نسخة "ط"، وفي النسخ المطبوعة بالحاء!! 3 في "ط": "ولمانع". 4 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، 1/ 92/ رقم 36"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، 3/ 1495-1496/ رقم 1876" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 5 في الأصل: "عمليها". 6 انظر أمثلة أخرى غير المتقدمة مع تعليق عليها بنحو ما عند المصنف في "الفروق" "2/ 33"، و"تنقيح الفصول" "ص201"، و"الإمام مالك" "415" لأبي زهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا قَبْلُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُشْكِلُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنْ "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 1، وَمَا تَقَدَّمَ وَاقِعٌ فِيهِ الضَّرَرُ؛ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ إِكْرَاهُ صَاحِبِ الطَّعَامِ عَلَى إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، إِمَّا بَعِوَضٍ وَإِمَّا مَجَّانًا، مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ قَهْرًا لما كان إمساكه مؤيدا2 إِلَى إِضْرَارِ الْمُضْطَرِّ، وَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْإِمَامِ الطَّعَامَ مِنْ يَدِ مُحْتَكِرِهِ قَهْرًا؛ لَمَّا صَارَ مَنْعُهُ مُؤَدِّيًا2 لِإِضْرَارِ الْغَيْرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ3. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِضْرَارَ الْغَيْرِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْإِذْنِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ لِمُجَرَّدِ جَلْبِ الْجَالِبِ وَدَفْعِ الدَّافِعِ، وَكَوْنُهُ يَلْزَمُ عَنْهُ إِضْرَارٌ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْإِذْنِ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ تَعَارَضَ4 هُنَالِكَ إِضْرَارَانِ: إِضْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ وَالْمِلْكِ، [وَإِضْرَارُ مَنْ لَا يَدَ لَهُ وَلَا مِلْكَ، وَالْمَعْلُومُ مِنَ الشَّرِيعَةِ تَقْدِيمُ صَاحِبِ الْيَدِ وَالْمِلْكِ] 5، وَلَا يُخَالَفُ فِي هَذَا عِنْدَ المزاحمة على الحقوق، والحاصل أن   1 مضى تخريجه "2/ 72". 2 في الأصل: "مؤيدا لأضرار ... مؤيدا". 3 انظر في هذا: "الحسبة" "ص14-25" لابن تيمية، و"الطرق الحكمية" "286 وما بعدها"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "3/ 8"، "بداية المجتهد" "2/ 138"، و"بدائع الصنائع" "5/ 129"، و"الاختيار" "3/ 116"، و"المنتقى" "5/ 17 للباجي، و"الاعتصام" "2/ 120" للمصنف. 4 في الأصل: "تعرض". 5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 الْإِذْنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِذْنٌ لَمْ يَسْتَلْزِمِ الْإِضْرَارَ، وَكَيْفَ1 وَمِنْ شَأْنِ الشَّارِعِ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ الْإِضْرَارَ أَثِمَ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَا فَعَلَ؛ فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدِ الْإِضْرَارَ، بَلْ عَنِ الْإِضْرَارِ نَهَى، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِصَاحِبِ الْيَدِ وَالْمِلْكِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُضْطَرِّ؛ فَهِيَ شَاهِدٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الطَّعَامِ لَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ حَاجَةً يَضُرُّ بِهِ عَدَمُهَا، وَإِلَّا فَلَوْ فَرَضْتَهُ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ إِكْرَاهُهُ، وَهُوَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ عَلَى الْبَذْلِ مَنْ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ فَافْهَمْهُ، وَأَمَّا الْمُحْتَكِرُ؛ فَإِنَّهُ خَاطِئٌ بِاحْتِكَارِهِ، مُرْتَكِبٌ لِلنَّهْيِ، مُضِرٌّ بِالنَّاسِ؛ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ إِضْرَارَهُ بِالنَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَضِرُّ هُوَ بِهِ. وَأَيْضًا؛ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ، هَذَا كُلُّهُ مَعَ اعْتِبَارِ الْحُظُوظِ. وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهَا؛ فَيُتَصَوَّرُ هُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطُ الِاسْتِبْدَادِ وَالدُّخُولُ فِي الْمُوَاسَاةِ عَلَى سَوَاءٍ، وَهُوَ مَحْمُودٌ جدًا، قد فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ؛ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" 2، وَذَلِكَ أَنَّ مُسْقِطَ الْحَظِّ هُنَا قَدْ رَأَى غَيْرَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ [هُوَ] 3 أَخُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ قَرِيبُهُ أَوْ يَتِيمُهُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّنْ طُلِبَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ نَدْبًا أَوْ وجوبًا.   1 في الأصل: "فكيف". 2 مضى تخريجه "2/ 324"، وهو في "الصحيحين". 3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل فقط، وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَأَنَّهُ1 قَائِمٌ فِي خَلْقِ اللَّهِ بِالْإِصْلَاحِ وَالنَّظَرِ وَالتَّسْدِيدِ؛ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاحْتِجَانِ2 لِنَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، بَلْ مِمَّنْ أُمِرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْأَبَ الشَّفِيقَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُوتِ دُونَ أَوْلَادِهِ؛ فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَ الْأَشْعَرِيُّونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَفِي الشَّفَقَةِ الْأَبَ الْأَكْبَرَ؛ إِذْ كَانَ لَا يَسْتَبِدُّ بِشَيْءٍ دُونَ أُمَّتِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، [قَالَ] : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ -قَالَ- فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشَمَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ". قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ؛ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لأحد منا في فضل3.   1 في الأصل: "وكأنه". 2 الاحتجان: الإصلاح والجمع وضم ما انتشر، والحجنة: ما اختزنت من شيء واختصصت به نفسك، قال الأزهري: "ومن ذلك يقال للرجل إذا اختص بشيء لنفسه: قد احتجنه لنفسه دون أصحابه". انظر: "اللسان" "مادة ح ج ن، 3/ 108، 109". 3 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب اللقطة، باب استحباب المواساة بفضول المال، 3/ 1354/ رقم 1728"، وأبو دود "في السنن" "كتاب الزكاة، باب في حقوق المال، 2/ 125-126/ رقم 1663"، وأحمد في "المسند" "3/ 34"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 182"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 2685" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفي هذا لحديث دليل على أن لولي الأمر أن يجعل التبرع واجبا عند الحاجة، ومثله النهي عن ادخار لحوم الأضاحي والنهي عن كراء الأرض؛ وانظر تفصيلا مستطابا في "القواعد النورانية" "176-177" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "حتى رئينا أنه ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: "إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ"1، وَمَشْرُوعِيَّةُ الزَّكَاةِ وَالْإِقْرَاضِ وَالْعَرِيَّةِ وَالْمِنْحَةِ وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى، وجمعيه جَارٍ عَلَى أَصْلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي اسْتِبْدَادًا2، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يَلْحَقُ الْعَامِلَ ضَرَرٌ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَلْحَقُ الْجَمِيعَ أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يَكُونُ مُوقِعًا عَلَى نَفْسِهِ   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة، 3/ 48-49/ رقم 659، 660"، والدارمي في "السنن" "1/ 385"، والدارقطني في "السنن" "2/ 125"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1328" عن فاطمة بنت قيس. وإسناده ضعيف، فيه أبو حمزة ميمون الأعور، وهو ضعيف. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسناده ليس بذلك. وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح". وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "1/ 107": "وبالجملة؛ فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور، ضعفه الترمذي، وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف، ومن تابعه أضعف منه"، وعزاه لأبي يعلى في "مسنده". قلت: أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" "2/ 789/ رقم 1365"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 156، 191"، وأبو عبيد في "الأموال" "445" عن ابن عمر قوله: "في مالك حق سوى الزكاة"، وإسناده صحيح. وأثر الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 191"، وابن زنجويه في "الأموال" "2/ 792/ رقم 1370"، وابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 212" عنه بإسناد حسن. 2 فالمصنف ينفي صراحة أن يكون الحق سلطة مطلقة أو استبدادا مطلقا بمنافعه وثمراته، وبذلك ينتفي معنى الفردية المطلقة في الحق، ويثبت بما لا يدع مجالا للشك المعنى الاجتماعي في أقوى صوره من التسوية والمشاركة، لا على سبيل الجواز أو الندب، بل وعلى سبيل الوجوب أيضا إذا اقتضى الأمر في ظروف الضرورة والحاجة، وفيما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يصور أنه أسوة في ذلك؛ لأن في درء المفسدة عن الجماعة وجلب المصلحة لهم هو الأصل العام الذي قامت عليه الشريعة، بل هو المسوغ الأكبر لإلقاء مقاليد السلطة العامة بيد ولي الأمر. انظر: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" "ص159". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ضَرَرًا نَاجِزًا. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ أَوْ قَلِيلٌ يَحْتَمِلُهُ فِي دَفْعِ بَعْضِ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ نَظَرُ مَنْ يَعُدُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" 1. وَقَوْلِهِ: "الْمُؤْمِنُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" 2. وَقَوْلِهِ: "الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لنفسه" 3.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 565/ رقم 481، وكتاب المظالم، باب نصر المظلوم، 5/ 99 رقم 2446"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 1999/ رقم 2585" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وكتب "خ" هنا ما نصه: بالاتحاد والتناصر البالغ إلى هذا الحد ارتفعت أعلام الإسلام من أقاصي الشرق إلى منتهى الغرب، وما تقلص ظل عز المسلمين وسيادتهم إلا حين دب التخاذل في جامعتهم؛ حتى أصبحنا نرى فريقًا منهم يدخلون في حساب المسلمين بزيهم وأسمائهم؛ إلا أن قلوبهم هواء كأنها بين أصبعين من أصابع العدو يقلبها كيف يشاء؛ فكانوا كالسهام الصائبة يرمي بهم في نحور أقوامهم وهم لا يشعرون بأنهم يهدمون صروح مجدهم ويلقون بأنفسهم وأبنائهم من بعدهم في عذاب الهون ومعرة الاستعباد" وسقط من "ط": "المرصوص". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6011، ومسلم في "صحيحه "كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، 4/ 2000/ رقم 2586" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 1/ 56-57/ رقم 13"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، 1/ 67-68/ رقم 45" عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب ... "، وفي رواية مسلم: "لأخيه أو قال: لجاره"، وفي بعض الروايات الصحيحة: "من الخير ما يحب لنفسه"، واللفظ الذي أورده المصنف هو لفظ الغزالي في "الإحياء" 2/ 207"، وبضاعته في الحديث مزجاة، كما كان يقول هو عن نفسه، رحمه الله تعالى، ولذا قال ابن السبكي في "طبقاته" "6/ 317" عن الحديث بلفظ المصنف: "لم أجد له إسنادا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وَسَائِرُ مَا فِي الْمَعْنَى مِنَ الْأَحَادِيثِ، إِذْ لَا يَكُونُ شَدُّ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى التَّمَامِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى وَأَسْبَابِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِلَّا إِذَا كَانَ النَّفْعُ وَارِدًا عليهم على السواء، كل واحد بِمَا يَلِيقُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنَ الْجَسَدِ يَأْخُذُ مِنَ الْغِذَاءِ بِمِقْدَارِهِ قِسمة عدل لا يزيد ولا ينقص، فلو أخد بَعْضُ الْأَعْضَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ؛ لَخَرَجَ1 عَنِ اعْتِدَالِهِ، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ الْكِتَابِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَالْأُخُوَّةِ وَتَرْكِ الْفُرْقَةِ، وَهُوَ كَثِيرٌ؛ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا يَرْجِعُ إِلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ أَعْرَقُ فِي إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ حَظَّهُ لِحَظِّ غَيْرِهِ، اعْتِمَادًا عَلَى صِحَّةِ الْيَقِينِ، وَإِصَابَةً لَعِينِ التَّوَكُّلِ، وَتَحَمُّلًا لِلْمَشَقَّةِ فِي عَوْنِ الْأَخِ فِي اللَّهِ عَلَى الْمَحَبَّةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ مِنْ مَحَامِدِ الْأَخْلَاقِ، وَزَكِيَّاتِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ خُلُقِهِ الْمَرْضِيِّ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"2. وَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: "إِنَّكَ تَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى   1 في الأصل: "فخرج". 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، 4/ 116/ رقم 1902" عن ابن عباس؛ قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة". وفي "ط": "خلقه الرضي، فقد كان ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 نَوَائِبِ الْحَقِّ"1، وَحُمِلَ إِلَيْهِ تِسْعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ فَوُضِعَتْ عَلَى حَصِيرٍ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا يُقَسِّمُهَا، فَمَا رَدَّ سَائِلًا حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ؛ فَقَالَ: "مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ؛ قَضَيْنَاهُ". فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْفِقْ وَلَا تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا. فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: "بِهَذَا أُمِرْتُ" 2. ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لغد3. وهذا كثير.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب بدء الوحي، باب منه، 1/ 22/ رقم 22، وكتاب التفسير، باب تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، 8/ 715/ رقم 4953"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بدء الوحي/ رقم 160"، وأحمد في "المسند" "6/ 233" وغيرهم. 2 أخرجه الترمذي في "الشمائل" "رقم 338"- والشاشي في "مسنده"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" "1/ 180/ رقم 88"- والبغوي في "الشمائل" "رقم 367"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" "ص96-97" بسند ضعيف، فيه موسى بن أبي علقمة المديني، وهو مجهول، كما قال ابن حجر في "التقريب". وأخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 101"، وفيه عبد الله بن شبيب، وهو واه ويحيى بن محمد بن حكيم لم أظفر به. وأخرجه البزار في "البحر الزخار" "1/ 396/ رقم 273" وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم الحنيني، ضعيف، وفي طرقها كلها هشام بن سعد، صدوق له أوهام. والحديث ضعيف، وضعفه شيخنا الألباني في "مختصر الشمائل" "رقم 305". 3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، 4/ 580/ رقم 2362"-وقال: "هذا حديث غريب"- و"الشمائل" "رقم 304"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 270، 291/ رقم 6356، 6378 - الإحسان"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 572"، والبغوي في "الشمائل "رقم 361"، و"شرح السنة" "13/ 253/ رقم 3690" والخطيب في "تاريخه" "7/ 98" عن أنس بإسناد حسن على شرط مسلم. وقال ابن كثير في "الشمائل" "ص89-99": "المراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها". قلت: لأنه ثبت في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنتهم. وما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 8] ، وَمَا جَاءَ فِي "الصَّحِيحِ"1 فِي قَوْلِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الْحَشْرِ: 9] ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ2، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي بَاب الْأَسْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ. وَهُوَ ضَرْبَانِ: "إِيثَارٌ بِالْمِلْكِ"3 مِنَ الْمَالِ، وَبِالزَّوْجَةِ بِفِرَاقِهَا لِتَحِلَّ لِلْمُؤْثَرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُؤَاخَاةِ الْمَذْكُورِ فِي "الصَّحِيحِ"4.   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، 18/ 631/ رقم 4889"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إكرم الضيف وفضل إيثاره، 3/ 1624/ رقم 2054" عن أبي هريرة؛ قال: أتى رجل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يا رسول الله! أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله؟ ". فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله؛ فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ". لفظ البخاري. 2 كما تقدم "2/ 323" وتخريجه هناك. 3 في الأصل: "المكلف". 4 تقدم "2/ 325". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وَإِيثَارٌ بِالنَّفْسِ؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَلَّعُ لِيَرَى الْقَوْمَ؛ فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ1، وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّتْ. وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ إِذْ كَانَ فِي غَزْوِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ [اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا، قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَقَدِ] اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عَرِيٍّ وَالسَّيْفُ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "لَنْ تُرَاعُوا" 2، وَهَذَا فِعْلُ مَنْ آثَرَ بِنَفْسِهِ، وَحَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مَبِيتِهِ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَزَمَ الْكُفَّارُ على قتله مشهور3.   1 مضى تخريجه "2/ 174" دون "ووقى بيده رسول الله فشلت"، وهذه الزيادة ثابتة عن طلحة بن عبيد الله، وليس عن أبي طلحة كما قال المصنف، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر طلحة بن عبيد الله "7/ 82/ رقم 3724" بسنده إلى قيس بن أبي حازم؛ قال: "رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شلت". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب الشجاعة في الحرب والجبن، 6/ 35/ رقم 2820، وباب ركوب الفرس العري، 6/ 70/ رقم 2866، وباب الفرس القطوف، 6/ 70، رقم 2867، وباب الحمائل وتعليق السيف بالعنق، 6/ 95/ رقم 2908"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي عليه السلام، وتقدمه للحرب، 4/ 1802-1083/ رقم 2307" عن أنس رضي الله عنه. 3 أخرج ذلك أحمد في "مسنده" "1/ 348 و2/ 279 - الفتح الرباني"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 4"، وابن جرير في "التاريخ" "2/ 372، 373"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص64"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 389"، والطبراني كما في "المجمع" "6/ 52-53"، والبزار في "المسند" "2/ 299-300/ رقم 1741 - زوائده"، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه؛ كما في "فتح القدير" "2/ 304"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 473" بأسانيد وألفاظ مختلفة فيها نحو المذكور عند المصنف مما يشهد أن للقسم المذكور أصلا، والله أعلم. وقد حسن بعض طرقه ابن حجر في "الفتح" "7/ 236"، وابن كثير في "السيرة" "2/ 239"، وفيه نسيج العنكبوت على الغار، وما ذكر عند المصنف فيه له شواهد، والله الموفق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ1: ....................................... ... وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ وَمِنَ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يُعَرِّفُ الْمَحَبَّةَ بِأَنَّهَا الإيثار، ويدل على ذلك قوله امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يُوسُفَ: 51] ؛ فَآثَرَتْهُ بِالْبَرَاءَةِ عَلَى نَفْسِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: "أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْإِيثَارِ بِالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ النَّفْسِ2، بِخِلَافِ الْقُرُبَاتِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا لِلَّهِ". وَهَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ3 عَلَى مَرَاتِبَ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الِاتِّصَافِ بِأَوْصَافِ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ وَالْيَقِينِ التَّامِّ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ جَمِيعَ مَالِهِ4، وَمِنْ عُمَرَ النِّصْفَ5، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ6 وكعب   1 هو عجز بيت لمسلم بن الوليد في "ديوانه" "164" وأوله: يجود بالنفس إذا ضن الجواد بها ... ......................................... وانظر: "ديوان المعاني" "1/ 103-104"، و"الأمثال" "1/ 95" كلاهما للعسكري، و"الفروسية" "ص499- بتحقيقي" لابن القيم. 2 عبارته في "شرح صحيح مسلم" "14/ 12": " ... وحظوظ النفس، أما القربات، فالأفضل أن لا يؤثر بها لأن الحق فيها لله تعالى". 3 وهو الإيثار بالمال. 4، 5 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الزكاة، باب الرخصة في جواز التصرف بجميع المال، 2/ 129/ رقم 1678"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الزكاة، باب في مناقب أبي بكر، 4/ 614-615/ رقم 3675"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والبزار في "البحر الزخار" = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 ابن مَالِكٍ إِلَى الثُّلُثِ1، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". هَذَا مَا قَالَ. وَتَحَصَّلَ أَنَّ الْإِيثَارَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ، فَتَحَمُّلُ الْمَضَرَّةِ اللَّاحِقَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ لَا عَتْبَ فِيهِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنْ أَخَلَّ بِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ؛ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ إِسْقَاطًا لِلْحَظِّ، وَلَا هُوَ مَحْمُودٌ شرعا، أما أنه ليس   = "1/ 394/ رقم 270"، والدارمي في "السنن" "1/ 391" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: أمرنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي؛ فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أبقيت لأهلك؟ ". قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده؛ فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أبقيت لأهلك؟ ". قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا. وأخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائده على فضائل الصحابة" "رقم 527" من طريق آخر ضعيف. 6 حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه أراد أن يتصدق بجميع ماله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيك من ذلك الثلث"، أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 481"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الإيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدق بماله. 3/ 613/ رقم 3320"، وأحمد في "المسند" "3/ 452-453"، والدارمي في "السنن" "1/ 391"، وهو صحيح. 1 ورد ذلك في قصة توبة كعب بن مالك؛ فإنه قال: "قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك". قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر". أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113-116/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769". فالثابت قوله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك" من غير تحديد بالثلث، وقول كعب: "أمسك سهمي الذي بخيبر" لا نعلم هل هو بقدر ثلث ماله أو أكثر من ذلك أو أقل، قاله ابن العربي في "أحكامه" "2/ 1010". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 بِمَحْمُودٍ شَرْعًا؛ فَلِأَنَّ إِسْقَاطَ الْحُظُوظِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ أَمْرِ الْآمِرِ، وَإِمَّا لِأَمْرٍ آخَرَ، أَوْ لِغَيْرِ شَيْءٍ؛ فَكَوْنُهُ لِغَيْرِ شَيْءٍ عَبَثٌ لَا يَقَعُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَكَوْنُهُ لِأَمْرِ الْآمِرِ يُضَادُّ كَوْنَهُ مُخِلًّا بِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرِ الْآمِرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ، وَمُخَالَفَةُ أَمْرِ الْآمِرِ ضِدُّ الْمُوَافَقَةِ لَهُ؛ فَثَبَتَ أَنَّهُ لِأَمْرٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ الْحَظُّ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ الْحَصْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَمِنْهُ يُعْرَفُ حُكْمُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْجَالِبَ أَوِ الدَّافِعَ ضَرَرٌ، وَلَكِنْ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيٌّ عَادَةً؛ فَلَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَاصِدًا لِمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ شَرْعًا، مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ؛ فَهَذَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَائِزٌ لَا مَحْظُورَ فِيهِ. وَنَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِلُزُومِ مَضَرَّةِ الْغَيْرِ لِهَذَا الْعَمَلِ الْمَقْصُودِ، مَعَ عَدَمِ اسْتِضْرَارِهِ بِتَرْكِهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَظِنَّةٌ لِقَصْدِ الْإِضْرَارِ؛ لِأَنَّهُ فِي فِعْلِهِ إِمَّا فَاعِلٌ لِمُبَاحٍ صِرْفٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مَقْصِدٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا حَاجِيٌّ وَلَا تَكْمِيلِيٌّ؛ فَلَا قَصْدَ لِلشَّارِعِ فِي إِيقَاعِهِ مِنْ حَيْثُ يُوقَعُ، وَإِمَّا فَاعِلٌ لِمَأْمُورٍ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْحَقُ بِهِ الضَّرَرُ دُونَ الْآخَرِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ؛ فَتَوَخِّيهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مَعَ1 الْعِلْمِ بِالْمَضَرَّةِ لَا بُدَّ فِيهِ [مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَقْصِيرٌ2 فِي] 3 النَّظَرِ الْمَأْمُورِ به وذلك   1 في "ط": "ومع". 2 وذلك في تقدير أنه فاعل لمأمور به، وقوله: "وإما قصد إلى نفس الإضرار"، وذلك يكون في التقديرين محتملا؛ إلا أنه يقال: إن قصد الإضرار في التقديرين خلاف فرض القسم الخامس، كما صرح به قوله: "فله نظران، نظر ... إلخ"، وكما هو أصل المقسم في أول المسألة حيث قال: "والثاني ألا يقصد إضرارًا ... إلخ"، وقد يجاب بأن قوله: "وأما قصد"؛ أي: مظنة قصد؛ فعومل بهذه المظنة، وإن لم يحصل القصد بالفعل كما صرح به في قوله: "فإنه من هذه الوجه مظنة لقصد ... إلخ"؛ إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "ولا يعد قاصدا له ألبتة" الذي معناه أنه لا يعامل حتى بمظنة القصد، ولعله زيد أنه يعامل معاملة المخطئ في التضمين للمتلف وفي الدية؛ فعليك باستيفاء المبحث. "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 مَمْنُوعٌ، وَإِمَّا قَصْدٌ إِلَى نَفْسِ الْإِضْرَارِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ أَيْضًا؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ فَيُعَدُّ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِ، وَيُضَمَّنُ ضَمَانَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ فِي الضَّمَانِ بِحَسَبِ1 النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ نَازِلَةٍ، وَلَا يُعَدُّ قَاصِدًا لَهُ أَلْبَتَّةَ، إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ قَصْدُهُ لِلتَّعَدِّي، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَجْرِي مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ، وَمَا لَحِقَ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ فِي أَصْلِهَا مَأْذُونٌ فِيهَا وَيَلْزَمُ عَنْهَا إِضْرَارُ الْغَيْرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا2 تَكُونُ الْعِبَادَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً3، وَالْعَمَلُ الأصلي   1 في "خ": "نحسب". 2 أي: لوجود النظرين السالفين، وأن أحدهما جائز لا محظور فيه، ويمكن انفكاكه عن الآخر. "د". 3 نقل بعضهم هنا عن القرافي دعواه أن صحة العبادة وإجزاءها لا تستلزم الثواب عليها وقبولها عند المحققين، وقال: إن الفقهاء قديما وحديثا على خلاف هذه الدعوى. ا. هـ. ولا يخفى عليك أن هذا الموضع ليس محل تحقيق هذا البحث، وإنما محله المسألة الأولى في الصحة والبطلان؛ فليراجع، على أنه تقدم للشاطبي هناك أنه تطلق الصحة بمعنى رجاء حصول الثواب، والبطلان بمعنى عدم رجائه، كما إذا دخل الصلاة رياء أو نحوه؛ فمع كونها لا تقضى لا ثواب عليها كما صرحوا به في الفروح. "د". قلت: مراده "خ" حيث قال: "ادعى القرافي في الفرق الخامس والستين أن القبول غير الإجزاء والصحة؛ فالمجزي عنده ما اجتمعت شروطه وأركانه وانتفت موانعه، ولا يقتضي سوى براءة الذمة، أما الثواب عليه الذي هو معنى القبول؛ فعزا إلى المحققين عدم لزومه، وقد تصدى الفقهاء قديما وحديثا لإبطال هذه الدعوى، وقرروا أن العبادة الواقعة على الوجه المشروع من استيفاء الشروط والأركان تكون صحيحة مجزئة، ويترتب على ذلك قبولها واستحقاق الثواب عليها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 صَحِيحًا، وَيَكُونُ عَاصِيًا بِالطَّرَفِ الْآخَرِ، وَضَامِنًا إِنْ كَانَ ثَمَّ ضَمَانٌ، وَلَا تَضَادَّ فِي الْأَحْكَامِ لِتَعَدُّدِ جِهَاتِهَا، وَمَنْ قَالَ هُنَالِكَ بِالْفَسَادِ يَقُولُ بِهِ هُنَا، وَلَهُ فِي النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ مَجَالٌ رَحْبٌ يَرْجِعُ ضَابِطُهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى1، هَذَا مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ إِسْقَاطِهَا لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ عَمَلٍ هَذَا شَأْنُهُ أَلْبَتَّةَ. وَأَمَّا السَّادِسُ: وَهُوَ مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا؛ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِذْنِ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً؛ فَلَا اعْتِبَارَ بِالنُّدُورِ فِي انْخِرَامِهَا، إِذْ لَا تُوجَدُ فِي الْعَادَةِ مَصْلَحَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْمَفْسَدَةِ جُمْلَةً؛ إِلَّا أَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا اعْتَبَرَ فِي مَجَارِي الشَّرْعِ غَلَبَةَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ نَدُورَ الْمَفْسَدَةِ إِجْرَاءً لِلشَّرْعِيَّاتِ مَجْرَى الْعَادِيَّاتِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا يُعَدُّ هُنَا قَصْدُ الْقَاصِدِ إِلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ -مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِنُدُورِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ- تَقْصِيرًا فِي النَّظَرِ، وَلَا قَصْدًا إِلَى وُقُوعِ الضَّرَرِ، فَالْعَمَلُ إِذًا بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ضَوَابِطَ الْمَشْرُوعَاتِ هَكَذَا وَجَدْنَاهَا؛ كَالْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ، مَعَ إِمْكَانِ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، وَإِبَاحَةِ الْقَصْرِ فِي الْمَسَافَةِ الْمَحْدُودَةِ، مَعَ إِمْكَانِ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ كَالْمَلِكِ الْمُتَرَفِّهِ، وَمَنْعِهِ فِي الْحَضَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَوِي الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ2، وَكَذَلِكَ إِعْمَالُ الخير الواحد3.   1 الذي هو النظر الثاني، وهو علمه بالضرر ومظنة أن يقصده، وهو من هذا الوجه ممنوع، والفعل مخالف مناقض لقصد الشارع وما ناقض الشريعة باطل. "د". 2 أي: فلما كان أصحابه الذين اعتادوها يندر أن تحصل لهم المشقة الخارجة عن العادة في هذه الصنعة كما تقدم في بيان المشقة المعتادة وغير المعتادة؛ لم يعتبر هذا النادر. "د". 3 أي: في الجزئيات، كما قيد به في الأقيسة؛ كالعمل برواية فلان وهي تحتمل الخطأ والكذب ... إلخ، وكقياس النباش على السارق مثلا، وهو قياس جزئي عمل به مع احتماله الخطأ من وجوه عدة تعرف من مبحث الاعتراضات على الأقيسة التي تتجاوز خمسة وعشرين، وقيد الجزئيات ضروري فيهما؛ لأن التعبد بأصل القياس، وكذا برواية الآحاد من الأصول القطيعة في الدين، كما سبق له إشارة إلى ذلك. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وَالْأَقْيِسَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ، مَعَ إِمْكَانِ إِخْلَافِهَا وَالْخَطَأِ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ؛ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَاعْتُبِرَتِ الْمَصْلَحَةُ الْغَالِبَةُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا السَّابِعُ: وَهُوَ مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ ظَنِّيًّا؛ فَيَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، أَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ وَالْإِذْنُ؛ فَظَاهِرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّادِسِ، وَأَمَّا أَنَّ الضَّرَرَ وَالْمَفْسَدَةَ تَلْحَقُ ظَنًّا؛ فَهَلْ يَجْرِي الظَّنُّ مَجْرَى الْعِلْمِ فَيُمْنَعُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ1، أَمْ لَا لِجَوَازِ تَخَلُّفِهِمَا؟ وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ نَادِرًا، وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ الظَّنِّ هُوَ الْأَرْجَحُ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّنَّ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِيَّاتِ جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ؛ فَالظَّاهِرُ جَرَيَانُهُ هُنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ دَاخِلٌ2 فِي هَذَا الْقِسْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ   1 أي: في الوجه الخامس، وهما التقصير في النظر إلى المأمور به، وقصد نفس الإضرار، وقوله: "لجواز تخلفهما" إبداء فرق بيه وبين الخامس الذي قيل فيه: إن أداءه للمفسدة قطعي عادة. "د". 2 ظاهره أنه نوع منه؛ فلا يتم به الاستلال عليه بتمامه، ولكن بالتأمل يرى أن هذا القسم كله ذريعة إلى ما يظن جلبه مفسدة، ولعل غرضه أن ما نص عليه بالفعل من جزئياته في الآيات والأحاديث داخل فيه؛ فتكون بقية جزئياته محمولة عليه قياسا؛ فيتم الدليل، ويظهر قوله "داخل في هذا القسم". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 108] ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَسُبَّنَّ إِلَهَكَ. فَنَزَلَتْ1. وَفِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ" 2. وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى قَوْلِ الْكُفَّارِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ3. وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] مَعَ قَصْدِهِمُ الْحَسَنِ، لِاتِّخَاذِ الْيَهُودِ لَهَا ذَرِيعَةً إلى شمته عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ4، وَقَدْ أُلْبِسَ حُكْمُ مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ الظَّنَّ بِالْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ لا يقوم مقام القصد إليه؛   1 أخرجه عبد الرازق في "التفسير" "2/ 215" عن معمر عن قتادة بنحوه، وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في عقوق الوالدين، رقم 1903"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، رقم 5141"، وغيرهم. 3 مضى تخريجه "2/ 467"، وهو في "صحيح البخاري". 4 من إذن أو خلافه كما في مسألة السب المذكورة في الحديث، فإن أصله بدون المتذرع إليه ممنوع، فحكم الأصل المنع، والذريعة كذلك، بخلاف بقية الأمثلة؛ فإن الأصل مأذون فيه، ولكنه أخذ حكم ما ترتب عليه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 فَالْأَصْلُ الْجَوَازُ مِنَ الْجَلْبِ أَوِ الدَّفْعِ، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَنِ اللَّوَازِمِ الْخَارِجِيَّةِ1؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ تُسَبِّبُ مَفْسَدَةً مِنْ بَابِ الْحِيَلِ أَوْ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ؛ مُنِعَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمُتَسَبِّبَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، فَإِنْ حُمِلَ محمل المتعدي2؛ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَظِنَّةٌ [لِلْقَصْدِ أَوْ مَظِنَّةٌ] لِلتَّقْصِيرِ3، وَهُوَ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْقِسْمِ الْخَامِسِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ؛ هَلْ تَقُومُ مَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَمْ لَا؟ هَذَا نَظَرُ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَأَمَّا نَظَرُ إِسْقَاطِهَا؛ فَأَصْحَابُهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِثْلُهُمْ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ السَّادِسِ؛ فَإِنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ عَادَةً. وَأَمَّا الثَّامِنُ: وَهُوَ مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَا غَالِبًا وَلَا نَادِرًا؛ فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ صِحَّةِ الْإِذْنِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ مُنْتَفِيَانِ؛ إِذْ لَيْسَ هُنَا إِلَّا احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ وَلَا قَرِينَةَ4 تُرَجِّحُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَاحْتِمَالُ الْقَصْدِ لِلْمَفْسَدَةِ وَالْإِضْرَارِ لَا يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ وَلَا يَقْتَضِيهِ، لِوُجُودِ الْعَوَارِضِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً أَوْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ هُنَا مُقَصِّرًا وَلَا قَاصِدًا كَمَا فِي الْعِلْمِ وَالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِمَا5 أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالتَّسَبُّبُ الْمَأْذُونُ فِيهِ قَوِيٌّ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا اعْتَبَرَهُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ بِنَاءً عَلَى كَثْرَةِ الْقَصْدِ وُقُوعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، لَكِنْ لَهُ مَجَالٌ6 هُنَا وَهُوَ كَثْرَةُ الوقوع في   1 أي: واقعات الضرر المادية التي تلزم عن الأفعال المشروعة. 2 كذا في "ط" وفي غيره: "التعدي". 3 العبارة في الأصل: "فوق جهة أنه مظنة للقصد أو هو" 4 في "ط": "ولا مزية". 5 أي: إلى المفسدة كالمعصية مثلا، وإن لم يتضرر بها أحد، والإضرار أي للغير. "د". 6 في الأصل: "لكنه مجال". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 الْوُجُودِ أَوْ هُوَ مَظِنَّةُ1 ذَلِكَ؛ فَكَمَا اعْتُبِرَتِ الْمَظِنَّةُ2 وَإِنْ صَحَّ التَّخَلُّفُ؛ كَذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْكَثْرَةُ لِأَنَّهَا مَجَالُ الْقَصْدِ، وَلِهَذَا أَصْلٌ وَهُوَ حَدِيثُ3 أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ يُشْرَعُ الْحُكْمُ لِعِلَّةٍ مَعَ كَوْنِ فَوَاتِهَا كَثِيرًا؛ كَحَدِّ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَالِازْدِجَارُ بِهِ كَثِيرٌ لَا غَالِبٌ4 فَاعْتَبَرْنَا5 الْكَثْرَةَ فِي الْحُكْمِ بِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ فَالْأَصْلُ عِصْمَةُ الْإِنْسَانِ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِ وَإِيلَامِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي مَسْأَلَتِنَا الْإِذْنُ، فَخَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ هنالك لحكمة الزجر، وخروج عن   1 توسع زائد عما بني عليه الثامن، وهو كثرة الوقوع؛ فقد اعتبر في هذا مظنة الكثرة أيضا وإن لم تعرف الكثرة بالفعل. "د". قلت: ولا تعدو أن تكون "الأكثرية" قرينة جريا على اعتبار الشارع لها فيما ضرب المصنف فيما بعد من تطبيقات، واكتفى فيها بمظنة القصد لا بمئنة أو بحقيقة القصد، وهذا أدنى إلى أخذ الحيطة في مراعاة مقاصد الشريعة، وتحقيق مصالح العباد. 2 أي: في السابع، وقوله: "لأنه مجال للقصد: تعليل غير واضح، لم يدفع حجة الأولين بأنه لا يعدو أن يكون احتمالا لا يبلغ علما ولا ظنا. "د". قلت: والواقع أن عدم الوضوح آت من تأصيله على فكرة التعدي، أما لو أقيم على ضابط آخر من الموازنة للنتائج الواقعية؛ لكان أبين. انظر: "نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص69". 3 هو حديث أم يونس، قالت ما معناه أنها بعات أم ولد زيد جارية له بثمانمائة درهم إلى العطاء، وشرطت عليه أنه إذا باعها لا يبيعها إلا لها ثم اشترتها منه قبل الأجل بستمائة، فاستفتت عائشة؛ فقالت: بئس ما شريت -أي: لوجود الشرط الذي يخالف عقد البيع من أنه لا يبيعها إلا بها- وبئسما اشتريت ... إلخ، وبالغت في الزجر عن هذا، أي: فكثيرا ما يكون القصد من هذا البيع التوصل إلى دفع قليل كالستمائة في كثير هو الثمانمائة، وتوسط الجارية حيلة، والأجل له فرق المائتين، فهذا كثير أن يقصد ولكنه ليس غالبا، هذا غرضه، ولكن ذلك بحسب زمانهم، أما اليوم؛ فإنه الغالب في القصد قطعا. "د". قلت: وقد مضى تخريج أثر عائشة "1/ 456". 4 قد لا يسلم. "د". 5 في "ط": "فاعتبرت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الْأَصْلِ هُنَا مِنَ الْإِبَاحَةِ، لِحِكْمَةِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ إِلَى الْمَمْنُوعِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ [هَذَا] الْقِسْمَ مُشَارِكٌ لِمَا قَبْلَهُ فِي وُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ بِكَثْرَةٍ1، فَكَمَا اعْتُبِرَتْ فِي الْمَنْعِ [هُنَاكَ؛ فَلْتُعْتَبَرْ] 2 هُنَا كَذَلِكَ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنَ النُّصُوصِ كَثِيرٌ؛ فَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ3. وَعَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ4 بَعْدَ ثَلَاثٍ5.   1 مجرد الاشتراك في التعبير عنه بلفظ: "كثرة" لا يفيد في الاشتراك في الحكم بعد ثبوت الفرق بأن هذا مجرد احتمال، وأما ذلك؛ ففيه ظن حصول المضرة أو المفسدة؛ فهذا يشبه المغالطة في الاستدلال. "د". وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. 3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر". وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا، 10/ 67/ رقم 5601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، 3/ 1574"، عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر". 4 ينظر في جعل هذا من الكثير لا الغالب؛ فالظاهر أن تأديته لمفسدة الإسكار غالبة لا سيما في البلاد الحارة، بل وبعد اثنين فيها، ومن هذا يعلم أن قوله بعد "ووقوع المفسدة ... إلخ". في حيز المنع. "د". 5 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا، 3/ 1589/ رقم 2004 بعد 82" عن ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء، فيشربه يومه والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه؛ فإن فضل شيء أهراقه". وانظر "فتح الباري" "10/ 56-57، باب الانتباذ في الأوعية والتور". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وَعَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِتَخْمِيرِ النَّبِيذِ فِيهَا1. وَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً؛ فَقَالَ: "لَوْ رَخَّصْتُ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنَّ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ" 2، يَعْنِي: أَنَّ النفوس   1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل، 10/ 41/ رقم 5587"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرا، 3/ 1557"، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نتنبذوا في الدباء ولا في المزفت"، وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير، لفظ البخاري. وانظر الحديث الآتي. 2 أخرج النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب الإذن في الانتباذ، 8/ 309" بسند صحيح على شرط الشيخين عن أبي هريرة؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس حين قدموا عليه عن الدباء، وعن النقير وعن المزفت والمزاد والمجبوبة، وقال: "انتبذ في سقائك أوكه واشربه حلوا. قال بعضهم: ائذن لي يا رسول الله في مثل هذا. قال: "إذًا، نجعلها مثل هذه"، وأشار بيده يصف ذلك. وأصله في "صحيح مسلم" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت، 3/ 1577-1578/ رقم 1993" دون ذكر الإشارة. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 226-227" بألفاظ في بعضها: "فقال له رجل: أتأذن لي في مثل هذه؟ وأشار بيده وفرج بينهما؛ فقال: "إذًا، تجعلها مثل هذه" وأشار بيديه أكثر من ذلك. وأخرجه ابن حبان في "الصحيح" "12/ 222-223/ رقم 5401 - الإحسان"، وفي آخره: "فقال رجل: يا رسول الله! ائذن لي في مثل هذه -وأشار النضر بن شميل "أحد رواته" بكفه-. فقالك: "إذًا، تجعلها مثل هذه". وأشار النضر بباعه، قال ابن حبان عقبه: "قول السائل: "ائذن لي في مثل هذا" أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدباء والحنتم وما أشبهها؛ فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن يتعدى ذلك باعا، فيرتقي إلى المسكر فيشربه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 لَا تَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمُبَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَوُقُوعُ الْمَفْسَدَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَتْ بِغَالِبَةٍ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَثُرَ وُقُوعُهَا. وَحَرَّمَ1 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَأَنْ تُسَافِرَ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ2. وَنَهَى عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ3، وَعَنِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا4.   1 بالتأمل في هذه الأمثلة التي ذكرها يعلم أن بعضها مقطوع فيه بحصول المفسدة قطعا عاديا كقطع الرحم في مسالة الجمع، وبعضها مظنون كسفر المرأة مع غير ذي محرم، وكالخلوة بالأجنبية، وليس بلازم في المفسدة خصوص الزنا، بل يكفي في التحريم ما يكون من مقدماته، وهو مظنون في غالب الناس فيطرد الباب، وكالبيع والسلف؛ فالغالب فيه المفسدة، ومثله هدية المديان، وعليك بالنظر في الباقي؛ فقد يسلم في مثل الطيب للمحرم؛ فالغالب أن مجرده لا يكون سببا في إفساد الحج بالنكاح. "د". 2 ورد في ذلك عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من اكتتب في جيش المسلمين، 6/ 142-143/ رقم 3006، وكتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، 9/ 330-331/ رقم 5233"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، 2/ 978/ رقم 1341" عن ابن عباس مرفوعا: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" لفظ مسلم. 3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377-378/ رقم 532" ضمن حديث جندب بن عبد الله البجلي مرفوعا: " ... وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وأخرج البخاري في "صحيح" "كتاب الصلاة، باب منه، 1/ 532/ رقم 435، 436، وكتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، 3/ 200/ رقم 1330، وباب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، 3/ 255/ رقم 1390، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 6/ 494-495/ رقم 3453، 3454، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 140/ رقم 4441، 4443، 4444، وكتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، 10/ 277 / رقم 5815، 5816"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377/ رقم 531" عن عائشة وابن عباس رفعاه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر مما صنعوا". 4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائر، باب النهي عن الجلوس إلى القبر والصلاة عليه، 2/ 668/ رقم 972" عن أبي مرثد الغنوي مرفوعا: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وَعَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وقال: "إنكم إذا فعلتهم ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ" 1. وَحَرَّمَ نِكَاحَ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] . وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها2.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160، رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب الجمع بين المرأة وعمتها، 6/ 96"، وأحمد في "المسند" "2/ 465"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 165" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنهم. والحديث متواتر؛ فإنه يروى عن جمع كبير من الصحابة، انظر: السنن الكبرى" "7/ 166"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 134". 2 وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 234-235] . قال ابن عطية في "تفسيره" "1/ 315": "وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وجوزوا ما عدا ذلك". قلت: وما بين المعقوفتين بعدها من "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 و [حرم] 1 عَلَى الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ وَسَائِرَ دَوَاعِي النِّكَاحِ2، وَكَذَلِكَ الطِّيبُ وَعَقْدُ النِّكَاحِ للمحرم3.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"خ" و"ط". 2 وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا؛ إلا إذا طهرت، نبذة من قسط أو أظفار". أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، 2/ 1127/ رقم 938"، عن أم عطية رضي الله عنها. و"القسط" و"الأظفار" نوعان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للتطيب، و"النبذة": القطعة والشيء اليسير. 3 وذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 9/ رقم 4985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، 2/ 837/ رقم 1180" عن عطاء أن صفوان بن يعلى ابن أمية أخبره أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه. قال: فلما كان بالجعرانة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به، معه ناس من أصحابه منهم عمر؛ إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخا بطيب؛ فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت فجاءه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه؛ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سري عنه فقال: أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ فالتمس الرجل فأتي به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك؛ فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة؛ فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك". ومنها ما أخرجه مسلم في "صحيحه "كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، 2/ 1030/ رقم 1409" عن عثمان بن عفان مرفوعا: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكَح ولا يَخْطُب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وَنَهَى عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ1. وَعَنْ هَدِيَّةِ الْمِدْيَانِ2. وَعَنْ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ3. وَعَنْ تَقَدُّمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ4. وَحَرَّمَ صَوْمَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ5، وَنَدَبَ إِلَى تَعْجِيلِ الْفِطْرِ6 وَتَأْخِيرِ السحور7.   1 مضى تخريجه "1/ 469". 2 سيأتي تخريجه "ص117"، وهو ضعيف. 3 مضى تخريجه "2/ 521". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم"، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام"، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه". 5 سيأتي تخريجه "ص469". 6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعا: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". 7 أخرج أحمد في "المسند" "5/ 147" عن أبي ذر مرفوعا: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور"، وإسناده ضعيف، فيه سلميان بن أبي عثمان مجهول، وابن لهيعة، ويدل على استحباب تأخير السحور أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب قدركم بين السحور وصلاة الفجر، 4/ 138/ رقم 1921"، عن زيد بن ثابت؛ قال: "تسحرنا مع النبي صلى لله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت "أنس بن مالك": كم بين الأذان والسحور؟ قال: "قدر خمسين آية". وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ذَرِيعَةٌ، وَفِي الْقَصْدِ إِلَى الْإِضْرَارِ وَالْمَفْسَدَةِ فِيهِ كَثْرَةٌ، وَلَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا أَكْثَرِيٍّ1، وَالشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ، وَالتَّحَرُّزِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا إِلَى مَفْسَدَةٍ2، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ؛ فَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ بِبِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهَا، رَاجِعٌ إِلَى مَا هُوَ مُكَمِّلٌ؛ إِمَّا لِضَرُورِيٍّ، أَوْ حَاجِيٍّ، أَوْ تَحْسِينِيٍّ، وَلَعَلَّهُ يُقَرَّرُ فِي كتاب الاجتهاد إن شاء الله.   1 قد يكون الشيء أكثر في الوقوع من مقابله، ولكنه لا يصل إلى أن يكون هو الغالب ومقابله نادر. "د". 2 وقع بعض الفقهاء عند إجراء قاعدة الذرائع في أغلاط فادحة كتصريح بعضهم بالمنع من تعلم الطبيعيات بناء على أنها تفسد الاعتقاد بالخالق وتجر إلى هاوية الإلحاد غالبا، ولم ينظر إلى أن تعلمها قد أصبح الوسيلة الضرورية للنجاة من السلطة القاتلة وهي سلطة الاستعمار، ثم إن المفسدة التي تنشأ عنها وهي تزلزل العقيدة يمكن التقصي عنها بتعليم أصول الدين على الطريق المحكم، والوجه الذي يتجلى به أن الشريعة والعلم الصحيح على وفاق متين. "خ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كُلُّ مَنْ كُلِّفَ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ؛ فَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ مَعَ الِاخْتِيَارِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَصَالِحَ؛ إِمَّا دِينِيَّةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ، أَمَّا الدِّينِيَّةُ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَى قِيَامِ الْغَيْرِ مَقَامَهُ فِيهَا حَسَبَمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِيهَا؛ إِذْ لَا يَنُوبُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا؛ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنِ الْغَيْرِ بحكم التعيين؛ فلم يكن غيره ملكفًا بِهَا أَصْلًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُكَلَّفًا بِهَا أَيْضًا؛ لَمَا كَانَتْ مُتَعَيَّنَةً عَلَى هَذَا الْمُكَلَّفِ، وَلَا كَانَ مَطْلُوبًا بِهَا أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَرْءُ الْمَفْسَدَةِ، وقد قام بها الغير بحك التَّكْلِيفِ؛ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ مُكَلَّفًا بها، وقد فرضناه مكلفًا بها إلى التَّعْيِينِ، هَذَا خُلْفٌ لَا يَصِحُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُكَلَّفًا بِهَا؛ فَإِمَّا عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى التَّعْيِينِ فَكَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ؛ فَالْفَرْضُ أَنَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَيْنًا لَا كِفَايَةً، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا2، غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ عَيْنًا3 في حالة واحدة، وهو محال.   1 يأتي له محترزه في قوله: "اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَلْحَقَهُ ضَرُورَةٌ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ذلك ... إلخ"، وفي الحقيقة هذا القيد مستغنًى عنه؛ لأنه لا يتحقق التكليف بمصالح نفسه إلا مع اختيار؛ فلم يفد أمرًا زائدًا على ما تضمنه التكليف؛ لأنه أحد شروطه. "د". 2 بالفرض الأصلي. "د". 3 بفرض أن الغير مكلف به كفاية، الذي يلزمه أن الشخص نفسه يكون أيضا مكلفًا به كفاية؛ لأنه لا يتأتى أن يكون الشيء الواحد يكلف به البعض كفاية والبعض كفايةً وعينًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَلْحَقَهُ ضَرُورَةٌ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ سَاقِطٌ عَنْهُ التَّكْلِيفُ بِتِلْكَ الْمَصَالِحِ أَوْ بِبَعْضِهَا مَعَ اضْطِرَارِهِ إِلَيْهَا؛ فَيَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ الْقِيَامُ بِهَا، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِقْرَاضُ، وَالتَّعَاوُنُ، وَغَسْلُ الْمَوْتَى وَدَفْنُهُمْ، وَالْقِيَامُ عَلَى الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهَا عَلَى اسْتِجْلَابِهَا، وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْفَاعِهَا؛ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ كُلُّ مَنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ؛ فَعَلَى غَيْرِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ، بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ ذَلِكَ الْغَيْرَ ضَرَرٌ؛ فَالْعَبْدُ لَمَّا اسْتَغْرَقَتْ مَنَافِعُهُ مَصَالِحَ سَيِّدِهِ؛ كَانَ سَيِّدُهُ مَطْلُوبًا بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ؛ وَالزَّوْجَةُ كَذَلِكَ صَيَّرَهَا الشَّارِعُ [لِلزَّوْجِ] 1 كَالْأَسِيرِ تَحْتَ يَدِهِ؛ فَهُوَ قَدْ مَلَكَ مَنَافِعَهَا الْبَاطِنَةَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالظَّاهِرَةَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ عَلَى وَلَدِهِ وَبَيْتِهِ؛ فَكَانَ مُكَلَّفًا بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية2 [النساء: 34] .   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 لأنه يدخل في قوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} نفقات الزوجة غير المهر كما هو أحد التفسيرين، ولذلك إذا عجز عن النفقة زالت عنه صفة القيامة على الزوجة فكان من حقها أن تطالبه بطلاقها كما هو مذهب مالك والشافعي. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: كُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَصَالِحِ غَيْرِهِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْدِرَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ أَوْ لَا "أَعْنِي الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا"، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ؛ فَلَيْسَ عَلَى الْغَيْرِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ؛ فَالْمَصَالِحُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ هَذَا الْمُكَلَّفِ، فَطَلَبُ تَحْصِيلِهَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَيْضًا؛ فَمَا تَقَدَّمَ1 فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا جارٍ هُنَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ السَّيِّدُ، وَالزَّوْجُ، وَالْوَالِدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمَةِ أَوِ الْعَبْدِ، وَالزَّوْجَةُ، وَالْأَوْلَادُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ مَنْ تَحْتَ حُكْمِهِ؛ لَمْ يُطْلَبْ غَيْرُهُ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ وَلَا كُلِّفَ بِهِ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مَصَالِحِ غَيْرِهِ؛ سَقَطَ عَنْهُ الطَّلَبُ بِهَا، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى2 لَا تَقْدَحُ في هذا التقدير. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، أَوْ قَدَرَ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي إِسْقَاطِ التَّكْلِيفِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْمَصَالِحُ الْمُتَعَلِّقَةُ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ خَاصَّةً أَوْ عَامَّةً، فَإِنْ كانت خاصة سقطت، وكانت مصالحه هي المتقدمة؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ شَرْعًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ، مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ جارٍ هُنَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، إِلَّا إِذَا أَسْقَطَ حَظَّهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ آخر قد تبين أيضا.   1 أي: من الأدلة الثلاثة، كما أن هذا الدليل جار في تلك المسألة أيضا بتغيير بسيط في المقدمة الأولى، فيقال: "إذا كان قادرا على مصالح نفسه وقد وقع عليه التكليف بذلك ... إلخ". "د". 2 كأن يحكم بالفراق للزوجة للعسر بالنفقة، ويجري في الرقيق حكمه أيضا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ عَامَّةً؛ فَعَلَى مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِمُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يَقُومُوا بِمَصَالِحِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَخِلُّ بِأَصْلِ مَصَالِحِهِمْ، وَلَا يُوقِعْهُمْ فِي مَفْسَدَةٍ تُسَاوِي تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ لِلْمُكَلَّفِ: لَا بُدَّ لَكَ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَخُصُّكَ وَمَا يَعُمُّ غَيْرَكَ، أَوْ بِمَا يَخُصُّكَ فَقَطْ، أَوْ بم يَعُمُّ غَيْرَكَ فَقَطْ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصْحُّ؛ فَإِنَّا قَدْ فَرَضْنَاهُ مِمَّا لَا يُطَاقُ، أَوْ مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ تُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ بِهِمَا مَعًا أَصْلًا. وَالثَّانِي أَيْضًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا؛ إِلَّا إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهَا مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إِلَّا بِمَا يَخُصُّهُ عَلَى تَنَازُعٍ1 فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا قِيَامُ الْغَيْرِ بِمَصْلَحَتِهِ الخاصة؛ فذلك واجب عليهم، وإلا2 فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا قِيَامُ الْغَيْرِ بِمَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ؛ فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا2؛ لَزِمَ تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ بِإِطْلَاقٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ3، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَعَيَّنَ عَلَى هَذَا الْمُكَلَّفِ التَّجَرُّدُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمَفْرُوضَةِ. فَصْلٌ: إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ مُتَعَيَّنٌ عَلَى مَنْ كُلِّفَ بِهِ عَلَى أَنْ يَقُومَ الْغَيْرُ بِمَصَالِحِهِ؛ فَالشَّرْطُ فِي قِيَامِهِمْ بِمَصَالِحِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ جِهَةٍ لَا تُخِلُّ بِمَصَالِحِهِمْ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهَا أيضا ضرر.   1 أي: كما تقدم نظيره في مسألة الترس، وإن كان موضوعها فيما لا يمكن أن يقوم بالمصلحة غيره. "د". 2 أي: وإلا نقل أنه لا يصح، بل قلنا إنه يقدم المصلحة الخاصة ولو لم يدخل عليه مفسدة في القيام بالعامة، لزم تقديم الخاصة على العامة بإطلاق وبدون القيد المذكور وهو باطل. "د". 3 التي هي النهي عن تلقي السلع، والاتفاق على تضمين الصناع، إلى غير ذلك. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وَقَدْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ إِذْ جَعَلَ الشَّرْعُ فِي الْأَمْوَالِ مَا يَكُونُ مُرْصَدًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَكُونُ فِيهِ حَقٌّ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَّا لِمُطْلَقِ الْمَصَالِحِ كَيْفَ اتَّفَقَتْ، وَهُوَ "مَالُ بَيْتِ الْمَالِ"؛ فَيَتَعَيَّنُ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ هَذَا الْمُكَلَّفِ ذَلِكَ الْوَجْهُ بِعَيْنِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ الْأَوْقَافِ مَخْصُوصًا بِمِثْلِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ فَيَحْصُلُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الطَّرَفَيْنِ؛ إِذْ لَوْ فُرِضَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْقَائِمِ، وَضَرَرٌ عَلَى الْمُقُومِ لَهُمْ. أَمَّا مَضَرَّةُ الْقَائِمِ؛ فَمِنْ جِهَةِ لِحَاقِ الْمِنَّةِ مِنَ الْقَائِمِينِ إِذَا تَعَيَّنُوا فِي الْقِيَامِ بِأَعْيَانِ الْمَصَالِحِ، وَالْمِنَنُ يَأْبَاهَا أَرْبَابُ الْعُقُولِ الْآخِذُونَ بِمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ شَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ وَانْعِقَادِهَا الْقَبُولَ1، وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: إِذَا وُهِبَ الْمَاءُ لِعَادِمِ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَجَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [الْبَقَرَةِ: 264] ؛ فَجَعَلَ الْمَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ، وَمَا ذَاكَ2 إِلَّا لِمَا فِي الْمَنِّ مِنْ إِيذَاءِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي كُلِّ مَا فُرِضَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، هَذَا وَجْهٌ، وَوَجْهٌ ثَانٍ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الظُّنُونِ الْمُتَطَرِّقَةِ، وَالتُّهْمَةِ اللَّاحِقَةِ3 عِنْدَ الْقَبُولِ مِنَ الْمُعَيَّنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بِاتِّفَاقٍ لِلْقَاضِي وَلَا لِسَائِرِ الْحُكَّامِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ   1 ينقسم التصرف في الأملاك بغير عوض إلى نقل وإسقاط، فما كان من باب النقل كالهبات والواصايا يتوقف على القبول لما فيه من المنعة، وهي مما يصعب على أرباب المروءات احتماله، ولا سيما من أصحاب الأخلاق السافلة، وأما ما كان من باب الإسقاط كالعتق؛ فلا يفتقر إلى قبول؛ لأن الحق فيه لمسقطه، فإذا أسقطه سقط، وقد يقع في بعض المسائل اختلاف فيلحقها بعض العلماء بالنقل ويحلقها آخر بالإسقاط كما جرى الخلاف في الإبراء من الدين؛ هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ والراجح أنه من قبيل تمليك ما في الذمة فيفتقر في نفاذه إلى قبول الدين. "خ". 2 في "ط": "ذلك". 3 في "ط": "اللاصقة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 الْخَصْمَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا أُجْرَةً عَلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، [وَامْتُنِعَ قَبُولُ هَدَايَا النَّاسِ لِلْعُمَّالِ] 1، وَجَعَلَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام مِنَ الْغُلُولِ2 الَّذِي هُوَ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَأَمَّا مَضَرَّةُ الدَّافِعِ؛ فَمِنْ جِهَةِ كُلْفَةِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ عِنْدَ التَّعْيِينِ، وَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَلَا ضَابِطَ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا تَصِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّفِ لَهَا أُخَيَّةَ الْجِزْيَةِ، الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ مَشْرُوعٌ إِذَا كَانَتْ مُوَظَّفَةً عَلَى الرِّقَابِ أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ، هَذَا إِلَى مَا يَلْحَقُ فِي ذَلِكَ مِنْ مُضَادَّةِ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي طُلِبَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهَا؛ إِذْ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَيْلِ لِجِهَةِ الْمُبَالِغِ فِي الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ، فَيَكُونُ سَبَبًا فِي إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَجَلِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَفْيُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشُّعَرَاءِ: 109] . {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47] . {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] . إِلَى سَائِرِ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَبِالْوَجْهِ الْآخَرِ3 عُلِّلَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   1 ما بين المعقوفتين سقط من نسخة "ماء/ ص236". 2 كما سيأتي "ص118"، وتخرجيه هناك. 3 وهو كونه ذريعة إلى الميل ... إلخ، وقد تقدم في كلامه تعليل آخر لهذا وهو ما يلحقه من الظنون والتهم، فيكون فيه ضرر على القائم والمقوم لهم معا، وقد يقال: إن الإجماع علته هذه الذريعة فقط كما يظهر من كلامه، والأول لا يقتضي هذا الإجماع؛ إلا أن يقال: ضمه إليه يقوي سند الإجماع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 فَصْلٌ: هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ إِذَا قَامَ بِهَا لَحِقَهُ ضَرَرٌ وَمَفْسَدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ اللَّاحِقَةُ لَهُ دُنْيَوِيَّةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ؛ فَهِيَ مَسْأَلَةُ التُّرْسِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ فَيَجْرِي فِيهَا خِلَافٌ كَمَا مَرَّ، وَلَكِنَّ قَاعِدَةَ "مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ" شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمِثْلِ هَذَا، وَقَاعِدَةَ "تَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَاصَّةِ"1 شَاهِدَةٌ بِالتَّكْلِيفِ بِهِ؛ فَيَتَوَارَدَانِ عَلَى هَذَا الْمُكَلَّفِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ احْتَمَلَ الْمَوْضِعُ الْخِلَافَ. وَإِنْ فُرِضَ فِي هَذَا النَّوْعِ إِسْقَاطُ الْحُظُوظِ؛ فَقَدْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَاعِدَةُ الْإِيثَارِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا؛ فَمِثْلُ هَذَا دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِهَا. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ فِي خُصُوصِ الْإِيثَارِ فِي قِصَّةِ2 أَبِي طَلْحَةَ فِي تَتْرِيسِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وَقَوْلِهِ: "نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ"، وَوِقَايَتِهِ لَهُ حَتَّى شُلَّتْ يَدُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3، وَإِيثَارِ4 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره على نفسه في   1 وهي قاعدة متعارفة عند أهل العلم؛ حتى لا يكاد ينكرها إلا من لا خبرة له بأصول الفقه، والقول بها مذكور مشهور. "ماء/ ص237". 2 وظاهر أنها في الموضوع، وأنها مصلحة عامة في مقابلة مصلحته الخاصة وحياة أبي طلحة حياة شخص، وحياة الرسول حياة أمة. "د". 3 مضى تخريجه "2/ 174 و3/ 69"، والذي شلت يده هو طلحة بن عبيد الله وليس بأبي طلحة، كما قال المصنف. 4 انظر ماذا يقال في هذا؛ هل يقال: إنها من الموضوع وإن ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم خاص في مقابلة عام لأهل المدينة؟ إذا قيل هذا؛ فإنه يتنافى مع ما تقدم في قصة أبي طلحة، أما المؤلف؛ فوجه القصتين باختلاف الاعتبار؛ فجعل إيثاره عليه السلام لأهل المدينة من الموضوع حقيقة، وأنه خاص في مقابلة عام، وجعل إيثار أبي طلحة خاصًا لعام باعتبار أن حياة الرسول مصلحة للدين وأهله؛ فعليك بالنظر في الجميع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 مُبَادَرَتِهِ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ دُونَ النَّاسِ، حَتَّى يَكُونَ مُتَّقًى بِهِ1؛ فَهُوَ إِيثَارٌ رَاجِعٌ إِلَى تَحَمُّلِ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَنِ الْغَيْرِ، وُوَجْهُ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ هنا في مبادرته صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْجُنَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَفِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ وَقَى بِنَفْسِهِ مَنْ يَعُمَّ بَقَاؤُهُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ2، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا عَدَمُهُ؛ فَتَعُمُّ مَفْسَدَتُهُ الدِّينَ وَأَهْلَهُ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ مَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ3 النُّورِيُّ حِينَ تَقَدَّمَ إِلَى السياف، وقال: "أوثر أصحابي بحياة الساعة" في القصة4 المشهورة.   1 كما تقدم "ص69"، ويدل عليه أيضا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين، 3/ 1041/ رقم 1776 بعد 79" عن البراء؛ قال: "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم". 2 في نسخة "ماء/ ص237" و"ط": " ... بقاؤه الدين وأهله مصالح". 3 في النسخ المطبوعة و"ط": "أبو الحسن"، وهو خطأ، والنوري اسمه أحمد بن محمد الخراساني البغوي، له عبارات دقيقة، يتعلق بها من انحرف من الصوفية، نسأل الله العفو، مات سنة "295هـ". انظر: "السير" "14/ 70". 4 ذكرها القشيري في "رسالته" "ص112" في "باب الجود والسخاء، ص112"؛ قال: "سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما سعى غلام الخليل بالصوفية إلى الخليفة؛ أمر بضرب أعناقهم، فأما الجنيد؛ فإنه تستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وأما الشحام والرقام والنوري وجماعة فقبض عليهم فتبسط النطع لضرب أعناقهم، فتقدم النوري، فقال السياف: تدري إلى ماذا تبادر؟ فقال: نعم. فقال: وما يعجلك؟ قال: أوثر على أصحابي بحياة ساعة فتحير السياف وأنهى الخبر إلى الخليفة؛ فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم، فألقى القاضي على أبي الحسين النوري مسائل فقهية فأجابه عن الكل، ثم أخذ يقول: وبعد؛ فإن لله تعالى عبادًا إذا قاموا أقاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظًا أبكى القاضي؛ فأرسل القاضي إلى الخليفة وقال: إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم". وذكرها أبو نعيم في "الحلية" "10/ 250-251"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "5/ 134"، والذهبي في "السير" "14/ 71"، والهجويري في "كشف المحجوب" "ص421"، والطوسي في "اللمع" "ص492". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وَإِنْ كَانَتْ أُخْرَوِيَّةً كَالْعِبَادَاتِ اللَّازِمَةِ عَيْنًا، وَالنَّوَاهِي اللازمة اجْتِنَابُهَا عَيْنًا؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ مُخِلًّا بِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالنَّوَاهِي الدِّينِيَّةِ قَطْعًا، أَوْ لَا. فَإِنْ أَخَلَّ بِهَا لَمْ يَسَعِ الدُّخُولُ فِيهَا إِذَا كَانَ الْإِخْلَالُ بِهَا عَنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا أَظُنُّ هَذَا الْقِسْمَ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ وَتَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مَرْفُوعٌ، وَمِثْلُ هَذَا التَّزَاحُمِ فِي الْعَادَاتِ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ بِهَا لَكِنَّهُ أَوْرَثَهَا نَقْصًا مَا بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُهُ كَمَالًا؛ فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَلَا تُعَارِضُ الْمَنْدُوبَاتُ الْوَاجِبَاتِ، كَالْخَطِرَاتِ فِي ذَلِكَ الشُّغْلِ الْعَامِّ تَخْطُرُ عَلَى قَلْبِهِ وَتُعَارِضُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ فِيهَا بِقَلْبِهِ وَيَنْظُرَ فِيهَا بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ1، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ هَذَا مِنْ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ2، وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قوله عليه الصلاة والسلام: "إني   1 فنظره فيها واشتغاله بها حتى يبت فيها رأيا وهو في الصلاة لم يكن باختياره، بل غلب عليه الفكر في المصلحة العامة، وهو في الحديث جولان الفكر في حالة الأم حتى قضى بالتخفيف عليه الصلاة والسلام. "د". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة 3/ 89" معلقا: "قال عمر رضي الله عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة". ووصله ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ ق60/ ب"، وصالح بن أحمد في "مسائله" بإسناد صحيح، وصححه ابن حجر في "الفتح" "3/ 90"، والعيني في "عمدة القاري" "6/ 330"، ونحوه عند عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 123-124". وانظر: "تغليق التعليق" "2/ 448"، و"مسند الفاروق" "1/ 184" لابن كثير، و"المحلى" "3/ 100 و4/ 179". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ" 1 الْحَدِيثَ. وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ بِهَا وَلَا أَوْرَثَهَا نَقْصًا بَعْدُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُتَوَقَّعٌ؛ فَإِنَّهُ2 يَحُلُّ مَحَلَّ مَفَاسِدَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَعَوَارِضَ تَطْرُقُهُ؛ فَهَلْ يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ المفسد الْوَاقِعَةِ فِي الدِّينِ أَمْ لَا؟ كَالْعَالِمِ يَعْتَزِلُ النَّاسَ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ، وكذلك السلطان أو الولي الْعَدْلُ الَّذِي يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَالْمُجَاهِدُ إِذَا قَعَدَ عَنِ الْجِهَادِ خَوْفًا مِنْ قَصْدِهِ طَلَبَ الدُّنْيَا بِهِ أَوِ الْمَحْمَدَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ الترك مؤيدًا إِلَى الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ؛ فَالْقَوْلُ هُنَا بِتَقْدِيمِ الْعُمُومِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِتَعْطِيلِ3 مَصَالِحِ الْخَلْقِ أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ إِقَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ فَرَضْنَا هَذَا الْخَائِفَ مُطَالِبًا بِهَا؛ فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْقِيَامُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُدْخِلُهُ فِي تَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُهُ أَوْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَالتَّعَرُّضُ لِلْفِتَنِ وَالْمَعَاصِي رَاجِعٌ إِلَى اتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ4 خَاصَّةً، لَا سِيَّمَا فِي الْمَنْهِيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ تَرْكٍ، وَالتَّرْكُ لَا يُزَاحِمُ الْأَفْعَالَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَالْأَفْعَالُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ مِنْهَا الْوَاجِبُ، وَهُوَ يَسِيرٌ؛ فَلَا يَنْحَلُّ عَنْ عُنُقِهِ رِبَاطُ الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْمَعْصِيَةِ؛ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَلَا يَرْفَعُهُ عَنْهُ مُجَرَّدُ مُتَابِعَةِ الْهَوَى؛ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْمَشَقَّاتِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ أَوِ الْجِهَادُ عَيْنًا، أَوِ الزَّكَاةُ؛ فَلَا يَرْفَعُ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ خَوْفُ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وإن فرض أن يَقَعُ بِهِ؛ بَلْ يُؤْمَرُ بِجِهَادِ نَفْسِهِ فِي الْجَمِيعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَصَارَ كَالْمُتَسَبِّبِ   1 مضى تخريجه "2/ 248". 2 أي: فإن التوقع والترقب لحصول مفاسد تدخل عليه قد يحل محل الحصول بالفعل؛ أي: فالمقام في ذاته كما يحتمل أن يحصل لمن يقوم بالوظائف العامة دخول المفاسد بالفعل يحتمل ألا يحصل بالفعل، بل يتوقع له ذلك، وقد لا يحصل التوقع ولا الحصول بالفعل، بل يسلم منهما، أي: والتوقع احتما قوي؛ فهل يعامل معاملة الحصول بالفعل، أم لا؟ "د". 3 في "ط": "إلى تعطيل". 4 في "ط": "النفوس". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 لِنَفْسِهِ فِي الْهَلَكَةِ، فَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دُخُولِهِ فِيمَا فِيهِ هَلَاكُهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ -وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الْعَامِّ- لَجَازَ فِي مِثْلِهِ مِمَّا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، نَعَمْ، قَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ فِي دُخُولِهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى مِنْ ظُلْمٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ؛ فَهَذَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَهُوَ سَبَبٌ لِعَزْلِهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ عَدَالَتِهِ الطَّارِئَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ سَاقِطًا عَنْهُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا حَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ وَاقِعٌ1 فِي مُخَالَفَةٍ أَسْقَطَتْ عَدَالَتَهُ؛ فَلَمْ تَصِحَّ إِقَامَتُهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَأَمَّا إِنْ فُرِضَ أَنَّ عَدَمَ إِقَامَتِهِ لَا يُخِلُّ بالمصحلة الْعَامَّةِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ مَثَلًا مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا؛ فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ، قَدْ يُرَجَّحُ جَانِبُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَارِضِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً؛ فَلَا يَنْحَتِمُ عَلَيْهِ طَلَبٌ، وَبَيْنَ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْمَصْلَحَةِ وَغَنَاءٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ -وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ غَنَاءٌ أَيْضًا- فَيَنْحَتِمُ أَوْ يَتَرَجَّحُ الطَّلَبُ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ التَّوَازُنُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَمَا رَجَحَ مِنْهَا غَلَبَ، وَإِنِ اسْتَوَيَا كَانَ مَحَلَّ إِشْكَالٍ وَخِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَائِمٍ مِنْ مَسْأَلَةِ انْخِرَامِ الْمُنَاسَبَةِ بِمَفْسَدَةٍ تَلْزَمُ رَاجِحَةً أَوْ مُسَاوِيَةً. فَصْلٌ: وَقَدْ تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ مِمَّا يُلْغَى مِثْلُهَا فِي جَانِبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّفَقَ عَلَى تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مِثَالٌ وَاقِعٌ: حَكَى عِيَاضٌ فِي "الْمَدَارِكِ"2 أَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ فَنَاخُسْرُو الدَّيْلَمِيَّ بَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَالْقَاضِي ابْنِ الطَّيِّبِ لِيَحْضُرَا مَجْلِسَهُ لِمُنَاظَرَةِ الْمُعْتَزِلَةِ،   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وقع". 2 "2/ 589-590 - ط بيروت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَيْهِمَا؛ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَفَرَةٌ فَسَقَةٌ -لِأَنَّ الدَّيْلَمَ كَانُوا رَوَافِضَ- لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَطَأَ بِسَاطَهُمْ، وَلَيْسَ غَرَضُ الْمَلِكِ مِنْ هَذَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَجْلِسَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَصْحَابِ الْمَحَابِرِ كُلِّهِمْ، وَلَوْ كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ لَنَهَضْتُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ: فَقُلْتُ لَهُمْ: كَذَا قَالَ1 الْمُحَاسِبِيُّ وَفُلَانٌ وَمَنْ فِي عَصْرِهِمْ: "إِنَّ الْمَأْمُونَ فَاسِقٌ لَا نَحْضُرُ2 مَجْلِسَهُ"؛ حَتَّى سَاقَ3 أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِلَى طَرَسُوسَ وَجَرَى عَلَيْهِ4 مَا عُرِفَ، وَلَوْ نَاظَرُوهُ لَكَفُّوهُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ، وَأَنْتَ أَيْضًا أَيُّهَا الشَّيْخُ تَسْلُكُ سَبِيلَهُمْ؛ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مَا جَرَى عَلَى أَحْمَدَ، وَيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَهَا أَنَا خَارِجٌ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ. فَقَالَ الشَّيْخُ: "إِذْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَكَ لِهَذَا؛ فَاخْرُجْ" إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ. فَمِثْلُ هَذَا إِذَا اتَّفَقَ يُلْغِي5 فِي جَانِبِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ مَا يَقَعُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَفَاسِدِ؛ فَلَا يَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ6، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَعُودُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْكُلِّيِّ بِالْإِخْلَالِ وَالْفَسَادِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.   1 في "ترتيب المدارك" "1/ 590": "كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ... ". 2 كذا في "الترتيب" و"ط": "نحضر" بالنون، وفي غيره: "يحضر". 3 في "الترتيب": "سبق". 4 في "الترتيب" زيادة: "بعده". 5 في الأصل و"ط": "تلغى". 6 من واجب العلماء أن يقوموا بالذب عن الحق ولا يستخفوا بشأن من تصدوا لمحاربته من شيعة الباطل، ولا سيما حيث أصبح الجهل بحقائق الشريعة ضاربا أطنابه؛ فلا ينعق أخو ضلالة أو هوى إلا وجد حوله طائفة تلقي إليه السمع وتتلقى ما يوحيه إليه وساوسه بتقليد أعمى، ولا يزال الملحدون ينصبون المكايد للإسلام منذ نشأ وبلغ أشده، ولكن علماؤه كانوا ذوي بصائر نيرة وعزائم متقدة؛ فلا يغفلون عن تفقد الحالة الاجتماعية، حتى إذا أبصروا بخارًا سامًا يتصاعد من روح خبيثة بادروا إلى قطع أثره بما استطاعوا من تحذير بالغ أو مناظرة ترد المبطل على عقبه خاسئًا، وقد انتهز ملحدوا هذا العصر خمول العلماء فرصة؛ فأخذوا يتجشئون بوساوسهم في كل ناد، وحق على الذين أوتوا الحكمة أن يتقصوا أثرهم ويسدوا المنافذ في وجه مكايدهم؛ فإن الله لا يهدي كيد الخائنين. "خ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 المسألة الثامنة: التكاليف إذا علم قصد المصحلة فِيهَا؛ فَلِلْمُكَلَّفِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا فَهِمَ مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِهَا؛ فَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَلِّيَهُ مِنْ قَصْدِ التَّعَبُّدِ؛ لِأَنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ إِنَّمَا جَاءَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّعَبُّدِ؛ إِذْ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ، حَسَبَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ1، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِمَقْصُودِ التَّعَبُّدِ، فَإِذَا اعْتُبِرَ صَارَ أَمْكَنَ فِي التَّحَقُّقِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَبْعَدَ عَنْ أَخْذِ الْعَادِيَّاتِ لِلْمُكَلَّفِ؛ فَكَمْ مِمَّنْ فَهِمَ الْمَصْلَحَةَ فَلَمْ يَلْوِ عَلَى غَيْرِهَا؛ فَغَابَ عَنْ أَمْرِ الْآمِرِ بِهَا؟ وَهِيَ غَفْلَةٌ تُفَوِّتُ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُهْمِلِ التَّعَبُّدَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْمَصَالِحَ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى انْحِصَارِهَا فِيمَا ظَهَرَ، إِلَّا دَلِيلٌ نَاصٌّ عَلَى الْحَصْرِ، وَمَا أَقَلَّهُ إِذَا نُظِرَ فِي مَسْلَكِ الْعِلَّةِ النَّصِّيِّ2؛ إِذْ يَقِلُّ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: "لَمْ أَشْرَعْ هذا الحكم إلا لهذا الْحِكَمِ"3، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْحَصْرُ، أَوْ ثَبَتَ فِي مَوْضِعٍ مَا وَلَمْ يَطَّرِدْ؛ كَانَ قَصْدُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ رُبَّمَا أَسْقَطَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ، فَنَقَصَ عَنْ كَمَالِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا عَسَى أَنْ يَقْصِدَهُ الشَّارِعُ، مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَوْ لم   1 مسألة الحسن والقبح في كتب الأصول، وتقدم للمؤلف فيه كلام في جملة مواضع. "د". قلت: انظر ما قدمناه في التعليق على "1/ 125-129". 2 لأنه الدليل الذي يؤخذ به في ذلك. "د". 3 في الأصل: "الحكمة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا فَاتَهُ النَّظَرُ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَالْقَصْدُ إليه في التعبد، فإن الذي يعلم أنه هَذَا الْعَمَلَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ كَذَا، ثُمَّ عَمِلَ لِذَلِكَ الْقَصْدِ؛ فَقَدْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ قَاصِدًا لِلْمَصْلَحَةِ، غَافِلًا عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهَا؛ فَيُشْبِهُ مَنْ عَمِلَهَا مِنْ غَيْرِ وُرُودِ أَمْرٍ1، وَالْعَامِلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَمَلُهُ عَادِيٌّ فَيَفُوتُ قَصْدُ التَّعَبُّدِ، وَقَدْ يَسْتَفِزُّهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِ قَصْدَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَوِ الْوَجَاهَةِ2 عِنْدَهُ، أَوْ نَيْلِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُرْدِيَةِ بِالْأَجْرِ، وَقَدْ يَعْمَلُ هُنَالِكَ لِمُجَرَّدِ حَظِّهِ؛ فَلَا يَكْمُلُ3 أَجْرُهُ كَمَالَ مَنْ يَقْصِدُ التَّعَبُّدَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَهِمَ قَصَدَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ؛ فَهَذَا أَكْمَلُ وَأَسْلَمُ. أَمَّا كَوْنُهُ أَكْمَلَ؛ فَلِأَنَّهُ نَصَبَ نَفْسَهُ عَبْدًا مُؤْتَمِرًا، وَمَمْلُوكًا مُلَبِّيًا؛ إِذْ لم يعتبر [إلا مجرد الأمر] 4. أيضا، فَإِنَّهُ لَمَّا امْتَثَلَ الْأَمْرَ؛ فَقَدْ وَكَّلَ الْعِلْمَ بِالْمَصْلَحَةِ إِلَى الْعَالِمِ بِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْصُرَ الْعَمَلَ عَلَى بَعْضِ الْمَصَالِحِ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَصْلَحَةٍ تَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ؛ فَصَارَ مُؤْتَمِرًا فِي5 تَلْبِيَّتِهِ الَّتِي لَمْ يُقَيِّدْهَا بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ دُونَ بعض.   1 بل بمجرد هواه، وهذا مذموم؛ فيكون فعل ما يشبه المذموم. "د". 2 في نسخة "ماء/ ص239": "والوجاهة". 3 تقدم أن من يأخذ في السبب المأذون فيه على أنه مأذون فيه، وكان تصرفه لقصد مصلحة نفسه يكون عاملا لمجرد الحظ، ولكنه لا يخلو من الأجر؛ لأنه لم يأخذه على أنه أمر عادي بمجرد الهوى الذي هو الحظ المذموم. "د". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 5 في "خ": "للمؤتمر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وَأَمَّا كَوْنُهُ أَسْلَمَ؛ فَلِأَنَّ الْعَامِلَ بِالِامْتِثَالِ عَامِلٌ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ، وَاقِفٌ عَلَى مَرْكَزِ الْخِدْمَةِ1، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ قَصْدُ غَيْرِ اللَّهِ رَدَّهُ قَصْدُ2 التَّعَبُّدِ، بَلْ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي الْأَكْثَرِ، إِذَا عَمِلَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَمِلَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَدَّ نَفْسَهُ هُنَالِكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِهِمْ، وَإِنْ كَانَ وَاسِطَةً لِنَفْسِهِ أَيْضًا؛ فَرُبَّمَا دَاخَلَهُ شَيْءٌ مِنَ اعْتِقَادِ الْمُشَارَكَةِ؛ فَتَقُومُ لِذَلِكَ نَفْسُهُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حَظَّهُ هُنَا مَمْحُوٌّ مِنْ جِهَتِهِ، بِمُقْتَضَى وُقُوفِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْحُظُوظِ طَرِيقٌ إِلَى دُخُولِ الدَّوَاخِلِ، وَالْعَمَلُ عَلَى إِسْقَاطِهَا طَرِيقٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، وَلِهَذَا بسط في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق.   1 أي: موضوعها الذي فيه الفائدة. "ماء/ ص239". 2 في نسخة "ماء/ ص239": "وقصد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ فَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ؛ فَلَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ. أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَالدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ سَاقِطَةٍ وَلَا تَرْجِعُ لِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ كَثِيرَةٌ، وَأَعْلَاهَا الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ وَمَصَادِرِهَا؛ كَالطَّهَارَةِ عَلَى أَنْوَاعِهَا، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَعْلَاهُ الْجِهَادُ1، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ2 حَقُّ الْغَيْرِ مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ الْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا الْوِزَانِ، جَمِيعُهَا لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ حَقِّ اللَّهِ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ طَمِعَ أَحَدٌ فِي أَنْ يُسْقِطَ طَهَارَةً لِلصَّلَاةِ أَيَّ طَهَارَةٍ كَانَتْ، أَوْ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، أَوْ زَكَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَقِيَ مَطْلُوبًا بِهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَقَصَّى عَنْ عُهْدَتِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَاوَلَ اسْتِحْلَالَ مَأْكُولٍ حَيٍّ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ3 ذَكَاةٍ، أَوْ إِبَاحَةَ مَا حَرَّمَ الشَّارِعُ مِنْ ذَلِكَ، أَوِ اسْتِحْلَالَ نِكَاحٍ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَوْ صَدَاقٍ، أَوِ الرِّبَا، أَوْ سَائِرَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ إسقاط حد الزنى أَوِ الْخَمْرِ أَوِ الْحِرَابَةِ، أَوِ الْأَخْذَ بِالْغُرْمِ وَالْأَدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي مَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ الْحُكْمُ دَائِرًا بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ؛ لَمْ يَصِحَّ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ إِذَا أَدَّى إلى إسقاط حق الله.   1 لأنه نهى عن المنكر، بل عن أنكر المنكرات، وتغيير له باليد؛ فإن الجهاد شرع لتكون كلمة الله هي العليا، فمن وقف في طريق ذلك؛ حق على المسلمين حربه حتى يذعن ويترك العناد. "د". 2 في الأصل: "وحق". 3 في "ط": "مثلا بغير". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ ثَابِتٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَمَالِ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ فِي يَدِهِ، فَإِذَا أُسْقِطَ ذَلِكَ بِأَنْ سُلِّطَ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتَ "لَا" وَهُوَ الْفِقْهُ؛ كَانَ نَقْضًا لِمَا أَصَّلْتَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ اقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي إِسْقَاطِهِ، وَالْفِقْهُ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْتَ: "نَعَمْ" خَالَفْتَ الشَّرْعَ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يَفُوتَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا مَالًا مِنْ مَالِهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 29] . ثُمَّ توعد عليه، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 188] . وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَحَرَّمَ شُرْبَ الْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصْلَحَةِ الْعَقْلِ بُرْهَةً؛ فَمَا ظَنُّكَ بِتَفْوِيتِهِ جُمْلَةً؟ وَحَجَرَ عَلَى مُبَذِّرِ الْمَالِ، وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ1؛ فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ. لِأَنَّا نُجِيبُ بِأَنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ وَكَمَالَ الْعُقُولِ وَالْأَجْسَامِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادِ، لَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدٍ حَيَاتَهُ وَجِسْمَهُ وَعَقْلَهُ الَّذِي2 بِهِ يَحْصُلُ [لَهُ] 3 مَا طُلِبَ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبْتَلَى الْمُكَلَّفُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِ ولا تسببه، وفات بسبب   1 ورد ذلك ضمن حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"عن المغيرة رضي الله عنه. 2 يصح رجوعه للثلاثة جملة وتفصيلا. "د". 3 زيادة من الأصل و"ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 ذَلِكَ نَفْسُهُ أَوْ عَقْلُهُ أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ؛ فَهُنَالِكَ يَتَمَحَّضُ حَقُّ الْعَبْدِ؛ إِذْ مَا وقع مما لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ؛ فَلَهُ الْخِيَرَةُ فِيمَنْ تَعَدَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا مُسْتَوْفًى فِي العير كَدَيْنٍ مِنَ الدُّيُونِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَتَرْكُهُ هُوَ الْأَوْلَى إِبْقَاءً عَلَى الْكُلِّيِّ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشُّورَى: 43] . وَقَالَ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشُّورَى: 40] . وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ إِنَّمَا هِيَ جَبْرٌ لِمَا فَاتَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ أَوْ جَسَدِهِ؛ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ قَدْ فَاتَ وَلَا جَبْرَ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِمَّا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْأَمْرَاضِ إِذَا كَانَ التَّطَبُّبُ غَيْرَ واجب ودفع المظالم عَنْكَ غَيْرُ وَاجِبٍ1 عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٍ فِي الْفِقْهِيَّاتِ، وَأَمَّا الْمَالُ؛ فَجَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 280] . بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ فَأَرَادَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِتْلَافَهُ فِي غَيْرِ مَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُهُ الشَّارِعُ؛ فَلَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلُ2 الْحَرَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ وَإِنْشَاءُ كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ أَلْزَمَهَا الْعِبَادَ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا تَحَكُّمٌ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعُقُولِ تَحْسِينٌ وَلَا تَقْبِيحٌ تُحَلِّلُ بِهِ أَوْ تُحَرِّمُ؛ فَهُوَ مُجَرَّدُ تَعَدٍّ فِيمَا لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهِ نَصِيبٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهِ خِيَرَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ بِهِ، فَلَا شَيْءَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلَّا وَفِيهِ لِلَّهِ حَقٌّ؛ فَيَقْتَضِي أن ليس للعبد إسقاطه،   1 ينظر ليطبق على ما ذكره قبل؛ حتى لا يعد مخالفًا له. "د". وفي "ط": "ودفع المظالم"، وفي غيره: "الظالم"! 2 في "ط": أو تحليل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ حَقٌّ وَاحِدٌ يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ مُخَيَّرًا؛ فَقِسْمُ الْعَبْدِ إِذَا ذَاهِبٌ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا قِسْمٌ وَاحِدٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الْوَاحِدَ هُوَ الْمُنْقَسِمُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَقًّا لَهُ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ ذَلِكَ لَهُ، لَا بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 هذا المعنى مبسوطًا في الْكِتَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَمِنْ هُنَا ثَبَتَ لِلْعَبْدِ حَقٌّ وَلِلَّهِ حَقٌّ. فَأَمَّا مَا هُوَ لِلَّهِ صِرْفًا2؛ فَلَا مَقَالَ فِيهِ لِلْعَبْدِ. وَأَمَّا مَا هُوَ لِلْعَبْدِ؛ فَلِلْعَبْدِ فِيهِ الِاخْتِيَارُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالِاخْتِيَارِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا تَخْيِيرُ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُهُ فِي أَنْوَاعِ الْمُتَنَاوَلَاتِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ حَلَالٌ لَهُ، وَفِي أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ بِالْحُقُوقِ؛ فَلَهُ إِسْقَاطُهَا وَلَهُ الِاعْتِيَاضُ3 منها والتصرف فيما بيده من   1 أي: في المسألة التاسعة عشرة من النوع الرابع، والفصل الذي بعدها في تقسيم الأفعال إلى ثلاثة أقسام؛ فقوله بعد: "في آخر النوع الثالث" غير ظاهر. "د". 2 أي: أو كان حقه تعالى مغلبًا، وقوله: "وما هو للعبد"؛ أي: ما كان حقه فيه مغلبًا؛ كحق المدبر ألا يباع مثلًا، وكالأمور المالية وغيرها مما ذكر في هذه المسألة قبل هذا وما ذكره هنا؛ فكل هذا حق العبد فيه مغلب فله إسقاطه، وعلى هذا يفهم قوله: "تَخْيِيرُ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ"، أي: وإن كان فيه حق لله ولكنه غلب حق العبد؛ فاجتمع كلام المؤلف أولًا وآخرًا، وقوله: "في أنواع المتناولات"؛ أي: لا في جنسها؛ فليس له أن يمتنع عن الأكل أو الشرب أو اللباس أو المسكن وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من حق الله ومن الضروريات التي بها إقامة الحياة. "د". 3 أي: طلب العوض. "ماء/ 240". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ عَلَى ما ألف من محاسن العبادات، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ كُلُّهُ فِي فَهْمِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ1، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.   1 وتعرض المصنف في "الاعتصام" "2/ 570 - ط ابن عفان" إلى هذا المعنى أيضا، وأحال على هذا الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ 1: التَّحَيُّلُ بِوَجْهٍ سَائِغٍ مَشْرُوعٍ فِي الظَّاهِرِ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ عَلَى إِسْقَاطِ حُكْمِ أَوْ قَلْبِهِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ أَوْ لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا مَعَ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ، فَتُفْعَلُ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ؛ فَكَأَنَّ التَّحَيُّلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: قَلْبُ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَالْأُخْرَى: جَعْلُ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الشَّرْعِ مَعَانٍ وَسَائِلَ إِلَى قَلْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ؛ هَلْ2 يَصِحُّ شَرْعًا الْقَصْدُ إِلَيْهِ وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ أَمْ لَا؟ وَهُوَ3 مَحَلٌّ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ عَدَمِهَا4 لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِ هَذَا الِاحْتِيَالِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ؛ إِمَّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلَا تَرْتِيبٍ عَلَى سَبَبٍ؛ كَمَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ وأشباه ذلك،   1 فصل شيخ الإسلام ابن تيمية الكلام على الحيل في كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" وهو في "الفتاوى الكبرى" "3/ 98-285"، وكذا تلميذه ابن القيم في المجلد الثالث من "إعلام الموقعين" والمجلد الرابع إلى صفحة "63" منه. وانظر: "مقاصد الشرعية الإسلامية" "ص115 وما بعدها" لابن عاشور، و"الحيل" لأبي حاتم القزويني، نشر شاخت، و"الحيل الفقهية في المعاملات المالية" محمد بن إبراهيم، ولا سيما "ص21 وما بعدها"، و"كشف النقاب عن موقع الحيل من السنة والكتاب" لمحمد عبد الوهاب البحيري، نشر سنة "1974م"، و"الحيل المحظور منها والمشروع" لعبد السلام ذهني، نشر سنة "1946م". 2 الجملة الاستفهامية خبر عن قوله: "التحيل بوجه ... إلخ". "د". 3 في نسخة "ماء/ ص240" و"ط": "هو". 4 في "ط": "وعدمها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 و [كما] 1 حرم الزنى وَالرِّبَا وَالْقَتْلَ وَنَحْوَهَا، وَأَوْجَبَ أَيْضًا أَشْيَاءَ مُرَتَّبَةً2 عَلَى أَسْبَابٍ، وَحَرَّمَ أُخَرَ كَذَلِكَ؛ كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ، وَالشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ، وَكَتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ، وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَغْصُوبِ أَوِ الْمَسْرُوقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَسَبَّبَ الْمُكَلَّفُ فِي إِسْقَاطِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ، بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّسَبُّبِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الظَّاهِرِ، أَوِ الْمُحَرَّمُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ أَيْضًا. فَهَذَا التَّسَبُّبُ يُسَمَّى حِيلَةً وَتَحَيُّلًا، كَمَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ؛ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، فَأَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ فِي إِسْقَاطِهَا كُلِّهَا بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ دَوَاءٍ مُسْبِتٍ3، حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ قَصْرِهَا فَأَنْشَأَ سَفَرًا لِيَقْصُرَ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَظَلَّهُ شَهْرُ رَمَضَانَ فَسَافَرَ لِيَأْكُلَ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِهِ فَوَهَبَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِتْلَافِ كَيْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَكَمَا لَوْ أَرَادَ وَطْءَ جَارِيَةِ الْغَيْرِ فَغَصَبَهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا فَوَطِئَهَا بِذَلِكَ، أَوْ أَقَامَ شهود زور على تزويج بكر برضاها قضى الْحَاكِمُ بِذَلِكَ ثُمَّ وَطِئَهَا4، أَوْ أَرَادَ بَيْعَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَقْدًا بِعِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ فَجَعَلَ العشرة   1 زيادة من الأصل و"خ" و"ماء/ ص241" و"ط". 2 في الأصل: "مترتبة". 3 أي: منوم "ماء/ ص241". 4 أجاز قوم هذه المسألة بناء على ما فصلوه من أن حكم الحاكم المخالف لما في الواقع إن كان في مال لم يكن موجبا للمحكوم له، وإن كان في مثل نكاح أو طلاق؛ فإنه يكون نافذًا ظاهرًا وباطًنا، ووقف هؤلاء في حديث: "فمن قضيت له من حق أخيه شيئا؛ فلا يأخذه"، على ما يدل عليه بظاهره وهو المال خاصة، والتحقيق أن حكم الحاكم إنما يجري على الظاهر، ولا نفاذ له في الباطن بحال، وحرمة الإبضاع فوق حرمة الأموال؛ فهي أحق بالاحتياط وأولى بأن لا يرفع حقها الثابت شهادة باطلة أو حكم قام على غير بينة عادلة. "خ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 ثَمَنًا لِثَوْبٍ ثُمَّ بَاعَ الثَّوْبَ مِنَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِعِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ أَرَادَ قَتْلَ فُلَانٍ فَوَضَعَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ سَبَبًا مُجَهَّزًا كَإِشْرَاعِ الرُّمْحِ1 وَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَالْفِرَارِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ الْمَالِ أَوْ إِتْلَافِهِ أَوْ جَمْعِ مُتَفَرِّقِهِ أَوْ تَفْرِيقِ مُجْتَمِعِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَمْثِلَةِ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ2، وَمِثْلُهُ جارٍ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ؛ كَالزَّوْجَةِ تُرْضِعُ جَارِيَةَ الزَّوْجِ أَوِ الضُّرَّةِ لِتَحْرُمَ عَلَيْهِ، أَوْ إِثْبَاتِ حَقٍّ لَا يَثْبُتُ؛ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي قَالَبِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ تَحَيُّلٌ عَلَى قَلْبِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ شَرْعًا إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ، بِفِعْلٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَغْوٍ فِي الْبَاطِنِ، كَانَتِ الْأَحْكَامُ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ أَوْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ.   1 في الأصل: "الزمل". 2 حرر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أن الممنوع من التحيل ما يقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه أو إسقاط الواجب مع قيام سببه، وذكر في إنكار أن يكون من الشريعة الحكيمة وجوهًا كثيرة أشدها أنه مخادعة لله كما يخادع المخلوق، ثم ما يتضمنه من المكر والتلبيس والإغراء به، وتعليمه لمن لا يحسبه، ثم تسليط أعداء الدين على القدح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه، ويكفي من هذه الوجوه أنه إجهاد الفكر في نقض ما أبرمه الرسول وإبطال ما أوجبه أو تحليل ما حرمه. "خ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 المسألة الحادية عشرة: لحيل فِي الدِّينِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَنْحَصِرُ من الكتاب والسنة، لكن في خصوصات2 يُفْهَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا مَنْعُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا عَلَى الْقَطْعِ. فَمِنَ الْكِتَابِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الْبَقَرَةِ: 8] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ؛ فَذَمَّهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَشَنَّعَ عَلَيْهِمْ، وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ إِحْرَازًا لِدِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لَا لِمَا قُصِدَ لَهُ فِي الشَّرْعِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى اخْتِيَارٍ وَتَصْدِيقٍ قَلْبِيٍّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى كَانُوا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَقِيلَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَةِ: 9] . وَقَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الْبَقَرَةِ: 14] ؛ لِأَنَّهُمْ تَحَيَّلُوا بِمُلَابَسَةِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ إِلَى أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمْ: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الآية [البقرة: 264] . وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النِّسَاءِ: 38] . وَقَالَ: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 142] ؛ فذم   1 سيأتي في الفصل التالي للمسألة الثانية عشرة أن بعض ما يصدق عليه حيلة بالمعنى المذكور يكون صحيحًا مشروعًا؛ فلذا قال: "في الجملة". "د". 2 سيأتي له حديث: "لا ترتكبوا"، وهو عام؛ فلعله لعدم قوته لم يعتد به دليلاً مستقلًا كافيًا للعموم. "د". قلت: سيأتي "ص112" أنه حسن في أقل أحواله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وَتَوَعَّدَ1 لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِلطَّاعَةِ لِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ2 يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ... } الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [الْقَلَمِ: 17-20] ؛ لَمَّا احْتَالُوا على إمساك حق المساكين بما قَصَدُوا الصِّرَامَ فِي غَيْرِ وَقْتِ إِتْيَانِهِمْ3؛ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِهْلَاكِ مَالِهِمْ. وَقَالَ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية [البقرة: 65] . وَأَشْبَاهَهَا؛ لِأَنَّهُمُ احْتَالُوا لِلِاصْطِيَادِ فِي السَّبْتِ بِصُورَةِ4 الِاصْطِيَادِ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الْبَقَرَةِ: 231] . وَفُسِّرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ يقصد بذلك مضارتها،   1 التوعد في الآية الثانية؛ إما بناء على عطف {وَالَّذِين} على لفظ {الْكَافِرِين} قبله أو على أنه مبتدأ، وقوله بعد {فَسَاءَ قَرِينا} توعد بأن الشيطان يكون قرينه في النار فيتلاعنان. "د". 2 في آيات المنافقين المقدمتان السابقتان موجودتان؛ ففيها قلب الأحكام من عدم عصمة دمائهم وأموالهم إلى عصمتها، وفيها جعل ما قصد به الدخول تحت طاعة الله اختيارًا لما قصدوا إليه من الإحراز المذكور، أما في آيات الرياء؛ فتوجد مقدمة جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معنى وسيلة لغيره، ولكن ما هو الحكم الذي أسقطوه أو قلبوه؟ تأمل. "د". 3 كأنه كان في شرعهم أن من لا يحضر الجذاذ يسقط حقه؛ فاحتالوا بهذه الحيلة لسقوط حق المساكين. "د". 4 بأن حفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول؛ فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج، فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء، فيصطادونها يوم الأحد وكانت الحيتان لا تظهر إلا يوم السبت؛ ففي الحقيقة اصطيادها يوم السبت في صورة أنه في يوم الأحد، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَهَكَذَا لَا يَرْتَجِعُهَا لِغَرَضٍ لَهُ فِيهَا سِوَى الْإِضْرَارِ بِهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا ... } إِلَى قَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [الْبَقَرَةِ: 228] أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِ عَدَدٍ؛ فَكَانَ الرَّجُلُ يَرْتَجِعُ الْمَرْأَةَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا كَذَلِكَ قَصْدًا؛ فَنَزَلَتِ1: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [الْبَقَرَةِ: 229] ، وَنَزَلَ مَعَ ذَلِكَ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} الآية [البقرة: 229] فِيمَنْ كَانَ يُضَارُّ الْمَرْأَةَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا حِيَلٌ عَلَى بُلُوغِ غَرَضٍ2 لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النِّسَاءِ: 12] ، يَعْنِي بِالْوَرَثَةِ بِأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ يُوصِيَ لِوَارِثٍ احْتِيَالًا عَلَى حِرْمَانِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا 3 أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] . وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية [النساء: 19] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا المعنى.   1 نحوه في "سنن أبي داود" "كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، 2/ 259/ رقم 2195"، و"تفسير ابن جرير" "4/ 539"، وهو صحيح. وانظر: "تفسير الثوري" "ص67"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 272"، و"أحكام القرآن" "1/ 189"، و"فتح القدير" "1/ 239"، و"الدر المنثور" "1/ 278". 2 أي: من إِسْقَاطِ حُكْمِ أَوْ قَلْبِهِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ بفعل سائغ أو غير سائغ. "د". 3 أي: بناء على أنهما مفعولان لأجله. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: "لَا يجمع بين متفرق ولا يفرق بن مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ" 1؛ فَهَذَا نَهْيٌ عَنِ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْ تَقْلِيلِهِ. وَقَالَ: "لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، يَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ" 2. وَقَالَ: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ3 أَنْ تَسْبِقَ؛ فَهُوَ قِمَارٌ"4. وَقَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا5 وباعوها وأكلوا أثمانها"6.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الزكاة، باب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن عمر، وتقدم تخريجه "1/ 424"، وسعد وغيرهما. قلت: وفي الأصل: "مفترق". 2 أخرجه ابن بطة في كتابه "إبطال الحيل" "ص46-47"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "إبطال الحيل" "3/ 23-24 - من مجموع الفتاوى": "وهذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة"، وحسنه أيضا "3/ 287"، وجوّده ابن كثير في تفسيره" "1/ 111 و2/ 268 - ط دار المعرفة"، وكذا ابن القيم في "إغاثة اللهفان" "1/ 348". وانظر: "غاية المرام" "رقم 11"، و"إرواء الغليل" "5/ 375/ رقم 1535". 3 أي: فهو عالم بأن الرهان على مسابقة، ومع ذلك يدخل في صورة أن الأمر محتمل كما هو الشأن في عمل المسابقة. "د". 4 مضى تخريجه بإسهاب في "1/ 425-427"، وهو ضعيف. 5 أذابوها فصارت في صورة غير صورة الشحم، ولم يأكلوها هي، بل أخذوا أثمانها فانتفعوا بها. "د". 6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} ، 8/ 295/ رقم 633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وقد تقدم "1/ 447" ومضى تخريجه مسهبًا هناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وَقَالَ: "ليشربنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ1 اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ منهم القردة والخنازير ط2. وَيُرْوَى مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَرْفُوعًا: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا، والسحت   1 انظره مع ما تقرر من أمن أمته صلى الله عليه وسلم من المسخ والخسف ويكفي أنه موقوف، وإنما يستشهد المؤلف بأمثاله من باب الاستئناس وضمه إلى القوي فيقوى، وقد ورد في "المصابيح" عن أنس في شأن البصرة: "أنه يكون بها خسف وقذف ورجم ومسخ إلى قردة وخنازير، وقد أوصاه صلى الله عليه وسلم أن يكون بضواحيها لا في داخلها وأسواقها"؛ فعليك باستكمال المقام، ومعروف أنهم يقولون: إن الأمن فيما عدا ما بين يدي الساعة؛ فالتوفيق ميسور. "د". 2 أخرجه أبو دواد في "السنن" "كتاب الأشربة، باب في الداذي -وهو حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر- 3/ 329/ رقم 3688"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب العقوبات، 2/ 1333/ رقم 4020"، وأحمد في "المسند" "5/ 432"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 305 و7/ 222"، ابن حبان في "الصحيح" "15/ 160/ رقم 6758- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "رقم 3419"، البيهقي في "الكبرى" "8/ 295 و10/ 231" من طرق عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري به. وإسناده ضعيف، رجاله ثقات؛ غير مالك بن أبي مريم، لم يروِ عنه غير حريث، ولم يوثقه غير ابن حبان على قاعدته المشهورة، قال ابن حزم: "لا يُدْرَى من هو"، وقال الذهبي: "لا يعرف"، ولأوله شواهد عديدة، تقدم منها "1/ 447" حديث عبادة بن الصامت، وهو صحيح. وانظر تعليق المصنف على الحديث في كتابه" الاعتصام" "2/ 579-581 - ط دار ابن عفان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ، وَالزِّنَى بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ"1. وَقَالَ: "إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ2، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَا يرفعه حتى يراجعوا دينهم"3.   1 أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" "1/ 218" بإسناد معضل؛ فهو ضعيف، وتقدم بيان ذلك في "1/ 488". وقال المصنف في "الاعتصام" "2/ 583 - ط ابن عفان" شارحا بعض ما في الحديث: "وأما استحلال السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية؛ فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم "سياسة" و"أبهة الملك"، ونحو ذلك؛ فظاهر أيضا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة". ثم فصل القتل في شريعة "المهدي المغربي"، وأنه جعله عقابا في ثمانية عشر صنفا، وذكر منها أشياء، ثم فصل فساد شريعته في أشياء أخر، فلتنظر. 2 أي: بخلو بإنفاقهما في سبيل الله، وقوله: "وتبايعوا بالعينة" فسرت بأن تبيع الشيء بثمن لأجل ثم تشتريه نقدا بثمن أقل؛ فآلت المسألة إلى نقد عاجل قليل في نقد آجل كثير، وهو الربا بعينه، وذلك هو الواقع في قصة زيد بن أرقم. "د". 3 أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "المسند" "2/ 28"، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" "رقم 22"، والطبراني في "الكبير" "رقم 13583"من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي عمر عن ابن عمر مرفوعا. ونقل ابن التركماني في "الجوهر النقي" "3/ 316-317"، والزيلعي في "نصب الراية" "4/ 17" عن ابن القطان قوله في هذا الطريق -وعزاه لأحمد في "الزهد"-: "وهذا حديث صحيح، ورجاله ثقات". وتعقب ابن حجر في "التلخيص الحبير" "3/ 19" ابن القطان بقوله: "قلت: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا؛ لأن الأعمش مدلس، ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني؛ فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر؛ فرجع الحديث إلى الإسناد = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 .................................................................   = الأول، وهو المشهور". قلت: العجب من الحافظ فإنه القائل عنه في "بلوغ المرام" "رقم 860": "رجاله ثقات"، وقد جعل الأعمش في الطبقة الثانية من المدلسين "الذين احتمل أئمة الحديث تدليسهم وتجاوزوا لهم عنه"، ولم يقل أحد إن الأعمش يدلس تدليس التسوية، ولماذا يفعل ذلك وهو قد رواه عن نافع أيضا؟ كما قال أبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" وفي آخر كلام ابن حجر السابق إشارة إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274-275/ رقم 4362"، والدولابي في "الكنى والأسماء" "2/ 65"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 316"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 208-209"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1998" من طريق إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر. وإسناده ضعيف، قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 102-103": "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني، وفيه مقال". وتابع عطاءً الخراساني فضالةُ بن حصين عن أيوب عن نافع؛ كما قال أبو نعيم في "الحلية" "3/ 319"، ومتابعته هذه أخرجها ابن شاهين "في "الأفراد" "1/ 1"؛ كما قال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 11". وفضالة لا يصلح للمتاعبة، قال أبو حاتم عنه: "مضطرب الحديث". وللحديث طرق أخرى يتقوى بها، منها: ما أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 42، 84" من طريق شهر بن حوشب عن ابن عمر، وشهر حديثه حسن، ولا سيما في الشواهد. وما أخرجه أبو يعلى في "المسند" "10/ 29/ رقم 5659"، والطبراني في "الكبير" "رقم 13585"، والروياني في "المسند" "ق247/ ب"، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" "ق79/ أ"- كما في "الصحيحة "رقم 11"-، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 313-314 و3/ 318-319" من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به، وبعضهم أسقط ابن أبي سليمان. وليث ضعيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ" 1. وَقَالَ: "لعن الله الراشي والمرتشي" 2.   = والخلاصة: الحديث صحيح بمجموع طرقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 103-104"؛ فقال بعد أن سرد بعض طرقه: "وهذا يبين أن للحديث أصلا، وأنه محفوظ"، وساق له المصنف في "الاعتصام" "2/ 576- ط ابن عفان" شاهدًا مرفوعًا، وهو حديث: "وإذا تبايعتم بالعينة ... "، وأثرا لعلي عند أبي داود في "السنن" "3382"، و"مسند أحمد" "1/ 116" وقال: "وهذه الأحاديث الثلاثة -وإن كانت أسانيدها ليست هناك- مما يعضد بعضه بعضًا، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع". وكتب "خ" ما نصه: "قد وقع المسلمون في هذه العلل؛ حتى أفضت بهم إلى أشد بلاء يصبه الله على رءوس الأمم، وهو استيلاء العدو على أوطانهم والقبض على زمام أمورهم؛ فهل لهم أن يغيروا ما بهم ويعطفوا على تعاليم دينهم؟ فنراهم كيف ينهضون لإعادة شرفهم المسلوب وحقهم المغتصب بنفوس سخية وعزائم لا تغتر. شعور فعلم فاتحاد فقوة ... فعزم فإقدام فإحراز آمال" 1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "2/ 294"، وأبو داود في "السنن" "2/ 227"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 622"، والسنائي في "المجتبى" "6/ 149"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 295"، وعبد الرزاق في "المصنف" "6/ 269"، والدارقطني في "السنن" "3/ 251"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 198"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "7/ 207" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، ومضى تخريجه أيضا "1/ 429". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، 3/ 623/ رقم 1337"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب كراهية الرشوة، 3/ 300/ رقم 3580"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، 2/ 775/ رقم 2313"، وأحمد في "المسند" "2/ 164، 190، 194، 212"، والطيالسي في: "المسند" "رقم 2276"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 102-103"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 585"، والطبراني في "الصغير" "1/ 28"، والدارقطني في "العلل" "4/ 275"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 138-139"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 87-88 / رقم 2493" من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع" "3/ 622/ رقم 1336"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 103"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1196- موارد"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 585"، وعن أم سلمة عند الطبراني بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم. وإسناده جيد؛ كما في "الترغيب والترهيب" "3/ 143". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وَنَهَى عَنْ هَدِيَّةِ المَدْيَان؛ فَقَالَ: "إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهَا إِلَّا أَنْ يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" 1.   1 أخرجه ابن ماجه في "السنن" "كتاب الصدقات، باب القرض، 2/ 813/ رقم 2432"، والبيهقي في الكبرى" "5/ 350" من طريق إسماعيل بن عياش حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي؛ قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذكره". وعند البيهقي في أحد روايته: "يزيد بن أبي يحيى" بدلا من "يحيى"، وقال: "قال المعمري: قال هشام في هذا الحديث: "يحيى بن أبي إسحاق الهنائي"، ولا أراه إلا وهم، وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس". ثم قال: "ورواه شعبة ومحمد بن دينار؛ فوقفاه". ويحيى بن يزيد من رجال مسلم، ورجح ابن التركماني أن يكون "ابن أبي إسحاق"، وهو مجهول، وعلى كل حال؛ الحديث ضعيف، وله علل: الأولى: ضعف إسماعيل بن عياش؛ فهو ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وشيخه عتبة في هذا الحديث بصري. الثانية: ضعف عتبة بن حميد. قال البوصيري في "الزوائد": "في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف". الثالثة: الاضطراب في سنده. الرابعة: جهالة ابن أبي يحيى. الخامسة: روايته موقوفًا، وانظر: "السلسة الضعيفة" "رقم 1162". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وَقَالَ: "الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ" 1. وَجَعَلَ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولًا2، وَنَهَى3 عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ4. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم   1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح. 2 أخرج أحمد في "المسند" "5/ 425"، والبزار في "مسنده" "2/ 236-237/ رقم 1599- زوائده"، وأبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى" "4/ 118/ رقم 1797"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 295"، ووكيع في "أخبار القضاة" "1/ 59"، والتنوخي في "الفوائد العوالي المؤرخة من الصحاح والغرائب" "ص121/ رقم 6"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 138" من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي مرفوعا: "هدايا الأمراء غلول". وإسناده ضعيف، مداره على إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد، ورواية إسماعيل عن غير الشاميين ضعيفة، ويحيى بن سعيد مدني، وقد فصل في ذلك البيهقي في "الخلافيات" "رقم 150، 151 - بتحقيقي"، قال التنوخي عقبه: "هذا حديث غريب من حديث أبي سعيد يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي عبد الله عروة بن الزبير، لا أعلم حدث به عنه غير إسماعيل بن عياش بهذا اللفظ". وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 189" بعد عزوه للبيهقي وابن عدي: "وإسناده ضعيف"، وضعفه الهيثمي في "المجمع" "4/ 151، 200 و5/ 249"، ولكن للحديث شواهد عن جابر وأبي هريرة وابن عباس، خرجها شيخنا الألباني في "الإرواء" "8/ 246-250/ رقم 2622"، وقال: "وفيما تقدم من الطرق والشواهد السالمة من الضعف الشديد كفاية، ومجموعها يعطي أن الحديث صحيح، وهو الذي اطمأن إليه قلبي، وانشرح له صدري، وفي كلام ابن عبد الهادي إشارة إلى ذلك، والله أعلم". 3 لأنه تحيل على أكل أموال الناس بالباطل؛ إذ إن اقتران البيع بالسلف يجعل الثمن أقل من ثمن المثل في مقابلة القرض الذي لا يكون إلا لله. "د". 4 جزء من حديث بلفظ "لا يحل سلف وبيع" مضى تخريجه "1/ 469". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 إِنْ لَمْ يَتُبْ1. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كُلُّهَا دَائِرَةٌ عَلَى أَنَّ التَّحَيُّلَ فِي قَلْبِ الْأَحْكَامِ ظَاهِرًا غَيْرُ جَائِزٍ. وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الأمة من الصحابة والتابعين.   1 مضى لفظه وتخريجه في "1/ 456"، وهو حسن. وقع في الأصل: "أبلغ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 المسألة الثانية عشرة 1: ما ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَانَتِ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةً بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا كَمَا تَبَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً؛ فَالْفِعْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ2 لَيْسَتْ مقصودة [لأنفسها] 3،   1 تفصيل وافٍ لما أجمل في المسألة قبلها. "د". قلت: وهو تفصيل وتقييد لما اتسمت به المسألة الرابعة من القسم الثاني من قسمي الأحكام "1/ 311 وما بعدها" من إجمال وإطلاق. 2 وكذا الحقوق، وهي مجرد وسائل شرعت لتحقيق غايات معينة قصد الشارع تحقيقها فكانت وسائل أو مقدمات لنتائج المصالح، وليست مقصودة لذاتها حتى تكون مصدرا لسلطة مطلقة يتصرف بها صاحبها كما يشاء، لأن هذا يؤدي إلى اعتبار الحق غاية في ذاته، وذلك يتنافى، والقاعدة المجمع عليها -وذكرها المصنف مرارًا- وهي أن المصالح المعتبرة في الأحكام؛ لأن التصرف المطلق قد يؤدي إلى مناقضة الشارع، ومناقضة الشرع عينا باطلة؛ فما يؤدي إليها باطل. هذا وثمرة اعتبار الحق مجرد وسيلة إلى تحقيق مصلحة شرع من أجلها، أنه مقيد في استعماله بما يحقق هذه المصلحة، وإلا اعتبر المستعمل معتسفًا كأن يتخذه ذريعة إلى مجرد الإضرار بغيره، أو لتحقيق نتائج ضارة بغيره، ترجح على ما يجنيه من مصلحة وهذان الوجهان من الاعتساف يقتضيان النظر في البواعث النفسية أو النتائج المادية التي تنجم عن استعمال الحقوق؛ كمعيارين يعرف بهما التعسف، أما النظر إلى النتائج؛ فهو معنى النظر في مآلات الأفعال الذي يقرر المصنف أنه أصل معتبر مقصود في الشريعة؛ كما سيأتي "5/ 177 وما بعدها". ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يكفي توخي المصلحة التي شرع العمل من أجلها، بل لا بد فيها من امتثال نية امتثال أمر الله، وبيان ذلك أن العمل -وهو وسيلة تنفيذ الحق- بوجه عام إذا كان تعبديا؛ أي: يقصد به امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وهو حق الله فيه كما بينا؛ فإن المصلحة التي تقصد به تعبدية أيضا لأمرين: الأول: لأنها من وضع الشارع الحكيم، وذلك آية حق الله في المصلحة؛ فلا يجوز للعباد ابتداع المصالح لأنه تشريع مبتدأ، وذلك محرم بالضرورة. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا أُمُورٌ أُخَرُ هِيَ مَعَانِيهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الَّتِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهَا؛ فَالَّذِي عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ1؛ فَلَيْسَ عَلَى وَضْعِ الْمَشْرُوعَاتِ. فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَمُطَابَقَةِ الْقَلْبِ لِلْجَوَارِحِ فِي الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، فَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ عَلَى قَصْدِ نَيْلِ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنْ دَفْعٍ أَوْ نَفْعٍ؛ كَالنَّاطِقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَاصِدًا لِإِحْرَازِ دَمِهِ وَمَالِهِ لَا لِغَيْرِ2 ذَلِكَ، أَوِ الْمُصَلِّي رِئَاءَ النَّاسِ لِيُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنَالَ بِهِ رُتْبَةً فِي الدُّنْيَا؛ فَهَذَا الْعَمَلُ لَيْسَ مِنَ الْمَشْرُوعِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا لَمْ تَحْصُلْ، بَلِ الْمَقْصُودُ بِهِ ضِدُّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ3 فِي الزَّكَاةِ مَثَلًا: إن المقصود بشمروعيتها رَفْعُ رَذِيلَةِ الشُّحِّ وَمَصْلَحَةُ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ، وَإِحْيَاءُ النفوس المعرضة للتلف، فمن وهب   = الثاني: أن المكلف إذا كان عليه أن يتوخى المصلحة التي قصدها الشرع، حتى يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع؛ فإن توخيه لمحض المصلحة ولذاتها لا يجعل عمله تعبديًّا؛ لأنه لا يختلف عن ابتغاء أي إنسان لحظوظه المجردة في الحياة؛ فلا بد ليؤدي حق الله في عمله أن تتجه نيته إلى امتثال أمر الله جل وعلا، وفي هذا تقديم قول المصنف "3/ 99": "فَإِنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ شُرِعَ لمصلحة كذا ... فَقَدْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ قَاصِدًا لِلْمَصْلَحَةِ غَافِلًا عَنِ امتثال الأمر فيها ... ". وإذا ثبت أن المصلحة تعبدية، سواء كانت معقولة المعنى أم غير معقولة؛ فما انبنى عليها وهو التصرفات والأعمال تعبدية أيضا. 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 1 حيث تحايل على الحكم الشرعي؛ فحافظ على ظاهره، ولم يحافظ على جوهره ومقصوده، بل سعى به لغاية أخرى. انظر: "الفروق" "2/ 32": "الفرق الثامن والخمسون". 2 في نسخة "ماء/ ص243": "غير". 3 في نسخة "ماء/ ص243": "فنقول". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 فِي آخِرِ الْحَوْلِ1 مَالَهُ هُرُوبًا2 مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ فِي حَوْلٍ آخَرَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَوْهَبَهُ؛ فَهَذَا الْعَمَلُ تَقْوِيَةٌ لِوَصْفِ الشُّحِّ وَإِمْدَادٌ لَهُ، وَرَفْعٌ لِمَصْلَحَةِ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ3؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ صُورَةَ هَذِهِ الْهِبَةِ [لَيْسَتْ هِيَ الْهِبَةَ] 4 الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إِرْفَاقٌ وَإِحْسَانٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَتَوْسِيعٌ عَلَيْهِ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، وَجَلْبٌ لِمَوَدَّتِهِ وموآلفته، وَهَذِهِ الْهِبَةُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْمَشْرُوعِ مِنَ التَّمْلِيكِ الْحَقِيقِيِّ لَكَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَصْلَحَةِ الْإِرْفَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ، وَرَفْعًا لِرَذِيلَةِ الشُّحِّ، فَلَمْ يَكُنْ هُرُوبًا عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ؛ فَتَأَمَّلْ4 كَيْفَ كَانَ الْقَصْدُ الْمَشْرُوعُ فِي الْعَمَلِ لَا يَهْدِمُ قَصْدًا شَرْعِيًّا5، وَالْقَصْدُ غَيْرُ الشَّرْعِيِّ6 هادم   1 كذا في الأصول المعتمدة في التحقيق، والصواب "قرب نهاية الحول"، وإلا لو كانت الهبة في آخر الحول؛ لما وسعه الهرب لأن الزكاة تكون حينئذ قد وجبت، وشغلت بها الذمة؛ فتأمل. 2 سيأتي له بلفظ: "هربا"، وهو الصحيح لغة. "د". 3 أن مصلحة "إرفاق المساكين" ليست هي المصلحة الوحيدة في إخراج الزكاة؛ فإن مصارف الزكاة متعددة، و"إرفاق المساكين" واحد منها؛ فيكون بالتحيل على إسقاط هذه الفريضة قد عطل كافة المصارف الأخرى التي تصرف فيها الزكاة، فأثر التحيل في أيلولته إلى المفسدة أعظم مما ذكر المصنف، أفاده الأستاذ الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 420". 4 فالهبة المشروعة لا تنافي قصد الشارع من الزكاة، وهو رفع الشح، والإرفاق بالناس والإحسان إليهم، أما الهبة الصورية كالصورة التي فرضها؛ فإنها تنافي قصد الشارع في رفع الشح عن النفوس والإحسان إلى عباده. "د". قلت: ثمة فرق آخر بينهما، أشار إليه المصنف بقوله السابق: "ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه"؛ أي: رجع إلى الموهوب له ليسترجع ما وهبه إياه، وفي هذا إشارة إلى التواطؤ بينهما، ومعلوم أن العقد إذا فقد الإرادة أو الرضا؛ لم ينعقد، وهو باطل شرعًا، فما ذكره "د" من الفرق بينهما فمن حيث المقصد والمآل، وما ذكرناه؛ فمن حيث التكوين أو التكييف الفقهي. 5 بل جاء توثيقا لمقاصد الشريعة وتحقيقا لها، وليست وظيفته سلبية فقط، أي: لعدم هدمها، بل وإيجابية أيضا، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة" "1/ 422". 6 هو الباعث غير المشروع بعينه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 لِلْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ. وَمِثْلُهُ أَنَّ الْفِدْيَةَ شُرِعَتْ لِلزَّوْجَةِ هَرَبًا مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِي زَوْجِيَّتِهِمَا، فَأُبِيحَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ عِصْمَتَهَا مِنَ الزَّوْجِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، خَوْفًا من الوقوع في المحظور؛ فهذه بذلت ما لها طَلَبًا لِصَلَاحِ الْحَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَهُوَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ مُطَابِقٌ لِلْمَصْلَحَةِ، لَا فَسَادَ فِيهِ حَالًا وَلَا مَآلًا، فَإِذَا أَضَرَّ بِهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ؛ فَقَدْ عَمِلَ هُوَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ حِينَ أَضَرَّ بِهَا لِغَيْرِ مُوجِبٍ، مَعَ الْقُدْرَةِ1 عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْفِرَاقِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، فَلَمْ يَكُنِ التَّسْرِيحُ إِذَا طَلَبْتَهُ بِالْفِدَاءِ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ، وَلَا خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ فِدَاءُ مُضْطَرٍّ وإن كان جائزًا لها فمن2 جِهَةِ الِاضْطِرَارِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْإِضْرَارِ، وَصَارَ غَيْرَ جَائِزٍ لَهُ إِذْ وُضِعَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى الْخُصُوصِ، أَمَّا الْجُزْئِيَّةُ؛ فَمَا يُعْرِبُ عَنْهَا كُلُّ دَلِيلٍ لِحُكْمٍ فِي خاصته، وَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ؛ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُكَلَّفٍ تَحْتَ قَانُونٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَاعْتِقَادَاتِهِ؛ فَلَا يَكُونُ كَالْبَهِيمَةِ الْمُسَيَّبَةِ تَعْمَلُ بِهَوَاهَا، حَتَّى يَرْتَاضَ بِلِجَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا صَارَ الْمُكَلَّفُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَنَّتْ3 لَهُ يَتَّبِعُ رُخَصَ4 الْمَذَاهِبِ، وَكُلَّ قَوْلٍ وَافَقَ فِيهَا هَوَاهُ؛ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ التَّقْوَى، وَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَنَقَضَ مَا أَبْرَمَهُ الشَّارِعُ5 وَأَخَّرَ ما قدمه، وأمثال ذلك كثيرة.   1 لأن ذلك في يده دائما. "د". وفي الأصل وقعت: "إلى الوصول". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "من". 3 أي: طرأت. 4 في موضوعنا هي الحيل في تلك المذاهب. "د". 5 أي: ولم يكن داخلا مع سائر المكلفين تحت القانون العام المعين في هذا التكليف. "د". قلت: في "ط": "الشرع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 فصل: إذا ثَبَتَ هَذَا1 فَالْحِيَلُ الَّتِي تَقَدَّمَ إِبْطَالُهَا وَذَمُّهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا مَا هَدَمَ أَصْلًا شَرْعِيًّا وَنَاقَضَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً2، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحِيلَةَ لَا تَهْدِمُ أَصْلًا شَرْعِيًّا، وَلَا تُنَاقِضُ مَصْلَحَةً شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا؛ فَغَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النَّهْيِ وَلَا هِيَ بَاطِلَةٌ، وَمَرْجِعُ الْأَمْرِ فِيهَا إِلَى أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ، كَحِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ. وَالثَّانِي: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ؛ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِكْرَاهًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ نِسْبَةَ التَّحَيُّلِ بِهَا فِي إِحْرَازِ الدَّمِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لِمُقْتَضَاهَا كَنِسْبَةِ3 التَّحَيُّلِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ فِي إِحْرَازِ الدَّمِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ؛ إِلَّا أَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، لِكَوْنِهِ مَفْسَدَةً أُخْرَوِيَّةً4 بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فِي الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ تُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ؛ فَكَانَ بَاطِلًا، وَمِنْ هُنَا جَاءَ فِي ذَمِّ النِّفَاقِ وَأَهْلِهِ مَا جَاءَ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَكِلَا القسمين بالغ مبلغ القطع.   1 في "د": "لهذا". 2 مراده من "الأصل الشرعي": "المصلحة الكلية أو القانون العام المعين، ومن "المصلحة الشرعية": "المصلحة الجزئية، انظر هامش "د" السابق. 3 أي: في أن كلا منهما نطق بكلمة من غير اعتقاد لمعناها توصلا إلى غرض دينوي. "د". 4 لما تقدم أنه استهزاء ومخادعة لله ولرسوله لا دنيوية؛ لأن في ذلك مصلحة المنافق الدنيوية من إحراز دمه وماله، لكنه إذا عارضت المصلحة الأخروية أهملت وكانت باطلة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وأما الثالث: هو مَحَلُّ الْإِشْكَالِ وَالْغُمُوضِ، وَفِيهِ اضْطَرَبَتْ أَنْظَارُ النُّظَّارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ قَطْعِيٍّ لِحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، وَلَا تَبَيَّنَ فِيهِ لِلشَّارِعِ مَقْصِدٌ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ، وَلَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ؛ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَنَازَعًا فِيهِ، شَهَادَةٌ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَالتَّحَيُّلُ جَائِزٌ، أَوْ مُخَالِفٌ؛ فَالتَّحَيُّلُ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أَجَازَ التَّحَيُّلَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ قَصْدَ الشَّارِعِ، بَلْ إِنَّمَا أَجَازَهُ بِنَاءً1 عَلَى تَحَرِّي قَصْدِهِ وَأَنَّ مَسْأَلَتَهُ لَاحِقَةٌ بِقِسْمِ التَّحَيُّلِ الْجَائِزِ الَّذِي عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُصَادَمَةَ الشَّارِعِ صُرَاحًا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا لَا تَصْدُرُ2 مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، فَضْلًا عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَعُلَمَاءِ الدِّينِ، نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ إِنَّمَا مَنَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ وَلِمَا وُضِعَ فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ لِتَظْهَرَ صِحَّتُهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ؛ فَإِنَّهُ تَحَيُّلٌ إِلَى رُجُوعِ الزَّوْجَةِ إِلَى مُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ، بِحِيلَةٍ تُوَافِقُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ؛ فَقَدْ نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ هَذَا الْمُحَلِّلَ؛ فَكَانَ رُجُوعُهَا إِلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ تَطْلِيقِ الثَّانِي مُوَافِقًا، وَنُصُوصُ الشَّارِعِ مُفْهِمَةٌ لِمَقَاصِدِهِ، بَلْ هِيَ أَوَّلُ مَا يُتَلَقَّى مِنْهُ فَهْمُ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا، حَتَّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" 3   1 في "ط" بعد "بناء" كلمة غير واضحة، وأقرب ما تكون إلى "منه". 2 في "ط": "يصدر". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، 5/ 249/ رقم 2639"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، 2/ 1055-1056/ رقم 1433" وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها، ومضى تخريجه "1/ 430". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 ظَاهِرٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي ذَوْقُ العسيلة، وقد صحل في المحلل، ولو كان قصد التحيل مُعْتَبَرًا فِي فَسَادِ هَذَا النِّكَاحِ لَبَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام، ولأن كونه حيلة لا يمنعه، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ حِيلَةٍ؛ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِلْإِكْرَاهِ، وَسَائِرِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقِسْمِ الْجَائِزِ بِاتِّفَاقٍ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ مُوَافِقًا لِلْمَنْقُولِ؛ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مُوَافَقَتِهِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ1. وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ؛ فَمَصْلَحَةُ هَذَا النِّكَاحِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ قُصِدَ فِيهِ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِذْ كَانَ تَسَبُّبًا فِي التَّآلُفِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَصْدُ إِلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ التَّضْيِيقُ2 الَّذِي تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ، وَلِأَجْلِهِ شُرِعَ الطَّلَاقُ، وَهُوَ كَنِكَاحِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ النِّكَاحَ بِقَصْدِ حَلِّ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى الرَّغْبَةِ فِي بَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَنْكُوحَةِ، وَأَجَازُوا نِكَاحَ الْمُسَافِرِ فِي بَلْدَةٍ لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا قَضَاءُ الْوَطَرِ زَمَانَ الْإِقَامَةِ بِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا لَا يَلْزَمُ إِذَا شُرِعَتِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ لِمَصْلَحَةٍ أَنْ تُوجَدَ الْمُصْلِحَةُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا عَيْنًا حَسَبَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا فِي نِكَاحِ حَلِّ الْيَمِينِ، وَالْقَائِلِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ فِيهِمَا وَفِي نِكَاحِ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا تَقْرِيرُ بَعْضِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الِاحْتِيَالِ هُنَا، وَأَمَّا تَقْرِيرُ   1 نقل ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 250-251" عن ابن حزم وأبي ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة؛ أن الساعي في "التحليل" مأجور غير مأزور، وذكر أن هؤلاء حملوا أحدايث التحريم على إذا ما شرط في صلب العقد أنه نكاح تحليل، ثم رد هذا وناقشه مناقشة قوية، وكذلك فعل شيخه ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "30/ 73 وما بعدها". ورد المصنف في "الاعتصام" "1/ 471 - ط ابن عفان" نكاح المتعة بترك الصحابة له مع وجود الدواعي، وسيأتي تنبيه المصنف عليه في آخر "المقاصد". 2 في الأصل: "التضمين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 الدَّلِيلِ عَلَى الْمَنْعِ؛ فَأَظْهَرُ1، فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، وَأَقْرَبُ تَقْرِيرٍ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ"؛ فَإِلَيْكَ النَّظَرُ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ بُيُوعِ الْآجَالِ؛ فَإِنَّ فِيهَا التَّحَيُّلَ إِلَى بَيْعِ دِرْهَمٍ نَقْدًا بِدِرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، لَكِنْ بِعَقْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ذَرِيعَةً؛ فَالثَّانِي غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِذَا كَانَ قَدْ أَبَاحَ لَنَا الِانْتِفَاعَ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ؛ فَتَحَرِّي الْمُكَلَّفِ تِلْكَ الْوُجُوهَ غَيْرُ قَادِحٍ، وَإِلَّا كَانَ قَادِحًا فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْعَاقِدِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الثَّانِي؛ فَالْأَوَّلُ إِذًا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْوَسَائِلِ، وَالْوَسَائِلُ مَقْصُودَةٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ، وَهَذَا مِنْهَا، فَإِنْ جَازَتِ الْوَسَائِلُ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ؛ فَلْيَجُزْ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ مُنِعَ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَلْتُمْنَعِ الْوَسَائِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعَةً إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يمنع إلا بدليل2.   1 رجع المصنف هذا، وأدخل "نكاح التحليل" في "مناط التحيل" لقطعه كما سيأتي بأن قصد الشرع الأصلي من "النكاح" هو التناسل؛ فكان "نكاح التحليل" غير مشروع؛ لمنافاته لهذا المقصد الأصلي، ولا سبيل إلى التوفيق؛ فتعين أن يكون القصد في "نكاح التحليل" غير شرعي، والقصد غير الشرعي على حد تعبيره هادم للقصد الشرعي، ومن هنا كان "البطلان" الحتمي. 2 هذا النوع من التعامل مشهور هذه الأيام، ولا سيما في "البنوك الإسلامية"! وكلام المصنف السابق فيه نوع تساهل، يظهر ذلك من خلال التمعن والتأمل في كلام ابن القيم، فإنه أولى هذه المسألة أهمية كبرى، ولذا آثرت أن أنقله على الرغم مما فيه من طول؛ إلا أنه مما تشد اليد به، قال رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين" "3/ 148": "فإن أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل؛ فأعطى سلعة بالثمن المؤجل، ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما بالسلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة "يعني: ابن عباس": دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة؛ لا في شرع، ولا في عقل، ولا في عرف. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 ..............................................................   = بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال؛ فلم تذهب ولم تنقص، فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله، ويعده أشد الوعيد، ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه، مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله. هذا لا يأتي به شرع؛ فإن الربا على الأرض أسهل، وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه". انتهى. وهذه الحيلة التي أجازها المصنف داخلة تحت صور العينة التي يمنعها الأئمة، وإن أجازها بعضهم بناء على ظواهر العقود وتوفر شروطها وأركانها، وبناء على ما جرت به عادة المسلمين من سلامة عقودهم من التحيل والخداع والغش والتلاعب بآيات الله. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 397" في مسألة العينة والتورق: "ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على جواز مسألة العينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة على تحريمها". وقال ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "3/ 188" في بيان مسألة التورق وحكمها: "إن باعها إلى غيره "البائع الأول" بيعا ثابتا ولم تعد إلى الأول بحال؛ فقد اختلف الأئمة في كراهته، ويسمونه التورق؛ لأن مقصوده الورق" انتهى. وهذه الصورة التي ذكر ابن تيمية أن السلف اختلفوا في كراهتها، قال عنها تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 220": "وعن أحمد فيه "التورق" روايتان: الحرمة والكراهة"، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه "المتعامل بالتورق" مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه؛ فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا ابن تيمية يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر؛ فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيع ما هو أعلى ... ودليل المنع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، رواه الخمسة عدا ابن ماجه، وقوله: "من باع بيعتين؛ فله أوكسهما أو الربا"، رواه أبو داود، وإن ذلك لا يمكن وقوعه إلى على العينة انتهى. قلت: الحديث الأول مضى تخريجه "1/ 469"، والثاني في "السلسلة الصحيحة" برقم "2326"؛ فلعل الذي يقول بجواز التورق وحرمة العينة للضرورة كما قال أحمد، وعلق عليه ابن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 ..........................................................   = القيم بقوله: "وهذا من فقهه رضي الله عنه، وارتكاب أخذ الضررين، أو بناء على أصله من أن البيع الأول صحيح لوجود القبض والرضا، وعدم اشتراط رجوع المبيع إلى البائع الأول". أما مالك رحمه الله؛ فيمنع العينة بناء على عدم القبض في البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي يتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا، وقد سد مالك باب الذرائع سدا محكما -كما عبر ابن القيم-، وقد عقد لها بابا في "الموطأ" بعنوان: "العينة وما يشبهها"، وأبطل كل صورها؛ كما تراه في "تنوير الحوالك" "2/ 63". وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 294" تعليقا على الخلاف في مسألة العينة بكل صورها وبيان علله وأسبابه: "وإنما تردد من تردد من الأصحاب الحنابلة في العقد الأول في مسألة العينة؛ لأن هذه المسألة إنما ينسب الخلاف فيها إلى العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح. وعلى هذا التقدير؛ فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسألة الذرائع، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه؛ فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة، وهو أن الثمن إذا لم يستوفِ لم يتم العقد الأول؛ فيصير الثاني مبينا عليه، وهو تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع؛ فصار للمسألة ثلاثة مآخذ ... قال شيخنا ابن تيمية: والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران ... ". انتهى. ويرى ابن القيم أن الحيل لا تمشي على أصول الأئمة بل تناقضها أعظم مناقضة، وبيان ذلك أن الشافعي رضي الله عنه يحرم مسألة مُدّ عجوة "نوع من التمر" ودرهم بمد ودرهم، ويبالغ في تحريمها بكل طريق خوفًا أن يتخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل؛ فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النسيئة أولى من تحريم مد عجوة بكثير؛ فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء، وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك؟ وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك؟ وأبو حنيفة يحرم مسألة العينة، وتحريمه يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد العجوة بأن يبيعه أحد عشر درهما بعشرة في خرقة: دراهم بدراهم بينهما حريرة كما قال ابن عباس. فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة، وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة ويتوسع فيها، وأصل كل من الإمامين رضي الله عنهما في أحد البابين يستلزم = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 بَلْ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّوَسُّلِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَصِحَّةِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" 1؛ فَالْقَصْدُ بِبَيْعِ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ التَّوَسُّلُ إِلَى حُصُولِ الْجَنِيبِ بِالْجَمْعِ2، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، وَلَا فَرْقَ فِي الْقَصْدِ بَيْنَ حُصُولِ ذَلِكَ مَعَ عَاقِدٍ وَاحِدٍ وَعَاقِدَيْنَ، إِذْ لَمْ يُفَصِّلُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ3: إِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ القول بالذرائع غير مفيد هنا؛   = إبطال الحيلة في الباب الآخر. وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم. انظر: "إعلام الموقعين" "3/ 241-242". وهذه المناقشة العليمة القوية تدل دلالة راجحة إن لم تكن قاطعة على تحريم المسألتين، كما تدل على ما يتحلى به ابن القيم رحمه الله من نزاهة علمية وسعة علم وقوة حجة في مناقشة هاتين المسألتين على مذهب إمامين جليلين اشتهرا بقوة العارضة والحجة البالغة والمكانة العملية المسلم بها لهما من علماء العالم الإسلامي كله تقريبا. وانظر: "الحيل الفقهية في المعاملات المالية" "ص144 وما بعدها". 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، 4/ 399-400/ رقم/ 2201، 2202، وكتاب الوكالة، باب الوكالة في الصرف والميزان، 4/ 481/ رقم 2302، 2303"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل، 3/ 1215/ رقم 1593 بعد 95" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. و"الجمع" -بفتح الجيم وسكون الميم-: التمر المختلط، و"الجنيب" -بجيم ونون وتحتانية وموحدة، وزن عظيم- قال مالك: "هو الكبيس"، وقال الطحاوي: "هو الطيب"، وقيل: الصلب، وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع، قاله ابن حجر في "الفتح" "4/ 400". 2 قلت: وقد وقعت في الأصل: "بع الجميع"، وكذا جميع الكلمات بعدها جميع، ووافقت الأصل نسخة "خ" في الموطن الأخير، وفي الأصل أيضا: "التوصل" لا "التوسل". 3 أي المانع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 فَإِنَّ الذَّرَائِعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: - مِنْهَا: مَا يُسَدُّ بِاتِّفَاقٍ؛ كَسَبِّ الْأَصْنَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مؤدٍ إِلَى سبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وكَسَبِّ أَبَوَيِ الرَّجُلِ إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا إِلَى سَبٍّ أَبَوَيِ السَّابِّ؛ فَإِنَّهُ عُدَّ فِي الْحَدِيثِ1 سَبًّا مِنَ السَّابِّ لِأَبَوَيْ نَفْسِهِ، وَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِمْ فِيهَا، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الَّتِي يُعْلَمُ تَنَاوُلُ الْمُسْلِمِينَ لَهَا. - وَمِنْهَا: مَا لَا يُسَدُّ بِاتِّفَاقٍ، كَمَا إِذَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِطَعَامِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ أَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ؛ فَيَتَحَيَّلُ بِبَيْعِ متابعه لِيَتَوَصَّلَ بِالثَّمَنِ إِلَى مَقْصُودِهِ، بَلْ كَسَائِرِ التِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الَّذِي أُبِيحَتْ لَهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّحَيُّلِ فِي بَذْلِ دَرَاهِمَ فِي السِّلْعَةِ لِيَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهَا. - وَمِنْهَا: مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ؛ فَلَمْ نَخْرُجْ عَنْ حُكْمِهِ بَعْدُ، وَالْمُنَازَعَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ. وَهَذِهِ جملة ما يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى جَوَازِ التَّحَيُّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَدِلَّةُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مُقَرَّرَةٌ وَاضِحَةٌ شَهِيرَةٌ؛ فَطَالِعْهَا فِي مَوَاضِعِهَا2، وَإِنَّمَا قُصِدَ هُنَا هَذَا التَّقْرِيرُ الْغَرِيبُ3 لِقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِهِ؛ إِذْ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْمَعْدُومَةِ الْوُجُودِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ، وَمَعَ أَنَّ اعْتِيَادَ الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ رُبَّمَا يُكْسِبُ الطَّالِبَ نُفُورًا وَإِنْكَارًا لِمَذْهَبٍ غَيْرِ مَذْهَبِهِ، مِنْ غَيْرِ إِطْلَاعٍ عَلَى مَأْخَذِهِ؛ فَيُورِثُ ذَلِكَ حَزَازَةً فِي الِاعْتِقَادِ فِي الْأَئِمَّةِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَضْلِهِمْ وتقدمهم في   1 وقد تقدم "ص76". 2 في كتاب "إعلام الموقعين" "المجلد الثالث" بسط عظيم في هذا الموضع. "د". 3 لعل الأصل: "للغريب" يعني في مقابلة الشهير الذي للمانعين. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 الدِّينِ، وَاضْطِلَاعِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ وَفَهْمِ أَغْرَاضِهِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا كَثِيرًا ولنكتفِ بِهَذَيْنَ الْمِثَالَيْنِ؛ فَهُمَا مِنْ أَشْهَرِ الْمَسَائِلِ فِي بَابِ الْحِيَلِ، وَيُقَاسُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِمَا النَّظَرُ فِيمَا سِوَاهُمَا. فَصْلٌ: هَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَقَدْ مَرَّ مِنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَسَائِلِ الْمُقَرَّرَةِ كَثِيرٌ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ مَسَائِلُ أُخَرُ تَفْرِيعًا أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ خَاتِمَةٍ تَكُرُّ عَلَى كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِالْبَيَانِ، وَتُعَرِّفُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ فِيهِ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَإِنَّ لِلْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَبِمَاذَا يُعْرَفُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ مِمَّا ليس بمقصود له؟ والجواب أن النظر ههنا يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ غَائِبٌ عَنَّا حَتَّى يَأْتِيَنَا مَا يُعَرِّفُنَا بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ الْكَلَامِيِّ مُجَرَّدًا1 عَنْ تَتَبُّعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَقْتَضِيهَا الِاسْتِقْرَاءُ وَلَا تَقْتَضِيهَا الْأَلْفَاظُ بِوَضْعِهَا اللُّغَوِيِّ؛ إِمَّا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّكَالِيفَ لَمْ يُرَاعَ فِيهَا مَصَالِحُ الْعِبَادِ عَلَى حَالٍ، وَإِمَّا مَعَ الْقَوْلِ بِمَنْعِ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي بَعْضٍ2؛ فَوَجْهُهَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَنَا على التمام، أو غير معروف   1 فالمعاني والحكم والأسرار والمصالح التي تؤخذ من استقراء مصادر الشريعة ما لم تدل عليها الألفاظ بوضعها اللغوي لا يعول عليها في هذا النظر، ولا تعتبر من مقاصد الشارع. "د". 2 أي: فالمصالح غير مطردة ولا ملتزمة ولا معروف سرها؛ فالنسل مثلا في النكاح ما وجه كونه مقصودا للشارع؟ وهكذا، وقوله: "ويبالغ في ذلك حتى يمنع القول بالقياس" منع القول بالقياس مبني على هذا بناء ظاهرا، سواء أجرى على عدم مراعاة المصالح رأسا أو على أنها إن وقعت في البعض فسرها غير معروف؛ لأنه لا يتأتى القياس على كلا القولين، فقوله: "ويبالغ"؛ أي: يؤكد صحة ما يقول؛ فيلزم عليه عدم القول بالقياس، ويلتزم هذا اللازم. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 أَلْبَتَّةَ، وَيُبَالَغُ فِي هَذَا حَتَّى يُمْنَعَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ رَأْيُ الظَّاهِرِيَّةِ الَّذِينَ يَحْصُرُونَ مَظَانَّ الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي الظَّوَاهِرِ وَالنُّصُوصِ، وَلَعَلَّهُ يشار إليه1 في كتاب القياس إن شال اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِهِ بِإِطْلَاقٍ أَخْذٌ فِي طَرَفٍ تَشْهَدُ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ كَمَا قَالُوا. وَالثَّانِي فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنْ هَذَا؛ إِلَّا أَنَّهُ ضَرْبَانِ: الْأَوَّلُ: دَعْوَى أَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَلَا مَا يُفْهَمُ مِنْهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَهُ، وَيَطَّرِدُ هَذَا فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي ظَاهِرِهَا مُتَمَسَّكٌ يُمْكِنُ أَنْ يُلْتَمَسَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَهَذَا رَأْيُ كُلِّ قَاصِدٍ لِإِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ، وَهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي النُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ الشَّرْعِيَّةِ لِكَيْ يُفْتَقَرَ إِلَيْهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمَآلُ هَذَا الرَّأْيِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ؛ فَلْنَنْزِلْ عَنْهُ إِلَى قِسْمٍ آخَرَ يُقَرِّبُ مِنْ مُوَازَنَةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ: الضَّرْبُ الثَّانِي: بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ2، بِحَيْثُ لَا تُعْتَبَرُ الظَّوَاهِرُ وَالنُّصُوصُ إِلَّا بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ خَالَفَ النَّصُّ الْمَعْنَى النَّظَرِيَّ اطُّرِحْ وَقُدِّمَ الْمَعْنَى النَّظَرِيُّ، وَهُوَ إِمَّا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لَكِنْ مَعَ تَحْكِيمِ الْمَعْنَى جِدًّا حَتَّى تَكُونَ الْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ تَابِعَةً لِلْمَعَانِي النَّظَرِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيُ "المتعمقين   1 في الأصل: "عليه". 2 لعل الأصل: "إلى المعاني النظرية" ليتسق الكلام مع ما يليه, وليكون هذا مقابلا للنظر الأول، أما على هذه النسخة؛ فإنه لا يوافق ما بعده، ولا يكون مقابلا للأول. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فِي الْقِيَاسِ"، الْمُقَدِّمِينَ لَهُ عَلَى النُّصُوصِ، وَهَذَا فِي طَرَفٍ آخَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ فِيهِ الْمَعْنَى بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْعَكْسِ؛ لِتَجْرِيَ الشَّرِيعَةُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَنَاقُضَ1، وَهُوَ الَّذِي أَمَّهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ؛ فَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي الضَّابِطِ الَّذِي بِهِ يُعَرِّفُ مَقْصِدَ الشَّارِعِ؛ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ جِهَاتٍ: إِحْدَاهَا: مُجَرَّدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِابْتِدَائِيِّ التَّصْرِيحِيِّ، فَإِنَّ الْأَمْرَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا لِاقْتِضَائِهِ الْفِعْلَ؛ فَوُقُوعُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ مُقْتَضٍ لِنَفْيِ الْفِعْلِ أَوِ الْكَفِّ عَنْهُ؛ فَعَدَمُ وُقُوعِهِ مَقْصُودٌ لَهُ، وَإِيقَاعُهُ مُخَالِفٌ لِمَقْصُودِهِ، كَمَا أَنَّ عَدَمَ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَقْصُودِهِ؛ فَهَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ عَامٌّ لِمَنِ اعْتَبَرَ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى عِلَّةٍ، وَلِمَنِ اعْتَبَرَ الْعِلَلَ وَالْمَصَالِحَ، وَهُوَ الْأَصْلُ الشَّرْعِيُّ. وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالِابْتِدَائِيِّ تَحَرُّزًا مِنَ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ الَّذِي قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ2؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمْعَةِ: 9] ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ لَيْسَ نَهْيًا مُبْتَدَأً، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالسَّعْيِ؛ فَهُوَ مِنَ النَّهْيِ الْمَقْصُودِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَالْبَيْعُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، كَمَا نهي عن الربى والزنى مَثَلًا، بَلْ لِأَجْلِ تَعْطِيلِ السَّعْيِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا؛ فَفِي فَهْمِ قَصْدِ الشَّارِعِ مِنْ مُجَرَّدِهِ نَظَرٌ وَاخْتِلَافٌ، مَنْشَؤُهُ3 مِنْ أصل المسألة المترجمة "بالصلاة في   1 في نسخة "ماء/ ص246" زيادة بعدها: "وهو أولى الحمل بالوجهين؛ أي: عليهما". 2 انظر حول هذا المعنى: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "29/ 290-292". 3 فأصل البيع مباح، ولكنه اقترن به وصف باعتبار الزمان، وهو أنه يكون معطلا عن السعي إلى الجمعة الذي هو واجب، وهو وصف منفك فيأتي فيه الخلاف. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ". وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالتَّصْرِيحِيِّ تَحَرُّزًا مِنَ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ الضِّمْنِىِّ الَّذِي لَيْسَ بِمُصَرَّحٍ بِهِ؛ كَالنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ1، وَالْأَمْرُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ عَنِ الشيء، فإن النهي والأمر ههنا إِنْ قِيلَ بِهِمَا؛ فَهُمَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ مَجْرَاهُمَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِمَا مَجْرَى التَّأْكِيدِ لِلْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، فَأَمَّا إِنْ قِيلَ بِالنَّفْيِ2؛ فَالْأَمْرُ أَوْضَحُ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِمَا لَا يَتِمُّ الْمَأْمُورُ3 إِلَّا بِهِ الْمَذْكُورُ فِي مَسْأَلَةِ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ"؛ فَدَلَالَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذَا عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ؛ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قيد الأمر والنهي بالتصريحي. الثانية: اعْتِبَارُ عِلَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلِمَاذَا أُمِرَ بِهَذَا الْفِعْلِ؟ وَلِمَاذَا نُهِيَ عَنْ هَذَا الْآخَرِ؟ وَالْعِلَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً اتُّبِعَتْ؛ فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْقَصْدِ أَوْ عَدَمِهِ؛ كَالنِّكَاحِ لِمَصْلَحَةِ التَّنَاسُلِ، وَالْبَيْعِ لِمَصْلَحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْحُدُودِ لِمَصْلَحَةِ الِازْدِجَارِ، وَتُعْرَفُ الْعِلَّةُ هُنَا بِمَسَالِكِهَا الْمَعْلُومَةِ4 فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ؛ عُلِمَ أن   1 بعدها زيادة في الأصل: "والأمر الذي تضمنه الأمر". 2 كما هو رأي الإمام الغزالي، وهو المختار، يقولون: ليس الأمر بالشيء هو النهي عن ضده ولا يتضمنه عقلا، والأول رأي القاضي ومن تابعه. "د". قلت: انظر في المسألة: "المحصول" "2/ 199"، و"المنهاج" "1/ 76-80- بشرحي ابن السبكي والإسنوي". 3 في "ط": "المأمور به إلا به". 4 بعد أن عد الرازي في "المحصول" "5/ 137" المسالك المشهورة منها، وهي النص، والإجماع، والمناسبة، والدوران، والسبر، والتقسيم، والشبه، والطرد، وتنقيح المناط؛ قال: "وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة، لا ينبغي تفصيل حكم الله بمجرد الاستناد إليه كالطرد الذي هو مقارنة الحكم للوصف من غير مناسبة؛ إذ المقارنة لا تدل على العلية؛ فإن الحد مع المحدود، والأبوة مع البنوة، والجوهر مع العرض قد حصلت بينها المقارنة مع عدم العلية". "خ". وفي "ط": "العلة ههنا ... ". انظر مسالك العلة في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 168-184"، و"الرد على المنطقيين" "210"، و"شفاء الغليل" و"أساس القياس" "ص31-32، 37، 61، 74"، كلاهما للغزالي، و"نبراس العقول: "ص209-387"، و"مباحث العلة في القياس عند الأصوليين" "ص369 وما بعدها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 مَقْصُودَ الشَّارِعِ مَا اقْتَضَتْهُ تِلْكَ الْعِلَلُ مِنَ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمِهِ، وَمِنَ التَّسَبُّبِ أَوْ عَدَمِهِ1، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ عَنِ الْقَطْعِ عَلَى الشَّارِعِ أَنَّهُ قَصَدَ كذا أو كذا2؛ إِلَّا أَنَّ التَّوَقُّفَ هُنَا لَهُ وَجْهَانِ مِنَ النَّظَرِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَعَدَّى الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ أَوِ السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعِلَّةِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَضَلَالٌ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، وَلَا يَصِحُّ3 الْحُكْمُ عَلَى زَيْدٍ بِمَا وُضِعَ حُكْمًا عَلَى عَمْرٍو، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ الْحُكْمَ بِهِ عَلَى زَيْدٍ أَوْ لَا؛ لِأَنَّا إِذَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا عَلَيْهِ، فَنَكُونَ قَدْ أَقْدَمْنَا عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّارِعِ؛ فَالتَّوَقُّفُ هُنَا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ شَرْعًا أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَالُّهَا حَتَّى يُعْرَفَ قَصْدُ الشَّارِعِ لِذَلِكَ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ عَدَمَ نَصْبِهِ دَلِيلًا عَلَى التَّعَدِّي دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّعَدِّي إذ لوكان عِنْدَ الشَّارِعِ مُتَعَدِّيًا لَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَوَضَعَ لَهُ مَسْلَكًا، وَمَسَالِكُ الْعِلَّةِ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ خُبِرَ4 بِهَا مَحَلُّ الْحُكْمِ؛ فَلَمْ تُوجَدْ لَهُ عِلَّةٌ   1 أي: في الأحكام الوضعية، وما قبله في الأحكام التكليفية؛ كما يرشد إليه تمثيله للقسمين وما يأتي بعد أيضا. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وكذا". 3 في الأصل ونسخة "ماء/ ص248" و"ط": "فلا يصح". 4 في الأصل: "جبر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 يَشْهَدُ لَهَا مَسْلَكٌ مِنَ الْمَسَالِكِ؛ فَصَحَّ أَنَّ التَّعَدِّيَ لِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ. فهذان المسلكان كِلَاهُمَا مُتَّجِهٌ فِي الْمَوْضِعِ1؛ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَنَّ التَّعَدِّيَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَيَقْتَضِي هَذَا إِمْكَانَ أَنَّهُ مُرَادٌ؛ فَيَبْقَى النَّاظِرُ بَاحِثًا حَتَّى يَجِدَ مَخْلَصًا؛ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَزْمَ الْقَضِيَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ2 نَفْيُ التَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَيُحْكَمُ بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَإِنْ أَتَى مَا يُوَضِّحُ خِلَافَ الْمُعْتَقَدِ رُجِعَ إِلَيْهِ، كَالْمُجْتَهِدِ يَجْزِمُ الْقَضِيَّةَ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ يَطَّلِعُ بَعْدُ عَلَى دَلِيلٍ يَنْسَخُ حزمه3 إِلَى خِلَافِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُمَا مَسْلَكَانِ مُتَعَارِضَانِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ، وَالْآخَرَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَهُمَا فِي النَّظَرِ سَوَاءٌ4، فَإِذَا اجْتَمَعَا تَدَافَعَا أَحْكَامَهُمَا؛ فَلَا يَبْقَى إِلَّا التَّوَقُّفُ وَحْدَهُ؛ فَكَيْفَ يَتَّجِهَانِ مَعًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَارَضَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ؛ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ لِأَنَّهُمَا كَدَلِيلَيْنِ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَتَفَرَّعَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ، وَقَدْ لَا يَتَعَارَضَانِ بِحَسَبِ مُجْتَهِدَيْنَ أَوْ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتَيْنِ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ؛ فَيَقْوَى عِنْدَهُ مَسْلَكُ التَّوَقُّفِ فِي مَسْأَلَةٍ، وَمَسْلَكُ النَّفْيِ فِي مسألة أخرى؛ فلا تعارض على الإطلاق.   1 في نسخة "ماء/ ص248": "الوضع" من غير ميم. 2 في الأصل و"خ" و"ط": "على". 3 في الأصل و"ط": "جزمه". 4 أي: وحينئذ؛ فلا يبنى عليهما حكم، ولا يكون لها ثمرة؛ لأنهما متعارضان مع التساوي، فلا يتأتى ترجيح؛ فيسقطان؛ فكيف يتأتى الانتفاع بهما والعمل بمقتضاهما؟ "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وَأَيْضًا؛ فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَأَنَّهُ غَلَّبَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ جِهَةَ التَّعَبُّدِ، وَفِي بَابِ الْعَادَاتِ جِهَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَالْعَكْسُ فِي الْبَابَيْنِ قَلِيلٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ مَالِكٌ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّظَافَةِ حَتَّى اشْتَرَطَ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ، وَفِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ دُونَ ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ مَقَامَهُمَا، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَدَدِ فِي الْكَفَّارَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ مَا مَاثَلَهُ، وَغَلَّبَ فِي بَابِ الْعَادَاتِ الْمَعْنَى؛ فَقَالَ فِيهَا بِقَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: "إِنَّهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ"1 إِلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ2 الْكَلَامُ فِي هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَسْلَكُ النَّفْيِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعِبَادَاتِ، وَمَسْلَكُ التَّوَقُّفِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعَادَاتِ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تُرَاعَى الْمَعَانِي فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَجْرِي الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ "الْحَنَفِيَّةِ"، وَالتَّعَبُّدَاتُ فِي بَابِ الْعَادَاتِ3، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شيء فيجري الباقي عليه، وهي طريق الظاهرية، ولكن العمدة ما   1 رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك، وعلق عليه المصنف في "الاعتصام" "2/ 138" بقوله: "وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه؛ فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة". 2 في المسألة الثامنة عشرة: "الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات الالفتات إلى المعاني". "د". قلت: والعبارة في الأصل: "مر من الكلام" بزيادة "من". 3 ما ذكره المصنف هنا تعميق وتأصيل لما عند شيخه المقري في "القواعد" "قاعدة 73، 74، 296"، والفروع المنقولة آنفا في الطهارة والزكاة وقيم الزكاة ليس مما انفرد به مالك، بل هو مذهب جماهير الفقهاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 تَقَدَّمَ، وَقَاعِدَةُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالِاسْتِصْحَابِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَالْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ مَقَاصِدَ أَصْلِيَّةً وَمَقَاصِدَ تَابِعَةً. مِثَالُ ذَلِكَ النِّكَاحُ؛ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّنَاسُلِ على المقصد الْأَوَّلِ، وَيَلِيهِ طَلَبُ السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ؛ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَلَالِ، وَالنَّظَرِ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْمَحَاسِنِ فِي النِّسَاءِ، وَالتَّجَمُّلِ بِمَالِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قِيَامِهَا عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ إِخْوَتِهِ، وَالتَّحَفُّظُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مِنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَنَظَرِ الْعَيْنِ، وَالِازْدِيَادُ مِنَ الشُّكْرِ بِمَزِيدِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ1 عَلَى الْعَبْدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَجَمِيعُ هَذَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ النِّكَاحِ؛ فَمِنْهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَوْ مُشَارٌ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا عُلِمَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَمَسْلَكٍ اسْتُقْرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ التَّوَابِعِ هُوَ مثبت للمقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطبه وَإِدَامَتِهِ، وَمُسْتَجْلِبٌ لِتَوَالِي التَّرَاحُمِ وَالتَّوَاصُلِ وَالتَّعَاطُفِ، الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّارِعِ الْأَصْلِيُّ مِنَ التَّنَاسُلِ؛ فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ2 عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهُ ذَلِكَ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ أَيْضًا، كَمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي نِكَاحِ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ طَلَبًا لِشَرَفِ النَّسَبِ، وَمُوَاصَلَةِ أَرْفَعِ الْبُيُوتَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ سَائِغٌ، وَأَنَّ قَصْدَ التَّسَبُّبِ لَهُ حَسَنٌ. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ نَوَاقِضَ هَذِهِ الْأُمُورِ مُضَادَّةٌ لِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ بإطلاق،   1 في "ط": "بمزيد نعم الله ... ". 2 وهو مسلك المناسبة التي تتلقاها العقول السليمة بالتسليم، ويبقى النظر في عد هذا جهة ثالثة مستقلة عن الجهة الثانية التي قال فيها: وتعرف المناسبة هنا بمسالك العلة المعلومة"، ومعلوم أن منها المناسبة، فإذا كان هذا من المناسبة كما قلنا؛ احتيج إلى بيان سبب جعل هذا جهة ثالثة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 مِنْ حَيْثُ كَانَ مَآلُهَا إِلَى ضِدِّ الْمُوَاصَلَةِ وَالسَّكَنِ وَالْمُوَافَقَةِ، كَمَا إِذَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا1 لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِمَنْعِهِ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الْمُوَاصَلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ مُسْتَدَامَةً إِلَى انْقِطَاعِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ؛ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُقَاطَعَةَ بِالطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَكُلُّ نِكَاحٍ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَهُوَ أَشَدُّ فِي ظُهُورِ مُحَافَظَةِ الشَّارِعِ2 عَلَى دَوَامِ الْمُوَاصَلَةِ، حَيْثُ نَهَى عَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا الْعِبَادَاتُ؛ فَإِنَّ الْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا التَّوَجُّهُ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ وَإِفْرَادُهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ قَصْدُ التَّعَبُّدِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ لِيَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّوَابِعَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ وَبَاعِثَةٌ عَلَيْهِ، وَمُقْتَضِيَةٌ لِلدَّوَامِ فِيهِ سِرًّا وَجَهْرًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ إِلَى التَّابِعِ لَا يَقْتَضِي دَوَامَ الْمَتْبُوعِ وَلَا تَأْكِيدَهُ؛ كَالتَّعَبُّدِ بِقَصْدِ حِفْظِ الْمَالِ وَالدَّمِ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ أَوْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ؛ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّ الْقَصْدَ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ بِمُؤَكَّدٍ وَلَا بَاعِثٍ عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ هُوَ مقوٍ لِلتَّرْكِ وَمُكَسِّلٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ لَا يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إلى رَيْثَمَا يَتَرَصَّدُ بِهِ مَطْلُوبَهُ، فَإِنْ بَعُدَ عَلَيْهِ تَرَكَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الآية [الحج: 11] . فَمِثْلُ هَذَا الْمَقْصِدِ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ إِذَا قصد العمل لأجله، وإن كان   1 في الأصل: "ليحللها". 2 لعل الأصل: "في مضادة قصد الشارع"؛ أي: أن نكاح المتعة الذي تعين له مدة مخصوصة أشد من سائر ما ذكر من التحليل وغيره في مضادة المواصلة التي يحافظ عليها الشارع؛ لأن التحليل لم يدخلا فيه على مدة، وقد لا يفارقها، نعم، إن المعنيين متلازمان، فمتى كان نكاح المتعة أشد مضارة لقصد الشارع لورود النهي عنه؛ كان أظهر دلالة على أن مقصد الشارع دوام المواصلة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 مُقْتَضَاهُ حَاصِلًا بِالتَّبَعِيَّةِ1 مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ فَإِنَّ النَّاكِحَ عَلَى الْمَقْصِدِ الْمُؤَكِّدِ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ2 الْفِرَاقُ؛ فَيَسْتَوِي مَعَ النَّاكِحِ لِلْمُتْعَةِ وَالتَّحْلِيلِ، وَالْمُتَعَبِّدِ لِلَّهِ عَلَى الْقَصْدِ الْمُؤَكِّدِ يَحْصُلُ لَهُ حِفْظُ الدَّمِ وَالْمَالِ وَنَيْلُ الْمَرَاتِبِ وَالتَّعْظِيمُ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُتَعَبِّدِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَاصِدَ التَّابِعِ الْمُؤَكِّدِ حَرٍ بِالدَّوَامِ، وَقَاصِدُ التَّابِعِ غَيْرُ الْمُؤَكِّدِ حَرٍ بِالِانْقِطَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمُضَادَّةُ هَلْ تعتبر من حيث تقتضي المخالفة عَيْنًا، أَمْ يُكْتَفَى فِيهَا بِكَوْنِهَا لَا تَقْتَضِي الْمُوَافَقَةَ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي الْمُقَاطَعَةَ عَيْنًا؛ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ عَيْنِيَّةٌ، وَنِكَاحُ الْقَاصِدِ لِمُضَارَّةِ الزَّوْجَةِ أَوْ لِأَخْذِ مَالِهَا أَوْ لِيُوقِعَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذلك مما لَا يَقْتَضِي مُوَاصَلَةً وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَيْنَ الْمُقَاطَعَةِ؛ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ عَيْنًا؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ مُضَارَّةِ الزَّوْجَةِ وُقُوعُهَا، وَلَا مِنْ وُقُوعِ الْمُضَارَّةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ضَرْبَةَ لَازِبٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ، أَوِ الْحُكْمِ عَلَى الزَّوْجِ، أَوْ زَوَالِ ذَلِكَ الْخَاطِرِ السَّبَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مُقْتَضِيًا؛ فَلَيْسَ اقْتِضَاؤُهُ عَيْنِيًّا. فَالْجَوَابُ أَنَّ اقْتِضَاءَ الْمُخَالَفَةِ الْعَيْنِيَّةِ لَا شَكَّ فِي امْتِنَاعِهَا وَبُطْلَانِ مُقْتَضَاهَا مُطْلَقًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مَعًا؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لِلَّهِ بِمَا يَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْمَقَاصِدِ وَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُتَزَوَّجَ بِذَلِكَ الْقَصْدِ، وَأَمَّا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ عَيْنًا كَالنِّكَاحِ بِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ، وَكَنِكَاحِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُهُ؛ فَإِنَّ هُنَا وَجْهَيْنِ مِنَ النَّظَرِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَافِقٍ؛ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ، فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ   1 أي: قد يحصل بالتبعية. "د". 2 في الأصل ونسخة "ماء/ ص250": "به"، وفي "ط": "فيه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ مَنَعَ، وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ عَدَمِ تَعَيُّنِ1 الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَمْنَعْ وَيَظْهَرُ هَذَا فِي مِثَالِ نِكَاحِ الْمُضَارَّةِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ بِالنِّكَاحِ الْجَائِزِ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْمَمْنُوعِ؛ فَالنِّكَاحُ مُنْفَرِدٌ بِالْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْبَقَاءِ أَوِ الْفُرْقَةِ مُمْكِنٌ، إِلَّا أَنَّ الْمُضَارَّةَ مَظِنَّةٌ لِلتَّفَرُّقِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْمِقْدَارَ مَنَعَ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ أَجَازَ. فَصْلٌ: وَهَذَا الْبَحْثُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِلشَّارِعِ مَقَاصِدَ تَابِعَةً فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مَعًا، أَمَّا فِي الْعَادَاتِ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ [ذَلِكَ] فِيهَا. فَالصَّلَاةُ مَثَلًا أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْخُضُوعُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِخْلَاصِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَالِانْتِصَابُ عَلَى قَدَمِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَذْكِيرُ النَّفْسِ بِالذِّكْرِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] . وَقَالَ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ 2 أَكْبَرُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 45] . وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ" 3. ثُمَّ إِنَّ لَهَا مَقَاصِدَ تَابِعَةً؛ كَالنَّهْيِ عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها   1 في "ط": "عدم التعين في ... ". 2 هذا هو المقصود هنا للدلالة على أصل المشروعية، بدليل جعله النهي عن الفحشاء من التوابع. "د". 3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب المصلي يناجي ربه عز وجل، 2/ 14/ رقم 531" عن أنس مرفوعا: "إن أحدكم إذا صلى ينادي ربه؛ فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 مِنْ أَنْكَادِ الدُّنْيَا فِي الْخَبَرِ: "أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ" 1، وَفِي الصَّحِيحِ: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" 2، وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] . وَفِي الْحَدِيثِ3 تَفْسِيرُ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْجَاحِ الْحَاجَاتِ؛ كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ4 وَصَلَاةِ الْحَاجَةِ، وَطَلَبِ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وَكَوْنِ الْمُصَلِّي فِي خِفَارَةِ اللَّهِ، فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ لَمْ يَزَلْ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ" 5، وَنَيْلِ أَشْرَفِ الْمَنَازِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] ؛ فَأُعْطِيَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ. وَفِي الصِّيَامِ سَدُّ مَسَالِكِ الشَّيْطَانِ، وَالدُّخُولُ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى التحصين فِي الْعُزْبَةِ فِي الْحَدِيثِ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ؛ فَلْيَتَزَوَّجْ"، ثُمَّ قَالَ: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وجاء" 6.   1 مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح. 2 قطعة من حديث أوله: "حبب إلي ... " مضى تخريجه "2/ 240"، وهو صحيح. 3 سيأتي قريبا "ص146"، ومضى أيضا "1/ 333"، وهو ضعيف. 4 لم يكن السلف الصالح يعملون بغير هذه الاستخارة المأثورة في الحديث الصحيح؛ حتى قامت طائفة ممن ألصقوا بجوهر الشريعة بدعًا سيئة؛ فوضعوا الاستخارة المنامية، ثم الاستخارة بالمصحف والسبحة ونحوها، وتفننوا في أوصافها، وذلك كله من المحدثات المكروهة، ولا ينبغي لعاقل أن يعتمد عليها في فعل شيء أو تركه، وقد نص على المنع من الاستفتاح بالمصحف أبو بكر الطرطوشي وأبو بكر بن العربي وعداه من قبيل الأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان. "خ". 5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلة العشاء والصبح في جماعة، 1/ 454/ رقم 657" عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه. 6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، 4/ 119/ رقم 1905 - والمذكور لفظه- وكتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع الباءة؛ فليتزوج"، 9/ 106/ رقم 5065، وباب من لم يستطع الباءة فليصم، 9/ 112/ رقم 5066"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، 2/ 1018/ رقم 1400" عن ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وَقَالَ: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ" 1. وَقَالَ: "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ" 2. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا فَوَائِدُ أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ الْعَامَّةُ، وَفَوَائِدُ دُنْيَوِيَّةٌ، وَهِيَ كُلُّهَا تَابِعَةٌ3 لِلْفَائِدَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهِيَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبَعْدَ هَذَا يَتْبَعُ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ فَوَائِدِهَا وَسِوَاهَا، وَهِيَ تَابِعَةٌ؛ فَيُنْظَرُ فِيهَا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُؤَكِّدُ كَطَلَبِ الْأَجْرِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ، وَضِدُّهُ كَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ، بَلْ هُوَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام، وسائر   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب فضل الصوم، 4/ 103/ رقم 1894، وباب هل يقول إني صائم إذا شُتم، 4/ 118/ رقم 1904"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 806" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، 4/ 111/ رقم 1896"، مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب فضل الصيام، 2/ 808/ رقم 1152" من حديث سهل بن سعد مرفوعا: "إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم؛ أغلق فلم يدخل منه أحد". وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا ... "، رقم 3666"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، رقم 1027" من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أنفق زوجين في سبيل الله ... "، وفيه: "ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان". 3 في "ط": "كلها توابع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحُظُوظِ، وَيَنْبَغِي تَحْقِيقُ النَّظَرِ فِيهَا، وَفِي الثَّانِي الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ التَّأَكُّدِ، وَمَا يَقْتَضِي مِنْ ذَلِكَ ضِدَّ التَّأَكُّدِ عَيْنًا، وَمَا لَا يَقْتَضِيهِ عَيْنًا. وَأَيْضًا؛ فَهُنَا نَظَرٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ يُطْلَبُ بِهَا الْمَوَاهِبُ الَّتِي هِيَ نَتَائِجُ مَوْهُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ الْمُطِيعِ وَحِلًى يُحَلِّيهِ بِهَا، وَأَوَّلُ ذَلِكَ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا قُصِدَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَصْلُ الْقَصْدِ بِهِ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَالتَّوَاضُعُ لِعَظَمَتِهِ؛ كَانَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ مِنْ جِهَتِهِ صَحِيحًا، لَا دَخَلَ فِيهِ وَلَا شَوْبَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ ذَلِكَ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِمَّا عَدَّهُ بَعْضُهُمْ طَلَبًا لِلْإِجَارَةِ وَصَاحِبُهُ عَبْدُ سُوءٍ؛ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الطَّرَفُ الْآخَرُ الْعَامِلُ لِأَجْلِ أَنْ يُحْمَدَ أَوْ يُعَظَّمَ أَوْ يُعْطَى؛ فَهَذَا عَامِلٌ1 عَلَى الرِّيَاءِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ عَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ أَصَالَةٍ؛ إِذْ لَا إِخْلَاصَ فِيهِ فَهُوَ عَبَثٌ، وَإِنْ فُرِضَ خَالِصًا لِلَّهِ لَكِنْ قُصِدَ بِهِ حُصُولُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ؛ فَلَيْسَ هَذَا الْقَصْدُ بمقوٍ لِلْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، بَلْ هُوَ مُقَوٍّ لِتَرْكِ الْإِخْلَاصِ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الْعَطَاءِ؛ فَيَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ الْعَطَاءَ، وَيَسْأَلُ لَهُ لِأَجْلِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الضَّرَّاءِ بِسَبَبِ الْمَنْعِ وَفَقْدِ الْأَسْبَابِ، وَيَكُونُ عَمَلُهُ بِمُقْتَضَى مَحْضِ الْإِخْلَاصِ لَا لِيَرَاهُ النَّاسُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ عَمَلٌ مقتضٍ لِمَا شُرِعَ لَهُ التَّعَبُّدُ2 ومقوٍ لَهُ، وَأَصْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] .   1 من الخصوع لله والانتصاب على قدم الذلة بين يديه. "د". 2 في الأصل: "الحامل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ "كَانَ إِذَا اضْطَرَّ أَهْلُهُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ؛ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ"1 لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَهَذِهِ صَلَاةٌ لِلَّهِ يُسْتَمْنَحُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَهِيعِ جَرَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ2 وشيخه فيمن أظهر علمه لِتَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَتَصِحَّ إِمَامَتُهُ، وَلِيُقْتَدَى بِهِ إِذَا كَانَ مَأْمُورًا شَرْعًا بِذَلِكَ لِتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ فِيهِ وَعَدَمِ مَنْ يَقُومُ ذَلِكَ3 الْمَقَامَ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَتِلْكَ الْعِبَادَةُ الظَّاهِرَةُ لَا تَقْدَحُ فِي أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ4 [نَفْسَ] ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ النَّاسِ أَوِ الْإِمَامَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مَخُوفٌ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْعَمَلُ الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا فِي طَلَبِ الْجَاهِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ الْخَلْقِ بِالْعِبَادَةِ. وَمِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ هُنَا الِانْقِطَاعُ إِلَى الْعَمَلِ لِنَيْلِ دَرَجَةِ الْوِلَايَةِ أَوِ الْعِلْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْرِي فِيهِ الْأَمْرَانِ5، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الْفُرْقَانِ: 74] . وَحَدِيثُ النَّخْلَةِ حِينَ قَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: "لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إلي من كذا وكذا"6.   1 الحديث ضعيف، ومضى تخريجه "1/ 333". 2 في "أحكام القرآن" "1/ 118، 136 و2/ 511" وغيره. 3 في الأصل و"ط": "تلك". 4 أي: ولم يكن مأمورا شرعا بذلك، بحيث فقد شرطا من الشروط السالفة. "د". 5 وهما قصد أن يحمد أو يعظم أو يعطى، والقصد الذي قبله الذي لا مانع منه، وقوله: "ودليل الجواز"؛ أي: جواز أحد القصدين وهو السابق، أما الثاني؛ فلا يختلف في منعه. "د". 6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب الحياء من العلم، 1/ 229/ رقم 131، وكتاب الأدب، باب ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين، 10/ 523-524/ رقم 6122"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4/ 2164-2165/ رقم 2811"، وأحمد في "المسند" "2/ 31، 61، 115" عن ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وانظر في مسألة "العتبية"1 فأرى أَنَّ اخْتِلَافَ مَالِكٍ وَشَيْخِهِ فِيهَا إِنَّمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَمِمَّا يُشْكِلُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ التَّعَبُّدُ بِقَصْدِ تَجْرِيدِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَنَيْلِ الْكَرَامَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى غَرَائِبِ الْعُلُومِ وَالْعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَصْدَ مِثْلِ هَذَا بِالتَّعَبُّدِ جَائِزٌ وَسَائِغٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إِلَى طَلَبِ نَيْلِ دَرَجَةِ الْوِلَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَوَاصِّ اللَّهِ وَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الطَّلَبِ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ التَّرَقِّي إِلَيْهِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمْثِلَةِ قَبْلَ هَذَا، وَلَا فرق، وقد يقال: إنه خارج عن نمظ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ تَخَرُّصٌ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ2، وَيَزِيدُ بِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَسِيلَةً إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَصْدِ دَاخِلٌ بِوَجْهٍ مَا تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} الْآيَةَ [الْحَجِّ: 11] . كَذَلِكَ هَذَا إِنْ وَصَلَ إِلَى مَا طَلَبَ فَرِحَ بِهِ، وَصَارَ هُوَ قَصْدُهُ مِنَ التَّعَبُّدِ؛ فَقَوِيَ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودُهُ وَضَعُفَتِ الْعِبَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَمَى بِالْعِبَادَةِ، وَرُبَّمَا كَذَّبَ بِنَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَهَبُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ، وَقَدْ رُوِيَ أن   1 المتقدمة "2/ 361"، وانظرها في "البيان والتحصيل" "1/ 498". 2 خرق العادة باطلاع أحد الأصفياء على بعض المغيبات هو من الجائزات الداخلة تحت متعلق القدرة، ولكن الناس أكثروا من دعوى وقوعها، وتسارعوا إلى تصديق من يزعم أنه حظي بها أو يحكيها عن غيره، مع أن العناية بهذا الشأن لا تعود على الأفراد ولا الجماعات بفائدة ذات بال، وقد تعدى بعضهم في هذا الأمر حتى ادعى العلم بما ورد الحديث الصحيح مصرحا بأن معرفته تختص بالخالق، وهي الخمس المشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] . "خ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 بَعْضَ النَّاسِ سَمِعَ بِحَدِيثِ: مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا؛ ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"1؛ فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ، فَلَمْ يفتح له   1 هذا الحديث سئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فأجاب في "أحاديث القصاص" "رقم 35" بقوله: "هذا قد رواه الإمام أحمد رحمه الله وغيره عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وروي مسندا من حديث يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف لا يجوز الاحتجاج بحديثه". وصدق شيخ الإسلام؛ فإن يوسف بن عطية مجمع على ضعفه كما في "الميزان" "4/ 470"، وقال عنه البخاري: "منكر الحديث". والحديث روي مرفوعا عن طريق مكحول عن أبي أيوب مرفوعا، رواه أبو نعيم في "الحلية" "5/ 189"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 144"، وقال: "فيه يزيد الواسطي وهو يزيد بن عبد الرحمن، قال ابن حبان: كان كثير الخطأ فاحش الوهم خالف الثقات في الرويات، ولا يصح لقاء مكحول بأبي أيوب، وقد ذكر محمد بن سعد أن العلماء قدحوا في روايته عن مكحول وقالوا: هو ضعيف في الحديث". والحديث روي من طريق آخر مرفوعا ذكره القضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 285/ رقم 325"، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 145". وفيه سوار من مصعب متروك، وقال يحيى عنه: "ليس بثقة ولا يكتب حديثه". وله شاهد مرفوع آخر ذكره ابن عدي في "الكامل" "5/ 307" عن أبي موسى الأشعري بلفظ: "من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة؛ أخرج الله تعالى على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه". ومن طريق ابن عدي أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" "3/ 144". قال ابن عدي: "متنه منكر، وعبد الملك له غير ما ذكرت وهو مجهول ليس بالمعروف". قلت: عبد الملك هذا هو ابن مهران الرفاعي، قال عنه العقيلي في كتابه "الضعفاء" "3/ 134": "صاحب مناكير، غلب عليه الوهم، لا يقيم شيئا من الحديث"، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "2/ 370"، وقال: "مجهول الحديث". وذكره ابن حبان في "الثقات" كما في "لسان الميزان" "4/ 69". والحديث روي مرسلا كما أشار لذلك أبو نعيم في "الحلية" "5/ 189" وقال: رواه ابن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 بابها، فلبغت الْقِصَّةُ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ؛ فَقَالَ: "هَذَا أَخْلَصَ لِلْحِكْمَةِ وَلَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ"، وَهَكَذَا يَجْرِي الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا أَعْلَمُ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَا غُيِّبَ عَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ لَمْ يُطْلَبْ بِدَرَكِهِ، وَلَا حُضَّ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ يَنْمُو إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى حالته الأولى؟ فنزلت1:   = هارون ورواه أبو معاوية عن الحجاج فأرسله "أي: من طريق مكحول"، وكذا روي مرسلا كما في "الزهد" لهناد "678"، والمروزي في "زوائد الزهد" "359"، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 231"، وقال: عن مكحول: بلغني أن النبي "وذكره". والحديث ذكره موضوعا ابن الجوزي كما مر وتبعه الصاغاني في "الدر الملتقط" "رقم 26". ورده السيوطي في "اللالئ المصنوعة" "2/ 327"؛ فضعفه وهو الحق، وعلى هذا حكم ابن تيمية والسخاوي في "المقاصد" "395"، والسيوطي في "الدرر المنتثرة" "242"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "243"، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" "2/ 305"، والزبيدي في "شرح الإحياء" "6/ 8، 9/ 329، 10/ 45"، والألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 38"، وهو الصواب، لذا قال المنذري في "الترغيب": "لم أقف له على إسناد صحيح ولا حسن، وإنما ذكر في كتب الضعفاء؛ كـ"الكامل" وغيره". وذكر الزبيدي في "شرح الإحياء" "6/ 7"؛ أن عبد الحق الإشبيلي صحح معنى الحديث كما في "شرح الأحكام"، والله أعلم. 1 نقله المصنف عن الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد". قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" "1/ ق6"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "3/ 269"، من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به. وإسناده واه، فيه السدي والكلبي، وضعفه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 490". وأخرج ابن جرير في "التفسير" "2/ 185-186"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ 133/ أ" عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. وفيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف. وأخرجه نحوه ابن جرير عن قتادة بسند رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل. وانظر: "الفتح السماوي" "1/ 231-232" للمناوي، و"لباب النقول" "ص35" للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي" "1/ 118، 119"، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف"، وحكم عليه بأنه "غريب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية [البقرة: 189] ؛ فَجَعَلَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا مِثَالًا شَامِلًا لِمُقْتَضَى هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّهُ تَطَلُّبٌ لِمَا لَمْ يُؤْمَرُ بِتَطَلُّبِهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَعْرِفَةِ بِمَصْنُوعَاتِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْعَوَالِمُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَخَوَارِقُ الْعَادَاتِ فِيهَا تَقْوِيَةٌ لِلنَّفْسِ، وَاتِّسَاعٌ فِي دَرَجَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ شَرْعًا لِأَجْلِ الْعَمَلِ حَسَبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَمَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ كافٍ وَفَوْقَ الْكِفَايَةِ؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَضْلٌ، وَأَيْضًا إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260] ؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ طَلَبَ الْخَوَارِقِ بِالدُّعَاءِ، وَطَلَبَ فَتْحِ الْبَصِيرَةِ لِلْعِلْمِ بِهِ1 لَا نَكِيرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَنْ أَخَذَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ يَرَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؛ فَالدُّعَاءُ بَابُهُ مَفْتُوحٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ شَرْعًا مَا لَمْ يدعُ بِمَعْصِيَةِ، وَالْعِبَادَةُ إِنَّمَا الْقَصْدُ بِهَا التَّوَجُّهُ لِلَّهِ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ، وَالْخُضُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَلَا تُحْتَمَلُ الشَّرِكَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ طَلَبَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الأخروي مؤكد لإخلاص العمل   1 أي: بالدعاء، يعني أن طلب ذلك بالدعاء لا نكير فيه، إنما النكير في أن يقصد هذا بالعبادة، وسيدنا إبراهيم طلب ذلك بالدعاء لا بعبادة أخرى من العبادات؛ فليس طلب الخوارق بالدعاء كطلبها بالعبادة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ؛ لِمَا سَاغَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ يَعْزُبُ عَنْهُمْ هَذَا الْقَصْدُ؛ فَكَيْفَ يُجْعَلَانِ مَثَلَيْنِ؟ أَعْنِي طَلَبَ الْخَوَارِقِ بِالدُّعَاءِ مَعَ الْقَصْدِ إِلَيْهَا بِالْعِبَادَةِ، مَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَهُمَا لِمَنْ تَأْمَّلَ! وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ نَجِدْ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ1؛ لَكَانَ لَنَا بَعْضُ الْعُذْرِ فِي التَّخَطِّي عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ؛ فَكَيْفَ وَفِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ الْقَرِيبَةِ الْمَأْخَذِ، السَّهْلَةِ الْمُلْتَمَسِ مَا يَفْنَى الدَّهْرُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، لَمْ يُبْلَغْ مِنْهَا فِي الِاطِّلَاعِ وَالْمَعْرِفَةِ عُشْرُ الْمِعْشَارِ، وَلَوْ نَظَرَ الْعَاقِلُ فِي أَقَلِّ الْآيَاتِ2، وَأَذَلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَوْدَعَ بَارِيهَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ؛ لَقَضَى الْعَجَبَ، وَانْتَهَى إِلَى الْعَجْزِ فِي إِدْرَاكِهِ3، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنْ تَنْظُرَ فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَعْرَافِ: 185] . {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الْغَاشِيَةِ: 17-18] إِلَى آخِرِهَا. {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] إِلَى تمام الآيات.   1 أي: على كمالات الله وتنزيهه، وقدرته الشاملة، إلى آخر ما أشار إليه، وبالتأمل يدرك الفرق بين الجوابين. "د". 2 كالنخلة، والنملة، والفراشة، وما يسمى بالمكيروبات، وغير ذلك؛ فقد ألفت المجلدات الضخمة فيما عرف لها من الخواص، واعترف علماؤها بأنهم لا يزالون في أوائل البحث. "د". 3 ينظر جملة حسنة من هذه الحكم والعجائب في "مفتاح دار السعادة" و"شفاء العليل" كلاهما لابن القيم، و"النحلة تسبح لله"، للحمصي، و"الطلب محراب الإيمان" لخالص جلبي كنجو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالنَّظَرِ فِيمَا حَجَبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ عَادَةً إِلَّا بِخَارِقَةٍ، فَإِنَّهُ إِحَالَةٌ عَلَى مَا يَنْدُرُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَعَوَالِمُ الْغَيْبِ لَمْ تَجِدْهَا مِمَّا أُحِيلَ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَلَا مَأْمُورًا بِتَطَلُّبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا وَعَلَى ذَوَاتِهَا وَحَقَائِقِهَا؛ فَهَذِهِ التَّفْرِقَةِ كَافِيَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ النَّظَرُ فِيهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا؛ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يُطْلَبَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّطَلُّبِ الْخَاصِّ فَلْسَفِيٌّ؛ فَإِنَّ الِاعْتِنَاءَ بِطَلَبِ تَجْرِيدِ النفس والاطلاع على العوالي الَّتِي وَرَاءَ الْحِسِّ إِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي فُنُونِ الْبَحْثِ، مِنَ الْمُتَأَلِّهِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يُقَرِّرُونَ لِطَلَبِ هَذَا الْمَعْنَى رِيَاضَةً خَاصَّةً لَمْ تَأْتِ بِهَا الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، مِنَ اشْتِرَاطِ التَّغَذِّي بِالنَّبَاتِ دُونَ الْحَيَوَانِ، أَوْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَمْ تُنْقَلْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَا وُجِدَ مِنْهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ التَّجْرِيدِ وَالْعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، كَمَا سَيَأْتِي عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالرَّابِعُ: أَنَّ طَلَبَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الرُّوحَانِيَّاتِ وَعَجَائِبِ الْمُغَيَّبَاتِ؛ كَطَلَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ النَّائِيَةِ؛ كَالْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْبِلَادِ الْقَاصِيَةِ، وَالْمُغَيَّبَاتِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَصْنَافٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ قَصْدَ أَنْ يَطَّلِعَ الْأَنْدَلُسِيُّ عَلَى قُطْرِ بَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَأَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي مِثْلُهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنُ هَذَا سَائِغًا؛ فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِعَوَارِضَ كَثِيرَةٍ، وَقَوَاطِعَ مُعْتَرِضَةٍ تَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْتِلَاءَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ1، فَإِذَا وَازَنَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ مَصْلَحَةِ حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ مَفْسَدَةِ مَا يَعْتَرِضُ2 صَاحِبَهَا كَانَتْ جِهَةُ الْعَوَارِضِ أَرْجَحَ؛ فَيَصِيرُ طَلَبُهَا مَرْجُوحًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْلُدْ إِلَى طَلَبِهَا الْمُحَقِّقُونَ3 مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَلَا رَضُوا بِأَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُمْ يُدَاخِلُهَا أَمْرٌ، حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ؛ فَقَالَ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ4 مَا تَقَدَّمَ، وَأَشَدُّ الْعَوَارِضِ طَلَبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَقْتَضِي وَضْعُهَا5 الْإِخْلَاصَ التَّامَّ فَلَا يَلِيقُ بِهِ طَلَبُ الْحُظُوظِ، فَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِهَا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ؛ فَسَارَ كَالْمُسَافِرِ لِيَرَى الْبِلَادَ النَّائِيَةَ، وَالْعَجَائِبَ الْمَبْثُوثَةَ فِي الْأَرْضِ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مُجَرَّدُ حَظٍّ لَا عِبَادَةَ فِيهِ، وَمَقْصُودُ الْأَمْرِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ عَاضِدًا لِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْعِبَادَةُ فِي الْأَصْلِ، مِنَ التَّحَقُّقِ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ دَوَاءِ الْحِفْظِ؛ فَقَالَ: تَرْكُ الْمَعَاصِي، وَمِنْ مَشْهُورِ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الطَّاعَةَ تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ6، كَمَا أَنَّ الشَّرَّ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالشَّرِّ؛ فهل للإنسان   1 في الأصل و"خ" و"ط": "تعملون". 2 في نسخة "ماء/ ص252": "يتعرض". 3 في نسخة "ماء/ ص252"، و"ط": "المحقون". 4 العبارة في نسخة "ماء/ ص252": "فقال بنفي طلب الثواب، وأشد ... ". 5 في "ط": "وضعه". 6 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، 6/ 48-49/ رقم 2842"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا" عن أبي سعيد الخدري ضمن حديث طويل، فيه: "فقال رجل: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: "كيف قلت؟ ". قال: قلت: يا رسول الله! أيأتي الخير رسول الله صلى الله عبالشر؟ فقال له ليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بخير، أو خير هو". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى الْخَيْرِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتَ لَا؛ كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَإِنْ قُلْتَ نَعَمْ؛ خَالَفْتَ مَا أَصَّلْتَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا نَمَطٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَصُدُّهُ مَثَلًا عَنِ الْخَيْرِ الْفُلَانِيِّ عَمَلُ شَرٍّ، فَيَتْرُكُ الشَّرَّ لِيَصِلَ إِلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ فِعْلُ الْخَيْرِ يُوَصِّلُهُ إِلَى خَيْرٍ آخَرَ كَذَلِكَ؛ فَهَذَا عَوْنٌ بِالطَّاعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [الْبَقَرَةِ: 45] . وَقَالَ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الآية [المائدة: 2] . وَمَسْأَلَةُ الْحِفْظِ مِنْ هَذَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ؛ فَحَاصِلُهُ طَلَبُ حَظٍّ شَهْوَانِيٍّ يَطْلُبُهُ بِالطَّاعَةِ، وَمَا أَقْرَبَ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ غَيْرَ مُخْلَصٍ. فَالْحَاصِلُ1 لِمَنِ اعْتَبَرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّوَابِعِ مُقَوِّيًا وَمُعِينًا عَلَى أَصْلِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرَ قَادِحٍ فِي الْإِخْلَاصِ؛ فَهُوَ الْمَقْصُودُ التَّبَعِيُّ السَّائِغُ، وَمَا لَا؛ فَلَا، وَأَنَّ الْمَقَاصِدَ التَّابِعَةَ لِلْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، وَرَبْطَهَا، والوثوق بها، وحصول الرغبة فيها؛ فلا إشكال2 أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ؛ فَالْقَصْدُ إِلَى التَّسَبُّبِ إِلَيْهِ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فَيَصِحُّ. وَالثَّانِي 3: مَا يَقْتَضِي زَوَالُهَا عَيْنًا؛ [فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا فِي أَنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهَا مُخَالِفٌ لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ عينًا] 4؛ فلا يصح التسبب بإطلاق.   1 هذا حاصل الفصل فيما يتعلق بتوابع العبادة، وقوله: "وأن المقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام ... " إلى قوله: "الجهة الرابعة" حاصل للجهة الثالثة برمتها؛ عبادتها، وعادتها. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا شك". 3 أي: ولا فرق في القسمين بين العبادات والعادات. "د". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وَالثَّالِثُ: مَا لَا يَقْتَضِي تَأْكِيدًا وَلَا رَبْطًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَيْنًا؛ فَيَصِحُّ فِي الْعَادَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ1، أَمَّا عَدَمُ صِحَّتِهِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ فِي الْعَادَاتِ؛ فَلِجَوَازِ حُصُولِ الرَّبْطِ وَالْوُثُوقِ بَعْدَ التَّسَبُّبِ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ لَا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ، وَقَصْدُ الشَّارِعِ التَّأْكِيدُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّسَبُّبُ مُوَافِقًا لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ؛ فَلَا يَصِحُّ، وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ، إِذْ لَمْ يَقْصِدِ انْحِتَامَ رَفْعِ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ وَضْعَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ فِي التَّسَبُّبِ أَمْرًا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ أَيْضًا مِمَّا يَقْصِدُ رَفْعَ التَّسَبُّبِ؛ فَلِذَلِكَ شَرَعَ فِي النِّكَاحِ الطَّلَاقَ، وَفِي الْبَيْعِ الْإِقَالَةَ، وَفِي الْقِصَاصِ الْعَفْوَ، وَأَبَاحَ الْعَزْلَ2، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُضَادَّةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ3 لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهَا غَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ عينًا، ومثله4   1 كطلب الاطلاع على عالم الروحانيات بالعبادات على ما حققه، أما مثل قطع الشهوة بالصيام؛ فمع كونه من هذا قد أحاله على ما تقدم من طلب الحظوظ في العبادة؛ فليراجع. "د". 2 أخذ الجمهور بالأحدايث الواردة بإباجة العزل، ولكن شرطوا رضا الزوجة وإذنها بذلك؛ لأن الجماع من حقوقها، وهو لا يتم بغير إنزال، ورجح طائفة منهم ابن حزم حرمته بإطلاق متمسكين بحديث جذامة المروي في "صحيح مسلم" وهو من قوله عليه السلام حين سئل عن العزل: "ذلك الوأد الخفي"، وجروا في هذا الترجيح على قاعدة أن النص الناقل عن البراءة الأصلية يقدم على ما يوافقها، وما يستعمل في هذا العصر من وضع غلاف رقيق على عضو التناسل ليمنع من نفوذ الماء إلى الرحم يجري على هذا الخلاف، والتحقيق ما ذهب إليه الجمهور، وتسميته في حديث جذامة بالوأد الخفي يكفي في وجهها أنه مكروه كراهة تنزيه، إلا أن يتهافت عليه الناس فيحرم كما لو تتابعوا على ترك النكاح من أصله. "خ". 3 أي: فلا يعول على ما ظهر ببادئ الرأي لما كان غير مخالف عينا؛ فيكون حينئذ صحيحا. "د". 4 أي: وهذا مثل ما إذا قصد ... إلخ، فمع كونه لم يقصد قصد الشارع بل قصد أمرا = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 مَا إِذَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ قَضَاءَ الْوَطَرِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْأَصْلِيِّ مِنَ التَّنَاسُلِ؛ فَلَيْسَ خِلَافًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا مَضَى تَمْثِيلُهُ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُخَالِفَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ بِلَا بُدٍّ هُوَ الِاحْتِيَالُ1 بِالتَّسَبُّبِ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ، عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ التَّسَبُّبُ فِيهِ عَبَثًا لَا مَحْصُولَ تَحْتَهُ شَرْعًا إِلَّا التَّوَصُّلُ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، فَإِذَا حَصَلَ انْحَلَّ التَّسَبُّبُ وَانْخَرَمَ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مُنْخَرِمٌ شَرْعًا فِي أَصْلِ التَّسَبُّبِ، وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يَنْخَرِمَ أَوْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونُ مُنْخَرِمًا مِنْ أَصْلِهِ؛ فَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ [كُلِّ] وَجْهٍ؛ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَيَبْقَى التَّسَبُّبُ إِنْ صَحِبَهُ نَهْيٌ مَحَلَّ نَظَرٍ أَيْضًا2، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجِهَةُ الرَّابِعَةُ: مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّارِعِ: السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ التَّسَبُّبِ3، أَوْ عَنْ شَرْعِيَّةِ الْعَمَلِ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:   1 لعل أصل العبارة هكذا: "وليس من هذا المخالف لقصد الشارع بلا بد، وهو الاحتيال ... إلخ"، أي: ليس من هذا النوع الذي أكد جوازه بما قرره ما يكون فيه التسبب حيلة للوصول به إلى غرض آخر، بحيث يزول ما تسبب فيه بمجرد وصوله إلى غرضه، كما تقدم في بيوع الآجال، وكالهبة للفرار من الزكاة؛ فإنه لا يعد من هذا النوع الذي فيه الكلام هنا، وهو ما لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ولا رفعه؛ لأن هذا في الحقيقة يؤدي إلى رفعه وانخرامه، وقوله: "وأما إذا أمكن" يعني: وهو القسم الثالث هنا. "د". 2 وهو ما أشار إليه كثيرا بترجمة الصلاة في الدار المغصوبة. "د". 3 أي: في الأعمال العادية؛ كتضمين الصناع، وقوله: "أو عن شرعية العمل"؛ أي: في الأعمال العبادية، كتدوين المصحف. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَدَّرُ لِأَجْلِهِ؛ كَالنَّوَازِلِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سُكِتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُلِّيَّاتِهَا، وَمَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ؛ كَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَتَدْوِينِ الْعِلْمِ، وَتَضْمِينِ1 الصُّنَّاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نَوَازِلِ زَمَانِهِ، وَلَا عَرَضَ لِلْعَمَلِ بِهَا مُوجِبٌ يَقْتَضِيهَا؛ فَهَذَا الْقِسْمُ جَارِيَةٌ فُرُوعُهُ عَلَى أُصُولِهِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا بِلَا إِشْكَالٍ؛ فَالْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا مَعْرُوفٌ مِنَ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ2. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ، فَلَمْ يُقَرَّرْ فِيهِ حُكْمٌ عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ السُّكُوتُ فِيهِ كَالنَّصِّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ أَنْ لَا يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ3؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِشَرْعِ الْحُكْمِ الْعَمَلِيِّ مَوْجُودًا ثُمَّ لَمْ يُشْرَعِ الْحُكْمُ دَلَالَةً4 عَلَيْهِ؛ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا كَانَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ، وَمُخَالَفَةٌ لِمَا قَصَدَهُ   1 ألم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم صناع؟ بل كان؛ فالتمثيل به غير واضح لأن الموجب إذا كان موجودا؛ فإما أن يكون قد أخذ حكما من الشارع غير ما كان جاريًا قبل، أو لا، وعلى كل؛ فهو حكم إما بإقرار ما كان موجودا أو بتعديله، فلا يظهر عده فيما نحن فيه إلا إذا كان خلا زمانه عليه السلام عما يتعلق بذلك، وهو بعيد. "د". 2 أي: في الجهة الثالثة، وهي ما لم ينص عليه وعلم بمسلك استقرى من النصوص. "د". 3 أي: فهو تقرير لنفس ما كان جاريًا واعتبار له، وأنت ترى أصل الكلام عامًا في العادي والعبادي، ولكنه ساق الكلام في هذا القسم مساق الخاص بقسم العبادة، وهو الذي يقال فيه: بدعة وغير بدعة. "د". 4 في الأصل: "ولا له"، وفي "ط": "ولا نية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 الشارع؛ إذا فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدٍّ هُنَالِكَ، لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ1. وَمِثَالُ هَذَا سُجُودُ الشُّكْرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى2 فِي "الْعُتْبِيَّةِ"3 مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ، قَالَ فِيهَا: "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا. فَقَالَ: لَا يَفْعَلُ، لَيْسَ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فِيمَا يَذْكُرُونَ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ4؛ أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ أَسْمَعْ لَهُ خِلَافًا. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا نَسْأَلُكَ لِنَعْلَمَ رَأْيَكَ فَنَرُدَّ ذَلِكَ بِهِ. فَقَالَ: نَأْتِيكَ بِشَيْءٍ آخَرَ أَيْضًا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي: قَدْ فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ؛ أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا؟ إِذَا جَاءَكَ5 مِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُسْمَعُ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ؛ فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ6 لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ؛ فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ، إِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا تَعْرِفُهُ فَدَعْهُ"، هَذَا تَمَامُ الرِّوَايَةِ، وقد احتوت على   1 انظر تفصيل هذا في "الاعتصام" "1/ 360 وما بعدها، ط- رشيد رضا و1/ 468 - ط ابن عفان". 2 وهو الجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع. "د". 3 "1/ 392 - مع شرحها "البيان والتحصيل"". 4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "2/ 367 - ط دار الفكر"، والبيهقي في "سننه" "2/ 371" بسند ضعيف فيه راوٍ مبهم. وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "3/ 358/ رقم 5963" -ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" "5/ 288/ رقم 2882"- بإسناد منقطع. 5 هذا إلى آخر الكلام هو الزائد عن مضمون ما أجاب به أولا، وبه يظهر قوله: "بشيء آخر لم تسمعه منه"، راجع "الاعتصام" "1/ 468 - ط ابن عفان" في فصل: "ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال ... إلخ"؛ تجد اختلافًا في اللفظ يؤدي إلى بعض الاختلاف في المعنى. 6 كذا في "ط" و"العتبية"، وفي غيره: "لأنه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 فَرْضِ سُؤَالٍ وَالْجَوَابِ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ فِي الْبِدَعِ مَثَلًا: إِنَّهَا "فِعْلُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ تَرْكُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ"، أَوْ تَقُولُ: "فِعْلُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنِ الْإِذْنِ فِيهِ، أَوْ تَرْكُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ"1؛ فَالْأَوَّلُ كَسُجُودِ الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكٍ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ عَلَى فِعْلِهِ2، وَالدُّعَاءُ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ3، وَالِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ في غير عرفات4، والثاني كالصيام من تَرْكِ الْكَلَامِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ بِتَرْكِ مَأْكُولَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالثَّالِثُ كَإِيجَابِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي الظِّهَارِ لِوَاجِدِ الرَّقَبَةِ. وَهَذَا الثَّالِثُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يصح بحال5؛ فكونه بدعة قبيحة بين.   1 الإشارة لفعل ما سكت عنه وترك ما أذن فيه؛ فإن إيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ليس مما سكت عنه الشارع، بل هو ضد لما نص عليه الشارع، وقوله: "أو أمر خارج عن ذلك"، هذا ما زادت به العبارة عن سابقتها. "د". 2 استحب الإمام الشافعي سجدة الشكر، وقال أحمد: "لا بأس بها"، وقال إسحاق وأبو ثور: "هي سنة"، وكره النخعي ذلك، وزعم أنه بدعة، وكره ذلك مالك والنعمان، قاله أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص189 - بتحقيقي". وانظر لزاما: "الأوسط" "5/ 287-289" لابن المنذر. 3 انظر في ذلك: "الاعتصام" للشاطبي "1/ 473-475 - ط ابن عفان". 4 انظر في بدعية ذلك: "السنن الكبرى" "5/ 118" للبيهقي، و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص149"، و"مجموع الفتاوى" "11/ 298، 576، 629"، و"منية المصلي" "573"، و"الحوادث والبدع" للطرطوشي "ص115-117"، و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص117-119 - بتحقيقي"، و"البدع والنهي عنها" "ص46-47"، و"الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" "ص181-185 - بتحقيقي"، و"حجة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص128". 5 انظر في ذلك: "الاعتصام" "2/ 610-611 - ط دار ابن عفان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْأَوَّلَانِ -وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ لِمَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ-؛ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ مُخَالَفَتُهُمَا لِقَصْدِ الشَّارِعِ أَوْ أَنَّهُمَا مِمَّا يُخَالِفُ الْمَشْرُوعَ؟ وَهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا1 مَعَ الْمَشْرُوعِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، بَلْ هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ2، وَالْبِدَعُ إِنَّمَا أُحْدِثَتْ لِمَصَالِحَ يَدَّعِيهَا أَهْلُهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا لِوَضْعِ الْأَعْمَالِ، أَمَّا الْقَصْدُ؛ فَمُسَلَّمٌ بِالْفَرْضِ3، وَأَمَّا الْفِعْلُ؛ فَلَمْ يَشْرَعِ الشَّارِعُ4 فِعْلًا نُوقِضَ بِهَذَا الْعَمَلِ الْمُحْدَثِ، وَلَا تَرْكًا لِشَيْءٍ فَعَلَهُ هَذَا الْمُحْدِثُ؛ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، بَلْ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشَّارِعِ، وَالْمَسْكُوتُ مِنَ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً [وَلَا مُوَافَقَةً] ، وَلَا يُفْهِمُ5 لِلشَّارِعِ قَصْدًا مُعَيَّنًا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ رَجَعْنَا إِلَى النَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مُصْلِحَةً قَبِلْنَاهُ إِعْمَالًا لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مَفْسَدَةً تَرَكْنَاهُ إِعْمَالًا لِلْمَصَالِحِ أَيْضًا، وَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ هَذَا وَلَا هَذَا؛ فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ إِعْمَالًا للمصالح المرسلة   1 لأنه لا مشروع في هذه الفرض، وهو توجيه لإنكار الأمرين معا. "د". 2 أي: التي لم يرد من الشارع فيها نص أو دليل بخصوصها، فهي مرسلة عن الدليل. "د". 3 لأن فرض الكلام أنه وجد المقتضى للفعل مثلا أو للترك، كحصول النعمة المستحقة للشكر في سجوده؛ فلا مخالفة للقصد، لما علمناه سابقا في "الجهة الثانية مما يدل على قصد الشارع". "د". 4 أي: وهو أصل الفرض أيضا. "د". 5 هذه الزيادة لا حاجة إليها هنا؛ لأنه وإن كان المسكوت لا يفهم للشارع قصد معين فيه، ولكن أصل الموضوع أن قصد الشارع في هذه المسائل مسلم أنه يوافق البدعة؛ كشكر النعم المطلوب بوجه عام في موضوع سجود الشكر، وأن المقتضى موجود ولكنه لما لم يشرع له الحكم؛ دل على أنه لا زائد عما هو مقرر فيه، ولا يعزب عنك أن المصالح المرسلة إنما تجري في غير العبادات. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 أَيْضًا؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ يُفْرَضُ ذَمُّهَا تُسَاوِي الْمُحْدَثَةَ الْمَحْمُودَةَ فِي الْمَعْنَى1؛ فَمَا وَجْهُ ذَمِّ هَذِهِ وَمَدْحِ هَذِهِ؟ وَلَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ عَلَى الْخُصُوصِ. وَتَقْرِيرُ الجواب ما ذكره مالك، وأما السُّكُوتَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هُنَا -إذا وجد المعنى المتقضي لِلْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ- إِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَنْ لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ غَايَةٌ فِي [تَحْصِيلِ] هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ2: "الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ -يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ- لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا؛ إِذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا فعله3، ولا   1 أي: في المصلحة والحكمة؛ لأن الفرض أن الجميع فيه المصلحة التي عرف اعتبار الشاع لها، وأي فرق بين سجود الشكر وجمع المصحف، أو بين الاجتماع للدعاء أدبار الصلوات وتدوين العلم؟ وكلاهما عون على الخير. "د". 2 في "البيان والتحصيل" "1/ 393". 3 في هذا الإطلاق نظر كبير؛ إذ أخرج أبو داود في "سننه" "كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر، 3/ 89/ رقم 2774"، والترمذي في "جامعه" أبواب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر، 4/ 141/ رقم 1578"- وقال: "هذا حديث حسن غريب" و"العمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا سجدة الشكر"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر، 1/ 446/ رقم 1394"، وأحمد في "المسند" "5/ 45"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 291"، وابن المنذر في "الأوسط" "5/ 287/ رقم 2880"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 34" عن أبي بكرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شيء يسره، أو جاءه سرور خر ساجدا لله. وهو حديث حسن، وله شواهد عديدة وكثيرة، وقد أثر عن علي وكعب بن مالك كما سيأتي عند المصنف "ص270"، ولذا قال ابن المنذر في "الأوسط" "5/ 287" بعد أن سرد الأقوال: "وبالقول الأول - أي: مشروعية سجود الشكر- أقول؛ لأن ذلك قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعلي وكعب بن مالك؛ فليس لكراهية من كره ذلك معنى". وقال شيخنا الألباني في "الإرواء" "2/ 226-232" بعد أن خرج الأحاديث والآثار في ذلك: "وبالجملة؛ فلا يشك عاقل في مشروعية سجود الشكر بعد الوقوف على هذا الأحاديث، لا سيما وقد جرى العمل عليها من السلف الصالح رضي الله عنهم". قلت: وتفصيل المشروعية تجده في "الخلافيات" للبيهقي "مسألة رقم 116"، يسر الله إتمام تحقيقه بخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ". قَالَ: "وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بعده بأن ذلك لوكان لَنُقِلَ صَحِيحٌ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ دَوَاعِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالتَّبْلِيغِ". قَالَ: "وَهَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنَ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ، مَعَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ" 1 لِأَنَّا نَزَّلْنَا2 تَرْكَ نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ فَكَذَلِكَ نُنَزِّلُ تَرْكَ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فيها"3، ثُمَّ حَكَى خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ4 مِنَ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الإطلاق.   1 مضى تخريجه "2/ 155"، وهو صحيح. 2 في "البيان والتحصيل": "أنزلنا". 3 ولكن المقدمة الأولى غير صحيحة؛ كما بيناه ولله الحمد. وفي "ط": "فيها:، وفي غيره: "فيه". 4 أي: مقصود المؤلف من نقل ما ذكر عنه في السؤال والجواب معرفة طريقته في توجيه وبيان معنى كونها بدعة، يعني ليأخذ منه القاعدة العامة التي يريد تأصيلها هنا، وهو أن البدعة ما كان المقتضى لها موجودا في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يشرع لها حكما زائدا؛ فيعلم أن السكوت دليل على أن قصده الوقوف عند هذا الحد، وليس غرض المؤلف العناية ببيان أن سجود الشكر بدعة، بل الذي يعنيه هو طريقة مالك في بيان بدعيتها، وكأن هذا شبه تبرؤ من تأييد كونها بدعة للأحاديث الواردة في سجوده صلى الله عليه وسلم شكرا، راجع "المنتقى" في باب السهو. "د". قلت: ونحوه في "الاعتصام" "1/ 466-471/ ط ابن عفان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نكاح المحلل أنها بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، مِنْ حَيْثُ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِلزَّوْجَيْنِ، بِإِجَازَةِ التَّحْلِيلِ لِيُرَاجِعَا كَمَا كَانَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ1 عَلَى رُجُوعِهَا إِلَيْهِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا2، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ، إِذَا اعْتُبِرَ وَضَحَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مِنَ الْبِدَعِ وَمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُودَ المعنى المتقضي مَعَ عَدَمِ التَّشْرِيعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلُ، فَإِذَا زَادَ الزَّائِدُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لقصد الشارع؛ فبطل.   1 كما تقدم "1/ 431". 2 صرح الشيخ ابن تيمية في "فتاويه" بأن التحليل بدعة مستندا إلى هذا الوجه الذي لوح إليه المصنف، وهو أن التحليل لو كان جائزا، لدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من طلق ثلاثا؛ فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهم بمياسير الأمور، وقال: "من علم كثرة وقوع الطلاق عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وخلفائه، وأنهم لم يأذنوا لأحد في تحليل علم قطعًا أنه ليس من الدين، وهذه قاعدة محكمة لو تحراها علماء الإسلام؛ لما وجدت البدع المكروهة وكثير من الفتاوى السخيفة إلى تلويث جانب الشريعة سبيلا". "خ". قلت: وصرح بهذا المصنف في "الاعتصام" "1/ 471 - ط ابن عفان" أيضا. وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 98-285". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 كتاب الأدلة الشرعية الطرف الأول في الأدلة على الجملة النَّظَرُ الْأَوَّلُ: فِي كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ ... [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سيدنا محمد وآله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ] 1 كِتَابُ الْأَدِلَّةِ 2 الشَّرْعِيَّةِ: وَالنَّظَرُ فِيهِ [فِيمَا] 3 يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ4؛ فَالنَّظَرُ إِذًا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ5:   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م" و"ط". 2 قال ماء: "الأدلة جمع دليل، وهو ما يتوصل به إلى المقصود -أي: المنسوب- إلى الشرع". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م"، وسقطت "فيه" من "ط". 4 هذه أدلة شرعية من حيث ما صدقاتها "كذا" الجزئية المتعلقة بالأحكام، والأصولي يبحث عنها من حيث الإجمال، ولا تذكر في"فالنظر إ ها بخصوصها إلا على ضرب من التمثيل والإيضاح. "ف". 5 في "ط": فالنظر إذًا في طرفين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 الطرف الأول: في الأدلة على الجملة النَّظَرُ الْأَوَّلُ: فِي كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْكَلَامُ فِيهَا "أ" فِي كُلِّيَّاتٍ1 تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَ"ب" فِي الْعَوَارِضِ اللَّاحِقَةِ لَهَا. وَالْأَوَّلُ يحتوي على مسائل:   1 وسيذكرها في أربع عشرة مسألة، وقوله: "وفي العوارض"، وسيذكرها في خمسة فصول: الإحكام والتشابه، الإحكام والنسخ، الأمر والنهي، العموم والخصوص، البيان والإجمال. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 المسألة الأولى 1: لما انبنت الشرعية عَلَى قَصْدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينَاتِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مَبْثُوثَةً2 في أبواب   1 هذه المسألة تعتبر أُمًّا لجميع المسائل الأصولية المتعلقة بالأدلة الشرعية، بين بها شدة ارتباط هذه المسائل الأصولية بالأدلة الشرعية التفصيلية والقواعد الشرعية، بحيث لا يمكن استغناء المستنبط للأحكام عن النظر للأمرين معا؛ فلا يستغنى بالنظر في الجزئيات -أي الأدلة التفصيلية- عن النظر في الوقت نفسه للقاعدة الأصولية التي تعتبر كلية لها ليعرف بها هذا الجزئي من أي مرتبة هو، وما مقصد الشارع في مثله؟ كما أنه لا يستغنى بالكلية فيجريها في الجزئيات دون أن ينظر في الدليل الخاص بهذه الجزئية الوارد من الكتاب والسنة وما معهما، وقد ساق المصنف تمهيدا لذلك أول المسألة، ثم بين وجه حاجة الجزئيات إلى الكليات بقوله: "وإذا كان كذلك ... إلخ"، ثم بين عدم استغناء الكليات عن الجزئيات بقوله: "وكما أن ... إلخ"، ومد النفس في هذا الجانب؛ لأنه موضع التوهم لمخالفته المألوف في مثله. "د". 2 "وذلك أن الله تعالى لما اقتضت حكمته الأزلية سعادة الخلق في الأولى والآخرة، ناطها بأحكام معقولة التناسب، ورتب عليها مصالح كفيلة بذلك". "ف". وكتب "د" ما نصه: "أي: إن المراتب الثلاثة لا تخلو منها جزئية من مسائل الشريعة وفروعها، وأدلتها الشرعية التفصيلية مستغرقة لهذه الفروع والجزئيات، لا فرق بين ضروريات الدين وحاجياته وتحسيناته، ولا بين الأمور العادية والعبادية؛ فلا فرق في ذلك بين الصلاة والبيع والقضاء وغيرها، ولا بين قاعدة الغرر وقاعدة الربا مثلا، والغرض التعميم، وأن الأدلة التفصيلية عامة شاملة، إن لم تكن من الكتاب؛ فمن السنة أو الإجماع أو غيرهما من الاستحسان والمصالح المرسلة باعتبار الجزئيات في تلك الأدلة؛ فهذه كلها أدلة تفصيلية تتعلق بجزئيات المراتب الثلاث المذكورة، وكما أن الأمر هكذا في الأدلة التفصيلية؛ فهو كذلك أيضا في كلياتها التي أخذت من استقرائها، هي أيضا عامة لكل ما يتعلق بهذه المراتب الثلاث، لا تخص أدلة تفصيلية تتعلق ببعض المراتب دون بعض، ولا بعض القواعد الشرعية دون بعض، بل إنها كليات عامة تقع على جميع الأدلة التفصيلية والقواعد الشرعية المسماة جزئيا إضافيا؛ فتضبط مقاصدها ويتزن بها طريق إجرائها والعمل بها، فكما أن الجزئيات التي هي الأدلة التفصيلية والقواعد الشرعية المذكورة مبثوثة في جميع فروع = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الشَّرِيعَةِ وَأَدِلَّتُهَا، غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، وَلَا بِبَابٍ دُونَ بَابٍ، وَلَا بِقَاعِدَةٍ دُونَ قَاعِدَةٍ؛ كَانَ النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا أَيْضًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِجُزْئِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ تَقْضِي عَلَى كُلِّ جُزْئِيٍّ1 تَحْتَهَا وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ جُزْئِيًّا إِضَافِيًّا2 أَمْ حَقِيقِيًّا3؛ إِذْ لَيْسَ فَوْقَ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ كُلِّيٌّ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، بَلْ هِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَمَّتْ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَفْقِدَ بَعْضَهَا حَتَّى يَفْتَقِرَ إِلَى إِثْبَاتِهَا بِقِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَهِيَ الْكَافِيَةُ فِي مَصَالِحِ الْخَلْقِ عُمُومًا وَخُصُوصًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 4 [المائدة: 3] .   = المراتب الثلاث؛ كذلك هذه الكليات المأخوذة من استقرائها قاضية على كل الجزئيات وعلى أفراد الأدلة التفصيلية التي تندرح تحتها؛ فلا يتأتى أن يفقد بعض تلك الكليات حَتَّى يَفْتَقِرَ إِلَى إِثْبَاتِهَا بِقِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ لأن ذلك إنما يعقل في فروع الأحكام لا في أصولها، وإلا؛ لما كانت الشرعية تامة. وهنا يخطر السؤال الذي يريد المؤلف أن يجعل هذه المسألة لتحقيقه، وهو أنه هل يصح إذًا للمجتهد ألا ينظر في الجزئيات والأدلة التفصيلية عند استنباط الأحكام ويكتفي بالكليات، كما هو الشأن في قواعد اللغة مثلا، يجري التطبيق في كل فاعل على أنه مرفوع عند قراءة كلام العرب، بدون نظر إلى أن هذا الفاعل بخصوصه ورد عن العربي المتكلم به مرفوعا؟ وهكذا يكون الشأن هنا؛ فيقال مثلا: إن هذا الجزئي إن كان ضروريا قدم على الحاجي، وإن كان حاجيا قدم على ما بعده، والضروريات نفسها ما كان منها متعلقا بالدين قدم على المتعلق بالنفس، وهذا يقدم على ما بعده منها، وهكذا؛ فيستغنى بالنظر في الكليات عن النظر في الدليل الشرعي الخاص على طبق قواعد النحو مثلا، وكذلك يستغنى عن النظر في الجزئيات الإضافية اكتفاء بالكليات؟ فكان الجواب عن السؤال أن الأمر ليس على ما يظن، بل لا بد منهما معا كما بسطه، ولما كانت هذه المسألة كأصل عام في كتاب الأدلة جعلها فاتحة مسائل هذا الباب؛ فلله درّه ما أسد نظره، ولقد صدق فيما يقول بعد: "إن النظر في هذه الأطراف فيه جملة الفقه"، وسيأتي لهذا المبحث بقية في كتاب الاجتهاد في المسألة الثالثة عشرة". 1 في "ط": "جزء". 2 أي كما قال: "ولا بقاعدة دون قاعدة". "د". 3 كذا في "د"، وفي الأصل و"م" و"ف" و"ط": "أو حقيقيا". 4 المراد بذلك بيان ما لزم بيانه وما يستنبط منه غيره، كالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد؛ فكل ما يستنبطه المجتهدون ويخرجه العلماء الراسخون من أحكام الوقائع مأخوذ من الكتاب والسنة، وإليهما يرجع الإجماع. "ف". قلت: انظر في تفسير الآية: "الاعتصام" للمصنف "2/ 816-817 - ط دار ابن عفان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وَقَالَ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] . وَفِي الْحَدِيثِ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْجَادَّةِ" 1 الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: "لَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ" 2. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَمَامِ الْأَمْرِ وَإِيضَاحِ السَّبِيلِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الجزئيات3 وهي أصول الشريعة؛ فما تحتها   1 أخرجه رزين في "جامعه" المسمى "التجريد للصحاح الستة"، كما في "جامع الأصول" "1/ 293" لابن الأثير -وقد نقل هذا الكتاب مفرقا على أبوابه، كما صرح "1/ 55"- عن علي رضي الله عنه قوله، وتتمته: "منهج عليه أم الكتاب"، وانفرادات رزين من مظان الضعف، وورد حديث فيه: "تركتكم على البيضاء"، سيأتي تخريجه "4/ 133، 135"، وهو صحيح. قال "ماء": "الجادة: معظم الطريق، وقيل: وسطه، وقيل: هي الطريق الأعظم الذي يجمع الطرق ولا بد من المرور عليه". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، 1/ 118/ رقم 131 بعد 208" عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، وأوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ... "، وأصل الحديث -دون القطعة المذكورة- في "صحيح البخاري" "رقم 6491". ومعنى: "لا يهلك على الله إلى هالك" أي: من أصر على التحري على السيئة عزمًا وقولًا وفعلًا، وأعرض عن الحسنات همًّا وقولًا وفعلًا، قاله ابن حجر في "الفتح"، وفي "م": "إلا الهالك". 3 أي: الحقيقة؛ كنصوص الأدلة التفصيلية، أو الإضافية؛ كالقواعد الكلية التي تندرج تحت كليات المراتب الثلاث الأعم منها؛ فلذا قال: "وهي أصول الشريعة فما تحتها". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 مُسْتَمَدَّةٌ1 مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ، شَأْنَ2 الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ كُلِّيَّاتِهَا فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الموجوادات؛ فَمِنَ الْوَاجِبِ اعْتِبَارُ3 تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ بِهَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ عِنْدَ إِجْرَاءِ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ؛ إِذْ مُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْجُزْئِيَّاتُ مُسْتَغْنِيَةً عَنْ كُلِّيَّاتِهَا، فَمَنْ أَخَذَ بِنَصٍّ مَثَلًا فِي جُزْئِيٍّ4 مُعْرِضًا عَنْ كُلِّيِّهِ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ5. وَكَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْجُزْئِيِّ6 مُعْرِضًا عَنْ كَلِّيِّهِ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ، كَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ بِالْكُلِّيِّ مُعْرِضًا عَنْ جُزئِيِّهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ تَلَقِّي الْعِلْمِ بِالْكُلِّيِّ إِنَّمَا7 هُوَ مِنْ عَرْضِ الْجُزْئِيَّاتِ   1 لأن الأدلة الشرعية وما أخذ عنها من القواعد إنما جاء تقريرًا وتفصيلًا للمقاصد الشرعية العامة في المراتب الثلاث، وكل ما جاء من ذلك لاحظ فيه الشارع المحافظة على هذه المراتب، التي بحفظها ينتظم أمر المعاش والمعاد. "د". 2 أي: أن تكون متفرعه عنها، داخلًا في قوامها ما اعتبر مقومًا لهذه الأنواع. "د". 3 أي: بالتحقق من اندراجها تحتها، بحيث لا يحصل اشتباه ما يدخل تحت الضروري بما يدخل تحت المرتبتين الأخريين، وإلا؛ لما صح الحكم على الجزئي. "د". 4 حقيقي أو إضافي؛ أي: سواء أكان دليلًا خاصًا من الكتاب وما معه، أم كان قاعدة مما يندرج تحت كلي أعم منه؟ "د". 5 أي: قد يدركه الخطأ، وإلا فقد يصادف الثواب؛ فكثيرًا ما يستدل الشخص بحديث على جزئي، ولا يلتفت لكليه ويصادف الصواب، أو يقال: أخطأ في طريق الاجتهاد، وإن لم يخطئ النتيجة. "د". 6 في الأصل و"ف": "أخذها لجزئي"، وقال "ف": "لعل المناسب: كما أن من أخذ به في جزئي معرضًا إلخ ... ". قلت: وما في "د" هو الصواب. 7 هذا بالنسبة لنفس المستقرئ المثبت للكلي، أما بالنسبة لغيره الذي أخذ العلم بالكلي بعد ما تم استقراؤه من غيره؛ فلا يقال فيه ذلك، إلا بواسطة من أخذ عنه الكلي، أما بالنسبة إليه هو؛ فلا توقف. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وَاسْتِقْرَائِهَا؛ [وَإِلَّا] فَالْكُلِّيُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُضَمَّنٌ فِي الْجُزْئِيَّاتِ حَسَبَمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعْقُولَاتِ؛ فَإِذًا الْوُقُوفُ مَعَ الْكُلِّيِّ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجُزْئِيِّ وُقُوفٌ1 مَعَ شَيْءٍ لَمْ يَتَقَرَّرِ الْعِلْمُ بِهِ بَعْدُ دُونَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيِّ، وَالْجُزْئِيُّ2 هُوَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ بِهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْجُزْئِيَّ لَمْ يُوضَعْ جُزْئِيًّا؛ إِلَّا لِكَوْنِ3 الْكُلِّيِّ فِيهِ عَلَى التَّمَامِ وَبِهِ قِوَامُهُ، فَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ إِعْرَاضٌ عَنِ الْكُلِّيِّ نَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ4، وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْجُزْئِيِّ جُمْلَةً يُؤَدِّي إِلَى الشَّكِّ فِي الْكُلِّيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ5 لِلْكُلِّيِّ أَوْ تَوَهُّمِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ، وَإِذَا خَالَفَ الْكُلِّيُّ الْجُزْئِيَّ مَعَ أَنَّا إِنَّمَا6 نَأْخُذُهُ مِنَ الْجُزْئِيِّ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكُلِّيَّ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعِلْمُ بِهِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْجُزْئِيُّ جُزْءًا مِنَ الْكُلِّيِّ7 لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُعْتَبِرُ جُزْءًا مِنْهُ، وَإِذَا أَمْكَنَ هَذَا؛ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجُزْئِيِّ فِي مَعْرِفَةِ الْكُلِّيِّ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُلِّيَّ لَا يُعْتَبَرُ بِإِطْلَاقِهِ دُونَ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ، وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَكِّدُ لَكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى قصد الشارع؛   1 راجع إلى الوجه الأول من البيان. "د". 2 راجع إلى الوجه الثاني منه، وكلاهما لا يخلو من نظر. "د". 3 ظاهر بالنسبة للجزئي الإضافي. "د". 4 أي: الإعراض عن الجزئي مع اعتبار الكلي تناقض؛ لأن الإعراض عن الجزئي إعراض عن الكلي بمقتضى تقريره؛ فيكون اعتبارا للكلي وإعراضا عنه معا، وهو تناقض. "د". 5 بحيث لا يرد إليه بالطريق المؤدي إلى تعرف أنه جزئيه ويندرج فيه. "د". 6 بما قدمناه لا يذهب عليك صحة عباراته المتبادر منها التناقض، حيث يقول تارة: "الجزئي مستمد من الكلي شأن الجزئيات مع أنواعها"، وتارة يقول: "الكلي مأخوذ من الجزئي"، وكل صحيح بالمعنى المتقدم في كل منها. "د". 7 أي: من كليه الحقيقي، وقوله: "لم يأخذه المعتبر جزء منه"؛ أي: مما ادعى أنه كليه، يعني: فلا يكون هو كليه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 لِأَنَّ الْكُلِّيَّ إِنَّمَا تَرْجِعُ حَقِيقَتُهُ إِلَى ذَلِكَ1، الجزئي كَذَلِكَ أَيْضًا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهِمَا مَعًا2 فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ. فَإِذَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ، ثُمَّ أَتَى النَّصُّ عَلَى جُزْئِيٍّ يُخَالِفُ الْقَاعِدَةَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمُخَالَفَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ الْجُزْئِيِّ إِلَّا مَعَ الْحِفْظِ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ، [إِذْ كُلِّيَّةُ] 2 هَذَا مَعْلُومَةٌ ضَرُورَةً بَعْدَ الْإِحَاطَةِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ؛ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّ تُخْرَمَ الْقَوَاعِدُ بِإِلْغَاءِ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ3، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُعْتَبَرَ الْكُلِّيُّ وَيُلْغَى الْجُزْئِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: الْكُلِّيُّ لَا يُثْبِتُ كُلِّيًّا إِلَّا مِنَ اسْتِقْرَاءِ الْجُزْئِيَّاتِ كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُفْرَضَ جُزْئِيٌّ إِلَّا وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ الْكُلِّيِّ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ قَطْعِيٌّ إِذَا تَمَّ4 فَالنَّظَرُ إِلَى الْجُزْئِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ عناء5، وفرض مخالفته   1 أي: لأن اعتبار الكلي وملاحظته عند النظر في الجزئيات إنما يقصد منه المحافظة على مقاصد الشارع، ولا يكون ذلك دون النظر للجزئي أيضا. "د". 2 سقطت من "ط". 3 أي: مما تضمنته القواعد، وإذًا؛ فالقواعد معتبرة لم يهدمها هذا النص في هذا الجزئي، ولكن هذا لا يقضي باعتبار الكلي وحده مطردًا ويلغي الجزئي؛ فلا بد من اعتبار الكلي في غير موضع المعارضة حتى لا يهدر الكلي ولا الجزئي، وسيأتي له بيان وتمثيل. "د". 4 قال بعضهم: "وتمامه بالنظر في الأدلة الجزئية، وما انطوت عليه من الوجوه العامة على حد التواتر الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يُثْبَتُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، بَلْ بأدلة ينضاف بعضها إلى بعض، بِحَيْثُ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَمْرٌ وَاحِدٌ تَجْتَمِعُ عليه تلك الأدلة، وتقدم أن الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي العام، وأن تخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا؛ لأنه إذا خرج عن ضروري مثلا، فإنما يخرج لحاجي أو كمالي لعارض لا لذاته، ولا يتجاوز الأصول الثلاثة" ا. هـ. "د". قلت: قوله: "قال بعضهم ... " هو "ف". 5 في "ط": "عماء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 غَيْرُ صَحِيحٍ، كَمَا أَنَّا إِذَا حَصَّلْنَا مِنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ مَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ؛ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُوجَدَ إِنْسَانٌ إِلَّا وَهُوَ حَيَوَانٌ؛ فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيِّ حُكْمٌ قَطْعِيٌّ لَا يَتَخَلَّفُ، وُجِدَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي الْحُكْمِ بِهَذَا الْكُلِّىِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا كَذَلِكَ، فَإِذَا فُرِضَتِ الْمُخَالَفَةُ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ؛ فَلَيْسَ بِجُزْئِيٍّ لَهُ كَالتَّمَاثِيلِ وَأَشْبَاهِهَا، فَكَذَلِكَ هُنَا إِذَا وَجَدْنَا أَنَّ الْحِفْظَ عَلَى الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ النَّسْلِ1 أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعَقْلِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ مُعْتَبَرٌ2 شَرْعًا، وَوَجَدْنَا ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْرَاءِ جُزْئِيَّاتِ الْأَدِلَّةِ؛ حَصَلَ لَنَا الْقَطْعُ بِحِفْظِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ حَيْثُمَا وَجَدْنَاهُ؛ فَنَحْكُمُ بِهِ عَلَى كُلِّ جُزْئِيٍّ فُرِضَ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ، لَا يُخَالِفُهُ عَلَى حَالٍ؛ إِذْ لَا يُوجَدُ بِخِلَافِ مَا وُضِعَ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا 3 كَثِيرًا} [النِّسَاءِ: 82] ؛ فَمَا فَائِدَةُ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيِّ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا فِي التَّفْصِيلِ؛ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إِنْ عُلِمَ أَنَّ الْحِفْظَ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ مُعْتَبَرٌ، فَلَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِجِهَةِ الْحِفْظِ الْمُعَيَّنَةِ؛ فَإِنَّ لِلْحِفْظِ وُجُوهًا قَدْ يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ وَقَدْ لَا يُدْرِكُهَا، وَإِذَا أَدْرَكَهَا؛ فَقَدْ يُدْرِكُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، أَوْ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، أَوْ عَادَةٍ دُونَ عَادَةٍ؛ فَيَكُونُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ خَرْمًا لِلْقَاعِدَةِ4 نَفْسِهَا، كَمَا قَالُوا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ؛ لَمْ يَنْسَدَّ بَابُ الْقَتْلِ بالقصاص، إذا اقتصر   1 في الأصل: "النسب". 2 في الأصل و"ف" و"م" و"ط": "معتبرا". 3 بحيث تكون الأشياء يجمعها كلي واحد، وتكون من وادٍ واحد، ومع ذلك تتعارض أحكامها وتتنافى، وذلك غير واقع في الشريعة قطعًا. "د". 4 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "للعادة"، وقال: "ف": "لعله للقاعدة"، وفي "ط": "الإطلاق وهو إما للقاعدة ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 بِهِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْمُحَدَّدِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاكِ1 الْجَمَاعَةِ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ، وَمِثْلُهُ2 الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ مَثَلًا مَعَ المراض وسائر الرخص   1 فقد قاد عمر من خمسة أو سبعة في رجل واحد قتلوه غيلة؛ لأنه رضي الله عنه أدرك جهة حفظ النفس بالقصاص، وأنه لو لم يقتل الجماعة بالواحد لم ينسد باب القتل بحكم القصاص، وهذه قد يقف العقل دونها؛ فيفهم أن قتل سبعة بشخص واحد ليس حفظًا للنفس؛ فهذا اجتهاد عمر حيث قال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا" لأنه فهم جهة الحفظ التي قد يقف فيها غيره، على أنه رضي الله عنه كان مترددًا فيه حتى قال له علي: أرأيت لو اشترك جماعة في سرقة، أكنت تقطعهم؟ قال: نعم. قال: فكذا هنا"؛ فحكم بالقتل، أما القتل بالمثقل فقد ورد فيه قصة اليهودي الذي قتل الجارية على أوضاح لها بحجر، فرضخ رسول الله رأسه بحجرين قتل بهما؛ فانظر وجه ذكره مع أنه منصوص، ثم لا يتوهم فيه عدم القصاص لمانع يرجع لحفظ النفس، وكذلك قال ابن الحاجب: "إنه ثبت بالقياس على المحدد"، وكأنه لم يكتفِ بالنص الذي أشرنا إليه في الحديث لمانع في الحديث، ولا يعترض بأنه من باب القياس في الأسباب، وهو ممنوع؛ لأن السبب الواحد وهو القتل العمد العدوان؛ فلا قياس في السبب. "د". قلت: أثر عمر أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم؟ 12/ 227/ رقم 6896" بسنده عن نافع عن ابن عمر؛ أن غلامًا قتل غيلة، فقال عمر: "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم"، ثم قال: "وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه، إن أربعة قتلوا صبيًّا؛ فقال عمر .... مثله". قلت: وصل نحوه عبد الرزاق في "المصنف" "18075، 18077"، والخطابي في "الغريب" 2/ 83-84"، ومالك "2/ 192"، والبيهقي "8/ 40-41"، وانظر: "تغليق التعليق" "5/ 252"، و"تحفة الطالب" "ص435"، والمعتبر" "ص218-219"، و"موافقة الخبر الخبر" "2/ 419-421"، و"فتح الباري" "12/ 227-228"، و"الاعتصام" للمصنف "2/ 623-624 - ط ابن عفان"، أما قصة اليهودي؛ فسيأت تخريجها. 2 فالمحافظة على الضروري وهو الدين هنا في الصلاة مثلًا إذا جرى الأمر فيها لنهايتها، ولو أدى إلى المشقة الفادحة محافظة على هذا الضروري ما كان يرخص في القعود مثلا للمريض، ومثله يقال في فطر رمضان للمريض القادر بمشقة، فلو لم ينص الشارع على هذه الجزئيات ويلتفت إليها في الاستنباط، وأكتفي بأصل الحفظ للضروري لما كان هذا الترخص، ولو لم يكن لأدى إلى الضيق والحرج المرفوع قطعًا؛ فقد نظر إلى قاعدة الحاجيات في هذه المسائل مع أنها في موضوع الضروريات. "د". وفي "ط": "ومثله القائم ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 الْهَادِمَةُ لِعَزَائِمِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي؛ إِعْمَالًا لِقَاعِدَةِ الْحَاجِيَّاتِ في الضروريات، ومثل ذلك المستثنيات1 من القوعد الْمَانِعَةِ؛ كَالْعَرَايَا، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ، وَالْقَرْضِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَا الضَّرُورِيَّاتِ كُلَّهَا2؛ لَأَخَلَّ ذَلِكَ بِالْحَاجِيَّاتِ أَوْ بِالضَّرُورِيَّاتِ3 أَيْضًا، فَأَمَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا في كل رتبة جزئياتها؛ كان ذلك محافظة عَلَى تِلْكَ الرُّتْبَةِ وَعَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ؛ فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضها ويخصص بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ الْكُلِّ فِي مَوَارِدِهَا وَبِحَسِبِ أَحْوَالِهَا. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ يَعْتَبِرُ الشَّارِعُ مِنْ ذَلِكَ4 مَا لا تدركه العقول إلا بالنص عليه،   1 هذا بناء على أن البيع والإجارة من الضروري، ولم يجر المحافظة على الضروري فيهما للنهاية، بل أعملت قاعدة رفع الحرج التي هي الخاصية للحاجيات؛ فاستثنيت من القواعد التي تقتضي منعها كالغرر في القراض والمساقاة، وهكذا. "د". 2 أي: بحيث نلتزم الوفاء بها في كل جزئياتها لأجل ذلك بالحاجيات في كثير من جزئياتها؛ فيقع الحرج المنبوذ في الشريعة، وقد يخل ذلك بالضروري نفسه. "د". وكتب "ف": "لعله "في كلها"؛ أي: كل الجزئيات". وفي "ط": "فلو اعتبرت الضروريات بكلياتها"، وهو الصحيح. 3 أي قد يؤدي الأخذ بالمحافظة على ضروري إلى الإخلال به نفسه أبو بضروري آخر مثال الأول إذا لم نبح التيمم للمريض خشية المرض أو زيادته؛ فقد يؤدي الوضوء إلى شدة المرض حتى لا يستطيع الصلاة رأسًا، أو لا يستطيعها بالمقدار الذي يستطيعه لو تيمم، ومثال الثاني ظاهر. "د". وكتب "ف": "لعله "بل بالضروريات"؛ فأو بمعنى بل". 4 أي: من المحافظة على المراتب في جزئياتها ومواردها ما يشتبه أمره على العقل ولا يعرف جهة الحفظ فيه إلا بالنص. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وَهُوَ أَكْثَرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الْعُقَلَاءَ فِي الْفَتَرَاتِ1 قَدْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ2 بِمُقْتَضَى أَنْظَارِ عُقُولِهِمْ، لكن على وجه لم يتجهوا بِهِ إِلَى الْعَدْلِ فِي الْخَلْقِ وَالْمُنَاصَفَةِ بَيْنَهُمْ، بل كان مع ذلك الهرج واقعًا، والمصلح تُفَوِّتُ مَصْلَحَةً أُخْرَى، وَتَهْدِمُ قَاعِدَةً أُخْرَى أَوْ قواعد؛ فجاء الشارع بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ وَالنَّصَفَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي كُلِّ حِينٍ [وَفِي كُلِّ حَالٍ] ، وَبَيَّنَ مِنَ الْمَصَالِحِ مَا يَطَّرِدُ وَمَا يُعَارِضُهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، كَمَا فِي اسْتِثْنَاءِ الْعَرَايَا وَنَحْوِهِ، فَلَوْ أَعْرَضَ عَنِ الْجُزْئِيَّاتِ بِإِطْلَاقٍ؛ لَدَخَلَتْ مَفَاسِدُ وَلَفَاتَتْ مَصَالِحُ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَلَّمَا تَخْلُو جُزْئِيَّةٌ مِنَ اعْتِبَارِ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ فِيهَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَهَا قَدْ يُعَارِضُ بَعْضًا فَيُقَدَّمُ الْأَهَمُّ حَسَبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ التَّرْجِيحِ، وَالنُّصُوصُ وَالْأَقْيِسَةُ الْمُعْتَبَرَةُ تَتَضَمَّنُ3 هَذَا عَلَى الْكَمَالِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ اعْتِبَارِ كُلِّيَّاتِهَا، وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ مُنْتَهَى4 نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ بِإِطْلَاقٍ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي طَلَقُهُمْ5 فِي مَرَامِي الِاجْتِهَادِ. وَمَا قُرِّرَ فِي السُّؤَالِ عَلَى الْجُمْلَةِ صَحِيحٌ؛ إِذِ الْكُلِّيُّ لَا ينخرم بجزئي ما،   1 أي: في الأزمنة بين بعثة الرسل. "ف". 2 الضروريات ومكملاتها. "د". 3 فإذن لا بد من الرجوع لجزئيات الأدلة، وهي النصوص والأقيسة، ولا يمكنه الاستغناء عنها بالكليات كما يستغنى بكل فاعل مرفوع عما جاء في رواية تفاصيل كلام العرب مثلا. "د". 4 إذ يجمعون بين النظر للدليل الخاص وبين كليه المندرج تحت المراتب الثلاثة، فيصلون بذلك لمعرفة مقصد الشارع في مثله على العموم؛ فينضبط به قصده بهذا الدليل الخاص على وجه الخصوص. "د". 5 بفتح الطاء واللام؛ أي: سيرهم. "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وَالْجُزْئِيُّ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيِّ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ؛ فَإِنَّ1 الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيَوَانِيَّةِ بِالذَّاتِ، وَهِيَ التَّحَرُّكُ بِالْإِرَادَةِ، وَقَدْ يَفْقِدُ ذَلِكَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَانِعٍ غَيْرِهِ؛ فَالْكُلِّيُّ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنُ جُزْئِيٍّ مِنْ جزئياته مَنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ جَرَيَانِ حَقِيقَةِ الْكُلِّيِّ فِيهِ أَمْرٌ خَارِجٌ، وَلَكِنَّ الطَّبِيبَ إِنَّمَا يَنْظُرُ فِي الْكُلِّيِّ بِحَسَبِ جَرَيَانِهِ فِي الْجُزْئِيِّ أَوْ عَدَمِ جَرَيَانِهِ، وَيَنْظُرُ2 فِي الْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ يَرُدُّهُ إِلَى الْكُلِّيِّ بِالطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي لِذَلِكَ فَكَمَا3 لَا يَسْتَقِلُّ الطَّبِيبُ بِالنَّظَرِ فِي الْكُلِّيِّ دُونَ النَّظَرِ فِي الْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ طَبِيبٌ، وَكَذَلِكَ4 بِالْعَكْسِ؛ فَالشَّارِعُ هُوَ الطَّبِيبُ الْأَعْظَمُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي الْعَسَلِ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً لِلنَّاسِ، وَتَبَيَّنَ لِلْأَطِبَّاءِ5 أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ عِلَلٍ كَثِيرَةٍ وَأَنَّ فِيهِ أَيْضًا ضَرَرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَصَلَ هَذَا بِالتَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ فَقَيَّدَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ كَمَا اقْتَضَتْهُ التَّجْرِبَةُ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَهِيَ امْتِنَاعُ أَنْ يَأْتِيَ فِي الشَّرِيعَةِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ فِي أَنَّهُ شِفَاءٌ فَقَطْ؛ فَأَعْمَلُوا الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، وَحَكَمُوا6 بِهَا عَلَى الْجُزْئِيِّ، وَاعْتَبَرُوا الْجُزْئِيَّ7 أَيْضًا فِي غير الموضع   1 في الأصل: "بأن"، وفي "ط": "كما أن". 2 فالطبيب يعرف أن مرض كذا مشخصاته كذا ودواؤه كذا، ولكن هل الشخص الذي يعالجه توجد فيه الخواص اللازمة لهذا المرض، هذا نظره الأول، فإذا وجدها كذلك وعرف أن الكلي متحقق فيه، لا بد له من النظر للجزئي أيضا نظرة ثانية: أليس عنده من المقارنات لهذا المرض ما يمنع من هذا الدواء؛ فيخفف، أو يمزج بغيره، وهكذا ينظر فيما يرد هذا الجزئي الخاص إلى ما يناسبه من كلي الأدوية؛ فلا يجري عليه الدواء المعروف لكلي المرض بمجرد أنه دواء لكلي مرضه، بل لا بد من النظر في حالة الشخص أو لا؛ فكذا الأمر هنا، وقد أحسن كل الإحسان في التمثيل. "د". 3 في "ط": "فكلما". 4 في "ف" و"م": "فكذلك". 5 في "ط": "للأطباء فيه". 6 فقالوا: إنه شفاء قطعًا. "د". 7 فبهذا الجزئي من التجرية في بعض الأشخاص وإحداثه الضرر، قالوا: إن الكلي لا يجري اطراده على استقامة؛ فيستثني موضع المعارضة وهو أصحاب الصفراء مثلا؛ فقد أعملوا كلا منهما. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الْمَعَارِضِ1؛ لِأَنَّ الْعَسَلَ ضَارٌّ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ لَهُ شِفَاءٌ، أَوْ فِيهِ لَهُ شِفَاءٌ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ مَعًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ2، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ3 جُزْئِيٍّ وَفِي كُلِّ حَالٍ4، بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ5 الْجُزْئِيُّ إِذَا لَمْ تَتَحَقَّقِ اسْتِقَامَةُ الْحُكْمِ بِالْكُلِّىِّ فِيهِ كَالْعَرَايَا وَسَائِرِ المستثنيات، ويعتبر الكلي6 في تخصيصه للعام   1 في "ط": "العارض". 2 فعدم اعتباره من حيث ذاته مع ذات الكلي؛ لأنه لا يتأتى وهو جزئي أن يخالف حكم الكلي، ولكن من حيث أمر خارج عنه قد يخالف حكمه، كما قيل في المرض المقترن به علة أخرى؛ فإنها تجعله ينظر فيه بنظر آخر كالصفراء في المثال. "د". 3 أي: بل بعض الجزئيات في بعض الأحوال قد يأخذ حكمًا غير حكم الكلي. "د". 4 لعله: "أو في كل حال" بدليل ما بعده. "ف". 5 معنى اعتبار الجزئي الأخذ بالدليل الخاص وإن خرج عن حكم الكلي الذي هو القاعدة الأصولية التي أخذت من الاستقراء للأدلة، ومعنى اعتبار الكلي تخصيصه للدليل الشرعي التفصيلي العام أو تقييده لمطلقه، كما في المثال السابق، حيث أعملت القاعدة الكلية وهي امتناع أن يأتي في الشرعية خبر بخلاف مخبره؛ فقيدوا بها المطلق الوارد في نفع العسل من مرض الإسهال، بحيث لا يكون إخلالًا بالدليل المطلق أو العام الوارد في هذا الجزئي، وهو جزئي نفع العسل في الإسهال، ولا يشتبه عليك الأمر فتفهم أن كلمة العام تنافي كلمة الجزئي المجعول صفة له؛ لأن عمومه جاء له من كون الدليل الشرعي التفصيلي الوارد فيه من آية أو حديث ورد بلفظ عام، وجزئيته جاءت له من كونه متعلقا بجزئي؛ كصلاة، أو زكاة، أو بيع، أو نكاح، أو داوء مرض كمثاله، بخلاف أصل القاعدة الأصولية؛ فإنها لا تخص بابًا دون باب؛ كقاعدة "الأمر بالشيء ليس أمرًا بالتوابع" مثلا، وبه يتبين أن العبارة كلها محررة. "د". 6 تحريره: "يعتبر الجزئي في تخصيصه للعام الكلي"! "ف". قلت: هامش "د" السابق فيه رد على هذا، وفي الأصل: " ... في تخصيصه للعالم -كذا- الجزئي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 الْجُزْئِيِّ، أَوْ تَقْيِيدِهِ لِمُطْلَقِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ إِخْلَالًا بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا مَعْنَى اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ؛ فَلَا يَصِحُّ إِهْمَالُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّ فِيهَا جُمْلَةَ الْفِقْهِ، وَمِنْ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا أَخْطَأَ مَن أَخْطَأَ، وَحَقِيقَتُهُ1 نَظَرٌ مُطْلَقٌ فِي مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَأَنَّ تَتَبُّعَ نُصُوصِهِ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً أَمْرٌ وَاجِبٌ؛ فَبِذَلِكَ يَصِحُّ تَنْزِيلُ الْمَسَائِلِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَيَحْصُلُ مِنْهَا صُوَرٌ صَحِيحَةُ الاعتبار، وبالله التوفيق.   1 أي: فلا بد من النظر المطلق في مقاصد الشرع بواسطة الكليات، ولا بد من تتبع النصوص أيضا مع ذلك وهي الجزئيات، وبالأمرين معًا تصدر من الناظر صور صحيحة الاعتبار عند الشارع، وما أصعب هذا العمل! وبه يعرف المدعون للاجتهاد من هؤلاء أشباه العوام قيمة دعواهم. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا1 أَوْ ظَنِّيًّا، فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهِ؛ كَأَدِلَّةِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَالْعَدْلِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا؛ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ أَوْ لَا، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى قَطْعِيٍّ؛ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ؛ وَجَبَ التَّثَبُّتُ فِيهِ، وَلَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِقَبُولِهِ، وَلَكِنَّهُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يُضَادُّ أَصْلًا [قَطْعِيًّا] ، وَقِسْمٌ لَا يُضَادُّهُ وَلَا يُوَافِقُهُ؛ فالجميع أربع أَقْسَامٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الظَّنِّيُّ الرَّاجِعُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ؛ فَإِعْمَالُهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ [إِعْمَالِ] 2 أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] . وَمِثْلُ3 ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ صِفَةِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَيَانٌ لِنَصِّ الكتاب.   1 أي: يكون قطعي الدلالة، سواء أكان قطعي السند بأن كان لفظه متواترا أم كان متواترا تواترا معنويا بحيث تعاضدت عليه الروايات وموارد الشريعة حتى صار مما لا شك فيه، ولا يكفي في ذلك مجرد تواتر اللفظ إذا كان ظني الدلالة والظني ما يقابل ذلك، وهذا في الكتاب والسنة ظاهر، والإجماع أيضا منه ظني وقطعي، أم القياس؛ فكله ظني، ولا يتأتى فيه القطع مع احتمال الاعتراضات الخمسة والعشرين؛ فقوله: "كل دليل" ليس على عمومه لأنه لا يجيء هذا التقسيم في القياس كما عرفت. "د". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل. 3 في "ط": "ومثال". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ جُمْلَةٍ1 مِنَ الْبُيُوعِ وَالرِّبَا وَغَيْرِهِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ [تَعَالَى] : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [الْبَقَرَةِ: 275] . وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 188] . إِلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَيَانَاتِ الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ أَوِ التَّوَاتُرِ2؛ إِلَّا أَنَّ دَلَالَتَهَا ظَنِّيَّةٌ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 3؛ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ مَبْثُوثٌ مَنْعُهُ فِي الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، فِي وَقَائِعَ جُزْئِيَّاتٍ4، وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّاتٍ5؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [الْبَقَرَةِ: 231] . {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاقِ: 6] . {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} الآية [الْبَقَرَةِ: 233] . وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَعَنِ الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ، وَكُلِّ مَا هو في المعنى إضرار6 أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على   1 وهي كثيرة؛ كالمحاقلة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة، وغيرها. "د". قلت: للشيخ صالح الفوزان رسالة في البيوع المنهي عنها، وكتبت رسائل عدة في "بيع الغرر"، أجمعها رسالة أستاذنا ياسين درادكة: "نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية"، وهي مطبوعة في مجلدين. 2 في "ط": "بالتواتر". 3 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده. 4 كما في الآيات الثلاث. "د". 5 كما في التعدي على النفوس وما بعده؛ فإنه كما قال: مَعْنًى فِي غَايَةِ الْعُمُومِ فِي الشَّرِيعَةِ لَا شك فيه؛ فهو قطعي في قواعد كليات، وحديث: "لا ضرر ولا ضرار" راجع له؛ فهو من الظني الراجع إلى قطعي. "د". 6 في الأصل: "ضرر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ النَّسْلِ أَوِ الْمَالِ؛ فَهُوَ مَعْنًى فِي غَايَةِ الْعُمُومِ فِي الشَّرِيعَةِ لَا مِرَاءَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَجَدْتَهَا كَذَلِكَ1. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الظَّنِّيُّ الْمُعَارِضُ لِأَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ2؛ فَمَرْدُودٌ بِلَا إِشْكَالٍ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشرعية، وَمُخَالِفُ أُصُولِهَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا، وَمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرِيعَةِ كَيْفَ يُعَدُّ مِنْهَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ، وَقَدْ مَثَّلُوا هَذَا الْقِسْمَ فِي الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ3 بِمَنْ أَفْتَى4 بإيجاب شهرين متتابعين   1 إلا النادر الذي يكون غالبا في الأخبار، كما في القصص عن بني إسرائيل مثلا، وأحاديث الملاحم والفتن، وأشراط الساعة ونحوها؛ كأحاديث: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود"، و "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزًا وكرمان من الأعاجم"، وسيأتي له حديث: "القاتل لا يرث"، وأنه لا يرجع لأصل قطعي. "د". 2 ظاهره ولو شهد له أصل ظني، وعليه يكون قوله: "ليس له ما يشهد له بصحته"؛ أي: قطعي لأنه الذي يتأتى فرضه مع فرض أنه معارض لقطعي؛ فإنه لا يعقل تعارض قطعيين، فإن وجد ما ظاهره ذلك أُوِّل كما سيأتي له في مسألة رؤية الباري. 3 الغريب نوعان: نوع هو قسم مقابل للمؤثر والملائم والمرسل؛ فهو أربع أربعة أقسام المناسب، ونوع آخر هو قسم من أقسام ثلاثة المرسل: الغريب، ومعلوم الإلغاء، والملائم؛ فالغريب ومعلوم الإلغاء اللذان هما من أقسام المرسل مردودان باتفاق، وفي الملائم منه خلاف، أما الغريب الذي هو قسم رابع للمناسب؛ فلا يقال فيه: دل الدليل على إلغائه، فإن ذلك إنما هو في أقسام المرسل، وسيأتي للمؤلف في الكلام عن القسم الرابع أنه أعمله العلماء في باب القياس؛ فالمراد بالغريب هنا أحد أقسام المرسل الثلاثة، الذي قالوا فيه وفي معلوم الإلغاء: إنهما مردودان اتفاقا، إلا أنهم جعلوا مثاله المذكور -وهو إيجاب الشهرين- مثالا لمعلوم الإلغاء، لا للغريب؛ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 .............................................................   = فليراجع المقام في كتب الأصول. "د". وكتب "ف" هنا ما نصه: "المناسب هو الوصف الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه ما يصلح كونه مقودا للشارع، والغريب ما دل الدليل على إلغائه وعدم اعتباره؛ فلا يعلل به". 4 أفتى بعض العلماء ملكا جامع في رمضان بصيام شر عين؛ فأنكر عليه؛ فقال: لو أمرته بالعتق لسهل عليه بذل ماله في شهوة فرجه؛ فو مناسب تترتب عليه مصلحة الزجر التي يقصدها الشارع، لكنه ضد الدليل الشرعي في تأخر الصيام عن العتق ولم يشهد له أصل آخر، وقوله: "فلا بد من رده"؛ أي: كمثاله هذا. "د". قلت: نقل المصنف في "الاعتصام" "2/ 610" نحوه عن الغزالي، ولكنه جعل المسألة عن الوقاع في نهار رمضان، وليست عن الظهار، وقال: "فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام"، ثم قال: "وهذه الفتيا باطلة؛ لأن العلماء بين قائلين: قائل بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق عن الصيام، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به"، ثم ذكر نقلا عن ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان، وعين أن الذي أفتاه يحيى بن يحيى الليثي! ثم قال: "فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفا للإجماع". قال أبو عبيدة: عندي نظر في صحة هذه القصة عن الإمام يحيى رحمه الله تعالى، وذكرها بإبهام إمام الحرمين في كتابه "الغياثي" "ص222-223"؛ فأحسن، وعلق عليها بعبارات قوية فيها نصرة للحق إن شاء الله تعالى؛ فأجاد؛ قال: "وأنا أقول: إن صح هذا من معتز إلى العلماء؛ فقد كذب على دين الله وافترى، وظلم نفسه واعتدى، وتبوأ مقعده من النار في هذه الفتوى، ودل على انتهائه في الخزي إلى الأمد الأقصى، ثكلته أمه لو أراد مسلكا رادعا، وقولا وازعا فاجعا؛ لذكر ما يتعرض لصاحب الواقعة من سخط الله، وأليم عقابه، وحاق عذابه، وأبان له أن الكفارات وإن أتت على ذخائر الدنيا، واستوعبت خزائن من غبر ومضى؛ لما قابلت همًّا بخطيئة في شهر الله المعظم وحماه المحرم، وذكر له أن الكفارات لم تثبت ممحصات للسيئات وكان يغنيه الحق عن التصريف والتحريف. ولو ذهبنا نكذب الملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله تعالى بالرأي، ثم لم نثق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح؛ فإنه قد يشيع في ذوي الأمر أن علماء العصر يحرفون الشرع بسببهم؛ فلا يعتمدونهم، وإن صدقوهم؛ فلا يستفيدون من أمرهم إلا الكذب على الله، وعلى رسوله، والسقوط عن مراتب الصادقين، والالتحاق بمناصب الممخرقين المنافقين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 ابْتِدَاءً عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَأْتِ الصِّيَامُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً. وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُخَالَفَتُهُ لِلْأَصْلِ قَطْعِيَّةً؛ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهِ. وَالْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ ظَنِّيَّةً؛ إِمَّا بِأَنْ يَتَطَرَّقَ الظَّنُّ1 مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُهُ قَطْعِيًّا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَلَكِنَّ الثَّابِتَ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ مُخَالَفَةَ الظَّنِّيِّ لِأَصْلٍ قَطْعِيٍّ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الظَّنِّيِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَالظَّاهِرِيُّ وَإِنْ ظَهَرَ [مِنْ] 2 أَمْرِهِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ عَدَمُ الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ3، فَمَذْهَبُهُ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمُسَاعَدَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا وَلَا تَنَاقُضَ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النِّسَاءِ: 82] . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالظَّاهِرِيُّ لَا تَنَاقُضَ4 عِنْدَهُ فِي وُرُودِ نَصٍّ مُخَالِفٍ لِنَصٍّ آخَرَ أَوْ لِقَاعِدَةٍ أُخْرَى، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ؛ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ فِي الْمُخَالِفِ مَصْلَحَةً لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ، عَلِمْنَاهَا أَوْ جَهِلْنَاهَا، وأما على عدم اعتبارها؛   1 أي: بأنه ليس مخالفا للقطعي، وهذا التقسيم واضح من أن الفرض عدم مخالفته لقطعي مخالفة قطعية؛ فالنفي منصب على القيد، أو عليه والمقيد جميعًا، وسيأتي له ما يصح أن يكون أمثلة له، وتطرق الظن إلى الظني يكون بحمل الظني على معنى لا يخالف القطعي. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 سقط من "ط". 4 أي: فكل منهما صحيح، ولا تعارض. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 فَأَوْضَحُ، فَإِنَّ لِلشَّارِعِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى كَيْفَ يشاء؛ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَقَدْ فَرَضُوا فِي كِتَابِ الأخبار مسألة مختلفًا فيها، تر جع إِلَى الْوِفَاقِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَقَالُوا: خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطَ صِحَّتِهِ؛ هَلْ يَجِبُ عَرْضُهُ عَلَى الْكِتَابِ، أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ1: "لا يجب؛ لأنه لا تتكامل شروطه إلى وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ". وَعِنْدَ عِيسَى بْنِ أَبَانٍ2 يَجِبُ، مُحْتَجًّا بِحَدِيثٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: "إِذَا رُوِيَ لَكُمْ حَدِيثٌ؛ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ، وَإِلَّا؛ فردّوه"3.   1 في كتابه العظيم: "الرسالة" "رقم 1108". 2 وكذا قال الرازي في "المحصول" "4/ 438"، وانظر في المسألة "البحر المحيط" للزركشي "4/ 351-352". 3 أخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1387"، والخطيب في "الكفاية" "430"، والهروي في "ذم الكلام" "ص155" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "سيأتيكم عني أحاديث مختلفة، فما جاءكم موافقًا لكتاب الله ولسنتي؛ فهو مني، وما جاءكم مخالفًا لكتاب الله وسنتي؛ فليس مني". قال الدراقطني: "صالح بن موسى ضعيف، ولا يحتج بحديثه"، وقال ابن عدي عقبه -وساق أحاديث أخر-: "وهذه الأحاديث عن عبد العزيز غير محفوظات، إنما يرويها عنه صالح بن موسى". وأخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208-209"، والهروي في "ذم الكلام" "ص170" عن علي مرفوعًا بلفظ: "إنها تكون بعدي رواة يروون عني الحديث؛ فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن؛ فخذوا به، وما لم يوافق القرآن؛ فلا تأخذوا به". وقال الدراقطني: "هذا وهم، والصواب عن عاصم عن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم". وأبو بكر بن عياش لما كبر ساء حفظه، وقد خولف؛ كما يفهم من كلام الدراقطني. وفي الباب أحاديث كثيرة كلها فيها مقال، انظر: "ذم الكلام" "ص170-171"، و"السلسلة الضعيفة" "رقم 1083-1090"، وما عند المصنف "4/ 329 وما بعدها". قال "ف": "هذا العرض إنما يعتد به إذا كان من العلماء الراسخين، وهم الأئمة المجتهدون ومن على قدمهم من الفقهاء والمحدثين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 فَهَذَا الْخِلَافُ كَمَا تَرَى رَاجِعٌ إِلَى الْوِفَاقِ1، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي دَلِيلِ السُّنَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِلْمَسْأَلَةِ2 أَصْلٌ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَقَدْ رَدَّتْ عَائِشَةُ [رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا] حَدِيثَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عليه" 3 بهذا الأصل نفسه؛   1 من حيث إنه لا يقبل إلا ما كان موافقًا، ويرد ما كان مخالفًا، والخلاف بينهما في الطريق لمعرفة ذلك. "د". 2 وهي أن مخالفة الظني لأصل قطعي تسقط اعتبار الظني. "د". قلت: وتوسع المتأخرون؛ فخرجوا كثيرا من الأمثلة الآتية على "عرض أخبار الآحاد على القياس" مثل: "الدبوسيّ في "تأسيس النظر" "65-67"، وأبو زهرة في كتابه "مالك" "298-300"، ورد ذلك عبد العزيز البخاري؛ فقال في كتابه "كشف الأسرار" "2/ 697": "وقد حكي عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل، وهذا القول باطل سمج، مستقبح عظيم، وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول، ولا يدرى ثبوته منه"، وقال ابن تيمية في "صحة أصول مذهب أهل المدينة" "ص24": "من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره؛ فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى؛ فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصحِّحوه". وانظر: "شرح تنقيح الفصول" "387"، "وتوثيق السنة في القرن الثاني الهجري" "ص391-413" لرفعت فوزي عبد المطلب؛ ففيها رد على هذا القول. 3 مضى تخريجه من حديث عمر رضي الله عنه "2/ 385"، وهو في "الصحيحين" وغيرها. ويشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، 3/ 151-152/ رقم 1288"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 642/ رقم 929" ضمن حديث فيه قال: ابن عباس قال: "لما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد"، ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وانظر لزامًا: "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للزركشي "ص67-68، 91-92، 107". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 38، 39] . وردَّتْ حَدِيثَ1 رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُدْرِكُهُ   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين، 6/ 313/ رقم 3234، 3235"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم 177" عن مسروق؛ قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة! ثلاث من تكلم بواحدة منهن؛ فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ فقد أعظم على الله الفرية، قال وكنت متكئًا فجلست. فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 22] ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض". فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] ، أولم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51] ؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] . قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] . لفظ مسلم. وانظر "الإجابة "84-89". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَامِ: 103] ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِهَا غَيْرَ مَرْدُودٍ؛ لِاسْتِنَادِهِ1 إِلَى أَصْلٍ آخَرَ لَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ، وَهُوَ ثُبُوتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِأَدِلَّةٍ قُرْآنِيَّةٍ وَسُنِّيَّةٍ تَبْلُغُ الْقَطْعَ، وَلَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وردَّتْ هِيَ وَابْنُ عَبَّاسٍ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ2؛ اسْتِنَادًا إِلَى أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ وَمَا لَا طَاقَةَ بِهِ3 عَنِ الدِّينِ؛ فلذلك قالا: "فكيف يصنع بالمهراس"4؟   1 أي: فهو وإن عارض أصلًا قطعيا؛ إلا أنه يشهد له أصل قطعي، على أنه قد ينازع في قطعية الدلالة في آية: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ؛ فلا يكون مما نحن فيه. "د". 2 ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن عثمان وعلي وغيرهما، جمعها أبو عبيد في كتابه "الطهور" "باب السنة فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ، ص325-330"، وقد خرجتها ولله الحمد في التعليق عليه، وقال أبو عبيد عقبها: "هذا عندنا هو سنة الوضوء، أنه لا يدخل المتوضئ يده الإناء حتى يغسلها، وإن كانت نظيفة إنما هذا الاتباع، فإن ترك ذلك تارك، ولم يكن على يده قذر؛ فإنه لا ينجس الماء غير أنه جفاء في الدين". وقال: "والذي نختار الأخذ بالآثار الأولى، فنرى غسل اليد على كل حال". وفي "ط": "إدخالهما الإناء". 3 تقدم في المشقات تقييدها بأن تكون غير معتادة في مثل العمل المفروض، ومثل إمالة الإناء لا يظهر فيها ذلك؛ فإنها قد تكون أقل من البحث عن الماء للوضوء مثلا، واستخراجه من البئر العميقة بأدوات ومشقات؛ فقد يقال: إن هذا من القسم الثاني الذي لم يتحقق كونه قطعيًّا؛ لأن ذلك إنما يثبت بكون هذا من الخروج قطعا، وقد علمت ما فيه، وقولهما: فكيف يصنع بالمهراس؟ إذا كان هو ما يسع ماء كثيرا فليس إناء وضوء؛ فلا تظهر شبهة اقتضائه للحرج لأن الحديث في الإناء المعتاد للوضوء، وهو الذي يسع ماء قليلا يمكن أن يحصل له التغير من قليل ما يحل فيه، وقد قال الحافظ: لا وجود لردهما عليه في شيء من كتب الحديث، وإنما الذي قاله له رجل يقال له قين الأشجعي، راجع "شرح التحرير" في مسألة "معارضة القياس لخبر الواحد". "د". 4 المهراس: حجر مستطيل، ينقر ويدق فيه، ويتوضأ منه، وكتب "ف": "في النهاية" [5/ 259] : "هو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء" انتهى. قلت: لم يذكر الزركشي في "الإجابة" رد عائشة رضي الله عنها واستدراكها على أبي هريرة = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 ................................................................   = هذا الخبر، وقال في "المعتبر" "رقم 82": "لم أقف على مخالفتهما"، وتذكره كتب الأصول، انظر مثلا: "مختصر المنتهى" ص88" لابن الحاجب، قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 126، 127": "وأما مخالفة ابن عباس وعائشة لأبي هريرة في ذلك؛ فلا يحضرني الآن نقله"، ثم قال: "وإنما روى البيهقي ["1/ 47، 48"] من حديث الأعمش عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله بن مسعود قالوا: "فكيف يصنع أبو هريرة بالمهراس؟ ". قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في "مصنفه" "1/ 99"، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 461": "تبع المصنف -أي: ابن الحاجب- في ذلك كلام الآمدي، ولا وجود لذلك في شيء من كتب الحديث"، قال الزركشي وابن حجر: "ذكر أبو إسماعيل الهروي في كتاب "ذم الكلام" "رقم 299 - المحققة" بعد أن ساق قصة قين مع أبي هريرة -وسيأتي بيان ذلك- ما نصه: "وروي أن ابن عباس قال لأبي هريرة: أرأيت إن كان حوضا؟ فقال: لا يضرب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال". زاد ابن حجر: "ولم يقع لي هذا الأثر موصولا إلى الآن". قلت: ظفرت بحديث يُنمى إليها مرفوعًا بلفظ: "إذا استيقظ أحدكم من النوم فليغرف على يده ثلاث غرفات قبل أن يدخلها في وضوئه، فإنه لا يدري حيث باتت يده"، والصواب فيه: "عن أبي هريرة"، أفاده أبو زرعة كما في "العلل" "1/ 62/ رقم 162" لابن أبي حاتم، ونقله ابن حجر في "التخليص الحبير" "1/ 62" -وتبعه الشوكاني في "النيل"- عن أبي حاتم وليس عن أبي زرعة، ووهم، كما أفاده المباركفوري في "تحفة الأحوذي" "1/ 111"، وقد فصلت الوهم الواقع في الحديث -وهو من قِبَلِ ابن أبي ذئب- في تعليقي على كتاب "الطهور" "ص326-327" لأبي عبيد، ولله الحمد. نعم، وقع نحو المذكور عند المصنف عن قين الأشجعي، أخرج أبو عبيد في "الطهور" "رقم 279" و"الغريب" "2/ 274"، وأحمد في "المسند" "2/ 348، 382"، وأبو يعلى في "المسند" "10/ 377-378/ رقم 5973"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 22"، والبيهقي "1/ 47"، والهروي في "ذم الكلام" "رقم 298" عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قام أحدكم من النوم؛ فليفرغ على يديه من وضوئه؛ فإنه لا يدري أين باتت يداه". فقال قين الأشجعي: فإذا جاء مهراسكم هذا؛ فكيف نصنع؟ قال: أعوذ بالله من شركم. إسناده حسن: من أجل محمد بن عمرو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وَرَدَّتْ أَيْضًا خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي الشُّؤْمِ، وَقَالَتْ: "إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ أَقْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ"1؛ لِمُعَارَضَتِهِ الْأَصْلَ الْقَطْعِيَّ، أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَلَا طيرة ولا عدوى. وقد اخْتَلَفُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَأُخْبِرَ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِهَا، فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ؛ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ إِلَّا مُهَاجِرَةُ الْفَتْحِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى رُجُوعِهِ؛ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرارًا مَنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ "؛ فَهَذَا اسْتِنَادٌ فِي رَأْيٍ اجْتِهَادِيٍّ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، قَالَ عُمَرُ: "لَوْ غَيْرَكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ"2؛ فَهَذَا اسْتِنَادٌ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْأَسْبَابَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِرَعْيِ الْعُدْوَةِ الْمُجْدِبَةِ وَالْعُدْوَةِ الْمُخْصِبَةِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ بِقَدَرِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بحديث2 الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين.   1 ردت عائشة خبر أبي هريرة في الشؤم، وليس خبر ابن عمر، كما قال المصنف، أخرج ذلك أحمد في "المسند" "6/ 150، 240، 246"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 822 - مسند عائشة"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 341"، و"شرح معاني الآثار" "4/ 314"، وابن جرير في "تهذيب الآثار" "رقم 37"، وابن قتيبة في "عيون الأخبار" "1/ 146" بإسناد حسن عن أبي حسان -وهو الأعرج الأجرد، اسمه مسلم بن عبد الله- قال: جاء رجل إلى عائشة؛ فقال: إن أبا هريرة يقول: الطيرة في الفرس والدار والمرأة. فغضبت غضبًا شديدًا، حتى صارت منها شقة في السماء وشقة في الأرض، وقالت: ما قاله، إنما قال: "كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك". وأخرج الطيالسي في "المسند" "رقم 1537"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 479"، وابن خزيمة -كما في "الفتح" "6/ 236"- عن مكحول: قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول "وذكر نحوه". وإسناده منقطع، لم يسمع مكحول من عائشة، وانظر: "الإجابة" "ص103-106"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 777، 780، 789، 799، 993، 1897". نعم، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، رقم 5093"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، رقم 2225" عن ابن عمر مرفوعًا: "الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار"، ولكن لا يوجد لعائشة رضي الله عنها ذكر فيه. 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما يذكر في = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَفِي اعْتِبَارِ السَّلَفِ لَهُ نَقْلٌ كَثِيرٌ. وَلَقَدِ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لِصِحَّتِهِ فِي الِاعْتِبَارِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا1: "جاء الحديث ولا   = الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة، ونحوها، 4/ 1740-1741/ رقم 2219" عن عبد الله بن عباس؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد -أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين. فدعاهم؛ فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار. فدعوتهم، فاستشارهم؛ فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح. فدعوتهم؛ فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر؛ فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت واديًا له عدوتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه". قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف". لفظ البخاري. وقال "د" في هذا الموطن ما نصه: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد؛ ففي نفيه إشارة إلى رد معتقد الجاهلية من استقلال الأسباب بالتأثير، وفي إثباته إشارة إلى أن الجذام من الأسباب التي أجرى الله العادة بإفضائها إلى المسببات". 1 ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، أوردها الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه القيم "الطهور" "رقم 201-204"، وخرجتها بتفصيل ولله الحمد في التعليق عليه، وكذا في مسألة رقم "38" من "الخلافيات"، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الماء الذي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ؟ "، وَكَانَ يُضَعِّفُهُ وَيَقُولُ: "يُؤْكَلُ صيده؛ فكيف نكره لُعَابُهُ؟ "1. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَرْجِعُ قَوْلُهُ في حديث خيار المجلس2؛ حيث قال   = يغسل به شعر الإنسان، 1/ 274/ رقم 172"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، 1/ 234/ رقم 279" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات". قال أبو عبيد في كتابه "الطهور" "ص270 - بتحقيقي" بعد أن ساق الأحاديث: "وقد اختلف القول فيه على مالك في الكلاب؛ فحكى بعضهم عنه: إنه كان لا يجعل معنى هذا الحديث لكلاب الصيد والماشية، يقول: إنما هذه مثل الهرة التي يقتنيها الناس". قال أبو عبيد: "وروي عنه قول آخر: إنه كان يعم به الكلاب كلها". قال: "وكذلك القول عندنا على العموم بجميعها؛ لأنا لا نخص إلا ما خصت السنة، ولم يأتنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خصوصية شيء منها دون شيء؛ فهي عندنا على كل الكلاب". وانظر تفصيل مذهب مالك في "المدونة الكبرى" "1/ 5"، و"الإشراف" "1/ 41-42" للقاضي عبد الوهاب، و"الاستذكار" "1/ 262"، و"المنتقى" "1/ 73" للباجي، و"المقدمات" "1/ 91" لابن رشد، و"بداية المجتهد" "1/ 21"، و"حاشية الدسوقي" "1/ 83"، و"تفسير القرطبي" "6916"، و"أحكام القرآن" "3/ 1422-1423" لابن العربي، و"الكافي" "1/ 161"، و"بذل الإحسان" الجويني "2/ 177-178"، و"الشرح الصغير" "1/ 43"، و"القوانين الفقهية" "45"، و"انتصار الفقير السالك" "ص286"، و"الذخيرة" 1/ 183 - ط دار الغرب"، و"المعلم بفوائد مسلم" "2/ 242". 1 فكان يضعف الحديث لمعارضته للقطعي، وهو طهارة فمه، ومع ذلك؛ فما بال العدد، وما بال التراب، مع أنهما لا يراعيان في غسل النجس؟ هذا وقد ظهر الوجه، وهو اكتشاف المادة السمية في لعاب الكلب بسبب لعقه لدبره بلسانه كثيرا، وفي برازه الجرثومة المرضية "الميكروب" الذي متى انتقل من حيوان إلى آخر أضر به. "د". "استدارك 1". 2 يشير إلى حديث مضى لفظه "1/ 425"، وهو في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 بَعْدَ ذِكْرِهِ: "وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ"1 إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ مَجْهُولُ الْمُدَّةِ، وَلَوْ شَرَطَ أَحَدٌ الْخِيَارَ مُدَّةً مَجْهُولَةً لَبَطَلَ إِجْمَاعًا؛ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ حُكْمٌ لَا يَجُوزُ شَرْطًا بِالشَّرْعِ؟ 2 فَقَدْ رَجَعَ إِلَى أَصْلٍ إِجْمَاعِيٍّ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ قَطْعِيَّةٌ، وَهَى تُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ3 الظَّنِّيَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ4 أَثْبَتَ مَالِكٌ خِيَارَ المجلس في التمليك5 قيل: الطلاق   1 "الموطأ" "2/ 671 - رواية يحيى". وانظر -لزاما-: "ترتيب المدارك" "1/ 72"، و"تنقيح الفصول" "2/ 214" مع حاشية الشيخ علي جعيط عليه، و"الإنصاف في أسباب الاختلاف" "ص10" للدهلوي، و"أربع رسائل في علوم الحديث" ص"25-26" مع التعليق عليه، وترجمة "الفضل بن زياد البغدادي" في "تاريخ بغداد" "2/ 302"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 251". 2 ولو كان جائزا أصله؛ لكان جائزا شرطه، كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو رد. "د". 3 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرق اأو يقول أحدهما للآخر: اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع خيار" أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 425"، والكلام مستوفى في هذا المقام في "الاستذكار" "20/ 219-225"، و"التمهيد" "14/ 11 وما بعدها"، و"الذخيرة" "5/ 20-23 - ط دار الغرب" للقرافي، والتفريع" "2/ 171" لابن الجلاب، و"الإشراف" "1/ 249-250" للقاضي عبد الوهاب، و"انتصار الفقير السالك" "ص222-225" للراعي، و"إعلام الموقعين" "2/ 197-198 و4/ 22-23"، و"المعلم" للمازري "2/ 167-168"، و"أحكام القرآن" "2/ 175" للجصاص، و"القبس" "2/ 844-845"، و"فتح الباري "4/ 330"، و"بداية المجتهد" "2/ 169"، و"حاشية الدسوقي" "3/ 81"، و"البيوع والمعاملات المالية المعاصرة" "ص60" لمحمد يوسف موسى، ط دار الكتاب العربي -مصر، ط الثانية، سنة 1954م. 4 في "ط": "قد". 5 تمليك الزوج لزوجته عصمتها؛ فله الرجوع ما دام في المجلس. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 يُعَلَّقُ عَلَى الْغَرَرِ، وَيَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ1؛ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا أَهْمَلَ اعْتِبَارَ حَدِيثِ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ؛ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" 2، وَقَوْلِهِ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دِينٌ؟ " 3 الْحَدِيثَ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِلْأَصْلِ الْقُرْآنِيِّ الْكُلِّيِّ4، نَحْوَ قَوْلِهِ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 38، 39] ، كَمَا اعْتَبَرَتْهُ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ5. وَأَنْكَرَ مَالِكٌ حَدِيثَ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ قَبْلَ الْقَسَمِ6 تَعْوِيلًا عَلَى أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ بالمصالح المرسلة؛ فأجاز   1 فإنه يصح أن يطلقها على ما في قبضة يدها وهو مجهول، بخلاف البيع؛ فالجهل فيه ضار، وما قاله المصنف هو جواب ابن العربي في "القبس" "2/ 845"، وقال عقبه: "ولو لم يكن في هذا "القبس" إلا هذه المشكاة؛ لكفاه". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب من مات وعليه صوم، 4/ 192/ رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147" عن عائشة رضي الله عنها. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" عن ابن عباس رضي الله عنهما. 4 الشامل للصيام وغيره من أنواع العبادات، وهو قطعي أيضا مبثوث في الشريعة. "د". 5 مضى تخريجه "ص190". 6 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشركة، باب قسمة الغنم، 5/ 131/ رقم 2488، وكتاب الذبائح، باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، 9/ 638/ رقم 5509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر، 3/ 1758/ رقم 1968" عن رافع بن خديج؛ قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة، فأصبنا غنما وإبلا، فعجل القوم، فأغلوا بها القدور، فأمر بها فكفئت، ثم عدل عشرا من الغنم بجزور". لفظ مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 أكل الطعام1 قبل القسم2 لمن احتاج إليه، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ3. وَنَهَى عَنْ صِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ مَعَ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ4 فِيهِ؛ تَعْوِيلًا عَلَى أَصْلِ5 سَدِّ الذَّرَائِعِ6. وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِي الرَّضَاعِ خَمْسًا وَلَا عَشْرًا؛ لِلْأَصْلِ7 الْقُرْآنِيِّ فِي قوله:   1 الطعام نوعان: إبل ذبحت أو غنم ذبحت من الغنيمة قبل قسمها، وهذه هي التي ورد فيها الأمر بإكفاء القدور، وأنه صلى الله عليه وسلم جعل يمرغ اللحم في التراب، وهذا هو محل الخلاف بين مالك وغيره؛ فأجازه مالك تعويلا على الأصول المرعية، ولم يعول على هذا الخبر لمخالفته تلك الأصول، أما الطعام الآخر؛ كالشحم والزيت، والعسل؛ فإنه مباح بالنص المؤيد بالقواعد، فقد وجد عبد الله بن المغفل جرابا من الشحم في غزوة خيبر، واختص به بمحضره صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عن ذلك. "د". قلت: وفعل ابن المغفل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، 6/ 255/ رقم 3153"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772". 2 أي: قسم الغنيمة بين الجيش. "ف". 3 في كتابه: "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 605-606". 4 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال؛ كان كصيام الدهر"، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وانظر ما سيأتي "4/ 106" وتعليقنا عليه. 5 أي: وسد الذرائع أصل مقطوع به في بعض أنواعه، وتقدم أنه ثلاثة أنواع. "د". 6 أي: الوسائل إلى المنهي عنه، وهو هنا ظن وجوبها، وقد شنع الشوكاني في هذا تشنيعا شنيعا على مالك وأبي حنيفة؛ حتى قال: "إن قولهما باطل، لا يصدر عن عاقل" ا. هـ. وما أجدره بأن يقال له هذا القول، كما يعلم ذلك من مراجعة "الزرقاني على الموطأ"، وكتاب "مجموع الأمير في فقه مالك". "د". 7 ليس هذا معارضا، إنما هو بيان للمجمل، أو تقييد للمطلق؛ فلعل له وجها غير = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاءِ: 23] . وَفِي مَذْهَبِهِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ. وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّهُ قَدَّمَ خَبَرَ1 الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقِيَاسِ، إِذْ لَا إِجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَرَدَّ خَبَرَ2 الْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الأصول، لأن الأصول قطعية وخبر الواحد   = هذا. "د". قلت: نعم، له وجه آخر، بينه القرافي في "الذخيرة" "4/ 274- ط دار الغرب"، قال في الرد على الشافعية المحتجين بقول عائشة: "كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات؛ فتوفي عليه السلام وهو فيما يقرأ من القرآن"، قال: "إن إحالته على القرآن الباقي بعده عليه السلام يقتضي عدم اعتباره؛ لأنه لو كان قرآنا لتلي الآن لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] "، ثم قال: "إذا ظهر ذلك بطل قول الشافعية: إن القرآن مطلق والسنة مقيدة؛ فيحمل المطلق على المقيد". 1 وهو أن أعمى تردى في بئر والنبي عليه السلام يصلي بأصحابه؛ فضحك بعضهم؛ فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، قدم أبو حنيفة هذا الخبر على القياس، قياس القهقهة في الصلاة عليها خارج الصلاة، وهي لا تنقض الوضوء خارجها، وأيضا ليست حدثا؛ لأنه ما يخرج من أحد السبيلين، قال الأحناف: لأن القياس لا يصار إليه مع الدليل الخبري، وبعد؛ فهذا ليس من موضع المسألة، وهو رد الظني لمخالفته القطعي، بل من العمل بظني هو الخبر في مقابلة ظني هو القياس؛ لما أن رتبة القياس متأخرة عن الخبر. "د". قلت: وحديث القهقهة ضعيف؛ فهو من مرسل أبي العالية، وقد خرجته ولله الحمد على وجه مستوعب في تعليقي على كتاب "الخلافيات" للإمام البيهقي "المجلد الثاني، مسألة رقم 22، حديث رقم 683 وما بعده". 2 الذي تضمن أنه صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة مماليك أعتقهم سيدهم عند موته ولا مال له سواهم، فخرجت القرعة لاثنين؛ فأجاز عتقهما وأبقى الأربعة أرقاء، ووردت القرعة في غير حديث، وقد جمعها وتكلم عليها بكلام علمي محرر الإمام ابن القيم في "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا وهناك تخريجها، وانظر مذهب الحنفية في "تبيين الحقائق" "5/ 271"، و"المبسوط" "15/ 7"، ومذهب المالكية في "الذخيرة" "11/ 170 وما بعدها - ط دار الغرب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 ظَنِّيٌّ، وَالْعِتْقُ حِلٌّ فِي هَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ مَا نَزَلَ فِي الْمَحَلِّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ؛ فَلِذَلِكَ رَدَّهُ. كَذَا قَالُوا1. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ2: "إِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُعَارِضًا لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ؛ هَلْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ، وَتَرَدَّدَ مَالِكٌ فِي الْمَسْأَلَةِ". قَالَ: "وَمَشْهُورُ قَوْلِهِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنْ عَضَّدَتْهُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى قَالَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ تَرَكَهُ". ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ مَالِكٍ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ؛ قَالَ3: "لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَارَضَ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ" أَحَدُهُمَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . الثاني: أَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ هِيَ الْحَيَاةُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي الْكَلْبِ. وَحَدِيثُ الْعَرَايَا4 إِنْ صَدَمَتْهُ قَاعِدَةُ الربا عضدته قاعدة المعروف".   1 انظر: "المبسوط" "7/ 75-76"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 13"، وانظر للرد عليهم: "المغني" "12/ 275-277 - مع الشرح الكبير"، و"الفروق" "4/ 112". 2 في كتابه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 812-813". 3 أي: تعليلا لقول مالك السابق: "جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته؟ ". "د". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، 5/ 50/ رقم 2381"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، 3/ 1174/ رقم 1536" عن جابر رضي الله عنه؛ قال: "نَهِيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ المخابرة والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وأن لا تباع إلا بالدينار = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ مَنْعِ بيع الرطب بالتمر1 لتلك العلة أيضا.   = والدرهم؛ إلا العرايا". لفظ البخاري. وفي لفظ لمسلم في آخره: "ورخص في العرايا". والعرايا: جمع "عرية"، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم باقي البستان، يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرتها، انظر "تحرير ألفاظ التنبيه" "180" للنووي. وذكر المصنف هذا الحديث كمثال تطبيقي على قوله: "إن عضدته قاعدة أخر عمل به". وانظر في المسألة: "الكافي" "2/ 654" لابن عبد البر، و"التفريع" "2/ 150" لابن الجلاب. 1 أخرج مالك في "الموطأ" "2/ 624"، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" 2/ 159" وفي "الرسالة" "ص331-332"، والطيالسي في "مسنده" "رقم 214"، وعبد الرزاق في "المصنف" "8/ 32"، وأحمد في "مسنده" "1/ 279"، وأبو دواد السجستاني في "سننه" "كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر/ رقم 3359"، والترمذي في "جامعه" "أبواب البيوع، باب في النهي عن المحاقلة والمزابنة، رقم 1225"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، 7/ 269"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر، رقم 2284"، والحميدي في "مسنده" "1/ 41"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "6/ 182 و14/ 204" وفي "مسنده" "ورقة 64 أ"، وأبو يعلى في "مسنده" "2/ 68 و141"، والبزار في "مسنده" "ق208"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 6"، والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" "ورقة 69ب"، والدورقي في "مسند سعد" "رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 657"، والدارقطني في "سننه" "3/ 49"، والخطابي في "غريب الحديث" "2/ 225"، وابن جميع في "معجمه" "ص201"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 38 و43"، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "1/ 211"، والبيهقي في "السنن" "5/ 294"، والبغوي في "شرح السنة" "8/ 78"، والضياء المقدسي في "المختارة" "قسم 2/ 218" من طريق عبد الله بن يزيد بن زيد أبي عياش؛ أن سعدا سئل عن البيضاء بالسلت؛ فكرهه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الرطب بالتمر، فقال: "أينقص التمر إذا يبس؟ ". قالوا: نعم. قال: "فلا إذا". وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد في "المسائل" "ص275 - رواية ابنه عبد الله" من طريق ابن عيينة عن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ1: "كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ اسْتَجَازُوا الطَّعْنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِرَدِّهِ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْعُدُولِ"، قَالَ: "لِأَنَّهُ كان يذهب في ذلك إلى عرضها مَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ؛ فَمَا شَذَّ مِنْ ذَلِكَ رَدَّهُ وَسَمَّاهُ شَاذًّا".   = إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن يزيد به. قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم يروى عن سعد إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث؛ إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح، خصوصا في حديث أهل المدينة"، ثم قال: "والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي عياش"، وقال الخطابي في "معالم السنن" "5/ 35": "قد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص"، وقال: "زيد أبو عياش راويه ضعيف"، ثم قال: "وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في "الموطأ"، وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته معلوم" ا. هـ. وفي الحديث ذكره السيوطي في "الجامع الكبير" "2/ 216"، وفي "الدر المنثور" "2/ 112"، وعزاه لمالك، وابن أبي شيبة، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، والشافعي، والبيهقي. وقوله: "بالسلت" هو نوع من الشعير، رقيق القشر، صغار الحب، وقوله: "أينقص الرطب؟ "، قال الخطابي في "معالم السنن": "هذا لفظه لفظ استفهام، ومعناه التقرير والتنبيه بكنه الحكم وعلته لكي يكون معتبرا في نظائره، وإلا؛ لا يجوز أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا يبس نقص وزنه؛ فيكون سؤاله عنه سؤال تعرف واستفهام" ا. هـ. وقال البغوي في "شرح السنة" "8/ 79": "وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه، وأحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، واللحم الرطب بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وجوزه أبو حنيفة وحده، وأما بيع الرطب بالرطب، وبيع العنب بالعنب؛ فلم يجوزه الشافعي وجوزه الآخرون". 1 في كتابه "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" "ص149". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وَقَدْ رَدَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ مُقْتَضَى حَدِيثِ1 المُصَرَّاة وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِمَا رَآهُ2 مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ، فَإِنَّهُ قَدْ خَالَفَ أَصْلَ3: "الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ" 4، وَلِأَنَّ متلف   1 يشير المصنف إلى ما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم، ومن ابتاعها؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر، 4/ 361/ رقم 2150"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، 3/ 1155/ رقم 1515، وباب حكم بيع المصراة، 3/ 1158-1159/ رقم 1524". 2 في الأصل و"ط": "لما رأياه"، ولا معنى لها. 3 فكان مقتضى هذا الأصل ألا يدفع شيئا ما؛ لأنه ضامن، والغلة بالضمان، والأصل الآخر أن متلف الشيء ... إلخ، وهو يقتضي ألا يدفع في اللبن قل أو كثر صاعا، بل يدفع إما لبنا بمقداره، أو يدفع القيمة بالغة ما بلغت، ولا يتقيد بالصاع ولا بالتمر. "د". 4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا، 3/ 777-779/ رقم 3508-3510"، والترمذي في "جامعه" "أبواب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبا، 3/ 581-582/ رقم 1285"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان، 7/ 254-255"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، 2/ 754/ رقم 2242 و2243"، وأحمد في "المسند" "6/ 49، 161، 208، 237"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1464"، والشافعي في "المسند" "رقم 479"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1125، 1126 - موارد"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 626، 627"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 21-22"، والدارقطني في "السنن" "3/ 53"، الحاكم في "المستدرك" "2/ 15"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 321"، والبغوي في "شرح السنة" "8/ 162-163"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1702"، والخطيب في "التاريخ" "8/ 297-298" عن عائشة، والحديث صحيح. وكتب "د" هنا ما نصه: وفسره الترمذي بأن يشتري الرجل العبد يستغله ثم يظهر به عيب فيرده؛ فالغلة للمشتري لأن العبد لو هلك هلك في ضمانه، ونحو هذا يكون فيه الخراج بالضمان. ا. هـ. يعني: وهو يقتضي أن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 الشَّيْءِ إِنَّمَا يُغَرَّمُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، وَأَمَّا غُرْمُ جِنْسٍ آخَرَ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الْعُرُوضِ؛ فَلَا1. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيهِ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِالْمُوَطَّأِ وَلَا الثَّابِتِ"2، وَقَالَ بِهِ فِي الْقَوْلِ الآخر شهادة بأنه لَهُ أَصْلًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ يَصِحُّ رَدُّهُ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يُضَادُّ هَذِهِ الْأُصُولُ الْأُخَرَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كُلُّهُ؛ ظَهَرَ وَجْهُ3 الْمَسْأَلَةِ إِنْ شاء الله.   = اللبن للمشتري؛ فكيف يرد عنه الصاع من التمر؟ وقد أجيب عنه أولا بأن حديث المصراة أقوى من حديث الخراج بالضمان، وثانيا بأن اللبن المصرَّى كان حاصلًا قبل الشراء في ضرعها؛ فليس من الغلة التي إنما تحدث عند المشتري، فلا يستحقه المشتري بالضمان؛ فلا بد من قيمته، وإنما كانت صاعًا محددًا، ومن تمر لما يعلم من مراجعة شرحه "نيل الأوطار" "5/ 245" للشوكاني مبسوطا، ومن "إعلام الموقعين" "1/ 367" موجزا مضبوطا؛ فلذلك قال بأن له أصلا متفقا عليه لا يضاد هذه الأصول الأخر، والمعول عليه عند المالكية أنه يرد صاعًا من غالب قوت البلد، وقالوا إن التمر في الحديث لأنه كان غالب قوت المدينة، وسيأتي للمصنف كلام على شرح الحديث، انظر: "ص437". 1 ذكر الحنفية ثمانية أوجه في مخالفة الحديث أصول الشريعة، ذكرها العيني في "عمدة القاري" "11/ 270"، وصاحب "إعلاء السنن" "13/ 60"، وانظر في مناقشتها: "فتح الباري" "4/ 364-365"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "10/ 162"، و"شرح السنة" "8/ 125" للبغوي، و"إعلام الموقعين" "1/ 367 وما بعدها". 2 قال ابن العربي في "القبس" "2/ 852-853": "ومن غرائب مذهبنا أن أشهب ذكر عنه في "العتبية" أنه "أي مالك" قال: إن ردها لم يرد معها شيئا لأن الخراج بالضمان"، ثم قال: "وهذا قول باطل"، وقال: وأشهب أجل قدرا من هذا فهما ودينا، وإنما هي من مسائل "العتبية" التي لم تثبت فيها رواية، وإنما هي منقولة من صحف ملفقة من البيوت، وفي مثلها قال مالك: لا يجوز بيع كتب الفقه، يعني: القراطيس والأوراق التي كانت تكتب عنه، فأما كتاب محصل مروي مضبوط بالفصول والأصول؛ فإنه يجوز بيعه إجماعا". وانظر: "إعلام الموقعين" "3/ 10 - ط دار الحديث". 3 في "ط": "ظاهر وجوه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وَأَمَا الرَّابِعُ1، وَهُوَ الظَّنِّيُّ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ وَلَا يُعَارِضُ أَصْلًا قَطْعِيًّا؛ فَهُوَ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، وَبَابُهُ2 بَابُ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ؛ فَقَدْ يُقَالُ: لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ شَرْعٍ عَلَى غَيْرِ مَا عُهِدَ فِي مِثْلِهِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَهَذَانَ يُوهِنَانِ التَّمَسُّكَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الرِّيبَةِ؛ فَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ ظَنُّ ثُبُوتِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ مُعَارِضٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ؛ إِذْ3 كَانَ عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ مُخَالَفَةً، وَكُلُّ مَا خَالَفَ أَصْلًا قَطْعِيًّا مَرْدُودٌ؛ فَهَذَا مَرْدُودٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يُوَجِّهَ الْإِعْمَالَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ عَلَى الْجُمْلَةِ ثَابِتٌ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِأَصْلٍ؛ فَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَضَّدَ الرَّدَّ عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ عَضَّدَ الْقَبُولَ عَدَمُ الْمُخَالَفَةِ؛ فَيَتَعَارَضَانِ وَيَسْلَمُ أَصْلُ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الحديث قوله عليه الصلاة   1 وهذا كالمناسب المرسل الذي لم يدل الدليل على اعتباره ولا على إلغائه؛ فقد علل به مالك ومن تبعه، ورده الأكثرون. "ف". 2 أي أن شبيه به، وهو ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه، لكن لم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم، وإلا؛ لكان ملائما، وإنما ثبت بالقياس، ومثاله أن يقال في البات في مرض الموت لئلا ترث زوجته: يعارض بنقيض قصده؛ فترث قياسًا على القاتل ليرث؛ فحكم بعدم إرثه، والجامع كونهما فعلا محرما لغرض فاسد؛ فهو مناسب غريب في ترتيب الحكم عليه مصلحة، وهو زجرهما عن الفعل الحرام، لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار على الوجه المتقدم، بل إنما ثبت بالقياس المشار إليه، وبهذا البيان تفهم أن معنى قوله: "وقد وجد منه في الحديث ... إلخ"؛ أي: وجد من القسم الرابع حديث: "القاتل لا يرث"؛ فإنه ظني، لم يشهد له ولم يرده أصل قطعي، وليس الغرض أن الحديث من باب المناسب الغريب، يعني: وحيث كان ما هنا شبيها به في وجهي الإعمال والإهمال وأدلة كل، وقد اعتبر العلماء المشبه به في باب القياس؛ فليكن شبهه هنا معتبرا في الأدلة. "د". 3 في "ط": "إذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وَالسَّلَامُ: "الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ" 1، وَقَدْ أَعْمَلَ الْعُلَمَاءُ الْمُنَاسِبَ الْغَرِيبَ فِي أَبْوَابِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فِي بَابِهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ ضَائِرٍ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ. فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَصْلِ الْقَطْعِيِّ لَيْسَ بِإِقَامَةِ2 الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِهِ؛ كَالدَّلِيلِ على أن العمل بخبر الواحد أبو بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ مَثَلًا، بَلِ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَخَصُّ3 مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 4 وَالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ، وَهُوَ5 مَعْنًى مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْأُصُولِيُّونَ، والله أعلم.   1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح. 2 في "ط": إقامة". 3 لأن الغرض هنا أن يتفق في معناه مع مقطوع به، وهذا أخص مما عناه الأصوليون؛ لأنه قد يكون معنى الخبر غير متفق مع مقطوع بخصوص معناه، ولكنه من حيث العمل به يعد مقطوعًا به لدخوله تحت قاعدة مقطوع بها، وهي العمل بخبر الواحد؛ فخبر القاتل لا يرث يقال: إنه راجع إلى قطعي بالمعنى الذي عناه الأصوليون لا بالمعنى المراد هنا؛ لأنه لم يتفق في معناه مع مقطوع به يؤيده؛ فلذا كان ما هنا أخص. "د". 4 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو حديث صحيح بشواهده. 5 في "ف": "وهي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُنَافِي قَضَايَا الْعُقُولِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا 2: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا؛ لَمْ تَكُنْ أَدِلَّةً لِلْعِبَادِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، لَكِنَّهَا أَدِلَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ فَدَلَّ [عَلَى] 3 أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى قَضَايَا الْعُقُولِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ إِنَّمَا نُصِبَتْ فِي الشَّرِيعَةِ لِتَتَلَقَّاهَا عُقُولُ الْمُكَلَّفِينَ؛ حَتَّى يَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهَا مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ نَافَتْهَا؛ لَمْ تَتَلَقَّهَا فَضْلًا [عَنْ] 4 أَنْ تَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا خَارِجَةً5 عَنْ حُكْمِ الْأَدِلَّةِ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْأَدِلَّةُ الْمَنْصُوبَةُ عَلَى الْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ. وَالثَّانِي 6: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا؛ لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِمُقْتَضَاهَا تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ بِتَصْدِيقِ مَا لَا يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَتَصَوَّرُهُ، بل يتصور   1 أي: أحكام العقول السليمة الراجحة دون السقيمة المدخولة؛ فإنه لا عبرة بها. "ف". قلت: انظر بسط ما عند المصنف وأدلة أخرى في هذا المعنى: "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية، و"الصواعق المرسلة" "3/ 796 وما بعدها"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 52"، و"العبادي على شرح الورقات" "48"، و"المحلى على جمع الجوامع" "1/ 124"، و"الإحكام" "1/ 9"، و"العضد على ابن الحاجب" "1/ 36"، و"المسودة" "573"، و"إرشاد الفحول". "5". 2 هكذا في الأصل و"م" و"ف"، وفي "د": "أحدهما". 3 و4 الزيادتان من "م" و"ط" فقط. 5 أي: الذي هو التالي في الشرطية، وهو قوله: "لم تكن أدلة". "د". 6 هذا ظاهر في أدلة الأحكام الإلهية والاعتقادات، أما الأحكام العملية؛ فليس المطلوب بها التصديق، بل مجرد العمل، وبقية الوجوه يمكن أن تكون كالأول يستوي فيها أدلة الاعتقادات والعمليات. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 خِلَافَهُ وَيُصَدِّقُهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ امْتَنَعَ عَلَى الْعَقْلِ التَّصْدِيقُ ضَرُورَةً، وَقَدْ فَرَضْنَا وُرُودَ التَّكْلِيفِ الْمُنَافِي التَّصْدِيقَ، وَهُوَ مَعْنَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ حَسَبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ هُوَ الْعَقْلُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ قَطْعًا بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ؛ حَتَّى إِذَا فُقِدَ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ رَأْسًا، وَعُدَّ فَاقِدُهُ كَالْبَهِيمَةِ الْمُهْمَلَةِ، وَهَذَا وَاضِحٌ فِي اعْتِبَارِ تَصْدِيقِ1 الْعَقْلِ بِالْأَدِلَّةِ فِي لُزُومِ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ؛ لَكَانَ لُزُومُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْعَاقِلِ أَشَدَّ2 مِنْ لُزُومِهِ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ وَالنَّائِمِ؛ إِذْ لَا عَقْلَ لِهَؤُلَاءِ يُصَدِّقُ أَوْ لَا يُصَدِّقُ، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ الَّذِي يَأْتِيهِ مَا لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ سَاقِطًا عَنْ هَؤُلَاءِ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ سَاقِطًا عَنِ الْعُقَلَاءِ أَيْضًا، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ؛ فَكَانَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بَاطِلًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ أَوَّلَ مَنْ رَدَّ الشَّرِيعَةَ بِهِ3 لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَانُوا يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا؛ فَتَارَةً يَقُولُونَ: سَاحِرٌ، وَتَارَةً: مَجْنُونٌ، وَتَارَةً يُكَذِّبُونَهُ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ: سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَافْتِرَاءٌ، وَإِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بِشْرٌ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ كَانَ أَوْلَى مَا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَا يُعْقَلُ، أَوْ هُوَ مُخَالِفٌ للعقول، أو ما أشبه ذلك، فلما   1 أي: اعتبار تمكن العقل من التصديق بالأدلة؛ أي: ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأدلة في ذاتها صالحة لأن يصدق العقل بها بألا تتنافى مع قضاياه، هذا، أما التصديق بالفعل؛ فظاهر أنه لا يعتبر. "د". 2 لأن العاقل عنده نفس العقل يضاد التكليف ويمنعه؛ لأنه يصادمه ويعقل خلافه، بخلاف المجنون مثلا؛ فليس عنده تعقل له ولا لخلافه؛ فالذي عنده أنه غير مستعد للتكليف، أما العاقل؛ فمستعد لخلافه، وفرق بين من فقد آلة الشيء ومن تسلح بآلة ضده؛ فبعد الثاني عنه آكد وأقوى. "د". 3 في "ط": "الكفار أولى ... بهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ دلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مَا فِيهِ، وَعَرَفُوا جَرَيَانَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ؛ إِلَّا أَنَّهُمْ أَبَوْا مِنَ اتِّبَاعِهِ لِأُمُورٍ أُخَرَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ، وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ أَحَدٌ بِهَذَا الْمُدَّعَى؛ فَكَانَ قَاطِعًا فِي نَفْيِهِ عَنْهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى جَرَيَانِهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ، [بِحَيْثُ تُصَدِّقُهَا الْعُقُولُ] 1 الرَّاجِحَةُ، وَتَنْقَادُ لَهَا طَائِعَةً أَوْ كَارِهَةً2، وَلَا كَلَامَ فِي عِنَادِ مُعَانِدٍ، وَلَا فِي تَجَاهُلِ مُتَعَامٍ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِكَوْنِهَا جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ، لَا أَنَّ الْعُقُولَ حَاكِمَةٌ عَلَيْهَا، وَلَا مُحَسِّنَةٌ فِيهَا وَلَا مُقَبِّحَةٌ، وَبَسْطُ هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ3 فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْإِفْهَامِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ، يَصُدُّ عَنِ الْقَوْلِ بِهَا غَيْرُ مَا وَجْهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أَصْلًا؛ كَفَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَإِنَّ النَّاسَ قَالُوا: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يَعْرِفُهُ الْجُمْهُورُ، [وَفِيهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْعَرَبُ، وَفِيهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلا العلماء بالشريعة] 4، وفيه ما لا يعلمه إلا الله5؛ فأين جريان هذا   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 أي: راغبة في ذلك بدون سبق عناد، أو مع سبقه، والكره غير الإكراه الذي لا يتأتى معه التصديق والانقياد العقلي، وقوله: "تصدقها" ظاهر في الاعتقاديات، وقوله: "وتنقاد لها" ظاهر في العمليات على رأي أهل السنة، أما على مذهب المعتزلة؛ فيجريان فيها معا بوضوح، وتكون العقول مصدقة لحسن مقتضى هذه الأدلة، بحيث تكون الأدلة ملائمة لما يدركه العقل من الحسن، وعلى رأي أهل السنة يمكن أن يكون انقياد العقول جاريا في أدلة العمليات أيضا على معنى أنها تدرك بوجه عام أن الشريعة على وجه مطرد لم تجئ إلا لمصلحة العباد الدنيوية أو الأخروية، سواء أدركت خصوص المصلحة في الحكم الخاص أو لم تدركها؛ فهذا معنى انقيادها، وقوله: "لا أن ... إلخ"؛ أي: على خلاف للمعتزلة في ذلك. "د". 3 انظر: تعليقنا على "1/ 127-130". 4 ما بين المقعوفتين سقط من الأصل. 5 ومنه فواتح السور، وهذا القسم غير قسم المتشابهات؛ لأن المتشابهات تدرك بوجه إلا أنها تشتبه، أما هذا فلا يدرك معناه أصلا؛ فظهر وجه كون الثاني وجهًا مغايرًا للأول، وقوله: "كالمتشابهات ... إلخ" على ترتيب اللف، وقوله: "فلا تفهمها أصلا" راجع للأصولية على رأي، وقوله: "أو لا يفهمها ... إلخ" راجع للفروعية على الرأي المتقدم أو للمتشابهات مطلقا على الرأي الآخر. "د". والمثبت من "ط"، وفي غيره: "ما لا يعرفه ... "!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 الْقِسْمُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مُتَشَابِهَاتٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أو لا1 يعلمها إلى اللَّهُ تَعَالَى؛ كَالْمُتَشَابِهَاتِ الْفُرُوعِيَّةِ، وَكَالْمُتَشَابِهَاتِ الْأُصُولِيَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِبَاهِهَا إِلَّا أَنَّهَا تَتَشَابَهُ عَلَى الْعُقُولِ؛ فَلَا تَفْهَمُهَا أَصْلًا، أَوْ لَا1 يَفْهَمُهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَالْمُعْظَمُ مَصْدُودُونَ عَنْ فَهْمِهَا؛ فَكَيْفَ يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِجَرَيَانِهَا عَلَى فَهْمِ الْعُقُولِ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا أَشْيَاءَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْعُقُولِ حَتَّى تَفَرَّقَ النَّاسُ بِهَا فِرَقًا، وَتَحَزَّبُوا أَحْزَابًا، وَصَارَ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، فَقَالُوا فِيهَا أَقْوَالًا كُلٌّ عَلَى مِقْدَارِ2 عَقْلِهِ وَدِينِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ حَتَّى أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَكَةِ؛ كَنَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ اتَّبَعُوا فِي الْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ؛ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعَلْنَا} ، وَ {قَضَيْنَا} ، وَ {خَلَقْنَا} 3، ثُمَّ [مِنْ] 4 بَعْدِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، الطَّاعِنِينَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالتَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ، ثُمَّ يَلِيهِمْ سَائِرُ الْفِرَقِ الَّذِينَ أَخْبَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ خِطَابٍ يَزِلُّ بِهِ5 الْعَقْلُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، فَلَوْ كَانَتِ الْأَدِلَّةُ جارية على تعلقات6 العقول؛ لما وقع في الاعتياد هذا   1 في الأصل و"ط": "ولا". 2 في "ط": "قدر". 3 انظر: "الاعتصام" "2/ 739 - ط دار ابن عفان"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 276"، وسيأتي تفصيل ذلك مع تخريجه "ص316". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". 5 أي: يضعف عن فهمه. "د". وفي "ط": "يزل فيه". 6 كذا في "ط"، وفي غيره: "تعقلات". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 الِاخْتِلَافُ، فَلَمَّا وَقَعَ؛ فُهِمَ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ ماله خُرُوجٌ عَنِ الْمَعْقُولِ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ لِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِهَا مَقَالٌ1 بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ أَلْبَتَّةَ؛ فَلَيْسَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ؛ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَالْقِسْمُ الَّذِي2 لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّرِيعَةِ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلَا تَنْخَرِمُ بِهِ الْكُلِّيَّةُ الْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى فَهْمِهِ، وَلَيْسَ كلامنها فِيهِ، إِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى مَا يُؤَدِّي مَفْهُومًا لَكِنْ عَلَى خِلَافِ الْمَعْقُولِ، وَفَوَاتِحُ السُّوَرِ خَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهَا لَوْ بُيِّنَتْ لَنَا مَعَانِيَهَا؛ لَمْ تَكُنْ إِلَّا عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعَنِ الثَّانِي3 أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ لَيْسَتْ مِمَّا تُعَارِضُ مُقْتَضَيَاتِ الْعُقُولِ وَإِنْ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ تَوَهَّمَ فِيهَا ذَلِكَ؛ فَبِنَاءً عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ، كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ   1 أي: فهي مما يعقل معناه، وقوله: "ليس مما يتعلق به تكليف على حال"؛ أي: لا بأمر عملي ولا بأمر اعتقادي، وقوله: "على شيء من الأعمال"؛ أي: القلبية أو البدنية، وقوله: "وإن سلم"؛ أي: إن سلم كونها من الأدلة، فمع كونها نادرة لا تنافي هذا الأصل لأنها ليست مؤدية لمعنى يفهم العقل أنه على خلاف قضاياه؛ فقوله: "ولا تنخرم ... إلخ" هو روح الجواب بالتسليم. "د". 2 هكذا في "د" و"ف" و"ط"، وهي ليست في الأصل، وفي "م": "الثاني الذي". 3 أدمج فيه الجواب عن الثالث؛ لأن مبنى الاعتراضيين متقارب، فإن اختلاف الإخبار بالمعاني المتعددة واختلاف العقول فيها إنما جاء من تشابهها على العقول حتى تفرقت فيها؛ فلذلك قال: "وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة ... إلخ"، وهو تمهيد للجواب عن الثالث، وإن لم يعنون له بعنوان خاص؛ إلا أن الاشتباه الذي يكون بين الإخبار بالمعاني المتعددة كما سيذكر أمثلته لا يتناوله الفرض الثاني في كلامه؛ فلا يدخل فيما لا يعلمه إلا الله؛ فقوله: "وهذا كما لا يأتي ... إلخ" ليس المراد به كل ما تقدم، بل ما يصلح لذلك، وهو خصوص أن التأويل فيها يرجع بها إلى معقول موافق بخلاف قوله: "وإن فرض أنها ... إلخ". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] لَا أَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَمْرٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالتَّأْوِيلُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْقُولٍ مُوَافِقٍ لَا إِلَى مُخَالِفٍ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ فَالْعُقُولُ عَنْهَا مَصْدُودَةٌ لِأَمْرٍ1 خَارِجِيٍّ لَا لِمُخَالَفَتِهِ لَهَا، وَهَذَا كَمَا يَأْتِي فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَكَذَلِكَ يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْمُحْتَوِي عَلَى جُمَلٍ كَثِيرَةٍ وَأَخْبَارٍ بِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ، رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ الْقَاصِرُ النَّظَرِ فِيهَا الِاخْتِلَافَ، وَكَذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ الطَّبْعِ2 الَّذِي يَظُنُّ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِمَا يَنْظُرُ فِيهِ وَهُوَ جَاهِلٌ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ احْتِجَاجُ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي التَّثْلِيثِ، وَدَعْوَى الْمُلْحِدِينَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ التَّنَاقُضَ وَالْمُخَالَفَةَ لِلْعُقُولِ، وَضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ جَهْلَهُمْ بِحِكَمِ التَّشْرِيعِ، فَخَاضُوا حِينَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي الْخَوْضِ، وَفِيمَا لَمْ يَجُزْ لَهُمُ الْخَوْضُ فِيهِ؛ فَتَاهُوا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كان عَرَبِيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِيَنْظُرَ فِيهِمَا إِلَّا عَرَبِيٌّ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَقَاصِدَهُمَا لَمْ يحل له أن يتكلم فيهما؛ إذًا لَا يَصِحُّ لَهُ نَظَرٌ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِهِمَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ شَيْءٌ3 مِنَ الشَّرِيعَةِ. وَلِذَلِكَ مِثَالٌ يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ4 سأل ابن عباس؛ فقال له:   1 في "ط": "لمعنى". 2 قيد به لأن نصارى نجران كانوا عربا لا عجما، ولكن غلبت عليهم تعابير الأعاجم المجاورين لهم حتى لم يفهموا أن لفظ "نا" كما يكون للجماعة يكون للواحد المعظم نفسه. "د". 3 أي؛ فالاختلاف منشؤه أحد أمرين: ضعف في اللغة العربية واستعمالاتها، أو جهل بمقاصد الشريعة، أو هما معا. "د". 4 "مسائل نافع بن الأزرق" لابن عباس، أوردها السيوطي في كتابه "الإتقان" "1/ 120-133"، قال في أولها بعد أن ساق الإسناد من طريق الطستي إلى عبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه؛ قال: بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن؛ فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما إليه؛ فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله؛ فتفسرها لنا، وتأتينا = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 "إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ1 عَلَيَّ. قَالَ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] .   = بمصادفة من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين. فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما ... " وذكرها. قال السيوطي بعد ذلك "1/ 133": "هذا آخر مسائل نافع بن الأزرق، وقد حذفت منها يسيرا نحو بضعة عشر سؤالا، وهي أسئلة مشهورة، أخرج الأئمة أفرادا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس"، ثم بين أن هذه المسائل قد أودعها بعضهم قديما في مصنفاتهم؛ فقال: "وأخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب "الوقف والابتداء" ["1/ 76-98"] منها قطعة، قال: حدثنا بشر بن أنس أنبأ محمد بن علي بن الحسن بن شقيق أنبأنا أبو صالح هدبة بن مجاهد أبنأنا مجاهد بن شجاع أنبأنا محمد بن زيد اليشكري عن ميمون بن مهران؛ قال: دخل نافع بن الأزرق المسجد ... "؛ فذكره. وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير" ["10/ 304-312/ رقم 10597"] منها قطعة، من طريق جويبر عن الضحاك عن مزاحم؛ قال: "خرج نافع بن الأزرق ... فذكره". قلت: وانظرها في "مجموع الزوائد" "6/ 303-310 و9/ 278-284"، وقد أفردها محمد فؤاد عبد الباقي ورتبها على حروف المعجم، وألحقها بآخر كتابه "معجم غريب القرآن" "ص238-292"، وقام بدراستها اعتمادا على النص الوارد في "الإتقان" كل من أبي تراب الظاهري في "شواهد القرآن" وعائشة عبد الرحمن في "الإعجاز البياني للقرآن" "القسم الثاني"، ومن هذه المسائل نسخة عتيقة مصورة في دار الكتب الظاهرية بدمشق، تحت رقم "3849" تحتوي على روايتين لها، وتختلف عما أورده السيوطي في "الإتقان". والمذكور من الأسئلة أخرجه البخاري في "صحيحه" "8/ 555-556 - مع الفتح" معلقا، ثم وصله بقوله: "حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بهذا". وانظر: "فتح الباري" "8/ 559"، و"الاعتصام" "2/ 825 وما بعدها - ط دار ابن عفان". 1 هذا المثال ظاهر فيه أن الاختلاف جاء من السبب الثاني، وهو عدم معرفة مقاصد القرآن؛ فاختلفت عليه الآيات، ويبقى الكلام في أن نافعا؛ هل كان من الطاعنين، أم طلب أن يزيل شبها طرأت عليه بسبب عدم فهمه المقاصد؟ فيدخل سؤاله في قسم ما أشكل على الطالبين، وظاهر قوله: "وهكذا سائر ما ذكره الطاعنون ... إلخ" أنه من القسم الأول؛ فلينظر: هل كان نافع من الخوارج؟ ولين ابن عباس معه لا يدل على الواقع من ذلك، ثم رأيت المؤلف في "الاعتصام" ["2/ 727 - ط دار ابن عفان"] يحكي عن الخوارج إلى أن قال: "ثم رجع عبادة بن قرط من القتال يريد الصلاة، فإذا هو بالأزارقة وهم صنف من الخوارج"، هذا وقد عبر البخاري عن السائل برجل؛ فاتفق الشراح على أنه نافع بن الأزرق، وفي "شرح القسطلاني" لأحاديث السجدة أنه صار بعد أسئلته لابن عباس رئيس الأزارقة من الخوارج"؛ فاجتمع الكلام أوله وآخره. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 27] . {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 42] . {رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 23] ؛ فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ: {بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ... } إِلَى قَوْلِهِ {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 28-30] ؛ فَذَكَرَ خَلْقَ السماء قبل [خلق] الأرض. ثم قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... } إِلَى أَنْ قَالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الْآيَةَ [فُصِّلَتْ: 9-11] ؛ فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ. وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفُرْقَانِ: 70] ، {عَزِيزًا حَكِيمًا} ، {سَمِيعًا بَصِيرًا} ؛ فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى يُنْفَخُ1 فِي الصُّورِ؛ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزُّمَرِ: 68] ؛ فَلَا أَنْسَابَ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 27] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 23] ، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 42] ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَقَالَ المشركون: تعالوا   1 سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 نَقُولُ: "مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ"؛ فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهُمْ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النِّسَاءِ: 42] . وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ؛ أَيْ: أَخْرَجَ الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ؛ فَخُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وذلك قوله؛ أني1 لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ". هَذَا تَمَامُ مَا قَالَ فِي الْجَوَابِ. وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعْقُولٌ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وَأَتَى مِنْ بَابِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا ذَكَرَ الطَّاعِنُونَ، وَمَا أَشْكَلَ عَلَى الطَّالِبِينِ، وَمَا وَقَفَ فِيهِ الرَّاسِخُونَ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النِّسَاءِ: 82] . وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ ذَلِكَ بَيَانٌ كافٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ2 فِي رَفْعِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ عَنِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرًا، فَمَنْ تَشَوَّفَ إِلَى الْبَسْطِ وَمَدِّ الْبَاعِ وَشِفَاءِ الغليل؛ طلبه في مظانه.   1 كذا في "ط" وفي غيره: "أي". 2 من المؤلفات في ذلك "مشكل الآثار"، و"شرح معاني الآثار"، كلاهما للطحاوي، وهما في الأحاديث والآثار، ودفع إيهام الاضطراب، للشنقيطي، وهو في الآيات التي في ظاهرها اضطراب، وهو مطبوع آخر" أضواء البيان"، ومفردًا وهو من نفائس الكتب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ 1: الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْأَدِلَّةِ تَنْزِيلُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى حَسَبِهَا، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ؛ إِلَّا أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ لَهَا اعْتِبَارَانِ:   1 هذه المسألة ترتبط بمسألة: "يستحيل كون الشيء الواحد واجبًا حرامًا من جهة واحدة"، وبمسألة: "إذا أمر بفعل مطلق؛ فالمطلوب ... إلخ" المذكورتين في الأصول، راجع ابن الحاجب وما كتب عليه، يريد المؤلف أن يبسط المقام ويبين سبب اختلافهم في مثل صحة الصلاة في الدار المغصوبة؛ فمهد أولا ببيان الاعتبارين: العقلي والخارجي، ثم ردد الكلام في أن متعلق التكليف الجهة العقلية أو الخارجية، ولا يعني أن المطلوب تحصيله هو نفس الأمر العقلي لأن هذا وإن قيل به، فله معنى آخر غير ما يتبادر منه، وإلا؛ لكان تكليفًا بالمحال، بل غرضه ما صرح به بعد بقوله: "إذا أوقعنا الفعل في الخارج عرضناه على المعقول الذهني؛ فإن صدق عليه صح، وإلا فلا". وقوله أيضا في أثناء الأدلة، وهو: "دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة"، ولما تم له التمهيد ببيان الاعتبارين؛ قال: "إن هذا هو منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة"، يعني فيمن قال: إن قصد الشارع بالأمر مثلا منصرف إلى المعقول الذهني، يبني عليه أنه إذا فعل المأمور به مستوفيًا لشرائطه وأركانه التي اعتبرت له في الذهن؛ كان صحيحًا بقطع النظر عما يلابسه من الصفات الخارجية، وسواء أكانت الصفات الخارجيه الزائدة عن المقعول من الحقيقة الشرعية فيها مفسدة تقتضي النهي أم ليس فيها؛ صح المأمور به لأن قصد الشارع قد حصل بهذا المقدار، وكفى، وذلك لأن هذا المقدار الذهني الذي قصد إليه الشارع واحد بالشخص لا تعدد فيه، وذو جهة واحدة لا تعدد فيها؛ لأن التعدد إنما يجيء من اعتبار الكيفيات والأحوال الخارجية، والشارع إنما ينظر إليه من جهة حقيقته العقلية الشرعية، وهي شيء واحد، وحينئذ يستحيل -بناء على القاعدة الأصولية- أن يتعلق بها وجوب وحرمة معًا؛ فمثلا الصلاة في المكان المغصوب صحيحة متى استوفت ما راعاه الشارع في حقيقتها من أركان وشروط ولا نظر إلا ما تعلق بها في الخارج من وصف هو مفسدة تقتضي النهي؛ لأنه إنما جاء من الكيفيات والأحوال الخارجية الزائدة عن الحقيقة الشرعية؛ فلا يعتبر جزءًا من المأمور به حتى يكون العمل تكوّن من جزء صحيح وجزء فاسد؛ فيقتضي فساد المجموع هذا، وأما إذا قلنا: إن منصرف الأدلة إلى الأفراد الخارجية لهذا المعقول الذهني، ومعروف أنها لا تتحقق إلا بهيئات وكيفيات تكون داخلة في حقيقة تلك الأفراد، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 اعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ مَعْقُولِيَّتِهَا. وَاعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الْخَارِجِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ أَوْ بِتَرْكِهِ أَوِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ مَاهِيَّتِهِ مُجَرَّدًا عَنِ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا وَاللَّاحِقَةِ لَهَا؛ كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْصَافُ لَازِمَةً أَوْ غَيْرَ لَازِمَةٍ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الْعَقْلِيُّ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ مَاهِيَّتِهِ بِقَيْدِ الِاتِّصَافِ بِالْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ اللَّاحِقَةِ فِي الْخَارِجِ1، لَازِمَةً أَوْ غَيْرَ لَازِمَةٍ، وَهُوَ الِاعْتِبَارُ الْخَارِجِيُّ؛ فَالصَّلَاةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مَثَلًا يُتَصَوَّرُ فِيهَا هَذَانِ الِاعْتِبَارَانِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَجُّ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مِنَ الْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِهَا، وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ فِيمَا إِذَا نُظِرَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي تُنْقِصُ مِنْ كَمَالِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ. فَإِذَا صَحَّ الِاعْتِبَارَانِ عَقْلًا؛ فَمُنْصَرَفُ الْأَدِلَّةِ إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ هُوَ، ألجهة   = أو لازمة لوجودها؛ كما يقولون في جزئي أي نوع، كما في زيد مثلا: كل مشخصاته الزائدة عن حقيقته النوعية معتبرة جزءًا منه أو كجزء -إذا قلنا ذلك- لزم أن كل ما اقترن به المأمور به في الخارج من كيفيات وأحوال، معتبرة فيه جزءًا له أو كجزء؛ ففي مثل الصلاة في مكان مغصوب يعتبر الشرع الانتفاع بالمغصوب كجزء من الصلاة، فتكون قد تكونت من جزء صحيح وجزء فاسد؛ فتكون فاسدة، وهكذا كل مأمور به اقترن به في الخارج ما فيه مفسدة يكون فاسدًا، على ما سيفصله المؤلف في الفصل التالي من الكلام في الأوصاف السلبية والوجودية. وبهذا البيان تتضح المسألة، ويظهر انسجام أدلتها على كل من هذين النظرين، وتظهر غزارة مادة المؤلف وعلو كعبه في هذا الفن رحمه الله، وسيأتي للمؤلف في المسألة الثالثة في الأوامر والنواهي ما يساعدك على فهم ما قررنا به كلامه هنا، وقد ذكر الآمدي في هذه المسألة في الأوامر، وصحح أن الأمر بالمطلق أمر بالمقيد؛ فراجعه إن شئت. "د". قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-306". 1 في الأصل: "الخارجة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 الْمَعْقُولِيَّةِ أَمْ لِجِهَةِ الْحُصُولِ [فِي] 1 الْخَارِجِ؟ هَذَا مَجَالُ نَظَرٍ مُحْتَمِلٌ لِلْخِلَافِ2، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى الْخِلَافِ الْمَنْصُوصُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَدِلَّةُ الْمَذَاهِبِ3 مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا يُتَحَرَّى مِنْهُ مَقْصِدُ4 الشَّارِعِ فِي أَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ. فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ أُمُورٌ5: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَوِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ حَقَائِقُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْطَلِقُ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ، وَهَذَا أَمْرٌ ذِهْنِيٌّ فِي الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّا إِذَا أَوْقَعْنَا الْفِعْلَ عَرَضْنَاهُ عَلَى ذلك في الْمَعْقُولِ الذِّهْنِيِّ، فَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ صَحَّ، وَإِلَّا؛ فَلَا. وَلِصَاحِبِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّخْيِيرِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَقُومَ الْمُكَلَّفُ بِمُقْتَضَاهَا؛ حَتَّى تَكُونَ لَهُ أَفْعَالًا خَارِجِيَّةً لَا أُمُورًا ذِهْنِيَّةً، بَلِ الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ هِيَ مَفْهُومَاتُ6 الْخِطَابِ، وَمَقْصُودُ7 الْخِطَابِ لَيْسَ نَفْسَ التَّعَقُّلِ، بَلِ الِانْقِيَادُ، وَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْخَارِجِيَّةُ؛ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَتْ عَمَلِيَّةً أَمِ اعْتِقَادِيَّةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ مَوْصُوفَةً، فَيَكُونَ الْحُكْمُ عليها كذلك8.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 لا نزاع في أن الأوامر والنواهي متعلقة بالمطلق ظاهرا وهو الماهية بلا قيد، وأما المطلوب تحصيله؛ فهو الماهية من حيث اتحادها بالفرد الخارجي أو وجودها فيه على خلاف في ذلك، ولا قائل بأن المطلوب هو الماهية المجردة فيما أظن، وإنما ذلك مقول في معنى المطلق الذي تتعلق به الأوامر والنواهي ظاهرا، وبذلك تعلم ما في الأدلة المسوقة عليه. "ق". 3 في "ط": "المذهب". 4 في "ط": "مقاصد". 5 ذكر له ثلاثة أدلة، عبر عنها بالأول والثاني والثالث، وذكر في مقابل كل منها معارضته من طرف المذهب الآخر بقوله: "ولصاحب الثاني". "د". 6 في "ط": "مفهومة". 7 في "ط": "ومفهوم". 8 أي: ملاحظا فيها وقوعها في الخارج، لا مجرد المقدار الذي يطابق ما في الذهن، وإذا كان الحكم عليها إنما يكون باعتبار الوقوع في الخارج؛ فلا بد فيه من مراعاة الأوصاف من الكيفيات الأحوال التي تكون عليها في الخارج، فإن اقترن بها موجب للفساد أفسدها، والدليل لكل منهما -كما ترى- كأنه مجرد دعوى كلام في مقابلة كلام. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرِ الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ فِي الْأَفْعَالِ؛ لَزِمَتْ1 شَنَاعَةُ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ الْمُقَرَّرَةُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فَمِنْ لَوَازِمِهِ فِي الْخَارِجِ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْحَرَامَ، وَيَلْقَى فِيهِ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ مَرَّ بُطْلَانُهُ. وَلِصَاحِبِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: لَوِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ مُجَرَّدًا عَنِ الْأَوْصَافِ الْخَارِجِيَّةِ؛ لَزِمَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْأَوْصَافُ الْخَارِجِيَّةُ بِإِطْلَاقٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ؛ فَإِنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ مَعْلُومٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ2 وَكَذَلِكَ3 كَلُّ فِعْلٍ سَائِغٍ فِي نَفْسِهِ وَفِيهِ تَعَاوُنٌ4 عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى أَوْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَصِحَّ5 النَّهْيُ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَلَا عَنِ الصلاة عند   1 أي: لو اعتبرنا الخارج في المباح، ومعلوم أنه يلزمه أن يكون فيه ترك حرام؛ لزم أن يكون كل مباح واجبًا كما يقول الكعبي، يعني: وأنتم متفقون معنا على وجود المباح المستوي الطرفين ضمن الأحكام الشرعية. "د". 2 أي: لوحظت فيه الأوصاف الخارجية قطعا، وإلا؛ لما صح منعه. "د". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "كذلك"، وكتب "ف": "لعله "وكذلك"؛ أي أنه منظور فيه للأوصاف الخارجية. 4 كالأكل يقصد به التقوي على الطاعة أو التقوي على الإثم؛ فالأصل مباح، وبالقصد المذكور تحصل الطاعة أو المعصية، وهذا نوع آخر غير سد الذرائع التي هي أمر سائغ يتحيل به إلى ممنوع؛ كبيوع الآجال كما سبق، وقد ذكر ثلاثة أنواع مما اعتبر الشارع فيه الأوصاف الخارجية وبنى حكمه عليها هذان النوعان، وصحة النهي عن صوم يوم العيد والصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، والأنواع الثلاثة يستدل بها على بطلان اعتبار المعقول الذهني مجردًا؛ فقوله: "ولم يصح النهي" داخل تحت مضمون قوله: "لزم ألا تعتبر الأوصاف" وليس مقابلا له، وإنما هو نوع مغاير لسد الذرائع والتعاون الذي اعتبر فيهما كما اعتبر فيه الأوصاف الخارجية. "د". 5 عطف على قوله: "لزم أن لا تعتبر". "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَهَذَا الْبَابُ وَاسِعٌ جِدًّا. وَالثَّالِثُ: أَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْأَفْعَالَ مِنْ حَيْثُ هِيَ خَارِجِيَّةٌ فَقَطْ؛ لَمْ يَصِحَّ لِلْمُكَلَّفِ1 عَمَلٌ إِلَّا فِي النَّادِرِ؛ إِذْ كَانَتِ الْأَفْعَالُ وَالتُّرُوكُ مُرْتَبِطًا2 بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ فَرَضُوا مَسْأَلَةَ مَنْ صَلَّى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ حَانَ وَقْتُهُ، وَأَلْزَمُوا الْمُخَالِفِينَ أَنْ يَقُولُوا بِبُطْلَانِ تِلْكَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ بِهَا وَاجِبًا، وَهَكَذَا كُلٌّ مَنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِذَا تَلَازَمَا3 فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التَّوْبَةِ: 102] ، لِأَنَّهُمَا إِذَا تَلَازَمَا فِي الْخَارِجِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا كالوصف للثاني4؛ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ صَالِحًا5، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ خَلْطُ عَمَلَيْنِ، بَلْ صَارَا6 عَمَلًا وَاحِدًا؛ إِمَّا صَالِحًا، وَإِمَّا سَيِّئًا7، وَنَصُّ الْآيَةِ يُبْطِلُ هذا، وكذلك جريان   1 في "ف": "المكلف". 2 كما تقدم في المسألة السابعة من النوع الثالث من مقاصد الشارع، حيث يقول: "إن الحقوق متزاحمة، وإن بعضها يضاد بعضا؛ كالحج والجهاد مثلا في وقت واحد، وبعضها يؤدي إلى نقض في غيره ... "إلخ ما ذكر هناك. "د". 3 أي: بحيث يكون وجدوه الخارجي مما يلزمه العمل السيء؛ فيكون من الموضوع المتكلم فيه؛ أي: فإذا اعتبر العمل السيء وصفا للعمل الصالح لأنه مقترن بوجوده الخارجي؛ فلا يكون هناك عملان، بل عمل واحد، والآية تسميهما عملين، وتبقي وصف كل منهما بالصلاح ومقابله. "د". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "للوصف الثاني"، وكتب "د": "لعل الأصل: "كالوصف الثاني"، يعني كما هو مقتضى القول الثاني، ويؤيد هذا التصحيح قوله الآتي في جواب الإشكال عن الآية: "كالوصف للآخر". 5 لو زاد هنا جملة "أو السيء سيئا"؛ لناسب قوله بعد: "إما صالحا، وإما سيئا". "د". 6 في "د": "صار"، المثبت من الأصل و"م" و"ف". 7 نوسع في البيان، وإلا؛ فسابقه يقتضي أنه سيء فقط. "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 الْعَوَائِدِ1 فِي الْمُكَلَّفِينَ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ عَمَلٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ. وَلِصَاحِبِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْأُمُورَ الذِّهْنِيَّةَ مُجَرَّدَةٌ مِنَ2 الْأُمُورِ الخارجية تعقل3، وما لَا تُعْقَلُ3 لَا يُكَلَّفُ بِهِ، أَمَّا أَنَّ مَا لَا يَعْقِلُ3 لَا يُكَلَّفُ بِهِ؛ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْأُمُورَ الذِّهْنِيَّةَ لَا تُعْقَلُ3 مُجَرَّدَةً؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا، فِي4 الْمَحْسُوسَاتِ؛ فَكَالْإِنْسَانِ مَثَلًا، فَإِنَّ مَاهِيَّتَهُ الْمَعْقُولَةَ الْمُرَكَّبَةَ مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنُّطْقِيَّةَ لَا تَثْبُتُ فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهَا كُلِّيَّةٌ حَتَّى تَتَخَصَّصَ، وَلَا تَتَخَصَّصُ5 حَتَّى تَتَشَخَّصَ، وَلَا تَتَشَخَّصُ حَتَّى تَمْتَازَ عَنْ سِوَاهَا مِنَ الْمُتَشَخِّصَاتِ بِأُمُورٍ أُخَرَ؛ فَنَوْعُ الْإِنْسَانِ يَلْزَمُهُ خَوَاصُّ كُلِّيَّةٌ هِيَ لَهُ أَوْصَافٌ؛ كَالضَّحِكِ، وَانْتِصَابِ الْقَامَةِ، وَعَرْضِ الْأَظْفَارِ، وَنَحْوِهَا وَخَوَاصُّ شَخْصِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي امْتَازَ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ عَنِ الْآخَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ؛ لَمْ يَظْهَرِ الْإِنْسَانُ فِي الْخَارِجِ ألبتة. فقد صارت إذًا الأمور الخارجية الْعَارِضَةُ لَازِمَةً لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِيَّاتِ؛ فَكَالصَّلَاةِ مَثَلًا؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا المركبة من القيام   1 أي: كما يجري في الأمور العبادية يجري في العاديات كما سيقول بعد في الذبح بالسكين والبيوع الفاسدة. "د". وكتب "ف": "المراد بـ"العوائد" هنا العادات، جمع "عادة"، وهي الديون يعاد إليها". 2 في الأصل "عن"، والمثبت من "ف" و"د" و"م" و"ط". 3 في "د" و"م" في جميع المواطن: "تفعل" أو "يفعل"، وفي "ف": "لا يفعل"، وفي هامشها: "في الأصل: لا يعقل، وهكذا ما بعده". قلت: وهكذا في الأصل و"ط" و"ماء"، ثم قال "ف": "وهو غير ظاهر؛ فتنبه"، وكتب "ف" ما نصه: "وهذا يشبه أن يكون مغالطة؛ لأنه أخذ ظاهر الدعوى من أن الحقيقة الذهنية هي المكلف بها، واعترض بما قال، ولكنه لو نظر غلى غرضه الذي قاله وسيقوله؛ لم يتوجه هذا، وسيتضح ذلك بعد". قلت: الكلام مستقيم على النحو الذي ضبطناه، ولله الحمد. 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "أما في". 5 في "ط": "حتى تختص، ولا تختص". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ في الخارج إلى عَلَى كَيْفِيَّاتٍ وَأَحْوَالٍ وَهَيْئَاتٍ شَتَّى، وَتِلْكَ الْهَيْئَاتُ مُحْكَمَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْمَاهِيَّةِ حَتَّى يُحْكَمَ عَلَيْهَا بِالْكَمَالِ أَوِ النُّقْصَانِ وَالصِّحَّةِ أَوِ1 الْبُطْلَانِ، وَهِيَ مُتَشَخِّصَاتٌ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ عَلَى صَاحِبِهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ هِيَ فِي الذِّهْنِ كَالْمَعْدُومِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِمَا وَقَعَ فِي الْخَارِجِ2، وَلَيْسَ إِلَّا أَفْعَالًا مَوْصُوفَةً بِأُمُورٍ خَاصَّةٍ لَازِمَةٍ، وَأُمُورٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ مُخَاطِبٌ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِهَا؛ فَهُوَ إِذًا مُخَاطَبٌ بِمَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَهُ فِي الْخَارِجِ، فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّوَازِمِ الْخَارِجِيَّةِ؛ فَهُوَ إِذًا مُخَاطَبٌ بِهَا لَا بِغَيْرِهَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ حَصَلَتْ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ؛ فَلَمْ تَحْصُلْ إِذًا عَلَى حَقِيقَتِهَا، بَلْ عَلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى، وَالَّتِي خُوطِبَ بِهَا لَمْ تَحْصُلْ بَعْدُ. فَإِنْ قِيلَ: فَيُشْكِلُ مَعْنَى الْآيَةِ إِذًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التَّوْبَةِ: 102] ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَحْصُلُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ3 وَتَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الِاعْتِبَارُ الذِّهْنِيُّ. قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الْمُتَعَارِضَةَ الْأَحْكَامِ لَيْسَتْ بِمُتَلَازِمَةٍ لِحُصُولِهَا فِي زَمَانَيْنِ وَفِي حَالَيْنِ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَإِذَا تَلَازَمَتْ حَتَّى صَارَ أَحَدُهَا كَالْوَصْفِ لِلْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ كَالْوَصْفِ السَّلْبِيِّ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ التَّلَازُمِ لِأَنَّ الْوَصْفَ السَّلْبِيَّ اعْتِبَارِيٌّ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ لَيْسَ صِفَةً وجودية، وأما إن كانت   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "والبطلان". 2 الخصم يقول له: إننا متفقون في هذا، ولكن نحن نقول بما وقع في الخارج منطبقا عليه الحقيقة الكلية فقط؛ لأنها هي المرعية في التكليف، أما الزيادات الخارجية التي يقترن بها؛ فلا شأن لها في قصد الشارع، وأنت تقول: لها شأن، وتتحكم في صحة المأمور به وعدمها. "د". 3 في "ط": "بنقصان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 صِفَةً وُجُودِيَّةً أَوْ كَالصِّفَةِ الْوُجُودِيَّةِ1، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْحَاصِلِ فِي الْخَارِجِ، وَلَا يَدْخُلُ مِثْلُهُ تَحْتَ الْآيَةِ2، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ غَيْرُ الْمُبْطِلَةِ أَوِ النُّقْصَانُ؛ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِمَا حَصَلَ فِي الْخَارِجِ جَارِيًا مَجْرَى الْمُخَاطَبِ بِهِ؛ فَالصَّلَاةُ النَّاقِصَةُ أَشْبَهَتْ فِي الْخَارِجِ الصَّلَاةَ الْكَامِلَةَ فَعُومِلَتْ مُعَامَلَتَهَا، لا أنه3 اعتبر فيها الاعتبار الذِّهْنِيُّ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَشَعَّبُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ. فَصْلٌ: وَيَتَصَدَّى النَّظَرُ4 هُنَا فِيمَا يَصِيرُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَصْفًا لِصَاحِبِهِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ النَّظَرَانِ، وَمَا لا يصير كذلك؛ فلا يجريان فيه.   1 كما سيأتي في ترك الطهارة للصلاة؛ فإنها وإن كانت سلبية، لكن لما ثبت اعتبارها شرعا؛ كانت كأنها وجودية. "د". 2 لأن الآية في جمعهم بين أعمال صالحة وتركهم الجهاد في هذه الغزوة، والترك هنا وصف سلبي صرف ليس كالطهارة للصلاة مثلا. "د". وكتب "ف" ما نصه: "نزلت على ما رواه البيهقي [في "الدلائل" "5/ 272"] في عشرة من المسلمين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، والواو في الآية بمعنى الباء؛ كما في قولك: "خلطت الماء واللبن"، ومعنى خلط العمل الصالح بالسيء وعكسه: استعقاب آخرهما الآخر، بحيث يقعان في زمانين". قلت: أخرج سبب النزول المذكور ابن جرير في "التفسير" "11/ 16"، وابن مردويه من طريقين عن ابن عباس، في أحدهما عبد الله بن صالح، كاتب الليث وهو ضعيف، وفي الآخر محمد بن سعد العوفي وآباؤه، وهم ضعفاء. وانظر "الدر المنثور" "4/ 275"، و"لباب النقول" "ص123-124"، و"الفتح السماوي" "2/ 697-698"، و"صحيفة علي بن أبي طلحة" "ص271"، و"الكافي الشافي" "ص80" لابن حجر. 3 في "ط": "أنها". 4 إنما يحتاج إلى ضبط هذا الموضع ومعرفة الأفعال التي تعتبر وصف لما اقترن بها والتي لا تعتبر كذلك، بناء على النظر الثاني، أما إذا نظر إلى الأمر الذهني المعقول، وأنه إذا صدق على ما في الخارج صح بقطع النظر عن الأوصاف التي تقترن به في الخارج؛ فلا حاجة له بهذا الضابط وتفصيله لأن الضابط عنده مجرد صدق الحقيقة الذهنية عليه باستيفائه أركانها وشروطها. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَلَازِمَةَ؛ إِمَّا أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهَا وَصْفًا لِلْآخَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَلَا تَلَازُمَ؛ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِ الزِّنَى أَوِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ أَحَدَ التَّرْكَيْنِ لَا يَصِيرُ كَالْوَصْفِ لِلْآخَرِ؛ لِعَدَمِ التَّزَاحُمِ فِي الْعَمَلِ، إِذْ كَانَ يُمْكِنُ الْمُكَلَّفَ التَّرْكُ لِكُلِّ فِعْلٍ مَشْرُوعٍ أَوْ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مُتَزَاحِمَيْنِ1 عَلَى الْمُكَلَّفِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى أَمْرٍ سَلْبِيٍّ وَالسَّلْبِيَّاتُ اعْتِبَارِيَّاتٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا سَلْبِيًّا أَوْ وُجُودِيًّا، فَإِنْ كَانَ سَلْبِيًّا؛ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ اعْتِبَارُهُ فِيهِ شَرْعًا عَلَى الْخُصُوصِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ2؛ كَتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَلَا اعْتِدَادَ بِالْوَصْفِ السَّلْبِيِّ؛ كَتَرْكِ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيمَنْ فَرَّ مِنْ قَضَائِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، [فَإِنَّ الصَّلَاةَ] 3 وَإِنْ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا فِرَارٌ مِنْ وَاجِبٍ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَصْفٍ لَهَا إِلَّا اعْتِبَارِيًّا تَقْدِيرِيًّا، لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ وُجُودِيًّا؛ فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ؛ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ لِأَوْصَافٍ فِيهَا خَارِجَةٍ عَنْ حَقَائِقِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّرُوكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ تُرُوكٌ لا تتلازم في الخارج، وكذلك   1 في "ط": "بمتزاحمين". 2 نقول: ولا إشكال في اعتبار المعقول الذهني أيضا متى لوحظ تقييد المعقول المذكور بالشروط مع الأركان، على ما سقناه في تقرير الكلام من أوله؛ فإنه إذا لم تعتبر الشروط أشكل عليه الأمر، واضطر إلى اعتبار بعض الأمور الخارجية دون بعض؛ فلا يكون اعتباره لمجرد الأمر المعقول مقبولا بإطلاق. "د". 3 سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 الْأَفْعَالُ مَعَ التُّرُوكِ؛ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ تَلَازُمُهَا شَرْعًا، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى أَنَّ التَّرْكَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ مِنْ جِهَةِ فَقْدِ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ لِلْفِعْلِ الْوُجُودِيِّ؛ كَالطِّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْأَفْعَالُ مَعَ الْأَفْعَالِ؛ فَهِيَ الَّتِي تَتَلَازَمُ إِذَا قُرِنَتْ فِي الْخَارِجِ، فَيَحْدُثُ مِنْهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ؛ فَيُنْظَرُ فِيهِ وَفِي وَصْفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَعَلُّقٌ بِبَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّقْلِ الْمَحْضِ. وَالثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّأْيِ الْمَحْضِ. وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُصُولِ الْأَدِلَّةِ، وَإِلَّا؛ فَكَلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرْبَيْنِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَنْقُولَاتِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ، كَمَا أَنَّ الرَّأْيَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى النَّقْلِ، فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ؛ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِدْلَالُ1، وَيَلْحَقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُوهٌ؛ إِمَّا بِاتِّفَاقٍ، وَإِمَّا بِاخْتِلَافٍ؛ فَيَلْحَقُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ2 قِيلَ   1 هو دليل ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس شرعي، وإن كان راجعًا إلى النص؛ إذ الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل شرعي. "ف". قلت: انظر "الإحكام" "7/ 53"، و"النبذ" "37-51، 120-135" كلاهما لابن حزم، و"الوجيز في أصول الفقه" "148-149". 2 أي: سواء جرينا على أنه يختص بالصحابة كما روي عن أحمد أو لا، وسواء قلنا: إجماع أهل المدينة حجة كما يقول مالك أو لا، وسواء قلنا: يشترط عدد التواتر في حجية الإجماع أو لا، وسواء قلنا: يصح أن يكون مستند الإجماع قياسًا كما هو الحق أو لا كما يقول الظاهرية، وهكذا مما يدور حول الإجماع من الخلاف المقتضي لتوسيع مجال الإجماع أو تضييقه؛ إلا أنه يقال إذا كان مستنده قياسا: لا يكون ملحقًا بالضرب الأول بل بالثاني. "د". وكتب "ف": ما نصه: "أما الإجماع؛ فلأنه لا بد له من سند من كتاب أو سنة، فيعتد به من هذه الجهة، ولا يلزمنا البحث عن سنده لحديث: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، ومذهب الصحابي محمول على الرواية والنقل ما لم يثبت أنه رأي له واجتهاد؛ فيجري الخلاف في حجيته، وأما شرع من قبلنا؛ فلإقراره في شرعنا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 بِهِ وَمَذْهَبُ1 الصَّحَابِيِّ وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّعَبُّدِ بِأَمْرٍ مَنْقُولٍ صِرْفٍ لَا نَظَرَ فِيهِ لِأَحَدٍ. وَيَلْحَقُ بِالضَّرْبِ الثَّانِي الِاسْتِحْسَانُ وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرٍ نَظَرِيٍّ، وَقَدْ تَرْجِعُ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِنْ شَهِدْنَا أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعُمُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ، حَسَبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ2 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَصْلٌ: ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي أَصْلِهَا مَحْصُورَةٌ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّا لَمْ نُثْبِتِ الضَّرْبَ الثَّانِيَ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْأَوَّلِ؛ إِذْ مِنْهُ قَامَتْ أَدِلَّةُ صِحَّةِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعُمْدَةُ، وَقَدْ صَارَ إِذْ ذَاكَ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مُسْتَنَدَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: جِهَةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ. وَالْأُخْرَى: جِهَةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا الْأَحْكَامُ الْجُزْئِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ. فَالْأُولَى كَدَلَالَتِهِ عَلَى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالصَّيْدِ، وَالذَّبَائِحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْحُدُودِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ3 كَدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، وَعَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، وَشَرْعَ مِنْ قَبْلَنَا حُجَّةٌ، وَمَا كَانَ نحو ذلك.   1 ظاهر إذا لم يكن اجتهادًا منه، وإلا؛ رجع لما يناسبه من الضربين. "د". 2 في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد أن مآلات الأفعال معتبرة. "د". 3 في الأصل: "الثاني". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فَصْلٌ: ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْكِتَابِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِ الرسول صلى الله عليه وسلم الْمُعْجِزَةُ، وَقَدْ حَصَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُعْجِزَتَهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: "وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ" 1، هَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَثِيرٌ جِدًّا، بَعْضُهُ يُؤْمِنُ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ2، وَلَكِنَّ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] . وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه} فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَتَكْرَارُهُ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الطَّاعَةِ بِمَا أَتَى بِهِ مِمَّا فِي الْكِتَابِ وَمِمَّا لَيْسَ فِيهِ مِمَّا هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ، وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] . وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . إلى ما أشبه ذلك.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم"، 13/ 247/ رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 جاء معنى هذا الكلام في حديث صحيح، يأتي نصه وتخريجه "4/ 180". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السُنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبِيِّنَةً لِلْكِتَابِ وَشَارِحَةً لِمَعَانِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَةِ: 67] ، وَذَلِكَ التَّبْلِيغُ مِنْ وَجْهَيْنِ: تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْكِتَابُ. وَبَيَانُ مَعَانِيهِ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَجَزَاهُ عَنَّا أَفْضَلَ الْجَزَاءِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ] ؛ فَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ مَوَارِدَ السُّنَّةِ وَجَدْتَهَا بَيَانًا لِلْكِتَابِ، هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْعَامُّ فِيهَا. وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورٌ بَعْدُ1 إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا أَنْظَارُ النُّظَّارِ وَمَدَارِكُ أَهْلِ الاجتهاد، وليس وراءه مرمى؛ فإنه كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 42] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] . وقل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] . وَبَيَانُ هَذَا مَذْكُورٌ بَعْدُ2 إِنْ شَاءَ اللَّهُ.   1 في المسألة الثانية من الدليل الثاني وهو السنة. "د". 2 في المسألة الرابعة من السنة؛ فسيشرح فيها كيف أن الكتاب تضمن ما في السنة. "د". وفي "ط": "أنه مذكور". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ 1: كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ فَمَبْنِىٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: رَاجِعَةٌ إِلَى تَحْقِيقِ مَنَاطِ2 الْحُكْمِ. وَالْأُخْرَى: تَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. فَالْأُولَى نَظَرِيَّةٌ وَأَعْنِي بِالنَّظَرِيَّةِ هُنَا3 مَا سِوَى النَّقْلِيَّةِ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أُثْبِتَتْ بِالضَّرُورَةِ أَمْ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَلَا أَعْنِي بِالنَّظَرِيَّةِ مُقَابِلَ الضَّرُورِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ نَقْلِيَّةٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ هَذَا4 جَارٍ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ؛ فَيَصِحُّ أَنْ نَقُولَ: الْأُولَى رَاجِعَةٌ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَالثَّانِيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ الْمَطَالِبِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: إِنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ؛ فَلَا يَتِمُّ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ5 حَتَّى يَكُونَ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَى المقصود   1 انظر في تفصيل ذلك "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111، 254-255 و22/ 329-330". 2 "المناط هو الوصف الذي نيط به الحكم، وتحقيقه إثبات العلة في إحدى صورها التي خفيت فيها العلة؛ كتحقيق أن النباش سارق، بأنه وجد فيه أخذ المال خفية وهو السرقة، فتقطع، ولكن المؤلف هنا أراد بتحقيق المناط إثبات الوصف الذي نيط به الحكم مطلقًا؛ ففي حرمة السكر كونه خمرًا، وفي جواز الوضوء بالماء كونه مطلقا، وفي رفع زيد ونصب عمرو كونه فاعلًا، وفي حدوث العالم كونه متغيرًا". "ف". 3 في "م": "ههنا". 4 أي: حاجة الدليل إلى مقدمتين بحيث ترجع إحداهما إلى تحقيق المناط ... إلخ لا بقيد أن تكون الثانية نقلية؛ إذ قد تكون المقدمتان عقليتين، وسيأتي له توجيه اطراد ذلك في العقليات أيضا بأنه يجب أن تكون إحدى المقدمتين العقليتين جارية مجرى النقليات في خاصيتها وهي أن تكون مسلمة. "د". 5 أي: على الجزئي بهذا الدليل الشرعي حتى يكون الجزئي بهذه الحيثية ليستعمل هذا المشروب المشار إليه إذا لم يتحقق فيه المناط، ولم يندرج في موضوع الكبرى أو يجتنب، ولا يستعمل إذا لم يتحقق فيه ذلك، كما يقولون: إن الأصغر في مقدمة الدليل المنطقي يجب أن يكون مندرجًا في الأوسط حتى ينتقل حكمه إليه؛ فتحقيق المناط يرجع إلى تحقيق اندراج الأصغر في الأوسط. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 مِنْهُ لِيُسْتَعْمَلَ أَوْ لَا يُسْتَعْمَلَ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ إنما جاءن لِتَحْكُمَ عَلَى الْفَاعِلِينَ مِنْ جِهَةِ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، فَإِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ فِي تَنَاوُلِ خَمْرٍ مَثَلًا؛ قِيلَ لَهُ: أَهَذَا خَمْرٌ أَمْ لَا؟ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي كَوْنِهِ خَمْرًا أَوْ غَيْرَ خَمْرٍ، وَهُوَ مَعْنَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَإِذَا وُجِدَ فِيهِ أَمَارَةُ الْخَمْرِ أَوْ حَقِيقَتُهَا بِنَظَرٍ مُعْتَبَرٍ؛ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا خَمْرٌ، فَيُقَالُ لَهُ: كُلُّ خَمْرٍ حَرَامُ الِاسْتِعْمَالِ. فَيَجْتَنِبُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَاءٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ: هَلْ هُوَ مُطْلَقٌ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ اللَّوْنِ، وَبِذَوْقِ الطَّعْمِ وَشَمِّ الرَّائِحَةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ مَنَاطُهُ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَهِىَ الْمُقَدِّمَةُ النَّظَرِيَّةُ، ثُمَّ يُضِيفُ إِلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ ثَانِيَةً نَقْلِيَّةً، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَاءٍ مُطْلَقٍ؛ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَظَرَ: هَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْوُضُوءِ أَمْ لَا؟ فَيَنْظُرُ: هَلْ هُوَ مُحْدِثٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ تَحَقَّقَ الْحَدَثُ؛ فَقَدْ حَقَّقَ مَنَاطَ الْحُكْمِ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِالْوُضُوءِ، [وَإِنْ تَحَقَّقَ فَقْدُهُ؛ فَكَذَلِكَ؛ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْوُضُوءِ] 1، وَهَى الْمُقَدِّمَةُ النَّقْلِيَّةُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مُطْلَقَةً2 وَمُقَيَّدَةً3، وَذَلِكَ مُقْتَضَى إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ وهي النقلية، ولا ينزل الحكم بها إلى على ما   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": " ... مطلوب بالرضى"؟! 2 في البعض؛ كالقاعدة القائلة: "المرتد يقتل". "د". 3 وهو الأكثر، كما في قاعدة "القاتل يقتل"؛ أي: إذا لم يكن أبا أو إذا لم يعف أولياء الدم مثلا: وعلى هذا يكون معنى الإطلاق والتقييد وغيرهما في المسألة السابعة، ويظهر أنه لا مانع من جعلهما بالمعنى الآتي في المسألة المذكورة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَنَاطُ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُقَدِّمَةِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. نَعَمْ، وَفِي اللُّغَوِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ؛ فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَأَرَدْنَا أَنْ نَعْرِفَ [مَا] الَّذِي يُرْفَعُ مِنَ الِاسْمَيْنِ وَمَا الَّذِي يُنْصَبُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَاعِلِ مِنَ الْمَفْعُولِ، فَإِذَا حَقَّقْنَا الْفَاعِلَ وَمَيَّزْنَاهُ؛ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى [الْمُقَدِّمَةِ] 1 النَّقْلِيَّةِ، وَهَى أَنَّ كُلَّ فَاعِلٍ مَرْفُوعٌ، وَنَصَبْنَا الْمَفْعُولَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَفْعُولٍ مَنْصُوبٌ، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُصَغِّرَ عَقْرَبًا حَقَّقْنَا أَنَّهُ رُبَاعِيٌّ؛ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ أَبْنِيَةِ التَّصْغِيرِ بِنْيَةَ "فُعَيْعِلٍ"2 لِأَنَّ كُلَّ رُبَاعِيٍّ عَلَى هَذِهِ الشَّاكِلَةِ تَصْغِيرُهُ عَلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ عُلُومِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا الْعَقْلِيَّاتُ؛ فَكَمَا إِذَا نَظَرْنَا فِي الْعَالَمِ؛ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَمْ لَا؟ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ3 وَهُوَ الْعَالَمُ، فَنَجِدُهُ مُتَغَيِّرًا، وَهِيَ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى، ثُمَّ نَأْتِي بِمُقَدِّمَةٍ مُسَلَّمَةٍ وَهُوَ قَوْلُنَا: كُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ. لَكِنَّا قُلْنَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَسَائِرِ النَّقْلِيَّاتِ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ نَظَرِيَّةً، وَهِيَ الْمُفِيدَةُ لِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ -وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَيْضًا-، وَالْأُخْرَى نَقْلِيَّةً؛ فَمَا الَّذِي يَجْرِي فِي الْعَقْلِيَّاتِ مَجْرَى النَّقْلِيَّاتِ؟ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ تَأَمُّلِهِ. وَالَّذِي يُقَالُ فِيهِ4 أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمُقَدِّمَةِ النَّقْلِيَّةِ أَنْ تكون مسلمة إذا تحقق   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 في الأصل: "فعيل". 3 مناط الحكم هو الوصف الذي به يندرج في موضوع الكبرى، وهو هنا التغير. "د". وكتب "ف": "المناسب وهو تغير العالم كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه". 4 هذا يشير غلى أن المقدمة المعتبرة لتحقيق المناط في كل من الشرعيات والعقليات هي المقدمة النظرية، وأما المقدمة الثانية الراجعة إلى الحكم؛ فهي إلى الشرعيات نقلية، وفي العقليات عقلية، وكلتاهما تؤخذ مسلمة. "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 أَنَّهَا نَقْلِيَّةٌ؛ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ تَصْحِيحِهَا نَقْلًا، وَنَظِيرُ هَذَا1 فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمُقَدِّمَاتُ الْمُسَلَّمَةُ، وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ وَمَا تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهَا مِمَّا يَقَعُ مُسَلَّمًا عِنْدَ الْخَصْمِ؛ فَهَذِهِ خَاصِّيَّةُ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً، وَخَاصِّيَّةُ الْأُخْرَى أَنْ تَكُونَ تَحْقِيقَ مَنَاطِ الْأَمْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَسْطِ هُنَا؛ فَإِنَّ التَّأَمُّلَ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَيْضًا فِي فَصْلِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لَهُ بَيَانٌ آخر، وبالله التوفيق.   1 هكذا في "د" و"م"، وفي الأصل: "وينظر في هذا"، وفي "ف" و"ط": "وينظر إلى هذا"، وقال "ف": "لعله "ونظير هذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ1 مُطْلَقًا غَيْرُ مُقَيِّدٍ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قَانُونٌ وَلَا ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ وُكِّلَ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْثَرُ مَا تَجِدُهُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَفْوِ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالظُّلْمِ، وَالْفَحْشَاءِ، وَالْمُنْكِرِ، وَالْبَغْيِ، وَنَقْضِ الْعَهْدِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ. وَكُلُّ دَلِيلٍ ثَبَتَ فِيهَا2 مُقَيَّدًا غَيْرَ مُطْلَقٍ، وَجُعِلَ لَهُ قَانُونٌ وَضَابِطٌ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى تَعَبُّدِيٍّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ نَظَرُ الْمُكَلَّفِ لَوْ وُكِّلَ إِلَى نَظَرِهِ؛ إِذِ الْعِبَادَاتُ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي أَصْلِهَا فَضْلًا عَنْ كَيْفِيَّاتِهَا3، وَكَذَلِكَ فِي الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جَنْسِهَا، وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي كَثِيرٌ فِي الْأُصُولِ الْمَدَنِيَّةِ4؛ لِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَقْيِيدَاتٌ لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ إِطْلَاقُهُ، أَوْ إِنْشَاءُ أَحْكَامٍ وَارِدَاتٍ عَلَى أَسْبَابٍ جُزْئِيَّةٍ، وَيَتَبَيَّنُ ذلك بإيراد مسألة مستأنفة.   1 أي: ومثله السنة؛ لأن الكلام في هذه المباحث يتعلق بالأدلة على وجه العموم، بل الأدلة الواردة مقيدة. "د". 2 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "المناسب ثبت فيه أي الكتاب"، زاد "د": "أي الكتاب بمعنى الشريعة على هذا الوجه أكثر ما توجد في السنة كتابا وسنة"، كما أشرنا إليه آنفا. "د". 3 في "ط": "كيفيتها". 4 أي: التي شرعت بالمدينة النبوية ويقابلها الأصول المكية، وستأتي أمثلة ذلك في كلام المصنف. "ف" ونحوه عند "م". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ 1: فَنَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ2 فِي الْمَدَنِيَّاتِ أَصْلًا كُلِّيًّا فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ جُزْئِيًّا3 بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، أَوْ تَكْمِيلًا4 لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِحِفْظِهَا خَمْسَةٌ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعَقْلُ، وَالنَّسْلُ5، وَالْمَالُ. أَمَّا الدِّينُ؛ فَهُوَ أَصْلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَمَا نَشَأَ عَنْهُمَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَأَمَّا النَّفْسُ؛ فَظَاهِرٌ إِنْزَالُ حِفْظِهَا بِمَكَّةَ؛ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] . {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التَّكْوِيرِ: 8] ,. {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 6 [الأنعام: 119] . وأشباه ذلك.   1 انظر في هذا أيضا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160 و17/ 126". 2 في "ط": "أردت". 3 كالجهاد؛ فهو جزئي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سيقرره قريبا، لم يفرض إلا في المدينة بعد الإذن به أولا بآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ... } إلخ [الحج: 39] ، ثم لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، ثم قال المشركين كافة، خلافا لمن قال: إنه فرض بمكة؛ فإنه غلط لوجوه ستة ذكرها ابن القيم في "زاد المعاد" [3/ 70-71] . "د". وانظره: "5/ 235-236". 4 كالنهي عن شرب الخمر تكميلا لاجتناب الإثم والعدوان كما سيقول. "د". 5 في الأصل: "والنسب" وتكرر ذلك. 6 ومحل الدليل قوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} ؛ أي: من محرمات الأكل لحفظ النفس؛ فواجب تناوله. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وَأَمَّا الْعَقْلُ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ تَحْرِيمُ مَا يُفْسِدُهُ وَهُوَ الْخَمْرُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ1؛ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَكِيَّاتِ مُجْمَلًا، إِذْ هُوَ دَاخَلٌ فِي حُرْمَةِ حِفْظِ النَّفْسِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَمَنَافِعِهَا2 مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُهَا3؛ فَالْعَقْلُ مَحْفُوظٌ شَرْعًا فِي الْأُصُولِ الْمَكِّيَّةِ عَمَّا يُزِيلُهُ رَأْسًا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ [وَإِنَّمَا اسْتُدْرِكَ بِالْمَدِينَةِ حِفْظُهُ عَمَّا يُزِيلُهُ] سَاعَةً أَوْ لَحْظَةً4، ثُمَّ يَعُودُ كأنه غطي ثم كشف عنه.   1 فآية التحريم البات: في المائدة، وآيات التمهيد: في النساء والبقرة، وكلها مدنية. "د". 2 لعله زائد يستغنى عنه بقوله: "وكذلك منافعها". "د". 3 في "ف": "منافعهما"، وقال: "المناسب "منافعها" ليشمل منافع السمع والبصر وغيرهما من بقية الأعضاء". 4 قال بعضهم: لعل الأصل: "لا ساعة أو لحظة" كما يدل عليه السياق. [قلت: هذا نص عبارة "ف"] . والظاهر أن الأصل: "أو ساعة أو لحظة"*، ويكون حاصل كلامه أنه وإن لم يرد في المكي نص في مفسد العقل وهو الخمر تفصيلا؛ إلا أنه ورد إجمالا لأن حفظ العقل ومنفعته داخل ضمنا في حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها؛ فما يزيل العقل رأسًا يعد مزيلًا لجزء من الإنسان، وما يزيل منفعته دوامًا أو زمنًا ما يعد مزيلًا لمنفعته؛ فحرمة حفظ النفس كلي يندرج فيه إجمالا حفظ العقل نفسه، وكذا حفظ منفعته؛ فما يزيل منفعته ولو لحظة منهي عنه، كمزيل منفعة أي عضو دائما أو لحظة، هذا وجه، ويرجع إلى الأول في صدر المسألة، ثم قال: "وأيضا؛ فإن حفظه على هذا الوجه"؛ أي: بحيث لا يزول ولو لحظة يعد مكملا، "أي لحفظ النفس والدين والنسل والمال والعرض، وإن كان في ذاته من ضروري حفظ العقل؛ فالنهي عن الخمر المذهب للعقل رأسا أو لمنفعته وقتا ما من ضروري حفظ العقل الداخل ضمنا في ضروري حفظ النفس والأعضاء ومنافعها، وهو أيضا مكمل لحفظ الضروريات الأخرى؛ كالدين وغيرها، فلذلك قال: إن حفظه على هذا الوجه من المكملات". وعليه؛ فيرجع النهي عن الخمر على هذا الوجه إلى القسم الثاني في صدر المسألة، هذا إذا قدرنا الساقط من العبارة لفظ "أو" وأما إذا قدرناه لفظ: "لا" كما يقول بعضهم؛ فيكون المعنى أن ما يزيل العقل رأسا من الضروري الداخل في حفظ النفس إجمالا، وأما حفظه على وجه أنه يزول ساعة ثم يعود؛ فيكون من المكملات إنما هو شرب القليل الذي لا يسكر عادة، كما عد النظر =   * بل الصواب ما جاء في "ط" فقط، وهو بين معقوفتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حِفْظَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ1 قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَثَالِبَهَا فِي الْقُرْآنِ، حَيْثُ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [الْمَائِدَةِ: 91] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَظَهَرَ أَنَّهَا مِنَ الْعَوْنِ على الإثم والعدوان. وأم النَّسْلُ2؛ فَقَدْ وَرَدَ الْمَكِّيُّ مِنَ الْقُرْآنِ بِتَحْرِيمِ الزنى، وَالْأَمْرِ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ إِلَّا عَلَى الْأَزْوَاجِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا الْمَالُ؛ فَوَرَدَ فِيهِ3 تَحْرِيمُ الظُّلْمِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْإِسْرَافِ، وَالْبَغْيِ وَنَقْصِ المكيال والميزان4، وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا دَارَ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْعِرْضُ الْمُلْحَقُ بِهَا؛ فَدَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ أَذِايَّاتِ5 النُّفُوسِ. وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي الْحِفْظِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ6 إِلَّا وَحِفْظُهَا من جانب   = للأجنبية مكملا لحرمة الزنا، وأما ثانيا، فلو كان الغرض أن ما يزيله رأسا هو الذي يعد فقط من الضروري وما عداه مكمل؛ لكان ذكر المؤلف منافع الأعضاء حشوا مفسدا لأنه يقتضي أن إذهاب منافع العقل بحيث يغطي وينكشف معدود من نفس الضروري الداخل إجمالا في حفظ النفس، وأما ثالثا؛ فإنه كان المناسب إذا في التعبير بدل قوله: "وأيضا؛ فإن حفظه ... إلخ" أن يقول المؤلف: "أما حفظه على هذا الوجه؛ فإنه من المكمل لحفظ العقل"؛ لأن قوله "وأيضا" يفيد أنه وجه آخر غير السابق لا أنه تكميل للكلام المتقدم، وإنما أطلنا الكلام ليتم فهم المقام. "د". 1 قال "ف": "الأنسب: لأن الخمر". 2 في الأصل: "النسب". 3 في الأصل و"ف" و"ط": "فيها"، وقال "ف": "المناسب: "ورد فيه"". 4 في "د": "أو الميزان". 5 قال "ف": "لعله: أذيات النفوس، جمع أذية، وهي ما يتأذى به". 6 أي: من جهة ما يقضي بهدمها وإفسادها، من الظلم ونقص الكيل وما معها، وقوله: "من جانب الوجود"؛ أي: الأسباب التي تحفظها وتستبقي وجودها؛ كالأكل والشرب في حفظ النفس مثلا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 الوجود حاصل؛ ففي الأربع الأواخر ظاهر، وأم الدِّينُ؛ فَرَاجِعٌ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالِانْقِيَادِ بِالْجَوَارِحِ1، وَالتَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ آتٍ بِالْمَقْصُودِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ورسوله واليوم الآخر؛ ليتفرع2 عَنْ ذَلِكَ كُلُّ مَا جَاءَ3 مُفَصَّلًا فِي الْمَدَنِيِّ؛ فَالْأَصْلُ وَارِدٌ فِي الْمَكِّيِّ، وَالِانْقِيَادُ بِالْجَوَارِحِ حَاصِلٌ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ4، وَيَكُونُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ تَكْمِيلًا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَكِّيِّ مِنْ ذَلِكَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى الِانْقِيَادِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ وَالْحَجُّ؛ فَمَدَنِيَّانِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ5، عَلَى أَنَّ6 الْحَجَّ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْعَرَبِ أَوَّلًا وِرَاثَةً عَنْ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ؛ فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَصْلَحَ مِنْهُ مَا أَفْسَدُوا7، وردهم فيه إلى مشاعرهم8.   1 هنا كلمة غير واضحة في الأصل لعلها: فقط. 2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيره: "ليفرع". 3 أي: من شعب الإيمان ومحبة الله ورسوله، وما إلى ذلك، وقوله: "فالأصل"؛ أي: الإيماني. "د". 4 أي: متى وجد تكليف واحد بدني؛ فإنه يتحقق به معنى كلي الانقياد بالجوارح الذي هو أحد ركني الدين. "د". 5 ولم نقل: إنهما داخلان في كلي الانقياد بالجوارح؛ فيرجعان للوجه الأول في صدر المسألة، حيث اكتفى فيه بالدخول إجمالا في مسألة الخمر؛ لأن هذا يستدعي التوسع في معنى الإجمال، والكلية هنا أكثر مما يحتاج حفظ العقل عند دخوله إجمالا في حفظ النفس والأعضاء؛ فتصير القاعدة بعد ذلك أشبه بالأمور الاعتبارية، وإنما كانا تكميليين للدين؛ لأن الحج اجتماع يظهر فيه اتحاد وجهة المسلمين وتآلفهم وأبهة الإسلام، وهكذا من كل ما فيه تعزيز لشأنه، وفي الصوم تكميل لتهذيب النفس وانقيادها لامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ فهما من مكملات ضروري الدين. 6 هذا الترقي لا يفيد شيئا في أصل الدعوى، وهي أن كل مدني لا نجد فيه كليا إلا وهو جزئي أو تكميلي لما شرع في مكة؛ لأن إصلاح ما أفسدوه لم يجئ إلا في المدينة. "د". 7 في "م": "أفسدوه". 8 كذا في "ط"، وفي غيره: "مشارعهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ أَيْضًا؛ فَقَدْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ أَيْضًا، حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ حَتَّى نَسَخَهُ رَمَضَانُ، وَانْظُرْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ1؛ فَأَحْكَمَهُمَا التشريع المدني، وأقرهما عل ما أراد2 اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّمَامِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَيَّامِهِ3؛ حِينَ قَالَ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3] ؛ فَلَهُمَا أَصْلٌ فِي الْمَكِّيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ4. وَالْجِهَادُ الَّذِي شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ فَرْعٌ5 مِنْ فُرُوعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ مُقَرَّرٌ بِمَكَّةَ؛ كَقَوْلِهِ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لُقْمَانَ: 17] ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.   1 لفظه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: "كَانَ يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فُرِض رمضان ترك يوم عاشوراء؛ فمن شاء صامه، ومن شاء تركه". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، 4/ 244" -وهذا لفظه- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2/ 792/ رقم 1125". قال "د": "المؤلف يريد أن أصل مشروعية الصيام كانت بمكة، ويكفي في إثبات هذا صيامه صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء فيها؛ لأنه بعد الرسالة إنما كان يتعبد بالشرع قطعًا، وكونه كان خاصًا به لا يمنع أن أصل المشروعية للصيام كان بمكة". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أقر". 3 يشير إلى أن سنة الله في التشريع كسنته في التكوين، يرى المتأمل فيها من الحكم البالغة ما يبهر النظر؛ فإنه سبحانه بدأ في إنزال أوضاع الشريعة بالضروري الذي لا تصلح الأمة بدونه، ولا تخرج من ظلمة الجاهلية بغيره؛ فشرع لها بمكة ما يكفل ذلك، ثم لما صلب عودها، وبلغت أشدها، واستعدت العقول لما يكمل ذلك من الأوضاع الشرعية؛ شرع لها بالمدينة ما أكمل به الدين وأتم به النعمة، ولولا ذلك التدرج؛ لنأت الأمة بالتكاليف، وشرد عن قبولها كثير؛ فلله الحمد والمنة. "ف". 4 علمت أنه وإن أفاد في الصوم لكنه لا يفيد في الحج. "د". 5 بل هو أعلى فروعه كما سبق لنا بيانه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ 1: كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يُمْكِنُ أَخْذُهُ كُلِّيًّا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ كُلِّيًّا أَمْ جُزْئِيًّا2 إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 3 [الْأَحْزَابِ: 50] ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَنَدَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا، أَوْ جُزْئِيًّا، فَإِنْ كَانَ [كُلِّيًّا؛ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ جُزْئِيًّا، فَبِحَسَبِ النَّازِلَةِ لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة4:   1 هذه المسألة التاسعة تقدمت له نظيرتها في النوع الرابع من المقاصد المسألة التاسعة أيضا، ولا فرق بينهما إلا من جهة أن تلك في أن الشريعة بحسب المكلفين عامة، وهذه تقول: إن الدليل الشرعي يؤخذ عاما على أحكام الشريعة، وظاهر أن هذه مرتبة على تلك ولازمة لها؛ لأنه متى كانت الشريعة عامة لا تخص مكلفًا دون مكلف؛ فكل دليل ولو كان لفظه غير عام كأن ورد على جزئي؛ فإنه يعتبر عاما، ولذا تجد الأدلة هنا بعضا من الأدلة هناك، وقد توسع هناك بأدلة عقلية، ثم فرع على المسألة فوائد جليلة، وكان يمكنه هنا أن يذكر المسألة ويجعلها مفرعة على تلك، ويحيل في الاستدلال عليها، لكنه زاد هنا قوله: "وقد بين ذلك بقوله وفعله ... إلخ"؛ فهذا من إيجازه فيه هو محل الفائدة الجديدة. "د". 2 أي: في صيغته ولفظه، وكذلك يقال في أوله: "المستند"؛ أي: اللفظ الوارد عن الشارع في الموضوع. "د". قلت: "انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339 و15/ 82، 364، 444-445، 451 و16/ 148-149". 3 علم من الآية أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتا، وإلا؛ فما معنى تخصيص هذا الموضع الاختصاص؟ ويتأكد ذلك أن ما أجله الله له من الأزواج والمملوكات أطلق، وفي الواهبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أنه حيث سكت عن التقييد؛ فذلك دليل الاشتراك، أفاده ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" "4/ 444". 4 أي: وذلك بأدلة، أي: كون جزئيته لا بحسب التشريع بأدلة، وأما كونها بحسب النازلة؛ فظاهر. "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 - مِنْهَا] 1 عُمُومُ التَّشْرِيعِ فِي الْأَصْلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَأٍ: 28] . {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] . وَهَذَا مَعْنًى مَقْطُوعٌ بِهِ، لَا يَخْرِمُ2 الْقَطْعَ بِهِ مَا جَاءَ3 مِنْ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ4 وَعِنَاقِ أَبِي بُرْدَةَ5، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "بُعِثْتُ لِلْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ" 6. - وَمِنْهَا أَصْلُ شَرْعِيَّةِ7 الْقِيَاسِ؛ إِذْ لَا مَعْنَى له إلا جعل الخاص الصيغة كالعام الصِّيغَةِ فِي الْمَعْنَى8، وَهُوَ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَخْذُ الدَّلِيلِ كُلِّيًّا بِإِطْلَاقٍ؛ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ. - وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37] ؛ فَإِنَّ نَفْسَ التَّزْوِيجِ لَا صِيغَةَ لَهُ تَقْتَضِي عُمُومًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ لِأَجْلِ التَّأَسِّي؛ فَقَالَ: {لِكَيْ لا} ، ولذلك قال:   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 بالخاء والراء: أي لا يخل ولا يبطل القطع به ما جاء ... إلخ. "ف". 3 في الاجتزاء في الشهادة على المال بشاهد واحد، وعناق أبي بردة كانت صغيرة غير مستوفية للشرط؛ فقال له: لا تجزئ عن أحد غيرك. "د". 4 مضى لفظه وتخريجه "2/ 469". 5 مضى لفظه وتخريجه "2/ 410". 6 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. 7 في "ط": "أصل شرعي في". 8 فآية تحريم الخمر صيغتها باعتبار الدلالة الوضعية خاصة بتحريم ما يسمى خمرا، وباعتبار الدلالة المعنوية؛ أي: دلالة العلة عامة لكل ما يشارك الخمر فيما نيط به حكمه؛ فالقياس تعميم في دلالة النصوص مختص بنظر المجتهد. "ف". والمثبت من "ط"، وفي غيره: "الصيغة عام". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَابِ: 21] هَذَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِأَشْيَاءَ؛ كَهِبَةِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لَهُ1، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ أَزْوَاجِهِ مِنْ بعده2، والزيادة على أربع، فذلك3 لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ شُمُولِ الْأَدِلَّةِ فِيمَا سِوَى ذلك المستنثى؛ فَغَيْرُهُ أَحَقُّ أَنْ تَكُونَ الْأَدِلَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مَقْصُودَةَ الْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا صِيَغُ عُمُومٍ، وَهَكَذَا الصِّيَغُ الْمُطْلَقَةُ تَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْعَامَّةِ. - وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَالْقَوْلُ كَقَوْلِهِ: "حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ"4، وَقَوْلِهِ فِي قَضَايَا خَاصَّةٍ سُئِلَ فِيهَا؛ أَهِيَ لنا   1 كما في [الأحزاب: 50] : {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . وفي "ط": "بنفسها له". 2 كما في [الأحزاب: 53] : {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} ، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي "3/ 1579". 3 في "د": "فلذلك". 4 قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 180": "لم أر لهذا قط سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ جمال الدين أبا الحجاج "أي: المزي" وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا؛ فلم يعرفاه بالكلية"، وقال الزركشي في "المعتبر" "رقم 123": "لا يعرف بهذا اللفظ"، وقال ابن الملقن في "غاية الراغب" "ق19/ 2": "مشهور متكرر في كتب الأصول، ولا يعرف مخرجه بعد البحث عنه"، وقال العراقي في "تخريج أحاديث المنهاج" "رقم 25": "ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي؛ فأنكراه". ونقل كلام العراقي وأقره جماعة منهم: السخاوي في "المقاصد" "416"، والقاري في "المصنوع" "125" و"الأسرار" المرفوعة" "430"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "ص200" - وزاد: "وقد ذكره أهل الأصول؛ فاستدلوا به فأخطئوا"- والعجلوني في "كشف الخفاء" "11161"، والحوت في "أسنى المطالب" "566". وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 527": "هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين، ولم نره في كتب الحديث"، ونقل كلام ابن كثير السابق، وزاد: "وكذا قال السبكي: إنه سأل الذهبي عنه؛ فلم يعرفه"، قال الزركشي: "لكن معناه ثابت"، وقال ابن حجر: "وقد جاء ما يؤدي معناه" وساقا حديث أميمة بنت رقيقة، وفيه: " وإنما قولي لمائة امرأة كقولي -أو مثل قولي- = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 خَاصَّةً، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً: "بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً" 1، كما في قضية الذي نزلت فيه:   = لامرأة واحدة". أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 982-983"، ومن طريقه أحمد في "المسند" "6/ 357"، والنسائي في "عشرة النساء"، والدارقطني في "السنن" "4/ 147"، والطبراني في "الكبير" "24/ رقم 471"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 417/ رقم 4553 - الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 146" -عن محمد بن المنكدر- عن أميمة به، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب بيعة النساء، 7/ 149"، الترمذي في "الجامع" "أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النساء، 4/ 152/ رقم 1597"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب بيعة النساء، 2/ 959/ رقم 2874"، وأحمد في "المسند" "6/ 357"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1621"، والحميدي في "المسند" "رقم 341"، والطبراني في "الكبير" "24/ رقم 470، 472، 473، 475، 476"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 71"، والدارقطني في "السنن" "4/ 146" من طرق عن ابن المنكدر به. والحديث صحيح، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما. انظر: "الإلزامات والتتبع" "ص154". 1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة، 2/ 8/ رقم 526"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، 4/ 2115-2116/ رقم 2763" عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ؛ فقال الرجل: يا رسول الله؟ ألي هذا؟ قال: "لجميع أمتي كلهم". لفظ البخاري، وفي لفظ لمسلم: "بل للناس كافة". واللفظ الذي أورده المصنف وقع نحوه في حديث معاذ، وفيه انقطاع؛ كما قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "1/ 325"، وقد خرجته وتكلمت عليه بإسهاب ولله الحمد في تحقيقي لـ"الخلافيات" للبيهقي "رقم 434"، وفيه زيادة لذكر الوضوء والصلاة. وما أورده المصنف هو لفظ الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة هود، 5/ 292/ رقم 3115" عن أبي اليسر، وإسناده فيه قيس بن الربيع، ضعفه وكيع وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هُودٍ: 114] وَأَشْبَاهِهَا. وَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قُدْوَةً لِلنَّاسِ؛ كَمَا ظَهَرَ فِي حَدِيثِ الْإِصْبَاحِ جُنْبًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ1، وَالْغَسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ2. وَقَوْلُهُ: "إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأَسُنَّ" 3. وَقَوْلُهُ: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي" 4.   1 سيأتي لفظه وتخريجه "4/ 93". 2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: إن رجلا سأل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل". 3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 100 و339 - رواية محمد بن الحسن"- ولفظه ابن الحسن: "إني أنس لأسن" - بلاغا. قال ابن عبد البر في "التمهيد" "24/ 375": "أما هذا الحديث بهذا اللفظ؛ فلا أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسندا ولا مقطوعا من غير هذا الوجه، والله أعلم، وهو أحد الأحاديث الأربعة في "الموطأ" التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، والله أعلم". وقال: "ومعناه صحيح في الأصول، وقد مضت آثار في باب نومه عن الصلاة، تدل على هذا المعنى، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحنا لتكون سنة لمن بعدكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"، وبعث صلى الله عليه وسلم معلما؛ فما سن لنا اتبعناه، وقد بلغ ما أمر به، ولم يتوفاه الله حتى أكمل دينه سننا وفرائض، والحمد لله". قال ابن الصلاح في "الرسالة التي وصل فيها البلاغات الأربع في الموطأ" "ص14-15": "وأما حديث النسيان؛ فرويناه من وجوه كثيرة صحيحة"، ذكر منها حديث عثمان بن أبي شيب عن جرير عن ابن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؛ قال صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث السهو، وأنه عليه السلام قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني"، قال: "وأخرجه الشيخان في "صحيحهما"، وإنما به من حديث مالك طرف منه". وانظر: "الاستذكار" "4/ 402-403". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 و "خذوا عني مناسككم" 1. وهو كثير.   1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، 2/ 943/ رقم 1297"، وأحمد في "المسند" "3/ 318" عن جابر رضي الله عنه؛ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: "لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المناسك، باب الركوب إلى الجمال واستظلال المحرم، 5 270"، وفيه: "يا أيها الناس! خذوا مناسككم". وفي "مسند أحمد" "3/ 366": " ... ألا فخذوا مناسككم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَانِ1: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ؛ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ كَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَهُوَ فِي أَوَّلِ2 الْأَمْرِ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ، وَيَدْخُلُ هُنَا جَمِيعُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] . وَقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] . وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فُصِّلَتْ: 44] . وَقَوْلِهِ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] . وَقَوْلِهِ: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَةِ: 258] . وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الرُّومِ: 40] . وَهَذَا الضَّرْبُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمُوَالِفِ3 وَالْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ عند   1 انظر "المسودة" "ص496"، و"مجموع الفتاوى" "2/ 7-14 و17/ 437 و19/ 228-234". 2 في "ط": "الأول". 3 في "م": "الموافق". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 مَنْ لَهُ عَقْلٌ؛ فَلَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى الْمُوَافِقِ [فِي النِّحْلَةِ] 1. وَالثَّانِي: مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي النِّحْلَةِ، وَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَحْكَامِ التكليفية؛ كدلالاة الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَدَلَالَةِ2 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [الْبَقَرَةِ: 178] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [الْبَقَرَةِ: 183] ، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [الْبَقَرَةِ: 187] ؛ فَإِنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ وَأَمْثَالَهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَ الْبَرَاهِينِ، وَلَا أُتِيَ بِهَا فِي مَحَلِّ اسْتِدْلَالٍ، بَلْ جِيءَ بِهَا قَضَايَا يُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا مُسَلَّمَةً مُتَلَقَّاةً بِالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا بُرْهَانُهَا فِي الْحَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ الْآتِي بِهَا، فَإِذَا3 ثَبَتَ بِرِهَانُ الْمُعْجِزَةِ؛ ثَبَتَ الصِّدْقُ وَإِذَا ثَبَتَ الصِّدْقُ؛ ثَبَتَ التَّكْلِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ. فَالْعَالِمُ إِذَا اسْتَدَلَّ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ أَخَذَ الدَّلِيلَ إِنْشَائِيًّا كَأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُهُ، وَإِذَا اسْتَدَلَّ بِالضَّرْبِ الثَّانِي أَخَذَهُ مَعْنًى مُسَلَّمًا لِفَهْمِ مُقْتَضَاهُ إِلْزَامًا وَالْتِزَامًا، فَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الدَّلِيلِ عَلَى الضَّرْبَيْنِ؛ فَهُوَ إِطْلَاقٌ بِنَوْعٍ مِنِ اشْتِرَاكِ اللَّفْظِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ خِلَافُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي؛ فَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ جارٍ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي نَتِيجَةٌ أَنْتَجَتْهَا الْمُعْجِزَةُ فَصَارَتْ قولا مقبولا فقط.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 زاده لأن هذه ليس أوامر ونواه لفظا، بل هي أخبار في معنى الطلب. "د". 3 في "م": "إذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي اللَّفْظِ؛ لَمْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِىِّ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَعْمِيمِ1 اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، بِشَرْطِ2 أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَإِلَّا، فلا. فمثال ذلك مع وجود الشرط قوله تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يُونُسَ: 31] ؛ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ كَإِخْرَاجِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ وَبِالْعَكْسِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ الْمَجَازِيَّيْنِ الْمُسْتَعْمَلَيْنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 122] ، وَرُبَّمَا ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ الْجَمِيعَ3 مُرَادٌ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَعْمِيمِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، وَاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلِهَذَا الأصل أمثلة كثيرة.   1 قال الحنفية وبعض الشافعية وبعض المعتزلة: "لا يستعمل اللفظ في الحقيقة والمجاز مقصودين معا بالحكم، وأجازه الشافعية والقاضي وبعض المتعزلة مطلقا، إلا إذا لم يمكن الجمع؛ كافعل أمرا وتهديدا؛ لأن الأمر يقتضي الإيجاب، والتهديد يقتضي الترك؛ فلا يصح اجتماعهما، وقال الغزالي وأبو الحسين: إنما يجوز عقلا لا لغة؛ إلا في غير المفرد من المثنى والمجموع؛ فيجوز لغة أيضا، فيكون حينئذ كل لفظ مستعملا في معنى. "د". قلت: انظر في هذا: "جلاء الأفهام" "ص85"، و"البحر المحيط" "2/ 127، 139 وما بعدها" للزركشي، و"المحصول" "1/ 278". 2 أي: بشرط أن يكون هذا المعنى مما يستعمل فيه مثل هذا اللفظ عند العرب، وهذا هو محل الزيادة في كلامه على كلام المجيزين، يقيد به هذا الجواز، ولا يخفى أن استعمال ألفاظ الكتاب في المجاز فقط محتاج أيضا إلى هذا القيد. "د". 3 هذا هو محل التمثيل، وقوله: "أو سكر النوم ... إلخ"؛ أي: فيصح أن يكون من موضوع المسألة مما تحقق فيه الشرط. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وَمِثَالُ مَا تَخَلَّفَ فِيهِ الشَّرْطُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النِّسَاءِ: 43] . فَالْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ أَوْ سُكْرُ النَّوْمِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ مُسْتَعْمَلٌ، وَأَنَّ الْجَنَابَةَ وَالْغُسْلَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَلَوْ فُسِّرَ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ هُوَ سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ وَحُبِّ الدُّنْيَا الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِ الْعِبَادَةِ فِي اعْتِبَارِ التَّقْوَى كَمَا مَنَعَ1 سُكْرُ الشَّرَابِ مِنَ الْجَوَازِ فِي صُلْبِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ الْجَنَابَةَ الْمُرَادُ بِهَا التَّضَمُّخُ2 بِدَنَسِ الذُّنُوبِ، وَالِاغْتِسَالُ هُوَ التَّوْبَةُ؛ لَكَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَسْتَعْمِلْ مِثْلَهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا عَهْدَ لَهَا بِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْهَمُ3 مِنَ الْجَنَابَةِ وَالِاغْتِسَالِ إِلَّا الْحَقِيقَةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّعْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إِشَارَةٌ إلى خلق الْكَوْنَيْنِ4؛ فَهَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ لَا فِي حَقَائِقِهَا الْمُسْتَعْمَلَةِ وَلَا فِي مَجَازَاتِهَا، وَرُبَّمَا نُقِلَ فِي [مَعْنَى] قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تداوَوا؛ فَإِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ" 5 أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً6 إِلَى التَّدَاوِي بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَمْرَاضِ الذُّنُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ   1 أي: فيكون مما استعمل فيهما بدون تحقق الشرط. "د". 2 أي: مجازا مرادا مع الحقيقة؛ لأن أرباب الإشارة من الصوفية لا يقصرون المعنى المراد على المجاز في مثل هذا. "د". 3 أي: ولا تفهم من السكر سكر الغفلة والشهوة لا مجازا ولا حقيقة. "د". 4 كما في "لطائف الإشارات" "2/ 448" للقشيري، وانظر: "4/ 250". 5 مضى تخريجه "1/ 217"، وهو حديث صحيح. 6 ليست الإشارة في كلامهم مما يراد منه استعمال اللفظ في المعنى المذكور، وحاشاهم أن يقولوا ذلك، بل معناه أن الألفاظ مستعملة في معناها الوضعي العربي، وإنما يخطر المعنى الإشاري على قلوب العارفين عند ذكر الآية أو الحديث، بعد فهمه على الطريق العربي الصحيح، كما أفاده ابن عطاء الله في كتابه "لطائف المنن". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 مُعْتَبَرٍ1؛ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مِثْلِهِ، وَأَوَّلُ قَاطِعٍ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَرَبِيًّا وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ إِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى مَا هُوَ مَعْهُودٌ لَهُمْ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ خَارِجٌ عَنْهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي مَوْضِعِهِ2 من هذا الكتاب، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ خَارِجٌ عَنْهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي مَوْضِعِهِ2 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَإِنْ نُقِلَ فِي التَّفْسِيرِ نَحْوُهُ عَنْ رَجُلٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَالْقَوْلُ فِيهِ مبسوط بعد هذا3 بحول الله.   1 انظر لزاما: "الاعتصام" "1/ 322 - ط ابن عفان" للمصنف، و"فضائح الباطنية" أو "المستظهري" "الباب الخامس، ص35 وما بعدها"، و"الإحياء" "1/ 37"، كلاهما للغزالي. 2 سبق في المسألة الرابعة من النوع الثاني من المقاصد، وسيأتي أيضا في المسألة التاسعة من مباحث الكتاب العزيز. "د". 3 أي: في الفصل الثاني من المسألة التاسعة المذكورة، فيما روى عن سهل بن عبد الله من تفسير آيات على هذا النحو. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ 1: كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ دَائِمًا أَوْ أَكْثَرِيًّا، أَوْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا أَوْ فِي وَقْتٍ مَا، أَوْ لَا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ دَائِمًا أَوْ أَكْثَرِيًّا؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَلَا فِي الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِهِ، وَهِيَ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، كَانَ الدَّلِيلُ مِمَّا يَقْتَضِي إِيجَابًا أَوْ نَدْبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ كَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِ فِي الطِّهَارَاتِ وَالصَّلَوَاتِ عَلَى تَنَوُّعِهَا مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ، وَالزَّكَاةِ بِشُرُوطِهَا، وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ، وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَالْبُيُوعِ وَسِوَاهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ، وبيَّنها عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ إِقْرَارِهِ، وَوَقَعَ فِعْلُهُ أَوْ فِعْلُ صَحَابَتِهِ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ دَائِمًا أَوْ أَكْثَرِيًّا، وَبِالْجُمْلَةِ سَاوَى الْقَوْلُ الْفِعْلَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ بِوَجْهٍ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ وَصِحَّةِ الْعَمَلِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا عَمِلَ بِهِ الْأَوَّلُونَ؛ جَرَى فِيهِ مَا تَقَدَّمَ2 فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنَ اعْتِبَارِ3 الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا قَلِيلًا أَوْ فِي وقت4 من الأوقات أو حال   1 انظر في المسألة: "تيسير التحرير" "1/ 255"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 461-464، 2/ 180-181" للأشقر. 2 في "ف" و"ط": "جرى ما تقدم في"، وأثبت الصواب في الهامش. 3 لم يظهر معنى اعتبار الكلية والجزئية في هذا، إنما يظهر ما تقدم في فصل ما يدخل تحت العفو وهو في موضوع الخروج عن الدليل، حيث قسمه إلى أقسام ثلاثة، فليراجع. "د". 4 هو وما بعده بيان وتفصيل لقوله: "قليلا"؛ فقوله: "في وقت" أي: كما يأتي في صلاته عليه السلام آخر الوقت المختار لمن طلب منه معرفة الأوقات، وقوله: "أو حال"؛ أي: كتأخيره عليه السلام الظهر للإبراد والجمع بين الصلاتين في السفر كما سيأتي له. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 مِنَ الْأَحْوَالِ، وَوَقَعَ إِيثَارُ غَيْرِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ دَائِمًا1 أَوْ أَكْثَرِيًّا؛ فَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ وَالطَّرِيقُ السَّابِلَةُ2، وَأَمَّا3 مَا لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيلًا؛ فَيَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ وَفِي الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِهِ، وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى مَا هُوَ الْأَعَمُّ وَالْأَكْثَرُ؛ فَإِنَّ إِدَامَةَ الْأَوَّلِينَ لِلْعَمَلِ عَلَى مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَقَلِّ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ، أَوْ لِغَيْرِ مَعْنًى شَرْعِيٍّ، وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مَعْنًى شَرْعِيٍّ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ تَحَرَّوُا الْعَمَلَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ الْقَلِيلِ كَالْمُعَارِضِ لِلْمَعْنَى الَّذِي تَحَرَّوُا الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا فِي الْحَقِيقَةِ4؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَرِّي مَا تَحَرَّوْا وَمُوَافَقَةِ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا الْمَنْقُولَ الَّذِي قَلَّ الْعَمَلُ بِهِ مع ما كثر العمل به   1 الفرض أنه وقع العمل بدليل قليلا؛ فكيف يتأتى معه أن يكون العمل بالدليل المقابل له دائما؟ "د". قلت: "وفي "ط": "والعمل عليه دائما". 2 أي: المسلوكة والطريق: السبيل؛ تذكر وتؤنث، نقول: الطريق المستقيمة، والطريق العظمى. "ف". 3 هذا نوع من الترجيح غير ما ذكره الأصوليون في مباحث الترجيح بالأمر الخارج كعمل أهل المدينة أو الخلفاء الأربعة، أو بعمل أكثر السلف، فما هنا ترجيح وإن كان بخارج أيضا؛ إلا أنه يكون عمله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه وبعده كان عليه ولم يخالفوه إلا لأسباب اقتضت المخالفة يأتي ذكرها، ولا ينافي أنه من الترجيح بخارج جعله المعارضة بين العمل والمعنى الذي تحروه؛ لأن الواقع أن المعارضة إنما هي بين الخبرين، ومعارضة العمل تابعة، يرشدك إلى هذا قوله: "فإن فرض أن هذا ... إلخ"؛ فقد عقد المعارضة بين نفس الخبرين حتى اقتضى ذلك التخيير في العمل بأيهما. "د". 4 أي: لضعفه بإزاء ما كثر العمل على وفقه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 يَقْتَضِيَانِ1 التَّخْيِيرَ؛ فَعَمَلُهُمْ إِذَا حُقِّقَ النَّظَرُ فِيهِ لَا يَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّخْيِيرِ، بَلِ اقْتَضَى أَنَّ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ هُوَ الْأَوْلَى فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْوَاقِعُ عَلَى وَفْقِ الْآخَرِ لَا حَرَجَ فِيهِ، كَمَا نَقُولُ فِي الْمُبَاحِ مَعَ الْمَنْدُوبِ: إِنَّ وَضْعَهُمَا بِحَسَبِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ يُشْبِهُ الْمُخَيَّرَ فِيهِ؛ إِذْ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْجُمْلَةِ2؛ فَصَارَ الْمُكَلَّفُ كَالْمُخَيَّرِ فِيهِمَا، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَنْدُوبُ أَوْلَى أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِنَ الْمُبَاحِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِلَى هَذَا3؛ فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْأُصُولِ أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِهَا حُجَّةً مَا لَمْ يُعَضِّدْهَا دَلِيلٌ آخَرُ؛ لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَإِمْكَانِ4 أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ5 الْأَحْكَامِ وَمَا بَعْدَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ تَرَجَّحَ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَلِيلِ، وَلِهَذَا الْقِسْمِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ لِلْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَجْهٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْقِلَّةِ، حَتَّى إِذَا عُدِمَ السَّبَبُ عُدِمَ الْمُسَبَّبُ، وله مواضع؛ كوقوعه بيانًا لحدود حدت.   1 أي: لأنهما دليلان متعارضان ولا مرجح؛ فالحكم إما الوقف، وإما التخيير على الخلاف بينهم في ذلك. "د". 2 وإن كان في ترك المندوب كليا حرج، كما سبق أن المندوب بالجزء يكون واجبا بالكل. "د". 3 يعني: ويضاف إلى ما ذكرناه من أدلة الأخذ بما عليه العمل في الأعم الأكثر أن قضايا الأعيان ... إلخ، ولا يخفى أن العمل إذا كان قليلا عد من قضايا الأعيان التي لا يحتج بها، وهذا يوهن الأخذ بما كان العمل عليه قليلا. "د". 4 عطف تفسير لقوله: "احتمالها في أنفسها". "د". 5 كما تقدم في ترك بعض الصحابة ومن بعدهم لبعض المباحات؛ حتى كان يظن بهم أنهم لا يرونها مباحة. "د". قال "ف": "ولعله: ومن ذلك ما في كتاب ... " إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 أَوْ أَوْقَاتٍ عُيِّنَتْ، أَوْ نَحْوِ1 ذَلِكَ. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ2، وَبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ   1 في "ط": "وأوقات عينت ونحو". 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، 1/ 281-283/ رقم 150"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب آخر وقت العصر، 1/ 255"، وأحمد في "المسند" "3/ 330"، والدارقطني في "السنن" "1/ 257"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 195"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 368" عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام؛ فقال له: "قم فصله. فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر؛ فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب؛ فقال: قم فصله. فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاء العشاء؛ فقال: قم فصله. فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاء الفجر؛ فقال: قم فصله. فصلى الفجر حين برق الفجر "أو قال: سطع الفجر"، ثم جاءه من الغد للظهر؛ فقال: فصله. فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر؛ فقال: قم فصله. فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل "أو قال: ثلث الليل"؛ فصلى العشاء، ثم جاءه الفجر حين أسفر جدا، فقال: قم فصله. فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت". لفظ أحمد. قال الترمذي: "حديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وأبو الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث وهب بن كيسان عن جابر"، وقال: "وقال محمد -يعني: البخاري-: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح مشهور"، وقال ابن القطان -كما في "نصب الراية" "1/ 222" -: "هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا؛ لأن جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء لما علم أنه أنصاري، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم ذلك في حديث أبي هريرة وابن عباس؛ فإنهما رويا إمامة جبريل من قول النبي صلى الله عليه وسلم". وتعقبه ابن دقيق العيد في "الإمام" -كما في "نصب الراية" "1/ 223"- فقال: "وهذا المرسل غير ضار، فمن أبعد البعد أن يكون جابر سمعه من تابعي عن صحابي، وقد اشتهر أن مراسيل الصحابة مقبولة، وجهالة عينهم غير ضارة". = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؛ فَقَالَ: "صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ" 1؛ فَصَلَاتُهُ فِي الْيَوْمِ2 فِي أَوَاخِرِ الْأَوْقَاتِ وَقَعَ موقع البيان لآخر وقت الِاخْتِيَارِيٍّ الَّذِي لَا يُتَعَدَّى، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مُثَابِرًا عَلَى أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ إِلَّا عِنْدَ عَارِضٍ؛ كَالْإِبْرَادِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ3 وَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ في السفر4، وأشباه ذلك.   = قلت: والأقوى من جواب ابن دقيق العيد ما وقع في لفظ الترمذي في حديث جابر هذا: "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أمني جبريل ... ". فإذن؛ رواه جابر مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يشاهد أبو هريرة وابن عباس وغيرهما ممن روى هذا الحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستووا مع جابر في ذلك؛ وهذه علة غير قادحة، والحديث صحيح، وله شواهد عديدة وكثيرة وشهيرة؛ حتى عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص22" وغيره من الأحاديث المتواترة. وانظر "نصب الراية" "4/ 221-226". 1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، 1/ 428/ رقم 613" عن بريدة رضي الله عنه. 2 لعل فيه سقط كلمة "الثاني" كما يدل عليه الحديث في باب مواقيت الصلاة. "د". 3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، 2/ 15/ رقم 533، 534"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر، 1/ 410/ رقم 615" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا اشتد الحر؛ فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم". وقد عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14" متواترا. 4 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس، 2/ 582/ رقم 112"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين، 1/ 489/ رقم 704" عن أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل؛ صلى الظهر ثم ركب". وفي رواية لمسلم: "كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ" 1، إِلَخْ بَيَانٌ لِأَوْقَاتِ الْأَعْذَارِ لَا مُطْلَقًا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُفْهَمُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ" 2 مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ3 عَلَى وَفْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ؛ فَالْأَمْرُ   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، 2/ 56/ رقم 579"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب من أدرك من الصلاة، 1/ 424/ رقم 608" عن أبي هريرة مرفوعًا. 2 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب الإسفار، 1/ 372"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، 1/ 289/ رقم 154"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح، 1/ 249/ رقم 424" -بلفظ: "أصبحوا بالصبح" -، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر، 1/ 221/ رقم 672"، وأحمد في "المسند" "3/ 465 و4/ 140"، والشافعي في "المسند" "1/ 50، 51"، والحميدي في "المسند" "رقم 408"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 2159"، والطيالسي في "المسند" "رقم 959"، والدرامي في "السنن" "1/ 277" والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 178"، والطبراني في "الكبير" "رقم 4283-4290"، وابن حبان في "الصحيح" "4/ 357، 358/ رقم 1490، 1491- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" 1/ 457"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 354"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 94"، و"ذكر أخبار أصبهان" "2/ 329"، والحازمي في "الاعتبار" "ص75"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 458"، والخطيب في "التاريخ" "13/ 45" عن رافع بن خديج مرفوعا، وهو صحيح. والعجب من السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14"؛ فإنه عده متواترا؛ فقال: "أخرجه الأربعة عن رافع بن خديج، وأحمد عن محمود بن لبيد، والطبراني عن بلال وابن مسعود وأبي هريرة وحواء، والبزار عن أنس وقتادة، والعدني في "مسنده" عن رجل من الصحابة". ولم يتفطن رحمه الله أن زيد بن أسلم اضطرب في طرقه؛ فجعله تارة من مسند رافع، وتارة من مسند أنس، وتارة عن محمود بن لبيد، وتارة عن رجل من الأنصار، وتارة عن حواء؛ فهؤلاء خمسة يرجع حديثهم إلى اضطراب زيد بن أسلم، وحكم ابن حبان في "المجروحين" "1/ 324-325" على حديث أبي هريرة بالوهم، وحديث بلال وابن مسعود ضعيفان، ورواه عاصم بن عمر بن قتادة، واختلف عليه فيه؛ فجعله مرة عن رافع، ومرة عن قتادة بن النعمان؛ فلم يسلم من هذه الأحاديث إلا حديث رافع، وهو صحيح. وانظر: "الخلافيات" للبيهقي "4/ مسألة رقم 67" وتعليقنا عليه. 3 أي: لقلة العمل على الإسفار، والمرجوحية أخذ بها مالك، وقوله: "وإن لم يصح؛ فالأمر واضح"، الأوضحية بالنسبة لمساعدة مالك فقط، وإلا؛ فهو خروج عن الموضوع لأن الكلام في دليلين صحيحين ترجح أحدهما بأن العمل به أكثري. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وَاضِحٌ. وَبِهِ أَيْضًا يُفْهَمُ1 وَجْهُ إِنْكَارِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَإِنْكَارِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَذَلِكَ2، وَاحْتِجَاجِ عُرْوَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ"3، وَلَفَظُ: "كَانَ يفعل" يقتضي الكثرة4   1 وإن لم يذكر أبو مسعود هذا الوجه في احتجاجه، بل ذكر قوله: "بهذا أمرت" كما يجيء بعد. "د". 2 وسيأتي تخريج ذلك قريبا. 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 6/ رقم 522 - وهذا لفظه-، وباب وقت العصر، 2/ 25/ رقم 544، 545، 546" عن عائشة رضي الله عنها. وأخرج نحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 433-434/ رقم 621" عن أنس رضي الله عنه. ولفظ البخاري في "545": "والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها". قال "ف": "لم يظهر: لم يزل، وقيل: لم يصعد، ولم يعل على الحيطان والأول أظهر، تأمل. اهـ"، وفي لفظ البخاري: "الشمس لم تخرج من حجرتها"، قال "د": "والمعنى قبل أن تزول الشمس عن وسط الدار". 4 ولذلك أفرد بعض المصنفين في الحديث بابا لـ"كان"، وسموه "باب الشمائل"، وقال = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 بِحَسَبِ الْعُرْفِ؛ فَكَأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ فِي مُخَالَفَةِ ما دوام عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا احْتَجَّ أَيْضًا أَبُو مَسْعُودٍ عَلَى الْمُغَيَّرَةِ بِأَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى إِلَى أَنْ قَالَ: "بِهَذَا أُمِرْتَ" 1 وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلدَّاخِلِ لِلْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ " 2، وَأَشْبَاهِهِ. وَكَمَا جَاءَ فِي قِيَامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد، ثم ترك ذلك   = أهل الأصول: إن لفظ "كان يفعل" يفيد عرفا ذلك. "د". قلت: في جميع النسخ المطبوعة: "كان فعل يقتضي الكثرة"، وما أثبتناه من الأصل و"ط"، وهو الصواب. وقال المصنف في "الاعتصام" "1/ 456 - ط ابن عفان": "يأتي في بعض الأحاديث: "كان يفعل" فيما لم يفعله إلا مرة واحدة، نص عليه أهل الحديث". وانظر: إحكام الأحكام" "1/ 90"، و"جمع الجوامع" "1/ 425" مع "شروحه"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص115"، و"شرح الورقات" "ص155" لابن القاسم. 1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 3/ رقم 521" عن ابن شهاب؛ أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما؛ فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري؛ فقال: "ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بهذا أمرت". فقال عمر لعروة: اعلم ما تحدث، أو: إن جبريل هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ قال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، 2/ 356/ رقم 878". وهذا الداخل هو عثمان، كما وقع التصريح به في رواية عند مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، 2/ 580/ رقم 845"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 125/ رقم 1748"، وابن المنذر في "الأوسط" "4/ 42/ رقم 1777". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 مَخَافَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ1، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ؛ حَتَّى جَاءَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ فَعَمِلَ بِذَلِكَ لِزَوَالِ عِلَّةِ الْإِيجَابِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ2؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ كِبَارُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَنْصَرِفُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى بُيُوتِهِمْ وَلَا يَقُومُونَ مَعَ الْإِمَامِ، وَاسْتَحَبَّهُ مَالِكٌ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ3. وَإِلَى هَذَا الْأَصْلِ4 رَدَّتْ عَائِشَةُ تَرْكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِدَامَةَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى؛ فَعَمِلَتْ بِهَا لِزَوَالِ الْعِلَّةِ بِمَوْتِهِ، فَقَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ5 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي [سبحة] الضحى قط، وإني لأسبحها"6.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التروايح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، ومضى لفظه عند المصنف "2/ 137". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 250/ رقم 2010"، ومالك في "الموطأ" "1/ 114-115". 3 انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" "2/ 393"، و"الاستذكار" "5/ 158-159"، و"التمهيد" "8/ 119"، وقد اختار التفرد على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، وإلا؛ فلا. 4 الأصل الخاص، وهو ترك العمل خشية أن يفرض لا الأصل الذي فيه الكلام، وهو ترجيح الدليل باستدامة أو أكثرية العمل به. "د". 5 لا ينافي ما جاء عنها في أحاديث أخرى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها أربعا؛ لأن وقت صلاة الضحى ليس من الأوقات التي يكون فيها عادة بين نسائه، وقد ثبت لها فعله صلى الله عليه وسلم للضحى وإن لم تره؛ فلذلك كانت تصليها، ولو كان داوم عليها لاتفق له رؤيته يصليها؛ فلذلك حكمت بأنه ما كان يداوم عليها. "د". 6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب من لم يصل الضحى ورآه واسعا، 3/ 55/ رقم 1177" بلفظ: "ما رأيت رسول صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها". أي: ما رأيته داوم عليها، وإني أداوم عليها، أفاده ابن حجر، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى ... 1/ 497/ رقم 718" باللفظ المذكور، وما بين المعقوفتين منه، وفي الأصول كلها بدلا: من "لأسبحها": "لأستحبها"، وما أثبتناه من "الصحيح" وما بين المعقوفتين استدركناه من "الصحيح" أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وَفِي رِوَايَةٍ: "وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعَ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ"1. وَكَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ تَقُولُ: "لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ2 مَا تَرَكْتُهَا"3. فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى مَا فَهِمَتْ مِنْ تَرْكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم للمداومة على الضحى؛   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، 3/ 10/ رقم 1128"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى ... 1/ 497/ رقم 718" -والمذكور لفظه- وأحمد في "المسند" "6/ 169"، ومالك في "الموطأ" "1/ 152-153"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ 78"، والطيالسي في "المسند" "1/ 121"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "2/ 406"، والنسائي في "الكبرى" "رقم 402"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 49-50". 2 أي: ما كان فرحها بهما عند خروجهما من القبر بِمُلْهٍ لها عن صلاة الضحى، وذلك دليل على تأكدها من رأيها. "د". 3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 153- رواية يحيى، ورقم 405 - رواية أبي مصعب" من طريق زيد بن أسلم عن عائشة، وفي سماع زيد بن أسلم من عائشة نظر. انظر: "جامع التحصيل" "رقم 211". وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 138" من حديث أبان بن صالح عن أم حكيم عن عائشة به. وأخرجه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "رقم 763"، ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" "ق1683" من طريق محمد بن المنكدر، وال نسائي في "الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" "12/ 390" من طريق عاصم بن عمر بن قتادة؛ كلاهما عن رميثة عن عائشة عنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا1. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ ثُمَّ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ2، وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ مِنْ ذَلِكَ -عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا- أَنَّ النَّهْيَ لِلرِّفْقِ؛ فَوَاصَلُوا3، وَلَمْ يُوَاصِلُوا كُلُّهُمْ، وَإِنَّمَا وَاصَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَانَ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الْوِصَالِ، وَلَمْ يَتَخَوَّفُوا عَاقِبَتَهُ مِنَ الضَّعْفِ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرَةٌ، وَحُكْمُهُ الَّذِي يَنْبَغِي فِيهِ الْمُوَافَقَةُ لِلْعَمَلِ الْغَالِبِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَتَرْكُ الْقَلِيلِ أَوْ تَقْلِيلُهُ حَسَبَمَا فَعَلُوهُ، أَمَّا فِيمَا كَانَ4 تَعْرِيفًا بِحَدٍّ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ فَقَدِ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ الْأَوَّلُ5 عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى؛ فَكَذَلِكَ يكون بالنسبة إلى   1 أي: المداومة. "د". 2 مضى تخريج ذلك. "2/ 239". 3 ينظر في تفصيل ذلك: "الاستذكار" "10/ 151 وما بعدها"، و"التمهيد" 14/ 363"، و"القبس" "2/ 478"؛ ففيها كلام جيد على هذه المسألة. ومن اللطائف ما قاله ابن العربي في "القبس" "2/ 478": "ووقعت ببغداد نازلة تتعلق بهذا الحديث -أي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا ... فقد أفطر الصائم" - وذلك أن رجلا قال -وهو صائم-: امرأته طالق إن أفطرت على حار وعلى بارد، فرفعت المسألة إلى أبي نصر بن الصباغ -إمام الشافعية بالجانب الغربي- فقال: هو حانث؛ إذ لا بد من الفطر على أحد هذين. ورفعت المسألة إلى أبي إسحاق الشيرازي بالمدرسة؛ فقال: لا حنث عليه؛ فأنه قد أفطر بدخولها على غير هذين، وهو دخول الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ... وساق الحديث إلى قوله: "فقد أفطر الصائم"، وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك رضي الله عنه". 4 وهو النوع الأول من هذا الضرب المذكور في كلامه آنفا. "د". 5 أي: في عهده صلى الله عليه وسلم، وقوله: "فكذلك يكون ... إلخ"؛ أي يكون الشأن فيما جاء من الصحابة والسلف موافقتهم فيه له صلى الله عليه وسلم، أي الحكم فيه للعمل الغالب قطعا بدون توهم؛ فقوله: "بعد" بالضم، وقوله: "موافقته" فاعل، ولعل فيه تحريف كلمة موافقتهم له بموافقته لهم كما هو الأنسب، أي: وأما إذا حصل اختلاف بعد لترخيص منهم بسبب اقتضاه؛ فسيأتي أنه وإن كان طريقًا يصح سلوكه؛ إلا أن الأصل هو الأولى، وهذا معنى قوله: "وأما غيره ... إلخ"؛ أي: فغير ما وافقوا عليه فربما يفهم فيه أن الحكم ليس للعمل الغالب الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن الواقع أن الأمر فيه مثل ما وافقوا عليه؛ كما يتبين ذلك من إرجاع الأمثلة التي حصلت فيها المخالفة إلى أن الأولى فيها أيضا ما كان العمل جاريًا فيه على عهده صلى الله عليه وسلم، وغيره يعتبر مرجوحًا، مع كونه صح في ذاته لسبب اقتضاه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 مَا جَاءَ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وأما غيره؛ فكذلك أيضا، ويظهر ذلك بالنظر في الأمثرة الْمَذْكُورَةِ. فَقِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَرْكُهُ بِإِطْلَاقٍ مَخَافَةَ التَّشْرِيعِ يُوجَدُ مِثْلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ الْمُقْتَدَى بهم؛ فإن هؤلاء منتصبون1، لأن يقتد بِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَفِي بَابِ الْبَيَانِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لِهَذَا2 بَيَانٌ؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْجَاهِلُ بِالْفِعْلِ إِذَا رَأَى الْعَالِمَ مُدَاوِمًا عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَسَدُّ الذَّرَائِعِ مَطْلُوبٌ مَشْرُوعٌ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ لَهُ ذِكْرٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الصَّحَابَةُ كَمَا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ؛ فَلَا بَأْسَ، وَسُنَّتُهُمْ [سُنَّةٌ] مَاضِيَةٌ، وَقَدْ حَفِظَ اللَّهُ فِيهَا هَذَا الْمَحْظُورَ الَّذِي هُوَ ظَنُّ الْوُجُوبِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا3 عَلَى إِعْمَالِهِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ إِلَّا وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، وَيَتَحَرَّوْنَهُ أَيْضًا؛ فَكَانَ عَلَى قَوْلِهِمْ وَعَمَلِهِمِ الْقِيَامُ فِي الْبُيُوتِ أَوْلَى4، وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ أَوْلَى لِمَنْ لَمْ يَسْتَظْهِرِ الْقُرْآنَ، أَوْ لِمَنْ لَا يَقْوَى إِلَّا بِالتَّأَسِّي، فَكَانَتْ أَوْلَوِيَّتُهُ لِعُذْرٍ كَالرُّخْصَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبُيُوتَ أَوْلَى5؛ فعلى كل   1 في "ط": "منصوبون". 2 سقطت من "ط". 3 في "ط": "يجمعوا". 4 أي: فهم وإن أقاموها في المسجد بإمام واحد على خلاف ما كان على عهده صلى الله عليه وسلم لهذا العذر ولارتفاع المانع الذي هو خوف الافتراض؛ إلا أن عملهم وقولهم جار على أن الأفضل الموافقة للعمل الغالب في عهده. "د". 5 انظر أيهما الأفضل صلاة قيام رمضان في المساجد أم في البيوت: "الاستذكار" "5/ 158 وما بعدها"، و"التمهيد" "8/ 119"، و"تفسير القرطبي" "8/ 372". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 تقدير ما دوام عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُقَدَّمُ، وَمَا رَآهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ فَسُنَّةٌ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْبَغِي تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ عَنْهَا جُمْلَةً؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ العمل في الصحابة. وأما1 صلاة الضحى؛ فشاهدة عَائِشَةَ بِأَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا قَطُّ دَلِيلٌ عَلَى قِلَّةِ عَمَلِهِ بِهَا، ثُمَّ الصَّحَابَةُ لَمْ يُنْقَلْ عنهم عموم العمل بها، وإنما دوام مَنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ بِمَكَانٍ لَا يُتَأَسَّى بِهِمْ فِيهِ كَالْبُيُوتِ؛ عَمَلًا2 بِقَاعِدَةِ الدَّوَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلِأَنَّ عَائِشَةَ فَهِمَتْ أَنَّهُ لَوْلَا خَوْفُ الْإِيجَابِ لَدَاوَمَ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي عَمَلِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ؛ إِلَّا أَنَّ ضَمِيمَةَ إِخْفَائِهَا يَصُدُّ عَنِ الِاقْتِدَاءِ. وَمِنْ هُنَا لَمْ تُشْرَعِ الْجَمَاعَةُ فِي النَّوَافِلِ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ فِي بَعْضِ مُؤَكَّدَاتِهَا؛ كَالْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفِ، وَنَحْوِهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ النَّوَافِلَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، حَتَّى جَعَلَهَا فِي ظَاهِرِ لفظ الحديث3 أفضل من   1 مقابل لقوله: "فقيام رمضان"؛ فالمثالان وكذا مثال الوصال بيان لقوله: "وأما غيره؛ فكذلك أيضا" على ما سبق شرحه. "د". 2 أي: فهم لم يبتدعوا، بل عملوا بقاعدة شرعية لا يعارضها ما خشيه صلى الله عليه وسلم من الإيجاب، ولا ظن الوجوب بفعلهم لأنهم كانوا يخفونها كما قال المؤلف: "إلا أن ضميمة إخفائها ... إلخ". "د". 3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الشمائل" "رقم 280"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في التطوع في البيت، 1/ 439/ رقم 1378"، وأحمد في "المسند" "4/ 342"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "2/ 145/ رقم 865"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 210/ رقم 1202"، والمزي في "تهذيب الكمال" "15/ 22" عن عبد الله بن سعد رضي الله عنه؛ قال: سألت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد؛ فقال: "قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولإن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد؛ إلا أن تكون صلاة مكتوبة". إسناده صحيح. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ الَّتِي يُصلى فِيهَا؛ فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَيْتِ مُلَيْكَةَ رَكْعَتَيْنِ فِي جَمَاعَةٍ1، وَصَلَّى بِابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ بِاللَّيْلِ جَمَاعَةً2، وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ فِي النَّاسِ، وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَا شَهَرَهُ فِيهِمْ، وَلَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ [عَامَّةُ] عَمَلِهِ فِي النَّوَافِلِ عَلَى حَالِ الِانْفِرَادِ؛ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْقَرَائِنُ كُلُّهَا -مَعَ مَا انْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ3 أَيْضًا لَمْ يُشْتَهَرْ4 فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ وَلَا وَاظَبُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ دَائِمًا وَلَا كَثِيرًا- أَنَّهُ مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى أَصْلِ الذَّرِيعَةِ اشْتَدَّ الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْقَضَايَا؛ فَكَانَ الْعَمَلُ عَلَى مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ أَوْلَى، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ مَالِكٌ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيزُ الجماعة في النافلة   = وفي هذا الحديث بيان أفضلية صلاة النافلة على الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح به أيضا في حديث زيد بن ثابت الصحيح، أخرج أبو داود في "سننه" "1/ 274/ رقم 1024"بإسناد صحيح عنه مرفوعا: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا؛ إلا المكتوبة". وأما عموم أفضلية صلاة المرء النافلة في بيته؛ فقد وردت في أحاديث كثيرة، أصحها ما في "الصحيحين": "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة". وانظر: "صحيح الترغيب والترهيب" "1/ 177-178". 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، 1/ 488/ رقم 380"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على حصير، 1/ 457/ رقم 266"، ومالك في "الموطأ" "رقم 406 - رواية أبي مصعب و1/ 153- رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "3/ 131، 149، 164". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب الذوائب، 10/ 363/ رقم 5919"، وخرجته في تعليقي على كتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 83" بتفصيل وإسهاب، ولله الحمد والمنة. 3 في "ط": "ذاك". 4 فيكون ما يتعلق بصلاة النافلة جماعة مما حصلت فيه الموافقة لفعله تماما، بحيث لم يوجد ما يقتضي رخصة لمخالفة البعض مثلا، ولا يكون هذا من أمثلة قوله: "وأما غيره". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 فِي الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَيْثُ لَا يَكُونُ مَظِنَّةَ اشْتِهَارٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ يَكْرَهُهُ1. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوِصَالِ2؛ فَإِنَّ الْأَحَقَّ وَالْأَوْلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عَامَّتُهُمْ، وَلَمْ يُوَاصِلْ خَاصَّتُهُمْ حَتَّى كَانُوا فِي صِيَامِهِمْ كَالْعَامَّةِ فِي تَرْكِهِمْ لَهُ؛ لِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي هِيَ أُنْمُوذَجٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" 3، مَعَ أن بعض4 من كاد يَسْرِدُ الصِّيَامَ قَالَ بَعْدَ مَا ضَعُفَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَطْلَبُ الْمُكَلَّفَ بِالرِّفْقِ وَالْقَصْدِ خَوْفَ الِانْقِطَاعِ -وَقَدْ مَرَّ لِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ6 الْأَحْكَامِ- فَكَانَ الْأَحْرَى الْحَمْلَ عَلَى التَّوَسُّطِ، وَلَيْسَ إِلَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَمَا وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا؛ فَاحْمِلْ نَظَائِرَ هَذَا الضرب.   1 وكذا كره ابن تيمية للإمام الراتب أن يقيم في المسجد جماعة يصلي بالناس بين العشاءين أو في جوف الليل. انظر: "مجموع الفتاوى" له "23/ 113-114". 2 الوصال صوم يومين أو أكثر دون فصل بينهما بفطر في الليل، والسرد أن يتابع صوم الأيام مع الفطر بالليل، ومنه يفهم أن قوله: "مع أن بعض من كان يسرد ... إلخ" كلام فيما يشبه الوصال من جهة أن كلا غير ما هو الأولى في نظر الشارع. "د". قلت: الوصال من المندوب فيما اختص به صلى الله عليه وسلم على ما ذكر الجويني؛ كما في "الخصائص الكبرى" للسيوطي "3/ 284"، وانظر: "المحقق من علم الأصول" "ص53" لأبي شامة، و"أفعال الرسول" "1/ 273" للأشقر. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964" عن عائشة رضي الله عنها، ومضى "2/ 239". 4 هو عبد الله بن عمرو. 5 مضى تخريجه "2/ 240". 6 في باب الرخصة، وأن مقصد الشارع بها الرفق بالمكلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ1، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ: - مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلًا فِي2 نَفْسِهِ؛ فَيَخْتَلِفُوا3 فِيهِ بِحَسَبِ مَا يَقْوَى عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ أَوْ يُخْتَلَفُ فِي أَصْلِهِ4، وَالَّذِي هُوَ أَبْرَأُ لِلْعُهْدَةِ وَأَبْلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ تَرْكُهُ وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ. كَقِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ إِكْرَامًا لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَإِنَّ الْعَمَلَ الْمُتَّصِلَ تَرْكُهُ؛ فَقَدْ كَانُوا لَا يَقُومُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ5، وَكَانَ يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ6، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ الصَّحَابَةِ عَمَلٌ مُسْتَمِرٌّ وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ؛ حَتَّى رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ قَامُوا له في المجلس؛ فقال: "إن تقوموا   1 أي: لا يَتَبَيَّنَ فِيهِ لِلْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَجْهٌ يَصْلُحُ أَنْ يكون سببا للقلة. "ف". 2 أي: يكون وقوعه متفقا عليه، ولكنه يكون محتملا للمعنى المستدل عليه ولغيره كما في القيام للقادم. "د". 3 في "ط": "فيختلف". 4 أي: يكون ثبوته محل خلاف؛ كما في تقييد اليد، وسجود الشكر. "د". 5 بل كان ينهاهم عن ذلك، أخرج البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 946، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل/ رقم 2755"، و"الشمائل" "رقم 328"، وأحمد في "المسند" "3/ 132، 250-251"، والطحاوي في "المشكل" 2/ 39"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 418/ رقم 3784"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 127"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 294/ رقم 3329"، و"الشمائل" "رقم 392" بإسناد صحيح عن أنس؛ قال: "ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا إذا رأوه؛ لم يقوموا له لما كانوا يعلمون من كراهيته لذلك". 6 أخرج أبو داود في "السنن" "رقم 4698"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 140"، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" "50"، والبغوي في "الشمائل" "رقم 393" بإسناد صحيح عن أبي هريرة وأبي ذر؛ قالا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب ولا يدري أيهم هو حتى يسأل؛ فطلبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين؛ فكان يجلس عليه، ونجلس بجانبيه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 نَقُمْ، وَإِنْ تَقْعُدُوا نَقْعُدْ، وَإِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"1؛ فَقِيَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَعْفَرٍ ابْنِ عَمِّهِ2 وَقَوْلُهُ: "قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ" 3 إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ فَالْأَوْلَى خِلَافُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ نَظَرْنَا فِيهِ وَجَدْنَاهُ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ4 الْقِيَامُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ5، أَوْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى اللِّقَاءِ لِشَوْقٍ يجده القائم للمقوم   1 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص39"، وأشار إليه ابن حجر في "الفتح" "11/ 51". وأسند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ 170/ ب" إلى الأوزاعي؛ قال: "حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز؛ قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا". 2 الوارد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لأخيه من الرضاعة، وأجسله بين يديه، أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 5145" بسند معضل، وفي بعض رواته كلام. انظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1120". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستئذان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "قوموا إلى سيدكم"، 11/ 49/ رقم 6262"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، 3/ 1388-1389/ رقم 1768" عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "قوموا إلى سيدكم". وفيه قصة. والاستدلال بهذا الحديث على القيام فيه نظر، أفاده ابن حجر في "الفتح" "11/ 51"، وزاد: "وقد وقع في "مسند عائشة" عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا، وفيه: "قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم؛ فأنزلوه"، وسنده حسن". قال: وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه". ثم نقل أجوبة حسنة لابن الحاج على المستدلين بهذا الحديث على مشروعية القيام للقادم، ومما ينبغي أن ينتبه له أن الحديث في "الصحيحين" بلفظ: "قوموا إلى"، وليس "قوموا لسيدكم" كما أورده المصنف. 4 في الأصل: "يقوم". 5 وهذا هو الذي كانوا يتحاشونه ويرونه موجبا لكراهيته، كما أشار إليه بقوله: "وإنما يقوم الناس لرب العالمين". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 لَهُ، أَوْ لِيُفْسِحَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى يَجِدَ مَوْضِعًا لِلْقُعُودِ، أَوْ لِلْإِعَانَةِ عَلَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَمَلُ. وَإِذَا احْتَمَلَ الْمَوْضِعُ؛ طُلِبْنَا بِالْوُقُوفِ مَعَ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ الْقَلِيلُ غَيْرَ1 مُعَارِضٍ لَهُ، فَنَحْنُ فِي اتِّبَاعِ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى بَيِّنَةٍ وَبَرَاءَةِ ذِمَّةٍ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ رَجَعْنَا إِلَى هَذَا الْمُحْتَمَلِ؛ لَمْ نَجِدْ فِيهِ مَعَ الْمُعَارِضِ الْأَقْوَى وَجْهًا لِلتَّمَسُّكِ إِلَّا مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لَا يَقْوَى قُوَّةَ مُعَارِضِهِ2. وَمِثْلُ ذَلِكَ قِصَّةُ مَالِكٍ مَعَ سُفْيَانَ فِي الْمُعَانَقَةِ؛ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ: "كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِجَعْفَرٍ". فَقَالَ سُفْيَانُ: مَا يَخُصُّهُ يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا إِذَا كُنَّا صَالِحِينَ3، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَالِكٌ عَمِلَ فِي الْمُعَانَقَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ فَجَعَلَ مُعَانَقَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرًا خَاصًّا، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ؛ فَالَّذِي يَنْبَغِي وَقْفُهُ عَلَى مَا جَرَى فِيهِ. وَكَذَلِكَ تَقْبِيلُ الْيَدِ إِنْ فَرَضْنَا أَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ مَا رُوِيَ فِيهِ4 فإنه لم يقع   1 كما سبق أن قضايا الأعيان لا تقوم حجة إلا إذا عضدها دليل آخر؛ لاحتمال ألا تكون مخالفة ... إلخ. "د". 2 أي: لأنه مع كونه قليلا محتمل لغير المعنى المستدل عليه في مقابلة الكثير الذي لا احتمال فيه. "د". وفي الأصل: "تعارضه". 3 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1663"، وعنه القرطبي في "تفسيره" "15/ 361". وانظر: جزء "القبل والمعانقة" لابن الأعرابي. 4 ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة، تراها في جزء ابن المقرئ "الرخصة في تقبيل اليد"، وكذا في جزء الغماري "إعلام النبيل"، وكلاهما مطبوع وقال ابن تيمية في "الفتاوى المصرية" "ص563"، ونقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 271": "تقبيل اليد لم يكن يعتادونه إلا قليلا"؛ فالكراهة أن يتخذ التقبيل شعارا، أو أن يكون ذلك لدينا أو لظالم أو مبتدع، أو على وجه الملق. انظر: "شرح السنة" "12/ 293" للبغوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 تَقْبِيلُ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا نَادِرًا، ثُمَّ لَمْ يَسْتَمِرَّ فِيهِ عَمَلٌ إِلَّا التَّرْكُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَدَلَّ عَلَى مَرْجُوحِيَّتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ سُجُودُ الشُّكْرِ إِنْ فَرَضْنَا ثُبُوتَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ مَعَ كَثْرَةِ الْبَشَائِرِ الَّتِي تَوَالَتْ عَلَيْهِ، وَالنِّعَمِ الَّتِي أُفْرِغَتْ عَلَيْهِ إِفْرَاغًا؛ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مُوَاظَبَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا جَاءَ عَنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ مِثْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؛ إِذْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ2؛ فَكَانَ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ تَرْكًا لِلْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ. وَمِنْ هَذَا الْمَكَانِ يُتَطَلَّعُ إِلَى قَصْدِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَعْلِهِ الْعَمَلَ3 مُقَدَّمًا عَلَى الْأَحَادِيثِ؛ إِذْ كَانَ إِنَّمَا يُرَاعِي كُلَّ الْمُرَاعَاةِ الْعَمَلَ الْمُسْتَمِرَّ وَالْأَكْثَرَ4 وَيَتْرُكُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَإِنْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَكَانَ مِمَّنْ أَدْرَكَ التابعين وراقب   1 وقد ثبت في غير حديث، مضى تخريج واحد منها "ص163"، وانظر لزاما كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 297-298، 320 - ط دار الحديث". 2 كما في "صحيح البخاري" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك, 8/ 113-116/ رقم 4418"، و"صحيح مسلم" "كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769". 3 المستند إلى الديل الشرعي لا مجرد العمل؛ فالعمل المستمر عنده يرجح الدليل على سائر الأدلة التي لم يصاحبها العمل المستمر، هكذا ينبغي أن يفهم؛ كما ذكره الأصوليون، قالوا: يرجح الخبر على معارضه بعمل أكثر السلف وعمل أهل المدينة، وسيأتي عن مالك أنه قال: "أَحَبُّ الْأَحَادِيثِ إِلَيَّ مَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ". "د". قلت: ينظر عن حجية عمل أهل المدينة: رسالة ابن تيمية "صحة أصول أهل المدينة"، ورسالة أحمد محمد نور سيف "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين". 4 في الأصل و"ط": "الأكثري". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 أَعْمَالَهُمْ، وَكَانَ الْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ فِيهِمْ مَأْخُوذًا عَنِ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَمِرًّا فِيهِمْ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي عَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي قُوَّةِ الْمُسْتَمِرِّ. وَقَدْ قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إِنَّ التَّشَهُّدَ فَرْضٌ. فَقَالَ: "أَمَا كَانَ أَحَدٌ يَعْرِفُ التَّشَهُّدَ؟ ". فَأَشَارَ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ1 بِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ كَالْمُبْتَدِعِ الَّذِي جَاءَ بِخِلَافِ مَا عليه ما تَقَدَّمَ. وَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الْأَذَانِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: "وَمَا حَاجَتُكَ إِلَى ذَلِكَ؟ فَعَجَبًا مِنْ فَقِيهٍ يَسْأَلُ عَنِ الْأَذَانِ"، ثُمَّ قَالَ لَهُ مَالِكٌ: "وَكَيْفَ الْأَذَانُ عِنْدَكُمْ؟ ". فَذَكَرَ مَذْهَبَهُمْ فِيهِ؛ فَقَالَ: "مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ ". فَذَكَرَ لَهُ أَنَّ بِلَالًا لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهُمْ، فَأَذَّنَ لَهُمْ كَمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: "مَا أَدْرِي مَا أَذَانُ يَوْمٍ؟ وَمَا صَلَاةُ يَوْمٍ؟ هَذَا مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلَدُهُ مِنْ بعد يُؤَذِّنُونَ فِي حَيَاتِهِ وَعِنْدَ قَبْرِهِ، وَبِحَضْرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ"2. فَأَشَارَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَثَبَتَ مُسْتَمِرًّا أَثْبَتُ فِي الِاتِّبَاعِ وَأَوْلَى أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ3. وَقَدْ بَيَّنَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ"4 أَصْلًا لِهَذَا الْمَعْنَى عَظِيمًا يَجِلُّ مَوْقِعُهُ عِنْدَ مَنْ نَظَرَ إِلَى مَغْزَاهُ، وَذَلِكَ أنه سئل عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ5 الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ شُكْرًا؛ فَقَالَ: "لَا يَفْعَلُ، لَيْسَ مِمَّا مَضَى من أمر الناس". فقيل له: إن أبا بكر الصديق   1 في "ط": "عليهم". 2 المذكور عند عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 50 - ط المغرب"، وعنه الراعي في "انتصار الفقير السالك" "ص218". 3 تجد قائمة طويلة في كتاب أحمد نور سيف "عمل أهل المدينة" "ص323-359" فيها احتجاج مالك بعمل أهل المدينة، جمعها من "الموطأ" و"المدونة" وكتب العلماء الأقدمين. 4 "1/ 392 - مع "البيان والتحصيل"". 5 كذا في "العتبية" و"ط"، وفي غيره: "يأتي إليه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 -فِيمَا يَذْكُرُونَ- سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا1؛ أَفَسَمِعْتَ ذلك؟ قال: "ما سمعت ذلك، و [أنا] أَرَى أَنْ [قَدْ] كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ نَسْمَعْ لَهُ خِلَافًا". ثُمَّ قَالَ: "قَدْ فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ؛ أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ إِذَا جَاءَكَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُسْمَعُ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ؛ فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ؛ فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ، إِذَا جَاءَكَ الْأَمْرُ لَا تَعْرِفُهُ؛ فَدَعْهُ"2. هَذَا مَا قَالَ. وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الْعَامَّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَفِي أَيِّ مَحَلٍّ وَقَعَ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَلَائِلِ مَا نُقِلَ، وَلَا نَوَادِرِ الْأَفْعَالِ إِذَا عَارَضَهَا الْأَمْرُ الْعَامُّ وَالْكَثِيرُ. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلِيلُ خَاصًّا بِزَمَانِهِ أَوْ بِصَاحِبِهِ الذي عمل به، أو خاص بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ؛ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي غَيْرِ مَا تَقَيَّدَ بِهِ؛ كَمَا قَالُوا فِي مَسْحِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ فِي الْوُضُوءِ: أَنَّهُ كَانَ بِهِ مَرَضٌ3، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي   1 مضى تخريجه "ص158". 2 انظر: "الاعتصام" "1/ 468-471 - ط ابن عفان"، وما علقناه على "ص158-159". 3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، 1/ 308/ رقم 204، 205" عن عمرو بن أمية الضمري؛ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسمح على عمامته وخفيه. وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، 1/ 230/ رقم 274 بعد 81" عن المغيرة ضمن حديث فيه: "ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى خفية"، وفي لفظ برقم "274 بعد 82": "يمسح على الخفين، ومقدم رأسه، وعلى عمامته". وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار عن أبي بكر وعمر في المسح على العمامة؛ حتى قال الإمام أحمد: "المسح على العمامة من خمس وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم". وانظر بسط المسألة في: "المغني" "1/ 300"، و"المجموع" "1/ 406"، و"الأوسط" "1/ 466-472"، و"مسائل أحمد" "ص8" لأبي داود، والحجة على أهل المدينة" "1/ 16"، و"الموطأ" "1/ 43"، و"الأم" "1/ 26". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 بَعْدَ ثلاثٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِذْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجَلِ الدَّافَّةِ" 1. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا فُعِلَ فَلْتَةً2؛ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَا يَشْرَعُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَأْذَنُ فِيهِ ابْتِدَاءً لِأَحَدٍ؛ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ إِذْنًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ3 الَّذِي بَعَثَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَمْرٍ فَعَمِلَ فِيهِ، ثُمَّ رَأَى أَنْ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَرَبَطَ نَفْسَهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يَحُلَّهُ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَمَا إِنَّهُ لَوْ جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ" 4، وَتَرَكَهُ كذلك حتى حكم الله فيه5.   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن عبد الله بن واقد رضي الله عنه مرفوعا. قلت: وقد جاء في الأصل و"ف": "الرأفة"، وهو خطأ. 2 بدون سبق تشريع فيه. "د". 3 هو أبو لبابة الأنصاري في قصة بني قريظة؛ لما استشاروه أن ينزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم: نعم، وأشار بيده إلى حلقه؛ يعني: الذبح، وسيأتي تخريج القصة. 4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "21/ 151-152" هكذا مطولا. وأخرج القصة مختصرة ضمن قصة مطولة أخرى أحمد في "المسند"، وفيه محمد بن عمرو ابن علقمة، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 138". وقال الساعاتي في "الفتح الرباني" "21/ 81-83": "أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه""، ثم قال: "هذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة". وانظر "سيرة ابن كثير" "3/ 238"، و"تفسير القرطبي" "14/ 139-140". 5 بقبول توبته، وقد أبره صلى الله عليه وسلم في يمينه؛ فأطلقه بيده الكريمة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يَقْتَضِي أَصْلَ الْمَشْرُوعِيَّةِ ابْتِدَاءً وَلَا دَوَامًا، أَمَّا الِابْتِدَاءُ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا دَوَامًا؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فِيهِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِزَمَانِهِ؛ إِذْ لَا وُصُولَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَقَدِ انْقَطَعَ بَعْدَهُ؛ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْقَاءُ عَلَى ذَلِكَ لِغَيْرِهِ حَتَّى يُنْتَظُرَ1 الْحُكْمُ فِيهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، لَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ؛ فَإِذًا الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ أَشَدُّ غَرَرًا؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ تَشْرِيعٌ يَشْهَدُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ [قَبْلَهُ] 2 تَشْرِيعٌ؛ لَكَانَ اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ كَافِيًا فِي مَرْجُوحِيَّتِهِ. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ رَأْيًا لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ؛ إِذْ كَانَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَيُجِيزَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الِاجْتِهَادِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ أَكَلَ بَرَدًا وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ؛ فَقِيلَ لَهُ: أَتَأْكُلُ الْبَرَدَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ بَرَدٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نُطَهِّرُ بِهِ بُطُونَنَا، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ"3. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: "وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ لَمْ يقف النبي عليه الصلاة والسلام   1 في "د": "ينظر". 2 سقط من "ط". 3 أخرحه أحمد في "المسند" "3/ 279"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 348"، وسنده صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 83"، وأخرجه البزار في "مسنده" "رقم 1022 - زوائده" أيضا، وزاد: "فذكرت ذلك لسيعد بن المسيب؛ فكرهه، وقال: إنه يقطع الظمأ"، وقال: "لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة". انظر "مجمع الزوائد" "3/ 171-172". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 عَلَيْهِ1؛ فَيُعَلِّمَهُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيهِ". قَالَ2: "وَقَدْ كَانَ مِثْلُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَمْ يرَ ذَلِكَ عُمَرُ شَيْئًا، إِذْ لَمْ يُخْبَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ"3. فَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ؛ قَالَ: "وَالَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ؛ قَالَ: كُنْتُ عَنْ يَمِينِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْغُسْلِ4 مِنَ الْجَنَابَةِ بِرَأْيهِ. فَقَالَ: أَعْجِلْ5 بِهِ عَلَيَّ! فَجَاءَ زَيْدٌ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تُفْتِيَ النَّاسَ بِالْغُسْلِ مِنَ الجنابة في مسجد النبي عليه الصلاة والسام بِرَأْيِكَ؟ فَقَالَ زَيْدٌ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَفْتَيْتُ بِرَأْيِي، وَلَكِنِّي6 سَمِعْتُ مِنْ أَعْمَامِي شَيْئًا فَقُلْتُ بِهِ. فَقَالَ: مِنْ أَيِّ أَعْمَامِكَ؟ فَقَالَ: مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ. فَالْتَفَتَ إِلَيَّ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَذَا الْفَتَى؟ فَقَلْتُ: إِنَّا كُنَّا نفعله7 على عهد رسول الله   1 وقد جاء في رواية فيها عقب نحو الأثر السابق وفيها زيادة عن أنس: "فأتيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بذلك، فقال: "خذها عن عمك". أي: أبو طلحة في أكله البرد، وقوله عنه ما قال. أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 347"، والبزار في "المسند" "رقم 1021 - زوائده"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 15/ رقم 1424 و7/ 73-74/ رقم 3999" بإسناد ضعيف فيه علي بن زيد، وهو ضعيف، قال عنه شعبة: "حدثنا علي بن زيد، وكان رفاعا"، ورفعه منكر؛ فقد رووه الثقات عن أنس ووقفوه على أبي طلحة. 2 في "مشكل الآثار" "2/ 348-349"، ونقل المصنف عنه بتصرف. وفي نسخة الأصل: "قال: فقد ... ". 3 إذ لو أخبر بذلك؛ لكان مما يصلح العمل على وفقه. "ف". 4 في "المشكل": "يفتي الناس بعدم الغسل". 5 في "ط": "اعجلوا". 6 في "المشكل": "ولكن". 7 أي: الجماع بغير إنزال. "د". وقال "ف": يشير إلى أنهم كانوا لا يغتسلون عند عدم الإنزال، والعمل الكثير الذي استمر الاغتسال مطلقا أنزل أو لا من التقاء الختانين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَا نَغْتَسِلُ. قَالَ: أَفَسَأَلْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: لَا". ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: "لَئِنْ أُخبرت بِأَحَدٍ يَفْعَلُهُ ثُمَّ لَا يَغْتَسِلُ لَأَنْهَكْتُهُ عُقُوبَةً"1. فَهَذَا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ2، وَالشَّاهِدُ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَا اسْتَمَرَّ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ عَلَى حَالٍ؛ فَكَفَى بِمِثْلِهِ حُجَّةً عَلَى التَّرْكِ. - وَمِنْهَا: [إِمْكَانُ] أَنْ يَكُونَ عُمِلَ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ نُسِخَ، فَتُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ جُمْلَةً؛ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِإِطْلَاقٍ، فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ فِي مِثْلِهِ الْوُقُوفُ مَعَ الْأَمْرِ الْعَامِّ. وَمِثَالُهُ حَدِيثُ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ3؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلِ اسْتِمْرَارُ عَمَلٍ بِهِ وَلَا كَثْرَةٌ، فَإِنَّ غَالِبَ الرِّوَايَةِ فِيهِ دَائِرَةٌ عَلَى عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ4،] وَهُمَا أَوَّلُ من   1 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 348-349" و"شرح معاني الآثار" "1/ 58-59"، وأحمد في "المسند" "5/ 115"، والطبراني في "الكبير" "5/ 34-35/ رقم 4536" بسند رجاله رجال الصحيح؛ غير ابن إسحاق، وهو مدلس؛ وقد عنعن. 2 المعروف فيه أنه مما عمل به قليلا ثم نسخ، أو تخصص حديثه الذي هو قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" بالحلم، وقد ورد في الحديث: "لعلنا أعجلناك؟ ". فقال: نعم يا رسول الله. قال: "فإذ أعجلت أو أقحطت؛ فلا غسل عليك". وهذا لفظ البخاري ومسلم، والإقحاط عدم الإنزال، وعن أبي بن كعب: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها"، أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي. "د". 3 مضى لفظه وتخريجه "ص198". 4 لفظ حديث عائشة مضى "ص198" ووقع في رواية إسحاق بن راهويه في "مسنده" "رقم 900" عنها: "من مات وعليه صوم نذر؛ فليصم عنه وليه". قال إسحاق عقبه: "السنة هذا". وتقدم ايضا عن ابن عباس في قضاء صوم النذر، وهو في "الصحيحين"؛ فالقول بقضاء صيام الولي مقيد بصيام النذر لأسباب: الأول: الرواي المطلقة تحمل على المقيدة إن اتحد السبب، وهذا باتفاق. الثاني: ورد التقييد بالنذر في رواية إسحاق، وهو الذي أجاب عنه ابن عباس. وانظر: "شرح السنة" "6/ 324". = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 خَالَفَاهُ1 فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ، فَقَالَتْ: "أَطْعِمُوا عَنْهَا"2، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] 3؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ"4. قَالَ مَالِكٌ: "وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ أَمَرُوا أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّيَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كل أحد عن نفسه"5.   = الثالث: من روى حديث عائشة: "من مات وعليه صيام"، قال: "هذا في النذر"، كما قال أبو داود، انظر: "مسائل أحمد" لأبي داود "ص69"، و"الاستذكار" "10/ 170". الرابع: "ثبت عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان؛ فقال: يطعم، وفي النذر: يصام عنه؛ كما في "مصنف عبد الرزاق" "4/ 236، 237، 240"، و"سنن البيهقي" "4/ 253"، و"المحلى" "6/ 263"، و"أحكام القرآن" "1/ 211" للجصاص، و"الاستذكار" "1/ 171-172"، و"المجموع" "6/ 431". ويحمل قول ابن عباس: "لا يصومن أحد عن أحد" على من شهد رمضان، أما صيام النذر؛ فإن المرء أوجبه على نفسه، فإذا مات ولم يصمه؛ انتقل إلى أوليائه، فيصومون عنه كما ينتقل الدين إلى تركته التي أصبحت بعد موته من حق أوليائه، فيخرج منها. الخامس: إعمال الأدلة كلها خير من إهمالها أو إهمال بعضها، وفي التوجيه السابق إعمال بالمرفوع والموقوف، وما أحسن قول ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 173": "لولا الأثر المذكور؛ لكان الأصل القياس على الأصل المجتمع عليه في الصلاة، وهو عمل بدن لا يصوم أحد عن أحد، كما لا يصلي أحد عن أحد". وانظر: "تهذيب سنن أبي داود" "3/ 279-282". 1 في "ط": "خالفهما". 2 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 142"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 4" بإسناد صحيح. 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 4 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "4/ 257"، وأخرج مالك في "الموطأ" "1/ 202 - رواية يحيى، ورقم 835 - رواية أبي مصعب عن ابن عمر مثله. 5 "الموطأ" "1/ 323/ رقم 837 - رواية أبي مصعب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فَهَذَا إِخْبَارٌ بِتَرْكِ الْعَمَلِ دَائِمًا فِي مُعْظَمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ يَلِيهِمْ، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ1، كَمَا أَنَّهُ عَوَّلَ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ عَمَلِهِ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي الْمُفَصَّلِ، وَقِيلَ لَهُ: أَتَسْجُدُ أَنْتَ فِيهِ؟ فَقَالَ: "لَا". وَقِيلَ2 لَهُ: إِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لَكَ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَقَالَ: "أَحَبُّ الْأَحَادِيثِ إِلَيَّ مَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَجْتَمِعِ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ مِنْ حَدِيثِ النَّاسِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْقُرْآنُ، يَقُولُ اللَّهُ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ؛ فَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ خَطَرًا وَفِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ3؛ فَكَيْفَ بِالْأَحَادِيثِ؟ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُجْتَمَعْ عَلَيْهِ"4. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَمَلَ بِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ النَّاسِخُ لِلْآخَرِ؛ إِذْ كَانُوا إِنَّمَا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5.   1 وانتصر لهذا ودافع عنه دفاعا قويا ابن العربي في "القبس" "2/ 517-519"، قال في آخر مسألة الصيام عن الميت: "فأنت إن اتبعت حديثا واحدا دون أن تضربه بسائر الآيات والأحاديث وتستخلص الحق من بينها؛ فأنت ممن في قلبه زيغ، أو عليه رين، والذي تفطن له مالك رضي الله عنه تلقفه من عبد الله بن عمر تعليمًا لا تقليدًا". قلت: وقد سبق استخلاص الحق في مسألة الصيام عن الميت بالتفرقة بين صيام النذر وغيره، وهو الراجح إن شاء الله تعالى. 2 في "ط": "فقيل". 3 هذا بناء على تفسير المحكم بالناسخ والمتشابه بالمنسوخ، أما على ما هو مشهور من أن المحكمات الواضحات؛ فلا يأتي استشهاد الإمام بالآية. "د". 4 انظر مذهب مالك والخلاف عليه في هذه المسألة أو مناقشته فيها في: "الموطأ" "1/ 207- رواية يحيى"، و"المنتقى" "1/ 349" للباجي، و"شرح الزرقاني على الموطأ" "1/ 371"، "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "1/ 308"، و"الأم" "7/ 187، 188". وانظر أدلة المسألة في: "نصب الراية" "2/ 182"، و"فتح الباري" "2/ 377"، و"الدراية" "1/ 211"، و"شرح معاني الآثار" "1/ 353"، و"عمدة القاري" "7/ 96"، و"التلخيص الحبير" "2/ 8". 5 أصله من كلام لابن عباس تذكره كتب الأصول غالبا. وهو قوله: "كنا نأخذ بالأحدث = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَعْيَا الْفُقَهَاءَ وَأَعْجَزَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ"1، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَمَّا أَخَذَ مَالِكٌ بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ وَطَرَحَ مَا سِوَاهُ؛ انْضَبَطَ لَهُ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ عَلَى يُسْرٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَثَمَّ أَقْسَامٌ أخر يستل عَلَى الْحُكْمِ فِيهَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَتَحَرَّى الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِ الْأَوَّلِينَ؛ فَلَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ فِي الْعَمَلِ بِالْقَلِيلِ؛ إِلَّا قَلِيلًا وَعِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَسِّ الضَّرُورَةِ إِنِ اقْتَضَى2 مَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَلَمْ يَخَفْ3 نَسْخَ العمل، أو عدم 4 صحة في الدليل،   = فالأحدث". انظر مثلا: "مختصر المنتهى" "ص133" لابن الحاجب، و"اللمع" للشيرازي "ص239". أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، 2/ 784-785" عن ابن عباس: "خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره". وقصر ابن كثير في تخريجه في "تحفة الطالب" "رقم 204"؛ إذ اقتصر على إيراد ما عند البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان على حديث في آخره: "وإنما يؤخد من أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالآخر فالآخر". والأشد منه قصورا ما فعله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع" "رقم 70"؛ إذ أورد تحته: "كان آخر الأمرين ... "، و"أكل آخر أمريه ... "، ولم يخرج الأثر المذكور، والله الموفق. 1 أخرجه الحازمي في "الاعتبار" "ص3-4"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 3". 2 الضمير للقليل في قوله: "العمل بالقليل"؛ أي: بأن كان الدليل الذي أخذ به يصلح معارضًا لما عمل به الأكثر، ولا يكون ذلك إلا حيث يحتج به وإن ترجح الآخر بكثرة العمل به. "د". 3 الضمير للعامل؛ فهو مبني للفاعل، وقوله: "أو احتمالا" معطوف على مفعول. "د". قلت: لأنه ضبطها بفتحتين، أما "ف"؛ فقد قال: "بضم الياء، وفتح الخاء". وفي "م": "يُخْفَف". 4 في الأصل: "وعدم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 أَوِ احْتِمَالًا1 لَا يَنْهَضُ بِهِ الدَّلِيلُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. أَمَّا لَوْ عَمِلَ بِالْقَلِيلِ دَائِمًا؛ لَلَزِمَهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الْمُخَالَفَةُ لِلْأَوَّلِينَ فِي تَرْكِهِمُ الدَّوَامَ عَلَيْهَا، وَفِي مُخَالَفَةِ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ مَا فِيهَا. وَالثَّانِي2: اسْتِلْزَامُ تَرْكِ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ؛ إِذِ الْفَرْضُ أَنَّهُمْ دَاوَمُوا عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْآثَارِ، فَإِدَامَةُ الْعَمَلِ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا لَمْ يُدَاوِمُوا عَلَيْهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ3: أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى انْدِرَاسِ أَعْلَامِ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ وَاشْتِهَارِ مَا خَالَفَهُ؛ إِذِ الِاقْتِدَاءُ بِالْأَفْعَالِ أَبْلَغُ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَقْوَالِ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ؛ كَانَ أَشَدَّ. الحذرَ الحذرَ4 مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَوَّلِينَ! فَلَوْ كَانَ ثَمَّ فَضْلٌ [مَا] 5؛ لَكَانَ الْأَوَّلُونَ أَحَقَّ بِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَثْبُتَ عَنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ عَلَى حَالٍ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَارِيَةٌ هُنَا بِالْأَوْلَى، وَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مَا زَعَمُوا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ إِذْ لَوْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ لَمْ يَعْزُبْ عَنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثُمَّ يَفْهَمُهُ هَؤُلَاءِ، فَعَمَلُ الْأَوَّلِينَ كَيْفَ كَانَ مُصَادِمٌ لِمُقْتَضَى هَذَا الْمَفْهُومِ وَمُعَارِضٌ لَهُ، وَلَوْ كَانَ تَرْكَ الْعَمَلِ6؛ فَمَا عَمِلَ بِهِ   1 لعله: "أو احتمال" بالعطف على ما قبله، أي: أمن ذلك كله، تأمل "ف". 2 لازم لما قبله؛ أي: خالفهم فعلا وتركا، وهما متلازمان في مثله. "د". 3 الأول والثاني عامان، وهذا الثالث خاص بما إذا كان من مقتدى به. "د". 4 منصوب على التحذير. "ف". 5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". 6 أي: ولو كان عملهم ترك العمل بمعنى الكف عنه، تأمل "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ1، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ؛ فَهُوَ السُّنَّةُ وَالْأَمْرُ الْمُعْتَبَرُ، وَهُوَ الْهُدَى، وَلَيْسَ ثَمَّ إِلَّا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ؛ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ، وَهَذَا كافٍ2، وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ الْعُلَمَاءُ بِمِثْلِهِ جارٍ هَذَا الْمَجْرَى3. وَمِنْ هُنَالِكَ لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ السُّنَّةِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ كَافَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يُحَمِّلُونَهُمَا4 مَذَاهِبَهُمْ، وَيُغَبِّرُونَ بِمُشْتَبِهَاتِهِمَا5 فِي وُجُوهِ الْعَامَّةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى شيء. ولذلك أمثلة كثيرة كالاستلالات الباطنية على سوء مذهبهم بما هو شهير   1 كما جاء في الحديث الصحيح بشواهده، ومضى تخريجه "2/ 434". 2 هذه قاعدة بديعة، ركز عليها المصنف كثيرا فيما سبق وفيما سيأتي، وعليها مدار نجاة المرء، وتكلم عليها الفقهاء المحققون كثيرا، مثل: الشافعي في "رسالته" البغدادية، ونقل عنها ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 80 و1/ 69- ط دار الحديث"، وأولاها عناية تامة ابن تيمية؛ كما تراه في "مجموع الفتاوى" "3/ 157 و4/ 91-94 و132 وما بعدها، و157-158 و5/ 7، 8 و13/ 24"، و"شرح العقيدة الأصفهانية" "ص128"، و"نقض المنطق" "7، 8"، و"الإيمان" "ص417"، وكذلك تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 79 وما بعدها و4/ 118 وما بعدها و147-155"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 345-349". 3 فهو مصادم بعمل السلف الأولين. "ف". 4 في الأصل و"ف" و"ط": "يحملونها"، قال "ف": "الأنسب يحملونها، وكذا قوله بمشتبهاتها، الأنسب فيه التثنية". 5 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "بمشتبهاتها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ أَشْيَاءُ فِي دَلِيلِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاسْتِدْلَالِ التَّنَاسُخِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا زَعَمُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الِانْفِطَارِ: 8] . وَكَثِيرٌ مِنْ فِرَقِ الِاعْتِقَادَاتِ1 تَعَلَّقَ بِظَوَاهِرَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي تَصْحِيحِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ؛ مِمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ وَلَا وَقَعَ بِبَالِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ، وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُ أَيْضًا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَجَازَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ2، وَذِكْرَ اللَّهِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَبِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ3 بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ويتدارسُونه فِيمَا بَيْنَهُمُ" 4 الْحَدِيثَ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ: "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ... " 5 إِلَخْ، وَبِسَائِرِ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ مجالس الذكر.   1 قال "ف": "تعلق -أي: تمسك به- كعمل ملحدي زماننا ومتفلسفة عصرنا، وفقنا الله للهدى". 2 في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون فَيَقْرَءُونَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ؛ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ من عمل الناس، قال في "الاعتصام" "2/ 31 و1/ 509 - ط ابن عفان" بعد ذكر ما تقدم: "وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده"، وقال قبل ذلك: "ومن أمثلة ذلك قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد؛ فإن هذه الهيئة زائدة على مشروعية القراءة". وانظر في بدعية ذلك أيضا: "الحوادث والبدع" "ص161"، وما سيأتي "ص497". 3 انظر ما سيأتي "ص497". 4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، 4/ 2074/ رقم 2699" عن أبي هريرة مرفوعا ضمن حديث طويل، مما فيه: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". 5 أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20577"- ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 94"، والبغوي في "شرح السنة" 4/ 64-65/ رقم 947"- وإسناده صحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما مرفوعا، وتتمته: "إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده"، وله تتمة في "الصحيحين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ دُعَاءِ الْمُؤَذِّنِينَ بِاللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية [الأنعام: 52] . وَقَوْلِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الْأَعْرَافِ: 55] . وَبِجَهْرِ قُوَّامِ اللَّيْلِ بِالْقُرْآنِ، وَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى الرَّقْصِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا بِحَدِيثِ لَعِبِ الْحَبَشَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ: "دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ" 1. وَاسْتِدْلَالُ كُلِّ مَنِ اخْتَرَعَ بِدْعَةً أَوِ اسْتَحْسَنَ مُحْدَثَةً لَمْ تَكُنْ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، بِأَنَّ السَّلَفَ اخْتَرَعُوا أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَكَتْبِ الْمُصْحَفِ، وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ، وَتَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَصْلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ2؛ فَخَلَطُوا وَغَلِطُوا، واتبعوا ما   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 950، وكتاب الجهاد، باب الدرق، 6/ 94-95/ رقم 2907"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، 2/ 609/ رقم 892 بعد 19" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا. وقال "ف" على "بني أرفدة": "هو لقب لجنس من الحبشة: يرفضون، أو هو اسم أبيهم الأقدم". 2 وكتاب "الاعتصام" للمؤلف قد أوضح الطريق لتمييز المصالح المرسلة عن البدع على وجه محكم متين، وعالج المسائل المذكورة وبين أنها ليست من البدع في أي وجه من الوجوه؛ فانظره غير مأمور، وكتب "ف" ما نصه: "وقد أسهب المؤلف في ذلك وفي معنى البدعة وأقسامها وما يرتبط بها في كتابه "الاعتصام"، وأنه لكتاب قيم جليل ينبغي الاطلاع عليه ليميز الإنسان بين البدع والمصالح المرسلة؛ فإنه مما اشتبه على كثير من الناس فخلطوا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 تَشَابَهَ مِنَ الشَّرِيعَةِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهَا، وَهُوَ كُلُّهُ خَطَأٌ عَلَى الدِّينِ، وَاتِّبَاعٌ لِسَبِيلِ الْمُلْحِدِينَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا هَذِهِ الْمَدَارِكَ، وَعَبَرُوا عَلَى1 هَذِهِ الْمَسَالِكِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَدْرَكُوا مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يفهمه الأولون، وحادوا2 عَنْ فَهْمِهَا وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الصَّوَابُ إِذِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ هُمْ كَانُوا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا إِلَّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمُحْدَثَاتُ لَمْ تَكُنْ فِيهِمْ، وَلَا عَمِلُوا بِهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَرَعَةَ بِحَالٍ، وَصَارَ عَمَلُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ دَلِيلًا إِجْمَاعِيًّا عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي استدلالاتهم3 وَعَمَلِهِمْ مُخْطِئُونَ وَمُخَالِفُونَ4 لِلسُّنَّةِ. فَيُقَالُ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ: هَلْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَنْبَطْتَ فِي عَمَلِ الْأَوَّلِينَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ -وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ- فَيُقَالُ لَهُ: أَفَكَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا تَنَبَّهْتَ لَهُ أَوْ جَاهِلِينَ بِهِ، أَمْ لَا؟ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ فَتْحٌ لِبَابِ الْفَضِيحَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِمَآخِذِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ، كَمَا كَانُوا عَارِفِينَ بِمَآخِذِ غَيْرِهَا؛ قِيلَ لَهُ: فَمَا الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى5 زَعْمِكَ حَتَّى خَالَفُوهَا إِلَى غَيْرِهَا؟ مَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى الْخَطَأِ دُونَكَ أَيُّهَا المُتَقَوِّل، وَالْبُرْهَانُ الشَّرْعِيُّ وَالْعَادِيُّ دَالٌّ عَلَى عَكْسِ الْقَضِيَّةِ، فَكُلُّ مَا جَاءَ مُخَالِفًا لما عليه السلف الصلاح؛ فَهُوَ الضَّلَالُ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مَا انْتَحَلَهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِينَ، وَإِذَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ وَوُجِدَ لَهُ فِي الْأَدِلَّةِ مَسَاغٍ؛ فَلَا مخالفة، إنما   1 في "م": "من". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو حادوا". 3 كذا في "ط" وفي غيره: "استدلالهم". 4 في "ط": "مخطئون مخالفون". 5 في "م": "عن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 الْمُخَالَفَةُ أَنْ يُعَانِدَ مَا نَقَلَ عَنْهُمْ بِضِدِّهِ، وَهُوَ الْبِدْعَةُ الْمُنْكَرَةُ، قِيلَ لَهُ: بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّ مَا سُكِتَ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا مَضَى فِيهِ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَى مُخَالَفَتِهِ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِمَا عَمِلَ بِهِ هَؤُلَاءِ مُضَادٌ لَهُ، فَمَنِ اسْتَلْحَقَهُ صَارَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تُوجَدَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ تُوجَدَ؛ فَيُشْرَعُ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ يُلَائِمُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ، وَهِيَ الْمَصَالِحُ1 الْمُرْسَلَةُ، وَهِيَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا؛ إِذْ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ؛ فَلَا يَصِحُّ إِدْخَالُ ذَلِكَ تَحْتَ جِنْسِ الْبِدَعِ. وَأَيْضًا؛ فَالْمَصَالِحُ2 الْمُرْسَلَةُ -عِنْدَ الْقَائِلِ بِهَا- لَا تَدْخُلُ فِي التَّعَبُّدَاتِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ أَصْلِ الْمِلَّةِ، وَحِيَاطَةِ أَهْلِهَا فِي تَصَرُّفَاتِهِمُ الْعَادِيَّةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ مَالِكًا وَهُوَ الْمُسْتَرْسِلُ فِي الْقَوْلِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مُشَدِّدًا فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ لَا تَقَعَ إِلَّا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِينَ؛ فَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَكَرِهَ أَشْيَاءَ، وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ الْأَدِلَّةِ لَا يَنْفِيهَا بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا تَقَيَّدَتْ مُطْلَقَاتُهَا بِالْعَمَلِ؛ فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَمَهَّدَ أَيْضًا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُطْلَقَ إِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ؛ لَمْ يَكُنْ حجة في غيره3.   1 في "ط": "المصلحة". 2 في "ط": "فالمسائل". 3 قال الآمدي في "الإحكام" [المسألة الثامنة في تخصيص العموم بفعل الرسول، 2/ 480] : "أثبته الأكثرون"، ثم قال في [باب المطلق، 3/ 3] : "كل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه، والمختلف فيه، والمزيف، والمختار، فهو بعينه جارٍ في تقييد المطلق". نقول: ولا شك أن المطلق ليس حدة في غير ما قيد به، والمسألة في ابن الحاجب أيضا في باب التخصيص. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ أَوِ الْإِذْنَ إِذَا وَقَعَ عَلَى أَمْرٍ لَهُ دَلِيلٌ مُطْلَقٌ؛ فَرَأَيْتُ الْأَوَّلِينَ قَدْ عَنَوْا1 بِهِ عَلَى وَجْهٍ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُهُمْ؛ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ يَتْبَعُهُ فِي إِعْمَالِ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ فَإِذًا لَيْسَ مَا انْتَحَلَ هَذَا الْمُخَالِفُ الْعَمَلَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ مَا أَصْلُهُ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِذًا أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ2 قَبِيلِ الْمُعَارِضِ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْأَقْدَمِينَ، وَكَفَى بِذَلِكَ مَزِلَّةُ قَدَمٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِعَمَلِ الْأَوَّلِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ فِيهَا مَا هُوَ3 خَفِيفٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَدِيدٌ، وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَسْتَدْعِي طُولًا؛ فلنَكِلْهُ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَكِنَّ الْمُخَالِفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَبْلُغَ فِي اجْتِهَادِهِ غاية الوسع4 أو لا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِ الِاجْتِهَادَ حَقَّهُ وَقَصَّرَ فِيهِ؛ فَهُوَ آثِمٌ حَسْبَمَا بَيَّنَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِ غلطا أو   1 في "م" و"ط": "عملوا". 2 في "ط": "فلم يبق إلا أن يكون من ... ". 3 قال "ف": "لعله منها ما هو ... إلخ" بدليل ما بعده، وهو ظاهر. 4 كما سبق في مسألة الوصال في الصيام من بعض الصحابة بعد ورود النهي عنه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 مُغَالَطَةً إِذْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَهْلُ الرُّتْبَةِ، وَلَا رَأَوْهُ أَهْلًا لِلدُّخُولِ مَعَهُمْ؛ فَهَذَا مَذْمُومٌ. وَقَلَّمَا تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ لِعَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَّا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ1؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ وإن اختلفوا فالأمر العام في المسائل أن يختلفوا إِلَّا فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ2، أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ [مِنْ] مَوَارِدِ الظُّنُونِ لَا ذِكْرَ لَهُمْ فِيهَا؛ فَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَافُ الْأَوَّلِينَ فِي الْعَمَلِ، وَالثَّانِي يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَرَيَانُ عَلَى مَا ورد فيه العمل. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي3؛ فَإِنَّ أَهْلَهُ لَا يَعْرِفُونَ مَا فِي مُوَافَقَةِ الْعَمَلِ مِنْ أَوْجُهِ الرُّجْحَانِ؛ فَإِنَّ مُوَافَقَتَهُ شَاهِدٌ لِلدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ، وَمُصَدِّقٌ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا يُصَدِّقُهُ الْإِجْمَاعُ؛ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِعْلِيٌّ، بِخِلَافٍ4 مَا إِذَا خَالَفَهُ؛ فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ مُوهِنَةٌ لَهُ أَوْ مكذبة.   1 لوجود التزكية والهدي الحسن في حقهم، وبعدهم عن ركوب ما لا يرتضى. 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا لَا يَخْتَلِفُونَ إلا فيما اختلف فيه الأولون"!! وعلق "د" على "اختلف" بقوله: "أي: مذهبا ورأيا، وكان عمل كل منهم جاريا على مقتضى مذهبه، هذه صورة، أو في مسألة لم تظهر للمتقدمين؛ أي: الصحابة مثلا اختلاف في المذهب، ولم يحصل استدلال كل على مذهبه، ولكن روي عنهم الاختلاف في العمل، فإذا اختلف المجتهدون بعد ذلك يكون رأي كل منهم موافقا لرأي البعض وعمله في الصورة الأولى، وموافقا للعمل في الصورة الثانية، لكن بقيت صورة ثالثة، وهي أنه قد يختلف المجتهدون في أمر لم يحصل من الصحابة رأسا عمل فيه، فضلا عن الرأي؛ فلا يأتي فيه قوله: "والثاني يلزم منه الجريان ... إلخ"؛ لأن ذلك إنما يكون فيما حصل فيه منهم عمل؛ إلا أن يقال: إنه قيد كلامه أولا بقوله: "في الأمر العام"؛ أي: إن هذا في الجملة والأغلب". 3 وهم ممن ليسوا أهلا للاجتهاد وأدخلوا أنفسهم فيه غلطا. "د". 4 هكذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "الفعلي"، ثم ذكر في الحاشية أنه في نسخته: "فعلي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ مُخَلِّصٌ لِلْأَدِلَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الْمَحَامِلِ1 الْمُقَدَّرَةِ الْمُوهِنَةِ2؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَتَى نَظَرَ فِي دَلِيلٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ احْتَاجَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، لَا يَسْتَقِيمُ إِعْمَالُ الدَّلِيلِ دُونَهَا، وَالنَّظَرُ فِي أَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَاطِعٌ لِاحْتِمَالَاتِهَا [حَتْمًا] 3، وَمُعَيِّنٌ لِنَاسِخِهَا مِنْ مَنْسُوخِهَا، وَمُبَيِّنٌ لِمُجْمَلِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ عَوْنٌ فِي سُلُوكِ سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ ظَوَاهِرَ الْأَدِلَّةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى الْأَوَّلِينَ فِيهَا مُؤَدِّيَةٌ إِلَى التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَعْنًى، وَلِأَنَّ تَعَارُضَ الظَّوَاهِرِ كَثِيرٌ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا. وَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِرْقَةً مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَلَا أَحَدًا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَحْكَامِ لَا الْفُرُوعِيَّةِ وَلَا الْأُصُولِيَّةِ يَعْجِزُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَذْهَبِهِ بِظَوَاهِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ مَرَّ مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةٌ، بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا وَرَأَيْنَا مِنَ الْفُسَّاقِ مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَسَائِلِ الْفِسْقِ بِأَدِلَّةٍ يَنْسُبُهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّهَةِ، وَفِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ ذَلِكَ أَطْرَافٌ مَا أَشْنَعَهَا4 فِي الِافْتِئَاتِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَانْظُرْ فِي مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي مِنَ الْخُمَارِ فِي "دُرَّةِ الْغَوَّاصِ"5 لِلْحَرِيرِيِّ وَأَشْبَاهِهَا، بَلْ قَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ   1 وهي الاحتمالات العشرة؛ من المجاز، والنسخ، والتعارض العقلي ... إلخ. "د". 2 في الأصل: "المكدرة". 3 سقط من "د". 4 في "ف": "ما أشنعهما". 5 جاء فيه "ص122-123 - ط ليدن" ما نصه: "حكي أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الخمار وقد علق به؛ فأعرض عن كلامه وقال: ما أنا وهذه المسألة؟ فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فسأله عن ذلك؛ فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال النبي عليه السلام: "استعينوا في الصناعات بأهلها"، والأعشى هو المشهور بهذه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 النَّصَارَى1 عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ تَحَيَّلَ؛ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ فِي التَّوْحِيدِ، {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 43] . فَلِهَذَا2 كُلِّهِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ نَاظِرٍ فِي الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ مُرَاعَاةُ مَا فَهِمَ مِنْهُ الْأَوَّلُونَ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ بِهِ؛ فَهُوَ أَحْرَى بِالصَّوَابِ، وَأَقْوَمُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلِهَذَا الْأَمْرِ سَبَبٌ نَذْكُرُهُ بِحَوْلِ الله على الاختصار، وهي:   = الصناعة في الجاهلية، وقد قال: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها ثم تلاه أبو نواس في الإسلام؛ فقال: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء فأسفر حينئذ وجه حامد بالجواب، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة؟ ". وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله عز وجل أولا، ثم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا، وبين الفتيا، وأدى المعنى وتقصى من العهدة؛ فكان خجل علي بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لما ابتدأه بالمسألة. قال "د": "ولا شك أن هذا مجون مرذول من قاضي القضاة لا يصدر إلى عن الفساق المستهترين". قلت: وحديث: "استعينوا في الصناعات بأهلها" ذكره الثعالبي في كتاب "اللطائف واللطف"، وابن النجار في "تاريخه" ضمن القصة المذكورة، وهو مما لا سند له. انظر: "الدرر المنتثرة" "رقم 81"، و"التمييز" "127"، و"كشف الخفاء" "رقم 340"، و"أسنى المطالب" "178". 1 وما زالوا يفعلون، وكتب ردا عليهم الشيخ عبد الله القلقيلي رحمه الله تعالى بعنوان: "ليس في كتاب الله ما يدل على أن المسيح ابن إله أو أنه إله"، وهو مطبوع في رسالة لطيفة. 2 هكذا في الأصول و"ط"، وفي "ف": "فهذا كله"، قال: "الأنسب: فلهذا كله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ 1: فَاعْلَمْ أَنَّ أَخْذَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ يَقَعُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤْخَذَ الدَّلِيلُ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ وَاقْتِبَاسِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحُكْمِ لِيُعْرَضَ عَلَيْهِ النَّازِلَةُ الْمَفْرُوضَةُ لِتَقَعَ فِي الْوُجُودِ عَلَى وِفَاقِ مَا أَعْطَى الدَّلِيلُ مِنَ الْحُكْمِ، أَمَّا قَبْلَ وُقُوعِهَا؛ فَبِأَنْ2 تُوقَعَ عَلَى وَفْقِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِهَا؛ فَلْيَتَلَافَى الْأَمْرَ، وَيَسْتَدْرِكِ الْخَطَأَ الْوَاقِعَ فِيهَا، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَوْ يَقْطَعُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَصْدُ الشَّارِعِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ شَأْنُ اقْتِبَاسِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُؤْخَذَ مَأْخَذَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى صِحَّةِ غَرَضِهِ فِي النَّازِلَةِ الْعَارِضَةِ، أَنْ يَظْهَرَ [فِي] 3 بَادِئِ الرَّأْيِ مُوَافَقَةُ ذَلِكَ الْغَرَضِ لِلدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَنْزِيلُ الدَّلِيلِ عَلَى وَفْقِ غَرَضِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ شَأْنُ اقْتِبَاسِ الزَّائِغِينَ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَيَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ4 الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ؛ فَلَيْسَ مَقْصُودُهُمُ الاقتباس منها، وغنما مرادجهم الْفِتْنَةُ بِهَا بِهَوَاهُمْ؛ إِذْ هُوَ السَّابِقُ الْمُعْتَبَرُ، وَأَخْذُ الْأَدِلَّةِ فِيهِ بِالتَّبَعِ لِتَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ فِي زَيْغِهِمْ، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لَيْسَ لَهُمْ هَوًى يُقَدِّمُونَهُ عَلَى أَحْكَامِ الْأَدِلَّةِ؛ فَلِذَلِكَ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ   1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 203-220". 2 في الأصل: "فإن هذا". 3 هكذا هي في الأصل، و"ط"، وفي "د" و"ف" و"م": "أن يظهر بادئ"، قال "د": "لعل الأصل بأن يظهر"، وكتب "ف": "لعله إن ظهر في بادئ الرأي الموافقة؛ أي: وبعد النظر والتمحيص يظهر نبو الدليل عن الغرض". 4 في "م": "في". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] ، فيتبرؤون إِلَى اللَّهِ مِمَّا ارْتَكَبَهُ أُولَئِكَ الزَّائِغُونَ؛ فَلِذَلِكَ صَارَ أَهْلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مُحَكِّمِينَ لِلدَّلِيلِ عَلَى أَهْوَائِهِمْ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَتْ لِتُخْرِجَ الْمُكَلَّفَ عَنْ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَأَهْلُ الْوَجْهِ الثَّانِي يُحَكِّمُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الْأَدِلَّةِ حَتَّى تَكُونَ الْأَدِلَّةُ فِي أَخْذِهِمْ لَهَا تَبَعًا، وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اقْتِضَاءُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَالِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ1: أَحَدُهُمَا: الِاقْتِضَاءُ الْأَصْلِيُّ قَبْلَ طُرُوءِ الْعَوَارِضِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مُجَرَّدًا عَنِ التَّوَابِعِ وَالْإِضَافَاتِ؛ كَالْحُكْمِ بِإِبَاحَةِ الصَّيْدِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَسَنِّ النِّكَاحِ، وَنَدْبِ الصَّدَقَاتِ غَيْرَ الزَّكَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: الِاقْتِضَاءُ التَّبَعِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مَعَ اعْتِبَارِ التَّوَابِعِ وَالْإِضَافَاتِ؛ كَالْحُكْمِ بِإِبَاحَةِ النِّكَاحِ لِمَنْ لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَوُجُوبِهِ عَلَى مَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَكَرَاهِيَةِ الصَّيْدِ لِمَنْ قَصَدَ فِيهِ اللَّهْوَ، وَكَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ حَضَرَهُ الطَّعَامُ أَوْ لِمَنْ يدافع2 الأخبثان، وبالجمة كُلُّ مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ الْأَصْلِيُّ لِاقْتِرَانِ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ. فَإِذَا تَبَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ؛ فَهَلْ يَصِحُّ الاقتصار في الاستدلال على3 الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، أَمْ لَا بُدَّ من اعتبار التوابع والإضافات حتى يقيد4 دَلِيلُ الْإِطْلَاقِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِاعْتِبَارِهَا؟ هَذَا مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَدِلُّ الدَّلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ مُفْرَدًا مُجَرَّدًا عَنِ اعتبار الواقع أو لا؛ فَإِنْ أَخَذَهُ مُجَرَّدًا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ، وَإِنَّ أَخَذَهُ5 بِقَيْدِ الْوُقُوعِ فَلَا يَصِحُّ6، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَأْخُوذَ بِقَيْدِ الْوُقُوعِ مَعْنَاهُ التَّنْزِيلُ عَلَى المناط   1 سيقول في آخر المسألة: "وإذا اعتبرت الأقضية والفتاوى في القرآن والحديث؛ وجدتها على هذا الأصل"، يعني: فالمسالة تساعدك على تنزيل ما ورد فيها من ذلك على ما تعلمه من هذا الأصل. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ويدافعه". 3 في "د": "عن". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يتقيد". 5 في الأصل: "يأخذه". 6 ليس كل ما اعتبر فيه الوقوع ينضم إليه توابع تخرجه عن الحكم الأصلي، وعليك بالنظر = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 الْمُعَيَّنِ، وَتَعْيِينُ الْمَنَاطِ مُوجَبٌ -فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّوَازِلِ- إِلَى ضَمَائِمَ وَتَقْيِيدَاتٍ لَا يَشْعُرُ الْمُكَلَّفُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ، وَإِذَا لَمْ يَشْعُرْ بِهَا لَمْ يَلْزَمْ بَيَانُهَا؛ إِذْ لَيْسَ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ، بِخِلَافِ [مَا] 1 إِذَا اقْتَرَنَ الْمَنَاطُ بِأَمْرٍ مُحْتَاجٍ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ فَلَا بُدَّ من اعتباره. فقول الله تعالى: {يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء: 95] ، لَمَّا نَزَلَتْ أَوَّلًا كَانَتْ مُقَرِّرَةً لِحُكْمٍ أَصْلِيٍّ مُنَزَّلٍ عَلَى مَنَاطٍ [أَصْلِيٍّ] 1 مِنَ الْقُدْرَةِ وَإِمْكَانِ الامتثال وهو السابع؛ فلم يتنزل2 حُكْمُ أُولِي الضَّرَرِ، وَلَمَّا اشْتَبَهَ3 ذُو الضَّرَرِ ظَنَّ أَنَّ عُمُومَ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ، يَسْتَوِي4 فِيهِ ذُو الضَّرَرِ وَغَيْرُهُ، فَخَافَ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَ الرُّخْصَةَ؛ فَنَزَلَ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} . وَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ نُوقش الْحِسَابَ؛ عُذب" 5 بناء على   = في أمثلته السابقة لتعلم منها صحة هذا، وأيضا سيقول بعد: "مُوجَبٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّوَازِلِ إِلَى ضَمَائِمَ"؛ أي: إن هناك نوازل أيضا لا ضمائم لها، وعليه، فلو أخذ الدليل معتبرا فيه الواقع الذي لا ضمائم فيه، وجعل الدليل مفردًا؛ فهو صحيح لأنه لم يختلف حكمه عن الحكم الأصلي، ولم يقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره كما قال؛ فإطلاقه عدم الصحة غير ظاهر، ألا ترى أن قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} نازل على المناط ملاحظ فيه الواقع المعتاد، وانظر قوله بعد: "فأما إن لم يكن ثم تعيين ... إلخ"، وقوله أيضا: "فإن سأل عن مناط غير معين ... إلخ". "د". 1 سقطت من "ط". 2 في "ط": "ولم ينزل". 3 في "ف": "ولما شبه"، قال: "ولعله: ولما اشتبه"، وفي "ط": "ولما تنبه". 4 هذا مبني على أن الآية بعد نزول الاستثناء أفادت أن ذوي الضرر يستوون مع المجاهدين، وليس كذلك؛ لأن الآية إنما تفيد أنهم خارجون عن هذه المقارنة، وأنهم أفضل فقط من القاعدين بغير عذر، وهذا ما فهمه ابن أم مكتوم السائل؛ فلذلك كان يذهب إلى الجهاد بعد ذلك ويقف في الصفوف. "د". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876" عن عائشة رضي الله عنها، وهو قطعة من حديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 تأصيل قاعدة أخروي، سَأَلَتْ عَائِشَةُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] ؛ لِأَنَّهُ يُشْكِلُ دُخُولُهُ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ؛ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَرْضُ لَا الْحِسَابُ الْمُنَاقَشُ فِيهِ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ" 1 إِلَخْ؛ فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ هَذِهِ الْكَرَاهِيَةِ: هَلْ هِيَ الطَّبِيعِيَّةُ2 أَمْ لَا؟ فَأَخْبَرَهَا أَنْ "لَا" وَتَبَيَّنَ مَنَاطُ الْكَرَاهِيَةِ الْمُرَادَةِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [الْبَقَرَةِ: 238] تَنْزِيلًا عَلَى الْمَنَاطِ الْمُعْتَادِ، فَلَمَّا عُرِضَ مَنَاطٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الْمَرَضُ؛ بيَّنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ3 حِينَ جُحِش شِقُّه. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ" 4، ثُمَّ لَمَّا تعين   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقائق، باب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، 11/ 357/ رقم 6507"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، 4/ 2065/ رقم 2683" عن عبادة بن الصامت مرفوعا. 2 فهمت أنه من أحب الموت أحبه الله، ومن كره الموت كرهه الله، ومعلوم أن النفس بمقتضى الفطرة تكره الموت؛ فخافت وقالت: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته؛ فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته؛ فليس شيء أكره إليه مما أمامه؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه". 3 فقد قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به ... " إلى أن قال: "وإذا قعد فاقعدوا، وصلى بهم قاعدا" الحديث متفق عليه، ومضى تخريجه "1/ 467، 523". قال "ف": "جحش: بالنباء للمجهول؛ أي: انخدش جلده، وفي الحديث أنه سقط من فرس فجحش شقه"، وقال "ماء": "جرح شقه". قلت: مضى تخريج سقوطه صلى الله عليه وسلم عن فرسه في "1/ 523". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الطلاق، باب اللعان، 9/ 439/ رقم 5304، وكتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، 10/ 436/ رقم 6005" عن سهل بن سعد مرفوعا: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا". وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 مُنَاطٌ فِيهِ نَظَرٌ؛ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ: "لَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ" 1. وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تُحْصَى، وَاسْتِقْرَاؤُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ هَذَا التَّفْصِيلِ، فَلَوْ فُرِضَ نُزُولُ حُكْمٍ عَامٍّ، ثُمَّ أَتَى كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ يَتَثَبَّتُ فِي مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعَامِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ لَكَانَ الْجَوَابُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، نَظِيرَ وَصِيَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ بِشَيْءٍ وَوَصِيَّتِهِ لِبَعْضٍ بِأَمْرٍ آخَرَ؛ كَمَا قَالَ: "قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ" 2، وَقَالَ لآخر: "لا تغضب" 3، وكما قَبِلَ من   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا، رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" عن أبي ذر. 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، 4/ 607/ رقم 2410" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "4/ 20"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، 2/ 1314/ رقم 3972"، وأحمد في "المسند" "3م 413 و4/ 384-385"، والدارمي في "السنن" "2/ 296"، والطبراني في "الكبير" "7/ 78/ رقم 6396"، وابن حبان في "الصحيح" "13/ 5/ رقم 5698، 5699"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 323/ رقم 1585"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 1، 6"، الخطيب في "التاريخ" "2/ 370 و9/ 234 و454" عن سفيان بن عبد الله الثقفي به، وهو صحيح. وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، 1/ 65/ رقم 38"، وأحمد في "المسند"3/ 413"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 222/ رقم 1584"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 16"عن سفيان بن عبد الله الثقفي؛ قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: "قل آمنت بالله، ثم استقم". 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 10/ 519 / رقم 6116" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: "لا تغضب"، فردد مرارا؛ قال: "لا تغضب". وفي "مسند أحمد" "2/ 175" ما يدل على أن السائل هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وإسناده حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 بَعْضِهِمْ جَمِيعَ مَالِهِ1، وَمِنْ بَعْضِهِمْ شَطْرَهُ2، وَرَدَّ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا أَتَى بِهِ3 بَعْدَ تَحْرِيضِهِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَى سَائِرِ الْأَمْثَالِ. فَصْلٌ وَلِتَعَيُّنِ الْمَنَاطِ مَوَاضِعُ: - مِنْهَا: الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِتَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ، كَمَا إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ أَوْ جَاءَ حَدِيثٌ عَلَى سَبَبٍ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَأْتِي بِحَسَبِهِ، وَعَلَى وَفَاقِ الْبَيَانِ التَّمَامُ فِيهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى4: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [فَتَابَ عَلَيْكُمْ] } الآية   1 وهو أبو بكر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه "ص70". 2 وهو عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه "ص70". 3 كما حصل مع أبي لباباة وكعب بن مالك رضي الله عنهما، ومضى تخريج ذلك "ص70". 4 ليست الآيتان والحديثان من المناط الخاص المفروض فيه أنه يختلف حكمه عن العام بسبب طروء عوارض؛ حتى يكون من الاقتضاء التبعي الذي يخالف حكم الأصل، ويكون الحكم فيه مقصورا عليه بحسب هذه العوارض؛ فإن إباحة مباشرة النساء ليلة الصيام ليست قاصرة علىحالة من كان يختان نفسه، بل ذلك عام، وكذا إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ليست خاصة بمن يخافون عدم العدل في اليتامى، وكذا كون الأعمال بالنيات ليس قاصرا على مسألة الهجرة، وكذا الوعيد في عدم استيعاب الغسل للأعضاء ليس قاصرا على الأعقاب، كما قال المؤلف؛ فالأحكام فيها ليست قاصرة على المناط وهو السبب، بل حكمه حكم غيره، وسيأتي له أنهما إذا لم يختلفا؛ فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص؛ فهذه الأمثلة منه، أما المناطات الخاصة المخالفة لحكم العام فقد ذكر أمثلتها قبل هذا الفصل؛ فلا يشتبه عليك المقام. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 [الْبَقَرَةِ: 187] ؛ إِذْ كَانَ نَاسٌ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ فَجَاءَتِ الْآيَةُ تُبِيحُ لَهُمْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا قَبْلُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ خِيَانَةً منهم لأنفسهم. وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ 1} الآية [النساء: 3] ؛ إِذْ نَزَلَتْ عِنْدَ وُجُودِ مَظِنَّةِ خَوْفِ أَنْ لَا يُقْسِطُوا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... " 2 الْحَدِيثَ، أَتَى فِيهِ بِتَمْثِيلِ الْهِجْرَةِ لَمَّا كَانَ هُوَ السَّبَبُ، وَقَالَ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" 3 مَعَ أَنَّ غَيْرَ الْأَعْقَابِ يُسَاوِيهَا حُكْمًا، لَكِنَّهُ كَانَ السَّبَبُ فِي الْحَدِيثِ التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين، ومع ذَلِكَ كَثِيرٌ. - وَمِنْهَا: أَنْ يُتَوَهَّمَ بَعْضُ الْمَنَاطَاتِ دَاخِلًا فِي حُكْمٍ [عَامٍّ] ، أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ4؛ فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ؛ عذب" 5.   1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة منها "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 91/ رقم 1"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907" عن عمر رضي الله عنه. 3 وردت في هذا الباب أحاديث عديدة، سردها أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الطهور" "ص374-384" تحت "باب غسل القدمين ووجوب ذلك مع العقبين، رقم 371-381"، وقد خرجتها بتفصيل وإسهاب في التعليق عليه، ولله الحمد والمنة. ومما ورد في ذلك حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 60، 69، 163"، ومسلم في "الصحيح" "1/ 214/ رقم 241" وغيرهما. 4 أي: فبين الشارع المناط، ويزيل اللبس. "د". 5 مضى تخريجه "ص293"، وهو في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وَقَوْلُهُ: "مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" 1. وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُصَلِّي: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ وقد جاء فيما نزل علي ّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [إِذَا دَعَاكُمْ] } الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 24] ؟ " 2. أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ إِذْ كَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عَلَى صَلَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ نَازِلَتَهُ الْمُعَيَّنَةَ لَا يَتَنَاوَلُهَا مَعْنَى الْآيَةِ. - وَمِنْهَا: أَنْ يَقَعَ اللَّفْظُ الْمُخَاطَبُ بِهِ مُجْمَلًا، بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الْمَقْصُودُ بِهِ ابْتِدَاءً؛ فَيَفْتَقِرُ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ الْعَمَلِ إِلَى بَيَانِهِ، وَهَذَا الْإِجْمَالُ قَدْ يَقَعُ لِعَامَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ؛ فَمِثَالُ الْعَامِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْمُنَافِقُونَ: 10] ؛ فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ؛ فَجَاءَتْ أَقْوَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالُهُ مُبَيِّنَةً لِذَلِكَ. وَمِثَالُ الْخَاصِّ3 قِصَّةُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ4 فِي فهم الخيط الأبيض من   1 مضى تخريجه "ص294" وهو في "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، هو تتمة قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ... } ، 8/ 307/ رقم 4647" عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه؛ قال: كنت أصلي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني؛ فلم آتيه حتى صليت، ثم أتيته؛ فقال: "ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ... } ... ". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 450 و4/ 211"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 2م 139"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب فاتحة الكتاب، 2/ 150/ رقم 1458"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأدب، باب ثواب القرآن، 2/ 1244/ رقم 3785". 3 فإن الإجمال كان عنده خاصة، ولم يكن مجملا عند الصحابة في الآيتين. "د". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ؛ حَتَّى نَزَلَ بِسَبَبِهِ: {مِنَ الْفَجْر} [الْبَقَرَةِ: 187] . وَقِصَّتُهُ1 فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 31] .   = لَكُمُ} ، 8/ 182/ رقم 4509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، 2/ 766-767/ رقم 1090" عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ؛ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ؛ قال له عدي ين حاتم: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار". لفظ مسلم. وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 4511"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1091" عن سهل بن سعد؛ قال: أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ} ، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما؛ فأنزل الله بعده: {مِنَ الْفَجْرِ} ؛ فعلموا أنما يعني الليل من النهار. 1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب سورة التوبة، 5/ 278/ رقم 3059"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 81"، والطبراني في "الكبير" "17/ 92/ رقم 218"، والواحدي في "الوسيط" "2/ 490-491"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 116" و"المدخل" "رقم 261"، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" "2/ 230"- المزي في "تهذيب الكمال" "ق1090" من طرق عن عدي بن حاتم؛ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي! اطرح عنك هذ الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه". قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/ 365" في تخريجه: "أخرجه الترمذي وحسنه"، ولم يحسنه الترمذي. وانظر: "تحفة الأشراف" "7/ 284"، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وَقِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ1 فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، إِلَى أَمْثَالٍ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٍ. فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ وَأَشْبَاهُهَا مِمَّا يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْمَنَاطِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَخْذِ الدَّلِيلِ عَلَى وَفْقِ الْوَاقِعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نَازِلَةٍ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَعْيِينٌ2؛ فَيَصِحُّ أَخْذُهُ عَلَى وَفْقِ الْوَاقِعِ مَفْرُوضِ الْوُقُوعِ، وَيَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ؛ فَلَا   = و"العارضة" "11/ 246". قلت: غضيف ضعيف، ضعفه الدارقطني. انظر: "الضعفاء والمتروكين" "رقم 430"، و"اللسان" "4/ 240". وللحديث شاهد أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 272"، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "السنن" "10/ 116"عن حذيفة موقوفا، وله حكم الرفع؛ كما هو مقرر في علم المصطلح، وله شاهد آخر جيد من حديث أبي العالية أخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 81". فالحديث حسن بطرقه المتعددة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه" الإيمان" "64"، وعزاه ابن كثير في "التفسير" "2/ 348" للإمام أحمد من حديث عدي، ولم أظفر به في "مسنده" "4/ 256، 377" "مسند عدي". 1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، 9/ 351/ رقم 5252"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093" عن ابن عمر؛ أنه طلق أمرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يُطلق لها النساء". لفظ مسلم. 2 وفي هذه الحالة لا يظهر فرق بين الأخذين؛ لأن فرض الوقوع المعتاد لا يغير شيئا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ تَوَابِعِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: لَا يَصِحُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ أَمْرٍ كَيْفَ1 يَحْصُلُ فِي الْوَاقِعِ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، فَإِنْ أَجَابَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ أَخْطَأَ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمَنَاطِ الْمَسْئُولِ عَنْ حُكْمِهِ، لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَنَاطٍ مُعَيَّنٍ؛ فَأَجَابَ عَنْ مَنَاطٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُعَيَّنَ يَتَنَاوَلُهُ الْمَنَاطُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ عَامٍّ، أَوْ مُقَيِّدٌ مِنْ مُطْلَقٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ الْفَرْضُ هَكَذَا2، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى مَنَاطٍ خَاصٍّ يَخْتَلِفُ مَعَ الْعَامِّ لِطُرُوءِ عَوَارِضَ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ، فَإِنْ فُرِضَ عَدَمُ اخْتِلَافِهِمَا؛ فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَقَعُ بِحَسَبِ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ. وَمَا مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِثْلُ مَنْ سَأَلَ: هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الدِّرْهَمِ3 مِنْ سِكَّةِ كَذَا بِدِرْهَمٍ3 فِي وَزْنِهِ مِنْ سِكَّةٍ أُخْرَى، أَوِ الْمَسْكُوكِ بِغَيْرِ الْمَسْكُوكِ وَهُوَ فِي وَزْنِهِ؟ فَأَجَابَهُ الْمَسْئُولُ بِأَنَّ الدِّرْهَمَ3 بِالدِّرْهَمِ3 سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ؛ فَقَدْ أَرْبَى، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ4 لَهُ جَوَابُ مَسْأَلَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ؛ إذ له أن يقول: فهل   1 أي: عن أمر له كيفية وتوابع خاصة في وقوعه، بحيث يكون مما له مناط معين. "د". 2 أي: ليس الفرض الذي نحكم فيه بالخطأ إذا لم يلاحظه في الجواب هكذا؛ اي: أي مناط خاص كائنا ما كان. "د". 3 في "ط": "الدراهم"بالجمع في الموطنين. 4 أما بالنسبة إلى الجزء الأول من السؤال؛ فإنه جواب بالعام في موضع يتعين فيه الخاص لأن قوله: "فمن زاد ... إلخ" يحتمل زاد في عدد الدراهم مع تساويها في الوزن ولو كانا من سكتين، ويحتمل أن يفهم أن اختلاف السكتين لا يقال فيه الدرهم بالدرهم؛ لأنه نوع آخر، وعلى هذين الاحتمالين لا يكون الجواب صحيحا لأنه قد يفهم منه أن اختلاف السكة أو العدد مع اتحاد الوزن يكون ربا، ويحتمل أن يكون المراد الزيادة في الوزن؛ فيكون الجواب صحيحا، ومع بقاء هذه الاحتمالات يكون الجواب غير مطابق للسؤال ولا يفيد لأنه يبقى أن يقول: ومسألتنا ما حكمها؟ وأما بالنسبة إلى الجزء الثاني؛ فهو جواب بالمباين لأن المسئول عنه غير داخل في الجواب؛ إذ غير المسكوك لا يعد درهما، فلو حذفه كان أولى، وقوله: "لكان مصيبا" يقال عليه: إن الجواب حينئذ يكون أخص من السؤال؛ لأن الدرهم أخص من مطلق الفضة، هذا إذا كان الدرهم ما هو المعروف أنه المسكوك من الفضة للتعامل به، فإذا كان المراد بالدرهم نوعا من الصنج؛ فلا يناسب كلامه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ الرِّبَا، أَمْ لَا؟ أَمَّا لَوْ سَأَلَهُ: هَلْ يَجُوزُ الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ وَهُوَ فِي وَزْنِهِ وَسِكَّتِهِ وَطِيبِهِ؟ فَأَجَابَهُ كَذَلِكَ؛ لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، لَكِنْ بِالْعَرَضِ لِعِلْمِ السَّائِلِ بِأَنَّ الدِّرْهَمَيْنِ مِثْلَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَإِذَا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ فَأَجَابَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ؛ لَكَانَ مُصِيبًا، لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى مَنَاطٍ مُطْلَقٍ، فَأَجَابَهُ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ، وَلَوْ فَصَّلَ لَهُ الْأَمْرَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ لَجَازَ، وَيُحْتَمَلُ فَرْضُ صُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُصَنِّفِينَ أَهْلِ التَّفْرِيعِ وَالْبَسْطِ لِلْمَسَائِلِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ عَظُمَتْ أَجْرَامُ الدَّوَاوِينِ، وَكَثُرَتْ أَعْدَادُ الْمَسَائِلِ؛ غَيْرَ أَنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يُجَابَ السَّائِلُ عَلَى حَدِّ سُؤَالِهِ، فَإِنْ سَأَلَ عَنْ مَنَاطٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ أُجِيبَ عَلَى وَفْقِ الِاقْتِضَاءِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنْ سَأَلَ عَنْ مُعَيَّنٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي الْوَاقِعِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَقْضِيَةَ وَالْفَتَاوَى الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَجَدَهَا عَلَى وَفْقِ هَذَا الْأَصْلِ، وبالله التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 النظر الثاني: في عوارض الأدلة الفصل الأول: في الإحكام والتشابه ... النَّظَرُ الثَّانِي: فِي عَوَارِضِ الْأَدِلَّةِ [فَيَنْحَصِرُ الْقَوْلُ فيه في خمسة فصول] 1 الفصل الْأَوَّلُ: فِي الْإِحْكَامِ وَالتَّشَابُهِ وَلَهُ مَسَائِلُ: [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] 2 الْمُحْكَمُ يُطْلَقُ بِإِطْلَاقَيْنِ: عَامٍّ، وَخَاصٍّ، فَأَمَّا الْخَاصُّ؛ فَالَّذِي يُرَادُ بِهِ خِلَافُ الْمَنْسُوخِ، وَهِيَ عِبَارَةُ عُلَمَاءِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ نَاسِخًا أَمْ لَا؛ فَيَقُولُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَأَمَّا الْعَامُّ؛ فَالَّذِي يَعْنِي بِهِ الْبَيِّنَ الْوَاضِحَ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ3؛ فَالْمُتَشَابِهُ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَنْسُوخُ، وَبِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي الَّذِي لَا يُتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ لَفْظِهِ، كَانَ مِمَّا يُدْرَكُ مِثْلُهُ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ أَمْ لَا، وَعَلَى هَذَا الثَّانِي مَدَارِكُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ] } [آلِ عِمْرَانَ: 7] . وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْمُتَشَابِهِ وَالْمُحْكَمِ بِالْمَعْنَى [الثاني] 4 ما نبه عليه الحديث   1 مكانه بياض في الأصل. 2 مكانه بياض في الأصل. 3 فهو كالمفسر في أحد استعماليه عند الأصوليين. انظر: "الحدود" "ص46، 47"، للباجي، و"تفسير القرطبي" "4/ 11"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 59-63 و13/ 143، 274، 275 و17/ 307 وما بعدها". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" 1؛ فَالْبَيِّنُ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَإِنْ كَانَتْ وُجُوهُ التَّشَابُهِ تَخْتَلِفُ2 بِحَسَبِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ؛ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى فَهْمِ3 الْمُخَاطَبِ، وَإِذَا تُؤُمِّلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ وُجِدَ الْمَنْسُوخُ وَالْمُجْمَلُ وَالظَّاهِرُ وَالْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ مُبَيِّنَاتِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، كَمَا أَنَّ النَّاسِخَ وَمَا ثَبَتَ حُكْمُهُ وَالْمُبَيَّنُ وَالْمُؤَوَّلُ وَالْمُخَصَّصُ وَالْمُقَيَّدُ دَاخِلَةٌ4 تَحْتَ مَعْنَى المحكم.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. 2 سيأتي أن الآية في التشابه الحقيقي صراحة، وظاهر أن الحديث في التشابه الإضافي، وقد يندرج فيه أيضا التشابه الواقع في المناط. "د". 3 أي: فكل منهما لا يتبين المراد به من لفظه عند المخاطب. "د". 4 أي: بعد معرفة أنه الناسخ ... إلخ، فإنه صار واضحا لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ 1: التَّشَابُهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، لَكِنَّ النَّظَرَ فِي مِقْدَارِ الْوَاقِعِ مِنْهُ: [هَلْ هُوَ] 2 قَلِيلٌ أَمْ كَثِيرٌ؟ وَالثَّابِتُ مِنْ ذَلِكَ الْقِلَّةُ لَا الْكَثْرَةُ؛ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: النَّصُّ الصَّرِيحُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ؛ فَقَوْلُهُ فِي الْمُحْكَمَاتِ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يَدُلُّ أَنَّهَا المعظم والجمهور، وأم الشيء معظمه وعامه، كما قالوا: "أم الطريق" بمعنى معظمه، و"أم الدِّمَاغِ" بِمَعْنَى الْجِلْدَةِ الْحَاوِيَةِ لَهُ الْجَامِعَةِ لِأَجْزَائِهِ ونواحيه، و"الأم" أَيْضًا الْأَصْلُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَكَّةَ: "أُمُّ الْقُرَى"؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحيت مِنْ تَحْتِهَا، وَالْمَعْنَى يَرْجِعُ3 إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا القليل.   1 لهذه المسألة والتي تليها فوائد كثيرة؛ فالغاية منها اطمئنان القلب بالقرآن، وحينئذ تسد أبواب الاحتمالات الباطلة المتناقضة حوله؛ فللمفسر أن يرد الكلام إلى أصله الأول، ويبين حكمه صرفه عن الأصل، وعليه أن يعلم الأصول الراسخة ولا يعول على غيرها، ويذكرها بقدر الحاجة، وكذلك ربما يكون التأويل الواضح الصحيح خفيا بعيدا عن الناس؛ إما لتمكن خطأ منهم، أو لعدم علمهم ببعض ما يتوقف عليه التأويل؛ فيضطر المفسر إلى دفع هذه الأمور وهو كاره، فإنه يشمئز عن ذكر الحماقات، ولكنه إن تركها لم يحسم جراثيم الباطل! مع أن ذلك متعب ومضيع للوقت؛ فإن أبواب الجهل والكذب لا تحصى. 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 لا يظهر رجوعه للأول الذي هو المعظم؛ لأن المعنى الثاني يرجع إلى أنه المنشأ الذي تفرع عليه غيره كما يؤخذ من التمثيل بأم القرى، وتعليلها بأن الأرض دحيت من تحتها، ولا يخفى أن الفرع قد يكون أكثر من الأصل، ولو قال: "والأم أيضا الأصل والعماد" كما في "القاموس"؛ لظهر رجوعه للأول، فإن الذي عليه المعتمد والمعول هو معظم الشيء وجمهوره، والنادر لا حكم له. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَوْ كَانَ كَثِيرًا لَكَانَ الِالْتِبَاسُ وَالْإِشْكَالُ كَثِيرًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ بَيَانٌ وَهُدًى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 138] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [الْبَقَرَةِ: 2] . {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ 1 لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] . وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيَرْفَعَ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمُشْكَلُ الْمُلْتَبِسُ إِنَّمَا هُوَ إِشْكَالٌ2 وَحَيْرَةٌ لَا بَيَانٌ وَهُدًى، لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا هِيَ بَيَانٌ وَهُدًى؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَلَوْلَا أَنَّ الدَّلِيلَ أَثْبَتَ أَنَّ فِيهِ مُتَشَابِهًا؛ لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِهِ، لَكِنَّ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ3 بِالْمُكَلَّفِينَ حُكْمٌ مِنْ جِهَتِهِ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَإِقْرَارُهُ كَمَا جَاءَ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا نَظَرَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ جَرَتْ لَهُ عَلَى قَانُونِ النَّظَرِ، وَاتَّسَقَتْ أَحْكَامُهَا، وَانْتَظَمَتْ أَطْرَافُهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هُودٍ: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يُونُسَ: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزُّمَرِ: 23] ، يَعْنِي: يشبه بضعه بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَآخِرُهُ أَوَّلَهُ، أَعْنِي: أوله وآخره في النزول.   1 يقتضي الاستدلال أن معنى "لتبين"؛ أي: به، فيكون بينا، ويؤكد أن غرضه ذلك سابق الكلام ولاحقه، وهو خلاف ما فسرت به الآية من أنه بيان السنة للقرآن. "د". 2 في "ف": "إشكالا"، قال: "المناسب إنما هو إشكال وخيرة لا بيان وهدى، أو إنما هو ورد إشكالا ... إلخ". 3 لعله: "لم يتعلق"، والجملة خبر، والمبتدأ قبله. "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ قَلِيلًا؟ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فُسِّرَ بِهِ آنِفًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ مِنَ الْمَنْسُوخِ وَالْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُؤَوَّلِ1 كَثِيرٌ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَحْتَوِي عَلَى تَفَاصِيلَ كَثِيرَةٍ، وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ قَالَ: "لَا عَامَّ إِلَّا مُخَصَّصٌ؛ إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الْبَقَرَةِ: 282] "2. وَإِذَا نَظَرَ الْمُتَأَمِّلُ إِلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَى التَّفْصِيلِ مَعَ قَوَاعِدِهَا الْكُلِّيَّةِ أُلْفِيَتْ لَا تَجْرِي عَلَى مَعْهُودِ الِاطِّرَادِ؛ فَالْوَاجِبَاتُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ أُوجِبَتْ عَلَى حُكْمِ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْحَاجِيَّاتُ وَالتَّكْمِيلِيَّاتُ وَالتَّحْسِينِيَّاتُ فَقَيَّدَتْهَا عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى وَأَنْحَاءٍ لَا تَنْحَصِرُ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا ذُكِرَ مَعَ الْعَامِّ. ثُمَّ إِنَّكَ لَا تَجِدَ الْمَسَائِلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَّا الْقَلِيلَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَاضِحٌ، وَأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ غَيْرُ وَاضِحٍ؛ لِأَنَّ مَثَارَ الِاخْتِلَافِ إِنَّمَا هُوَ التَّشَابُهُ يَقَعُ فِي مَنَاطِهِ، وَإِلَى هَذَا؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا فِي التَّكْلِيفِ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ أَوَّلًا فِي مَعْنَاهُ3، ثُمَّ في   1 أي: قبل معرفة ما يقتضي تأويله، وإلا؛ فبعدها يكون محكما. "د". وقال "ف": "سبق إدخاله في المحكم؛ فتأمل". 2 لم أظفر به، وهو من كلام الأصوليين، وليس بمسلم لهم؛ كما تراه في "إجابة السائل" "ص309 وما بعدها"، بل قال عنه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "6/ 442": "من أكذب الكلام وأفسده"، وفي "6/ 444": "في غاية الجهل، وإما في غاية التقصير في العبارة"، ولذا شكك المصنف في ثبوت هذا الأثر عن ابن عباس، انظر "ص312، 4/ 48". 3 أي: هل هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء، أم هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به؟ وقوله: "في صيغته"؛ أي: هل له صيغة تخصه أم لا؟ وقوله: "فيما تقتضيه"؛ أي: الوجوب، أم الندب، أم الأمر المشترك، وهل تقتضي التكرار أم لا تقتضيه، وهل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، والنهي عنه يقتضي الأمر بضده أم لا؟ "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 صِيغَتِهِ، ثُمَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ صِيغَةُ "افْعَلْ" أَوْ "لَا تَفْعَلْ" فَاخْتُلِفَ فِي مَاذَا تَقْتَضِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَكُلُّ مَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ فَرْعٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ أَوْ مختلف فيه مختلف1 فيه أيضا، إلا أن يثبت فيه تعينه2 إِلَى جِهَةٍ بِإِجْمَاعٍ، وَمَا أَعَزَّ ذَلِكَ؟ وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي يَتَلَقَّى مَعْنَاهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا تَتَخَلَّصُ إِلَّا أَنْ تَسْلَمَ [مِنَ] 3 الْقَوَادِحِ الْعَشْرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ عَسِيرٌ جِدًّا، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ؛ فَمُتَنَازَعٌ فِيهِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَ؛ فَفِي ثُبُوتِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِاتِّفَاقِ شُرُوطٍ4 كَثِيرَةٍ جِدًّا، إِذَا تَخَلَّفَ مِنْهَا شَرْطٌ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً أَوِ اخْتُلِفَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ الْعُمُومَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ابْتِدَاءً؛ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ5 مَوْجُودَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُودِهَا؛ فَلَا يُعْمَلُ مِنْهَا مَا يُعْمَلُ إِلَّا بِشُرُوطٍ تُشْتَرَطُ، وَأَوْصَافٍ تُعْتَبَرُ، وَإِلَّا؛ لَمْ يُعْتَبَرْ، أَوِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُطْلَقُ مَعَ مُقَيِّدِهِ، وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَ مُعْظَمُ الْأَدِلَّةِ غَيْرَ نُصُوصٍ بَلْ مُحْتَمِلَةً لِلتَّأْوِيلِ؛ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِنْهَا لِلنَّاظِرِ دليل يسلم بإطلاق.   1 أي: حقيقة أو حكما، حيث بنى على مختلف فيه. "د". قلت: في الأصل: "مختلفا". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "إلى أن يثبت تعيينه". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 4 فاشترط بعضهم فيه انقراض العصر، وبعضهم أن يكون المجمعون عدد التواتر، وهل لا بد له من مستند أم لا، وهل يجوز أن يكون مستنده القياس أم لا؟ وهكذا. "د". قلت: انظر ذلك في مبحث الإجماع في كتب الأصول، منها: "المحصول" "4/ 17 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "4/ 511 وما بعدها" للزركشي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 38-39، 19/ 167-168"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص316، 320 وما بعدها"، و"روضة الناظر" "2/ 450- ط الرشد"، و"المستصفى" "1/ 182"، و"الإحكام" "1/ 226" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "241". 5 أي: هل الألفاظ والصيغ التي قيل إنها للعموم؛ كمن، والذي، والنكرة في سياق النفي، وهكذا؛ هل هي موضوعة للعموم، أم هي للخصوص، أم نقول بالوقف؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 ثُمَّ أَخْبَارُ الْآحَادِ هِيَ عُمْدَةُ الشَّرِيعَةِ، وَهَى أَكْثَرُ الْأَدِلَّةِ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأَسَانِيدِ ضَعْفٌ؛ حَتَّى إِنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا حُجَّةً أَمْ لَا، وَإِذَا كَانَتْ حُجَّةً؛ فَلَهَا شُرُوطٌ أَيْضًا إِنِ اخْتَلَّتْ لَمْ تَعْمَلْ أَوِ اخْتُلِفَ فِي إِعْمَالِهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُقْتَنَصُ1 مِنْهُ الْأَحْكَامُ "الْمَفْهُومُ"، وَكُلُّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ فَلَا مَسْأَلَةَ تَتَفَرَّعُ عَنْهُ مُتَّفَقًا2 عَلَيْهِ. ثُمَّ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْقِيَاسِ أَتَى الْوَادِي بِطَمِّهِ3 عَلَى الْقُرَى بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي أَصْنَافِهِ، ثُمَّ فِي مَسَالِكِ عِلَلِهِ، ثُمَّ فِي شُرُوطِ صِحَّتِهِ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ يَسْلَمَ عن4 خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ اعْتِرَاضًا، وَمَا أَبْعَدَ هَذَا مِنَ التَّخَلُّصِ حَتَّى يَصِيرَ مُقْتَضَاهُ حُكْمًا ظَاهِرًا جَلِيًّا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ كُلَّ اسْتِدْلَالٍ شَرْعِيٍّ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا شَرْعِيَّةٌ، وَفِيهَا مِنَ النَّظَرِ مَا فِيهَا. وَمُقَدِّمَةٌ نَظَرِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَلَيْسَ كل مناط معلوما بالضرورة، وبل الْغَالِبُ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ؛ فَقَدْ صَارَ غَالِبُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ نَظَرِيَّةً، وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّ الْمَسَائِلَ النَّظَرِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَادَةً، وَهُوَ رَأْيُ الْقَاضِي أَيْضًا، وَالنَّظَرِيَّةُ غَيْرُ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِيهَا؛ فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ5 لَا دَلِيلَ فِيهِ، أَمَّا الْمُتَشَابِهُ بِحَسَبِ التَّفْسِيرِ المذكور   1 ف "ط": "يقتص". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "منه متفق". 3 يقال: طم السيل القرى؛ علاها وغلب عليها. "ف". 4 في "د": "من". 5 الوجوه التي ذكرها ترجع إلى وجهين فقط، فصل ثانيهما بثمانية مسالك للاختلاف، وقوله: "بحسب التفسير المذكور"؛ أي: وهو الذي لا يتبين معناه من لفظه، بل يحتاج إلى غيره، يعني: وأما على ما سيأتي في المسألة الثالثة في معنى المتشابه الحقيقي؛ فلا تدخل تلك الأنواع، وهذا الجواب خاص بالوجه الأول من وجهي الإشكال، وسيأتي جواب الثاني في المسألة التالية حيث يقول: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت ... إلخ". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ كُلِّهَا الَّتِي مَدَارُ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا؛ فَلَا تَشَابُهَ فِيهَا بِحَسَبِ الواقع إذ هي قد فسرت، فالعموم1 الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ قَدْ نُصِبَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، وَبُيِّنَ الْمُرَادُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لَا عَامَّ إِلَّا مُخَصَّصٌ"2؛ فَأَيُّ تَشَابُهٍ فِيهِ وَقَدْ حَصَلَ بَيَانُهُ؟ وَمِثْلُهُ سَائِرُ الْأَنْوَاعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَشَابِهًا عِنْدَ عَدَمِ بَيَانِهِ، وَالْبُرْهَانُ قَائِمٌ عَلَى الْبَيَانِ وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ قَبْلَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ لَا يَقْتَصِرُ ذُو الِاجْتِهَادِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْعَامِّ مَثَلًا حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ مُخَصِّصِهِ، وَعَلَى الْمُطْلَقِ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ له مقيد أم لا؛ إذ كَانَ حَقِيقَةُ الْبَيَانِ3 مَعَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ فَالْعَامُّ مَعَ خَاصِّهِ هُوَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ فُقِدَ الْخَاصُّ؛ صَارَ الْعَامُّ مَعَ إِرَادَةِ4 الْخُصُوصِ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ، وَصَارَ ارْتِفَاعُهُ5 زَيْغًا وَانْحِرَافًا عَنِ الصواب.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالعموم". 2 في صحته عن ابن عباس نظر، ولم أظفر به مسندا عنه، وانظر ما علقناه على "ص309". 3 الأنسب حذف كلمة مع "ف". 4 أي: وهذا غير موجود في الشريعة؛ فلا عام أريد به الخصوص وفقد فيه مخصصه، بل لا بد من قيام دليل الخصوص. "د". 5 أي: إهمال المخصص وعدم الأخذ به مع وجوده في الشريعة؛ لأن الدليل الشرعي هو مجموع العام ومخصصه؛ فالأخذ بالعام وحده زيغ. "د". قلت: قال المصنف في "الاعتصام" "1/ 245-246": "من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل: هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس، بأن يكون النص مقيدا فيطلق، أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه؛ فإن هذا المسلك رمي في عماية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيد؛ صار واضحا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وَلِأَجْلِ ذَلِكَ عُدَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ؛ حَيْثُ اتَّبَعُوا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فُصِّلَتْ: 40] . وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْفِ: 29] . وَتَرَكُوا مُبَيِّنَهُ وَهُوَ1 [قَوْلُهُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التَّكْوِيرِ: 29] ، وَاتَّبَعَ الْخَوَارِجُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} [يُوسُفَ: 40] ، وَتَرَكُوا مُبَيِّنَهُ وَهُوَ] قَوْلُهُ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [الْمَائِدَةِ: 95] . وَقَوْلِهِ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النِّسَاءِ: 35] . وَاتَّبَعَ الْجَبْرِيَّةُ نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] , وَتَرَكُوا بَيَانَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التَّوْبَةِ: 82 وَ95] وَمَا أَشْبَهَهُ. وَهَكَذَا سَائِرُ مَنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الْأَطْرَافَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِيمَا وَرَاءَهَا، وَلَوْ جمعوا   1 غير مفهوم أن تكون الآيتان في التحكيم بيانا لآيتي نسبة الفعل للخلق مربوطا بمشيئتهم، وفي "الاعتصام [1/ 303 - ط ابن عفان] في نفس هذا الموضوع أن الآيتين في التحكيم يردان على الخوارج في إنكارهم التحكيم على علي رضي الله عنه، استدلالا منهم بآية: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} ، أما آيتا نسبة الفعل؛ ففي تهذيب الكلام أن مما يرد على المعتزلة في ذلك آية: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، وعليه؛ فيتعين أن يكون قد سقط من الكلام. 1- الآية التي بينت آيتي نسبة الفعل. و2- رأي الخوارج، و3- استدلالهم بآية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} . فتكون آيتا التحكيم المذكورتان في الكتاب مبينتين لما في هذه الآية الأخيرة، وسيأتي في المسألة الثامنة من الطرف الثاني من الأدلة ما يؤيد ما كتبناه هنا، وسيأتي أيضا في المسألة الثالثة من فصل الأحكام والنسخ ما لو انضم إلى هذا عين الجمل الساقطة هنا، وانظر قوله في المسألة بعد هذه: "ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة الخوارج وغيرهم"، مع أن النسخة هنا ليس فيها ذكر الخوارج. "د". قلت: وانفردت "ط" بذكرهم، وما بين المعقوفتين منها فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 بَيْنَ ذَلِكَ وَوَصَلُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ؛ لَوَصَلُوا إِلَى الْمَقْصُودِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْبَيَانُ مُقْتَرِنٌ بِالْمُبَيَّنِ، فَإِذَا أُخِذَ الْمُبَيَّنُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ صَارَ مُتَشَابِهًا وَلَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا، بَلِ الزَّائِغُونَ أَدْخَلُوا فِيهِ التَّشَابُهَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَضَلُّوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَبَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى يَتَقَرَّرُ بِفَرْضِ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْوَاقِعَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ1: أَحَدُهُمَا حَقِيقِيٌّ. وَالْآخَرُ إِضَافِيٌّ. وَهَذَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهَا نَفْسِهَا، وَثَمَّ ضَرْبٌ آخَرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَنَاطِ الَّذِي تَتَنَزَّلُ2 عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَنَا سَبِيلٌ إِلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ، وَلَا نُصِبَ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، فَإِذَا نَظَرَ الْمُجْتَهِدُ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَتَقَصَّاهَا وَجَمَعَ أَطْرَافَهَا؛ لَمْ يَجِدْ فِيهَا مَا يُحكم لَهُ مَعْنَاهُ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ وَمَغْزَاهُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ قَلِيلٌ لَا كَثِيرٌ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ السَّابِقَةُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ سِوَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي فَصْلِ الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ، وَفِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا نَزَلَتْ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، حِينَ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3.   1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 143-147 و17/ 307-308، 372-373، 380، 418-426"، و"الاعتصام" "1/ 221"، و"إيثار الحق" "ص93-101"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 62-63"، و"التكميل في أصول التأويل" للفراهي "ص23-29"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص195 وما بعدها" للكافيجي. 2 في "ط": "تنزل". 3 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "3/ 177" بإسناد ضعيف، وضعفه ابن حجر في "الفتح" "8/ 210"؛ إذ ذكر قولا آخر في سبب نزولها ورجحه. وأورد الزمخشري في "الكشاف" نحوه، وقال الزيلعي في "تخريجه" "1/ 369": "عزاه الواحدي في "أسباب النزول" للكلبي". وانظر ما مضى "ص211". وانظر الثابت عنه -صلى الله عليه وسلم- في وفد نجران في "تاريخ المدينة" لابن شبة "2/ 580 وما بعدها". وما بين المعقوفتين سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1 بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْهُمْ جُمْلَةً وَوَصَفَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ مَعَ اخْتِلَافٍ مِنْ أَمْرِهِمْ -يُرِيدُ فِي شَأْنِ عِيسَى-: "يَقُولُونَ: هُوَ اللَّهُ؛ لأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الْأَسْقَامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطير ثم ينفخ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا، وَيَقُولُونَ: هُوَ وَلَدُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ بِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ وَلَدُ2 آدَمَ قَبْلَهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ فَعَلْنَا، وَأَمَرْنَا، وَخَلَقْنَا، وَقَضَيْنَا، وَلَوْ3 كَانَ وَاحِدًا؛ لَمَا قَالَ إِلَّا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ، وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى وَمَرْيَمَ". قَالَ: "فَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ4 قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، يَعْنِي صَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 64] ؛ فَفِي الْحِكَايَةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ أَنَّهُمْ5 مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَاسُوهُ بِالْعَبِيدِ؛ فَنَسَبُوا لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَأَثْبَتُوا لِلْمَخْلُوقِ ما لا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْخَالِقِ، وَنَفَوْا عَنِ الْخَالِقِ الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ إِنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا لا يليق به فيم يَفْعَلُوا، بَلْ حَكَمُوا عَلَى الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ بِمُقْتَضَى   1 في "سيرته" "2/ 164 - مع "سيرة ابن هشام - ط دار الخير". 2 في "سيرة ابن هشام": " ... يصنعه أحد من ولد ... ". 3 في "ط": "فيقولون: لو ... ". 4 في "سيرة ابن هشام": "من قولهم". 5 أي: فليس الفرض أن ما تكلموا فيه من المتشابه؛ لأن المباحث المذكورة عنهم في عيسى، إنما هي من المحكم في آياتها التي وردت فيها؛ لا يوجد فيها اشتباه، ولكن في الموضوع اتباع أهوائهم مبررين لها بهذه الخيالات الفاسدة، وهي أشبه بما يصنعه الذين يتبعون أهواءهم في تفسير الآيات المتشابهة، ولذلك قال: "وفي نحو من هذا نزلت آية ... إلخ"، ولم يقل: وفيه نزلت. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 آرَائِهِمْ، فَزَاغُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْإِضَافِيُّ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي صَرِيحِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى دَاخِلًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُتَشَابِهًا مِنْ حَيْثُ وُضِعَ فِي الشَّرِيعَةِ1 مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ بَيَانُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ النَّاظِرَ قَصَّرَ فِي الِاجْتِهَادِ أَوْ زَاغَ عَنْ طَرِيقِ الْبَيَانِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ الِاشْتِبَاهُ إِلَى الْأَدِلَّةِ2، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى النَّاظِرِينَ التَّقْصِيرُ أَوِ الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ الْأَدِلَّةِ؛ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْمُتَشَابِهِ لأنه إِذَا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ حُصُولِ الْبَيَانِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ مَعَ عَدَمِهِ؟ فَلِهَذَا قِيلَ إِنَّهُمْ دَاخِلُونَ بِالْمَعْنَى فِي حُكْمِ الْآيَةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِثْلُهُ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ؛ قَالَ: "سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ جَابِرَ بْنَ يَزِيدَ الْجُعْفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يُوسُفَ: 80] ؛ فَقَالَ جَابِرٌ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَكَذَبَ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: فَقُلْنَا لِسُفْيَانَ: مَا أَرَادَ بِهَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّافِضَةَ تَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ؛ فَلَا يَخْرُجُ -يَعْنِي مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ وَلَدِهِ- حَتَّى يُنَادِيَ منادٍ مِنَ السَّمَاءِ -يُرِيدُ3 عَلِيًّا أَنَّهُ يُنَادِي-: اخْرُجُوا مَعَ فُلَانٍ! يَقُولُ جَابِرٌ: فَذَا تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَبَ، كَانَتْ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ"4. فَهَذِهِ الْآيَةُ أمرها واضح، ومعناه ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، كَمَا دَلَّ الْخَاصُّ عَلَى مَعْنَى الْعَامِّ، وَدَلَّ الْمُقَيَّدُ عَلَى مَعْنَى الْمُطْلَقُ، فَلَمَّا قَطَعَ   1 في "ط": "الشرع". 2 وإن كان الاشتباه حصل فيها بأحد هذين السببين، بخلاف القسم الثالث؛ فالدليل فيه مفهوم لا أثر للاشتباه فيه، وإنما الاشتباه في التطبيق. "د". 3 في الأصول كلها و"ط": "تريد"، وما أثبتناه من مصدر تخريجه. 4 أخرجه مسلم في "مقدمة صحيحه" "1/ 20-21". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 جابر الآية عما قبلها ما بَعْدَهَا، كَمَا قَطَعَ غَيْرُهُ الْخَاصَّ عَنِ الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدَ عَنِ الْمُطْلَقِ؛ صَارَ الْمَوْضِعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ؛ فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّوَقُّفُ، لَكِنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ هَوَاهُ فَزَاغَ عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَالتَّشَابُهُ فِيهِ لَيْسَ بِعَائِدٍ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنَاطِ الْأَدِلَّةِ؛ فَالنَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَاضِحٌ، وَالْإِذْنُ فِي أَكْلِ الذَّكِيَّةِ كَذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بِالذَّكِيَّةِ؛ حَصَلَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْمَأْكُولِ لَا فِي الدَّلِيلِ عَلَى تَحْلِيلِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ، لَكِنْ جَاءَ الدَّلِيلُ الْمُقْتَضِي لِحُكْمِهِ فِي اشْتِبَاهِهِ، وَهُوَ الِاتِّقَاءُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ لَا تَشَابُهَ فِيهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا دَخَلَ فِي هَذَا النَّوْعِ، مِمَّا يَكُونُ مَحَلُّ الِاشْتِبَاهِ فِيهِ الْمَنَاطَ لَا نَفْسَ الدَّلِيلِ؛ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ1. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ بَاقِي2 السُّؤَالِ، فَنَقُولُ: قَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّشَابُهَ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الْأَدِلَّةِ مَعَ مَا يُعَارِضُهَا كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ قَلِيلٌ، وَأَنَّ مَا عُدَّ مِنْهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْهُ التَّشَابُهُ الْحَقِيقِيُّ خَاصَّةً. وَأَمَّا مَسَائِلُ الْخِلَافِ وَإِنْ كَثُرَتْ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ فِيهَا مَا هُوَ مِنْهَا وَهُوَ نَادِرٌ؛ كَالْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِيمَا أَمْسَكَ عنه السلف الصالح فلم   1 في نسختي "ف" و"م" زيادة: "أ. هـ"! ولم يسبق أن المصنف أشار إلى نقل حتى تثبت إشارة الانتهاء، وفي "ط": "مقتضي حكمه في اشتباهه ... ". 2 وهو الخاص بمسائل الخلاف، وقوله: "ظهر مما تقدم" هذا كتمهيد لربط أطراف المقام بعضها ببعض، وكفذلكته على الجواب عن الشق الأول من السؤال لإحضار المقام كله لدى السامع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 يَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِغَيْرِ التَّسْلِيمِ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِغَيْبَةِ الْمَحْجُوبِ أَمْرُهُ عَنِ الْعِبَادِ؛ كَمَسَائِلِ الِاسْتِوَاءِ، وَالنُّزُولِ، وَالضَّحِكِ، وَالْيَدِ، وَالْقَدَمِ، وَالْوَجْهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَحِينَ سَلَكَ الْأَوَّلُونَ فِيهَا مَسْلَكَ التَّسْلِيمِ وَتُرِكَ الْخَوْضُ فِي مَعَانِيهَا1؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ فِيهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يُحَاطُ بِهِ جَهْلٌ، وَلَا تَكْلِيفَ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ تَشَابُهِ أَدِلَّتِهَا؛ فَإِنَّ الْبُرْهَانَ قَدْ دَلَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ جِهَةِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِي مَخَارِجِهَا2 وَمَنَاطَاتِهَا، وَالْمُجْتَهِدُ لَا تَجِبِ إِصَابَتُهُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ3، بَلْ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ بِمِقْدَارِ وُسْعِهِ، وَالْأَنْظَارُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالتَّبَحُّرِ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ؛ فَلِكُلٍّ مَأْخَذٌ يَجْرِي عَلَيْهِ، وَطَرِيقٌ يَسْلُكُهُ بِحَسَبِهِ لَا بِحَسَبِ4 مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَخَرَجَ الْمَنْصُوصُ5 مِنَ الْأَدِلَّةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهًا   1 بل أثبتوا معانيها، وتركوا الخوض في كيفياتها، وانظر لزاما: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 54-59 و6/ 35 و16/ 390-401"، و"الرسالة التدمرية" "2/ 144 وما بعدها - مع التحفة المهدية"، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص77"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص67 وما بعدها". نعم، من أطلق التشابه عليها مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها؛ فهذا قد يسوغ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، انظر: "منهج ودراسات لآيات الصفات" "ص23، 24" للشنقيطي، وتعليقنا المتقدم "2/ 195، 257"، والآتي على "ص323-326". 2 أي: فيما يخرج عليه الدليل ويحمل عليه معناه؛ فعطف المناطات عليه مغاير ليصح قوله: "وإنما قصاراه ... إلخ"، ويكون قوله: "إلى التشابه الإضافي وهو الثاني" راجعا إلى قوله مخارجها، وقوله: "أو إلى التشابه الثالث" راجعا إلى قوله ومناطاتها. "د". 3 أي: إن قلنا: إن لله حكما في نفس الأمر في كل مسألة، وهو رأي المخطئة، فإن قلنا: إن حكم الله في كل مسالة هو ما وصل إليه المجتهد بعد بذل وسعه؛ فيكون الأمر أظهر. "د". 4 في الأصل: "لا في حسب". 5 قد يفهم من التقييد أن هذا الجواب إنما يفيد في أدلة الكتاب والسنة وقد يلحق بهما الإجماع الناشئ عنهما، أما القياس وما ينشأ عنه من إجماع؛ فلا يخرج عن التشابه، وربما أيد ذلك قوله فيما سبق: "ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى ... إلخ"، ولكنا لا نأخذ بهذا الفهم؛ لأنه مهما كانت إشكالات القياس لا تزيد عن أن تصير إلى التشابه الإضافي أو الضر الثالث كغيره من الأدلة الشرعية. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا قُصَارَاهُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى التَّشَابُهِ الْإِضَافِيِّ وَهُوَ الثَّانِي، أَوْ إِلَى التَّشَابُهِ الثَّالِثِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ تَأْخُذُ كُلَّ عَالِمٍ فِي نَفْسِهِ وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ؛ فَلَا تَجِدُ عِنْدَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالنُّصُوصِ الْمُجْمَلَةِ إِلَّا النَّادِرَ الْقَلِيلَ1 لِأَنَّهُ أَخَذَ الشَّرِيعَةَ مَأْخَذًا اطَّرَدَتْ لَهُ فِيهِ، وَاسْتَمَرَّتْ أَدِلَّتُهَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَلَوْ كَانَ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِي الْمَسَائِلِ يَسْتَلْزِمُ تَشَابُهَ أَدِلَّتِهَا؛ لَتَشَابَهَتْ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهَا بِالْبَيَانِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَالْأَمْرُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ مُجْتَهِدٍ إِلَّا وَهُوَ مُقِرٌّ بِوُضُوحِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَإِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِهَا، وَمُعْتَرِفٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِيهِ؛ فَيَسْتَقْرِئُ مِنْ هَذَا إجماع عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ فِي الشَّرِيعَةِ قَلِيلٌ؛ وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِكَثْرَةِ الْخِلَافِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ كُلَّ خِلَافٍ وَاقِعٍ لَا يَسْتَمِرُّ أَنْ يُعَدَّ فِي الْخِلَافِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفِرَقَ الْخَارِجَةَ عَنِ السُّنَّةِ حِينَ لَمْ تَجْمَعْ2 بَيْنَ أَطْرَافِ الْأَدِلَّةِ تَشَابَهَتْ عَلَيْهَا الْمَآخِذُ فَضَلَّتْ، وَمَا ضَلَّتْ إِلَّا وَهَى غَيْرُ مُعْتَبِرَةِ الْقَوْلِ فِيمَا ضلت فيه؛ فخلافها لا يعد خلاف، وَهَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَاهَا فِي الْخُرُوجِ عَنِ الجادة، وإلى   1 فهذا النوع من المتشابه نسبي؛ فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، كما أن الملائكة يعلمون من أخبار الغيب ما يكون متشابها عند بني آدم، أفاده ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "17/ 380". 2 في "ط": "تجتمع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مِنَ الْخِلَافِ مَا هُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْوِفَاقِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ1 فِي كتاب الاجتهاد؛ فيسقط2 بِسَبَبِهِ كَثِيرٌ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْخِلَافِ، وَإِذَا رُوجِعَ مَا هُنَالِكَ تَبَيَّنَ مِنْهُ هَذَا الْمَقْصِدُ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ فِي عِلْمِ3 الشَّرِيعَةِ قَدْ أُدْخِلَ4 فِيهَا وَصَارَ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَلَوْ فُرِضَ رَفْعُهُ مِنَ الْوُجُودِ رَأْسًا؛ لَمَا اخْتَلَّ مِمَّا يَحْتَاجُ إليه في الشريعة شيء بِدَلِيلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي فَهْمِهَا -دَعِ الْعَرَبَ الْمَحْفُوظَةَ اللِّسَانِ كَالصَّحَابَةِ وَمَنْ يليهم من غيرهم-، وبل مَنْ وُلِدَ بَعْدَ مَا فَسَدَ اللِّسَانُ فَاحْتَاجَ إِلَى عِلْمِ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حنيفة، ومن قبلهم أو بعدهم من أمثالهم5؛ فَلَمَّا دَخَلَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ وَقَعَ الْخِلَافُ بِسَبَبِهَا، وَلَوْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْخِلَافُ6. وَمَنِ اسْتَقْرَأَ مَسَائِلَ الشَّرِيعَةِ وَجَدَ مِنْهَا فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ تِلْكَ الطَّبَقَةِ كَثِيرًا، وَقَدْ مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنَ الْعُلُومِ الْمُعِينَةِ لَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ، فَإِذَا جَمَعْتَ هَذِهِ الْأَطْرَافَ؛ تَبَيَّنَ مِنْهَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ قَلِيلٌ، وَأَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الْأَمْرُ العام الغالب.   1 سيأتي في المسألة الحادية عشرة وما بعدها مباحث ذاخرة بالفوائد في هذا الموضوع. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فسقط". 3 في "ط": "علوم". 4 أي: قد أدخل في علم الشريعة -بعدما احتاج إليه هؤلاء المجتهدون وأمثالهم- شيء كثير وقع فيه خلاف، لا حاجة إلى علم الشريعة به، وقد حسب عليها وعد من الخلاف فيها، وأنت إذا رجعت لمسالك الخلاف الثمانية التي أشار إليها سابقا تحققت صحة ما يقول. "د". 5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وأمثالهم". 6 قال الشافعي: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"، نقله السيوطي في "صون المنطق" "ص15"، وقال "ص22": "وقد وجدت السلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أن سبب الابتداع الجهل بلسان العرب". قلت: "من ذلك قول الحسن البصري في بعض المبتدعة: "أهلكتهم العجمة" كما في "التاريخ الكبير" "5/ 93" للبخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّشَابُهُ1 لَا يَقَعُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِقْرَاءُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ2. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُصُولَ لَوْ دَخَلَهَا التَّشَابُهُ؛ لَكَانَ أَكْثَرُ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ؛ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ، وَيَفْسُدُ بِفَسَادِهِ، وَيَتَّضِحُ بِاتِّضَاحِهِ، وَيَخْفَى بِخَفَائِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ مُثْبَتٌ3 فِي الْفَرْعِ؛ إِذْ كُلُّ فَرْعٍ فِيهِ مَا فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْفُرُوعَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمُتَشَابِهَةِ مُتَشَابِهَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الأصول منوط بعضها4 ببعض في   1 أي: الحقيقي الذي ظهر من تحقيقه في المسألة قبلها أنه قليل، وكما سيشير إليه في آخر المسألة، وعلى كل حال؛ هذا بحث آخر غير تشابه نفس الآيات. "د". 2 قال "ف": "الأنسب: استقراء أن الأمر كذلك". 3 هكذا في "د"، وفي الأصل وفي "ف": "مثبوت"، وفي "ط": مبثوث". 4 أي: فكثيرا ما يتوقف التفريع على أصل على ملاحظة أصل آخر، فإذا كان في هذه الأصول متشابه؛ فكل ما تفرع عليه مباشرة أو بتوقف أصل عليه؛ فإنه يكون متشابها، فيسري التشابه إلى الفروع التي انبنت على المتشابه أو إلى الأصول الأخرى التي ترتبط بهذا الأصل المتشابه، ومعلوم أن هذا كثير جدا؛ فيكون أكثر الفروع متشابها، فقوله: "لزم سريانه في جميعها"؛ أي: جميع فروع الأصول التي نيط التفريع عليها بهذا الأصل المتشابه، وليس المراد جميع فروع الشريعة؛ لأنه: أولا: لا يوافق مدعاه من أن الأكثر يكون متشابهًا. وثانيًا: لأنه ليس من المسلم أن جميع الفروع يلزم أن تبنى على أصل متشابه مباشرة أو بالواسطة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا، فَلَوْ وَقَعَ فِي أَصْلٍ مِنَ الأصول اشتباه؛ لزم سريانه في سائرها1؛ فَلَا يَكُونُ الْمُحْكَمُ أُمَّ الْكِتَابِ، لَكِنَّهُ كَذَلِكَ؛ فَدَلَّ2 عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الزَّائِغِينَ عَنِ الْحَقِّ إِنَّمَا زَاغُوا فِي الْأُصُولِ لَا فِي الْفُرُوعِ، وَلَوْ كَانَ زَيْغُهُمْ فِي الْفُرُوعِ؛ لَكَانَ الْأَمْرُ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُصُولِ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ، كَانَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ الْكُلِّيَّةِ لَا الْجُزْئِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّشَابُهَ وَقَعَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا [وَقَعَ] 3 فِي فُرُوعِهَا؛ فَالْآيَاتُ الْمُوهِمَةُ لِلتَّشْبِيهِ وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ مِثْلُهَا4 فَرُوعٌ عن أصل التنزيه الذي هو   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "جميعها". 2 لا يخفى ما في هذا البيان من الخطابة. "ف". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 4 دندن المصنف على المتشابه، ثم تكلم على الصفات، ثم ألمح في قوله هذا أن آيات وأحاديث الصفات من المتشابه. وصرح الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" "16/ 218" أن الصفات من باب المتشابه، ونقل ذلك عن الغزالي في "المستصفى، وأقره عليه؛ فقال في مبحث المتشابه: "ويطلق على ما ورد في صفات الله تعالى مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه، ويحتاج إلى تأويل". وهذا هو القول بتفويض المعنى الذي جنح إليه، بل صرح به النووي في "شرحه" أكثر من مرة، وسبق أن أشرنا إلى أن السلف الصالح كفوا عن الخوض في البحث في كيفية الصفة الواردة في الآية القرآنية أو الحديث النبوي، وقالوا كلمات في معانيها لها معان مفهومة وصحيحة، ولا يليق أن يكون مذهبهم فيها أن تكون آيات الصفات بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم أحد معناه؛ فإنهم رحمهم الله تكلموا في جميع آيات الصفات، وفسروها بما يوافق معناها ودلالتها، ولم يسكتوا عن بيان معنى آية ما، سواء في ذلك المحكم والمتشابه. وهنا لا بد لنا من كلمة عن المحكم والمتشابه، وهل الراسخون في العلم يعلمون معنى = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 .........................................................   = المتشابه أم يفوضون العلم فيه إلى الله؟ وبمعنى آخر: هل الوقوف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] لازم، وما معنى التأويل فيها؟ يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن التأويل المذكور في الآية هو معرفة الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ورأى آخرون أن التأويل الوارد فيها بمعنى المآل والعاقبة، وشاركوا شيخ الإسلام في القول بالوقف المذكور؛ لأن الراسخين في العلم لا يعلمون مآل أخبار القرآن وعواقب أمره على سبيل التفصيل والتحديد والكنه والحقيقة، وهذا قريب من قول شيخ الإسلام؛ إذ هذه الأمور من الغيب الذي استأثر الله به، بينما رأى فريق ثالث أن التأويل مستعمل عند السلف بمعنى التفسير والبيان؛ فقال هؤلاء بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وكلا الفريقين مصيب فيما ذهب إليه؛ لأن أصحاب القول بالوقف على لفظ الجلالة يستبعدون أن يكون هناك بشر يشارك الله في علم غيوبه، وأصحاب القول بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يستبعدون أن يكون تفسير القرآن وبيان معناه لا يعلمه إلا الله، في الوقت الذي أنزل فيه ليفهم ويتدبر. ولم يقف فريق آخر من علماء الكلام والفقه والتفسير على مأخذ كل رأي من الآراء المذكورة، وعلى الأصل الذي بنوا عليه رأيهم، ووجدوا بين أيديهم روايات مختلفة عن السلف، كل يختار رأيًا في الوقف؛ فصوروا أن في المسألة نزاعًا وخلافًا بين السلف، وليس الأمر على التحقيق كذلك، وكان عليهم أن يمعنوا النظر أكثر وأكثر؛ فإن المسألة ليست محل نزاع لو عرف مأخذ كل رأي وأصل كل قول؛ فإن جميع الأقوال التي رويت على أن الوقف على لفظ الجلالة محمولة على أن المراد بالتأويل في الآية عواقب أخبار القرآن ومصائرها، وجميع ما روي على أن الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} محمول على أن التأويل المذكور هو التفسير والبيان. وبهذا يزول الإشكال والاشتباه الذي نشأ بين المتأخرين لعدم تفرقتهم بين معنى الآية وبين تأويلها، وعدم إدراكهم ما قد يترتب على إهمال التفرقة بين المعنيين من آراء ربما قد احتجموا عنها لو تنبهوا إلى ذلك. تعرض السلفيون -وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لهذه المشكلة التي فرقت كلمة العلماء، ووضعوا أيديهم على بدايتها متعمقين في أسبابها، باحثين عن نتائجها، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 ......................................................   = متسائلين: هل يجوز عقلا أن يتكلم الله بكلام لا معنى له عند المخاطب، وهل يجوز كذلك أن يقول الرسول لأمته: إن ربكم قد خاطبكم بكلام لا يعلم معناه إلا هو، وهل يجوز أن يقول لهم: إن القرآن أنزل ليتدبر في الوقت الذي لا يعلم معناه إلا الله؟ إن المشكلة تزداد خطورة خصوصًا في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية حين يرى أن وظيفة الرسول هي البلاغ الموصوف بأنه {بَلاغٌ مُبِينٌ} ، وأن وظيفة القرآن أنه أنزل: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} ، ثم يكون الرسول نفسه لا يفهم معنى ما تكلم به بدعوى أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وبدعوى أن الصفات من المتشابه. لعل هذه المشكلة كانت سببًا في أن ابن تيمية قد خصص حياته لخدمتها من قريب ومن بعيد؛ فهو إن خاض غمار الفلسفة أو علم الكلام، أو ناقش الفقهاء والصوفية؛ فسلاحه في كل ميدان هو آيات الكتاب، أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح؛ لأنه ليس هناك آية لا معنى لها، أو مصروفة عن ظاهرها، بل كل آيات القرآن واضحة في معناها، وليس هناك لبس ولا خفاء، ولقد تتبع ابن تيمية أقوال السلف تتبع الخبير بمصادرها، واضعًا أدلة هؤلاء وهؤلاء أمام النصوص؛ فظهر له الغث من السمين، والصحيح من الخطأ، والسليم من السقيم. وفي القول السابق ادعاء أنه يوجد في ظاهر النصوص ما يوهم التشبيه، وهذا ليس بصحيح، والخلاصة أنه ما من قول يدعي أن هذه الآية أو تلك من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله؛ إلا وقد تكلم السلف في بيان معناها، حتى من أطلق المتشابه على نصوص الصفات مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها التي هي عليها، فهذا يسوغ أن يسمى متشابها؛ لأن حقائق الصفات وما هي عليه من الكيفيات لا يعلمه إلا الله، وهذا هو تفويض الكيفية الذي يقول به السلف؛ إلا أننا على الرغم من ذلك نعلم معنى الاسم والصفة؛ فنعلم معنى سميع وبصير وعليم، ومعنى السمع والبصر والعلم، ونعلم معنى أن له يدين ووجها، كل هذا ونحوه نعلم معناه بمقتضى لغة التخاطب، ولا يقتضي علمنا بمعاني هذه النصوص أن تكون مثل ما في الشاهد من سمع المخلوق وبصره وعلمه ويديه ووجهه، ومع هذا كله؛ فلا ينبغي إطلاق لفظ المتشابه على الصفات لأجل هذا إلا به، ولهذا لم يؤثر عن السلف إطلاقه عليها. وكذا إذا تتبعنا أقوال العلماء في معنى المتشابه؛ فلا نجد رأيًا إلا وقد بين السلف معناه ووضحوه، فإذا جعلنا المتشابه هو المنسوخ كما روي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، كَمَا أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ وَتَشَابُهَهَا وَاقِعٌ ذَلِكَ فِي بَعْضِ فُرُوعٍ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، بَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي التَّشَابُهِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَنَاطِ؛ فَإِنَّ الْإِشْكَالَ الْحَاصِلَ فِي الذَّكِيَّةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالْمَيْتَةِ مِنْ بَعْضِ فُرُوعِ أَصْلِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْمَنَاطَاتِ البينة، وهي الأكثر، فإذا اعتبر هذا   = وغيرهم؛ علمنا يقينا أن العلماء يعلمون معنى المتشابه لأنهم يعلمون معنى المنسوخ، سواء كان منسوخا لفظه أو لفظه ومعناه، وهذا يدل على كذب من قال عن ابن عباس وابن مسعود أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه. وإذا جعلنا المتشابه أخبار القيامة وما فيها؛ فمعلوم بين المسلمين أن وقت قيام الساعة وحقيقة أمرها لا يعلمه إلا الله، لكن ذلك لا يدل على أننا لم نفهم معنى الخطاب الذي خوطبنا به في ذلك، والفرق واضح بين معرفة الخبر وبين حقيقة المخبر عنه. وإذا جعلنا المتشابهات أوائل السور المفتتحة بحروف المعجم؛ فهذه الحروف ليست كلاما تاما مكونا من الجمل الاسمية والفعلية، ولهذا؛ فلا تعرف لأن الإعراب جزء من المعنى، بل ينطق بها موقوفة كما يقال: أب ت، ولهذا تكتب في صورة الحروف المقطعة لا بصورة اسم الحرف. يقول ابن تيمية: "فإذا كان على هذا كل ما سوى هذه محكمًا حصل المقصود؛ فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله. وانظر موقف شيخ الإسلام من المتشابه ورده على مفوضة المعنى في: "تفسير سورة الإخلاص" "ص143 وما بعدها"، و"الحموية" "160-163"، "مجموعة الرسائل "1/ 189"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 54-67 و5/ 35-37، 234، 347-439 و10/ 560 و13/ 279-280، 374-375، 384-385 و16/ 173، 407-422"، و"الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل" "ص164 وما بعدها"، وقد أخطأ رشيد رضا في "تفسير المنار" "3/ 165" عندما نقل عن ابن تيمية أن المتشابه عنده آيات الصفات خاصة، ومثلها أحاديث الصفات. وانظر في المسألة: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة "ص62، 73"، و"منهج ودراسات" "ص23-24" للشنقيطي، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 472-500"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص77-82"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص188 وما بعده" للكافيجي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 الْمَعْنَى؛ لَمْ يُوجَدِ التَّشَابُهُ فِي قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا فِي أَصْلٍ عَامٍّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ التَّشَابُهُ عَلَى أَنَّهُ الْإِضَافِيُّ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ [لَا] 1 فَرْقَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ حَصَلَ فِي الْعَقَائِدِ الزَّيْغُ والضلال، وليس هو المقصود2 ههنا، ولا هو مقصود صريح باللفظ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ تعالى قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية [آل عمران: 7] ؛ فَأَثْبَتَ فِيهِ مُتَشَابِهًا، وَمَا هُوَ رَاجِعٌ لِغَلَطِ3 النَّاظِرِ لَا يُنْسَبُ إِلَى الْكِتَابِ حَقِيقَةً، وَإِنْ نسب إليه؛ فبالمجاز.   1 سقطت إلا من "ط"، ولذا قال "د": "لعله سقط منه لفظ "لا"؛ أي: فعند ملاحظة التشابه الإضافي لا يوجد فرق بين الأصول والفروع، وقوله: "ومن تلك الجهة"؛ أي: وبسبب التشابه الإضافي في الأصول جاء الزيغ في العقائد؛ كما تقدم له أمثلته". ونحوه عند "م". 2 أي: إنما المقصود بنفيه عن الأصول هو التشابه الحقيقي، وليس الإضافي مقصودا في هذا المبحث، كما أنه ليس مقصودا بلفظ الآية وإن كان داخلا فيها بالمعنى كما ذكره سابقا. "د". 3 الناشئ من عدم ضمه لأطراف الأدلة بعضها إلى بعض كما سبق؛ فليس في نفس الأدلة اشتباه، إنما هو من تقصيره أو اتباع هواه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 المسألة الخامسة 1: تسليط التأويل على المتشابه فيه تفصيل فيا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ مِنَ الْإِضَافِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْإِضَافِيِّ؛ فَلَا بُدَّ مِنْهُ إِذَا تَعَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَمَا بُيِّنَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقُ بِالْمُقَيَّدِ، وَالضَّرُورِيُّ بِالْحَاجِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمَا هُوَ الْمُحْكَمُ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْحَقِيقِيِّ؛ فَغَيْرُ لَازِمٍ تَأْوِيلُهُ؛ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي بَابِ الْإِجْمَالِ وَالْبَيَانِ أَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا2 لِأَنَّهُ3 إِمَّا أَنْ يَقَعَ بَيَانُهُ بِالْقُرْآنِ الصَّرِيحِ أَوْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ وَقَعَ بَيَانُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ؛ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّشَابُهِ، وَهُوَ الْإِضَافِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالْكَلَامُ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَسَوُّرٌ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ لَمْ يَعْرِضُوا4 لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا تَكَلَّمُوا فِيهَا بِمَا يقتضي تعيين   1 انظر: "الاعتصام" "1/ 221"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 145، 275-276 و17/ 378 و389-390". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "موحدا"، وعلق "د": "راجع المسألة الثانية عشرة في باب البيان والإجمال تجد في أولها أنه؛ إما لا يتعلق بالمجمل تكليف، وإما أنه لا وجود له، أي: إذا وقفنا على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وعليه؛ فلعل الأصل هنا إن كان "موجودا"؛ أي: على فرض وجود المجمل بمعنى المتشابه الحقيقي". 3 الضمير للحال والشأن كما يعلم بالتأمل؛ لأن هذا التشقيق لا يجيء في المجمل الحقيقي الذي يقول فيه: "إن كان موجودا"، وكذا الضمير في "بيانه" للمجمل مطلقا. "د". قلت: قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "17/ 386": "وقد قال كثير من السلف: إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به"، وانظر الآثار الواردة في ذلك عند ابن جرير في "التفسير" "3/ 185-186". 4 أي: لم يتعرضوا ويتصدوا له في باب ضرب، من قولهم: عرض له أشد العرض واعترض له؛ قابله بنفسه كما في "شرح القاموس". "د". قلت: انظر الموقف السليم من المتشابه: "القواعد الحسان لتفسير القرآن" "ص70-71" للسعدي، و"إعلام الموقعين" "2/ 294-295، 304". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 تَأْوِيلٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُمُ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ، وإلى ذَلِكَ؛ فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} الآية [آل عمران: 7] . ثُمَّ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] . وَقَدْ ذَهَبَ جُمْلَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُمَّةِ إِلَى تَسْلِيطِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهَا أَيْضًا رُجُوعًا إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ اتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا، مِنْ جِهَةِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاتِّسَاعِ؛ تَأْنِيسًا لِلطَّالِبِينَ، وَبِنَاءً عَلَى اسْتِبْعَادِ الْخِطَابِ بِمَا لَا يُفْهَمُ، مَعَ إِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وَهُوَ أَحَدُ1 الْقَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ؛ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْغَزَّالِيُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأُمُورٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِـ"إِلْجَامُ العوام"2؛ فطالعه من هنالك.   1 وعليه؛ فلا يوجد المتشابه بالمعنى الحقيقي. "د". قلت: انظر تعليقنا على "ص323-326". 2 "ص34". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا تَسَلَّطَ التَّأْوِيلُ عَلَى الْمُتَشَابِهِ؛ فَيُرَاعَى فِي الْمُؤَوَّلِ بِهِ أَوْصَافٌ ثَلَاثَةٌ: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنًى صَحِيحٍ فِي الِاعْتِبَارِ، مُتَّفَقٍ1 عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ الْمُؤَوَّلُ قَابِلًا لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمُؤَوَّلَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَقْبَلَهُ اللَّفْظُ أَوْ لَا2، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ؛ فَاللَّفْظُ نَصٌّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ، فَلَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَإِنْ قَبِلَهُ اللَّفْظُ؛ فإما أن يجري على مقتضى العلم3 أو لا، فإن جرى على ذلك؛ فلا   1 هذا هو الوصف الثاني، ولم يبن عليه شيئًا في بيانه الآتي، وكأنه لازم للوصف الأول، وهو صحة المعنى في الاعتبار؛ لأنه لا يكون كذلك إلا حيث يتفق عليه في الجملة وإن خولف في التفصيل؛ فرجع الأمر إلى شرطين: الأول: صحة المعنى في الاعتبار بأن يكون متفقًا مع الواقع المعترف به إجمالًا ممن يعتد بهم. والثاني: أن يكون وضع اللفظ قابلًا له لغة بوجه من وجوه الدلالة حقيقة أو مجازًا أو كناية، جاريًا في ذلك على سنن اللغة العربية. "د". قلت: مما ينبغي التنبه له في الأول: معرفة مراد المتكلم بكلامه، لا معرفة ما يحتمله اللفظ من المعاني من جهة اللغة فحسب، وفي الثاني أن يعلم أن ورود اللفظ بمعنى لا يلزم منه أن يكون هذا المعنى ملازمًا له في جميع النصوص الأخرى، وإن اختلف السياق، وكذا الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في النصوص؛ فغلبته فيه دليل على عدم خروجه عن معنى النص؛ فالحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره، انظر في هذا كله ومع التمثيل عليه: "مجموع فتاوى ابن تيميه" "6/ 13، 14، 366 و7/ 286"، و"الصواعق المرسلة" "1/ 192، 193"، و"إرشاد الفحول" "ص176"، و"أضواء البيان" "1/ 328"، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 552-555". وفي "د" "إذ تسلط..". 2 في الأصل و"ف": "أم لا". 3 يعني أن اللفظ إذا كان قابلًا بحسب اللغة للمعنى المؤول به ينظر: هل معنى التركيب بعد اعتبار هذا التأويل يجري على مقتضى ما نعلمه في هذه القضية من الخارج، أم لا يجري بل يخالف الواقع المعلوم لنا من طريق غير هذا الخبر؟ فإن جرى على ذلك؛ فلا يصح طرحه لأن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَابِلٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّفْظِ لَا يَأْبَاهُ؛ فَاطِّرَاحُهُ إِهْمَالٌ لِمَا هُوَ مُمْكِنُ الِاعْتِبَارِ قَصْدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى إِهْمَالِهِ أَوْ مَرْجُوحِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْمِلَهُ اللَّفْظُ عَلَى حَالٍ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مَعَ تَرْكِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ2 رُجُوعًا إِلَى الْعَمَى، وَرَمْيًا فِي جَهَالَةٍ؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِلدَّلِيلِ لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَبَاطِلٌ. هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى الدَّلِيلِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ؛ فَالنَّاظِرُ3 بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُبْطِلَ الْمَرْجُوحَ جُمْلَةً اعْتِمَادًا عَلَى الرَّاجِحِ، وَلَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ الْجَمْعَ، وَهَذَا نَظَرٌ يُرْجَعُ إِلَى مِثْلِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ على الجملة، وإما   = الشرطين قد تحققا؛ فاللفظ قابل، والمعنى المقصود من التركيب لا يأباه، أي: لا يأبى اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته؛ لأن المعنى المقصود من التركيب مع اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته يرجع إلى معنى صحيح في الواقع لا يخالف المعلوم لنا من قبل، وبهذا يتبين أن اللفظ في قوله: "والمعنى المقصود من اللفظ" ليس هو اللفظ المفرد الذي فيه التأويل، وإلا؛ لكان حاصله أن المعنى المقصود من اللفظ المؤول لا يأبى المعنى المؤول به اللفظ؛ فيتحد الآبي والمأبي، بل اللفظ هو اللفظ الخبري، والمعنى المقصود منه هو المعنى التركيبي. "د". 1 أي: ولو قبله اللفظ. "د". قلت: في "ط": "حال الدليل" بدون "و". 2 وهو اللفظ المتشابه الظاهر في معناه الوضعي، أي: تركه إلى معنى لا يجري على اعتبار صحيح في مقتضى العلم يكون رجوعًا إلى عدم صرف، وقوله: "ترك الدليل"؛ أي: وهو اللفظ الظاهر المتشابه. "د". قلت: انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 191". 3 أي: أن الناظر في أمر تعارض عليه دليلان، أحدهما راجح والآخر مرجوح، له طريقان في التخلص من المعارضة؛ إما أن يهدر المرجوح بما يقتضي إهداره، وإما أن يحمله على معنى يكون صحيحًا متفقًا عليه، ولا يعارض دليله الراجح، أما أنه يحمل المرجوح على وجه آخر لا يعارض الراجح، ولكنه لا يكون صحيحًا في ذاته أو لا يوافقه عليه الخصم؛ فعمل باطل حقيقة أو صناعة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 أَنْ لَا يُبْطِلَهُ وَيَعْتَمِدَ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ، فَذَلِكَ الْوَجْهُ إِنْ صَحَّ وَاتَّفَقَ1 عَلَيْهِ؛ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ؛ فَهُوَ نَقْضُ الْغَرَضِ لأنه رام تصحيح دليله المرجوح بشيء2 لَا يَصِحُّ؛ فَقَدْ أَرَادَ تَصْحِيحَ الدَّلِيلِ بِأَمْرٍ باطل، وذلك يقتضي بطلانه عندما رَامَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، هَذَا خُلْفٌ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ3، وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَ الدَّلِيلِ مَعْنَاهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَلِيلًا فِي الجملة؛ فرده إلى ما لا يَصِحُّ رُجُوعٌ إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ لَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَمِثَالُهُ تَأْوِيلُ4 مَنْ تَأَوَّلَ لَفَظَ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 125] بِالْفَقِيرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيَّ غَيْرَ صَحِيحٍ5، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ غَوَى مِنْ قَوْلِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه   1 أي: حتى يسلم الخصم صحة المعنى في ذاته؛ فيتأتى له دعوى حمل المرجوح عليه. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لشيء". 3 لا يبعد عما قبله. "د". 4 انظر طائفة من الأمثلة القرآنية أولت تأويلًا فاسدًا في "التحبير" للسيوطي "باب غرائب التفسير، النوع الثاني والتسعون، ص335-336"؛ ففيه أمثلة أظهر، وفيه: "هذا النوع من زياداتي". قال أبو عبيدة: وفي كُنَّاشاتي "قصاصاتي المنثورة" أمثلة كثيرة، وكذا في تأويلات خاطئة لأحاديث نبوية، عسى أن أنشط لجمعها في تأليف مستقل، يسر الله ذلك بمنه وكرمه، وسيذكر المصنف في "4/ 225 وما بعدها" أمثلة على هذا الموضوع. 5 لأن إبراهيم الذي يقدم العجل السمين المشوي لضيوفه من عند أهله لا يصح أن يعد فقيرًا؛ فهذا غير صحيح في الاعتبار، لم يجر على مقتضى العلم، وما بعده تخلف فيه شرط قبول اللفظ المؤول له، ومثال بيان تخلف فيه الجميع؛ لأن اللفظ لا يقبله، لا من الإشارة في "هذا"، ولا من العطف في قوله: "وهدى ... إلخ"، ولا يجري على مقتضى العلم. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 فَغَوَى} [طه: 121] أَنَّهُ مِنْ غَوِيَ1 الْفَصِيلُ لِعَدَمِ صِحَّةِ غَوَى بِمَعْنَى غَوِيَ2؛ فَهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْوِيلُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَمِثَالُ مَا تَخَلَّفَتْ فِيهِ الْأَوْصَافُ تَأْوِيلُ بَيَانِ3 بْنِ سَمْعَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آلِ عمران: 138] . فصل وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِبَابِ التَّأْوِيلِ، بَلْ هُوَ جارٍ فِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ4 قَدْ يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، فَيَفْتَقِرُ إلى الترجيح فيهما؛ فذلك ثانٍ عن قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهُمَا، وَصِحَّتِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالدَّلِيلُ في الموضعين واحد.   1 بالكسر: إذا بَشِم من شرب اللبن؛ أي: فالتأويل فاسد لأن ما في القرآن بالفتح، وسيأتي له هذا في المسألة التاسعة من الطرف الثاني من الأدلة. "د"، ونحوه في "م". قلت: كتب في هامش الأصل ما نصه: "في المصباح": غوى غيًا من باب ضرب؛ انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد، وغوي الفصيل، غوي من باب تعب؛ فسد جوفه من شرب اللبن، وفساد هذا التأويل ظاهر". 2 انظر: "الاعتصام" "1/ 301 - ط ابن عفان" للمصنف. 3 يأتي للمؤلف في المسألة التاسعة المشار إليها آنفًا بيان عن بيان هذا. انظر "4/ 225، 226". وقال "ف": "هو بيان بن سمعان التميمي الهندي اليمني الشيعي، وله شرذمة تنسب إليه تسمى البيانية، تنتحل نحلًا باطلة". قلت: انظر عن حاله وكفره "الفصل" "4/ 185" لابن حزم، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"، و"لسان الميزان" "2/ 69". 4 لعل الأصل: "الدليلين"، وسيأتي بسطه في مبحث التعارض من كتاب الاجتهاد. "د". قلت: قال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" "1/ 187": "وبالجملة؛ فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد، ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 [الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ. وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] 1: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ هي الموضوعة أولًا، وهي التي2 نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ تَبِعَهَا أَشْيَاءُ بِالْمَدِينَةِ، كَمُلَتْ بِهَا تِلْكَ الْقَوَاعِدُ الَّتِي وُضِعَ أَصْلُهَا بِمَكَّةَ، وَكَانَ أَوَّلُهَا3 الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ثُمَّ تَبِعَهُ مَا هُوَ مِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ4، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا هُوَ كُفْرٌ أَوْ تَابِعٌ لِلْكُفْرِ؛ كَالِافْتِرَاءَاتِ الَّتِي افْتَرَوْهَا مِنَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ [تَعَالَى، وَمَا جُعِلَ لِلَّهِ] وَلِلشُّرَكَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوْهُمُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَسَائِرُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَوْجَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مِمَّا يَخْدِمُ أَصْلَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَنَحْوِهَا، وَنَهَى عَنْ مَسَاوِئِ الأخلاق من الفحشاء، والمنكر، والبغي،   1 ما بين المعقوفين سقط من "ط". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "والذي نزل ... ". 3 أي: القواعد المكية. "ف". 4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160 و17/ 126". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وَالْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالتَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، والفساد في الأرض، والزنى، وَالْقَتْلِ، وَالْوَأْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ سَائِرًا فِي دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْمَشْرُوعَاتُ بِمَكَّةَ قَلِيلَةً، وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ كَانَتْ فِي النُّزُولِ وَالتَّشْرِيعِ أَكْثَرُ. ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ1 الْإِسْلَامِ؛ كَمُلَتْ2 هُنَالِكَ الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى تَدْرِيجٍ؛ كَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَتَحْرِيمِ3 الْمُسْكِرَاتِ، وَتَحْدِيدِ الْحُدُودِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ وَمَا يُكَمِّلُهَا وَيُحَسِّنُهَا، وَرَفْعِ الْحَرَجِ بِالتَّخْفِيفَاتِ4 وَالرُّخَصِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، [وَإِنَّمَا ذَلِكَ] كُلُّهُ تَكْمِيلٌ لِلْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ. فَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ مُعْظَمَهُ بِالْمَدِينَةِ؛ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي تَمْهِيدِ الْأَحْكَامِ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُ مُعْظَمَ النُّسَخِ إِنَّمَا هُوَ لما كان فيه تأنيس أولًا للقريب   1 الخطة: بوزن سدرة، وجمعها خطط كسدر؛ أي: اتسعت بلاده. "ف". 2 تراجع المسألة الثامنة من كتاب الأدلة ليفهم معنى كمال تلك الأصول، وأنه ليس الغرض أن هناك أصولا لم تكن حاصلة رأسا في مكة ثم أنشئت في المدينة، ويدل عليه أيضا قوله أول مسألتنا: "التي وضع أصلها بمكة". "د". 3 تقدم في المسألة الثامنة أن تحريم المسكر داخل إجمالا في حفظ النفس؛ فالذي كان بالمدينة في ذلك إكماله بالتصريح بتحريمه، ووضع الحدود في شربه، والنص على تحريم القليل منه من باب التكميل أيضا. "د" 4 لا ينافي هذا قوله الآتي: "إنما هو لما كان فيه تأنيس .... إلخ" الذي يقتضي أنه روعي أولًا التخفيف ثم روعي التشديد بالمدينة؛ لأن التخفيف بالرخص إنما جاء بعد تفصيل التكاليف التي كانت مطلقة، وتفصيلها اقتضى اقترانها بمشقات وحرج في بعض الأحيان، فروعيت الرخص؛ فهي حتى مع الرخص أشد منها حينما كانت بمكة بدون رخص، ويحسن بك أن تراجع المسألة الخامسة من باب النسخ في كتاب "الأحكام" "3/ 196" للآمدي؛ لتزداد بصيرة في هذا الموضوع، وتعرف الخلاف في جواز نوع النسخ الذي جعله المؤلف معظم النسخ. "د" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَاسْتِئْلَافٌ لَهُمْ، مِثْلَ كَوْنِ الصَّلَاةِ كَانَتْ صَلَاتَيْنِ ثُمَّ صَارَتْ خَمْسًا، وَكَوْنِ إِنْفَاقِ الْمَالِ مُطْلَقًا بِحَسَبِ الْخِيَرَةِ1 فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ صار محدودًا مقدارًا، وأن القبلة كانت بالمدينة ببيت الْمَقْدِسِ ثُمَّ صَارَتِ الْكَعْبَةَ، وكحِلّ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ2 ثُمَّ تَحْرِيمِهِ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ ثُمَّ صَارَ ثَلَاثًا، وَالظِّهَارُ كَانَ طَلَاقًا ثُمَّ صَارَ غَيْرَ3 طَلَاقٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ أَصْلُ الْحُكْمِ فِيهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُزِيلَ، أَوْ كَانَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ قَرِيبًا خَفِيفًا ثم أحكم.   1 أي: في نوعه ومقداره، وإلا؛ فالإنفاق مطلوب من أول التشريع لا خيرة فيه بمعنى الإباحة، وهذا معنى قوله: "في الجملة". "د" وكتب "ف": "بفتح الياء، بمعنى: الخيار". 2 التحقيق أن نكاح المتعة أبيح في غزوة الفتح ثلاثة أيام ثم حرم؛ فالتحليل كان لضرورة وقتية ثم نسخ، وكلاهما كان بالمدينة؛ فالمثال على ما ترى. "د". وقال "ف": "أي: مؤبدًا إلى يوم القيامة؛ فالحل منسوخ خلافًا لمن زعم عدم نسخه". 3 يعني: وهو أشد لأنه يحتاج لكفارة بخلاف الطلاق. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ بِمَكَّةَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ فِي الدِّينِ عَلَى غَالِبِ الْأَمْرِ؛ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ فِيهَا1 قَلِيلٌ لَا كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ2 النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْكُلِّيَّاتِ وُقُوعًا، وَإِنْ أَمْكَنَ عَقْلًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ3 الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ إِنَّمَا أَتَى بِالْمَدِينَةِ مَا يُقَوِّيهَا وَيُحْكِمُهَا وَيُحَصِّنُهَا، وَإِذَا كَانَ كذلك؛ لم يثبت نسخ   1 أي: على أن النسخ لا يكون في الكليات، لا على أصل الدعوى؛ فهو استدلال على مقدمة الدليل. "د". 2 ذكر المؤلف ثلاثة أوجه في الاستدلال على أن النسخ فيما نزل بمكة قليل -أو نادر كما يقول بعد-: أ- وجه خاص، وهو أن أكثر ما نزل بها كليات، وهي لا نسخ فيها، أما أن أكثر ما نزل بها كليات؛ فقد تقرر في المسألة الأولى، وأما أن الكليات لا نسخ فيها؛ فدليله الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية ... إلخ، وإذا صحت المقدمتان؛ ثبت أنه لا نسخ في أكثر الأحكام المكية، بل في القليل منها، وهو المطلوب. ب- ما أضافه بقوله: "وإلى هذا؛ فإن الاستقراء .... إلخ"، وحاصله أن من تتبع الناسخ والمنسوخ من الأحكام الجزئية نفسها تبين له أن ما نسخ من الجزئيات أقل من المحكم منها، وهذا كما يصح دليلًا على قلة النسخ في الأحكام المكية يدل على قلته في الأحكام المدنية أيضًا، وإن كان سياقه للاستدلال على المكي. ج- في قوله: "ووجه آخر وهو أن الأحكام ... إلخ"، وهو كسابقه عام للمكي والمدني، ولذلك أحال عليهما في الفصل عند الاستدلال على أن الأمر كذلك في سائر الأحكام. "د". 3 أي: في الأحكام المنزلة بمكة، لا في الأحكام الكلية؛ حتى لا يتنافى مع قوله بعد: "لا يكون فيها وقوعًا ... إلخ"، وقوله: "لم يثبت نسخ لكلي"، ولو قال فيه؛ لكان نصًا في المراد. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 لِكُلِّيٍّ أَلْبَتَّةَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ كُتُبَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ تحقق هذا المعنى؛ فإنما يكون النسخ من الجزيات منها، والجزيات المكيه قليلة. وإلى هذا؛ فإن الاستقرار يُبَيِّنُ أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَقِيَ مُحْكَمًا قَلِيلَةٌ، وَيَقْوَى1 هَذَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمَنْسُوخَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرَ الْمَنْسُوخِ مِنَ الْمُحْكِمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] . فَدُخُولُ النُّسَخِ فِي الْفُرُوعِ المكية قليل، وهي قَلِيلَةٌ؛ فَالنُّسَخُ فِيهَا قَلِيلٌ [فِي قَلِيلٍ] ، فَهُوَ إِذًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ نَادِرٌ2. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا ثَبَتَتْ عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ فَادِّعَاءُ النَّسْخِ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ3 لِأَنَّ ثُبُوتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوَّلًا مُحَقَّقٌ؛ فَرَفْعُهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ4 الْقُرْآنَ وَلَا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْمَقْطُوعِ بِهِ بِالْمَظْنُونِ؛ فاقتضى   1 لأنه حينئذ يكون مقابلًا للمحكم الذي نصت الآية على أنه أم الكتاب وأصله والغالب فيه. "د". 2 أي: لأنه قليل فيما هو في ذاته قليل. "د". 3 يشبه كلام ابن النحاس الآتي بعد؛ فلعله مأخذه. "د". 4 نعم هو قول الأكثرين، وحجتهم واضحة، وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد ولم يقبلوا نسخه به لأن الأول بيان وجمع بين الدليلين، بخلاف النسخ؛ فإنه إبطال. "د". قلت: انظر توسعا في المسألة في: "الرسالة" "106"، و"التبصرة" "264"، و"المنخول" "292"، و"المستصفى" "1/ 80" و"أصول السرخسي" "2/ 67"، و"المحصول" "3/ 519"، و"الإحكام" "4/ 617" لابن حزم، و"الإحكام" "7/ 217" للآمدي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 195-197"، و"البحر المحيط" "4/ 97-98"، و"كشف الأسرار" "7/ 175"، و"المسودة" "201-204"، و"تيسير التحرير" "3/ 203"، و"إرشاد الفحول" "191" و"مذكرة في أصول الفقه" "84". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 هَذَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ يَدَّعِي نَسْخَهُ لَا يَنْبَغِي قَبُولُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِيهِ إِلَّا مَعَ قَاطِعٍ بِالنَّسْخِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا دَعْوَى الْإِحْكَامِ فِيهِمَا. فَصْلٌ وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مَكِّيَّةٌ كَانَتْ أَوْ مَدَنِيَّةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ1 مَا ادُّعِيَ فِيهِ النَّسْخُ إِذَا تَأَمَّلْ2؛ وَجَدْتَهُ مُتَنَازِعًا فِيهِ، وَمُحْتَمَلًا، وَقَرِيبًا مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ، مِنْ كَوْنِ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، أَوْ تَخْصِيصًا لِعُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْإِحْكَامِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَقَدْ أَسْقَطَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ"3 كَثِيرًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: "أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فُرِضَتْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا". قَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: "فَلَمَّا ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْأَحَادِيثِ4 الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَالَ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ حَدِيثٍ يُزِيلُهَا ويبين نسخها، ولم   1 ومنه يعلم أن الطريقة التي جرى عليها مثل الجلالين في "التفسير" ليست على ما ينبغي، وإن كان جريًا على الاصطلاح الآتي في المسألة بعد؛ فهو تساهل في التعبير غير محمود في بيان كلام الله تعالى. "د". 2 في "م" و"ط": "تؤمل". 3 طبع في مجلدين سنة "1413هـ" عن مكتبة الثقافة الدينية بمصر، بتحقيق د. عبد الكبير المدعري. 4 في مطبوع "الناسخ والمنسوخ" و"ط": " ... وبالأسانيد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 يأتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ"1 انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ النَّسْخِ وَنُدُورِهِ؛ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا هُوَ مُبَاحٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ2 كَالْخَمْرِ وَالرِّبَا؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُمَا3 بَعْدَ مَا كَانَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لَا يُعَدُّ نَسْخًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ4 الْأَصْلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِّ النَّسْخِ: إِنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ5 بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، وَمِثْلُهُ رَفْعُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِدَلِيلٍ. وَقَدْ كَانُوا فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ نَزَلَ6: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238] .   1 "الناسخ والمنسوخ" "ص294". 2 انظر له: "حاشية التفتازاني" "2/ 185". 3 في "ط": "كالخمر والزنا فإن تحريمها ... ". 4 يدل على أن الخمر كان مباحا بحكم الأصل قبل نزول تحريمه بالمدينة، وهذا يحتاج إلى الجمع بينه وبين ما سبق له أن تحريمه داخل في الأصل المكي إجمالًا وهو حرمة الجناية على النفس والأعضاء. "د". 5 أي: والمباح بحكم الأصل والعادة الجارية قبل الشرع لا يعتبر حكمًا شرعيًا. "د". قلت: انظر في تعريفات النسخ: "الإحكام" "7/ 180" للآمدي، و"الإحكام" "4/ 59" لابن حزم، و"البرهان" "2/ 56" للزركشي، وأثبت الدكتور مصطفى زيد في كتابه "النسخ في القرآن الكريم" "1/ 60 وما بعدها" الأقوال التي ذكرت في حده، وناقشها مناقشة مطولة؛ فانظره فإنه مفيد. 6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} ، 8/ 198/ رقم 4534"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 2/ 383/ رقم 539" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238] ؛ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام". لفظ مسلم. قال ابن حبان في "صحيحه" "6/ 27-28 - مع الإحسان": "هذا الخبر يوهم من لم يطلب العلم من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة"، قال: "وذاك أن زيد بن أرقم من = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْتَفِتُونَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أن نزل1 "قوله": {الَّذِينَ هُم   = الأنصار، وقال: كنا نتكلم في الصلاة بالحاجة، وليس مما يذهب إليه الواهم فيه في شيء منه، وذلك أن زيد بن أرقم كان من الأنصار الذين أسلموا بالمدينة، وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إليهما، وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نُسخ ذلك بمكة؛ نُسخ كذلك بالمدينة؛ فحكى زيد ما كانوا عليه، لا أن زيدًا حكى ما لم يشهده". وقال "ف": "القنوت هنا: الإمساك عن الكلام". 1 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 393"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 283" "والحازمي في "الاعتبار" "60"، وابن جرير في "التفسير" "18/ 3"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص227" عن ابن سيرين؛ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء، تدور عيناه ينظر ههنا وههنا؛ فأنزل الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ؛ فطأطأ ابن عون رأسه، ونكس في الأرض". وصله الحاكم عن أبي هريرة، وقال البيهقي عن المرسل: "هذا هو المحفوظ"، وقال: "ورواه حماد بن زيد عن أيوب مرسلا، وهذا هو المحفوظ"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولولا خلاف فيه على محمد؛ فقد قيل عنه مرسلًا"، قال الذهبي: "الصحيح مرسل" "وهذا الذي رجحه شيخنا في "الإرواء" "2/ 71-73/ رقم 354"، وعزاه ابن ضويان في "منار السبيل" "1/ 92" لأحمد في "الناسخ والمنسوخ"، وسعيد بن منصور في "السنن". وانظر: "زاد المعاد" "1/ 249"؛ فالحديث ضعيف. وسرد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 308" ما ورد عن ابن سيرين، وأتبعه بقوله: "وروي عن غيره أن المؤمنين كانوا يلتفتون في الصلاة ويتكلمون؛ فنسخ الله ذلك"، ثم قال "2/ 309": "وحديث ابن سيرين باطل، وما روى غيره لا أصل له، إنما روي في "الصحيحين": "إنا كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} ؛ فأُمرنا بالسكوت". قلت: قضية الكلام مضى تخريجها في الحديث السابق، والمصنف نقل عن ابن العربي ولم ينقل حكمه على الحديث، ومثل هذا يقع كثيرا له؛ فهو لا يفلِّي الأخبار، ولا يمحص الآثار، ولا يبحث عن ناقليها، وشاب كتابه -وهو جوهرة عديمة النظير-بمثل هذا، عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه، وألمح ابن العربي أيضا في "أحكام القرآن" "3/ 1295" لتضعيف هذا الحديث، والله الموفق. وفي "ط": "نزلت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 2] ، قَالُوا: وَهَذَا إِنَّمَا نَسَخَ أَمْرًا1 كَانُوا عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ2 عَلَى ذَلِكَ، مَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ؛ فَهُوَ مِمَّا لَا يُعَدُّ نَسْخًا، وَهَكَذَا كُلُّ مَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَحْكَامِ3 الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، وَنَظَرْتَ إِلَى الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لَمْ يَتَخَلَّصْ فِي يَدِكَ مِنْ مَنْسُوخِهَا إِلَّا مَا هو نادر، على أن ههنا مَعْنًى يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ لِيُفْهَمَ اصْطِلَاحُ الْقَوْمِ في النسخ، وهي:   1 أي: فليس نسخًا لحكم شرعي، بل تعمير للذمة بعد أن كانت غير مشغولة، وقد تفنن في تسمية هذا النوع تحريم ما هو مباحة بالإباحة الأصلية، أو رفع براءة الذمة بدليل، أو نسخ أمر كانوا عليه، وهي عبارات ثلاث استعملها في معنى واحد زيادة في إيضاح الفرق بينه وبين نسخ الحكم الشرعي. "د". 2 أي: أكثر تشريع القرآن رفع ونقض لما كانوا عليه، وإن كان أمهلهم مدة وأخذهم بالتدريج في تشريع ما به إصلاح عاداتهم وعبادتهم؛ فلا يعد نسخًا لأنه إنشاء لأحكام لم يسبقها تشريع في موضوعها. "د". 3 في "م": "الأحكام". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ النَّسْخَ عِنْدَهُمْ فِي الْإِطْلَاقِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ1؛ فَقَدْ يُطْلِقُونَ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ نَسْخًا، وَعَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ نَسْخًا، وَعَلَى بَيَانِ الْمُبْهَمِ وَالْمُجْمَلِ نَسْخًا، كَمَا يُطْلِقُونَ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ نَسْخًا؛ لِأَنَّ جميع ذلك مشترك في معنى واحدًا، وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِ اقْتَضَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا جِيءَ بِهِ آخِرًا؛ فَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ مَعَ مُقَيِّدِهِ؛ فَلَا إِعْمَالَ لَهُ فِي إِطْلَاقِهِ، بَلِ الْمُعْمَلُ هُوَ الْمُقَيَّدُ، فَكَأَنَّ2 الْمُطْلَقَ لَمْ يُفِدْ مَعَ مُقَيِّدِهِ شَيْئًا؛ فَصَارَ مِثْلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَكَذَلِكَ الْعَامُّ مَعَ الْخَاصِّ؛ إِذْ كَانَ ظَاهِرُ الْعَامِّ يَقْتَضِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، فَلَمَّا جَاءَ الْخَاصُّ أَخْرَجَ حُكْمَ ظَاهِرِ الْعَامِّ عَنِ الِاعْتِبَارِ؛ فأشبه الناسخ والمنسوخ؛ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَمْ يُهْمَلْ مَدْلُولُهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا أُهْمِلَ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ3 الخاص،   1 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 29-30، 272-273"، و"الإحكام" لابن حزم "4/ 67"، و"فهم القرآن" "398" للمحاسبي، و"إعلام الموقعين" "1/ 29"، و"تفسير القرطبي" "2/ 288"، و"الفوز الكبير في أصول التفسير" "ص112-113" للدهلوي، و"النسخ في دراسات الأصوليين" "521"، و"أحكام القرآن" "1/ 197"، ومقدمة محقق "الناسخ والمنسوخ" "1/ 197" لابن العربي، و"محاسن التأويل" "1/ 13"، و"الإتقان" "2/ 22" لنادية العمري، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص88-90" لمكي بن أبي طالب. 2 إنما قال "كأن"؛ لأن الواقع أن المطلق لم يهمل مدلوله جملة كما سيأتي في العام بعد؛ فيقال نظيره هنا، أي أن الذي أهمل إنما هو الاحتمالات الأخرى لغير المقيد. "د". 3 أي: أهمل منه ما دل الخاص على إهماله، وهو ما عدا مدلول الخاص. "د". قلت: في الأصل: "وإنما العمل عليه ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وَبَقِيَ السَّائِرُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَالْمُبَيَّنُ مَعَ الْمُبْهَمِ1 كَالْمُقَيَّدِ مَعَ الْمُطْلَقِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ؛ استهل إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّسْخِ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِرُجُوعِهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ2 أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الْإِسْرَاءِ: 18] إِنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشُّورَى: 20] . وَعَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ تقييد لمطلق؛ إذ كَانَ قَوْلُهُ: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} مُطْلَقًا، وَمَعْنَاهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي "الْآيَةِ" الْأُخْرَى: {لِمَنْ نُرِيد} ، وَإِلَّا فَهُوَ إِخْبَارٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا3 النسخ.   1 كما يأتي مثاله بعد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} مع قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم} الآية. "د". 2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص254" بإسناد ضعيف، وقال: "والقول الآخر إنها غير منسوخة، وهو الذي لا يجوز غيره؛ لأن هذا خبر ... ". وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 355" لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "219-220" لابن الجوزي. 3 أي: لا يدخل النسخ مدلول الخبر وثمرته إن كان مما لا يتغير؛ كالإخبار بوجود الإله وبصفاته؛ فدخول النسخ في هذا المدلول محال بإجماع، أما إذا كان مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو؛ ففيه خلاف، والمختار جوازه، وأما نسخ تلاوة الخبر أو نسخ تكليفنا به كما إذا كلفنا بأن نخبر بشيء ثم ورد نسخ التكليف بذلك؛ فكل من هذين جائز لأنه من التكليف فيدخله النسخ، فانظر معنى الآية: هل هو مما يتغير فيدخله النسخ على المختار، أم لا يتغير فلا يدخله؟ وقالوا: إن من أمثلة ما لا يتغير أن تقول: أهلك الله زيدًا؛ لأنها حادثة واحدة تقع مرة واحدة؛ فلا يتأتى فيها التغيير، والتحقيق أن بعض الأخبار يجوز في مدلولها النسخ كما إذا كان الخبر عامًا؛ فيأتي الثاني يبين تخصيصه وقصره على البعض كما في الآية؛ إلا أنه يكون على اصطلاح المتقدمين لا اصطلاح الأصوليين، وكلامه في هذا. راجع "الإحكام" "3/ 163" للآمدي. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون .... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُون} [الشُّعَرَاءِ: 224-226] : هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} 1 الآية [الشعراء: 227] . قال مكي2: "وقد ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ؛ أَنَّهُ قَالَ: مَنْسُوخٌ". قَالَ: "وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى3 مُرْتَبِطٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بيّنَه حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ4 فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ عَمَّهُمُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ   1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" بإسناد ضعيف، وقال بعد كلام: " ..... هذا الذي تسميه العرب استثناء لا نسخا .... ". وأخرج أبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر، رقم "5016" من طريق علي بن حسين بن واقد المروزي -وهو صدوق يهم- عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس؛ قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} ؛ فنسخ من ذلك واستثنى؛ فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} . وأخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "19/ 179"، وابن النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن. والشاهد أن النسخ هنا بمعنى التخصيص؛ كما هو ظاهر من قوله: "واستثنى"، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 323" لابن العربى. 2 في كتابه "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص373-374". 3 في مطبوع "الإيضاح": "الاستثناء". 4 قال "ف": "الأنسب: "بيّن حرف الاستثناء أنه ... " إلخ، أو "نبه حرف الاستثناء أنه" ا. هـ. رد عليه "د" بقوله: "إنه بدل من الضمير في بينه؛ فالكلام واضح لا يحتاج لتصحيح كما ظن". قلت: نص عبارة مكي في "الإيضاح" "ص374": " ... بالمستثنى منه، يليه حرف الاستثناء الذي يلزمه؛ فبين أنه في بعض الأعيان ... "، ومنه يظهر صواب ما عند "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 منفصل1 من الْمَنْسُوخِ رَافِعٌ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ بِغَيْرِ حَرْفٍ". هَذَا مَا قَالَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ النَّسْخِ؛ إِذْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النُّورِ: 27] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَة} الآية [النور: 29] 2. وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ؛ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ] يُثْبِتُ3 أَنَّ الْبُيُوتَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمَسْكُونَةُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] : إنه منسوخ4   1 لأنه قد أخذ في تعريفه أن يكون الدليل الناسخ متأخرًا عن المنسوخ، ويلزمه أن يكون بغير حروف الاستثناء. "د". وفي "د": "منفصل عن ... "، وفي مطبوع "الإيضاح" "ص314": "منفصل من المنسوخ، وهو رافع لحكم المنسوخ، وهو بغير حرف الاستثناء". 2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص231" بإسناد ضعيف، وقال المحاسبي في "فهم القرآن" "ص426": "وقد كان بعض من مضى يرى أن آية الاستئذان منسوخة، والعلماء اليوم مجمعة أنها ثابتة؛ إلا أن بعضهم رأى أن دق الباب يجري من الاستئذان". وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 316-317"، وأحكام القرآن "3/ 1347-1352"، كلاهما لابن العربي. 3 بل في نفس الآية الأخرى ما يثبت أنها خاصة بالمسكونة؛ لأن قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} يقتضي ذلك. "د". في "ط": "بينت" بدل "يثبت"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 4 وبه قال عطاء، وهو مبني على أن الآية الثانية في الجهاد، وقد بين الفخر مع هذا أنه لا يلزم النسخ، وقيل: إنها في أحكام التفقه في الدين لا دخل لها بالجهاد كما قاله المؤلف؛ إلا أنه لا داعي إذن لقوله: "ولكنه نبه .... إلخ" لأن هذا هو معنى النسخ. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة} 1 [التَّوْبَةِ: 122] ، وَالْآيَتَانِ فِي مَعْنَيَيْنِ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ لَا يَجِبَ النَّفِيرُ عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} [الْأَنْفَالِ: 1] : مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} [الْآيَةَ] 2 [الْأَنْفَالِ: 41] ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُبْهَمٍ3 فِي قَوْلِهِ: {لِلَّهِ وَالرَّسُول} . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء} [الْأَنْعَامِ: 69] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} الآية4 [النساء: 140] ، وَآيَةُ الْأَنْعَامِ5 خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَالْأَخْبَارُ لَا   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في نسخ نفير العامة، رقم 2505"، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 385"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 47"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص201" من طرق عنه، ولا تسلم أي طريق من طرقه من ضعف، ولكن الضعف يسير في كل منها، وهو قابل للجبر، والله الموفق. وانظر لزامًا: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 248-251" لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص463-464" للحارث المحاسبي، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص315". 2 أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 400"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 217"، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص182"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 224"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "464"، ومكي في "الإيضاح" "ص295"" وما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة. 3 في "م": "المبهم". 4 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص168-169" بإسناد ضعيف، وانظر: "فهم القرآن" "ص416-417"، و"الإيضاح" "ص282". 5 نزل بمكة: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} الآية؛ فشكا المسلمون أنهم يحرمون = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 تَنْسَخ وَلَا تُنْسَخ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين   = من المسجد الحرام والطواف؛ إذ كان كلما حصل من المشركين خوض واستهزاء تركوا المكان الذي يجلسون فيه، وهذا حرج؛ فنزلت الرحمة والرخصة بقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون} ؛ أي: الشرك والمعاصي، {مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى} ؛ فأبيح لهم البقاء في أماكنهم مع تذكير الخائضين وإرشادهم، ثم إن المنافقين في المدينة كانوا يجالسون أحبار اليهود ويسمعون منهم الهزء والطعن في الإسلام والقرآن؛ فنزلت الآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} خطابا للمنافقين بأنه نزل عليكم في القرآن أن إذا سمعتم آيات الله ... إلخ إلى أن قال: إنكم أيها المنافقون إذًا مثل هؤلاء الأحبار الكفار، وعليه؛ فالمراد بما أنزل عليهم في الكتاب هو آية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} إلخ الموجبة لقيامهم من مجلس الخائضين. راجع الفخر الرازي في الآيتين، وعلى ما قاله يكون حصل نسخ مرتين: نسخ لعزيمة القيام بالتخفيف وإباحة الجلوس مع الذكرى، وكل من الناسخ والمنسوخ في سورة الأنعام، ونسخ للتخفيف ثانيًا بآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} إلخ في سورة النساء، وقد قالوا: إن هذا لا يعهد مثله في الشريعة؛ كما قاله ابن القيم في غير موضع من كتابه "زاد المعاد"، هذا ثم لا يخفى أن قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون} يفيد حكمًا شرعيًا هو رفع الحرج؛ فيصح أن يكون ناسخًا ومنسوخًا لأنه ليس بخبر معنى، خلافًا لما قاله المؤلف أولًا وآخرًا، وسيأتي مثله في الأمر غير الصريح. "د". قلت: نقل ابن العربي في "ناسخه" "2/ 211" أن الذي عليه أهل التفسير أنه لا نسخ في هذه الآية، قال: "لأنه خبر، والآيتان محكمتان، ومعنى الآية أنه إذا نهى عن المنكر؛ فليس عليه حساب من فعله"، ثم تعقب هذا القول بكلام شديد، قال: "هذه غباوة ظاهرة، ليس هذا بخبر، بل هو صريح أمر؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} ، فإن نسيت فتذكرت؛ فقم ساعة تذكارك عنهم، ولا تقعد بعد ذلك معهم، وهذا منسوخ بأمره بالقتل والقتال بلا إشكال، والآية التي في النساء مثلها؛ فإنه نهاهم الله أن يجالسهم إذا سمعهم يكفرون، وهذه أيضًا منسوخة بالأمر بالقتال إذا كان مأجورًا أن يقوم عنهم إذا سمعهم يستهزئون بآيات الله ويكفرون، وصار بعد ذلك مأمورًا بأن يقاتلهم ويقيم الحد بالقتل في ذلك عليهم، وهذا نسخ بين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية [النساء: 8] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ1. وَقَالَ مِثْلَهُ الضَّحَّاكُ والسُّدِّي وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ". وَقَالَ ابن المسيِّب: "مسخه الْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ"2. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مُمْكِنٌ؛ لِاحْتِمَالِ [حَمْلِ] 3 الْآيَةِ عَلَى النَّدْبِ، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْقُرْبَى مَنْ لَا يَرِثُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ} [فقيد] كما   1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه -كما في "فتح الباري" "8/ 242"- والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص115"، وابن الجوزي في "الناسخ والمنسوخ" "ص199" من أوجه ضعيفة؛ كما قال ابن حجر. وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} ، 5/ 388/ رقم 4576" عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال عن الآية: "هي محكمة، وليست بمنسوخة". وأخرج البخاري أيضًا في "صحيحه" "كتاب الوصايا، باب قوله الله عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} ، 5/ 388/ رقم 2759" عن ابن عباس؛ قال: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس، هما واليان: وال يرث وذاك الذي يرزق، ووال لا يرث؛ فذاك الذي يقول بالمعروف، يقول: لا أملك لك أن أعطيك". وأخرج نحوه الحاكم في "المستدرك" "2/ 302-303"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 266-267". 2 قال ابن حجر في "الفتح" "8/ 243": "وصح ذلك -أي: النسخ- عن سعيد بن المسيب، وهو قول القاسم بن محمد وعكرمة وغير واحد، وبه قال الأئمة الأربعة وأصحابهم". قلت: وأسند النسخ عن الضحاك: سعيد بن منصور في "سننه" "3/ 1172"، وابن جرير في "تفسيره" "8/ 10/ رقم 8680 - ط شاكر"، وفيه جويبر، وهو ضعيف. وانظر: "تفسير القرطبي" "5/ 48-49"، و"أحكام القرآن" للشافعي "ص147-149"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 146-147"، و"أحكام القرآن" "1/ 329"، كلاهما لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص439-440" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص210"، وفيه ما عند المصنف. 3 ما بين المعقوفين سقط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 تَرَى1 الرِّزْقَ بِالْحُضُورِ؛ [فَدَلَّ أَنَّ] 2 الْمُرَادَ غَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَبَيَّنَ الْحَسَنُ3 أَنَّ الْمُرَادَ النَّدْبُ أَيْضًا بِدَلِيلِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ فَهُوَ مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ. وَقَالَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 284] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: [ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] ، مَعَ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي وُسْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ] : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4 [الْبَقَرَةِ:   1 هكذا في "ط" فقط، وسقط ما بين المعقوفتين من الأصل والنسخ المطبوعة، ولذا قال "ف": "في العبارة تحريف، ولعل الأصل بدليل قوله "إذا حضر"، حيث قيد الرزق بالحضور؛ فدل على أن المراد غير الوارثين لأن الوارث يرزق مطلقًا حضر أو غاب". وتابعه "م"، أما "د"؛ فقال: "تحريف، ولعل الأصل: لما شرط الرزق بالحضور كان المراد .... إلخ". 2 كذا في "ط"، وبدله في غيره: "فإن". 3 أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" "1/ 149" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "116"- وابن جرير في "تفسيره" "8/ 9/ رقم 8667، 8671"، وسعيد بن منصور في "تفسيره" "3/ 1170/ رقم 579"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص254" من طرق عن الحسن بألفاظ منها: "هي محكمة، وذلك عند قسمة ميراث الميت". لفظ عبد الرزاق. و"هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحوا". أحد ألفاظ ابن جرير. و"فغير قرابة الميث يرضخ -والرضخ: العطية القليلة- لهم القدح أو الشيء؛ فكان يقول لهم: إنها لم تنسخ". لفظ سعيد بن منصور، وإسناده صحيح. ويتأكد الندب بما قاله مكي في "الإيضاح" "ص210-211": "ويدل على أنها على الندب قوله في آخر الآية: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} ؛ أي: إن لم تعطوهم شيئًا ولم توصوا لهم؛ فقولوا لهم قولا حسنا، وأيضًا؛ فإنها لو كانت فرضا لكان الذي لهم معلوما محدودا كسائر الفرائض"، ثم ذكر أن الإجماع عليه، وقال: "وهذا هو الصواب إن شاء الله، وهو مذهب مالك وأكثر العلماء"، ثم قال: "فالآية محكمة على الندب والترغيب غير منسوخة". 4 أخرج النسخ عن ابن مسعود: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 506"، وابن جرير = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 286] بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ1 الْآيَةَ بِكِتْمَانِ الشهادة2؛ إذ تقدم3 قوله   = في "التفسير" "6/ 112/ رقم 6478 - ط شاكر". وأخرجه عن ابن عباس: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 515"، وأحمد في "المسند" "1/ 322"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص436"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 287"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6458، 6459، 6461، 6462" -وصححه الحاكم ووافقه الذهبي- والشافعي في "مسند" "422 - رواية المزني"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10769، 10770"، والطحاوي في "المشكل" "رقم 1626-1628 - ط الجديدة"، وأبو داود في "ناسخه"، وعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب" -كما في "الدر المنثور" "2/ 128"- وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "فتح الباري" "8/ 206". 1 معنى الآية على كلام ابن عباس: إن تبدوا ما في أنفسكم وما تعلمونه في موضوع الشهادة بأن تقولوا لصاحب الحق: نعلم الشيء ولكنا لا نشهد به عند الحكام، أو تخفوه بألا تطلعوا صاحب الحق على ما تعلمونه؛ يحاسبكم به الله على كل حال لأنه كتمان للشهادة ومضيع للحق، فيكون قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ... } إلخ من باب بيان المجمل لقوله: {وَلا تَكْتُمُوا} ؛ فقد كان يحتمل الأمرين كما يحتمل أحدهما فقط، وعليه لا تكون آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} مرتبطة بهذه الآية؛ فقوله: "بدليل ... إلخ" سقط منه كلام تقديره1: "وليس بمنسوخ بدليل ... "، أما على رواية أنه لما نزلت آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} شق الأمر على الصحابة وجثوا على ركبهم أمامه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: كلفنا من الأمر ما نطيق، من صوم وصلاة ... إلخ، ولكن نزلت هذه الآية وليس في وسعنا تنزيه النفس عن الهواجس والخواطر السيئة؛ فأنزل الله آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، يعني: فلا يكلفكم بالخواطر وما يكون في النفس غير العزم على الفعل الذي تطيقونه؛ فيكون معنى كونها ناسخة لآية {وَإِنْ تُبْدُواْ} أنها مبينة لإجمالها أو مخصصة لها ببعض ما يشمله قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} . والحاصل أنه على رأي ابن عباس لا تعلق لآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} بآية: {وَإِنْ تُبْدُواْ} [البقرة: 283] ، وتكون هذه محكمة ولا تخصيص فيها، بل هي مبينة لإجمال آية: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ، وأما إذا جرينا على رواية جثو الصحابة على الركب؛ فتكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لإجمال آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} الذي كان بظاهره يشمل الهواجس والخواطر؛ فنزلت الآية = 1 أثبتناه من "ط" وحده بنحوه، وهو بين معقوفتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [الْبَقَرَةِ: 283] ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 284] ؛ فَحَصَلَ أَنَّ ذَلِكَ من باب   = مخرجة لما عدا العزم الذي في الوسع اجتنابه، ويكون قوله: "فحصل أن ذلك من باب التخصيص ... إلخ" "صحيحا، لكن بما شرحناه، ويكون في الكلام سقط آخر قبل قوله: "فحصل" تقديره: وعلى فرض رواية الجثو وعدم مسايرة ابن عباس تكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لآية {وَإِنْ تُبْدُوا} لا ناسخة، ولا يخفى عليك أن الكلام لا يستقيم إلا بتقدير شيء ساقط منه؛ لأن ابن مسعود الذي يقول كما في البخاري ومسلم: "والله الذي لا إله إلا هو؛ ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تعالى تبلغه الإبل؛ لركبت إليه"، الذي يقول ذلك لا يقول: إنها منسوخة بدليل أن ابن عباس فسر الآية، ولكنه إذا قال بالنسخ؛ فإنما يقول بعلمه هو. هذا وقد روى البغوي* في "تفسيره" [1/ 514] بجملة طرق؛ أن ابن عباس يقول: إنها منسوخة بآية: {لا يُكَلِّفُ} راويا حديث جثو الصحابة وشدة ما لحقهم بسبب هذه الآية، ومعنى كونها منسوخة على رأيه هذا أن تكون مخصوصة أو مبنية بها على ما شرحناه، ولم يذكر البغوي عنه الوجه الذي ذكره المؤلف من رجوعها إلى قوله: {وَلا تَكْتُمُوا} ، بل ذكر وجها آخر عنه: إنها محكمة على أن معنى يحاسبكم يخبركم به، وأن الحساب لا يستلزم العقاب، وأنها تتلاقى مع حديث: "فأما المؤمن؛ فيقول له ربه: ألم تفعل كذا، ألم تفعل كذا؟ ثم يقول: سترتها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك، وأما الفاجر؛ فيحاسبه على شركه وكفره"، وهذا معنى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ، ولا شك أن هذا غير ما نقله المؤلف عنه هنا. "د". 2 أخرج أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 502"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 247"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6450، 6454" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مِقْسم عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال: "نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها". ويزيد ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن، وكان شيعيًا، ومقسم صدوق، وكان يرسل؛ فالأثر ضعيف. وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 6449" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس. 3 في "ط": "إذ قد تقدم".   * أورد ذلك من غير إسناد، وقد سبق أن خرجناه؛ فاقتضى التنبيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، أَوْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النُّورِ: 31] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ1 بِقَوْلِهِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ [النُّورِ: 60] ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُمُومِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 5] أَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 [الْأَنْعَامِ: 121] ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ [أَنَّ] 3 طَعَامَهُمْ حَلَالٌ بِشَرْطِ التَّسْمِيَةِ؛ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ4، لَكِنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ هِيَ آيَةُ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ في الوجه الأول، وفي الثاني بالعكس5.   1 أخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "18/ 165"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص200"، وقال: "وكذلك قال الضحاك، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الآية فيمن يخاف الافتتان بها، وهذه الآية في العجائز؛ فلا نسخ"، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 317-318"، وقال مكي في "الإيضاح" "366": "فهذا بالتخصيص أشبه منه بالنسخ". 2 حكاه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص145"، ومكي في "الإيضاح" "ص261" عن أبي الدرداء وعبادة، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 214-215" عن عكرمة، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "156" عن جماعة منهم الحسن وعكرمة، ورجحوا جميعا أن المراد بالنسخ إن صح؛ التخصيص. 3 زيادة من "د" و"ط"، وسقطت من الأصل و"م" و"ف". 4 في "ف": "تخصيص"، وقال: "لعله التخصيص"، وفي "ط": "تخصيص العموم". 5 إلا أنه يتوقف على صحة تخصيص المتقدم للمتأخر؛ لأن سورة المائدة متأخرة عن الأنعام، وهو رأي الأكثر، يقولون: يخصص العام بالخاص مطلقًا تقدم أو تأخر، وقال بعضهم: لا يخصص الكتاب الكتاب مطلقًا تقدم المخصص أو تأخر، وقال إمام الحرمين وأبو حنيفة: "إنما يتخصص العام بالخاص إذا تقدم العام في التاريخ، وإلا كان العام المتأخر ناسخًا". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 وَقَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الْأَنْفَالِ: 16] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَالِ: 65] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ1، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ} ؛ فَكَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَكَانُوا مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَلَا تَعَارُضَ وَلَا نَسْخَ بِالْإِطْلَاقِ2 الْأَخِيرِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ [عَلَى] خَالَتِهَا3، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ العموم.   1 حكماء النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص184"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 226-228"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص165-166"، وقال: "وقال آخرون: هي محكمة، وهذا هو الصحيح؛ لأنها محكمة في النهي عن الفرار؛ فيحمل النهي على ما إذا كان العدو أعلى من عدد المسلمين، وقد ذهب إلى نحو هذا ابن جرير". قلت: وذلك في "تفسيره" "9/ 135"، وخطأ ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 366" القول بالنسخ، وقال عنه: "وهذا خطأ من قائله؛ لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاث مائة ونيفا، والكفار كانوا تسع مائة ونيفا؛ فكان للواحد ثلاثة، وأما هذه المقابلة -وهي الواحد بالعشر- فلم ينقل أن المسلمين صافوا المشركين عليها قط، ولكن البارئ فرض ذلك عليهم أولا، وعلله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب، وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه، ثم نسخ ذلك، قال ابن عباس: كان هذا ثم نسخ بعد مدة طويلة وإن كانت إلى جنبها". 2 في "ط": "بإطلاق". وانظر: "فهم القرآن" "459-460" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص296-297". 3 انظر: "الناسخ والمنسوخ" "ص122" للنحاس، ومضى تخريج حديث الجمع بين المرأة وعمتها في "ص82" وهو في "الصحيحين"، وأفاد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 162" ما عند المصنف، وزاد أيضا على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ فقال: "ومن حرم من جهة الرضاع غير الأم والأخت". وانظر: "نواسخ القرآن" "124" لابن الجوزي، و"الإيضاح" "ص218-219" لمكي بن أبي طالب، وما بين المعقوفتين ليست في "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5] : نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي غَافِرٍ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 1 [غَافِرٍ: 7] . وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ آيَةَ غَافِرٍ مُبَيِّنَةٌ لِآيَةِ الشُّورَى؛ إِذْ هُوَ خَبَرٌ مَحْضٌ2، وَالْأَخْبَارُ لَا نَسْخَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: "هَذَا لَا يَقَعُ فيه3 نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نُسْخَةِ4 تِلْكَ الْآيَةِ، لَا5 فَرْقَ بَيْنَهُمَا، يَعْنِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِحْدَاهُمَا تُبَيِّنُ الْأُخْرَى". قَالَ: "وَكَذَا6 يَجِبُ أَنْ يُتَأَوَّلَ لِلْعُلَمَاءِ، وَلَا يُتَأَوَّلُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ العظيم، إذا كان لما قالوه وجه".   1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص253"، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص218" عن ابن منبه والسدي ومقاتل بن سليمان، وقال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 351، 354-355": "ليس هذا نسخًا، إنما هو تخصيص عموم، والتخصيص يدخل في العموم؛ كان جزاء أو تكليفا باتفاق". قلت: ويلزم من القول بالنسخ أن الملائكة استغفرت أولا للمشركين، وهذا كذب لأن الله جل وعز يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، ولم يكن الملائكة يشفعون لمن في الأرض ممن قد علموا أن الله لا يغفر له أبدا، قاله المحاسبي في كتابه "فهم القرآن" "474-475"، وانظر كلامه أيضا: "358-359"، وكلام مكي بن أبي طالب في "الإيضاح" "ص399". وورد في غير "د": "التي في الطور"، وهو خطأ. 2 أي: ولا يؤول إلى تكليف حتى يدخله النسخ؛ إذ لو كان بمعنى الأمر لصح دخول النسخ فيه. "د". 3 هكذا في "الناسخ والمنسوخ" لابن النحاس و"ط"، "وفي الأصل وباقي النسخ: فيها". 4 وهل قرأها ابن النحاس: "نسختها" اسما مبتدأ خبره الآية التي ... إلخ، أم قرأها فعلا؟ الأول أقرب إلى غرضه، وأيسر في تأويله كلامه. "د". قلت: الكلمة جاءت في "م": "نسق". 5 في "ط": "لأنه لا". 6 في "ط": "وكذلك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 قَالَ: "وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5] ؛ قَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ"1. وَعَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ: [التَّوْبَةِ: 34] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 2 [التَّوْبَةِ: 103] ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ3 لِمَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَأَنَّ الْمَالَ إِذَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَبَقِيَ مَا لَمْ يُزَكَّ دَاخِلًا تَحْتَ التَّسْمِيَةِ؛ فَلَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4 [التَّغَابُنِ: 16] ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ5، وَهَذَا مِنَ الطِّرَازِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الآيتين مدنيتان، ولم   1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 190" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "253"- والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص428". 2 حكاه مكي في "الإيضاح" "ص314"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 930"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 259"، وأسنده ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص154" عن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ به. 3 بدليل الأحاديث والآثار الكثيرة الواردة في أن الكنز هو الذي لا تؤدى زكاته، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} ، 8/ 324/ رقم 4661" عن خالد بن أسلم؛ قال: "خرجنا مع عبد الله بن عمر؛ فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة؛ فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال". 4 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 128"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص107"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص470"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 68، 69/ رقم 7557 - ط شاكر"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "107". 5 قاله مكي في "الإيضاح" "ص203"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 تَنْزِلَا إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ الدِّينَ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ مَرْفُوعٌ فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] : فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُنِ: 16] ؛ فَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالنَّسْخِ أَنَّ إِطْلَاقَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مقيدة بِسُورَةِ التَّغَابُنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَةِ: 228] : إِنَّهُ نَسَخَ1 مِنْ ذَلِكَ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، بِقَوْلِهِ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الْأَحْزَابِ: 49] ، وَالَّتِي يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ بَعْدُ وَالْحَامِلَ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُر ..... } إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2 [الطَّلَاقِ: 4] . وقال ابن عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فِي قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ،   = 126"، والقرطبي في "تفسيره" "4/ 157"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "108" و"زاد المسير" "1/ 432"، وقال: "قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها؛ فالمعتقد نسخها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به؛ فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته؛ فكان قوله تعالى: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرا لـ {حَقَّ تُقَاتِهِ} ، لا ناسخا ولا مخصصا. 1 يريد: وحكمه يجري على ما سبق من أنه بيان وتخصيص. "د". 2 ذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص76"، ومكي في "الإيضاح" "ص176"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 84-85"، وأسنده عن قتادة ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "86-87"، وقال: "واعلم أن القول الصحيح المعتمد عليه أن هذه الآية كلها محكمة؛ لأن أولها عام في المطلقات، وما ورد في الحامل، والآيسة والصغيرة؛ فهو مخصوص من جملة العموم، وليس على سبيل النسخ، وأما الارتجاع؛ فإن الرجعية زوجة". وانظر: "فهم القرآن" "419-420" للمحاسبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْفِ: 29] ، وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التَّكْوِيرِ: 28] : إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 29] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ؛ فَالْمُرَادُ1 أَنَّ إِسْنَادَ الْمَشِيئَةِ لِلْعِبَادِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ2. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التَّوْبَةِ: 97] ، وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التَّوْبَةِ: 98] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 99] 3، وهذا من   1 يستأنس بهذا لتصحيح النقص الذي أشرنا إليه في المسألة الثانية من المتشابه. "د". 2 قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 352" عند هذا الموطن: "وقد سقط فيها ابن حبيب لليدين والفم؛ حتى تكلم فيها بأمر لم تعلم حقيقته ولم تفهم"، ثم سرد قوله الذي ذكره المصنف، وقال: "وهذا جهل عظام، وخطب جسام؛ فإن الحقائق لا تنسخ لا سيما إذا كانت في العقائد، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} عقيدة حق، وكلمة صدق، ولم تزل الحقيقة كذلك ولا تزال، ولم يختلف قط هذا بحال حتى يمحى في حالة ويثبت في أخرى، كما أن قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ، وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} عقيدة حق وكلمة صدق، متفقة متسقة، غير مختلفة ولا مفترقة"، وذكر نحو ما عند المصنف. وانظر أيضا: "2/ 287"، و"نواسخ القرآن" "ص215". 3 قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 261" عند هذا الموطن: "لقد مني ابن حبيب بالوهم أو بنقل ما لم يقل عنه، ومني بالرد ممن لا يعلم، قال بعضهم: وهذا خبر لا ينسخ، ومتى بلغنا إلى هذا الحد؟ وليست الآية في شيء من هذا الغرض، إنما سميت براءة: الفاضحة؛ لأنه لم يزل ينزل: ومنهم، ومنهم ... حتى ظننا أنها لا تبقي أحدا؛ فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} ، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} ، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} ، ومن الأعراب من يكره الغزو، يرى أن الذي ينفقه مغرم، ومنهم من يرى أن الذي ينفقه قربة ... "، ثم قال: "فأي نسخ في هذا لولا التسور على الدين، والتصور بصورة علماء المسلمين، والله ينصرنا بالحق، ويشرح صدورنا للعلم برحمته". وانظر لزاما: "أحكام القرآن" "2/ 1011-1012" له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يَصِحُّ نَسْخُهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عموم1 الأعراب مخصوص فيمن2 كَفَرَ دُونَ مَنْ آمَنَ. وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ3 وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ   1 أي: في الآية الأولى مخصوص بالآية الأخيرة، أما الآية الوسطى مع الأخيرة؛ فلا تعارض بينهما لأن كلا منهما صريح في بعض الأعراب؛ فلا يتوهم فيهما نسخ ولا تخصيص. "د". 2 في "د": "بمن". 3 سرد الآثار والأقوال في المسألة في كتابه "الناسخ والمنسوخ" "ص147-154"، ثم قال بعد أن ذكر أن شهادة التائب من القذف جائزة ما نصه: "وهذا قول أهل الحجاز جميعا، وأما أهل العراق؛ فيرون شهادته غير مقبولة أبدا وإن تاب، وكلا الفريقين إنما تأول فيما نرى الآية؛ فالذي لا يقبلها يذهب إلى أن الكلام انقطع من عند قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ، ثم استأنف؛ فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ؛ فأوقع التوبة على الفسق خاصة دون الشهادة، وأما الآخرون؛ فذهبوا إلى أن الكلام بعضه معطوف على بعض، فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، ثم أوقعوا الاستثناء في التوبة على كل الكلام، ورأوا أنه منتظم له". ثم قال: "والذي يختار هذا القول؛ لأن من قال به أكثر وأعلى، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمن وراءه مع أنه في النظر على هذا أصح، ولا يكون المتكلم بالفاحشة أعظم جرما من راكبها، ألا ترى أنهم لا يختلفون في العاهر أنه مقبول الشهادة إذا تاب؟ فراميه بها أيسر جرمًا إذا نزع عما قال وأكذب نفسه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله عز وجل التوبة من عبده كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، من ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ، ثم قال بعد ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ؛ فليس يختلف المسلمون أن هذا الاستثناء ناسخ للآية من أولها، وأن التوبة لهؤلاء جميعا بمنزلة واحدة، وكذلك قوله عز وجل في الطهور حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ؛ فصار التيمم لاحقا بمن وجب عليه الاغتسال كما لحق من وجب عليه الوضوء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر عمارا وأبا ذر بذلك، وعلى هذا المعنى تأول من رأى شهادة القاذف جائزة؛ لأنه كلام واحد بعضه معطوف على بعض وبعضه تابع بعضا، ثم انتظمه الاستثناء وأحاط به". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 الْفَاسِقُونَ} [النُّورِ: 4] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الْآيَةَ [النُّورِ: 5] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ1 مِثْلُهُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزُّمَرِ: 53] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2 الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] ، [وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 93] ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ. وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}   1 أخرج أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 275"، وابن جرير في "التفسير" "18/ 62"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 153" عن ابن عباس في قَوْلَهُ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، قال: ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ، قال: "فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله عز وجل تقبل". وهذا ليس بنسخ، وإنما هو استثناء. وانظر: "أحكام القرآن" "3/ 1327"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 313-315"، كلاهما لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "199" لابن الجوزي، و"فهم القرآن" "ص466-467" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص364" لمكي بن أبي طالب. 2 انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد "رقم 479"، و"الإيضاح" "ص398" لمكي، و"تفسير ابن جرير" "8/ 101/ رقم 8867 - ط شاكر"، و"فهم القرآن" "471" للمحاسبي. وقال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 350" بعد كلام: " .... فصارت الآية من جميع هذه الوجوه ساقطة في باب النسخ، ضعيفة في باب التخصيص، والله أعلم". 3 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبته من الأصل و"ط" و"الإيضاح" "ص398". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 [الْأَنْبِيَاءِ: 98] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ:1 بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2 [الْأَنْبِيَاءِ: 101] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] منسوخ بها   1 لأن من المعبودين عيسى وأمه كثيرا من الملائكة. "د". 2 أخرج الطبراني في "الكبير" "12/ 153/ رقم 12739"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1758 - موارد"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 173، 174" بسنده إلى ابن عباس؛ قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، قال عبد الله بن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا؛ فقال: يا محمد! أليس فيما أنزل الله عليك {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ؟ قال: "نعم". قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيزا، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة؛ فهؤلاء في النار؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . وفي إسناده عاصم بن بهدلة، ضعفه جماعة. وأخرجه البزار من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه: "ثم نسختها {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ... } "، وفيه شرحبيل بن سعد مولى الأنصار، وثقه ابن حبان، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" "7/ 68". وأخرجه من طرق أخرى: الحاكم في "المستدرك" "2/ 385"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 97"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص206"، والهروي في "ذم الكلام" "ص165"، وابن أبي حاتم والحارث بن أبي أسامة وابن مردويه في "تفاسيرهم"، ومن طريق ابن مردويه والواحدي والحارث ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 172"، والضياء في "المختارة"، والخبر عند ابن هشام في "السيرة" "1/ 259"، وابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 88-89"، وقال عنه في "تحفة الطالب" "رقم 235": "مشهور في كتب التفسير والسير والمغازي"، وسيأتي لفظه بتمامه عند المصنف "4/ 24"، وقال ابن حجر: "هذا حديث حسن". وانظر: "الإيضاح" "ص93، 351-352"، و"فهم القرآن" "ص357 و473" للمحاسبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 أَيْضًا1، وَهُوَ إِطْلَاقُ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. قَالَ مَكِّيٌّ2: "وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ نُسِخَ لَوَجَبَ زَوَالُ حُكْمِ دُخُولِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كُلِّهِمُ النَّارَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِزَالَةُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَحُلُولُ3 الثَّانِي مَحَلَّهُ، وَلَا يَجُوزُ زَوَالُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا بِكُلِّيَّتِهِ، إنما زال بعضه؛ فهو تخصيص4 وبيان".   1 أي: وكأن الأول ما حصل، وهو وإن لم يفد أنهم ومعبودهم ممن سبقت لهم الحسنى؛ إلا أنه قد زال كونهم حصب جهنم، وهو غير صحيح، هذا مراده. "د". قلت: قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 303" بعد كلام: "وهذا يبطل أن يكون ناسخا من وجهين ظاهرين: أحدهما: أن الأول عموم، والثاني خصوص؛ والخصوص لا ينسخ العموم، وإنما يخصه. الثاني: أن هذا ليس بتكليف بحكم ولا بفعل تعلق بأمر ونهي، وإنما هو وعيد ووعد، وليس فيها نسخ؛ إلا على الوجه الذي قدرناه من ارتفاع سبب الوعيد ليرتفع الوعيد بارتفاع سببه، وهذا بين لمن تأمله، والله أعلم". 2 انظر: "زاد المسير" "5/ 256"، و"تفسير القرطبي" "11/ 136"، و"الوسيط" "3/ 190"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 289-291" لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "ص193"، وفيه: "وهذا من أفحش الإقدام على الكلام في كتاب الله سبحانه بالجهل، وهل بين الآيتين تناف؟ فإن الأولى تثبت أن الكل يردونها، والثانية تثبت أنه ينجو منهم من اتقى، ثم هما خبران، والأخبار لا تنسخ". 3 في تفسيره "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره"، ونحوه في "الإيضاح" "ص93، 345-346". 4 أي: لمن يدخل النار من المعبودين، ويبقى الكلام في ورودها؛ فهل هو مخصص أيضا بآية: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} مع أن آية الورود فيها ما يفيد بقاء عمومها، وهو قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} ؟ وهو الذي يفيده حديث مسلم: "لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد". فقالت حفصة: بلى يا رسول الله. فانتهرها، فقالت: وإن منكم إلا واردها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية ". وكذا حديث ابن مسعود، راجع: "التيسير" في الآيتين، وعليه؛ فالآية الثانية لا يتعلق بها نسخ ولا تخصيص، وهذا هو الذي درج عليه شراح الحديث. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا 1 أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ: [النِّسَاءِ: 2] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 25] ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِشَرْطِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ2. وَالْأَمْثِلَةُ هُنَا كَثِيرَةٌ تُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّسْخِ بَيَانُ مَا3 فِي تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مُجَرَّدِ ظَاهِرِهِ4 إِشْكَالٌ وَإِيهَامٌ لِمَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ؛ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ؛ فَلْيُفْهَمْ هَذَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.   1 المراد بالطول الغنى والسعة كما فسره ابن عباس ومجاهد، والمراد بالمحصنات المؤمنات هنا الحرائر. "ف". 2 انظر: "الإيضاح" "ص219-220" لمكي بن أبي طالب، و"أحكام القرآن" "1/ 394" لابن العربي. 3 لفظ "ما" واقع على الدليل من الكتاب أو السنة، ومعنى الكلام حينئذ واضح، لا حاجة فيه إلى حذف ولا تغيير في لفظه. "د". 4 هكذا في الأصل و"د" و"ط" و"ف"، وعلق "ف": "لعله من مجرد ظاهرها من إشكال، تأمل" ا. هـ. وهكذا أثبتها "م". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ لَمْ يَقَعْ1 فِيهَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ فِي أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ بِدَلِيلِ الِاسْتِقْرَاءِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَعُودُ بِالْحِفْظِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ ثَابِتٌ، وَإِنْ فُرِضَ نَسْخُ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا؛ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْحِفْظِ، وَإِنْ فُرِضَ النَّسْخُ فِي بَعْضِهَا إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ؛ فَأَصْلُ الْحِفْظِ باقٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ رَفْعُ الْجِنْسِ. بَلْ زَعَمَ الْأُصُولِيُّونَ2 أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ مُرَاعَاةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَوْجُهُ الْحِفْظِ بِحَسَبِ كُلِّ مِلَّةٍ، وَهَكَذَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ فِي الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ3 اللَّهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] . وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35] . وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ4 مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الْأَنْعَامِ: 90] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} الآية [المائدة:   1 هذا الكلام سبق، ولكنه أعاده مقدمة لقوله بعد: "بل زعم الأصوليون"، واستدلاله بالآيات على كلام الأصوليين. "د". 2 انظر: "تعليل الأحكام" "285" للشلبي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص155" ليوسف العالم. 3 ففي الآية الأولى إقامة أصل الدين وعدم التفرق فيه، وفي الثانية الصبر وهو من مكارم الأخلاق، وهكذا الآيات بعدها فيها أصول الصلاة، والصيام، وإنفاق المال للفقراء، والقصاص "د". 4 في "ط": "كثيرا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وَكَثِيرٌ مِنَ الْآيَاتِ أُخْبِرَ فِيهَا بِأَحْكَامٍ كُلِّيَّةٍ كَانَتْ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ فِي شَرِيعَتِنَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الْحَجِّ: 78] . وَقَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] . وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 183] . وَقَالَ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] . وقال: {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس} [الْمَائِدَةِ: 45] . إِلَى سَائِرٍ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الضَّرُورِيَّاتِ. وَكَذَلِكَ الْحَاجِيَّاتُ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِمَا لَا يُطَاقُ، هَذَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ كُلِّفُوا بِأُمُورٍ شَاقَّةٍ؛ فَذَلِكَ لَا يَرْفَعُ أَصْلَ اعتبار الحاجيات، ومثل ذلك التحسينات؛ فقد قال تعالى1: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 29] ، وَقَوْلُهُ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الْأَنْعَامِ: 90] يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ دُخُولَ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.   1 انظر كيف يعد ما في هذه الآية من ضد التحسينات ومكارم الأخلاق، لا من ضد الضروريات، لا سيما قطع السبيل. "د". وكتب "م" ما نصه: "في اعتبار المؤلف ما ذكر في الآية من باب الحاجيات نظر، فإن بعضها على الأقل من باب الضروريات؛ فتأمل، والله يعصمك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ: 48] ؛ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ1 عَلَى الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ مَعَانِي الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، فَإِذَا كَانَتِ الشَّرَائِعُ قَدِ اتَّفَقَتْ فِي الْأُصُولِ مَعَ وُقُوعِ النَّسْخِ فِيهَا وَثَبَتَتْ وَلَمْ تُنْسَخْ؛ فَهِيَ فِي الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ الْجَامِعَةِ لِمَحَاسِنِ الْمِلَلِ أَوْلَى2، وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم.   1 أي: فيحمل عليه بخصوصه بحيث لا يتناول الكليات، لا سيما الضروريات المحفوظة في كل ملة وإن اختلفت تفاصيل الحفظ. "د". 2 انظر التوسع في هذا عند ابن تيمية: "قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع" مطبوع وضمن "مجموع الفتاوى" له "19/ 106-128"، و"مجموعة الرسائل المنيرية" "3/ 128-165"، والشوكاني في رسالته المطبوعة "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع"، وانظر منها "ص19-27، 48 وما بعدها"، وابن العربي في "أحكامه" "4/ 1654-1655"، والقسطلاني في "إرشاد الساري" "5/ 416". وانظر في عدم جواز النسخ في الأخبار: "درء تعارض العقل والنقل" "5/ 208"، و"أحكام أهل الذمة" "2/ 590-591"، و"فهم القرآن" "359" للمحاسبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَسْتَلْزِمُ طَلَبًا وَإِرَادَةً1 مِنَ الْآمِرِ؛ فَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِرَادَةَ إِيقَاعِهِ، وَالنَّهْيُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عنه وإرادة لعدم إيقاعه، ومع   1 ليس المراد بها أثر الصفة التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه؛ لأن هذه لا تلازم الأمر عند أهل السنة كما سيقول، بل ذلك عند المعتزلة؛ حتى اضطروا إلى التزام أنه تعالى يريد الشيء ولا يقع ويقع وهو لا يريده، وقد استدل السنيون بجملة أدلة منها إيمان أبي لهب مطلوب بالاتفاق، وهو ممتنع الوقوع، وإلا؛ لانقلب العلم جهلا، وإذا كان ممتنعا؛ فلا تصح إرادته بالاتفاق منا ومنهم، وقد اعترف أبو علي وابنه أبو هاشم بأن الطلب غير الإرادة، قال ابن برهان: "لنا ثلاث إرادات: إرادة إيجاد الصيغة، وإرادة صرف اللفظ عن غير جهة الأمر، وإرادة الامتثال"، والأخيرة هي محل النزاع بيننا وبين أبي علي وابنه، وقد ذكر هذه الثلاث الغزالي والإمام، واحتج أبو علي بأن الصيغة كما ترد للطلب تأتي للتهديد، ولا فارق إلا الإرادة، وأجيب بأن التهديد مجاز، والمؤلف ذكر رابعا. "د". قلت: انظر في المسألة: "البحر المحيط" "4/ 65"، و"المحصول" "2/ 19 وما بعدها"، و"التمهيد" "1/ 124"، و"المسودة" "54"، و"البرهان" "1/ 204"، و"المستصفى" "1/ 415"، و"التبصرة" "18"، و"روضة الناظر" "2/ 601"، والمقرر فيها جميعا أنه لا يشترط في كون الأمر أمرا إرادة الآمر، وهذا مذهب أهل السنة، ونسب إلى الآئمة الأربعة، وهو مذهب الجماهير وقول الأكثرين، والاشتراط مذهب المعتزلة؛ كما تراه في "المعتمد" "1/ 50"، و"المغني" "17/ 113-114" لعبد الجبار، والمتأمل في المسألة يعلم أن المصنف يفصل في المسألة كما سيأتي، وأن الخلاف من باب "لا مشاحة في الاصطلاح" على حد تعبيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 هَذَا؛ فَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَتَضَمَّنَانِ أَوْ يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةً1، بِهَا يَقَعُ الْفِعْلُ أو الترك أو لا يقع. ويبان ذَلِكَ أَنَّ الْإِرَادَةَ جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ2: أَحَدُهُمَا 3: الْإِرَادَةُ الخَلْقية الْقَدَرِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكُلِّ مُرَادٍ؛ فَمَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ كَانَ، وَمَا أَرَادَ أَنْ لَا يَكُونَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِهِ، -أَوْ تَقُولُ-4: وَمَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِهِ. وَالثَّانِي: الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ5 بِطَلَبِ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَعَدَمِ إيقاع   1 أي: من المأمور والمنهي؛ لأنه بإرادته يقع الفعل أو لا يقع، وإن كانت إرادته لا تكون نافذة إلا بمشيئة الله، وما تشاءون إلا أن يشاء الله. "د". 2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 412-414 و8/ 58-61، 8/ 159-161، 187-190، 197-200، 440-442، 476-478 و10/ 24-27 و11/ 266 و17/ 62-65". 3 في الأصل: "إحداهما". 4 التشقيق في العبارة مبني على أن الأعدام التي لا توجد؛ هل تعلقت الإرادة بألا توجد، أو أنه لم تتعلق الإرادة بوجودها فقط؟ وليس بلازم تعلقها بعدم الوجود كما قالوه في المكلف به في النهي الكف أو نفي الفعل، فمن قال: نفي الفعل؛ قيل عليه: إنه عدم لا يصلح أثرا للقدرة، يعني: ولا يصلح أثرا للإرادة فيجيب بأنه يصلح؛ إذ يمكنه ألا يفعل فيستمر العدم، ويمكنه أن يفعل فلا يستمر؛ فيصلح العدم أن يكون متعلقًا للقدرة والإرادة، وعليه؛ فالعبارة الثانية أوسع في الشمول من الأولى. "د". 5 ظاهره أن الإرادة تنص على الطلب نفسه، مع أنه لو كان كذلك؛ لنافى غرضه من تعلقها بنفس المراد على معنى محبته والعناية بشأنه، ولكان هذا هو الذي أجاب به الفخر عن استشكال آية: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} كما سيأتي، مع أن جوابه مبني على المعنى الأول في الإرادة، لذلك يلزم فهمه على معنى أنها ملازمة للطلب، ويدل عليه قوله: "فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني ... إلخ"، ولا ينافيه قوله بعد: "وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع"؛ لأنه يجب حمله على ما قرره هنا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 المنهي عنه، ومعنى هذه الإرادة أنه يجب1 فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَرْضَاهُ، [وَيُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمَأْمُورُ وَيَرْضَاهُ] 2 مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ3 النَّهْيُ يُحِبُّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيَرْضَاهُ. فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ؛ فَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي بالأمر؛ إذ الأمر يستلزمها لأن حقيقته4 إِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ5؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِلْزَامُ مُرَادًا، وَإِلَّا لَمْ يكن إلزاما ولا تصور لَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ. وَأَيْضًا؛ فَلَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ الْإِلْزَامَ مَعَ الْعُرُوِّ عَنْ إِرَادَةِ إِيقَاعِ الْمُلْزَمِ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ؛ فَكَانَ أَيْضًا مُرِيدًا لِوُقُوعِ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ، فَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَدَرِيُّ، وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ؛ فَلَمْ يُرِدْ وُقُوعَ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ؛ فَكَانَ الْوَاقِعُ التَّرْكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْإِرَادَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَسْتَلْزِمُهَا الْأَمْرُ؛ فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ، وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ، وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي؛ فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يُرِيدُ، وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا لَا يُرِيدُ. وَالْإِرَادَةُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ قَدْ جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَقَالَ: تَعَالَى فِي الْأُولَى:   1 في الأصل: "يجب" بياء وجيم، وهو تحريف، وصوابه: "يحب"، وكذا فيما بعده. "ف". قلت: ووقعت على الجادة في جميع النسخ. 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "لعله: وكذلك [في] النهي" ا. هـ. قلت: وقد أضافها "م" كعادته. 4 في "ط": "حقيقة". 5 في العبارة تسامح لا يخفى؛ فإن الترك ليس حقيقة الأمر. "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 125] . وَفِي حِكَايَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] . وقال تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الْبَقَرَةِ: 253] . وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا. وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ 1 بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] . {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 6] . {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26-28] .   1 في الفخر: استدل به المعتزلة على أنه يقع من العبد ما لا يريده الله؛ لأنه إذا تكلف المريض وصام يكون قد فعل العسر الذي لم يرده الله، وأجاب بأنه لم يرد الأمر به وإن كان يريد نفس العسر، ولم أجد في "الآلوسي" ولا في "البغوي" أيضا تفسير الإرادة بالرضا والمحبة في هذه الآيات كما قاله المؤلف، ومتى ثبت له مستند من اللغة؛ كان أفضل حل لإشكالات المعتزلة في مثل هذه الآيات، أما صاحب "القاموس"؛ فقال: "الإرادة: المشيئة"، وأما شارحه؛ فلم يزد شيئا، وقال في "اللسان": "أراد الشيء: شاءه"، ثم قال: "أراد الشيء: أحبه، وعني به"؛ فتم للمؤلف ما أراد رحمه الله. "د". قلت: انظر "التفسير الكبير" "5/ 78-79" للرازي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الْأَحْزَابِ: 33] . وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا أَيْضًا. وَلِأَجْلِ عَدَمِ التَّنَبُّهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ وَقَعَ الْغَلَطُ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَرُبَّمَا نَفَى بَعْضُ النَّاسِ الْإِرَادَةَ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقًا1، [وَرُبَّمَا نَفَاهَا بَعْضُهُمْ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مُطْلَقًا وَأَثْبَتَهَا2 فِي الْأَمْرِ مُطْلَقًا] 3، وَمَنْ عَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَحَاصِلُ الْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ أَنَّهَا إِرَادَةُ التَّشْرِيعِ4، وَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهَا بِإِطْلَاقٍ، وَالْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ هِيَ إِرَادَةُ التَّكْوِينِ، فَإِذَا رَأَيْتَ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ5 إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَصْدِ6 وَإِضَافَتِهِ إِلَى الشَّارِعِ؛ فَإِلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ أُشِيرُ، وَهِيَ أَيْضًا إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ، وهو شهير7 في عرف8 الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا: "إِرَادَةَ التَّكْوِينِ"، [وَيَعْنُونَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ] وَيَعْنُونَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي9 الَّذِي يَجْرِي ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الْقَصْدِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، ولا مشاحة في الاصطلاح، والله المستعان.   1 أخذا بظاهر رأي أهل السنة في عدم التلازم بين الأمر والإرادة، غافلا عن تعدد معنى الإرادة. "د". 2 أخذا بظاهر رأي المعتزلة في تضمن الأمر الإرادة أو استلزامه لها. "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 4 أي: التي تقع في مقام التشريع كما في الآيات الأخيرة، ومثله يقال في قوله: "إرادة التكوين". "د". 5 أي: التصنيف، وهو هذا الكتاب. "ف". 6 وسترى منه في المسألة الثانية الشيء الكثير. "د". 7 لعل في العبارة تحريفا، وتحريرها: "وقد اشتهر فِي عِلْمِ الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا: إِرَادَةَ التَّكْوِينِ، ويعنون بها المعنى الثاني". "ف". 8 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم". 9 فيطلقون إرادة التكوين على إرادة التشريع، وهو خلاف اصطلاح هذا الكتاب، وقد لا تخلوا العبارة من تحريف. "د". قلت: لا تحريف مع إثبات ما بين المعقوفتين، وهو من انفراد "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ1 يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى إِيقَاعِهَا، كَمَا أَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِتَرْكِ إِيقَاعِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ وَاقْتِضَاءُ التَّرْكِ2، وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ الطَّلَبُ، وَالطَّلَبُ يَسْتَلْزِمُ3 مَطْلُوبًا وَالْقَصْدُ4 لِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، وَلَا مَعْنَى لِلطَّلَبِ إِلَّا هَذَا. وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ طَلَبٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ لِإِيقَاعِ الْمَطْلُوبِ لَأَمْكَنَ5 أَنْ يَرِدَ أَمْرٌ مَعَ الْقَصْدِ لِعَدَمِ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَنْ يَرِدَ النهي مَعَ الْقَصْدِ لِإِيقَاعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ أَمْرًا وَلَا النَّهْيُ نَهْيًا، هَذَا خُلْفٌ، وَلَصَحَّ6 انْقِلَابُ الْأَمْرِ نَهْيًا وَبِالْعَكْسِ، وَلَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ فِعْلٍ أَوْ عَدِمَهُ7؛ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُبَاحًا8 أَوْ مسكوتا عن   1 انظر التقييد بالمطلقات؛ هل سببه أن الأمر دائما لا يكون إلا بمطلق، فيكون لبيان الواقع؟ "د". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "22/ 529-530". 2 أي: أو الكف، على الخلاف في معنى النهي. "د". 3 أي: لأنه معنى نسبي لا يتحقق إلا بطالب ومطلوب. "د". 4 هو عين الدعوى. "د". 5 لأن فرض ذلك حينئذ لا يكون محالا؛ فيتحقق حينئذ معنى الإمكان. "د". 6 لازم لقوله: "لأمكن ... إلخ"؛ فقد رتب على هذا الفرض في هذا الوجه ثلاثة لوازم باطلة: ألا يكون الأمر أمرا، وهو سلب الشيء عن نفسه، وانقلاب كل من الأمر والنهي إلى الآخر، وهو قلب الحقائق، والثالث أن يكون الْمَأْمُورُ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُبَاحًا أَوْ مسكوتًا عن حكمه، وهو قلب للحقيقة أيضا. "د". 7 في "م": "وعدمه". 8 أي: إن اعتبر الأمر المذكور دليلًا شرعيًا لا قصد فيه لإيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو حقيقة المباح، وقوله: "أو مسكوتًا عنه"؛ أي: إذا لم يعتبر دليلًا شرعيا رأسًا، وهذا الثاني توسيع في الغرض، وإلا؛ فأصل الكلام أن هناك صيغة لم يقصد بها إيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو المباح لا غير، ومحل اللازم المحال قوله: "فيكون المأمور به أو المنهي عنه ... إلخ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 حُكْمِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ كَلَامُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ بِاتِّفَاقٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ مَقْصُودًا إِلَى إِيقَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، فَإِنَّ جَوَازَهُ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُمْكِنُ1 إِيقَاعُهُ عَبَثٌ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ2 إِلَى الْأَمْرِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَبَثًا، وَتَجْوِيزُ الْعَبَثِ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ؛ فَكُلُّ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ مُحَالٌ وَذَلِكَ اسْتِلْزَامُ الْقَصْدِ إِلَى الْإِيقَاعِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْإِيقَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحْظُورٌ عَقْلِيٌّ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.   1 أي: عادة حتى يتكرر الحد الأوسط؛ فإن هذا هو ما لا يطاق الذي جوز التكليف به وإن لم يقع، أما ما لا يمكن عقلا؛ فلا، وسيأتي في قوله: "لأن حقيقته إلزام ما لا يقدر على فعله" ما يفيد ذلك. "د". 2 لو قال: فيلزم أن يكون الأمر الذي يلزمه القصد إلى إيقاع ما لا يطاق عبثًا؛ لكان أوضح، أو يحذف كلمة القصد ويكتفي عنها بقوله بعد: "وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع"؛ أي: وسبب المحال استلزام ... إلخ، ولكنه في الجواب الآتي يجعل القصد منصبًا على الأمر نفسه، لا على المأمور به، ويأتي للكلام بقية هناك؛ فتنبه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 وَالثَّانِي: أَنَّ مِثْلَ1 هَذَا يَلْزَمُ فِي السَّيِّدِ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهَ بِحَضْرَةِ مَلِكٍ قَدْ تَوَعَّدَ السَّيِّدَ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ، وَطَلَبَ تَمْهِيدَ عُذْرِهِ بِمُشَاهَدَةِ الْمَلِكِ؛ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الْعَبْدَ وَهُوَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِإِهْلَاكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ2 لَا يَصْدُرُ مِنَ الْعُقَلَاءِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا وَهُوَ آمِرٌ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ؛ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ آمِرٍ قَاصِدًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ حَرْفًا بِحَرْفٍ3، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ، نَحْوَ {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الْحَجِّ: 15] ، وَفِي أَمْرِ التَّهْدِيدِ نَحْوَ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40] ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْجِزَ وَالْمُهَدِّدَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي تِلْكَ الصِّيغَةِ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُطَاقُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ حُصُولُهُ؛ إِذِ الْقَصْدُ إِلَى الْأَمْرِ4 بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِرَادَةَ الشَّيْءِ، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ إِرَادَةُ الفعل، وهو رأي المعتزلة5،   1 إنما قال "مثله"؛ لأنه مما يطاق، غاية ما فيه أنه لا يصدر عن العقلاء وإن أمكن؛ إلا أنه يشارك الأول في أن كلا لا يصدر عن العاقل. "د". 2 عورض هذا بأنه لا يصدر عن العاقل أيضا طلب تكذيب نفسه المؤدي لإهلاك نفسه في تصوير هذا، مع أنهم اتفقوا جميعا على دلالة الأمر على الطلب، وأنه لا ينفك عنه، وإن اختلفوا في استلزامه الإرادة؛ فما هو جوابهم فهو جوابنا. "د". 3 أي: في الإشكالين جميعا. "د". 4 أي: الذي يستلزم قصد إيقاعه لا يستلزم إرادة حصوله، ولا يخفى عليك أن لفظ القصد هنا ليس هو محل القصد في موضوع المسألة؛ لأنه في موضوع المسألة واقع على المطلوب، لا على نفس الأمر؛ فلا يشتبه عليك، ولو حذفه؛ لكان أظهر، وقد سبق نظيره. "د". 5 يقولون: إن الإرادة تستلزم الأمر والرضا والمحبة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 وَأَمَّا الْأَشَاعِرَةُ؛ فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ، وَإِلَّا وَقَعَتِ1 الْمَأْمُورَاتُ كُلُّهَا. وَأَيْضًا، لَوْ فُرِضَ فِي تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ؛ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِلْزَامُ فِعْلِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِلْزَامُ الْفِعْلِ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ أَوْ لَازَمَ الْقَصْدَ إِلَى أن يفعل، فإذا عدم2 ذَلِكَ؛ فَلَا تَكْلِيفَ بِهِ؛ فَهُوَ طَلَبٌ لِلتَّحْصِيلِ3 لَا طَلَبٌ لِلْحُصُولِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَاضِحٌ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَسْئِلَةِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ؛ فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحَصِّلَ4 مَا أَمَرَ بِهِ، وَلَمْ يَطْلُبْ حُصُولَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ طَلَبِ التَّحْصِيلِ وَطَلَبِ الحصول.   1 أي: أو لم يقع ما يريده منها؛ فلم يقع مراد الله ووقع مراد عبده، ولا تخفى شناعته وإن التزمه المعتزلة. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم"، وقال "د": "لعل الأصل: "عدم" بالدال؛ أي: فحيث كان تكليف ما لا يطاق هو إلزام المكلف به، وإلزام الفعل هو قصد أن يفعل، فحيث يعدم القصد؛ فلا تكليف، وهو خلاف الفرض". 3 وتكون فائدة التكليف ابتلاء الشخص واختباره بتوجهه لمبادئ الامتثال أو عدم توجهه، وكان حقه أن يذكر هذا؛ لأنه في الحقيقة هو الجواب عن لزوم العبث، وأما كون حصوله غير مقصود؛ فهو مما يقوي العبث لا أنه يزيله ويدفعه. "د". 4 لا يخفى عليك ضعف هذا الجواب لأنه لا يطلب تحصيله أيضا؛ لأن العاقل لا يطلب تحصيل ما فيه هلاكه بمقتضى تصويره المسألة؛ فالأحسن ما قالوه، وهو أن هذا صيغة أمر لا حقيقته كما في أمر التعجيز والإباحة، ثم وجدت الاعتراض مقررا في المسألة من جانب المعتزلة بأن العاقل لا يطلب ما فيه مضرته وتحقيق عقابه؛ فما يكون جواب أصحابنا عند تفسير الأمر بالطلب يكون جوابًا للمعتزلة عن تفسيره بالإرادة، وإن كانت الإرادة عندهم يلزم في تخلف مرادها شناعة، انظر تقريره في "الإحكام" للآمدي [2/ 119] . "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 وَأَمَّا أَمْرُ التَّعْجِيزِ وَالتَّهْدِيدِ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ1 بِأَمْرٍ، وَإِنْ قِيلَ: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَجَازِ؛ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ2 إِذِ الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مَجَازِيًّا فَيَسْتَلْزِمُ قَصْدًا بِهِ يَكُونُ3 أَمْرًا، فَيُتَصَوَّرُ4 وَجْهُ الْمَجَازِ، وَإِلَّا؛ فَلَا يَكُونُ أَمْرًا دُونَ قَصْدٍ إلى إيقاع المأمور به بوجه.   1 ولذلك أخرجوه من تعريف الأمر بظهور أن المراد بالأمر الصيغة مرادًا منها ما يتبادر عند الإطلاق، وهو الطلب. "د". 2 أي: يجري على ما تقدم من أن المقصود التحصيل لا الحصول، وكلامه صريح في أن فرض كونه مجازا لا يفيد بمجرده في دفع الإشكال؛ لأنه يستلزم أيضًا القصد الذي يكون به أمر ... إلخ، وهذا إنما يظهر فيما لو جعلنا صيغة الخبر طلبًا ومجازًا؛ فيجيء فيه أنه لا بد من قصد إيقاع المطلوب، وموضوعنا بالعكس، وهو أن صيغة الأمر إذا أخرجت عما وضع له الأمر الحقيقي وهو الطلب رأسًا إلى معنى آخر كالإباحة والتهديد والتعجيز والتسخير ... إلخ؛ فليس هنا طلب يحتاج إلى قصد إيقاع المطلوب؛ فعليك بالتأمل. "د". 3 في "ط": "يكون به". 4 لا يتوقف وجه المجاز على هذا، راجع ما في الإسنوي في هذا المقام؛ فقد ذكر فيه القرائن والعلاقات بين معنى الأمر الموضوع له وبين المعاني الأخرى التي استعمل فيها لفظه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ1 لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوِ اسْتَلْزَمَ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ لَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْمُطْلَقِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ: "أَعْتِقْ رَقَبَةً"؛ فَمَعْنَاهُ أَعْتِقْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَلَوْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ لَكَانَ مَعْنَاهُ: أَعْتِقِ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ الْفُلَانِيَّةَ؛ فَلَا يكون أمرًا بمطلق ألبتة.   1 أي: غير المقيد بقيد خاص اختلفوا فيه، قال في "الإحكام" "2/ 269": "قال أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة، ولا تعلق له بشيء من جزئياتها، [وذلك] كالأمر بالبيع؛ فإنه لا يكون أمرا بالبيع بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل؛ إذ هما متفقان في مسمى البيع، ومختلفان بصفتهما، والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك، وهو غير مستلزم لما تخصص به كل واحد من الأمرين؛ فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقا بالأخص؛ إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد المعنيين"، ثم قال "2/ 270": "وهو غير صحيح؛ لأن ما به الاشتراك بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان، وإلا كان موجودا في جزئياته، ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك، وهو محال، وعلى هذا؛ فليس معنى اشتراك الجزيئات في المعني الكلي هو أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية، بل إن تصور وجوده؛ فليس في غير الأذهان"، ثم قال: "وطلب الشيء يستدعي كونه متصورا في نفس الطالب، وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه؛ فلا يكون متصورا في نفس الطالب، فلا يكون أمرا به، ولأنه يلزم منه التكليف بما لا يطاق، ومن أُمر بالفعل مطلقًا لا يقال: إنه مكلف بما لا يطاق، فإذًا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان، لا بالمعنى الكلي" ا. هـ. قال "د": "أما المؤلف؛ فله رأي آخر غير هذين الرأيين؛ كما سيتبين لك عند الجواب عن الإشكال الأول". قلت: قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "16/ 79" أنه "ليس تقييد المطلق رفعًا لظاهر اللفظ، بل ضم حكم آخر إليه"، وهذا وما قاله المصنف مسلك حسن؛ فإنه يجب الفرق بين ما يثبته اللفظ وبين ما ينفيه، وانظر: "المسودة" "ص149"، و"المحصول" "2/ 254". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ بَابِ الثُّبُوتِ، وَثُبُوتُ الْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ [ثُبُوتَ] 1 الْأَخَصِّ؛ فَالْأَمْرُ بِالْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْأَخَصِّ، وَهَذَا عَلَى اصْطِلَاحِ بَعْضِ2 الْأُصُولِيِّينَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْكُلِّيَّاتِ الذِّهْنِيَّةَ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا بِالْمُقَيَّدِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ3 مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا4؛ لَزِمَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وُقُوعًا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ فِي النَّصِّ، وَلَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْمُورٍ، وَهَذَا مُحَالٌ5، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ؛ فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَازِمٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِمَجْهُولٍ، وَالْمَجْهُولُ لَا يُتَحَصَّلُ بِهِ امْتِثَالٌ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُقَيَّدِ؛ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ قَصْدُ الشَّارِعِ مُتَعَلِّقًا بِالْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقَيَّدٌ6؛ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا لَهُ لأنا قد فرضناه أَنَّ قَصْدَهُ إِيقَاعَ الْمُطْلَقِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ قصد في إيقاع المقيد؛ لم يكن   1 سقط من "ط". 2 سيأتي له في الجواب أن المعتبر عند العرب غير ذلك، وهو ما يريد حمل الكلام عليه بعد، يعني: فهذا الدليل مبني على هذا الاصطلاح الذي لم يكن يبن كلامه عليه، وهو يضعف هذا الدليل. "د". 3 لا يلزم من كونه مقيدا بقيد مخصوص أن يكون معينا؛ لأن التعيين إنما يكون بتشخصه تشخصا تامًا لا اشتراك فيه، ومجرد التقييد بقيد مخصوص كتقييد البيع بثمن المثل لا يفيد هذا التشخص؛ فصح كلامه، ولا يقال: كيف يكون الفرض أنه أمر بمقيد، ويشقق فيه بين كونه معينا وغير معين؟ "د". 4 وهو جزئي من جزئيات لا تتناهى، ولم يعينه الشارع بنص؛ فالتكليف به حينئذ تكليف بما ليس في وسع المكلف الوصول إلى ما يعينه ويحدده ليمتثل بفعله. "د". 5 أي: محال أن يقع الشيء الواحد المعين من كل واحد من المأمورين؛ لأن الجزئي الذي يفعله زيد غير الذي يقوم به عمرو، وهكذا، ويكون التكليف به تكليفا بمحال، وإنما يلزم أن يكون هذا المعين بالنسبة إلى كل المأمورين لأنه المطلوب الموجه إلى سائرهم بلفظ واحد مطلق أريد منه هذا المعين كما هو الفرض. "د". 6 أما من حيث إنه فرد تحقق فيه المطلق المقصود إيقاعه فيتعلق به القصد. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 قَصْدُهُ إِيقَاعَ الْمُطْلَقِ، هَذَا خُلْفٌ لَا يُمْكِنُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا 1: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ؛ لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالًا أَيْضًا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُوجَدُ في الخارج، وإنما مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ فِي الْخَارِجِ؛ إِذْ لَا يَقَعُ بِهِ الِامْتِثَالُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِ فِي الْخَارِجِ، وَإِذْ ذَاكَ يَصِيرُ مُقَيَّدًا [لَا مُطْلَقًا] 2؛ فَلَا يَكُونُ بِإِيقَاعِهِ مُمْتَثِلًا، وَالذِّهْنِيُّ لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهُ فِي الخارج؛ فيكون3 التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْأَمْرِ بِالْمُقَيَّدِ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ الْأَمْتِثَالُ؛ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، بَلِ الْقَوْلُ4 بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُقَيَّدَ لَوْ لَمْ يُقْصَدْ فِي الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ لَمْ5 يَخْتَلِفِ الثَّوَابُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْرَادِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ عَلَى تساوٍ، فَكَانَ يَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى تساوٍ أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَقَعُ الثَّوَابُ عَلَى مَقَادِيرِ الْمُقَيَّدَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ؛ فَالْمَأْمُورُ بِالْعِتْقِ إِذَا أَعْتَقَ أَدْوَنَ الرِّقَابِ كَانَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، وَإِذَا أَعْتَقَ الْأَعْلَى كَانَ ثَوَابُهُ أَعْظَمَ، وَقَدْ سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ؛ فَقَالَ: "أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أهلها" 6،   1 هذا الاعتراض هو بعينه دليل الآمدي على عدم صحة رأس المسألة هنا كما نقلناه لك، وقد ترك اللازم الأول في كلامه، واكتفى بلزوم التكليف بما لا يطاق. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبته من الأصل و"ط". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا يكون"، ولذا كتب "د": "لا يستقيم المعنى إلا بحذف كلمة "لا". قلت: سبقة "ف"؛ فقال: "لعله: فيكون، تأمل" ا. هـ. 4 في "ط": "إليه، والقول". 5 في "ط": "يقصد بالأمر لم ... ". 6 أخرجه البخاري في الصحيح "كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل، 5/ 148/ رقم 2518"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 84" عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وَأَمَرَ بِالْمُغَالَاةِ فِي أَثْمَانِ الْقُرُبَاتِ كَالضَّحَايَا1، وَبِإِكْمَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا2 مِنَ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهَا أَعْظَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَصْدَ الْأَعْلَى فِي أَفْرَادِ الْمُطْلَقَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي أَفْرَادِ الْمُطْلَقَاتِ مُوجِبًا لِلتَّفَاوُتِ فِي الدَّرَجَاتِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمُقَيَّدَاتِ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ وإن حصل الأمر بالمطلقات.   1 يدل عليه فعله صلى الله عليه وسلم مما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا/ رقم 2796"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء فيما يستحب من الأضاحي، 4/ 85/ رقم 1496"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الضحايا"، باب الكبش، 7/ 221"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يستحب من الأضاحي/ رقم 3128"، والحاكم في المستدرك "4/ 228" عن ابن سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويشرب في سواد، وإسناده صحيح على شرط مسلم. و"الأقرن": ذو القرنين، و"الفحيل": الكريم المختار للفحلة، ويقال: المنجب في ضرابه، وأراد به النبل وعظم الخلقة، و"يأكل في سواد ... " أراد أن فمه وما أحاط بملاحظ عينه من وجهه وأرجله أسود، وسائر بدنه أبيض. والأقرب إلى لفظ المصنف ما أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 424"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 231"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 69/ رقم 1384"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 268" عن أبي الأسد -بالسين، وقيل بالشين المعجمة- السلمي عن أبيه عن جده؛ قال: كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر فجمع كل رجل منا درهمًا، فاشترينا أضحية بسبعة رداهم؛ فقلنا: يا رسول الله! لقد أغلينا بها. قال: "إن أفضل الضحايا أغلاها ثمنًا وأنفسها". وإسناده ضعيف، أبو الأسد -أو الأشد- مجهول، وكذا أبوه، وقيل: إن جده عمرو بن عبس، وفيه أيضًا عثمان بن زفر الجهني، وهو مجهول أيضا؛ كما في "التقريب"، وممن أشار إلى ضعفه الهيثمي في "المجمع" "4/ 21"، وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1678". 2 وهذه كانت صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، أخرجه البخاري، ومضى تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُطْلَقِ عِنْدَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّكْلِيفَ بِأَمْرٍ ذِهْنِيٍّ، بَلْ مَعْنَاهُ التَّكْلِيفُ بِفَرْدٍ1 مِنَ الْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، أَوِ الَّتِي يَصِحُّ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ مُطَابِقًا لِمَعْنَى اللَّفْظِ، [بِحَيْثُ] 2 لَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ صُدِّقَ وَهُوَ الِاسْمُ النَّكِرَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِذَا قَالَ: "أَعْتِقْ رَقَبَةً"3؛ فَالْمُرَادُ طَلَبُ إِيقَاعِ الْعِتْقِ بِفَرْدٍ مِمَّا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا4 لَمْ تُضَعْ لَفَظُ الرَّقَبَةِ إِلَّا عَلَى فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ غَيْرِ مُخْتَصٍّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، هَذَا هُوَ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَالْحَاصِلُ أن الأمر به أمر بواحد مما5 فِي الْخَارِجِ، وَلِلْمُكَلَّفِ اخْتِيَارُهُ فِي الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ الَّذِي الْتَفَتَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ مَفْهُومًا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْمُطْلِقِ أَوْ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ فِي أَمْرٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْ مقتضى مفهوم   1 وبهذا يكون قد قال في المسألة قولًا وسطًا؛ فالأمر عنده ليس متوجهًا إلى الماهية الذهنية لما ورد عليه من إشكالات، ولا إلى المقيد لما ورد عليه من إشكالات، بل إلى فرد من الأفراد الخارجية التي يصدق عليها معنى اللفظ، وللمكلف اختياره في أحدها، ويؤول هذا إلى أن المكلف به الماهية المتحققة في فرد ما مما تصدق عليه تلك الماهية؛ فلا ترد الإشكالات التي تقدمت في هذه المسألة وفي المسألة الرابعة من كتاب الأدلة، وقد عرفت فيما نقلناه عن الآمدي أن هذه المسألة كما هي من مسائل الأصول المدونة، وقد خالف المؤلِّف في البحث عن هذه المسألة طريقته في هذا المؤلَّف؛ ليفيد أن له اختيارًا خاصًا يخلص من الإشكالات فيها. "د". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط". 3 أي معناه: وإلا؛ فلفظ الرقبة لا صدق له، وإذا كان الصادق هو معناه وصدقه حملة عليه حمل الكلي على جزئيه قطعًا؛ رجعنا إلى أن التكليف بماهية المطلق المتحققة في فرد ما من أفرادها، وهذا هو المعنى الذي جرى عليه سابقًا في المسألة الرابعة. "د". 4 في "ط": "فكأنها". 5 كذا في "ط"، وفي غيره: "كما"، وكتب "د": "لعل الأصل: مما في الخارج". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 [الْمُطْلَقِ] 1، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ؛ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ إِنَّمَا فُهِمَ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ؛ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الرِّقَابِ أَعْلَاهَا2، وَأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى جَمِيعِ آدَابِهَا الْمَطْلُوبَةِ أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي نَقَصَ مِنْهَا بَعْضُ ذَلِكَ3، وَكَذَا سَائِرُ المسائل؛ فمن هنالك كان مقصودًا للشارع4، وَلِذَلِكَ كَانَ نَدْبًا لَا وُجُوبًا وَإِنْ كَانَ الأصل واجبًا لأنه زاد عَلَى مَفْهُومِهِ؛ فَإِذَا الْقَصْدُ إِلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ عَلَى بَعْضٍ يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْأَفْرَادِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ، بَلْ [بِدَلِيلٍ مِنْ] 5 خَارِجٍ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقَيَّدٌ. بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ؛ فَإِنَّ أَنْوَاعَهُ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِالْإِذْنِ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْمُكَلَّفُ رَقَبَةً، أَوْ ضَحَّى بِأُضْحِيَةٍ، أَوْ صَلَّى صَلَاةً وَمِثْلُهَا مُوَافِقٌ لِلْمُطْلَقِ؛ فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمُطْلَقِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمّ فَضْلٌ زَائِدٌ، فَيُثَابُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى النَّدْبِ الْخَارِجِيِّ، وَهُوَ مُطْلَقٌ أَيْضًا، وَإِذَا كَفَّرَ بِعِتْقٍ؛ فَلَهُ أَجْرُ الْعِتْقِ، أَوْ أَطْعَمَ فَأَجْرُ الْإِطْعَامِ، أَوْ كَسَا فَأَجْرُ الْكِسْوَةِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَ، لَا لِأَنَّ6 لَهُ أَجْرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا كَفَرَ [بِهِ] 7؛ فَإِنَّ تَعْيِينَ الشَّارِعِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ يَقْتَضِي قَصْدَهُ إِلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فِي الْمُطْلَقَاتِ8 يَقْتَضِي عَدَمَ قَصْدِهِ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدِ انْدَرَجَ هُنَا أَصْلٌ آخر، وهي:   1 سقط من "ط". 2 مضى ما يدل عليه "ص381". 3 مضى ما يدل عليه "ص382". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "مقصود الشارع". 5 كذا في "ط"، وبدل ما بين المعقوفتين في غيره: "من دليل". 6 في "ط": "لا أن له"، وقال "د": "لعله: "لا أن له"، ويكون محصل الفرق أن ثواب الزائد من دليل خارجي المطلق، ومن نفس دليل الواجب في المخير". 7 زيادة من "م"، وسقطت من الأصل و"ف" و"د" و"ط". 8 في "م": "المطلق". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 المسألة الرابعة: وترجمتها أن الأمر بالمخير1 يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى أَفْرَادِهِ الْمُطْلَقَةِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ شَاهِدُ الطَّبْعِ خَادِمًا لَهُ وَمُعِينًا عَلَى مُقْتَضَاهُ2، بِحَيْثُ يَكُونُ الطَّبْعُ الْإِنْسَانِيُّ بَاعِثًا عَلَى مُقْتَضَى الطَّلَبِ؛ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْوِقَاعِ، وَالْبُعْدِ3 عَنِ اسْتِعْمَالِ الْقَاذُورَاتِ مِنْ أَكْلِهَا وَالتَّضَمُّخِ بِهَا، أَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ مِنَ الْعُقَلَاءِ4 فِي مَحَاسِنَ الشِّيَمِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مُوَافِقَةً لِمُقْتَضَى ذَلِكَ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ طَبِيعِيٍّ؛ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ5، وَالْحِفْظِ6 عَلَى النِّسَاءِ وَالْحَرَمِ7، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزًا من الزنى ونحوه8 مما   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "المخير". 2 لفظ: "مقتضى" مقتحم، والأصل: "معينًا عليه"؛ كما يدل عليه قوله: "باعثًا على مقتضى الطلب" الذي هو المطلوب. "د". 3 جعله فيما يأتي مما يقتضيه الوازع الطبيعي والمحاسن العادية معًا، وهو ظاهر في الأكل والتضمخ كما هنا، أما مجرد إصابة الثوب بمثل البول؛ فإنه يظهر رجوعه لمحاسن العادات" "د". 4 في "ط": "بين العقلاء". 5 في الأصل و"ط": "منازع طبعي؛ كستر العورات". 6 جعله من مقتضى عادة العقلاء في محاسن الشيم، وقد يتوقف فيه ويجعل من دواعي الطبع المحافظة على النساء والحرم والأولاد، بل ربما يقال: إنه طبع في الحيوان كله، وما يرى في بعض أفراد الإنسان من ضعف الغيرة؛ فذلك لعوارض، ونقول: إنه ضعف فقط لا تجرد منها. "د". 7 حرم الرجل عياله ونساؤه وما يحمي ويقاتل عنه. "ف". 8 من أكل أموال الناس بالباطل كالسرقة والربا ... إلخ؛ فإن محاسن الشيم وإن كانت تقتضي عدم السرقة والتعدي على الغير في نفسه وماله وعرضه؛ إلا أن هناك منازعًا من الطبع يطلب الدخول في هذه الأشياء طلبًا لما يراه مصلحة له؛ فشدد فيها النهي. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 يَصُدُّ فِيهِ الطَّبْعُ عَنْ مُوَافَقَةِ الطَّلَبِ. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ كَالْعِبَادَاتِ مِنَ الطِّهَارَاتِ، وَالصَّلَوَاتِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ1 الْمُرَاعَى فِيهَا الْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ، وَالْجِنَايَاتُ2، وَالْأَنْكِحَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْوَلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ؛ فَقَدْ يَكْتَفِي الشَّارِعُ فِي طَلَبِهِ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ3 وَالْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ؛ فَلَا يَتَأَكَّدُ الطَّلَبُ تَأَكُّدَ غَيْرِهِ، حَوَالَةً عَلَى الْوَازِعِ الْبَاعِثِ عَلَى4 الْمُوَافَقَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَأَكِّدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ حُدُودٌ مَعْلُومَةٌ زِيَادَةً عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ5 الْأُخْرَوِيِّ؟ وَمِنْ هُنَا يُطْلِقُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ أَنَّهَا سُنَنٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، أَوْ مُبَاحَاتٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ خُولِفَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِيهَا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً؛ لَمْ يَقَعِ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى، كَمَا جَاءَ فِي قَاتِلِ6 نَفْسِهِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي جَهَنَّمَ بما قتل به نفسه7.   1 فإن قواعد المعاملات التي سنها الشارع ليتعامل على مقتضاها الخلق لا يقال فيها: اقتضاه الطبع ولا محاسن العادات من العقلاء، بل هي تشريع موازين في المعاملات، علم الله سبحانه أنها تحقق العدل بين الخلق، وتمنع الجور والغبن، وتحسم مادة الخصومات والمنازعات بينهم؛ لأنهم يجدون في هذه القواعد حكمًا يحتكمون إليه في جميع مرافقهم ومعاوضاتهم. "د". 2 هذا مما احترز عنه بقيد عدم المنازع الطبيعي. "د". 3 في "ط": "بمقتضى الحيلة الطبعية". 4 هكذا في "د" و"ط" و"م"، وفي الأصل: "من"، وفي "ف": "عن"، وقال: "الأنسب على الموافقة". 5 أي: على المخالفة. "د". 6 كذا في "د"، وفي الأصل و"ف" و"ط" و"م": "قتل"، قال "ف": "لعله فيمن قتل". 7 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 وَجَاءَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ1 أَنَّ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ نَاسِيًا؛ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِحْسَانًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا عَامِدًا أَعَادَ أَبَدًا مِنْ حَيْثُ خَالَفَ الْأَمْرَ الْحَتْمَ؛ فَأَوْقَعَ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَفْظَ: "السُّنَّةِ" اعْتِمَادًا عَلَى الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ2 وَالْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّةِ، فَإِذَا خَالَفَ3 ذَلِكَ عَمْدًا رَجَعَ إِلَى الْأَصْلِ4 مِنَ الطَّلَبِ الْجَزْمِ؛ فَأَمَرَ بِالْإِعَادَةِ أَبَدًا. وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يأتِ نَصٌّ جَازِمٌ فِي طَلَبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللِّبَاسِ الْوَاقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالنِّكَاحِ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ النَّسْلِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْرِضِ الْإِبَاحَةِ أَوِ النَّدْبِ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ فِي مَظِنَّةِ مُخَالَفَةِ الطَّبْعِ أُمِرَ5 وأبيح له المحرم، إلى أشباه ذلك.   = وما يخاف منه والخبيث، 10/ 247/ رقم 5778"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 103/ رقم 109" عن أبي هريرة مرفوعًا: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا". وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من حلف بملة سوى الإسلام، 11/ 537/ رقم 6652"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 104/ رقم 110" عن ثابت بن الضحاك مرفوعًا، وذكر حديثًا في آخره: "ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة". قال "ف": "فويل لمن يحمله ضعف الدين والهمة على ارتكاب رذيلة الانتحار الفاشية في هذا العصر". 1 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 22"، و"عقد الجواهر الثمينة" "1/ 18-19". 2 في "ط": الطبعي. 3 في "ط": "وخولف". 4 أي: مقصود الشارع في الواقع ونفس الأمر، وإن لم يوجه فيه الخطاب الجزم اعتمادًا على الباعث النفسي عند المكلف. "د". 5 بخطاب النهي عن الضد: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} كما هو أحد التفاسير في الآية، وقوله: "وأبيح له المحرم" كأكل الميتة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ قَرَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْمُؤَكَّدَاتِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْمُخَفَّفَاتِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ خَادِمٌ طَبْعِيٌّ بَاعِثٌ عَلَى مُقْتَضَى الطَّلَبِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ يُمَانِعُهُ وَيُنَازِعُهُ؛ كَالْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ تَكْلِيفٍ. وَكَمَا يَكُونُ ذَلِكَ1 فِي الطَّلَبِ الْأَمْرِيِّ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي النَّهْيِ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى الضَّرْبَيْنِ؛ فَالْأَوَّلُ كَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ، وَكَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَتَنَاوُلِ السُّمُومِ، وَاقْتِحَامِ الْمَهَالِكِ وَأَشْبَاهِهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا اقْتِحَامُ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ، وَلَا بَاعِثٍ طَبْعِيٍّ؛ كَالْمَلِكِ الْكَذَّابِ، وَالشَّيْخِ الزَّانِي، وَالْعَائِلِ الْمُسْتَكْبِرِ2، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا تُخَالِفُهُ الطِّبَاعُ وَمَحَاسِنُ الْعَادَاتِ؛ فَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَةٌ، وَلَا يَمِيلُ إِلَيْهِ عَقْلٌ سَلِيمٌ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ لَمْ يُؤَكَّدْ بحد3 معلوم في   1 أي: التقسيم إلى الضربين، وقوله: "كتحريم الخبائث ... إلخ"، ذكر فيه أمثلة لصنفي الضرب الأول، ثم أجرى حكم الضرب الأول الأمري على هذا؛ فقال: "فهذا الضرب ... إلخ"؛ إلا أنه أغفل الضرب الثاني من المنهيات، فلم يمثل له ولم يذكر حكمه كما فعل في الأوامر. "د". 2 ستأتي الإشارة إلى الحديث الوارد في ذلك قريبًا، قال "ف": "والعائل: الفقير". 3 أي: بعدد كذبات الملك، وزنيات الشيخ، وكيفية استكبار العائل، وقوله: "ولا وضعت له عقوبة معينة"؛ أي: باعتبار هذه الأوصاف زيادة عن حد الزنا مثلًا ممن كان غير شيخ، وقد يقال: إن هذا جارٍ أيضًا في الكذب والاستكبار لشهوة، فإن لم يوضع لهما حد معلوم عددًا ولا كيفية ولا وضعت لهما عقوبة دنيوية خاصة؛ فالمثال ظاهر الأثر في الزنا لا فيهما، ومما هو داخل في اقتحام المحرمات لغير شهوة ما تواتر عن أمة الترك في هذه الأيام أنهم يتهافتون على أكل لحم الخنزير لا لشعوة، ولكن ليفهموا رئيس حكومتهم المدعو مصطفى كمال كما أنهم شديدو الامتثال له في اطراح الأوامر الإسلامية، وأنهم صاروا إلى الفرنجة في كل شيء، أما أنه ليس لشهوة؛ فظاهر من أن القوم لم يألفوه، بل كانوا يستقذرونه إلى سنة واحدة مضت، وهم يقلدون في هذا شر تقليد؛ لأنهم لا يعرفون أن لحم الخنزير لا يأكله الفرنجة إلا بعد مباحث خاصة ليتحققوا من سلامته من الجراثيم القتالة التي يصاب بها هذا الحيوان بالتوارث أو العدوى، وقد أعدوا لذلك آلات وعددًا بكتريولوجية كما شوهد في بلغاريا الألمانية، وهذا بالضرورة بعض أسباب منع أكله في الدين الإسلامي. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 الْغَالِبِ، وَلَا وُضِعَتْ لَهُ عُقُوبَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَلْ جَاءَ النَّهْيُ فِيهِ كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ فِي الْمَطْلُوبَاتِ الَّتِي لَا1 يَكُونُ الطَّبْعُ خَادِمًا لَهَا؛ إِلَّا أَنَّ مُرْتَكِبَ هَذَا لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لوازع الطبع ومقتضى العادة، [زيادة] 2 إِلَى مَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ، أَشْبَهَ بِذَلِكَ الْمُجَاهِرَ بِالْمَعَاصِي، الْمُعَانِدَ فِيهَا، بَلْ هُوَ هُوَ؛ فَصَارَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ أَعْظَمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي لِنَفْسِهِ حَظًّا عَاجِلًا، وَلَا يَبْقَى لَهَا فِي مَجَالِ الْعُقَلَاءِ بَلِ الْبَهَائِمِ مَرْتَبَةٌ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ مِنَ الْوَعِيدِ فِي الثَّلَاثَةِ: "الشَّيْخُ الزَّانِي وَأَخَوَيْهِ"3 مَا جَاءَ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ. بِخِلَافِ الْعَاصِي بِسَبَبِ شَهْوَةٍ عَنَّتْ، وَطَبْعٍ غَلَبَ، نَاسِيًا لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَمُغْلَقًا عَنْهُ بَابُ الْعِلْمِ بِمَآلِ الْمَعْصِيَةِ، وَمِقْدَارِ مَا جَنَى بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} الْآيَةَ: [النِّسَاءِ: 17] . أَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُ داعٍ إِلَيْهَا، وَلَا بَاعِثٌ عَلَيْهَا؛ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُعَانِدِ الْمُجَاهِرِ4، فَصَارَ هَاتِكًا لِحُرْمَةِ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ مُسْتَهْزِئًا بِالْخِطَابِ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ أَشَدَّ، وَلَكِنْ كُلَّ مَا كَانَ الْبَاعِثُ فِيهِ عَلَى المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب5   1 إنما ينتظم المعنى على حذف "لا" كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، 1/ 102-103/ رقم 107" عن أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر". 4 في "ط": "بالمجاهرة". 5 ومن غير الغالب الغصب؛ فهو مما يقتضيه الطبع، ولم يجعل له حد مخصوص ولا عقوبة بدنية خاصة لمكان التحرز منه وسهولة تخليص المغصوب بالترافع للحاكم، والغاصب غالبًا يدعي الحق في المغصوب؛ فلم يبقَ إلا إثبات الحق لصاحبه بالترافع، وإنما ورد فيه الخبر ببيان من الجزاء الأخروي؛ كحديث: "من غصب قيد شبر طوقه من سبع أرضين" * وأمثاله، مع الزجر والأدب في الدنيا بما يراه الحاكم. "د".   * أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، 6/ 292/ رقم 3195، وكتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، 5/ 103/ رقم 2453"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، 3/ 1231-1232/ رقم 1612" بنحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 حُدُودٌ وَعُقُوبَاتٌ مُرَتَّبَةٌ، إِبْلَاغًا فِي الزَّجْرِ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الطِّبَاعُ، بِخِلَافِ مَا خَالَفَ الطَّبْعَ أَوْ كَانَ الطَّبْعُ وَازِعًا عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ. فَصْلٌ هَذَا الْأَصْلُ وُجِدَ مِنْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ جُمَلٌ؛ فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي الشَّرِيعَةِ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّنْزِيهِ1 فِيمَا يُفْهَمُ مِنْ مَجَارِيهَا؛ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي كَوْنِهَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْوِقَاعِ. وَكَذَلِكَ وَجُوهُ الِاحْتِرَاسِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ وَالْمُهْلِكَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْحَقُ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَهُوَ مِنْهَا فِي الِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْرَائِيِّ شَرَعًا، وَرُبَّمَا وُجِدَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ2 مِنْ هَذَا؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ من المجتهد   1 في "ط": "أو التنزيه". 2 فستر العورة في الصلاة واجب ولو في خلوة*، وهو من محاسن العادات ومكارم الأخلاق، أما سترها عن غير الزوج والزوجة، فهو مكمل للضروري لأنها تثير الشهوة، فكشفها ذريعة للزنا الداخل تحريمه في قسم الضروريات. "د".   * كذا قال النووي في "شرح مسلم" "4/ 32"، ونازع في ذلك ابن القطان في "أحكام النظر" "ص112". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 عَلَى بالٍ؛ إِلَّا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ هُوَ الْحُكْمُ الْمُتَحَكِّمُ، وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي لَا تَنْخَرِمُ، فَكُلُّ أَحَدٍ وَمَا رَأَى، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي كِتَابِ1 الْمَقَاصِدِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَقَيَّدَ بِهِ هُنَا أَيْضًا، [والله أعلم] 2.   1 في المسألة الثالثة من النوع الرابع. "2/ 305". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كُلُّ خَصْلَةٍ أُمِرَ بِهَا أَوْ نُهِيَ عَنْهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَمُوَاسَاةِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْإِمْسَاكِ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّوْفِيَةِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَاتِّبَاعِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالذِّكْرِ لِلَّهِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ، وَالْخَشْيَةِ، وَالصَّفْحِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالتَّفْوِيضِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ، وَحِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَابْتِغَاءِ الْآخِرَةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّقْوَى، وَالتَّوَاضُعِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّزْكِيَةِ1، وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ، وَاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْإِشْفَاقِ، وَالْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّبَتُّلِ2، وَهَجْرِ الْجَاهِلِينَ، وَتَعْظِيمِ اللَّهِ، وَالتَّذَكُّرِ، وَالتَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْحَقِّ، وَالرَّهْبَةِ، وَالرَّغْبَةِ، وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ، وَالْمُرَاقَبَةُ، وَقَوْلُ الْمَعْرُوفِ، وَالْمُسَارِعَةُ إِلَى الْخَيِّرَاتِ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالتَّثَبُّتُ فِي الْأُمُورِ، وَالصَّمْتُ، وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْإِخْبَاتُ3 وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ، وَالشَّدَّةُ عَلَى الكفار، والرحمة للمؤمنين، والصدقة.   1 للنفس بمعنى التطهير لها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ، وهي غير التزكية الآتية في المنهيات التي بمعنى الثناء عليها، {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} . "د". 2 التبتل هو الانقطاع إلى الله تعالى والإخلاص إليه. "ف". 3 الخشوع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 هذا كله في المأمورات1. وأما المنهيات؛ فكالظلم2، وَالْفُحْشُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَاتِّبَاعُ السُّبُلِ الْمُضِلَّةِ، والإسراف، والإقتار، والإثم3، الغفلة، والاستكبار، والرضى بِالدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالتَّفَرُّقُ فِي الْأَهْوَاءِ4 شِيَعًا، وَالْبَغْيُ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَكُفْرُ النِّعْمَةِ، وَالْفَرَحُ بِالدُّنْيَا، وَالْفَخْرُ بِهَا، وَالْحُبُّ لَهَا، وَنَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعُ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، والطغيان، والركون للظالمين، والإعراض عن الذكرى5، وَنَقْضُ الْعَهْدِ، وَالْمُنْكَرُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّبْذِيرُ6، وَاتِّبَاعُ الظُّنُونِ، وَالْمَشْيُ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، وَطَاعَةُ مَنِ اتبع   1 وإن كانت هذه المأمورات يدخل بعضها في البعض الآخر، وبعضها لازم لبعض آخر؛ إلا أنه أراد أن يذكر الخصال حسبما وردت بها الأوامر، وهذه كلها واردة في الكتاب والسنة، وكذا يقال في المنهيات. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فالظلم". 3 الذنب مطلقًا. "د". 4 سواء أكانت دينية أم غير دينية، مما يؤدي إلى التفرق واختلاف الكلمة؛ فيغاير اتباع السبل المضلة لأنه خاص بالدين، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} [الأنعام: 153] ، ولا يلزم في تحققه التفرق شيعًا. "د". 5 كذا في "ط"، وفي غيره: "الذكر". 6 انظر: هل له معنى يغاير به الإسراف المتقدم ولو بالعموم والخصوص حتى لا يكون تكرارًا محضًا؟ نعم، إنهما وردا في القرآن: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 3] ، {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] ، ولكنه كان يحسن إذا أراد ذكرهما معًا لهذا الغرض أن يذكرهما متواليين، ومثله يقال في "المنكر" و"الإثم" و"الإجرام"؛ إذ الثلاثة بمعنى واحد وإن اختلفت بالاعتبار، وكذا ينظر في "الظن" الآتي مع "اتباع الظنون" هنا، وقد يقال: إن اتباع الظن في مقام البرهان والتعويل عليه حسبما أشير إليه في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] غير نفس الظن السيئ وإن لم يعول عليه صاحبه ولا بنى عليه حكمًا، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّن} [الحجرات: 12] ، وظاهر أيضًا أن اتباع الهوى يكون في الرأي والمذهب، وهو غير اتباع الشهوات والانقياد لحكم اللذائذ الحسية المنهي عنها. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 هَوَاهُ، وَالْإِشْرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ، وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِجْرَامُ، وَلَهْوُ الْقَلْبِ، وَالْعُدْوَانُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْكَذِبُ، وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، وَالْقُنُوطُ، وَالْخُيَلَاءُ، وَالِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَا، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، وَالتَّكَلُّفُ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ1، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَالنَّمِيمَةُ، وَالشُّحُّ، وَالْهَلَعُ2، وَالدَّجَرُ3، وَالْمَنُّ، وَالْبُخْلُ، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، وَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءُ، وَمَنْعُ الْمَرَافِقِ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاءُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلُبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وكتم العلم، وقساوة4 الْقَلْبِ، وَاتِّبَاعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِتْبَاعُ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَاتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ، وَاتِّخَاذُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، وَحُبُّ الْحَمْدِ بِمَا لَمْ يفعل، والحسد، والترفع عن حكم الله، والرضى بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وَالْوَهْنُ لِلْأَعْدَاءِ وَالْخِيَانَةُ، وَرَمْيُ الْبَرِيءِ بالذنب وهو البهتان، ومشاقة الله   1 كما ورد في الحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي"، وفي رواية: "يستعجل" *، وفي الحديث: "الإناة من الله والعجلة من الشيطان" **. "د". 2 الهلع: أفحش الجزع، وقد ورد: "شر ما في المرء شح هالع، وجبن خالع" ***. "د". 3 الدجر محركًا: الحيرة، وهي منهي عنها؛ لأنها لازمة لعدم الصبر والاعتماد على الله. "د". قلت: وفي "ط": "والزجر". 4 في "د": "وقسوة".   * أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، 8/ 153"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، 2735" عن أبي هريرة مرفوعًا. ** أخرجه الترمذي "2012" عن سهل بن سعد وضعفه، وهو في "ضعيف سنن الترمذي" "رقم 346" لشيخنا الألباني حفظه الله تعالى. *** أخرجه أبو داود "3511"، وابن حبان "808 – موارد"، وأحمد "2/ 302-303"، وأبو نعيم "9/ 50" عن أبي هريرة، وإسناده صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 وَالرَّسُولِ، وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَيْلُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْجَهْرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالِارْتِشَاءُ عَلَى إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَنِسْيَانُ اللَّهِ، وَالنِّفَاقُ، وَعِبَادَةُ اللَّهِ عَلَى حَرْفٍ، وَالظَّنُّ، وَالتَّجَسُّسُ، وَالْغِيبَةُ، وَالْحَلِفُ الكاذب1. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي وَرَدَتْ مُطْلَقَةً فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَدٍّ مَحْدُودٍ إِلَّا أَنَّ مَجِيئَهَا فِي الْقُرْآنِ2 عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى الْعُمُومِ والإطلاق في كل شيء3، وعلى كل   1 في "د": "الكاذبة". 2 أي: مثلًا، وإلا؛ ففي السنة كذلك. "ف". 3 أي: من المناطات والأمور التي تتعلق بها، وقوله: "وعلى كل حال"؛ أي: لم يفرق في النص عليها بين حال المأمور والمنهي وحال آخر؛ فلم تبين النصوص حينئذ أنها تكون واجبة إذا كان كذا ومندوبة إذا كان كذا، ولا محرمة إذا كان كذا ومكروهة إذا كان كذا، بل تجيء في هذا الضرب مطلقة إطلاقًا تامًا بدون تفريق بين مراتبها الكثيرة وتفاصيلها المختلفة في قوة الطلب أو النهي حتى يصل إلى الوجوب أو التحريم، وقد يصل إلى الكفر أو عدم قوته؛ فلا يتجاوز المندوب أو المكروه، وهذا الضرب هو الغالب في غالب هذه الخصال من نوع الأوامر الذي ذكر فيه ثلاثًا وسبعين خصلة، وكذا من نوع النواهي الذي ذكر فيه إحدى وتسعين خصلة، ولا يقال: إن بعض المنهيات؛ كالإشراك في العبادة، والقنوط من رحمة الله، والاستهزاء بآيات الله، ونسيان الله وغيرها مما لا تتفاوت أفراده؛ لأن هذه درجة واحدة هي الكفر؛ لأنا نقول: بل هي متفاوتة أيضًا، ألا ترى في الإشراك حديث: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيره تركته وشركه"*؛ فهذا قد يكون رياء وهو نوع من الشرك، وكذا يقال: إن غفلة القلب عن تأدية أوامر الله نسيان لله وقد تعد استهزاء بآيات الله، فهما بذلك من المعاصي التي لا تبلغ درجة الكفر، وقد تقدم له في تفسير {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] أنها نزلت في مضارة الزوجة بالطلاق ثم الرجعة ثم الطلاق ... إلخ، وهكذا لو تأملت الباقي؛ لوجدت الأمر على ما قرره. "د".   * مضى تخريجه "2/ 355، 3/ 10"، وهو صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 حَالٍ، لَكِنْ بِحَسَبِ كُلِّ مَقَامٍ، وَعَلَى مَا تُعْطِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، لَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا حُكْمٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وُكِلَ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ؛ فَيَزِنُ بِمِيزَانِ نَظَرِهِ، وَيَتَهَدَّى لِمَا هُوَ اللَّائِقُ وَالْأَحْرَى فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ، آخِذًا مَا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّةِ؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَإِنْفَاقِ عَفْوِ الْمَالِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ 1 عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ؛ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ" إِلَخْ2. فَقَوْلُ3 اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90] لَيْسَ الْإِحْسَانُ فِيهِ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرًا جَازِمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا غَيْرَ جَازِمٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْمَنَاطَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ إِحْسَانَ الْعِبَادَاتِ بِتَمَامِ أَرْكَانِهَا مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ، وَإِحْسَانَهَا بِتَمَامِ آدَابِهَا مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ؟ وَمِنْهُ إِحْسَانُ الْقِتْلَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَإِحْسَانُ الذَّبْحِ إِنَّمَا هُوَ مَنْدُوبٌ لَا وَاجِبٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الذَّبْحِ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ إِذَا كَانَ هَذَا الْإِحْسَانُ رَاجِعًا إِلَى تَتْمِيمِ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ، وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي عَدَمِ الْمَشْيِ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ كالعدل في أحكام الدماء والأمور وَغَيْرِهَا؛ فَلَا يَصِحُّ إِذًا إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90] أَنَّهُ أَمْرُ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرُ نَدْبٍ؛ حَتَّى يُفَصَّلَ الْأَمْرُ فِيهِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ تَارَةً، وَإِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا تَارَةً أُخْرَى، بِحَسَبِ ظُهُورِ الْمَعْنَى وخفائه.   1 هو فعل الحسن ضد القبيح. "د". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955" عن شداد بن أوس مرفوعًا، وتتمته: "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". 3 أي: فيؤخذ من هذا الأصل هذا المعنى في الآية. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَأْتِيَ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِهَا1، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْوَعِيدَ مَقْرُونًا بِهَا فِي الْغَالِبِ، وَتَجِدُ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْهَا أَوْصَافًا لِمَنْ مَدَحَ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَنْهِيَّ عَنْهَا أَوْصَافًا لِمَنْ ذم الله من الكافرين.   1 أي: تارة تأتي الأوامر والنواهي مطلقة دون أن تقترن بعظيم الوعد ولا شديد الوعيد، وتارة يأتي الأمر بالخصلة في أفضل مرتبته من تأكيد أمره وتفخيم شأنه؛ حتى لا يسع المكلف التساهل فيه، سواء أكان أمرًا صريحًا أم في معنى الصريح؛ كما في قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] الآيتين، وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9، التغابن: 16] مع قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [التغابن: 17] الآية، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13 والفتح: 17] الآيتين، وكما في حديث: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حق الله فيها؛ إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت" * الحديث، وفي طلب الرفق بمخلوقات الله: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها" ** الحديث، "الرحمة شجنة من الرحمن؛ من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" ***، وهكذا ما لا يحصى من الأوامر والنواهي لقوله تعالى: {لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه} الآية [يوسف: 87] ، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الآية، والمشاقة أن يكون المرء في شقٍ والشرع في شقٍ آخر؛ فهي المخالفة مطلقًا، ولكن في الآية جاءت على أقصى مرتبة كما يدل عليه الوعيد، ومنه: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين} الآية [آل عمران: 28] ، والحديث: "لا تكذبوا علي؛ فإنه من كذب علي متعمدًا يلج النار"، وكأحاديث الرياء وما فيها من التشديد والتهويل في أمره. "د".   * أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة/ رقم 987". ** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، 6/ 515/ رقم 3482"، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2365"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242". *** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من وصلها وصله الله، 10/ 417/ رقم 5988"، ومسلم في "صحيحه" كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم، 4/ 1981/ رقم 2555". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 وَيُعَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَسْبَابُ التَّنْزِيلِ لِمَنِ اسْتَقْرَأَهَا؛ فَكَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا1 بِالْغَايَاتِ تَنْصِيصًا عَلَيْهَا، مِنْ حَيْثُ كَانَ الْحَالُ وَالْوَقْتُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَمُنَبِّهًا بِهَا عَلَى مَا هُوَ دَائِرٌ2 بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، حَتَّى يَكُونَ الْعَقْلُ3 يَنْظُرُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَا دَلَّهُ دَلِيلُ الشَّرْعِ؛ فَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَرَاتِبِ بِحَسَبِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؛ كَيْ لَا يَسْكُنَ إِلَى حَالَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ الْمَذْمُومِ، أَوْ مَظِنَّةُ الرَّجَاءِ لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ الْمَحْمُودِ، تَرْبِيَةُ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا4 الْمَعْنَى [عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ] فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ مَوْتِهِ حِينَ قَالَ لَهُ: "أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّخَاءِ مَعَ آيَةِ الشِّدَّةِ، وآية   1 في الأصل و"ف": "آت"، قال "ف": "قوله الأنسب: آتيًا بالنصب خبر كان الناقصة ونصب قوله: ومنبه، بعده عطفًا عليه، ويبعد من جهة المعنى جعل كأن حرفًا للتشبيه، ويدل لذلك ما يأتي عند قوله، وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا بِالطَّرَفَيْنِ ... إلخ". 2 لا يقال: إنما يظهر ذلك إذا كانت الغايتان المذكورتان في الدليل الشرعي متعلقتين بخصلة واحدة، واقترن الأمر بها بالوعد العظيم، والنهي عن ضدها بالوعيد الشديد؛ فيكون لها طرف محمود، وطرف مذموم، وبينهما مراتب ينظر العقل في قربها وبعدها من الطرفين، وهذا غير مطرد في الأوامر والنواهي؛ لأنا نقول: بل الأمر كذلك لأنه بفرض أنه لم يرد في الخصلة الواحدة إلا الأمر؛ فالطرف الثاني المذموم وهو النهي وإن لم ينص عليه دليل خاص؛ فدليله هو نفس الأمر الذي يقتضي النهي عن ضده"، وكذا يقال في عكسه، على أن هذا ليس بلازم في معنى الطرفين هنا، بل المراد الطرف العام الذي يستوجب الرجاء بامتثال الأوامر التي فيها الوعد جملة، والطرف المقابل له وهو الطرف العام الذي يستوجب الخوف من غضب الله جملة، وإن كان ذلك في عدة خصال لا في خصلة واحدة ينظر بين طرفيها، وهذا المعنى الثاني هو المناسب؛ لما رواه في قصة أبي بكر، ولمساق الكلام الآتي إلى قوله: "فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضًا ويرجو". "د". وفي "ط": "ومنبه بها على ... ". 3 في "ف": "الفعل"، وحشى عليه بقوله: "صوابه العقل، بقاف معجمة قبلها عين مهملة". 4 في "ط": "من هذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 الشِّدَّةِ مَعَ آيَةِ الرَّخَاءِ؛ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا؛ فَلَا يَرْغَبُ رَغْبَةً يَتَمَنَّى فِيهَا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُ، وَلَا يَرْهَبُ رَهْبَةً يُلْقِي فِيهَا بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَوَلَمَ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ حُسْنٍ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَجَاوَزَ لَهُمْ عَمَّا كَانَ لَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ؛ قُلْتُ: إِنِّي مُقَصِّرٌ، أَيْنَ عَمَلِي مِنْ أَعْمَالِهِمْ؟ "1، هَذَا مَا نَقَلَ، وَهُوَ مَعْنَى2 مَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ صَحَّ؛ فَذَاكَ، وَإِلَّا؛ فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ. وقد روي: "أَوَلَمَ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ ما كان لهم من حسن، فيقول القائل: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُمْ؛ فَيَطْمَعُ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَجَاوَزَ لَهُمْ عَمَّا كَانَ لَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: مِنْ أَيْنَ أدركُ دَرَجَتَهُمْ؟ فَيَجْتَهِدُ"3. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ أَيْضًا يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُسَاقِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا   1 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص32-33" بإسناد ضعيف وفيه انقطاع أيضًا، أبو المليح الهذلي لا يعرف له سماع من أبي بكر ولا عمر، ورواه عنه عبيد الله بن أبي حميد أبو الخطاب، قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال: "يروي عن أبي المليح عجائب"، وقال النسائي: "متروك"، وقال دحيم: "ضعيف". 2 هو على هذه الرواية مال إلى الخوف عند ذكر أهل النار؛ لما ذكر أهل الجنة لم تسكن نفسه إلى الرجاء، بل ذكر تقصيره ليجتهد؛ فلم يرج، بل هو خائف في الحالتين، وليس دائرًا بين الأمرين الذي هو المعنى المتقدم، أما في الرواية بعد؛ فالمعنى فيها يوافق ما تقدم، والظاهر أن الرواية الأولى تبين حال أبي بكر نفسه، وهي غلبة الخوف عليه كما هو معروف عنه، والرواية الثانية يقولها على لسان غيره رضي الله عنه. "د". 3 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص34-35" بإسناد ضعيف منقطع، قتادة بن دعامة لم يدرك أبا بكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 كَانَ الطَّرَفَانِ مَذْكُورَيْنِ؛ كَانَ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَائِلًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الأَخِيَّتين1 الْمَنْصُوصَتَيْنِ، فِي مَحَلٍّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ لَفْظًا، مُنَبَّهٍ عَلَيْهِ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، لِيَأْخُذَ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِ، وَيَقَعُ التَّوَازُنُ بِحَسَبِ الْقُرْبِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْآخَرِ. وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا بِالطَّرَفَيْنِ الْغَائِبَيْنِ2 حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْمُسَاقُ؛ فَإِنَّمَا أَتَى بِهِمَا فِي عِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ تُصَدَّقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ فَكَمَا يَدُلُّ الْمُسَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقْصَى3 الْمَحْمُودِ أَوِ الْمَذْمُومِ فِي ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ، كَذَلِكَ قَدْ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ مُقْتَضَاهُ، فَيَزِنُ الْمُؤْمِنُ أَوْصَافَهُ الْمَحْمُودَةَ؛ فَيَخَافُ وَيَرْجُو، وَيَزِنُ أَوْصَافَهُ الْمَذْمُومَةَ فَيَخَافُ أَيْضًا وَيَرْجُو. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَان} [النَّحْلِ: 90] ؛ فَوَزَنَ نَفْسَهُ فِي مِيزَانِ الْعَدْلِ، عالمًا أَقْصَى الْعَدْلِ الْإِقْرَارُ بِالنِّعَمِ لِصَاحِبِهَا وَرَدُّهَا إِلَيْهِ ثُمَّ شُكْرُهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْكُفْرِ وَاطِّرَاحُ تَوَابِعِهِ، فَإِنْ وَجَدَ نَفْسَهُ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ؛ فَهُوَ يَرْجُو أَنَّ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَخَافُ أَنْ لا يكون بلغ4 فِي هَذَا الْمَدَى غَايَتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَوْفِيَةِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنْ نَظَرَ بِالتَّفْصِيلِ؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ الْعَدْلَ كَمَا يُطْلَبُ فِي الْجُمْلَةِ يُطْلَبُ فِي التَّفْصِيلِ؛ كَالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ إِنْ كَانَ حَاكِمًا وَالْعَدْلُ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ؛ حَتَّى الْعَدْلِ فِي الْبَدْءِ بِالْمَيَامِنِ5 فِي لِبَاسِ النَّعْلِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَنَّ هَذَا جارٍ فِي ضده   1 تثنية الأخية بفتح الهمزة وكسر الخاء وتشديد الياء، وهي العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرض، وجمعها أخايا أو أخي مشددًا. "ف". 2 هكذا في الأصول، وفي "ط": "الغائلين"، قال "ف": "لعله الفائتين بدليل ما تقدم". 3 أي: كما في الضرب الثاني. "د". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يبلغ". 5 في "ف" في الموضعين: "بالميامن"، وعقب في الموضع الأول بقوله: "لعله بالمياسر، تأمل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 وَهُوَ الظُّلْمُ؛ فَإِنَّ أَعْلَاهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لُقْمَانَ: 13] . ثُمَّ فِي التَّفَاصِيلِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، أَدْنَاهَا مَثَلًا الْبَدْءُ بِالْمَيَاسِرِ1، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَوْصَافِ وَأَضْدَادُهَا؛ فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ. فَلِأَجْلِ هَذَا قِيلَ: إِنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الْفَرَائِضِ أَوْ مِنَ2 النَّوَافِلِ فِي الْمَأْمُورَاتِ ومنها ما يكون من المحرمات أومن الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ، لَكِنَّهَا3 وُكِلَتْ إِلَى أَنْظَارِ الْمُكَلَّفِينَ لِيَجْتَهِدُوا فِي نَحْوِ هَذِهِ الْأُمُورِ. كَانَ النَّاسُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَتَوَقَّفُونَ عَنِ الْجَزْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَتَحَرَّجُونَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، هَكَذَا صُرَاحًا، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ إِذَا سُئِلُوا عَنْهُ: لَا أُحِبُّ هَذَا، وَأَكْرَهُ هَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلَ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ4؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهَا، غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فِي الشَّرْعِ تَحْدِيدًا يُوقَفُ عِنْدَهُ لَا يُتعدى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النَّحْلِ: 116] . وَقَدْ جَاءَ مِمَّا يُعَضِّدُ هَذَا الْأَصْلَ زِيَادَةٌ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فِيهَا قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} الْآيَةَ: [الْأَنْعَامِ: 82] ، فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لُقْمَانَ: 13] . وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،   1 انظر الحاشية السابقة. 2 في "ط": "ومن". 3 في الأصل: "لأنها". 4 انظر: "إعلام الموقعين" "1/ 31 - وما بعده". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ بِذَلِكَ، أَلَا تَسْمَعُ 1 إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لُقْمَانَ: 13] ! " 2. وَفِي "الصَّحِيحِ": "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ" 3. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ -وَذَكَرَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَهَمَّهُمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ-: فَضَحِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: "مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ؟ إِنَّمَا خَصَصْتُ بِهِنَّ الْمُنَافِقِينَ، أَمَّا قَوْلِي: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ؛ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} الآية: [المنافقين: 1] ؛ أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ، أنتم من ذلك برآء، وأما   1 فتكون الآية من قبيل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ؛ فلا يقال: كيف يتأتى لبس الإيمان بالشرك ولا يوجد الإيمان معه؟! وفي قصة الصحابة في الآية والحديث الدلالة الواضحة على أن هذه المطلقات من النواهي غير الصريحة لم تحدد تحديدًا يوقف عنده؛ فهي في الآية والحديث في أعلى مراتب النهي، وقد فهم الصحابة أنها شاملة للمراتب الأخرى. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم، 1/ 87/ رقم 32، وكتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 389/ رقم 3360، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة} 6/ 465/ رقم 3428، 3429، وكتاب التفسير، باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} ، 8/ 294/ رقم 4629، وباب سورة لقمان، 8/ 513/ رقم 4776، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة، 12/ 264/ رقم 6918، وباب ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6937"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، 1/ 114-115/ رقم 124" عن ابن مسعود رضي الله عنه. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، 1/ 89/ رقم 23"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 قَوْلِي: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ؛ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ [اللَّهُ] 1 عَلَيَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنّ} الْآيَاتِ الثَّلَاثَ [التَّوْبَةِ: 75-78] ؛ أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ، وَأَمَّا قَوْلِي: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ؛ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَال} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 72] ؛ فَكُلُّ إِنْسَانٍ مُؤْتَمَنٍ عَلَى دَيْنِهِ، فَالْمُؤْمِنُ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيَصُومُ وَيُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْمُنَافِقُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بَرَآءُ" 2. وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ وَجَدَ مِنْ هَذَا مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الْأَصْلِ، وَبِاللَّهِ التوفيق.   1 كذا في الأصل و"م" و"ف" و"ط"، وسقطت من "د". 2 ذكره سهل بن عبد الله التستري في "تفسيره" "ص48-49" من غير إسناد، ولا إخاله يصح، ولم يذكره السيوطي في "الدر" في مواطن الآيات المذكورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي ضَرْبَانِ1 صَرِيحٌ، وَغَيْرُ صَرِيحٍ، فَأَمَّا الصَّرِيحُ؛ فَلَهُ نَظَرَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِهِ لَا يُعْتَبَرُ2 فِيهِ عِلَّةٌ مَصْلَحِيَّةٌ، وَهَذَا3 نَظَرُ مَنْ يَجْرِي مَعَ مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ4 مَجْرَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ؛ فَلَا فَرْقَ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا النَّظَرِ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ، وَلَا بَيْنَ نَهْيٍ وَنَهْيٍ؛ كَقَوْلِهِ: {أَقِيمُوا الصَّلاة} مَعَ قَوْلِهِ: "اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ" 5. وَقَوْلِهِ: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} [الْجُمُعَةِ: 9] مَعَ قَوْلِهِ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةِ: 9] . وَقَوْلِهِ: "وَلَا تَصُومُوا يَوْمَ النَّحْرِ" 6 مَثَلًا مَعَ قوله: "لا تواصلوا" 7.   1 أي: باعتبار الصيغة. "د". 2 أي: حتى يقال: إنه يفهم الغرض من الأمر والنهي بميزان تلك المصلحة. "د". 3 هذا طريق الظاهرية. "د". 4 في الأصل: "الصفة". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، 4/ 206/ رقم 1966"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 774-775/ رقم 1103" عن أبي هريرة، والمذكور بعض ألفاظ مسلم. وقال "ف" و"م" في معنى "اكلفوا": "هو من كلفت بالأمر إذا أولعت به وأحببته". 6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم النحر، 4/ 240/ رقم 1993"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799/ رقم 1138" عن أبي هريرة؛ قال: "ينهى عن صيامين وبيعتين: الفطر والنحر، والملامسة والمنابذة". ونحوه في الصحيحين" عن أبي سعيد، وسيأتي "ص469". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 53" عن أبي سعيد، وفيه: "ولا تصوموا يوم الفطر ولا يوم الأضحى". وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" "8/ 388" عن أبي سعيد مرفوعًا بلفظ: "لا تصوموا يومين: يوم الفطر، ويوم النحر". 7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1961" عن أنس و"رقم 1963" عن أبي سعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْهَمُ1 فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَهَذَا نَحْوَ مَا فِي "الصَّحِيحِ"؛ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ ابن كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يَا أُبَيُّ! "؛ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُجِبْهُ، وَصَلَّى فخفف فَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أُبَيُّ! مَا مَنَعَكَ أن تجيبني إذ دَعَوْتُكَ؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: "أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 24] ؟ ". قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ2 عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَأَنَّهُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ؛ فَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِشَارَةٌ3 إِلَى النَّظَرِ لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُعَارِضٌ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ؛ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: "اجْلِسُوا". فَجَلَسَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: "تعال يا   1 أي: بمقتضى القرائن، وسيأتي في بيان النظر الثاني ما يتضح به تطبيق وجهة هذا النظر الأول على هذه الآيات والأحاديث التي مثل بها هنا. "د". 2 مضى تخريجه "ص298". 3 قد يقال: إن الآية مخصصة لآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} التي أوجبت على المصلي ألا يتكلم؛ فالنبي صلى الله صلى الله عليه وسلم يرشده إلى التخصيص، وأنه تجب عليه الاستجابة للرسول -ولو في الصلاة- بمقتضى هذه الآية، على أي وجه نظر إلى الأمر؛ فلا دلالة فيه على غرض المؤلف. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 عَبْدَ اللَّهِ" 1. وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ يَقُولُ: "اجْلِسُوا". فَجَلَسَ بِالطَّرِيقِ، فَمَرَّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ ". فَقَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ اجْلِسُوا. فَقَالَ لَهُ: "زَادَكَ اللَّهُ طاعة"2.   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "2/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر به. وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف مرسلًا، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومخلد هو شيخ". قلت: قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام". ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛ فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر. أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/رقم 1780"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 205-206". وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء* عن النبي صلى الله عليه وسلم. وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي: ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد، وكان يدلس تدليس التسوية، وهشام بن عمار كان يتلقن". بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 166/ 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه جاء يوم الجمعة ... "، ثم قال: "ذكره أبو داود في "كتاب الجمعة" من "السنن"؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -الشاطبي- أن الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك بل هو -عن أبي داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثيرًا من الأحاديث ويعزوها أو يحكم عليها تقليدًا لغيره، وقد أكثر في هذا الكتاب من النقل عن ابن عبد البر رحمه الله تعالى. 2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "3/ 256-257"، والديلمي في "الفردوس" وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، كما في "كنز العمال" "رقم 37170، 37171" بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف.   * انظر: "مسند الحارث" "1015 - زوائده"، و"ذم الكلام" "279". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 وَفِي الْبُخَارِيِّ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "لَا يُصَلِّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" 1، فَأَدْرَكَهُمْ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ؛ فَقَالَ بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؛ فلم يعنف2 واحدة من الطائفتين.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، 7/ 407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. 2 عدم التعنيف لا يدل على صواب النظرين؛ لأن المجتهد المخطئ مأجور، فضلًا عن كونه لا يعنف؛ فليس في الحديث ما يدل على غرض المؤلف من صحة النظر إلى مجرد الأمر، على أن المؤخرين للصلاة قد يكونون فهموا من النهي عن الصلاة أن هناك مصلحة دينية أو دنيوية علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يبادر لبيانها لهم؛ فلا يكونون قد استندوا لمجرد الأمر. "د". قلت: وسمعت شيخنا الألباني -حفظه الله- مرارًا يقول عن الصلاة في بني قريظة: إنها من قضايا الأعيان، ولن تتكرر، ولذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفريقين، مع أن أحد الفريقين مصيب لا كلاهما، قال حفظه الله في التعليق على حديث "رقم 1981" من "السلسة الضعيفة" ما نصه: "يحتج بعض الناس اليوم بهذا الحديث على الدعاة من السلفيين، وغيرهم، الذين يدعون إلى الرجوع فيما اختلف فيه المسلمون إلى الكتاب والسنة، يحتج أولئك على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر خلاف الصحابة في هذه القصة، وهي حجة داحضة واهية؛ لأنه ليس في الحديث إلا: "أنه لم يعنف واحدًا منهم"، وهذا يتفق تمامًا مع حديث الاجتهاد المعروف، وفيه أن من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد؛ فكيف يعقل أن يعنف من قد أجر؟! وأما حمل الحديث على الإقرار للخلاف؛ فهو باطل لمخالفته للنصوص القاطعة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع والاختلاف؛ كقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 ...........................................................................................................   = مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية. وإن عجبي لا يكاد ينتهي من أناس يزعمون أنهم يدعون إلى الإسلام، فإذا دعوا إلى التحاكم إليه؛ فقالوا: قال عليه الصلاة والسلام: "اختلاف أمتي رحمة"، وهو حديث ضعيف لا أصل له كما تقدم تحقيقه في أول هذه السلسلة، وهم يقرءون قول الله تعالى في المسلمين حقًا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ووجدت كلامًا جيدًا حول هذا الحديث للحافظ ابن كثير في كتابه "الفصول في اختصار سيرة الرسول" "ص152-153"، قال رحمه الله تعالى: "قال ابن حزم [في "جامع السيرة" "ص192"] : وهؤلاء هم المصيبون وأولئك مخطئون مأجورون، وعلم الله لو كنا هناك لم نصلِّ العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام". قلت: أما ابن حزم؛ فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية، ولا يمكنه العدول عن هذا النص، ولكن في ترجيح أحد هذين الفعلين على الآخر نظر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الفريقين، فمن يقول بتصويب كل مجتهد؛ فكل منهما مصيب ولا ترجيح، ومن يقول بأن المصيب واحد -وهو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة- فلا بد على قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق وللفريق الآخر أجر؛ فنقول وبالله التوفيق: الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصب السبق؛ لأنهم امتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم في المبادرة إلى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها، ولا سيما صلاة العصر التي أكد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ، وهي العصر على الصحيح المقطوع به -إن شاء الله- من بضعة عشر قولًا، والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها، فإن قيل: كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزًا، كما أنه صلى الله عليه وسلم أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد، والظهر أيضًا، كما جائ في حديث رواه النسائي [في "المجتبى" "1/ 297"، وفيه انقطاع عن ابن مسعود، ورواه عن أبي سعيد بإسناد صحيح؛ كما في "النيل" "2/ 32"] من طريقين؛ فالجواب أنه بتقدير تسليم هذا وأنه لم يتركها يومئذ نسيانًا، فقد تأسف على ذلك حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال: "والله ما صليتها"، وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيًا لها لما هو فيه من الشغل؛ كما جاء في "الصحيحين" عن علي رضي الله عنه؛ قال: = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَسَخُوا الْبَيْعَ الْوَاقِعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ؛ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْع} [الْجُمُعَةِ: 9] . وَهَذَا وَجْهٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ يُمْكِنُ الِانْصِرَافُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ عَامًّا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَرْجَحَ مِنْهُ، وَلَهُ مَجَالٌ فِي النَّظَرِ مُنْفَسِحٌ؛ فَمِنْ وُجُوهِهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَخْلُو أَنْ نَعْتَبِرَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَصَالِحَ، أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهَا؛ فَذَلِكَ أَحْرَى فِي الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِهَا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهَا؛ فَلَمْ يَحْصُلْ1 لَنَا مِنْ مَعْقُولِهَا أَمْرٌ يَتَحَصَّلُ2 عِنْدَنَا دُونَ3 اعْتِبَارِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي؛ فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَنَحْنُ جَاهِلُونَ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ فَقَدْ عَلِمْنَا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر بكونه4 في   = قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا". والحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة، وفهموا المعنى؛ فلهم الأجر مرتين، والآخرين حافظوا على أمره الخاص؛ فلهم الأجر رضي الله عنهم جميعهم وأرضاهم". انتهى، وما بين المعقوفتين من إضافاتي، وانظر: "تفسير ابن كثير "3/ 486 - ط المعرفة"، و"مدارج السالكين" "1/ 386 - ط الفقي". 1 أي لم يتحقق عندنا فيما نعقله من أنواع المصلحة في المأمورات والمنهيات ما يصح أن نعتمده ونجري تفهم الأوامر على مقتضاه، مغفلين النظر إلى صريح الأمر أو النهي، وذلك لمعنيين: أحدهما أنا قد نعقل الحكمة في أمر كالزجر في رجم الزاني المحصن، ولكن لا نعقل لماذا تعين هذا طريقًا للزجر، مع أنه كان يمكن الزجر بضرب العنق أو الجلد حتى يموت مثلًا، وهكذا؛ فهذا المقدار من العلم الإجمالي بالمصلحة لا يصح أن يبنى عليه شيء قد يكون فيه إهدار الأمر والنهي، وسيأتي المعنى الثاني في قوله: "وكثيرًا مما يظهر ... إلخ". "د". 2 أي: حتى يصح أن نفهم بواسطته تجديد المصلحة أو المفسدة التي يقصدها الشارع بالأمر أو النهي. "د". 3 أي: بأن نجعل تلك المصلحة ميزانًا لتفهم الأمر والنهي، بحيث تجعل المصلحة هي الحاكمة في توجيه الأوامر والنواهي الشرعية، وإن أدت إلى عدم اعتبار معناها الأصلي، ويؤول هذا إلى اعتبار المصلحة دونهما. "د". 4 في "ط": "فكونه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 الْمُحْصَنِ الرَّجْمَ، دُونَ ضَرْبِ الْعُنُقِ، أَوِ الْجَلْدِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ، أَوِ السَّجْنِ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ بَذْلِ مَالٍ كَالْكَفَّارَاتِ، وَفِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ دون رجم، أَوِ الْقَتْلِ أَوْ زِيَادَةِ عَدَدِ الْجَلْدِ عَلَى الْمِائَةِ أَوْ نُقْصَانِهِ عَنْهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الزَّجْرِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْعَقْلِ. هَذَا كُلُّهُ لَمْ نَقِفْ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ نَعْقِلْ ذَلِكَ -وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْعُقُولِ- دَلَّ عَلَى أَنَّ فِيمَا حُدَّ مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَا نَعْلَمُهَا، وَهَكَذَا يُجْرَى الْحُكْمُ فِي سَائِرِ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، أَمَّا التَّعَبُّدَاتُ1؛ فَهِيَ أَحْرَى بِذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ لَنَا إِذًا وِزْرٌ2 دُونَ الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَكَثِيرًا3 مَا يَظْهَرُ لَنَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ لِلْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ مَعْنًى مَصْلَحِيٌّ، وَيَكُونُ4 فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، يُبَيِّنُهُ نَصٌّ آخَرُ يُعَارِضُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ النَّصِّ دُونَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَأَيْضًا5؛ فَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا بد فيه من معنى   1 أي: التي مبناها على مجرد التلقي دون النظر إلى المعقول من المصالح والحكم. "د". 2 بفتحتين: الملجأ والمعتصم. "ف". 3 مقابل لقوله: "وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَنَحْنُ جَاهِلُونَ بِهَا على التفصيل"؛ أي: قد نعلمها إجمالًا، وهذا هو المعنى الأول، وقد نفهم ببادئ النظر أنا عرفناها ثم يتبين أنها غير ما فهمناه، بسبب وقوفنا على نص آخر، أو بسبب اكتشاف قاعدة من أحكام الكون نفهم بها مصلحة للحكم الشرعي غير ما كنا نفهمها، يعني: وإذا لم نتحقق تعيين الحكمة للأمر؛ فلا يمكننا الخروج عما تقتضيه الصيغ بحسب ظاهرها. "د". 4 في "ط": "فيكون". 5 انظر: هل يستقل هذا بأن يكون وجهًا ثالثًا مغايرًا لما سبق، بحيث لا يستغنى عنه بقوله: "أما التعبدات .... إلخ؟ وإن كان في هذا لاحظ التعبد في الجميع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 تَعَبُّدِيٍّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يَكُنْ لِإِهْمَالِهِ سَبِيلٌ؛ فَكُلُّ مَعْنَى يُؤَدِّى إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَإِذَا الْمَعْنَى1 الْمَفْهُومُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِنْ كَرَّ عَلَيْهِ بِالْإِهْمَالِ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا؛ فَالْحَاصِلُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ؛ فَآلَ الْأَمْرُ فِي الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اعْتِبَارِهَا مَعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي إِعْرَاضٌ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ الْمَعْلُومَةِ؛ كَمَا فِي قَوْلِ2 الْقَائِلِ: لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الَّذِي بَالَ فِيهِ الْإِنْسَانُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَالَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ صَبَّهُ فِي الْمَاءِ؛ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا أَيْضًا مَعَارِضٌ بِمَا يُضَادُّهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي تَتَبُّعِ الْمَعَانِي مَعَ إِلْغَاءِ الصِّيَغِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شاةٌ" 3: إِنَّ الْمَعْنَى قِيمَةُ شَاةٍ؛ لِأَنَّ المقصود سد الخلة، وذلك حاصل   1 أي: الحكمة المعقولة للأمر والنهي إذا كانت تعارضهما وتؤدي إلى إهمالهما وإبطال مقتضاهما؛ فلا سبيل للأخذ بهذه الحكمة والبناء عليها، وسيأتي تمثيله بالشاة في الزكاة، وإن كانت لا تعارضهما، فمن باب أولى أن العمل إنما هو بمقتضاهما؛ فالمآل أنهما المرجع ومبنى الأحكام دون المعنى المصلحي، حتى على اعتبار المصالح. "د". 2 قال الفقهاء: لا فرق بين أن يقع البول في الماء مباشرة أو في إناء ثم يصب فيه، خلافًا للظاهرية وقوفًا منهم عند حرفية الدليل في حديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يتوضأ من هـ"، أو: "يغتسل منه"، أو: "فيه" * على الروايات الثلاث، حتى فرقوا بين البول فيه والتغوط فيه؛ فحرموا الأول دون الثاني، قال النووي: "وهو أقبح ما نقل عنهم من الجمود على الظاهر"؛ فقولهم بهذا الفرق إعراض منهم عن مقاصد الشرع الظاهرة. "د". 3 أخرج البخاري في "صحيحة" "كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، 4/ 317/ رقم 1454" ضمن حديث طويل فيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة".   * انظر لتخريجه "نصب الراية" "1/ 101، 112". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 بِقِيمَةِ الشَّاةِ؛ فَجَعَلَ الْمَوْجُودَ مَعْدُومًا، وَالْمَعْدُومَ مَوْجُودًا، وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا تَكُونَ الشَّاةُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهِ الْمُخَالَفَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَتَبُّعِ الْمَعَانِي. وَإِذَا كَانَتِ الْمَعَانِي غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَقْصُودُ الصِّيَغِ؛ فَاتِّبَاعُ أَنْفُسِ الصِّيَغِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ وَاجِبٌ لِأَنَّهَا مَعَ الْمَعَانِي كَالْأَصْلِ مَعَ الْفَرْعِ، وَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُ الْفَرْعِ مَعَ إِلْغَاءِ الْأَصْلِ، وَيَكْفِي مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى رُجْحَانِ هَذَا النَّحْوِ مَا ذُكِرَ. وَالثَّانِي مِنَ النَّظَرَيْنِ: هُوَ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي قَصْدٌ شَرْعِيٌّ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ1، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ أَوِ الْمَقَالِيَّةِ الدالة على   1 أي: استقراء ما ورد في الكتاب والسنة من الأوامر أو النواهي في خصوص هذه المأمورات أو المنهيات؛ فإن تنوع الصيغ في مختلف التراكيب مع الالتفات للقرائن المحتفة بها يدل على عين المصلحة المقصود للشارع تحصيلها، وفيه إشارة إلى دفع ما سبق من أنه لا يمكن تحديد المصلحة وتعيينها؛ فيقول هنا: إن ذلك ممكن باستقراء موارد هذه الأوامر وبالقرائن، وحينذاك تعرف المصلحة عينًا، ويصح أن يبنى عليها فهم الغرض من الأمر والنهي كما سيمثل له، أما مثاله هناك في حد الزنا؛ فيمكن أن يقال: نحن لا ندعي أن كل أمر يفهم منه قصد الشارع في المصلحة قصدًا محدودًا معينًا بمعرفة حكمته وسره، بل نقول: إذا دل الاستقراء على مقصود الشارع محدودا معينا، وإن لم تعرف الحكمة الخاصة؛ عول على المقصد وإن لزمه تأويل لفظ الأمر واستعماله في معنى مجازي، وإن لم نتحقق بالاستقراء والقرائن مقصوده كذلك؛ كان مما يحب فيه الوقوف عند الأمر والنهي حسب وضعه الأصلي، وكما أن فيه دفع الشق الأول وهو عدم تعيين المصلحة وتحديدها، فإن فيه دفع الشق الثاني السالف، وهو قوله: "وكثيرًا ما يظهر ببادئ الرأي ... إلخ؛ فكأنه يقول له: وما لنا ببادئ الرأي وأوله؟ إنما نقول بحسب الاستقراء وتتبع القرائن، فإذا كان كذلك؛ فإنه لا يتبين بنص آخر خلاف المعنى المصلحي الذي يبنى عليه فهم الأمر على حقيقته، على فرض توقف فهم قصد الشارع من الأمر على العلم بالمعنى المصلحي تفصيلًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 أَعْيَانِ الْمَصَالِحِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالْمَفَاسِدِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ1؛ فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَقِيمُوا الصَّلاة} الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالْإِدَامَةُ2 لَهَا، وَمِنْ قَوْلِهِ: "اكْلَفُوا مِنَ العمل ما لكم له طَاقَةٌ" 3 الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ خَوْفَ الْعَنَتِ أَوِ الِانْقِطَاعِ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْسُ التَّقْلِيلِ مِنَ الْعِبَادَةِ، أَوْ تَرْكُ الدَّوَامِ عَلَى التَّوَجُّهِ لِلَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} [الْجُمُعَةِ: 9] مَقْصُودُهُ الْحِفْظُ عَلَى إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ فِيهَا، لَا الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةِ: 9] جارٍ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ الشَّاغِلِ عَنِ السَّعْيِ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا4 فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، عَلَى حَدِّ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ5، أَوْ بَيْعِ الرِّبَا، أَوْ نَحْوِهِمَا6. وَكَذَلِكَ إِذَا قال: "لا تصوموا يوم النحر" 7 المفهوم مَثَلًا قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى تَرْكِ إِيقَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ خُصُوصًا، وَمِنْ قَوْلِهِ: "لَا تُوَاصِلُوا" 8، أَوْ قوله: "لا   1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" 25/ 282-283 و29/281-292". 2 وهذا فُهِم بتتبع الأوامر الواردة في المحافظة على الصلاة، ومن القرائن المحتفة بهذه الأوامر وهي فعله صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته في إقامه الصلاة مع القرائن المقالية؛ كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات} [البقرة: 238] ، وهكذا. "د". 3 مضى تخريجه "ص404". 4 أي: بل ذلك لمن تلزمه الجمعة فقط، لأنه يكون معطلًا له وشاغلًا عنها؛ فليس النهي عنه مقصودًا لذاته، بل هو تبعي مكمل لطلب إقامة الجمعة؛ فلذلك قال: "جارٍ مجرى التوكيد"؛ لأن الأمر بالسعي متضمن للنهي عما يشغل عنه؛ فكان التصريح بهذا المنهي كالتأكيد. "د". 5 سيأتي تخريجه "ص416". 6 في الأصل: "نحوها". 7 مضى تخريجه "ص404"، وهو صحيح. 8 مضت الأحاديث التي فيها النهي عن ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 تَصُومُوا الدَّهْرَ" 1 الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيمَا لَا يُحْصِيهِ وَلَا يَدُومُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُوَاصِلُ وَيَسْرُدُ الصَّوْمَ2، كان يصوم حتى يقال3: لا يفطر، ويفطر حتى يقال3: لا يصوم4. وواصل عليه الصلاة والسلام، وواصل السلف الصالح مع علمهم بالنهي؛ تحققًا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة5، لا أن مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي مَغْزَاهَا رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَغْزَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْإِبَاحَةُ6، وَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ لَا تَقْتَضِي بِوَضْعِهَا الْأَصْلِيِّ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 2] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض} [الْجُمُعَةِ: 10] ؛ إِذْ عُلِمَ قطعًا أن مقصود   1 ورد في النهي عن صيام الدهر أحاديث كثيرة، تراها في "صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب صوم الدهر، 4/ 220"، و"صحيح مسلم" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو .... ، 2/ 812-818"، ومنها ما عند مسلم "رقم 1159": "لا صام من صام الأبد". 2 مضى تخريجه "2/ 239"، وفي "ط": "ويسرد الصيام". قال "ف": "أي: يواليه ويتابعه تعليمًا للأمة كيف تجاهد نفسها وتصبر عند صدمات الشدائد". 3 في "ط": "يقولوا". 4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم، 4/ 215/ رقم 1971"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ 1157" عن ابن عباس؛ قال: "ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم". 5 كما جاء النص به، وقد مضى "2/ 240". 6 وقد ذكروا للأمر ستة عشر معنى مجازيًا، وقالوا: يجب أن تكون الإباحة وغيرها معلومة من غير الصيغة، حتى يكون العلم قرينة على إرادة غير الطلب. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 الشَّارِعِ لَيْسَ مُلَابَسَةَ الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ، وَلَا الِانْتِشَارَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ زَالَ، وَهُوَ انْقِضَاءُ1 الصَّلَاةِ، وَزَوَالُ2 حُكْمِ الْإِحْرَامِ. فَهَذَا النَّظَرُ يُعَضِّدُهُ الِاسْتِقْرَاءُ أَيْضًا، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ شَرْعًا، وَأَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا، فَلَوْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لَكُنَّا قَدْ خَالَفْنَا3 الشَّارِعَ مِنْ حَيْثُ قَصْدِنَا مُوَافَقَتَهُ، فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَقَعَ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا أَلْغَيْنَا النَّظَرَ فِيهَا فِي التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ؛ كُنَّا قَدْ أَهْمَلْنَا فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ الْأَمْرِ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِيهِ؛ فَيُوشِكُ4 أَنْ نُخَالِفَهُ فِي بَعْضِ مَوَارِدِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوِصَالَ وَسَرْدَ5 الصِّيَامِ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقَدْ وَاصَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا6.   "1 و2" من إضافة الصفة للموصوف فيهما، والمقصود هو الموصوف. "د". وكتب "ف": "أي: السبب بوصف الزوال هو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام، وإلا؛ فالإحرام والصلاة هما السببان المانعان". 3 أي: قد تحصل المخالفة من حيث قصدنا الموافقة بفعل مقتضى الصيغة مجردة عن القرائن التي تحدد معناها؛ كما سيقول: "فيوشك.. إلخ". "د". 4 لأن إهمال اعتبار المصلحة التي ورد الأمر أو النهي لتحقيقها يجعلنا غير ضابطين لحدود الأمر أو النهي؛ لأنه لا يكون لنا مرشد إلى مقصد الشارع سوى مجرد الصيغة، وقد لا تكون كافية في تحديد المقصد، فإذا التزمنا الوقوف معها فقط؛ فقد ننحرف عن الغرض الذي يرمي إليه الشرع، كما في مثاله بعد الذي كان يلزمه المحظوران المذكوران. "د". 5 في "ط": "أو سرد". 6 حتى قال لهم: "لو تأخر الشهر لزدتكم"؛ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، قاله المصنف "1/ 526"، وكان يقول: "لَوْ مُدَّ لَنَا فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يدع المتعمقون تعمقهم، وتخريجه هناك في التعليق عليه، والله الموفق للخيرات، والهادي للصالحات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 وَفِي هَذَا أَمْرَانِ إِنْ أَخَذْنَا بِظَاهِرِ النَّهْيِ: أحدهما: أنه نهاهم فلم ينتهوا؛ فلوا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ ظَاهِرُهُ لَكَانُوا قَدْ عَانَدُوا نَهْيَهُ بِالْمُخَالَفَةِ مُشَافَهَةً، وَقَابَلُوهُ بِالْعِصْيَانِ صُرَاحًا، وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مَا فِيهِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ وَاصَلَ بِهِمْ حِينَ لَمْ يَمْتَثِلُوا نَهْيَهُ، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لَكَانَ تَنَاقُضًا1، وَحَاشَى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ النَّهْيُ لِلرِّفْقِ بِهِمْ خَاصَّةً، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يُسَامِحُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرَّاحَةِ، وَطَلَبُوا فَضِيلَةَ احْتِمَالِ التَّعَبِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ؛ أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُرِيَهُمْ بِالْفِعْلِ مَا نَهَاهُمْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ دُخُولُ الْمَشَقَّةِ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ نَهْيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الرِّفْقُ بِهِمْ، وَالْأَخْلَقُ بِالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى احْتِمَالِ اللَّأْوَاءِ2 فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَأَمَرَ بِأَشْيَاءَ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهَا إِطْلَاقًا لِيَحْمِلَهَا الْمُكَلَّفُ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى التَّوَسُّطِ، لَا عَلَى مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَجَاءَ الْأَمْرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَسَائِرِ الْمَنَاهِي الْمُطْلَقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ جُعِلَ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ وَمُنَّتُهُ3، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مَعَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ مُجَرَّدًا مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي. وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ4، وَذَكَرَ مِنْهُ أشياء؛ كبيع   1 لأنه أقرهم على الوصال على أنه عبادة، مع أنه لو أخذ النهي على ظاهره لكان معصية، ولا يقال: إنه نسخ؛ لأن الحكم الأول بقي على حاله. "د". 2 أي: المشقة والشدة. "ف". 3 بضم الميم: القوة، وخص بعضهم بها قوة القلب. "ف". 4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، 4 /1153/رقم 1513" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "نهى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيع الحصاة، وعن بيع الغرر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُزْهَى1، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ2، وَالْحَصَاةِ3 وَغَيْرِهَا. وَإِذَا أَخَذْنَا بِمُقْتَضَى مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ امْتَنَعَ عَلَيْنَا بَيْعٌ كَثِيرٌ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ بيعه   1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 397/ رقم 2167" عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال: "يحمار أو يصفار". وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 398/ رقم 2199"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، 3/ 1166/ رقم 1534" عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها". وكتب "ف" هنا ما نصه: "هي مضارع أزهى النبت يزهى إذا احمر أو اصفر، ويقال: زها النبت يزهو إذ انبت ثمره، وقيل: هما بمعنى الاحمرار والاصفرار، قال أبو الخطاب: لا يقال للنخل إلا يزهي، ولا يقال فيه يزهو. اهـ بتصرف". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الغرر وحبل الحبلة، 4/ 356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع حبل الحبلة، 3/ 1153-1154/ رقم 1514"، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية: "كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها"، فالمحتصل من معنى "بيع حبل الحبلة"، أي: بيع نتاج النتاج، أو أن يجعلوه أجلًا يتبايعون إليه. 3 مضى في التعليق على "2/ 522" حديث أبي هريرة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"، وتقدم هناك معنى بيع الحصاة، وقد فسر بعدة تفاسير، وكلها فيها الخطر والغرر الذي يجعلها كالقمار. وقال "ف": "في الحديث نهي عن بيع الحصاة، وهو أن يقول المشتري أو البائع: إذا نبذت الحصاة إليك؛ فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك، والكل فاسد من بيوع الجاهلية، وغرر لما فيها من الجهالة". قلت: انظر فيه أيضًا "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 160". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 وَشِرَاؤُهُ؛ كَبَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْقَسْطَلِ1 فِي قِشْرِهَا، وَبَيْعِ الْخَشَبَةِ2 وَالْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمَقَاثِي كُلِّهَا، بَلْ كَانَ يَمْتَنِعُ كُلُّ مَا فِيهِ وَجْهٌ مَغَيَّبٌ؛ كَالدِّيَارِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُغَيَّبَةِ الْأُسُسِ، وَالْأَنْقَاضِ3، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ بِالْجَوَازِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ4 فِيهِ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ غَرَرًا مُتَرَدِّدًا5 بَيْنَ السَّلَامَةِ وَالْعَطَبِ؛ فَهُوَ مِمَّا خُصَّ بِالْمَعْنَى6 الْمَصْلَحِيِّ، وَلَا يُتْبَعُ فِيهِ اللفظ بمجرده.   1 في "التذكرة": هو عند أهل مصر اسم للنبت المسمى شاه بلوط، وهو المعروف الآن بأبي فروة. "ف". 2 في "ط": "الخشب". 3 جمع نقض -بكسر النون- وهو اسم البناء المنقوض إذا هدم، وفي الاستعمال هنا توسع لا يخفى. "ف". 4 قال شراح الحديث: يستثنى من بيع الغرر أمران: الأول ما يدخل في المبيع تبعًا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، والثاني ما يتسامح فيه؛ إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه، ومما يدخل تحت ما ذكر بيع أساس البناء، واللبن في الضرع، والحمل في بطن الدابة، والقطن المحشو في الجبة، إذا كانت تبعًا. "د". 5 أليس الجوز واللوز وأمثالهما مما تردد بين السلامة والعطب عند العقلاء؟ فالأفضل الرجوع إلى ما قلناه عن شراح الحديث من أن مثل هذا يتسامح فيه عادة للمشقة في معرفته، وكان يلزم إذا منع شرعًا دخوله في المعاوضات أن يحصل حرج ومشقة؛ فاقتضى التوسعة والرخصة. "د". قلت: انظر "إعلام الموقعين" "1/ 360 وما بعده - ط دار الحديث"، و"المعلم بفوائد مسلم" "2/ 159-160" للمازري. 6 ألم يرد من الشارع في ذلك شيء من القول أو الفعل أو التقرير لبيع الدور ذات الأسس المغيبة في الأرض، والمقاثئ كالبطيخ، والجوز واللوز ونحوهما مما لا يعرف طعمه وموافقته إلا بكسره؟ يبعد جدًا أن ينقضي عهده صلى الله عليه وسلم ولا يكون في هذه الأشياء معاملة، حتى نضطر إلى أن القول بأنها إنما خصصت من الغرر بالمعنى المصلحي؛ أي: من المصالح المرسلة، على أنه قد يقال: كيف أنها تعد مرسلة مع أن اللفظ الوارد يشملها؟ إلا أن يقال: بل مراده الاستحسان، نعود للسؤال فنقول: ألم يكن البطيخ في عهده صلى الله عليه وسلم يباع ويشترى في السوق جهارًا؟ ففي "زاد المعاد" "4/ 353" أنه صح في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام يأكل البطيخ بالرطب، ويقول: "يدفع حر هذا برد هذا". "د". قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب القثاء، 9/ 572/ رقم 5447"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب أكل القثاء بالرطب/رقم 2043" عن عبد الله بن جعفر؛ قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب"، والزيادة المذكورة عند أبي داود "رقم 3835"، والترمذي "رقم 1845"، وابن ماجه "رقم 3225"، وإسنادها صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 وَأَيْضًا؛ فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى تساوٍ فِي دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْهَا أَمْرُ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَمَا هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ لَا تُعْلَمُ مِنَ النُّصُوصِ، وَإِنْ عُلِمَ مِنْهَا بَعْضٌ؛ فَالْأَكْثَرُ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَمَا حَصَلَ لَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْمَعَانِي، وَالنَّظَرِ إِلَى الْمَصَالِحِ، وَفِي أَيِّ مَرْتَبَةٍ1 تَقَعُ، وَبِالِاسْتِقْرَاءِ2 الْمَعْنَوِيِّ، وَلَمْ نَسْتَنِدْ فِيهِ لِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ فِي الْأَمْرِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا عَلَى قِسْمٍ وَاحِدٍ، لَا عَلَى أَقْسَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالنَّهِيُ كَذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ نَقُولُ: كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنَى3 الْمُسَاقِ فِي دَلَالَةِ الصِّيَغِ، وَإِلَّا صَارَ ضحكة وهزءة4، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ أَسَدٌ أَوْ حِمَارٌ، أَوْ عَظِيمُ الرَّمَادِ، أَوْ جَبَانُ الْكَلْبِ، وفلانة بعيدة مهوى القرط5، وما لا   1 أمن الضروريات هي، أم من الحاجيات، أم من التحسينات؟ "د". 2 أي: في موارد الأوامر وما يحتف بها من القرائن الحالية والمقالية كما سبق. "د". 3 ليكون قرينة ضابطة لغرض المتكلم، وصارفة له إلى حيث يريد وإن لم يكن هو المعنى الأصلي؛ كما مثله بعد. "د". 4 في "اللسان": "رجل ضحكة؛ بالتسكين: يضحك منه، وعن الليث: الضحكة؛ بفتح الحاء: الرجل الكثير الضحكة، يعاب عليه" ا. هـ. ورجل هزأة؛ بالتسكين: يهزأ به، وقيل: يهزأ منه. ا. هـ. "ف". 5 كناية عن لازمه وهو طول الجيد، وقد عدوه من الكناية القريبة، كما في قول عمر بن أبي ربيعة: بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم "د" أما "ف"؛ فقال: "بضم فسكون: نوع من الحلي يعلق في الأذن يعرف بالحلق، ويقال له لغة أيضًا: الشنف؛ بفتح فسكون". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 يَنْحَصِرُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، لَوِ اعْتُبِرَ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَعَلَى هَذَا الْمُسَاقِ يَجْرِي التَّفْرِيقُ1 بَيْنَ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَصَبِّهِ مِنَ الْإِنَاءِ فِيهِ. وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ2 عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ3 أَنَّهُ نَاظَرَ أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيَّ فِي الْقَوْلِ بِالظَّاهِرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ3: "أَنْتَ تَلْتَزِمُ الظَّوَاهِرَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزَّلْزَلَةِ: 7] ؛ فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ مُجِيبًا: الذَّرَّتَانِ ذَرَّةٌ وَذَرَّةٌ. فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ3: فَلَوْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ؟ فَتَبَلَّدَ وَانْقَطَعَ"4. وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ5، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَغَالِيًا فِي رَدِّ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ؛ فالعمل بالظواهر أيضًا   1 أي: فلو اعتبر اللفظ بمجرده فيه كما اعتبره الظاهرية؛ لم يكن له معنى معقول، بل المعقول مما سيق له الحديث أنه لا فرق بين الأمرين؛ لأن كلا منهما قد يكون سببًا في تنجيس الماء وإفساده. "د". 2 في كتابه "البرهان في أصول الفقه" "2/ 881". 3 في "ط" في المواضع كلها: "ابن شريح"، وهو خطأ. 4 في "البرهان" "2/ 881": "فتبلد وظهر خزيه". 5 انظر آراء شديدة تهاجم الظاهرية في: "عارضة الأحوذي" لابن العربي "10/ 108-112"، و"طبقات الشافعية الكبرى" "2/ 45"، و"لسان الميزان" "2/422-424"، وكتابنا هذا "5/ 149". ومن أحسن ما قيل في أهل الظاهر وأكثره موضوعية نقد ابن القيم الجوزية في "إعلام الموقعين" "2/ 26-40" الذي ذكر فيه أن لأهل الظاهر حسنات يقابلها سيئات؛ فقد أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها. وانظر: "الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي" "ص143 وما بعدها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 عَلَى تَتَبُّعٍ وتغالٍ بَعِيدٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّ إِهْمَالَهَا إِسْرَافٌ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ [تَقْرِيرُهُ] فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَسَيُذْكَرُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعَمِلَ الْعَامِلُ عَلَى مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَهُوَ جارٍ عَلَى السَّنَنِ الْقَوِيمِ، مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي وِرْدِهِ وَصَدَرِهِ، وَلِذَلِكَ أَخَذَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنْفُسَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالتَّحَرِّي فِي الْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَقَهَرُوهَا تَحْتَ مَشَقَّاتِ التَّعَبُّدِ؛ فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ وَارِدَةٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي {لِنَنْظُرَ 1 كَيْفَ تَعْمَلُون} [يُونُسَ: 14] ، وَ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] . لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْمُكَلَّفُ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ، ضَعِيفًا فِي عَزْمِهِ ضَعِيفًا فِي صَبْرِهِ؛ عَذَرَهُ رَبُّهُ الَّذِي عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَخَلَقَهُ عَلَيْهِ؛ فَجَعَلَ2 لَهُ مِنْ جِهَةِ ضَعْفِهِ رِفْقًا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فِي الدُّخُولِ فِي الْأَعْمَالِ، وَأَدْخَلَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ الطَّاعَةِ وَقَوَّاهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَعَهُ عِنْدَ صَبْرِهِ عَلَى بَعْضِ الزَّعَازِعِ الْمُشَوَّشَةِ، وَالْخَوَاطِرِ الْمُشْغِبَةِ3، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُ مَجَالًا فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عن صَدَمَاتِهِ، وَتَهْيِئَةً لَهُ فِي أَوَّلِ الْعَمَلِ بِالتَّخْفِيفِ، اسْتِقْبَالًا بِذَلِكَ ثِقَلَ الْمُدَاوَمَةِ، حَتَّى لَا يَصْعُبَ عليه البقاء فيه والاستمرار عليه، فإذا دخل الْعَبْدَ حُبُّ الْخَيْرِ، وَانْفَتَحَ لَهُ يُسْرُ الْمَشَقَّةِ؛ صار   1 في المطبوع: "لينظر" بلام وياء، وفي [الأعراف: 129] {فَيَنْظُر} ، وفي [يونس: 14] : {لِنَنْظُر} بنون. 2 وقال: "اكفلوا من العمل ما لكم به طاقة"، ونحوه من موجبات الرفق. "د". 3 في "اللسان": "قال الجوهري: التشويش التخليط، وقال أبو منصور: لا أصل له في العربية، وإنما هو من كلام المولدين، وأصله التهويش وهو التخليط. "المشغبة"؛ أي: الموقعة في الشغبة بسكون الغين، وهو الفتنة والعامة تفتحها". "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 الثَّقِيلُ عَلَيْهِ خَفِيفًا، فَتَوَخَّى مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ بِقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 8] ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذَّارِيَاتِ: 56] . فَكَأَنَّ الْمَشَقَّةَ وضدها إضافيان لا حقيقيتان1 كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسَائِلِ الرُّخَصِ فَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَقِيهُ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمُرَادُ بِهِمَا الرِّفْقُ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى الْعَبْدِ؛ اشْتَرَكَتِ الرُّخْصُ مَعَهُمَا فِي هَذَا الْقَصْدِ، فَكَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الْعَزَائِمِ مَقْصُودًا أَنْ يَمْتَثِلَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَفِي الرِّفْقِ رَاجِعًا إِلَى جِهَةِ الْعَبْدِ: إِذَا اخْتَارَ مُقْتَضَى الرِّفْقِ؛ فَمِثْلَ الرُّخْصَةِ، وَإِذَا اخْتَارَ خِلَافَهُ؛ فَعَلَى مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 8] وَأَشْبَاهُهُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي غَيْرُ الصَّرِيحَةِ؛ فَضُرُوبٌ: أَحَدُهَا: مَا جَاءَ مَجِيءَ الْإِخْبَارِ عَنْ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [الْبَقَرَةِ: 183] . {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنّ} [الْبَقَرَةِ: 233] . {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 2 [النِّسَاءِ: 141] . {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين} [الْمَائِدَةِ: 89] . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ؛ فَهَذَا ظَاهِرُ الْحُكْمِ، وَهُوَ جارٍ مَجْرَى الصَّرِيحِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ مَجِيءَ مَدْحِهِ أَوْ مَدْحِ فَاعِلِهِ فِي الأوامر، أو ذمه أو ذم فاعله   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "حقيقتان". 2 فالمراد النهي عن جعل المؤمنين أنفسهم تحت سلطة الكافرين بأي طريق كان، وليس هذا خبرًا محضًا، وإلا؛ لكان بخلاف مخبره، وهو محال. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 فِي النَّوَاهِي، وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْأَوَامِرِ وَتَرْتِيبِ الْعِقَابِ فِي النَّوَاهِي أَوِ الْإِخْبَارِ1 بِمَحَبَّةِ اللَّهِ فِي الْأَوَامِرِ وَالْبُغْضِ وَالْكَرَاهِيَةِ أَوْ عَدَمِ الْحُبِّ فِي النَّوَاهِي. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الْحَدِيدِ: 19] . وَقَوْلِهِ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُون} [الْأَعْرَافِ: 81] . وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النِّسَاءِ: 13] . وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النِّسَاءِ: 14] . وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [آلِ عِمْرَانَ: 134] . وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الْأَعْرَافِ: 31] . {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر} [الزُّمَرِ: 7] . {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزُّمَرِ: 7] . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِنَّ هذه الأشياء الدالة عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ فِي الْمَحْمُودِ، وَطَلَبِ التَّرْكِ فِي الْمَذْمُومِ، مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ. وَالثَّالِثُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ؛ كَالْمَفْرُوضِ فِي مَسْأَلَةِ "مَا لا2 يتم   1 في "ط": "والإخبار". 2 كغسل جزء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه؛ فهذا لا يتم عادة غسل الوجه بدونه؛ فهل يجب غسل هذا الجزء وجوبًا تابعًا لإيجاب غسل الوجه، أم لا يجب شرعًا وإن كان لا بد منه عادة؟ وإذا لم يفعله المكلف؛ فهل يأثم بتركه غير إثمه بترك غسل الوجه، أم لا إثم إلا بالأخير فقط؟ والمختار كما عند ابن الحاجب أن ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب شرعًا إلا إذا كان شرطًا شرعيًا، وأما الشرط العقلي أو العادي؛ فالمختار أنه لا يجب تبعًا، وليس هنا إلا وجوب واحد لغسل الوجه، وقيل: الشروط كلها واجبة، وقيل: كلها غير واجبة، وهذا الخلاف في غير الأسباب، أما = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ"، وَفِي مَسْأَلَةِ "الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ1 عَنْ ضِدِّهِ؟ "، و"كون الْمُبَاحِ مَأْمُورًا بِهِ"2 بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْكَعْبِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ لُزُومِيَّةٌ لِلْأَعْمَالِ، لَا مَقْصُودَةٌ لِأَنْفُسِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا وَفِي اعْتِبَارِهَا، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنْ إِذَا بَنَيْنَا عَلَى اعْتِبَارِهَا؛ فَعَلَى الْقَصْدِ الثَّانِي لَا عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ هِيَ أَضْعَفُ3 فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَوَامِرِ والنواهي الصريحة التبعية؛ كقوله: {وَذَرُوا   = الأسباب؛ فقد نقل الإجماع على وجوبها، بل قالوا: إن التكليف في المسببات إنما هو في الحقيقة بأسبابها كالحز بالسكين بالنسبة للقتل؛ لأن المسببات غير مقدورة، والمقدور هو السبب كما تقدم. "د". قلت: انظر في القاعدة: "البحر المحيط" "1/ 223"، و"مذكرة في أصول الفقه" "ص26"، و"البرهان" "1/ 257"، و"الإحكام" "1/ 110" للآمدي، و"المسودة" "60"، و"المستصفى" "1/ 71". و"التمهيد" "1/ 322"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص160"، و"القواعد" للمقري "2/ 393، القاعدة الرابعة والأربعون بعد المائة"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 159". 1 والمختار أنه ليس نهيًا عن ضده، بل ولا يتضمنه، والكلام فيه يرجع في كثير من مباحثه إلى الكلام في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به، وفي كل منهما لا يوجد تعلق لخطاب شرعي، مع أنه لا تكليف بغير تعلق الخطاب. "د". قلت: انظر في القاعدة: "المحصول" "2/ 199"، و"البحر المحيط" "2/ 416"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 174-178 و10/ 531-532 و11/ 673-675 و16/ 37، 20/ 118-119، 159-160". 2 انظر في هذه القاعدة: "المستصفى" "1/ 74"، و"إحكام الفصول" "ص193" للباجي، و"المسودة" "ص65"، و"البرهان" "1/ 102"، و"البحر المحيط" "1/ 241، 279"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 161 وما بعدها"، وما مضى "1/ 175 و3/ 220". 3 ولذلك اختلف في أنها أوامر ونواهي شرعية بخلاف الصريحة التبعية؛ فلا يتأتى فيها الاختلاف في هذا وإن اختلف في ترتب أحكام خاصة عليها؛ كنسخ البيع وقت النداء. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 الْبَيْع} [الْجُمُعَةِ: 9] ؛ لِأَنَّ رُتْبَةَ الصَّرِيحِ لَيْسَتْ كَرُتْبَةِ الضِّمْنِيِّ فِي الِاعْتِبَارِ أَصْلًا. وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَانِ: مَقَاصِدٌ أَصْلِيَّةٌ وَمَقَاصِدٌ تَابِعَةٌ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِقْهٌ كَثِيرٌ1، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَسْأَلَةٍ2 تُقَرِّرُهَا فِي فَصْلٍ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، حَتَّى تُتَّخَذَ دُسْتُورًا لِأَمْثَالِهَا فِي فِقْهِ الشَّرِيعَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ. فصل "الغضب" عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب، و"التعدي" مُخْتَصٌّ بِالتَّعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ3. فَإِذَا قَصَدَ الْغَاصِبُ تَمَلُّكَ رَقَبَةِ الْمَغْصُوبِ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، آثِمٌ4 فِيمَا فَعَلَ مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الرَّقَبَةَ؛ فَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلًا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَأَمَّا التَّعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ؛ فَالْقَصْدُ فِيهِ تَمَلُّكُ الْمَنَافِعِ دُونَ الرَّقَبَةِ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعِ مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ، وَهُوَ لَمْ يقصد إلا   1 أي: يترتب على تمييز المقاصد الأصلية عن المقاصد التابعة فقه كثير لمسائل الشريعة، وإدراك لأحكام تفاريع كثيرة مما ينبني على كل منهما. "د". 2 أي: من مسائل المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة المناسبة لهذا المقام بخصوصه مقام الأمر والنهي الأصلي والتبعي، وما يترتب على كل منهما من حيث اعتباره وعدمه؛ ليستفاد منها حكم أمثالها في الأوامر والنواهي الأصلية والتبعية في غير مسألة الغصب والتعدي التي عقد لها الفصل. "د". 3 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 184-185"، و"عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق" "ص926 وما بعدها" للونشريسي. 4 ويؤدب وجوبًا بما يراه الحاكم. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 الْمَنَافِعَ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُلْزِمُهُ1 الْآخَرُ بِالْحُكْمِ التَّبَعِيِّ، وَبِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ. فَإِذَا كَانَ غَاصِبًا؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلرِّقَابِ لَا لِلْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ، لَا بِأَرْفَعِ2 الْقِيَمِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ تَابِعٌ، فَإِذَا كَانَ تَابِعًا؛ صَارَ النَّهْيُ عَنِ الِانْتِفَاعِ تَابِعًا لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الرَّقَبَةِ، فَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ؛ إِلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ3 الْعُلَمَاءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ مُشَارِكَةٌ4 فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام:   1 لأن غصب الرقبة يتبعه الاستيلاء على المنفعة، وعدم تمكين المالك منها، كذلك التعدي على المنفعة لا يكون إلا إذا استولى على الرقبة، وحال بينها وبين مالكها؛ فهما عمليًّا متلازمان، ولا يفرق بينهما إلا بالقصد، ومتى قصد أحدهما كان الثاني تابعًا له، وهناك يجيء الكلام في اختلاف الأحكام، وظاهر أنه بالاعتراف أو بالقرائن يعرف قصده من الغصب أو التعدي حتى يرتب الحاكم حكمه، والتلازم في هذا غير التلازم الذي أشار إليه فيما لا يتم الواجب إلا به، وفي مسألة الأمر بالشيء وما معهما؛ فلذلك قال بعد أن قرر ما يتعلق بالغصب: "وهذا البحث جارٍ ... إلخ"؛ فمسألة الغصب والتعدي صنف آخر مما يندرج في المقاصد الأصلية والتابعة غير صنف ما لا يتم الواجب إلا به، وما معه كما هو ظاهر. "د". 2 أي: من حين الغصب إلى وقت الحكم. "د". 3 قال ابن القاسم: "وأعتمد أن ربه إذا أخذ القيمة؛ فلا غلة له"، وقال بعضهم: إن غلة المغصوب لمالكه إذا كان أرضًا أو عقارًا استعملا في السكنى أو الزرع أو الكراء مثلا، وكذا غلة الحيوان التي لا تحتاج إلى تحريك؛ كالصوف، واللبن، وأما غلة الحيوان الحاصلة من التحريك؛ كالركوب، والإجارة، والحرث وما أشبه ذلك؛ فللغاصب في مقابلة الإنفاق عليه لأن الخراج بالضمان، وأما ما عطل ولم يستغل كمن غصب أرضًا بورًا؛ فلا كراء عليه، وإذا قصد غصب المنفقة؛ فعليه الكراء. "د". 4 أي: فالغاضب يقصد الرقبة والمنافع معًا قصدًا أصليًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 "الْخَرَاجُ 1 بِالضَّمَانِ" 2، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِفَاعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ صَحِيحًا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ؛ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ3 مَعَ النَّهْيِ الضِّمْنِيِّ. وَهَذَا الْبَحْثُ جارٍ فِي مَسْأَلَةِ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ؛ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ "، فَإِنْ قُلْنَا: "غَيْرُ وَاجِبٍ"؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قُلْنَا: "وَاجِبٌ"؛ فَلَيْسَ وُجُوبُهُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ "الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ؟ "، و"النهي عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ"، فَإِنْ قُلْنَا بِذَلِكَ؛ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حُكْمٌ مُنْحَتِمٌ إِلَّا عِنْدَ فرضه بالقصد الأول، وليس   1 أي: وقد دخل المغضوب في ضمان الغاصب من وقت الاستيلاء عليه. "د". 2 مضى تخريجه "ص204"، وهو صحيح، كتب "ف" هنا ما نصه: "الخراج غلة العابد والأمة، قال ابن الأثير -في تفسير الحديث-: يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة أو ملكًا، وذلك أن يشتريه فيستغله زمانًا ثم يعثر على عيب قديم؛ فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن على البائع شيء، و"باء" الضمان متعلقة بمحذوف تقديره الخراج مستحق بالضمان؛ أي: بسببه" ا. هـ. ولأبي عبيد وغيره من أهل العلم ما يشبه هذا". وقال "ماء": "أي غلة المشتري للمشتري، بسبب أنه في ضمانه، وذلك بأن يشتري شيئًا ويستغله زمانًا ثم يعثر -أي: يطلع منه- على عيب دلسه البائع ولم يطلع عليه؛ فله رده -أي الشيء المشترى- على البائع، والرجوع عليه بالثمن جميعه، وأن الغلة التي استغلها المشترى؛ فهي له لأنه كان في ضمانه، ولو هلك من ماله". 3 أي: البيع إذا فرض أنه لم ينه عنه صراحة، بل اكتفى باندراجه ضمن الأمر في قوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ؛ فيكون شبيهه وهو النهي التبعي عن الاستيلاء على منافع المغصوب كذلك؛ أي: لا يرتب عليه حكم النهي؛ فلا يعتد بقيمة المنافع ولا تضمن، لأن النهي عنها حينئذ ليس أصليًا بل تبعي، وقد عرفنا أن التبعي حتى الصريح كما ورد في {وَذَرُوا الْبَيْع} [الجمعة: 9] لم يرتب عليه حكمه؛ فهذا أولى. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 كَذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا؛ فَضَمَانُهُ ضَمَانُ1 التَّعَدِّي لَا ضَمَانُ الْغَصْبِ؛ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ تَابِعَةٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَارَ النَّهْيُ عَنْ إِمْسَاكِ الرَّقَبَةِ تَابِعًا لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَنَافِعِ، فَلِذَلِكَ يَضْمَنُ بِأَرْفَعِ2 الْقِيَمِ مُطْلَقًا، وَيَضْمَنُ مَا قَلَّ وَمَا كَثُرَ، وَأَمَّا ضَمَانُ الرَّقَبَةِ فِي التَّعَدِّي؛ فَعِنْدَ التَّلَفِ3 خَاصَّةً، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَلَفُهَا عَائِدًا عَلَى الْمَنَافِعِ بِالتَّلَفِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمَا وَاحِدًا؛ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ مَالِكٌ فِي الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ: "إِذَا حَبَسَ الْمَغْصُوبَ أَوِ الْمَسْرُوقَ عَنْ أَسْوَاقِهِ وَمَنَافِعِهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ4 وَإِنْ كان مستعيرًا5 أو متكاريًا ضمن قيمته"6   1 فرقوا بين ضمان الغصب وضمان التعدي بأمور: منها أن التلف بسماوي يضمنه في الغصب لا التعدي، ومنها أن تغير السوق في الغصب لا يعتبر، وفي التعدي يعتبر مفوتًا فيضمن أعلى القيم، والسرقة كالغصب، ومنها أن الفساد اليسير من الغاصب يوجب للمالك أخذ قيمة المغصوب إن شاء واليسير من المتعدي يستوجب أخذ أرش النقص الحاصل فقط مع نفس المتعدى عليه، ومنها أنه إذا تعيب المغصوب بغير تعدي الغاصب خير ربه بين أخذه معيبًا ولا شيء له في نظير العيب وبين أخذ القيمة يوم الغصب، ومن صور التعدي زيادة المكتري والمستعير على المسافة المشترطة أو المدة المشترطة أو الحمل المشترط بغير إذن ربه ورضاه؛ فواضح أن المقصود فيهما المنافع، والذات تابعة. "د". 2 لأن من منافعها قيمتها؛ فأرفع القيم لها داخل في منافعها، فيضمنه مطلقًا سواء أكان الأرفع سابقًا ثم رخصت، أم لاحقًا بعدما كانت رخيصة، وسواء أكان للمتعدي دخل في علو القيمة أم لم يكن، كما يضمن غلتها قليلة كانت أو كثيرة. "د". 3 أي: التلف بتعديه هو؛ لأن التلف بتعديه لا فرق فيه بين الغصب والتعدي. "د". 4 أي: لا أعلى القيم ولا المنافع. "د". قلت: في "د" و"ف": "ربه أن". 5 أي: وزاد على ما اشترط، كما أسلفنا؛ فيكون تعدي بالزيادة. "د". 6 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَإِلَّا فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى غَيْرِهِ؛ فَالْمَأْخَذُ آخَرُ، وَالْأَصْلُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ1 ثَابِتٌ. فَالْقَائِلُ2 بِاسْتِوَاءِ الْبَابَيْنِ يَنْبَنِي قَوْلَهُ عَلَى مَآخِذَ: - مِنْهَا: الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ: "هَلِ الدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ؟ "3، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ الدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ؛ فَذَلِكَ جَارٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْغَصْبِ؛ فَالضَّمَانُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَالْمَنَافِعُ تَابِعَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَالِابْتِدَاءِ؛ فَالْغَاصِبُ فِي كُلِّ حِينٍ كَالْمُبْتَدِئِ لِلْغَصْبِ، فَهُوَ ضَامِنٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ ضَمَانًا جَدِيدًا: فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ الْمَغْصُوبَ بِأَرْفَعِ4 الْقِيَمِ كَمَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ، قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: "لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَتَى لَمْ يَرُدَّهُ؛ كَانَ كَمُغْتَصِبِهِ حِينَئِذٍ". - وَمِنْهَا: الْقَاعِدَةُ الْمُتَقَرِّرَةُ، وَهِيَ "أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يَمْلِكُهَا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا تَعَالَى، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ مِنْهَا الْمَنَافِعُ"5، وَإِذَا كَانَ كذلك؛ فهل القصد إلى   1 أي: هنا وهو أن الأمر والنهي التبعيين غير منحتمين، وإنما المنحتم المقصود الأصلي ثابت، والمخالف للمشهور لا يفرع على ما ينافيه، بل على مآخذ أخرى لا تخرم هذا الأصل، أي: فمع بقاء اعتبار هذا الأصل يتأتى للمخالف مخالفة المشهور بناء على تلك المآخذ التي سيذكر منها أربعة؛ لأن كونه غير منحتم بمجرده لا ينافي أن ينضم إليه ما يجعله قويًا متأكدًا ينبني عليه ما ينبني على المقصد الأصلي، وبهذا يتضح معنى قوله بعد: "فَإِذَا نَظَرَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ ظهر وجه الخلاف"، وذلك لأنه لولا ثبوت هذه القاعدة وكان التبعي منحتمًا؛ لكان الواجب في الغصب ضمان المنافع قطعًا، ولم يكن للخلاف وجه. "د". 2 كالشافعية. "د". 3 انظر عنها: "إيضاح المسالك" "ص163" للونشريسي، و"قواعد المقري" "رقم 56". 4 أي: فيعتبر تغير الأسواق ويكون مفتونًا. "د". 5 انظر عنها: "المعيار المعرب" "5/ 334"، و"المعلم" للمازري "2/ 210"، و"الملكية ونظرية العقد في الفقه الإسلامي" "ص72" لمحمد أبو زهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 مِلْكِ الرِّقَابِ مُنْصَرِفٌ إِلَى مِلْكِ الْمَنَافِعِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهَا إِذْ أَعْيَانُ الرِّقَابِ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَعْيَانٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ؛ فَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي فِي1 ضِمَانِ الْمَنَافِعِ، وإن قلنا: ليس بمنصرف؛ فهو مقتضى2 التَّفْرِقَةِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا قَصَدَ تَمَلُّكَ الرَّقَبَةِ؛ فَهَلْ يَتَقَرَّرُ لَهُ عَلَيْهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ لَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهَا [شُبْهَةُ مَالِكٍ] 3، كَالَّذِي فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" 4، فَكَانَتْ كُلُّ غَلَّةٍ، وَثَمَنٍ يَعْلُو أَوْ يَسْفُلُ، أَوْ حَادِثٍ يَحْدُثُ لِلْغَاصِبِ وَعَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الضَّمَانِ؛ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يتقرر له عليها شبهة ملك، بل المغضوب عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ مِنْ غَلَّةٍ وَمَنْفَعَةٍ فَعَلَى مِلْكِهِ فَهِيَ لَهُ؛ فَلَا بُدَّ لِلْغَاصِبِ مِنْ غُرْمِهَا لِأَنَّهُ قَدْ غَصَبَهَا أَيْضًا. وَأَمَّا5 مَا يَحْدُثُ مِنْ نَقْصٍ؛ فَعَلَى الغاصب بعدائه6 لأن نقص الشيء   1 في "د": "لا ضمان". 2 في "د": "بمقتضى". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 4 مضى تخريجه "ص204". 5 تكميل لقوله: "وإن قلنا: إنه لا يتقرر .... إلخ" يريد به دفع ما يقال إذا كان كذلك؛ فالمعقول إذا حدث نقص بسماوي ألا يضمن في الغصب أيضًا، فأجاب بأنه ضمن لتعديه بالغصب؛ لأن النقص يرجع للذات، وهو ضامن لها، فيضمن أبعاضها، وقوله: "كما يضمن التعدي على المنافع" علمت أن ذلك إنما يكون في النقص الحاصل بتعديه لا بسماوي، وأن الغاصب يضمن مطلقًا. "د". 6 بفتح المهملتين، مصدر "عدا"؛ أي: ظلم. "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 المغضوب إِتْلَافٌ لِبَعْضِ ذَاتِهِ، فَيَضْمَنُهُ كَمَا يَضْمَنُ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الذَّاتِ مِنْ جُمْلَةِ المنافع، هذا أيضا ً مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ. - وَمِنْهَا: أن يقال: هل المغضوب إِذَا رُدَّ بِحَالِهِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهِ يُعَدُّ كَالْمُتَعَدِّي فِيهِ لِأَنَّ الصُّورَةَ فِيهِمَا مَعًا وَاحِدَةٌ، وَلَا أَثَرَ لِقَصْدِ الْغَصْبِ إِذَا كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ رَدَّ مَا غَصَبَ اسْتِرْوَاحًا مِنْ قَاعِدَةِ مَالِكٍ فِي اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَإِلْغَائِهِ الْوَسَائِطَ، أَمْ لَا يُعَدُّ كَذَلِكَ؟ فَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ هُنَا أَنَّ لِلْقَصْدِ أَثَرًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ لَا أَثَرَ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ مَالِكٌ فِي الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ إِذَا حَبَسَ الشَّيْءَ الْمَأْخُوذَ عَنْ أَسْوَاقِهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعِيرًا أَوْ مُتَكَارِيًا ضَمِنَ قِيمَتَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ1: "لَوْلَا مَا قَالَهُ مَالِكٌ؛ لَجَعَلْتُ عَلَى السَّارِقِ مِثْلَ مَا جُعِلَ عَلَى الْمُتَكَارِي". فَهَذِهِ أَوْجُهٌ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْخِلَافِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَلَيْهَا، مَعَ بَقَاءِ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى حَالِهَا، وَهَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَوَامِرِ أَوِ النَّوَاهِي بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَحُكْمُهُ مُنْحَتِمٌ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَإِذَا نَظَرَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ ظَهَرَ وَجْهُ الْخِلَافِ، وَرُبَّمَا2 خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ، وَلَا تَنْقُضُ أَصْلَ الْقَاعِدَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبَيَّنَ3 مِنْهُ وَجْهُ صِحَّةِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ بُطْلَانِهَا، ووجه مذهب ابن   1 في "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية". 2 يريد أخذ الحيطة لتثبيت هذا الأصل بأنه لا تضره مخالفة بعض الفروع له؛ لأن ذلك إنما جاء من مراعاة دليل شرعي آخر، وهو الاستحسان. "د". 3 لأن إقامة الصلاة فيها استيلاء على بعض منافعها، والنهي عنه تابع للنهي عن الاستيلاء على الذات؛ فيعود الكلام السابق برمته، بما في ذلك من الوجوه الأربعة التي ينبني عليها الخلاف في الصحة والبطلان. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 حَنْبَلٍ وَأَصْبُغَ وَسَائِرِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِهَا. وَقَدْ أَذْكَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةً أُخْرَى تَرْجِعُ1 إِلَى هَذَا المعنى، وهي:   1 أي: من جهة أن المعتبر هو المتبوع، هذا هو المقدار الذي تشترك فيه المسألتان، وما عداه يختلفان فيه؛ فموضوعها مختلف، وكون الاعتبار للمتبوع مختلف من حيث إنه في هذه يكون التابع ملغى وساقط الاعتبار شرعًا لأن اعتباره ينافي اعتبار المتبوع، بخلافه في المسألة السابقة؛ فإنه فقط غير منحتم بمجرده، وقد يعتبر إذا انضم إليه ما يقويه، واعتباره لا ينافي اعتبار المتبوع، وسيأتي له أن التابع لا يتعلق به أمر ولا نهي، مع أنه في المسألة السابقة تعلق به الأمر والنهي، لكن لا على وجه الانحتام. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى مُتَلَازِمَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا مَأْمُورًا1 بِهِ وَالْآخِرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ عِنْدَ فَرْضِ الِانْفِرَادِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِلْآخَرِ وَجُودًا أَوْ عَدَمًا2 فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ3 مِنَ الِاقْتِضَاءَيْنِ مَا انْصَرَفَ إِلَى جِهَةِ الْمَتْبُوعِ، وَأَمَّا مَا انْصَرَفَ إِلَى جِهَةِ التَّابِعِ؛ فَمُلْغًى وَسَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا تَقَدَّمَ4 تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، هَذَا5 وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هُنَالِكَ غَيْرَ صَرِيحٍ وَهُنَا صَرِيحٌ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْقَائِلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يبنَ على كون النهي تبعيًّا6، وإنما   1 يعني: مأذونا فيه؛ ليعم المباح كما سيأتي في الأمثلة. "د". 2 في "ط": "عرفًا". 3 أي: عند الاجتماع "د". قلت: انظر في المسألة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-305". 4 أي: في الفرق بين القصد الأصلي والتابع، واعتبار الأول دون الثاني، وبيان ذلك في الغصب والتعدي، وإن كان التابع هناك، كان الاقتضاء المتعلق به غير صريح بخلافه هنا؛ لأنه لا فرق بينهما متى ثبت حكم التبعية، إنما الفرق آتٍ من جهة القصد الأصلي والتبعي لا غير، والدليل كما ترى استئناس لا يصلح وحده أن يكون دليلًا في مسألة أصولية، مع العلم باختلاف موضوعي المسألتين، أما باقي الأدلة؛ فجيد. "د". 5 كلمة "هذا" للفصل بين الكلامين، وهي تقع قليلًا في كلام المؤلفين. "ف". 6 يعني: أن النهي مع كونه صريحًا لم يلتفت للبناء على الصراحة، ويرتب الحكم بالبطلان عليه في هذه الجهة، بل بناه على كونه مقصودًا قصدًا أصليًا؛ كالسعي سواء بسواء في أن كلا مقصود لذاته، وقد ذكر هذا تأييدًا لقوله: "فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية"، ولكن يقال له: من أين لك هذا، ولم لا يجوز أن يكون مبناه على النهي الصريح وإن كان تبعيًا؟ فهذه دعوى محتاجة لدليل، ولا يفيد فيه ما يأتي من الدليلين بعده؛ لأنهما ليسا متلازمين كما هو موضوع الأدلة الآتية، بل موضوع المسألة هنا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 بَنَى الْبُطْلَانَ عَلَى كَوْنِهِ مَقْصُودًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِذَا تَوَارَدَا عَلَى الْمُتَلَازِمَيْنِ؛ أَمَّا أَنْ يَرِدَا مَعًا عَلَيْهِمَا1، أَوْ لَا يَرِدَا أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَرِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ قَدْ فَرَضْنَاهُمَا مُتَلَازِمَيْنِ؛ فَلَا يُمْكِنُ الِامْتِثَالُ فِي التَّلَبُّسِ بِهِمَا لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَمِنْ حَيْثُ أَخَذَ فِي الْعَمَلِ صَادَمَهُ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمِنْ حَيْثُ تَرَكَهُ صَادَمَهُ الْأَمْرُ؛ فَيُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَعَلَ أَوْ تَرَكَ2، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ3؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالثَّانِي كَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الطَّلَبَيْنِ تَوَجَّهَا فَلَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مَعًا؛ فَلَمْ يبقَ إِلَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ أَحَدُهُمَا دُونَ الثَّانِي، وَقَدْ فَرَضْنَا أَحَدَهُمَا مَتْبُوعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَالْآخَرُ تَابِعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ ثَانِيًا؛ فَتَعَيَّنَ تَوَجُّهُ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَتْبُوعِ دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِالتَّابِعِ، وَلَا يَصِحُّ الْعَكْسُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِقْرَاءُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ كَالْعَقْدِ عَلَى الْأُصُولِ مَعَ مَنَافِعِهَا4 وَغَلَّاتِهَا، وَالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ مَعَ مَنَافِعِهَا وَغَلَّاتِهَا؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ؛ فَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الرِّقَابَ ويتبعها منافعها، وله أيضًا أن   1 بحيث يعتبر كل من الاقتضاءين في محله فقط؛ فيكون أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًّا عنه، لا أن كل من الاقتضاءين متوجه إلى كل من المحلين كما هو ظاهر العبارة. "د". 2 أي: أن فعل أو ترك؛ فكل منهما إذا أخذ به صادمه الآخر فيجتمع عليه الأمر والنهي معًا. "د". قال "ف": "الأنسب العطف بالواو". 3 أي: وموضوع المسألة ليس فرضيًّا وعقليًّا فقط، بل هو واقع كالأمثلة. "د". 4 أي: التي قد لا تكون موجودة وقت العقد، بل قد لا توجد أصلًا وذلك مما كان يقتضي فساد العقد لو انفردت، لكنها لما كانت تابعة للمقصود الأصلي؛ جاز العقد عليها مع المتبوع؛ فلم تعتبر جهة النهي وهي ما فيها من الغرر والجهالة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 يَتَمَلَّكُ أَنْفُسَ الْمَنَافِعِ خَاصَّةً، وَتَتْبَعُهَا الرِّقَابُ مِنْ جِهَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ، وَيَصِحُّ الْقَصْدُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ يَتَبَيَّنُ فِيهَا وَجْهُ التَّبَعِيَّةِ بِصُوَرٍ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ فِي شِرَاءِ الدَّارِ أَوِ الْفَدَّانِ1 أَوِ الْجَنَّةِ2 أَوِ الْعَبْدِ أَوِ الدَّابَّةِ أَوِ الثَّوْبِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ عَقْدٌ عَلَى الرِّقَابِ لَا عَلَى الْمَنَافِعِ التَّابِعَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً3، وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ مَعْدُومَةً، وَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً؛ امْتَنَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلْجَهْلِ بِهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَمِنْ كُلِّ طَرِيقٍ؛ إِذْ لَا يَدْرِي مِقْدَارَهَا وَلَا صِفَتَهَا وَلَا مُدَّتَهَا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ لَا يَدْرِي هَلْ تُوجَدُ مِنْ أَصْلٍ أَمْ لَا؛ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ انْفِرَادِهَا4 لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْمَجْهُولِ، بَلِ الْعَقْدُ عَلَى الْأَبْضَاعِ5 لِمَنَافِعِهَا جَائِزٌ، وَلَوِ انْفَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ6؛ لَامْتَنَعَ مُطْلَقًا إِنْ كَانَ وَطْئًا، وَلَامْتَنَعَ فِيمَا سوى البضع أيضًا إلا بضابط   1 في "اللسان": "الفدان بتشديد الدال: المزرعة" ا. هـ. "ف". 2 الجنة: البستان والحديقة، وقيل: لا تكون الجنة في كلام العرب إلا وفيها نخل، فإن لم يكن فيها ذلك وكانت ذات شجر؛ فهي حديقة، وليست بجنة. "ف". 3 وسيأتي أن هذه قسمان أحدهما حكمه حكم المعدومة أيضا. "د". 4 أي: ولكن مع تبعيتها للرقاب يكون النهي ساقط الاعتبار شرعًا. "د". 5 جمع بضع بالضم: وهو الفرج؛ فالكلام على تقدير مضاف، أي ذوات الفرج، والواقع أن العقد على الرقيق مطلقًا إنما هو لمنافعه، وليس لمالكه التصرف في ذاته كسائر مملوكاته. "د". ونحوه عند "م" مختصرًا. 6 على تقدير مضاف كسابقه، أما في قوله "سوى البضع"؛ فلا يحتاج لتقدير، سواء أكان بالمعنى السابق أم كان بمعنى الوطء، أي: فالعقد على ذات الرقيق ورقبته جعل منافعه من الوطء وغيره مباحة مطلقًا لكونها تابعة للذات، ولو كانت وحدها؛ لامتنعت إما مطلقًا كالوطء، وإما إذا لم تستوفِ شرطها من تعينها بضابط يميزها، وهذا الموضع هو الذي سيقول فيه في الجواب عن الإشكال الثاني: "وظهر لك حكمة الشارع في إجازة ملك الرقاب ... إلخ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 يُخْرِجُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ؛ كَالْخِدْمَةِ، وَالصَّنْعَةِ، وَسَائِرِ مَنَافِعِ الرِّقَابِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ. وَالْعَكْسُ كَذَلِكَ1 أَيْضًا كَمَنَافِعِ الْأَحْرَارِ، يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ2 بِاتِّفَاقٍ، وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الرِّقَابِ بِاتِّفَاقٍ3، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَالْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِيهِ يَسْتَتْبِعُ الْعَقْدَ عَلَى الرَّقَبَةِ؛ إِذِ الْحُرُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ زَمَنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ رَقَبَتِهِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ أَثَرُ كَوْنِ الرَّقَبَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، لَكِنْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى الْجُمْلَةِ يُعْطَى أَنَّ التَّوَابِعَ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ لَا يُتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَابِعُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا قُصِدَتِ ابْتِدَاءً، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ مَتْبُوعَةٌ لَا تَابِعَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ بِأُمُورٍ: أَحَدِهَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ4 قَالُوا: إِنَّ الرِّقَابَ -وَبِالْجُمْلَةِ الذَّوَاتِ5- لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ6 فِي التَّمَلُّكِ شَرْعًا مَنَافِعُ الرِّقَابِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هِيَ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْعِبَادِ [بِالْمَصَالِحِ] 7، لَا أَنْفُسَ الذَّوَاتِ؛ فذات الأرض أو   1 أي: فيصح العقد على ذات الرقيق وتتبعه المنافع التي منها البضع، ولو انفرد هذا لمنع، والحر يصح العقد على منافعه وتتبعه ذاته، ولو انفردت ذاته؛ لم يصح العقد عليها، والبضع في الأول تابع، والرقبة في الثاني تابعة؛ فلم يؤخذ فيهما بدليل النهي. "د". 2 أي: إذا وجد الضابط المذكور. "د". 3 لأنه تملك والحر لا يملك. "د". 4 نحو المذكور عند المازري في "المعلم" "2/ 210-211". 5 أعم لأن الرقاب جمع رقبة، وهي لغة المملوك من الرقيق. "د". 6 هذه المقابلة كانت تقتضي أن يقال: إن الذوات لا يملكها إلا الله، ولا يقصد شرعًا تمليكها للخلق، يعني: والمنافع وإن كانت لا يملكها إلا الله، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف: 85] ؛ إلا أن الشارع يقصد تمليكها للعبيد حسبما يناسبهم في ذلك، أما التقابل في عبارته؛! فليس بجيد. "د". 7 سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 الدار أو الثواب أَوِ الدِّرْهَمِ مَثَلًا لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا ضُرٌّ مِنْ حَيْثُ هِيَ ذَوَاتٌ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ1 المقصود بها من حيث إن الأرض تزرع مثلا، والدار تسكن، والثواب يُلْبَسُ، وَالدِّرْهَمَ2 يُشْتَرَى بِهِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْمَنْفَعَةِ؛ فَهَذَا ظَاهِرٌ حَسْبَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْعَقْدُ أَوَّلًا إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْمَنَافِعِ خَاصَّةً، وَالرِّقَابُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمِلْكِ؛ فَلَا تَابِعَ وَلَا مَتْبُوعَ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَشْبَاهِهِ تَابِعٌ وَمَتْبُوعٌ بَطَلَ، فَكُلُّ مَا فُرِضَ3 مِنَ الْمَسَائِلِ خَارِجٌ عَنْ تَمْثِيلِ الْأَصْلَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ أَوَّلًا وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ثَانِيًا. وَالثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمَعْقُودُ4 عَلَيْهَا؛ فَالْمَنَافِعُ هِيَ الْمَقْصُودُ [أَوَّلًا] 5 مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الذَّوَاتَ لَا نَفْعَ فيها ولا ضر من حيث هي ذوات؛ فَصَارَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا هِيَ الْمَنَافِعُ، وَحِينَ كَانَتِ المنافع لا تحصل على   1 ومثله يقال فيما يؤكل ويشرب مثلًا، فإنما حصل المقصود به من حيث منفعته من التغذية والإرواء وهكذا؛ فلا يقال: إن هذا ينتفع به ذاته، ولكنه اختار التمثيل بما هو واضح القصد إلى منفعته لا إلى ذاته، وترك النوع الذي ذكرناه لأنه يشتبه أمره في بادئ النظر، وغرضه المهم ترويج الإشكال؛ فلا يأتي فيه إلا بما هو أقرب توصيلًا إلى هذا الغرض؛ فهو رحمه الله في طريقة الجدل صناع. "د". 2 في "ط": "أو الدار ... أو الثوب .... أو الدرهم". 3 أي: أن جميع الصور التي ذكرتها لتحقيق هذا الأصل فيها إنما فرضتها في ملك الذوات؛ فتكون المنافع تابعة، أو في ملك المنافع فقط؛ فتكون الذوات تابعة، وحيث إن ملك الذوات بطل ولا يوجد إلا ملك المنافع؛ فحقق أولًا متلازمين في الوجود، أحدهما تابع والآخر متبوع في صور لا يفرض فيها ملك الذوات، ثم استدل على الحكم الذي تدعيه فيه من إلغاء حكم التابع، أما ما صنعت؛ فإنه بناء فروض على فروض، ومثل هذا ليس من العلم في شيء على ما سبق من المقدمات. "د". 4 أي: مقصودة بالتملك شرعًا؛ ليكون تسليمًا لما منعه أولًا، أما كون المعقود عليه والذي تجري عليه الصيغ هو الذوات؛ فلم يكن محل المنع هناك، بل كان المنع لقصد تملكها رأسًا؛ فهنا يقول: سلمنا قصد تملكها، لكن ليس قصدًا أوليًّا؛ فإنها إنما حصلت واستولى عليها لمنافعها. "د" 5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 الْجُمْلَةِ إِلَّا عِنْدَ تَحْصِيلِ الذَّوَاتِ؛ سَعَى الْعُقَلَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا؛ فَالتَّابِعُ إِذًا فِي الْقَصْدِ هِيَ الذَّوَاتُ وَالْمَتْبُوعُ هُوَ1 الْمَنَافِعُ فَاقْتَضَى هَذَا بِحُكْمِ مَا تُحُصِّلَ2 أَوَّلًا أَنْ تَكُونَ الذَّوَاتُ مَعَ الْمَنَافِعِ فِي حُكْمِ3 الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ إِذْ لَا تَكُونُ ذَاتُ الْحُرِّ تَابِعَةً لِحُكْمِ مَنَافِعِهِ بِاتِّفَاقٍ، بَلْ لَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ وَلَا الْكِرَاءُ فِي شَيْءٍ يَتْبَعُهُ ذَاتُ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ فَاكْتِرَاءُ الدَّارِ يُمَلِّك مَنْفَعَتَهَا وَلَا يَتْبَعُهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مُسْتَأْجِرٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا أَصْلٌ مُنْخَرِمٌ إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا4 عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِعَ نَصَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ؛ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ" 5، وَقَالَ: "مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ؛ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ" 6؛ فَهَذَانَ حديثان لم يجعلا   1 في "ط": "هي". 2 في "ط": "تأصل"، وقال "د": "أي: القاعدة والأصل الذي ذكرته". 3 أي: دائمًا، وفي كل صورة فرضت، وهو خلاف ما أصلت. "د". 4 لأن تصويره فيها أدى إلى هذا الباطل، وهو تبعية الذوات في كل مادة للمنافع؛ فحاصل هذا الإشكال الثاني نقض إجمالي، ومآل ما بعده إلى المعارضة بإثبات أن كلًّا من الذوات والمنافع منفصل عن الآخر؛ فلا تبعية بينهما، والمعارضة مبنية على ما اعتبره الشرع في مسألتي النخل والعبد، ومآل الرابع معارضة مبنية على الجاري بين العقلاء في المعاملة التي أقرها الشرع من اعتبار كل منهما وعدم إلغاء المنافع في جانب الأصل. "د". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممرًا أو شرب في حائط أو نخل، 5/ 49/ رقم 2379، وكتاب الشروط، باب إذا باع نخلا قد أبرت، 5/ 313/ رقم 2716"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب من باع نخلا عليها ثمر، 3/ 1172/ رقم 1543" عن ابن عمر مرفوعًا، وفي آخره: "إلا أن يشترط المبتاع". قال "ف": "أبرت؛ بضم أوله وكسر الباء المشددة؛ أي: أصلحت ولقحت" ا. هـ. 6 هو قطعة من الحديث السابق، أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 2379"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1543 بعد80"، ولفظه: " ..... ومن ابتاع عبدًا؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع"، ولفظ البخاري: "ومن ابتاع عبدًا وله مال؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 الْمَنْفَعَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، مَعَ أَنَّهَا عِنْدَكُمْ1 تَابِعَةٌ لِلْأُصُولِ كَسَائِرِ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ، بَلْ جَعَلَ فِيهِمَا التَّابِعَ لِلْبَائِعِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ انْفِصَالِ الثَّمَرَةِ عَنِ الْأَصْلِ حُكْمًا، وَهُوَ يُعْطَى فِي الشَّرْعِ انْفِصَالَ التَّابِعِ مِنَ الْمَتْبُوعِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْصُودَةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ وَأَرْبَابِ الْعَوَائِدِ، وَإِنْ فُرِضَ الْأَصْلُ مَقْصُودًا؛ فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ، وَلِذَلِكَ يُزَادُ فِي ثَمَنِ الْأَصْلِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ، وَيَنْقُصُ مِنْهُ2 بِحَسَبِ نُقْصَانِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَكَيْفَ تَكُونُ الْمَنَافِعُ مُلْغَاةً وَهِيَ مَثْمُونَةٌ3، مُعْتَدٌّ بِهَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، مقصودة؟ فهذا4 يقتضي القصد إليها عدم الْقَصْدِ إِلَيْهَا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهَا عَادِيٌّ وَعَدَمُ الْقَصْدِ إِلَيْهَا شَرْعِيٌّ، فَانْفَصَلَا فَلَا تَنَاقُضَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُ الشَّارِعِ غَيْرَ قَاصِدٍ لَهَا فِي الْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا عُرْفًا وَعَادَةً؛ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ إِجْرَاءَ5 الْأَحْكَامِ عَلَى الْعَوَائِدِ،   1 أي: بمقتضى الأصل المستدل عليه. "د". 2 في "ف": "منها"، وقال: "الأنسب "منه"؛ أي: من ثمن الأصل". 3 في "القاموس" و"شرحه": "أثمنه سلعته وأثمن له: أعطاه ثمنها، وأثمن المتاع فهو مثمن: صار ذا ثمن، وأثمن البيع: سمى له ثمنًا، وليس في المادة مثمون". "د". وقال "م": "صوابه "وهي مثمّنة"؛ لأن الفعل من مثال أكرم". 4 أي: ما أورد في مادة هذه المعارضة منضمًا إلى أصل القاعدة بإلغاء المنافع في جانب الأصل، هذا والاعتراض بهذا المحال يمكن ترتيبه على الثالث أيضًا، زيادة عن مخالفته لما يقضي به حكم الشارع. "د". 5 كما تقدم في المسألة الخامسة عشرة من النوع الرابع من كتاب المقاصد "العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وَمِنْ أُصُولِهِ مُرَاعَاةُ1 الْمَصَالِحِ وَمَقَاصِدُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، أَعَنَى: فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَصَالِحَ الْأُصُولِ هِيَ الْمَنَافِعُ، وَأَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْصُودَةٌ عَادَةً وَعُرْفًا لِلْعُقَلَاءِ؛ ثَبَتَ2 أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَقَدْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَنَافِعَ مُلْغَاةٌ شَرْعًا مَعَ الْأُصُولِ؛ فَهِيَ إِذًا مُلْغَاةٌ فِي عَادَاتِ الْعُقَلَاءِ، لَكِنْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِي عَادَاتِ الْعُقَلَاءِ، هَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَا أَصَّلُوهُ3 صَحِيحٌ وَلَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِنَا؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ4 أَيْضًا لَيْسَ5 للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ما له فِي الصِّفَاتِ وَالذَّوَاتِ؛ فَكَمَا تُضَافُ الْأَفْعَالُ إِلَى الْعِبَادِ كَذَلِكَ تُضَافُ إِلَيْهِمُ الصِّفَاتُ وَالذَّوَاتُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا هُوَ لَنَا مُكْتَسَبٌ، وَلَيْسَ لَنَا مِنَ الصِّفَاتِ وَلَا الذَّوَاتِ شَيْءٌ مُكْتَسَبٌ لَنَا، وَمَا أُضِيفَ لَنَا مِنَ الْأَفْعَالِ كَسْبًا؛ فَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِمُسَبِّبَاتٍ هِيَ أَنْفُسُ6 الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ أَوْ طَرِيقٌ إليها، ومن جهتها   1 وهي تقتضي مراعاة العوائد، وقوله: "مصالح الأصول"؛ أي: المصالح المقصودة عادة للعقلاء من هذه الأصول. "د". 2 لأن قصد الشارع يلزم أن يكون مبنيًّا على قصد العقلاء وعرفهم؛ فتكون مقصودة للشارع بمقتضى هذا، غير مقصودة له بمقتضى القاعدة؛ فبقي الاعتراض بالمعارضة الأخيرة كما هو، وهذا المقدار كافٍ في تثبيت الاعتراض المذكور، ولكنه زاد عليه قوله: "وقد قلتم ... إلخ" ليرتب عليه محظورًا وهو أن تكون مقصودة في عادات العقلاء، غير مقصودة فيها. "د". 3 وهو أن الذوات لا يملكها إلا الله؛ لأنه خالقها مدها بأسباب بقائها؛ فهو المالك الحقيقي. "د". 4 ورد في الأصل و"ف" و"ط": "لأن الصفات أيضا والأفعال ليس". قلت: وصوب "ف" ما أثبتناه. 5 أي: على مذهب الأشاعرة؛ لأنه ليس خالقًا لفعل من الأفعال المنسوبة إليه. "د". 6 فتناول الماء سبب للري الذي هو المنفعة، والحرث سبب للنبات، وليس النبات هو المنفعة، بل طريق إليه قريب أو بعيد؟ أي: فالأفعال المنسوبة إلينا نسبة ضعيفة بالكسب ليست هي المنافع، بل هي أسباب لها قريبة أو بعيدة؛ فآل الأمر إلى أنه لا فرق بين المنافع والذوات في أنها ليست مقدورة لنا، فليس ملكنا لها ملكًا حقيقيًّا ولا كسبيًّا، وقد سلمتم نسبة المنافع لنا؛ فسلموا نسبة ما كان مثلها وهو الذوات إلينا بلا فارق، على المعنى الذي يليق بنا في الأمرين معًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 كُلِّفْنَا فِي الْأَسْبَابِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَأَمَّا أَنْفُسُ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُسَبَّبَاتٌ؛ فَمَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، فَكَمَا يَجُوزُ إِضَافَةُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ إِلَيْنَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ قُدْرَتِنَا؛ كَذَلِكَ الذَّوَاتُ يَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَيْنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِنَا. وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْهَا مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْإِتْلَافِ وَالتَّغْيِيرِ؛ كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ وَقَتْلِهِ لِلْمَأْكَلَةِ، وَإِتْلَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأُبِيحَ لَنَا إِتْلَافُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِذَا كَانَ مُؤْذِيًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا وَكَانَ إِتْلَافُهُ تَكْمِلَةً لِمَا1 لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ مِنَ الْمَنَافِعِ؛ كَإِزَالَةِ الشَّجَرَةِ الْمَانِعَةِ لِلشَّمْسِ عَنْكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغير وَغَيْرِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَمَلُّكِهَا شَرْعًا، وَلَا يَبْقَى بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَنْ أَطْلَقَ تِلْكَ الْعِبَارَةَ -أَنَّ الذَّوَاتَ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللَّهُ- سِوَى الْخِلَافِ فِي اصْطِلَاحٍ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمَعْنَى؛ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُ الذَّوَاتِ وَكَانَتِ الْمَنَافِعُ نَاشِئَةً عَنْهَا؛ صَحَّ كَوْنُ الْمَنَافِعِ تَابِعَةً، وَتُصُوِّرَ2 مَعْنَى الْقَاعِدَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ سُلِّمَ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ فِي التَّفْصِيلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، أَمَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنَافِعُ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ، إِلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا ضَابِطَ لَهَا إِلَّا ذَوَاتُهَا الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنَافِعَ الأعيان لا تنحصر، وإن انحصرت   1 قيد به لأنه لو كان إتلافه تكملة لضروري من المنافع؛ لكان مطلوبًا لا مباحًا؛ فلا يتوقف على كونه مملوكًا للمتلف، فلا يدل على مدعاه، كإتلاف جدار لغيرك لتسد بأنقاضه ثلمة في جسر ماء انطلق ويخشى منه على البلد إن لم تسرع بهدم الجدار مثلًا. "د". 2 أي: واقعًا في الشريعة؛ فصح أن تستدل عليه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 الْأَعْيَانُ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَثَلًا قَدْ هُيّئ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ إِلَى كُلِّ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْآدَمِيُّ مِنَ الخِدم، وَالْحِرَفِ، وَالصَّنَائِعِ، وَالْعُلُومِ، وَالتَّعَبُّدَاتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ، وَكُلُّ نَوْعٍ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ مِنَ الْمَنَافِعِ لَا تَتَنَاهَى، هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْعَادَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمِيعِ هذه الأمور؛ فدخوله في جنس واحد معرقًا فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِ أَصْنَافِهِ يَكْفِي1 فِي حَصْرِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ الْمَنَافِعِ، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْهَا تَصِحُّ مُؤَاجَرَتُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْرِ بِأُجْرَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا عُمُرُهُ2، وَكَذَلِكَ كَلُّ رَقَبَةٍ مِنَ الرِّقَابِ وَعَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا؛ فَالنَّظَرُ إِلَى الْأَعْيَانِ نَظَرٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الْمَنَافِعِ. وَأَمَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَنَافِعِ فَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَحْصُرُ3 مِنْهَا بَعْضٌ إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الْقَصْدُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالْحَالِ وَالْإِمْكَانِ، فَحَصَلَ الْقَصْدُ مِنْ جِهَتِهَا جُزْئِيًّا لَا كُلِّيًّا، وَلَمْ تَنْضَبِطِ الْمَنَافِعُ مِنْ جِهَتِهَا4 قَصْدًا، لَا فِي الْوُقُوعِ وُجُودًا وَلَا فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا شَرْعًا؛ لِحُصُولِ الْجَهَالَةِ حَتَّى يُضْبَطَ مِنْهَا بَعْضٌ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ، وَشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌ، فَإِذَا النَّظَرُ إِلَى الْمَنَافِعِ خُصُوصًا5 نَظَرٌ إِلَى جُزْئِيَّاتِ الْمَنَافِعِ، وَالْكُلِّيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجُزْئِيِّ طَبْعًا وَعَقْلًا، وَهُوَ أَيْضًا مُقَدَّمٌ شَرْعًا كَمَا مَرَّ6.   1 أي: أن ما لا يتناهى في المنافع وجزئيات الصنعة يمكن ضبطه وحصره بنسبته إلى هذا العبد. "د". 2 متعلق بمحذوف؛ أي: ويستمر هكذا في طول حياته، ولا يصح تعلقه بقوله: "ينتفع"، ولا بقوله: "تصح"؛ كما هو ظاهر. "د". 3 في "ط": "حصر". 4 أي: من جهة نفس النافع، وقوله: "لا في الوقوع وجودًا"؛ كما أشار إليه بقوله: "وكل نوع تحته ... إلخ"، وقوله: "ولا في العقد ... إلخ" تابع للوجود، وقوله: "حتى يضبط منها ... إلخ"؛ أي: فتنضبط قصدًا فيهما، ولكنه نظر جزئي. "د". 5 أي: والنظر إليها من جهة الذات التي لها تلك المنافع نظر كلي. "د". 6 أي: في صدر المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا -عَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنَافِعُ- أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمُقَدَّمَةُ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا، الْمَتْبُوعَةُ، وَأَنَّ الْمَنَافِعَ هِيَ التَّابِعَةُ، وَظَهَرَ لَكَ حِكْمَةُ الشَّارِعِ فِي إِجَازَةِ مِلْكِ الرِّقَابِ لِأَجْلِ الْمَنَافِعِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا مَحْصُورَةٍ، وَمَنْعِ مِلْكِ الْمَنَافِعِ خُصُوصًا1 إِلَّا عَلَى الْحَصْرِ وَالضَّبْطِ وَالْعِلْمِ الْمُقَيَّدِ الْمُحَاطِ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ أَنْفُسَ الرِّقَابِ ضَابِطٌ كُلِّيٌّ لِجُمْلَةِ الْمَنَافِعِ؛ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ الْكُلِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ، بِخِلَافِ أَنْفُسِ الْمَنَافِعِ مُسْتَقِلَّةٍ بِالنَّظَرِ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ فِي أَنْفُسِهَا، وَلَا مَعْلُومَةٌ أَمَدًا وَلَا حَدًّا وَلَا قَصْدًا وَلَا ثَمَنًا وَلَا مَثْمُونًا، فَإِذَا رُدَّتْ2 إِلَى ضَابِطٍ يَلِيقُ بِهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ أَمْكَنَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَالْقَصْدُ فِي الْعَادَةِ إِلَيْهَا؛ فَإِنْ أَجَازَهُ3 الشَّارِعُ جَازَ، وَإِلَّا امْتَنَعَ. وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنَ الْمَنَافِعِ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ؛ فَالرِّقَابُ تَابِعَةٌ؛ إِذْ هِيَ الْوَسَائِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا مُطْلَقًا؛ فَمَمْنُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ4، وَإِنْ أَرَادَ تَبَعِيَّةً مَا فَمُسَلَّمٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْظُورٌ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ5 الْكُلِّيَّةَ قَدْ تَتْبَعُ جُزْئِيَّاتِهَا بِوَجْهٍ مَا، وَلَا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقًا.   1 أي: دون الرقاب. "د". قلت: في "ف" و"م": "ومنع مالك"، والأصل لا يرجح شيئًا؛ لأن مالك وملك تكتب فيه: "ملك". 2 في الأصل: "أردنا"، وهو خطأ. 3 بأن كان مستوفيًا للشروط الأخرى غير العلم. "د". 4 من هذا البيان، وأن النظر إلى الأعيان نظر كلي، وأنه المقدم طبعًا وشرعًا .... إلخ "د". 5 أي: والأصول مع منافعها كذلك؛ لأنه اعتبر في المنافع انضباطها بالأعيان كانضباط الجزئيات بكليها، وقوله: "أولا ترى" يقوى به التشبيه الذي جاء به ليوضح المقام. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 وَأَيْضًا؛ فَالْإِيمَانُ1 أَصْلُ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُهُ وَسِيلَةً وَشَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، حَسْبَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَالشَّرْطُ مِنْ تَوَابِعِ الْمَشْرُوطِ؛ فَيَلْزَمُ إِذًا عَلَى مُقْتَضَى السُّؤَالِ أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ هِيَ الْأُصُولُ وَالْإِيمَانُ تَابِعٌ لَهَا، أَوَّلًا تَرَى أَنَّهُ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا؟ لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ التَّبَعِيَّةُ إِنْ ظَهَرَتْ فِي الْأَصْلِ جُزْئِيَّةً لَا كُلِّيَّةً. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ بِانْفِرَادِهَا يَتْبَعُهَا الْأُصُولُ، مِنْ حَيْثُ2 إِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُسْتَوْفَى إِلَّا مِنَ الْأُصُولِ؛ فَلَا تَخْلُو الْأُصُولُ مِنْ إِبْقَاءِ يَدِ الْمُنْتَفِعِ عَلَيْهَا وَتَحْجِيرِهَا عَنِ انْتِفَاعِ صاحبها بها، كالعقد على الأصول سواء، وهي مَعْنَى الْمِلْكِ؛ إِلَّا أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، ومنقضٍ بِانْقِضَائِهَا؛ فَلَمْ يُسَمَّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ مِلْكًا، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الْعَادِيَّ وَالشَّرْعِيَّ قَدْ جَرَى بِأَنَّ التَّمَلُّكَ فِي الرِّقَابِ هُوَ التَّمَلُّكُ الْمُطْلَقُ الْأَبَدِيُّ، الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، أَوْ بِانْتِفَاعِ صَاحِبِهَا بِهَا أَوِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَفْسَهُ مِنَ الذِّمِّيِّ3 لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ مَنْفَعَةَ الْمُسْلِمِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهُ، وَامْتَنَعَ4 شِرَاءُ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطٍ فِيهِ تَحْجِيرٌ؛   1 مثال شرعي للأصل وتوابعه يحقق فيه تبعية الأصل لهذه اللواحق باعتبار من الاعتبارات، وإن لم يكن مما نحن فيه. "د". 2 أي: من جهة هذه التبعية الجزئية التي تقتضي بعض أحكام التبعية الكلية، وهي هنا إبقاء يد المنتفع عليها، وقوله: "كالعقد على الأصول سواء"؛ أي: في خصوص هذا. "د". 3 قال ابن القاسم في "المدونة الكبرى" "3/ 444": "وقد بلغني أن مالكًا كره أن يؤاجر المسلم نفسه من النصراني". 4 في م: "ومنع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 كَشِرَاءِ الْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ1 وَلَا يَهَبَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَجَرَ عَلَيْهِ بَعْضَ مَنَافِعِ الرَّقَبَةِ؛ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمْلُكْهَا مِلْكًا تَامًّا، وَلَيْسَ بِشَرِكَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَلَى الشِّيَاعِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَانْظُرْ فِي تَعْلِيلِ2 مَالِكٍ الْمَسْأَلَةَ3 فِي بَابِ مَا يُفْعَلُ بِالْوَلِيدَةِ إِذَا بِيعَتْ فِي "الْمُوَطَّأِ"4؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ الْمُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مُؤَسِّسٌ لَا مُنْخَرِمٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ شَاهِدٌ5 عَلَى صِحَّةِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الثَّمَرَةَ لَمَّا بَرَزَتْ فِي الْأَصْلِ بَرَزَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ؛ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا أَوَّلًا بِسَبَبِ سَبْقِ اسْتِحْقَاقِهِ لِأَصْلِهَا، عَلَى حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأَصْلِ، فَلَمَّا صَارَ الْأَصْلُ لِلْمُشْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ اشْتِرَاطٌ، وَكَانَتْ قَدْ أُبْرِزَتْ وَتَمَيَّزَتْ بِنَفْسِهَا عَنْ أَصْلِهَا؛ لَمْ تَنْتَقِلِ الْمَنْفَعَةُ إِلَيْهِ بِانْتِقَالِ الْأَصْلِ، إِذْ كَانَتْ قَدْ تَعَيَّنَتْ مَنْفَعَةٌ لِمَنْ كَانَ الْأَصْلُ إِلَيْهِ، فَلَوْ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي إِعْمَالًا لِلتَّبَعِيَّةِ؛ لَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِعَيْنِهِ قَطْعًا وَإِهْمَالًا لِلتَّبَعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَائِعِ، وَهُوَ السَّابِقُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّبَعِيَّةِ؛ فَثَبَتَتْ أَنَّهَا [لَهُ] 6 دُونَ الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ لَمَّا بَرَزَ فِي يَدِ الْعَبْدِ ولم ينفصل7 عنه أشبه الثمرة مع   1 أو: لا يبيع إلا له مثلًا، ولذا قالت السيدة عائشة لأم ولد زيد بن أرقم: "بئسما شريت" لما اشترت منه الجارية، وتشارطا على أنها لا تبيعها إلا له. "د". 2 هو بمعنى التعليل المذكور؛ فما هنا محصله. "د". 3 في "ط": "للمسألة". 4 قال مالك في "الموطأ" "2/ 616 رواية يحيى": "فيمن اشترى جارية على شرط أن يبيعها ولا يهبها أو ما أشبه ذلك من الشروط؛ فإنه لا ينبغي للمشتري أن يطأها، وذلك أنه لا يجوز له أن يبيعها ولا أن يهبها، فإذا كان لا يملك ذلك منها؛ فلم يملكها ملكًا تامًا لأنه قد استثني عليه فيها ما ملكه بيد غيره، فإذا دخل هذا الشرط؛ لم يصح، وكان بيعًا مكروهًا". 5 فهو لنا لا علينا، قلب المعارضة؛ فجعلها دليلًا للمعارض. "د". 6 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وفي "ط": "فثبت أنها له". 7 أي: بانتزاع السيد له. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 الْأَصْلِ؛ فَاسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الثَّانِي لَهُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنَّمَا جَازَ اشْتِرَاطُهُ وَإِنَّ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَانِعُ1 مِنْ أَجْلِ بَقَاءِ التَّبَعِيَّةِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الثَّمَرَةَ قَبْلَ الطِّيبِ مُضْطَرَّةٌ إِلَى أَصْلِهَا لَا يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِلَّا مَعَ اسْتِصْحَابِهِ؛ فَأَشْبَهَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ2 شِرَاؤُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْعَبْدِ وَفِي حَوْزِهِ، لَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ إِلَّا بِحُكْمِ الِانْتِزَاعِ؛ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَطِبْ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ لِلْأَصْلِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ3، غَيْرَ أَنَّ مَسْأَلَةَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَمَالِ الْعَبْدِ تَعَارَضَ فِيهَا جِهَتَانِ لِلتَّبَعِيَّةِ: جِهَةُ الْبَائِعِ وِجِهَةُ الْمُشْتَرِي؟ فَكَانَ الْبَائِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ انْتَقَلَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا. وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْمَنَافِعِ لَا إِشْكَالَ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْأَصْلِ يَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ [هِيَ] 4 مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنْفَسِهَا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، أَمْ هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ رُجُوعِهَا إِلَى الْأَصْلِ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهَا مَقْصُودَةٌ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ: فَغَيْرُ صَحِيحٍ لأن المنافع   1 وهو الغرر والجهالة. "د". 2 أي: ما لم يرد إلى ضابط يميزه حدًا وقصدًا وثمنًا .... إلخ، أما مع العبد؛ فلا حاجة إلى شيء من هذا، وهو روح المسألة. "د". 3 في جميع الأصول ولواحقها، أي: حتى في مسألتي الحديث؛ فدعوى أن الحديث يعطي انفصال التابع عن المتبوع غير صحيح، بل هو يؤيد التبعية. "د". 4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وكتب "ف": "الأنسب: "هل هي مقصودة؟ " بذكر الضمير العائد على المنافع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 الَّتِي1 لَمْ تَبْرُزْ إِلَى الْوُجُودِ بَعْدُ مَقْصُودَةٌ، وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَعَ الْأَصْلِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بمقصودة إلا من جهة الأصل؛ فالقصد راجح إِلَى الْأَصْلِ، فَالشَّجَرَةُ إِذَا اشْتُرِيَتْ أَوِ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ خِدْمَةً أَوْ صِنَاعَةً وَلَمْ يَسْتَفِدْ مَالًا، وَالْأَرْضُ قَبْلَ أَنْ تُكْرَى أَوْ تَزْدَرِعَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ مَقْصُودٌ فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ وَغَيْرُهَا؛ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْأَعْيَانِ وَالرِّقَابِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِ الْمَنَافِعِ إِذْ هِيَ غَيْرُ2 مَوْجُودَةٍ بَعْدُ؛ فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ إِذَا قُصِدَ الِاسْتِقْلَالُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلُ. فَالْمَنَافِعُ إِنَّمَا هِيَ كَالْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ؛ كَشِرَاءِ الْعَبْدِ الْكَاتِبِ3 لِمَنْفَعَةِ الْكِتَابَةِ، أَوِ الْعَالِمِ4 لِلِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ الَّتِي لَا تَسْتَقِلُّ فِي أَنْفُسِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِلَّ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَ الذَّاتِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْلَالُهَا دُونَ الذَّاتِ قَدْ5 زِيدَ فِي أَثْمَانِ الرِّقَابِ لِأَجْلِهَا؛ فَحَصَلَ لِجِهَتِهَا6 قِسْطٌ مِنَ الثمن؛   1 قصر الكلام عليها -مع أن القاعدة التي فيها المناقشة أوسع من ذلك- ليتأتى له في هذا الفرض إلزامه بأنها غير مقصودة على حكم الاستقلال؛ فيثبت به أنه لا تنافي بين القصد وعدم الاستقلال. "د". 2 ومع ذلك؛ فإنه يزيد الثمن وينقص بسببها، ألا ترى أن الشجرة المعتاد إثمارها وإن لم يكن فيها ثمر يزيد ثمنها عن الشجرة مثلها التي اعتيد عدم إثمارها؟ فالمنافع مقصودة، ويزيد وينقص الثمن للأصل بسببها، وإن لم تكن المنافع موجودة بالفعل. "د". 3 في الأصل و"ف": "المكاتب"، وهو خطأ، يرده السياق؛ فتأمل. 4 إلا أن المثالين وإن كانت المنفعة فيهما غير مستقلة لأنها وصف للذات؛ إلا أن التهيئة حاصلة في المثالين للانتفاع بالعلم والكتابة، فهما من القسم الثالث الآتي في الفصل بعده، وفرضه كان في القسم الأول ولا مانع؛ فستعرف أن حكم الأول والثالث واحد على الجملة، وغرضه تحقيق القصد مع عدم الاستقلال، وهو واضح في المثالين لكون المنفعة فيهما وصف ذات، ولو مثل بما ذكرناه من الشجرة المعتادة الإثمار؛ لكان أوفق مما فرضه أولًا. "د". 5 الجملة حال من ضمير لا تستقل أو معطوفة عليها بإسقاط الواو، أو استئناف لتطبيق المثال في قوله: "كشراء"، والمعنى أنها مع كونها أوصافًا صرفة غير مستقلة زيدت أثمار الرقاب لأجلها، وقوله: "بالكلية"؛ أي: بطريق كلي كما قال سابقًا: إنه يكفي لحصر ما لا يتناهى من المنافع نوطها بالذات الخاصة. "د". قلت: ولعل هذا رد على "ف"، حيث قال: "لعله ولهذا قد زيد"، ووقع في "ط": "وقد". 6 أي: بسببها وإن لم تكن مقصودة على الاستقلال، وهذا حسم لروح الاعتراض. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 لَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الرِّقَابِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الرِّقَابَ هِيَ ضَوَابِطُ الْمَنَافِعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ1؛ انْدَفَعَ التَّنَافِي وَالتَّنَاقُضُ، وَصَحَّ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ2 أَنَّ الطَّلَبَيْنِ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الطَّلَبُ إِلَى الْمَتْبُوعِ خَاصَّةً. فَصْلٌ وَبَقِيَ هُنَا تَقْسِيمٌ مُلَائِمٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ مَنَافِعَ الرِّقَابِ وَهَى الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ فِي أَصْلِهِ بِالْقُوَّةِ لَمْ يَبْرُزْ إِلَى الْفِعْلِ لَا حُكْمًا وَلَا وُجُودًا؛ كَثَمَرَةِ الشَّجَرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ قَبْلَ الْحَمْلِ، وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَوَطْءٍ قَبْلَ3 حُصُولِ التَّهْيِئَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا خِلَافَ في هذا القسم أن المنافع هنا   1 أي: كون المنافع مقصودة غير مستقلة. "د". 2 أي: حاصل هذا الأصل أنه لم يحصل توارد الطلبين المتنافيين أمرًا ونهيًا على الأصل وتابعه، بل توجه الطلب دائما إنما هو إلى المتبوع، وهذا هو المراد بكون الطلب المتوجه إلى التابع ملغى وساقط الاعتبار، أي: ما كان متوجها إليه عند انفراده لا يتوجه إليه عند كونه تابعا. "د". 3 لا يحتاج إليه في المثالين الأولين؛ فإنه قيدهما بما يناسبهما، فهو قيد في خدمة العبد وما بعده، فإن المنفعة فيهما لم تبرز وجودا وهو واضح؛ لأن وجود الأمثلة الأربعة في أصلها بالقوة والاستعداد فقط، ولا حكمًا لأنها لم تعطِ حكم البارز المحسوس كما سيأتي في القسم الثالث. "د". وقال "ف": "هو قيد فيما تقدمه من الأمثلة"، وفي الأصل: "ووطئ قبل التهيئة". قلت: في "ط": "ووطء الجارية قبل .... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي الْحُكْمِ؛ إِذْ لَمْ تَبْرُزْ إِلَى الْوُجُودِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَسْتَقِلَّ؛ فَلَا قَصْدَ إِلَيْهَا هُنَا أَلْبَتَّةَ، وَحُكْمُهَا التَّبَعِيَّةُ كَمَا1 لَوِ انْفَرَدَتْ فِيهِ الرَّقَبَةُ بِالِاعْتِبَارِ. وَالثَّانِي: مَا ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَجُودًا وَحُكْمًا أَوْ حُكْمًا عَادِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا؛ كَالثَّمَرَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ أُمِّهِ، وَمَالِ الْعَبْدِ بَعْدَ الِانْتِزَاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ، وَحُكْمُهُ2 مَعَ الْأَصْلِ حُكْمُ غَيْرِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا قَصْدًا، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: مَا فِيهِ الشَّائِبَتَانِ؛ فَمُبَايَنَةُ الْأَصْلِ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، لَكِنْ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقْلَالِ؛ فَلَا هُوَ مُنْتَظِمٌ فِي سِلْكِ الْأَوَّلِ وَلَا فِي الثَّانِي، وَهُوَ ضَرْبَانِ: الْأَوَّلُ: مَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ مَحْسُوسًا؛ كَالثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ قَبْلَ مُزَايَلَةِ3 الْأَصْلِ، وَالْعَبْدِ ذِي الْمَالِ الْحَاضِرِ تَحْتَ مِلْكِهِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ قبل الاستغاء عَنْ أُمِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ: مَا كَانَ فِي حُكْمِ الْمَحْسُوسِ؛ كَمَنَافِعِ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا حَصَلَتْ فِيهِ التَّهْيِئَةُ لِلتَّصَرُّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ؛ كَاللُّبْسِ، وَالرُّكُوبِ، وَالْوَطْءِ، وَالْخِدْمَةِ، وَالِاسْتِصْنَاعِ، وَالِازْدِرَاعِ، وَالسُّكْنَى، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرْبَيْنِ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ صَاحِبِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَانْفَرَدَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا وَاحِدٌ.   1 أي: فلا فرق بين أن يقول: بعت الشجرة بمنافعها التي تحدث مثلا، وبعت الشجرة، بدون ذكر المنافع، أما القسم الثاني؛ فتعتبر المنافع شيئًا آخر منفصلا تمام الانفصال عن الأصل، ويجري على كل حكمه الخاص به. "د". 2 في "ف": "وحكم"، وقد استظهر "ف" و"م" المثبت. 3 أي: وقبل اليبس والاستغناء عن أصلها. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 فَالطَّرَفَانِ1 يَتَجَاذَبَانِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَلَكِنْ لَمَّا ثَبَتَتِ التَّبَعِيَّةُ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ ارْتَفَعَ تَوَارُدُ الطَّلَبَيْنِ عَنْهُ2، وَصَارَ الْمُعْتَبَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِجِهَةِ الْمَتْبُوعِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَمَّا بَرَزَ التَّابِعُ وَصَارَ مِمَّا يَقْصِدُ؛ تَعَلُّقَ الْغَرَضِ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَلَا يُنَازَعُ فِي هَذَا أَيْضًا؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ الْمُثْمِرَةُ فِي قِيمَتِهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ دُونَ مَالٍ لَا تَكُونُ قِيمَتُهُ كَقِيمَتِهِ مَعَ الْمَالِ، وَلَا الْعَبْدُ الْكَاتِبُ3 كَالْعَبْدِ غَيْرِ الْكَاتِبِ، فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ بِسَبَبِ تَجَاذُبِ الطَّرَفَيْنِ فِيهِ.   1 الطرفان هما القسم الأول والقسم الثاني؛ لأنهما طرفان من جهة المعنى في الاستقلال وعدمه لا من جهة الوضع في عبارة الكتاب كما فهم بعضهم، وقوله: "صاحبه" تحريف بدل "سابقيه"؛ أي: أن كل واحد من ضربي القسم الثالث اجتمع مع كل واحد من القسمين السابقين في وصف وخالفه في وصف كما أوضحه سابق الكلام، "والحكم فيهما"؛ أي: الضربين المذكورين، "واحد" لا فرق بين المحسوس وما كان في حكمه، وقوله: "يتجاذبان" حقه "يتجاذبانهما"؛ أي: الضربين، أي أن الأول والثاني يطلبان أن يأخذ الضربان حكمهما. "د". أما "ف"؛ فقال: "هما القسم الأول والثالث من هذا التقسيم"!! 2 أي: ارتفع عن القسم تعلق الطلبين به أمرًا ونهيًا، ولم يبقَ إلا ما يتعلق بالمتبوع فقط، شأن المتلازمين كما هو الأصل الذي تقرر، ولكن بقي لتجاذب الطرفين اعتبار آخر من جهة الجوائح وكلفة السبق وغير ذلك مما يترتب اختلاف حكمه على اختلاف النظر والاجتهاد، بناء على قوة جذب أحد الطرفين لصور هذا القسم الثالث بضربيه؛ فبين ذلك بقوله: "ومن جهة أخرى لما برز" إلى آخر الفصل. "د". 3 جاء في الأمثلة المذكورة باثنين للمحسوس، وواحد لغير المحسوس، وهما الضربان المشار إليهما في كلامه؛ فالكلام متسق جميعه. "د". قلت: ورد في الأصل: "المكاتب" بدل "الكاتب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 وَأَيْضًا؛ فَلَيْسَ تَجَاذُبُ الطَّرَفَيْنِ [فِيهِ] 1 عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، بَلْ يَقْوَى الْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَالٍ، وَلَا يَقْوَى فِي حَالٍ أُخْرَى، وأنت تعلم أن الثمرة حين بروزها [وَقَبْلَ] 2 الْإِبَارِ3 لَيْسَتْ فِي الْقَصْدِ وَلَا فِي الْحُكْمِ كَمَا بَعْدَ الْإِبَارِ وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَا هِيَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَمَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَقَبْلَ الْيُبْسِ؛ فَإِنَّهَا قَبْلَ الْإِبَارِ لِلْمُشْتَرِي، فَإِذَا أُبِّرَتْ؛ فَهِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ، فَتَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، فَإِذَا بَدَا صَلَاحُهَا؛ فَقَدْ قَرُبَتْ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ وَبَعُدَتْ مِنَ التَّبَعِيَّةِ؛ فَجَازَ بَيْعُهَا بِانْفِرَادِهَا، وَلَكِنَّ مَن اعْتَبَرَ الِاسْتِقْلَالَ قَالَ: هِيَ مَبِيعَةٌ عَلَى حُكْمِ الْجَذِّ4 كَمَا لَوْ يَبِسَتْ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ؛ فَلَا جَائِحَةَ فِيهَا. وَمَنِ اعْتَبَرَ عَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ وَأَبْقَى حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ؛ قَالَ: حُكْمُهَا عَلَى التَّبَعِيَّةِ لِمَا5 بَقِيَ مِنْ مَقَاصِدِ الْأَصْلِ6 فِيهَا وَوَضْعَ7 فِيهَا الْجَوَائِحَ اعْتِبَارًا بِأَنَّهَا لما افترقت إلى الأصل كانت كالمضمومة إِلَيْهِ التَّابِعَةِ لَهُ؛ فَكَأَنَّهَا عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْأَصْلِ، وَحِينَ8 تَعَيَّنَ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الْمُعْتَادِ صَارَتْ كَالْمُسْتَقِلَّةِ؛ فَكَانَتِ الْجَائِحَةُ الْيَسِيرَةُ مُغْتَفِرَةٌ فيها؛ لأن اليسير في الكثير كالتبع.   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"ف" و"م" و"ط". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د"، وأثبته من "ف" و"م" و"ط". 3 هو مصدر أبر النخل والزرع، يأبُره ويأبِره -بضم الباء وكسرها-: إذا أصلحه. "ف". 4 بالذال المعجمة؛ أي: الصرم والقطع، يقال: جَذّ النخل يجذّه جذًّا، كما يقال: جَدَّ النخل جدًّا -بالمهملة-: إذا صرمه. "ف" قلت: هي في "ط": "الجد .... ، يبست في ... ". 5 يؤخذ من قوله بعد: "وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَا تَضْطَرُّ إِلَى الْأَصْلِ فيه" أن اللام لتعليل قوله: "وحكمه ... إلخ". "د". 6 أي: لا المقاصد التكميلية؛ كبقاء النضارة، وحفظ المائية. "د". 7 أي: وضعها عن المشتري وتكون خسارتها على البائع؛ لأنها لم تستقل عن أصلها، فما يصيبها على حسابه، وهذا هو فائدة جذب الطرف الأوّل لها. "د". 8 هذا هو فائدة جذب الطرف الثاني لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفُوا فِي السَّقْيِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ: هَلْ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ، أَمْ عَلَى المبتاع؟ فإذا انتهى الطيب من الثَّمَرَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَا تَضْطَرُّ إِلَى الْأَصْلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ عَلَى جِهَةِ التَّكْمِلَةِ مِن بَقَاءِ النَّضَارَةِ وَحِفْظِ الْمَائِيَّةِ؛ اخْتُلِفَ: هَلْ بَقِيَ فِيهَا حُكْمُ الْجَائِحَةِ، أَمْ لَا؟ بِنَاءً1 عَلَى أَنَّهَا اسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا وَخَرَجَتْ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَصْلِ مُطْلَقًا أَمْ لَا، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْمَائِيَّةُ وَالنَّضَارَةُ؛ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ، فَانْقَطَعَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَعَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يَجْرِي الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. فَصْلٌ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَتَرَكَّبُ فَوَائِدُ: - مِنْهَا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ تَبَعِيَّةٌ جارٍ2 فِي الْحُكْمِ مَجْرَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ الْمُتَّفَقِ3 عَلَيْهِ، مَا لم يعارضه أصل آخر4، كمسألة الإجارة   1 مرتب على النفي قبله، وقوله: "مطلقًا" أي: يسيرة كانت الجائحة أو كثيرة. "د". 2 ومنه ما قاله أبو حنيفة من جواز الشرب في الإناء المفضض، والجلوس على السرج والكرسي المفضضين، إذا كان يتقي موضع الفضة، وعلل الجواز بأن ذلك تابع له ولا عبرة بالتوابع. "د". قلت: انظر المسألة في "الخلافيات" "1/ مسألة رقم 6" للبيهقي، وتعليقي عليها. 3 هو القسم الأول في الفصل قبله، فمن اكترى دارًا أو أرضًا فيها شجر مثمرٌ لم يبد صلاحه، وكانت قيمة الثمر ثلث مجموع الأجرة فأقل، وكانت الإجارة إلية مدة محدودة يطيب فيها الثمر لا مشاهرة، وكان الغرض منع التضرر من دخول غير المستأجر الأرض أو الدار لأجل الشجر؛ فإنه يجوز إدخال الشجر المثمر في الإجارة لأنه لما كانت قيمته الثلث فأقل كان تابعًا للأصل، وهو الدار والأرض؛ فجاز، وإن كانت الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز اشتراؤها منفردة؛ فعوملت معاملة اشتراء الثمرة التي لم يبد صلاحها تبعًا لأصلها. "د". 4 كسد الذرائع، وتقديم درء المفاسد وقاعدة التعاون، وغيرها مما يأتي في مسألة الصباغة آخر المسألة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 عَلَى الْإِمَامَةِ، مَعَ1 الْأَذَانِ أَوْ خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَمَسْأَلَةِ اكْتِرَاءِ الدَّارِ تَكُونُ فِيهَا الشَّجَرَةُ، أَوْ مُسَاقَاةِ الشَّجَرِ يَكُونُ بَيْنَهَا الْبَيَاضُ الْيَسِيرُ2، وَمَسْأَلَةِ الصَّرْفِ3 وَالْبَيْعِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَلَازَمُ فِي الْحِسِّ4 أَوْ فِي الْقَصْدِ أَوْ فِي الْمَعْنَى، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قلَّة وَكَثْرَةٌ؛ فَإِنَّ لِلْقَلِيلِ مَعَ   1 تكره الأجرة على الإمامة من المصلين، أما من الوقف؛ فكإعانة، قال ابن عرفة في جوازها على إمامة الفرض: "ثالثها: تجوز إن كانت تبعًا للأذان"، أي: ومثله -بل أولى- خدمة المسجد؛ لأن مشقتها أشد من مشقة الإمامة، فلما كانت تابعة لما هو جائز جازت، ومعلوم جواز الأجرة على الأذان وخدمة المسجد؛ فقد كان يعطي عمر أجرًا على الأذان، لكن قال ابن حبيب: "إنما كان يعطي من بيت المال إعانة كأعطية الولاة والقضاة، ولا يجوز لهؤلاء أن يأخذوا ممن يقضون لهم". "د". قلت: انظر "الفروق" "3/ 2"، و"القواعد" للمقري "2/ 432-433، القاعدة السابعة والثمانون بعد المائة". 2 أي بحيث يكون كراؤه الثلث فأقل من مجموع كرائه مع قيمة ثمرة الشجر عادة بعد إسقاط كلفة الثمر، بشرط أن يكو البذر من طرف العامل، كما أن جميع عمل المساقاة من طرقه، وأن يكون الجزء الذي يخصه منه كالجزء المشترط له في المساقاة على الشجر؛ إن كان ربعًا فربع، أو ثلثًا فثلث، وهكذا حتى تتحقق التبعية للشجر، ومثل ذلك في المساقاة على الزرع إذا كان فيه شجر تابع له بأن كان الثلث قيمة فأقل؛ فيدخل في المساقاة تبعًا، ويكون الحكم للمتبوع هو الشجر أو الزرع ساريًا على التابع، وإن لم يكن الحكم كذلك إذا انفرد التابع؛ فإن الأحكام مختلفة بين مساقاة الزرع ومساقاة الشجر؛ وبين مساقاة الشجر والمزارعة التي منها مثال المؤلف. "د". 3 يحرم اجتماع البيع والصرف في عقد واحد لتنافي لوازمهما لجواز الأجل والخيار في البيع دون الصرف، إلا أن يكونا بدينار واحد، كأن يشتري شاة وخمسة دراهم بدينار، أو يجتمع البيع والصرف فيه، كأن يشتري عشرة أثواب وعشرة دراهم بأحد عشر دينارًا وكان الدينار بعشرين درهمًا؛ فجعل الصرف تابعًا للبيع. "د". 4 كالمثال الثاني والثالث، وقوله: "أو القصد" كمثال الأول، وقوله: "أو المعنى"؛ أي: كالبيع والصرف؛ فدفع الحاجة اقتضى البيع، وهو نفسه اقتضى هذا الصرف ليتم التبادل في هذه الصفقة. "د". قلت: انظر أيضا: "عدة البروق" "ص: 550 وما بعدها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 الكثير حكم التبيعة، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ فِي الْوُجُودِ، وَلَكِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْقَلِيلَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْكَثِيرِ فِي حُكْمِ الْمُلْغَى قَصْدًا؛ فَكَانَ كَالْمُلْغَى حُكْمًا. - وَمِنْهَا1 أَنَّ كُلَّ تَابِعٍ قُصِدَ؛ فَهَلْ تَكُونُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ مَقْصُودَةً عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ، أَمْ هِيَ مَقْصُودَةٌ على الجملة والتفصيل؟ والحق الذي تقتضيه التبيعة أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ جُمَلِيًّا لَا تَفْصِيلِيًّا؛ إِذْ لَوْ كَانَ تَفْصِيلِيًّا لَصَارَ إِلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ؛ فَكَانَ النَّهْيُ وَارِدًا عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا فُرِضَ هَذَا الْقَصْدُ، فَإِنْ كَانَ جُمَلِيًّا؛ صَحَّ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ؛ فَلَهُ جِهَتَانِ: جِهَةُ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ. وَجِهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِيهِ. فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ التَّابِعُ؛ فَهَلْ يُرْجَعُ بِقِيمَتِهِ أَمْ لَا؟ يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ، وَلِأَجْلِهِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ هَذَا الضَّابِطِ، كَالْعَبْدِ إِذَا رُد بِعَيْبٍ وَقَدْ كَانَ أَتْلَفَ مَالَهُ؛ فَهَلْ يَرْجِعُ على البائع بالثمن كله، أو لَا2 وَكَذَلِكَ ثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ، وَصُوفُ الْغَنَمِ، وَأَشْبَاهُ ذلك.   1 هذه الفائدة مكونة من فائدتين ترتبت إحداهما على الأخرى؛ فحكم التبعية استفيد منه أولًا أن القصد جملي لا تفصيلي، وإلا؛ لكان مستقلًا فامتنع، وهو لم يمتنع؛ فليس مستقلًا، فليس تفصيليًّا، وترتبت فائدة أخرى على هذه التبعية، وهي وجود جهتين له تقضي كل منهما بحكم كان سببًا في اختلاف الفقهاء في التفريع في هذا المقام على ما ذكره. "د". 2 فإن راعينا زيادة الثمن لأجل المال رجع على البائع بما عدا قيمة مال العبد، وإن راعينا عدم القصد إلى التفصيل فيه رجع بالثمن كله، وكان المال لاحظ له في الثمن. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 - وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ: الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ؛ فَالْخَرَاجُ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ، فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ حَاصِلًا فِيهِ شَرْعًا؛ فَمَنَافِعُهُ تابعة، سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أم لَا، فَإِنْ طَرَأَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ كَانَ كَانْتِقَالِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ1 وَتَأَمَّلْ مَسَائِلَ الرُّجُوعِ2 بالغلَّات فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ عَدَمِ الرُّجُوعِ؛ تَجِدْهَا جَارِيَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. - وَمِنْهَا: فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَا كَانَ تَابِعًا لِلشَّيْءِ الْمُسْتَصْنَعِ فِيهِ، هل3 يضمنه الصناع؛ كَجَفْنِ السَّيْفِ، وَمِنْدِيلِ [الثَّوْبِ] 4، وَطَبَقِ الْخُبْزِ، وَنُسْخَةِ الْكِتَابِ الْمُسْتَنْسَخِ، وَوِعَاءِ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ؛ كَمَا يَضْمَنُ نَفْسَ الْمُسْتَصْنَعِ أَمْ لَا؟ فَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ الصانع.   1 أي: كأن الملك استؤنف الآن عند طرو الاستحقاق؛ فليس للمستحق شيء من الغلة التي حصلت قبل ثبوت الاستحقاق. "د". 2 كما قال خليل: "والغلة لذي الشبهة للحكم"؛ أي: من يوم وضع يده إلى يوم الحكم؛ كوارث من غير غاصب، وموهوب من غير غاصب، ومشترٍ كذلك، إن لم يعلموا بأنها مستحقة لغير من انتقلت منه إليهم؛ فلا رجوع عليهم بالغلة التابعة للملك الحاصل شرعًا بهذه الأسباب، بخلاف ما إذا علموا؛ فإنه لا تبعية حينئذ لملك صحيح فترد الغلة للمستحق، فكل من الرد وعدمه مبني على القاعدة المشار إليها، وهي إعطاء التابع حكم المتبوع. "د". 3 في المسألة أقوال ثلاثة: قيل: لا يضمن غير ما يصنعه نفسه، سواء أكان عمل المصنوع يحتاج له كالكتاب المستنسخ منه، أم لا؛ كعلبة وضع فيها القماش ليوصله فيها للخياط، وقيل يضمن التابع مطلقًا احتاج له المصنوع في صناعته أم لا، وقيل: إنما يضمن التابع إذا كان يحتاج إليه المصنوع؛ كالكتاب الذي يستنسخ منه، والمؤلف جمع من الأمثلة ما يحتاج إليه وما لا يحتاج. "د". قلت: لابن رحال المعداني كتاب "تضمين الصناع"، وهو مطبوع، وفيه تفصيل وتقعيد لهذه المسألة. 4 سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 - وَمِنْهَا: فِي الصَّرْفِ مَا كَانَ مِنْ حِلْيَةِ1 السيف والمصحف ونحوهما تابعًا أو غير2 تَابِعٍ. وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ3. فَصْلٌ 4 وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا5 منفعة فيه من المعقود عليه في   1 المحلى بأحد النقدين يجوز بيعه بأحد النقدين إن أبيحت التحلية؛ كسيف ومصحف، وكان في نزع الحلية فساد أو غرم، وعجل المعقود عليه، لا بد من هذه الشروط سواء كانت الحلية تابعة أم لا، بيع بصنفه أو غير صنفه، ويزاد في البيع بصنفه رابع، وهو أن تكون الحلية الثلث فأقل؛ فيكون تابعًا، وهذا ما يعنيه المؤلف؛ إلا أنه يبقى الكلام حينئذ في تسميته صرفًا، مع أن الصرف في عرفهم بيع النقد بنقد من غير صنفه، وأما بصنفه عددًا؛ فهو مبادلة وبه وزنًا مراطلة، فمسألتنا من المبادلة أو المراطلة؛ لأنها فيما كان من صنفه، أما ما كان غير صنفه؛ فلا يلزم فيه الشرط الرابع الذي يحقق موضوع التبعية كما عرفت. "د". 2 في "د": "وغيره". 3 ومنها جواز حمل المحدث المصحف إذا كان تابعًا لحمله أمتعته، ومنها ما إذا اشترى جملة أشياء ثم ظهر أن بعضها لا يجوز بيعه؛ فإنه يرد الكل وليس له التمسك بالباقي الحلال بما يخصه من الثمن إلا إذا كان وجه الصفقة؛ فيعد متبوعًا، ومثله ما قالوه في العيوب وجواز التمسك بالجزء الذي ليس فيه عيب بما يقابله من الثمن إذا كان وجه الصفقة، وهكذا من المسائل المتفرعة على هذا الأصل. "د". 4 ما تحته وكثير من أمثلة تقعيد وعميق وتفريع لما عند المازري في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157 وما بعدها". 5 اشترطوا في المعقود عليه أن يكون منتفعًا به انتفاعًا شرعيًا، واحترزوا به عن الحيوان محرم الأكل إذا أشرف على الموت بحيث لم يبلغ حد السياق؛ لأنه لا ينتفع به، عن آلة اللهو، وهذا ظاهر في ذاته، ولكن على أي شيء في المسألة السابقة يتفرع هذا؟ نعم، إن الذي يظهر تفريعه عليها القسم الثالث بتفاصيله الآتية وما ذكر قبله تمهيد وتوطئة للمقصود. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ مَنَافِعُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَرَامًا أَنْ ينتفع به؛ فلا إشكال في أن جارٍ مَجْرَى مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَلَالًا؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِهِ وَعَلَيْهِ. وَهَذَانَ الْقَسَمَانِ وَإِنْ تُصُوِّرَا فِي الذِّهْنِ بعيدٌ أَنْ يُوجَدَا فِي الْخَارِجِ؛ إِذْ مَا مِنْ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا إِلَّا وَفِيهَا جِهَةُ مَصْلَحَةٍ وَجِهَةُ مَفْسَدَةٍ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ1 الْمَقَاصِدِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ؛ فَيَرْجِعُ الْقَسَمَانِ إِذًا إِلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنْ يكون بعض المنافع حلالًا وبعضها حرامًا؛ فههنا مُعْظَمُ نَظَرِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَوَّلًا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ عُرْفًا، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْعَادَةِ؛ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ2 عَلَى الْخُصُوصِ وَعَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ لِمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْأَصَالَةِ وَالْعُرْفِ، وَالْآخَرُ لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْجَانِبَ التَّابِعَ لَمْ يَصِحَّ3 لَنَا تَمَلُّكُ عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَلَا عَقْدٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ مَنَافِعِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنَافِعَ محرمة، وهو من الأدلة4 على سقوط   1 في المسألة الخامسة من النوع الأول، حيث قرر أنه لا يوجد شيء من الأمور المبثوثة في هذه الدنيا متمحضًا للمصلحة ولا للمفسدة، ولكن إذا رجحت المصلحة، قيل: إنه مصلحة وكان مطلوبًا، وبالعكس، وقوله: "هذا الاعتبار"؛ أي: عدم التمحض وبناء المبحث عليه. "د". 2 الاستثناء منقطع، وسيأتي حكم هذه الصورة في قوله: "اللهم ... إلخ". "د". 3 لما عرفت من تمحض عين ما للمصلحة؛ فإذًا كل عين فيها جهة مفسدة ولو تابعة، فلو اعتبر الجانب التابع أيضًا؛ لم تبقَ عين يمكن تملكها. "د". 4 لأنه يترتب عليه نهاية الضيق والحرج، بل قد يكون التبادل من مرتبة الضروري، ويترتب على منعه الإخلال بالضروري، وهذا الدليل المتين لم يسبق له إقامته على مسألة إلغاء التابع؛ فلذا قال: "وهو من الأدلة ... إلخ"؛ أي: فليضم إلى الأدلة الثلاثة التي قدمها في صدر المسألة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 الطَّلَبِ فِي جِهَةِ التَّابِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ جِهَةَ التَّبَعِيَّةِ يُلْغَى فِيهَا مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنَ الطلب؛ فكذلك ههنا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَاقِدِ قَصْدٌ إِلَى الْمُحَرَّمِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: اعْتِبَارُ الْقَصْدِ الْأَصِيلِ وَإِلْغَاءِ التَّابِعِ1 وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا؛ فَيَرْجِعُ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَالْآخَرُ: اعْتِبَارُ الْقَصْدِ الطَّارِئِ؛ إِذْ صَارَ بِطَرَيَانِهِ2 سَابِقًا أَوْ كَالسَّابِقِ، وَمَا سِوَاهُ كَالتَّابِعِ؛ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ، وَمِثَالُهُ فِي أَصَالَةِ الْمَنَافِعِ الْمُحَلِّلَةِ3 شِرَاءُ الْأَمَةِ بِقَصْدِ4 إِسْلَامِهَا لِلْبِغَاءِ كَسْبًا بِهِ، وَشِرَاءُ الْغُلَامِ لِلْفُجُورِ بِهِ، وَشِرَاءُ الْعِنَبِ لِيُعْصَرَ خَمْرًا، وَالسِّلَاحِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لِلتَّدْلِيسِ بِهَا، وفي أصالة   1 سيأتي له حكاية الاتفاق على حرمة شراء العنب ليعصر خمرًا. "د". قلت: وبما وقع في هذا النوع مسائل تُشكل على العالِم؛ فيلحظ المسألة بعين فكرته، فيرى المنفعة المحرَّمة ملتبسًا أمرُها: هل هي مقصودة أم لا، ويرى ما سواها منافع مقصودة محللة؛ فيمتنع من التحريم لأجل كون المقصود من المنافع محللًا، ولا ينشط لإطلاق الإباحة لأجل الإشكال في تلك المنفعة المحرَّمة؛ هل هي مقصودة أم لا؟ فيقف ههنا المتورِّع، ويتساهل آخر فيقول بالكراهة ولا يمنع ولا يحرم، ولكنه يكره لأجل الالتباس، فاحتفظ بهذا الأصل؛ فإنه من مُذْهَبَات العلم، ومن قتله علمًا هان عليه جميع مسائل الخلاف الورادة في هذا الباب، وأفتى وهو على بصيرة في دين الله تعالى، قاله المازري في "المعلم" "2/ 158". 2 لو قال: إذ صار بسبب قصده على الخصوص سابقًا ... إلخ؛ لكان ظاهرًا. "د". 3 أي: مثال ما كان القصد فيه إلى الطارئ بالخصوص، وكان المقصد الأصلي فيه الحل شراء الأمة ... إلخ؛ فإن شراء الجارية يقصد به عرفًا قصدًا أوليًّا الخدمة والتسري مثلًا، وعكسه يقال في أصالة المنافع المحرمة؛ فإن شراء الخمر مثلًا الأصل فيه الشرب المحرم. "د". 4 وسيأتي حكاية الاتفاق على تحريم هذه الأمثلة "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ شِرَاءُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالضَّرْعِ وَالزَّرْعِ عَلَى رَأْيِ مَنْ مَنَعَ1 ذَلِكَ، وَشِرَاءُ2 السِّرقين لِتَدْمِينِ الْمَزَارِعِ، وَشِرَاءُ الْخَمْرِ لِلتَّخْلِيلِ، وَشِرَاءُ شَحْمِ الْمَيْتَةِ لِتُطْلَى بِهِ السُّفُنُ أَوْ يَسْتَصْبِحَ بِهِ النَّاسُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْمُنْضَبِطُ هُوَ الْأَوَّلُ3، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مَا يُقْصَدُ بالأصالة   1 اختلفوا في جواز بيع كلب الصيد والحراسة، مع اتفاقهم على جواز قنيته؛ فبعضهم أجازه وحمل النهي عن ثمن الكلب الوارد في الحديث على ما ليس للصيد والحراسة، ويكون اعتبر القصد الطارئ لما فيه من المصلحة متبوعًا وما سواه تابعًا، وبعضهم منعه حملًا للحديث على العموم؛ فيكون اعتبر المتبوع ما كان غالبًا، وهو عدم قصد الحراسة والصيد، وإن كان هذا يختلف فيه الأغلب عرفًا باختلاف البلاد؛ إلا أنه الآن في مقام التمثيل لما كان في الأصل محرمًا باعتبار القصد الأصلي عرفًا، ولكنه قصد فيه اعتبار طارئ جعله سابقًا أو كالسابق مما يقتضي خروجه عن التحريم إلى الحل؛ فكان مقتضاه أن يقول: على رأي من أجازه؛ لأنا إذا جرينا على رأي من منع بيع كلب الصيد كنا ألغينا التابع، وإن كان مقصودًا على الخصوص ورجعنا به للضرب الأول، ولم نكن اعتبرنا القصد الطارئ الذي هو بصدد تمثيله. "د". قلت: انظر في مسألة "بيع كلب الصيد والحراسة": "المعلم" "2/ 158"، و"القبس" "2/ 798-799"، و"المنتقى" "5/ 28" للباجي، و"المجموع" "9/ 228"، و"المغني" "4/ 189". وفي "ط": " ... أو للضرع أو الزرع ... ". 2 التدمين: هو بفتح أوله وكسر: الدمال أو الدمان الذي يوضع في الأرض لإصلاحها، وهو ما توطأته الدواب من البعر والتراب، ويقال له السرجين أيضًا. "ف". قلت: وفي الأصل: "الزبل"، وكتب "د" ما نصه: "اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع مطلقًا فيهما، والجواز لضرورة إصلاح الأرض به، وكان يناسب أن يؤخر قوله: "على رأي ... إلخ" عن هذه الأمثلة مع ملاحظة إبدال منع بأجاز". قلت: انظر "المعلم" "2/ 158". 3 أي: الوجه الأول من الوجهين المذكورين، وهو اعتبار القصد الأصلي وإلغاء القصد الطارئ ولو قصد على الخصوص، وقوله: "المنضبط"؛ أي: المطرد حكمه، أي: وأما اعتبار الطارىء؛ فإن وجد في بعض الفروع ما يمكن تطبيقها عليه؛ إلا أنه لا يطرد. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 وَالْعَادَةِ هُوَ الَّذِي جَاءَ فِي الشَّريعة الْقَصْدُ إِلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ؛ فَإِنَّ شِرَاءَ الْأَمَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي التَّسَرِّي إنْ كَانَتْ مِنْ عليِّ1 الرَّقِيقِ، أَوِ الْخِدْمَةِ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَخْشِ2، وَشِرَاءَ الْخَمْرِ لِلشُّرْبِ، وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ لِلْأَكْلِ، هُوَ الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي نَحْوِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 23] ، فَوَجَّهَ التحليل والتحريم عل أَنْفُسِ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَفْهُومٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَةِ: 188] . {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النِّسَاءِ: 10] ، وَأَشْبَاهِهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فِي غَيْرِ الْأَكْلِ لِأَنَّ أَوَّلَ الْمَقَاصِدِ وَأَعْظَمَهَا هُوَ الْأَكْلُ، وَمَا سوى ذلك ما يقصد بالتبع، ولا3 يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ عَادَةً إِلَّا بِالتَّبَعِيَّةِ لَا حُكْمَ لَهُ. وَقَدْ وَرَدَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَأَخَوَاتِهَا، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَحْمِ الْمَيْتَةِ: إِنَّهُ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهِ النَّاسُ؛ فأوردَ مَا دَلَّ عَلَى مَنْعِ الْبَيْعِ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ بِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لأن المقصود وهو الْأَكْلُ محرَّم، وَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحومُ فجَملوها؛ فَبَاعُوهَا وأكلوا أثمانها" 4.   1 في "م": "على". 2 بفتح الواو وسكون الخاء والمعجمة: الدّنيء. "ف". 3 في "د": "وما لا". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر} ، 8/ 295/ رقم 4633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581" عن جابر عن عبد الله رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما سيأتي قريبًا. قال "ف": "حرم الله عليهم من الشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من البقر والغنم، قال تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 164] ، وجملوها: أي: أذابوها، يقال: جمل الشحم: أذابه كأجمله واجتمله" ا. هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 وَقَالَ فِي الْخَمْرِ: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا" 1. وَ "إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ "2 لِأَجْلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي الْعَادَةِ هُوَ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّحْرِيمُ وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَا حُكْمَ لَهُ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَجَازُوا نِكَاحَ الرَّجُلِ لِيَبَرَّ يَمِينَهُ إِذَا حَلَفَ أَنَّ يَتَزَوَّجَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْبَقَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ، وَلَا تُعْتَبَرُ3 فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَابِعٌ، وَلَوْ كَانَتِ التَّوَابِعُ مَقْصُودَةً شَرْعًا حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا مِنَ الطَّلَبِ؛ لَمْ يَجُزْ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقُودِ لِلْجَهَالَةِ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ، بَلْ لَمْ يَجُزِ النِّكَاحُ لِأَنَّ الرجل إذا   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الخمر، 3/ 1206/ رقم 1579"، ومالك في "الموطأ" "2/ 846"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع الخمر، 7/ 307-308" عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. 2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، 3/ 280/ رقم 3488"، وأحمد في "المسند" "1/ 242، 293، 322"، والطبراني في "الكبير" "رقم 12887"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 313/ رقم 4938 - الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 13-14" عن ابن عباس ضمن حديث أوله: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم ... "، وصنيع المصنف هنا موهم أن هذه القطعة جزء من الحديث السابق، وهو ليس كذلك، فلو فصل الحديثين بقوله: "وقال"؛ لكان أليق. 3 راجع الفصل اللاحق للمسألة الثالثة عشرة في الأسباب. "د". قلت: في "ط": "ولا تعتبر بأنفسها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 نَكَحَ لَزِمَهُ الْقِيَامُ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِنْفَاقِ وَسَائِرِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ إِلَى بَذْلِ الصَّدَاقِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَالْعِوَضِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْبُضْعِ، وَهَذَا ثَمَنٌ مَجْهُولٌ؛ فَالْمَنَافِعُ التَّابِعَةُ لِلرَّقَبَةِ1 الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا أَوْ لِلْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ سَابِقَةٌ فِي الْمَقَاصِدِ الْعَادِيَّةِ، هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، وَمَا سِوَاهَا مِمَّا هُوَ تَبَعٌ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ؛ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ قَصْدًا فَيَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا حُكْمَ لَهُ فِي2 ظَاهِرِ الشَّرْعِ؛ لِعُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ3، وَلِخُصُوصِ الْحَدِيثِ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ شَحْمِ الْمَيْتَةِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يُقْصَدُ لِطِلَاءِ السُّفُنِ وَلِلِاسْتِصْبَاحِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِمَّا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالشَّحْمِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَصْدَ الْخَاصَّ لَا يُعَارِضُ4 الْقَصْدَ الْعَامَّ. فَإِنْ5 صَارَ التَّابِعُ غَالِبًا فِي الْقَصْدِ، وَسَابِقًا فِي عرف بعض الأزمنة حتى   1 أي: المنافع المقصودة قصدًا أوليًّا التابعة للرقبة مباشرة، وكذا المنافع التابعة لهذا النوع من المنافع، هذان هما المعتبران، أما ما سواهما من التوابع؛ فلا، ففي النكاح المقصود الأول النسل مثلًا، ويتبعه الاستمتاع، أما بقاء ذلك ودوامه؛ فليس واحدًا منهما، فلذلك جاز النكاح للبر باليمين، هذا إذا قلنا: إن غرضه من النكاح المشار إليه سابقًا، ويصح أن يكون المراد لم يجز عقد النكاح مطلقًا لأن المنافع التابعة مجهولة؛ فما صح إلا بعد طرح النظر في التوابع. "د". وفي "ط": "الرقبة المعقود عليه". 2 في الأصل: "وفي". 3 أي: على عدم اعتبار حكم التابع في مخالفة حكم المتبوع؛ فبعد ما تردد وقال: "المنضبط هو الأول والشواهد عليه كثيرة ... إلخ"، عاد فتوى عنده ذلك، واستظهر أنه لا حكم للتابع ولو قصد إليه بالخصوص، وهذا لا ينافي ما لاحظناه عليه من أنه كان الموافق للمقام هناك أن يقول: "على رأي من أجاز" لا "من منع"؛ لأن الكلام كان في فرض وتقدير لا في إعطاء أحكام متفرعة قطعًا. "د". 4 أي: فيبقى الحكم كما هو حلًّا أو حرمة. "د". 5 هذا هو النتيجة الأصولية، وإن كانت المباحث السابقة والترديدات والاستظهارات لا تخلو من فوائد وتثقيف في سبيل فقه الدين وطريقة التوصل إلى قواعده. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 يَعُودَ مَا كَانَ بِالْأَصَالَةِ كَالْمَعْدُومِ الْمُطَّرَحِ1؛ فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ الْحُكْمُ، وَمَا أَظُنُّ هَذَا يَتَّفِقُ هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنْ إِنْ فُرِضَ اتِّفَاقُهُ انْقَلَبَ الْحُكْمُ، وَالْقَاعِدَةُ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ2 كَمَا وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ3، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ إِلَى التَّابِعِ كَثِيرٌ؛ فَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ مَا يُقْصَدُ مِثْلُهُ عُرْفًا، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ اعْتِبَارًا بِالِاحْتِمَالَيْنِ، وَقَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ أَيْضًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى سَبْقِ4 الْقَصْدِ إِلَى الْمَمْنُوعِ، وَكَثْرَةُ ذَلِكَ فِي ضَمِّ الْعَقْدَيْنِ، وَمَنْ لَا يَرَاهَا بَنَى عَلَى أَصْلِ القصد في انفكاك العقدين   1 في "م": "المطروح". 2 لأن القاعدة "اعتبار ما قصد غالبًا عرفًا"، فلو تغير المقصود عرفًا؛ فالتغير فيه لا فيها. "د". 3 أي: وإن لم يتفق صيرورة التابع متبوعًا في القصد عرفًا، ولكنه صار يقصد كثيرًا كثرة لا تصيره متبوعًا؛ فهل يعتبر؟ قال: إذا بنى على القاعدة من اعتبار ما يقصد مثله عرفًا؛ فإنه يعتبر لأنهم لم يشترطوا في هذه القاعدة كونه بحيث يصير متبوعًا، بل مجرد قصد مثله عرفًا، وهو متحقق في هذا الفرض، وقوله: "الاحتمالين"؛ أي: المعبر عنهما سابقًا بالوجهين: اعتبار القصد الأصيل، واعتبار الطارئ؛ إلا أن هذا يكون ههنا أقوى لكون القصد إلى التابع قيد هنا بالكثرة، وفي الكلام السابق لم يقيد بها، ولعل هذا هو الفارق، حيث حكم آنفًا على ذي الوجهين بأنه لا اعتبار له في ظاهر الشرع، وهنا قال: "المسألة مختلف فيها" مما يؤخذ منه الفرق بين ما كثر القصد إليه وغيره. "د". 4 بدون مراعاة لكونه تابعًا، بل يكفي كثرة حصول ذلك كما قال: "وكثرة ذلك في ضم العقدين"؛ أي: في ضم بعضهما إلى بعض في عقدة واحدة كبيع أدى إلى بيع وسلف كما قال خليل وشراحه: "ومنع عند مالك -للتهمة لأجل ظن قصد ما منع شرعًا سدًا للذريعة- بيع كثر قصد الناس له للتوصل إلى الربا الممنوع كبيع وسلف"؛ أي: كبيع جائز في الظاهر يؤدي إلى بيع وسلف، كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا؛ فآل الأمر إلى بيع للسلعة بأحد الدينارين وسلف الدينار الآخر يدفعهما بعد شهر، ومثله سلف بمنفعة؛ كبيعه سلعة بعشرة لأجل ويشتريها بخمسة نقدًا، وإنما قال: "عند مالك"؛ لأنه لا خلاف في منع صريح البيع والسلف، وليس من الذريعة، إنما الذريعة مثل ما ذكره خليل. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 عُرْفًا، وَأَنَّ الْقَصْدَ الْأَصْلِيَّ خِلَافُ1 ذَلِكَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ تَبَعًا فِي الْقَصْدِ الْعَادِيِّ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَسْبِقُ الْقَصْدَ إِلَيْهِ عَادَةً بِالْأَصَالَةِ؛ كَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ إِذَا فَرَضْنَا الْعَيْنَ وَالصِّيَاغَةَ2 مَقْصُودَتَيْنِ مَعًا عُرْفًا أَوْ يَسْبِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ عُرْفًا؛ فَهَذَا بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ فِيهِ بِاجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَيْهِمَا مُتَلَازِمَانِ؛ فَلَا بُدَّ مِنِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا وَاطِّرَاحِ الْآخَرِ حُكْمًا، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا مَرَّ فَيَسْقُطُ الطَّلَبُ الْمُتَوَجِّهُ إِلَى التَّابِعِ، وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا؛ فَيَصِيرُ التَّابِعُ عَفْوًا3، وَيَبْقَى التَّعْيِينُ4؛ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَمَوْضِعُ إِشْكَالٍ، وَيَقِلُّ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ5 فِي نَحْوِ هَذَا الْقِسْمِ فِي الْبُيُوعِ: "يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَمْنُوعِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَقْصُودَةً يَقْتَضِي أن لها حصة من الثمن،   1 أي: فلا تعتبر هذه الكثرة ما دامت على خلاف الأصل في المقاصد، والأصل في مسألة العقدين انفكاكهما هذا، ولكن قد يدعي أن الأصل عند اجتماع العقدين سبق القصد إلى الممنوع. "د". 2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 601": "وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنًا بوزن، ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلًا، والصاغة عندنا كلهم -أو غالبهم- إنما يتبايعون على ذلك: أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم! ". 3 أي: لم يتعلق به طلب، فضلًا عن سقوطه. "د". 4 أي: هل التابع هو صوغها حليًا لمن لا يجوز له استعماله -والأصل هو تملك الذهب والفضة- أم الأمر العكس؟ فعلى الأول يجوز البيع والشراء، وعلى الثاني لا يجوز. "د". 5 في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157-158 - ط دار الغرب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ1 عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا سَبِيلَ إِلَى تَبْعِيضِهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْمُحَرَّمِ مِنْهُ مَمْنُوعَةٌ؛ فَمَنْعُ الْكُلِّ لِاسْتِحَالَةِ التَّمْيِيزِ، وَإِنَّ2 سَائِرَ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ يَصِيرُ ثَمَنُهَا مَجْهُولًا لَوْ قُدِّرَ انْفِرَادُهُ بِالْعَقْدِ"3، هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ4. وَأَيْضًا؛ فقاعدة الذرائع تقوى ههنا، إِذَا قَدْ ثَبَتَ الْقَصْدُ5 إِلَى الْمَمْنُوعِ. وَأَيْضًا فَقَاعِدَةُ "مُعَارَضَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ" جَارِيَةٌ هُنَا؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ، وَلِأَنَّ قَاعِدَةَ التعاون6 تَقْضِي بِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ عَلَى مِثْلِ هَذَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ بِاتِّفَاقٍ شِرَاءُ العنب للخمر قصدًا،   1 العبارة في "المعلم": " ... كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة تؤذن بأن لها حصة من الثمن، وأن العقد اشتمل عليها كما اشتمل على سائر المنافع سواها، وهو عقد واحد ... ". 2 أي: ووجه ثانٍ لمنعه وهو لزوم الجهالة في ثمن ما عدا المنافع المحرمة. "د". قلت: عبارة المازري في "المعلم": "وأن الباقي من المنافع ... ". 3 في "المعلم": "انفراده بالتعاوض". 4 وانظر لِمَ لَمْ يجرِ هنا ما جرى في مساقاة الشجر يكون بينه البياض اليسير، واجتماع البيع والصرف في دينار، وهكذا مما جعل فيه القليل الممنوع تابعًا للكثير الجائز؛ فكان يفصل هنا فيما إذا كانت قيمة الصياغة الثلث فأقل فتكون تابعة، وما إذا كانت قيمة العين الثلث فأقل فتكون تابعة، ويترتب على ذلك الجواز وعدمه، ويكون تفريعًا على الفائدة الأولى من الفصل الثاني، ولا فرق إلا أنه فيما سبق كان أصل المنع للغرر والجهالة، وهذا المنع لنفس الانتفاع بالمبيع؛ فلعل لهذا دخلًا في التفرقة، وسيأتي توجيهه. "د". وفي "ط": "متجه". 5 أما فيما ذكره من سبق القصد إلى الممنوع وكثرته في ضم العقدين كأمثلة خليل السابقة؛ فإنه كان فيها تهمة القصد إلى الممنوع فقط، بسبب كثرة ذلك في مثله؛ فما هنا أقوى. "د". وفي "ط": "إذ قد". 6 أي: التعاون بالجائز على الممنوع الذي هو ممنوع شرعًا، يعني: ولما وجدت أصول أخرى كثيرة معارضة لقاعدة التبعية ألغي جانب اعتبار التبعية، كما أشار إليه أول الفصل الثاني بقوله: "ما لم يعارضه أصل آخر". "د". وفي "ط": "التعاون هنا تقتضي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وَشِرَاءُ السِّلَاحِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَشِرَاءُ الْغُلَامِ لِلْفُجُورِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَصْدُ تَبَعِيًّا؛ فَهَذَا أَوْلَى1 أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى الْحُكْمِ بِالْمَنْعِ فِيهِ لَكِنَّهُ2 مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ3 النَّظَرُ الْخِلَافِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ بالنسبة إلى مقطع الحكم، وكون المعارضة فاسة [أَوْ غَيْرَ فَاسِدَةٍ] 4، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ بَسْطٌ في كتاب المقاصد.   1 لأنه ليس أحد الجانبين تبعًا للآخر، بل كل منهما يسبق القصد إليه كما هو الفرض في هذا الضرب، بخلاف شراء العنب وما معه. "د". 2 لعل الأصل: "لكونه"، وهذا التعليل إنما ينتج لو كان الغرض قصد الخلاف والوفاق على المالكية القائلين بسد الذرائع ومن يشاركهم في ذلك الأصل. "د". 3 جواب سؤال تقديره أنه كان مقتضى هذه القواعد الأصولية أن يتفقوا على منع هذا الضرب، مع أنهم اختلفوا فيه، فقال: بل هم متفقون على المنع والحرمة، والخلاف إنما هو في فساد المعاوضة وصحتها، ومعلوم أنه لا يلزم من القول بالحرمة القول بالفساد، والشافعية والمالكية يقولون: إن لم يدل دليل على الصحة كان فاسدا، سواء أكان الدليل متصلًا أو منفصلًا، وعند الحنفية خلاف فيه بالنسبة لبعض صوره. "د". 4 سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وُرُودُ1 الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِتَابِعٍ2 لِلْآخَرِ، وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْوُجُودِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي؛ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلِّفَ ذَهَبَ قَصْدُهُ إِلَى جَمْعِهِمَا مَعًا فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَفِي غَرَضٍ وَاحِدٍ؛ كَجَمْعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلْنَصْطَلِحْ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى وَضْعِ الْأَمْرِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ3؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا وَاحِدٌ، ولأن4 الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه} [الْجُمُعَةِ: 10] . وَإِنَّمَا5 قَصَدَ هُنَا الِاخْتِصَارَ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ، وَالْمَعْنَى في المساق المفهوم؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ فِي الْقَصْدِ بِالْفَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُمَا عَلَى حُكْمِ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَأْبَاهُ، وَالْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ في التصرفات،   1 في "ف" و"م" و"د": "ورد"، ولذا علق "د" بقوله: "لعل فيه سقط كلمة "إذا"، ويكون جوابها قوله: "فمعلوم ... إلخ"، ويكون قوله: "ولنصطلح ... إلخ" معترضًا. قلت: والمثبت من الأصل و"ط"، وعليه؛ فلا حاجة للتعليق السابق. 2 أي: بأي نوع من أنواع التبعية التي تقدمت في المسألة السابقة وفصولها؛ فقوله: "متلازمان ... إلخ" بيان للتبعية المنفية. 3 أي: في موضع ما يشمل الإباحة، بحيث يكون المراد به ما يكون طلبًا أو تخييرًا، وسيأتي في الأمثلة الجمع بين الأختين، وكل منهما مباح عند الانفراد، والجمع بين بيع وسلف، والبيع مباح والسلف مندوب مأمور به، وقوله: "الحكم فيهما واحد"؛ أي: في هذا المقام لأنهما يقابلان النهى هنا؛ فما يثبت للمأمور به إذا اجتمع مع المنهي عنه؟ وقد يثبت للمباح إذا اجتمع مع المنهي عنه، وقوله: "لأن الأمر" لعل الأصل: "ولأن الأمر"؛ فهو تعليل ثان لاختياره هذا الاصطلاح، لا أنه تعليل لكون حكمهما واحدًا لأنه لا يظهر، وكان يمكنه أن يضع بدل كلمة "المأمور" كلمة "المأذون فيه"، وهي تشملها في الاصطلاح العام؛ إلا أن عبارته أخصر. "د". 4 في الأصل و"ف" و"د": "لأن"، وزيادة الواو من "م" و"ط". 5 في "ف": "وإذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 وَلِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ مِنَ الشَّرْعِ عَرَّفَ أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرًا فِي أَحْكَامٍ لَا تَكُونُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ مَأْمُورٍ وَمَنْهِيٍّ مَعَ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ مَأْمُورَيْنِ أَوْ مَنْهِيَّيْنِ؛ فَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ " 1، وكل مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ لَجَازَ. وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ مَعَ جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بِانْفِرَادِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، وَقَالَ: "إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؛ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ" 2، وَهُوَ دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ حَيْثُ كَانَ لِلْجَمْعِ حُكْمٌ لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ؛ فَكَانِ الاجتماع مؤثرًا، وهو   1 أخرج أحمد في "المسند: "2/ 174، 178-179، 205"، والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/رقم 3504"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما ليس عندك/رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/ 737-738/رقم 2188"، والدارمي في السنن "2/ 253"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن" "3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي: "نهى عن سلف وبيع ... ". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 دَلِيلٌ، وَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي قَطْعِ1 الْأَرْحَامِ وَهُوَ رَفْعُ الِاجْتِمَاعِ، [وَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى تَأْثِيرِ الِاجْتِمَاعِ] 2. وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ3 الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ4. وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ5 وَعَنْ صِيَامِ يوم الفطر6 لمثل ذلك أيضًا.   1 أي: ففي عبارة الحديث نفسها -بقطع النظر عن عبارة النهي الواردة فيه- ما يفيد أن الجمع ينشأ عنه ما لم يكن عند الانفراد، كما أن نفس النهي عن الجمع يفيد ذلك، ولو لم يقل: "إذا فعلتم ... " إلخ؛ فقوله: "قطعتم أرحامكم"؛ أي: قطعتم هذه الصلة، وهذا الاجتماع المعنوي بينكم بهذا الجمع. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 وهذا من اجتماع مأمور به ومنهي عنه؛ فأثر ذلك الجمع الأمر بهما معًا، وقوله: "وكذلك نهى عن تقدم ... إلخ" بالعكس؛ فرمضان وحده مطلوب"، وجمع يوم من شعبان إليه منهي عنه، وكذا يقال في يوم الفطر. "د". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 4/ 232/رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم 1144" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده"، لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا يومًا قبله أو بعده". 5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه". 6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 779-800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وَنَهَى عَنْ جَمْعِ الْمُفْتَرِقِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ1 خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ2 تَأْثِيرًا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَاقْتِضَاؤُهُ أَنَّ لِلِانْفِرَادِ حُكْمًا لَيْسَ لِلِاجْتِمَاعِ يُبَيِّنُ أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ حُكْمًا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَلَوْ فِي سَلْبِ3 الِانْفِرَادِ. وَنَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْأَشْرِبَةِ4؛ لِأَنَّ لِاجْتِمَاعَهُمَا تَأْثِيرًا فِي تَعْجِيلِ صِفَةِ الإسكار.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما، مضى تخريجه "1/ 423" وعن سعد وغيرهما. قال "د": "وهو يفيد أن للاجتماع والافتراق حكمًا يعول عليه ما لم تكن له نية سيئة، فيعامل بنقيض قصده؛ فالأصل ثابت في الحديث". 2 اقتصر على هذا، والحديث فيه الأمران لأن الذي يعنيه الآن أن يكون للاجتماع حكم ليس للانفراد، ولذلك لما أخذ الثاني أخذه مع تغيير الأسلوب ليجعله راجعًا إلى غرضه في الاجتماع أيضًا، وهو أنه يؤثر في الانفراد بسلبه؛ لأنه لا انفراد مع الاجتماع، ويكفيه هذا في غرضه، وسيأتي مقابل ذلك في قوله: "وللافتراق أيضًا تأثير ... إلخ". "د". 3 إلا أن سلب صفة الانفراد عند الاجتماع لم يفقد الأجزاء خاصتها؛ لما سيجيء في توجيه مقابله، فإزالة هذه الصفة لا تفيد عدم الاعتداد بكل من الأجزاء على حدة، وإعطاءه ما يناسبه من الحكم. "د". 4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرهما مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو، ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر". وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرًا، 10/ 67/ رقم 5601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، 3/ 1574" عن جابر بن عبد الله، أن النبي نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 وَعَنِ التَّفْرِقَةِ1 بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا2، وَهُوَ فِي "الصحيح".   1 لأنه يفوت مصلحة الاجتماع برعايتها لابنها سكون نفسها برؤيته، ولذلك يفسخ العقد عند مالك إذا كان العقد المتضمن لذلك عقد معاوضة. "د". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع، 3/ 580/ رقم 1283"، وأحمد في "المسند" "5/ 414"، والدارمي في "السنن" "2/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 55-56"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67"، والطبراني في "الكبير" "4/ 217"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 126" بإسناد حسن عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: "من فرق بين الوالدة وولدها؛ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". وفي الباب عن أبي موسى، أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم 2250"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67" عنه؛ قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالدة وولدها، وبين الأخ وأخيه"، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن إسماعيل. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 55"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67" عن عمران بن حصين بلفظ: "ملعون من فرق ... "، وهو منقطع، طليق بن محمد -مع ما قيل فيه- لم يسمع من عمران، قاله المنذري في "الترغيب والترهيب" "5/ 51". وفي الباب عن عبادة بن الصامت وعلي كما سيأتي في الحديث الآتي، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 15-16"، و"سنن سعيد بن منصور" "رقم 2654-2661 - ط الأعظمي"، وقول المصنف عن الحديث: "وهو في "الصحيح" غير صحيح، بل الثابت في "صحيح مسلم" "كتاب الجهاد والسير، باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، 3/ 1375-1376/ رقم 1755" من حديث سلمة بن الأكوع في الحديث الطويل، الذي أوله: "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر ... "، وفيه: "وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر؛ فنفلني أبو بكر ابنتها". وأخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الجهاد"، وبوب عليه "باب الرخصة في المدركين يفرق بينهم، 3/ 64/ رقم 2697"، وأحمد في "المسند" "4/ 46، 51". وانظر في تحديد اسم المرأة وابنتها في: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 703" مع تعليقنا عليه. وقال ابن العربي في "القبس" "2/ 800" في فقه المسألة: "اختلف العلماء على ثلاثة أقوال؛ فمنهم من قال: إن ذلك لحق الأم في التولية، وقيل: لحق الطفل، وقيل: لحق الله؛ فالبيع فاسد في ذلك؛ إلا على القول بأنه حق للأم فيقف على إجازتها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 وَعَنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ1، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وهو كثير في الشريعة.   1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع، 3/ 581/ رقم 1284"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن التفريق بين السبي، 2/ 755-756/ رقم 2249"، وأحمد في "المسند" "1/ 97-98، 102، 126-127"، والدارقطني في "السنن" "3/ 66"، والمخلص في "فوائده" "ق28/ ب"، والبزار في "البحر الزخار" "2/ 227/ رقم 624" من طرق عن علي رضي الله عنه؛ قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي! ما فعل غلامك؟ ". فأخبرته؛ فقال: "رده، رده". لفظ الترمذي وغيره. ولفظ البزار وغيره: "كان عندي غلامان أخوان، فأردت بيع أحدهما؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعهما جميعًا، أو أمسكهما جميعًا". والحديث ورد بألفاظ مختلفة، وبطرق متعددة، وضعفه شيخنا الألباني في تعليقه على "المشكاة" "رقم 3362". اختلف فيه على بعض الرواة كما بسطه الدارقطني في "العلل" "رقم 401"، ورجح البيهقي صحة الحديث لشواهده، ولكن بلفظ: "إنه باع جارية وولدها ففرق بينهما؛ فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك"، وليس فيه ما يدل على ما ذكره المصنف، أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "السنن" "3/ 63-64/ رقم 2696" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 126"- والدارقطني في "السنن" "3/ 66"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 55"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 375-376"، وإسناده منقطع؛ لأن ميمون بن أبي شبيب لم يدرك عليًا، كما قال أبو داود، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 16". قلت: ويشهد له ما تقدم في الحديث السابق، والله الموفق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 وَأَيْضًا، فَإِذَا أُخِذَ الدَّلِيلُ فِي الِاجْتِمَاعِ أَعَمَّ1 مِنْ هَذَا؛ تَكَاثَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفْرِقَةِ2؛ لِمَا فِي الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَيْسَتْ فِي الِانْفِرَادِ؛ كَالتَّعَاوُنِ [وَالتَّظَاهُرِ، وَإِظْهَارِ أُبَّهَةِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ، وَإِخْمَادِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَاتُ وَالْأَعْيَادُ، وَشُرِعَتِ الْمُوَاصَلَاتُ] 3 بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ خُصُوصًا وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا، وَقَدْ مُدِحَ الِاجْتِمَاعُ وَذُمَّ الِافْتِرَاقُ، وَأُمِرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَذَمِّ ضِدِّهَا وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا؛ فَالِاعْتِبَارُ النَّظَرِيُّ يَقْضِي أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ أَمْرًا زَائِدًا لَا يُوجَدُ مَعَ الِافْتِرَاقِ، هَذَا وَجْهُ تَأْثِيرِ الِاجْتِمَاعِ. وللافتراق أيضًا تأثير من جهة أخرى، فإنه إِذَا كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ معانٍ لَا تَكُونُ فِي الِافْتِرَاقِ؛ فَلِلِافْتِرَاقِ4 أَيْضًا معانٍ لَا تُزِيلُهَا5 حَالَةُ الاجتماع؛ فالنهي عن   1 أي: بقطع النظر عما قيد به أولًا من الجمع بين مأمورين أو مأمور ومنهي عنه ... إلخ، فإن الأمر بالاجتماع لا يقال فيه: إنه واحد مما صور فيه الكلام أولًا. "د". 2 في الأصل و"ط": "الفرقة". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط". 4 أي: للمفترقات أيضًا "ف"، وكتب "د": "وانظر لِمَ لم يذكر من آثاره ما أشار له في الحديث المتقدم من أن لتفريق الخليطين نعمهما أثرًا في الزكاة بزيادتها أو نقصها ما لم يفعلا ذلك خشية الصدقة". 5 لم يقل: ليست توجد عن الاجتماع، بل اقتصر في كل المحاولة الآتية على أن يثبت أن الأمور المتعددة عند اجتماعها لا تفقد كل واحد منها خواصها؛ أي: فمعاني المجتمعات التي تثبت لها عند الانفراد لا تزال متحققة عند الاجتماع، وهذا هو الذي يعنيه، وسيرتب عليه التعارض واختلاف النظر؛ فلا يصح أن تكون المقابلة بين الانفراد والاجتماع إلا على هذا الوجه، لا بأن تكون على أن معاني الافتراق لا توجد عند الاجتماع، وقوله: "وللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به"؛ أي: لا يصح ولا يعقل أن تبطل بالاجتماع؛ لأن بطلانها يبطل المعنى الذي في الاجتماع كما مثل، فإن الأعضاء عند الاجتماع حافظة لخاصتها ولو لم يكن كذلك، بل صار المجموع بمنزلة اليد أو الرجل أو العين فقط لم يكن هو الإنسان؛ فاحتفاظ كل واحد بخاصته حفظ للإنسان المكون من هذه المجتمعات؛ فهذا كالترقي على ما قبله؛ كأنه يقول: ليس فقط أن الاجتماع لا يهدم خاصة كل واحد على انفراده، بل إن الاجتماع نفسه لا يتحقق إلا بهذا الحفظ. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُجْتَمِعَيْنِ قَضَى بِأَنَّ لِافْتِرَاقِهِمَا1 مَعْنًى هُوَ2 مَوْجُودٌ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ إِذْ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّهُمَا نَشَأَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى زَائِدٌ لِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّهْيُ، وَزِيَادَةُ الْمَعْنَى فِي الِاجْتِمَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْدِمَ مَعَانِي الِانْفِرَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِثْلُهُ3 الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَا4 فِي مَعْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنْ كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ معانٍ لا تكون في الانفراد؛ فللأفراد5 فِي الِاجْتِمَاعِ خَوَاصٌّ لَا تَبْطُلُ بِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ مَعَانِيَ لَوْ بَطَلَتْ لَبَطَلَتْ مَعَانِي الِاجْتِمَاعِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مَعَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ مَجْمُوعَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ، وَلَكِنْ لَوْ فُرِضَ اجتماعها من وجه واحد وعلى6 تَحْصِيلِ مَعْنَى وَاحِدٍ؛ لَبَطَلَ الْإِنْسَانُ، بَلِ الرَّأْسُ يُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الْيَدُ، وَالْيَدُ تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الرِّجْلُ، وَهَكَذَا الْأَعْضَاءُ الْمُتَشَابِهَةُ كَالْعِظَامِ وَالْعَصَبِ وَالْعُرُوقِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فافهم مثله في سائر7 الاجتماعات.   1 أي: بأن لهما عند الافتراق. "د". 2 سقط من "ط". 3 فمنافع الزوجية موجودة في كل من الأختين عند اجتماعهما أيضا، ولكن النهي ورد للمعنى الزائد في الاجتماع. "د". 4 في "ط": "ومما". 5 في "ط" كذا، وفي غيره: "فللانفراد". 6 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو على". 7 لكن هذا ليس جمعًا اعتباريًا كاجتماع الشيئين المتباينين في عقدة وصيغة واحدة مثلًا؛ فهناك لأعضاء الإنسان نظام طبيعي يجعل الحياة مشتركة والعمل موزعًا كما يقول، وأين من هذا مجرد جمع الشيئين في صيغة أو قصد واحد؟ فلعل المراد بهذا التشبيه التقريب، وإلا؛ فكيف يبني على مجرد هذا قاعدة أصولية في الشريعة تبنى عليها أحكام وتفاريع؟ نعم، إن الأحكام مبنية كما سبق على مجرى العادة في الإنسان، سواء كانت طبيعية أو غيرها، ولكنها تكون حقيقة لا تشبيهًا واعتبارًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 فَالْأَمْرُ1 بِالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِفَوَائِدِ2 الْأَفْرَادِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، فَمِنْ حَيْثُ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ بِالِاجْتِمَاعِ؛ فَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ الِافْتِرَاقِ أَيْضًا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الِاجْتِمَاعُ فِي شَيْئَيْنِ يَصِحُّ اسْتِقْلَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ يَصِحُّ أَنْ يُعْتَبَرَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا؛ فَيَتَعَارَضَانِ فِي مِثْلِ مَسْأَلَتِنَا حَتَّى يُنْظَرَ فِيهَا؛ فَلَيْسَ اعْتِبَارُ الِاجْتِمَاعِ وَحْدَهُ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الِانْفِرَادِ. وَلِكُلٍّ وَجْهٌ تَتَجَاذَبُهُ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَحِينَ امْتَزَجَ الْأَمْرَانِ فِي الْمَقْصِدِ3 صَارَا فِي الْحُكْمِ كَالْمُتَلَازِمَيْنِ فِي الْوُجُودِ اللَّذَيْنِ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ [مَعًا] 4 فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَلَازِمَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمَا بِالْأَمْرِ أَوْ بِالنَّهْيِ أَوْ لَا5؛ فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجْرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الِانْفِكَاكِ وَالِاسْتِقْلَالِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْوُجُودِيِّ وَالِاسْتِعْمَالِ، إِذَا كَانَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ في مسألة   1 وهو الدليل على تأثير الاجتماع بالمعنى الأعم السالف: "غير مبطل"؛ أي: بالدليلين السابقين، وهذا منه شروع في استغلال المقامات السالفة من أول المسألة إلى هنا لتأصيل القاعدة الآتية. "د". 2 بل كل واحد من أفراد الإنسان المندمجين في هذا الاجتماع حافظ لسائر خواصه كما هو واضح، وقوله: "فمن حيث حصلت الفائدة ... إلخ"، هذا مرتب على مجموع ما قرره من أن لكل من الاجتماع وأجزائه تأثيرًا حاصلًا عند الاجتماع، وقوله: "وأيضًا" هذا إشارة إلى فرض المسألة، وأنه ليس أحد المجتمعين تابعًا للآخر، بل بحيث يصح استقلال كل منهما بالحكم؛ فهل يعتبر تأثير الاجتماع أم يعتبر بقاء أثر الانفراد؟ يعني: فيكون هناك مدركًا لأصحاب النظر والاجتهاد، أحدهما مبني على تأثير الاجتماع، والآخر مبني على حفظ المفترقات خواصها عند الاجتماع. "د". 3 في "ط": "القصد". 4 سقط من "ط". 5 أي: لا يتوجه عليهما معا حكم واحد بالأمر أو النهي، بل لكل حكمه، وهذا نظر من يلتفت لبقاء الخواص للمنفردات عند الاجتماع، وما قبله لما قبله؛ فقوله: "فإن من العلماء ... إلخ" بيان لقوله: "أولًا". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 "الصَّفْقَةِ تَجْمَعُ بَيْنَ حَرَامٍ وَحَلَالٍ"1، وَوَجْهُ كُلِّ قَوْلِ مِنْهُمَا قَدْ ظَهَرَ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الَّذِي يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَأْثِيرُ الِاجْتِمَاعِ وَأَنَّ لَهُ حُكْمًا لَا يَكُونُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ؛ فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَجْمُوعِ كَالتَّابِعِ2 مَعَ الْمَتْبُوعِ؛ فَإِنَّهُ صَارَ جُزْءًا مِنَ الْجُمْلَةِ، وَبَعْضُ الْجُمْلَةِ تَابِعٌ لِلْجُمْلَةِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، أَوْ مَنْدُوبًا بِالْجُزْءِ وَاجِبًا بِالْكُلِّ، وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ الَّتِي يَخْتَلِفُ3 فِيهَا حُكْمُ الْجُزْءِ مَعَ الْكُلِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْجُمْلَةِ وَجَدْنَا مَحَلَّ النَّهْيِ مَوْجُودًا فِي الْجُمْلَةِ، فَتَوَجَّهَ4 النَّهْيُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَعْلِيلِ الْمَازِرِيِّ [وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ] 5. لِأَنَّا نقول: إن صار كل واحد من الجزأين كَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ؛ فَلَيْسَ جُزْءُ6 الْحَرَامِ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا، وَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لَا يُنْكَرُ، وَلَهُ مُعَارِضٌ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَفْرَادِ كَمَا مَرَّ، وَأَمَّا تَوْجِيهُ الْمَازِرِيِّ؛ فَاعْتِبَارُهُ مُخْتَلَفٌ7 فِيهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ فَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ إليه مجتهد، ويمكن أن لا.   1 انظر عنها: "معالم السنن" "5/ 24" للخطابي. 2 أي: وقد تقدم أنه لا حكم للتابع غير حكم المتبوع. "د". 3 في "ط": "وسائر الأحكام التي تختلف ... ". 4 في "ط": "فيتوجه". 5 سقط من "ط". 6 في الحقيقة لم يجعل المتبوع هو الجزء الحرام، بل الهيئة المكونة منه ومن غيره التي اقتضت المفسدة والنهي يعتمد المفسدة. "د". 7 بقي عليه أن يجيب عن القواعد التي ذكرها من درء المفاسد وسد الذرائع والتعاون، وليس من السهل على المجتهد الإغضاء عن ثلاث قواعد أصولية مهمة كهذه، في مقابلة قاعدة تأثير الانفراد وبقاء خواصه التي لم تثبت في نفسها إلا بمجرد التشبيه البعيد بأعضاء الإنسان ... إلخ. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْأَمْرَانِ1 يَتَوَارَدَانِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ لِصَاحِبِهِ، إِذَا ذَهَبَ قصد المكلف إلى جمعهما2 في عمل واحد أو في3 غرض واحد؛ فقد تقدم أن للجميع تأثير، وَأَنَّ فِي الْجَمْعِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الِانْفِرَادِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الِانْفِرَادِ لَا يَبْطُلُ بِالِاجْتِمَاعِ. وَلَكِنْ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا منافي الأحكام لأحكام الآخر، أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ4 رَجَعَ فِي الْحُكْمِ إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الشَّيْئَيْنِ يَجْتَمِعَانِ5 قَصْدًا وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ تَقْتَرِنُ بِهِ؛ فَهِيَ مَنُوطَةٌ بِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْمَصَالِحِ الْمَوْضُوعَةِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ، كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَادَةً أَوْ عِبَادَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ عَمَلَانِ وَكَانَتْ أَحْكَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُنَافِي أَحْكَامَ الْآخَرِ، فَمِنْ حَيْثُ صَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْقَصْدِ الِاجْتِمَاعِيِّ اجْتَمَعَتِ الْأَحْكَامُ الْمُتَنَافِيَةُ الَّتِي وُضِعَتْ المصالح؛ فتنافت وجوه المصالح وتدافعت، وإذا تنافت؛   1 تشترك هذه المسألة مع ما قبلها في أن الشيئين اللذين قصد المكلف جمعهما في عمل واحد ليس أحدهما تابعًا لآخر بوجه من أوجه التبعية المتقدمة، وتخالفها في أن تلك ورد الأمر فيها على أحد الشيئين، والنهي على الآخر عند الانفراد، أما هذه؛ فلم يتوجه فيها نهي لأحد الشيئين، ولكن لكل منهما لوازم معتبرة شرعًا، وهذه اللوازم متنافية، فهل يعتبر تنافي اللوازم موجبا لعدم صحة اجتماعهما في عمل واحد وغرض واحد فيبطل العقد، أم لا؟ "د". 2 في "د": "جمعها"، وفي "ط": "جمعهما معًا". 3 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "وفي". 4 راجعة للصورة الأولى، وهي ما كان بين أحكامهما تنافٍ. "ف". 5 في الأصل و"ف" و"ط": "الشيء مجتمعان، وكتب "ف": "لعله "الشيئين يجتمعان قصدًا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 لَمْ تبقَ مَصَالِحَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حالة الانفراد، فاستقرت الحال فيها عَلَى وَجْهِ اسْتِقْرَارِهَا فِي اجْتِمَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَاسْتَوَيَا فِي تَنَافِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ، وَالْأَمْرَ يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُؤَدِّي إِلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا مَرَّ؛ فَامْتَنَعَ مَا كَانَ مِثْلُهُ. وَأَصْلُ هَذَا نَهِيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ1؛ لِأَنَّ بَابَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي الْمُغَابَنَةَ وَالْمُكَايَسَةَ، وَبَابُ السَّلَفِ يَقْتَضِي الْمُكَارَمَةَ وَالسَّمَاحَ وَالْإِحْسَانَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا دَاخَلَ السَّلَفَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْبَيْعِ؛ فَخَرَجَ السَّلَفُ عَنْ أَصْلِهِ؛ إِذْ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً، فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ الْمُسْتَثْنَى2 مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الصَّرْفُ3 أَصْلُهُ الْمُغَابَنَةُ وَالْمُكَايَسَةُ، وَالْمُكَايَسَةُ فِيهِ وَطَلَبُ الرِّبْحِ مَمْنُوعَةٌ، فَإِذَا رَجَعَ السَّلَفُ إِلَى أَصْلِهِ بِمُقَارَنَةِ الْبَيْعِ؛ امتنع من وجهتين4: إِحْدَاهُمَا: الْأَجَلُ الَّذِي فِي السَّلَفِ. وَالْأُخْرَى: طَلَبُ الرِّبْحِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَايَسَةُ أَنَّهُ لَمْ يَضُمَّ إِلَى الْبَيْعِ إِلَّا وَقَدْ دَاخَلَهُ فِي قَصْدِ الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْمَعْنَى فِي إِشْرَاكِ الْمُكَلِّفِ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؛ إِمَّا وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ إِبَاحَةً5 إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا6 للآخر،   1 مضى تخريجه "ص468". 2 في "ط": "مستثنى منه". 3 صوابه البيع، وقوله: "والمكايسة فيه"؛ أي: في السلف. "د". 4 في "د": "جهتين". 5 لا يظهر عطفه على ما قبله إلا على اصطلاحه في المسألة قبلها. "د". 6 كالتبرد والنظافة وإيقاظ الحواس مع رفع الحدث بالوضوء والغسل، وكالحمية مع العبادة بالصوم، والصحة مع تأدية الفريضة في السفر للحج، وهكذا مما كان شأنه التبعية للعبادة في القصد، وقد تقدم له الخلاف بين ابن العربي والغزالي في خروج العبادة عن الإخلاص وعدمه، بناء = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وَكَانَتْ أَحْكَامُهُمَا مُتَنَافِيَةً مِثْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّبْحِ والكلام المنافي1 في الصلاة، وجمع2 النية الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالنَّدْبِ مَعًا، وَجَمْعِ3 فَرْضَيْنِ مَعًا فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ كَظُهْرَيْنِ، أَوْ عَصْرَيْنِ، أَوْ ظُهْرٌ وَعَصْرٌ، أَوْ صَوْمُ رَمَضَانَ أَدَاءً وَقَضَاءً مَعًا، إِلَى أشباه ذلك.   = على صحة انفكاك القصدين كما هو نظر ابن العربي، أو على مجرد الاجتماع وجودًا ولو صح الانفكاك كما هو رأي الغزالي، راجع الفصل التالي للمسألة السادسة من النوع الرابع في المقاصد، وقد تقدم آنفًا أنه إذا كان أحدهما تبعًا للآخر، وكانت أحكامهما متنافية كاجتماع البيع والصرف في دينار واحد؛ فلا يضر لإلغاء التابع، فإذا حمل كلامه في التابع على مثل صورة الصرف والبيع المذكورة يظهر كلامه، ولا يتعارض مع ما سبق، ولا مع ما يأتي بعد من جعل التبرد وما معه مما فيه الخلاف؛ فيتعين أن يحمل قوله هنا: "إذا لم يكن تبعًا" على ما يماثل الصورة المذكورة وإن كانت في المعاملات، وكلامه فيما يجتمع مع العبادات. "د". 1 في "ط": "المتنافي". 2 كمن يعيد صلاته مع الجماعة مثلًا، فينوي بها أنها فرض ونفل معًا؛ فقد جمع بين متنافيين في الأحكام، فالفرض يأثم بتركه والنفل لا يأثم، والفرض تسن فيه الجماعة والنفل لا، والفرض تقام له الصلاة والنفل لا، والفرض يجب فيه القيام على القادر والنفل لا، وهكذا، وكمن ينوي بالظهر الفرض والركعات المطلوبة قبله أو بعده ندبًا؛ فإن هناك تنافيًا ظاهرًا بين كونها معتبرة قبلًا أو بعدًا وبين تأديتها بها الآن، ولذلك لم يجز مثل هذا أحد، أما إذا نوى الظهر وتحية المسجد مثلا؛ فقالوا: إنه بذلك يثاب ويسقط عنه طلب التحية، وإن لم ينو سقطت التحية ولا ثواب، وقالوا: إن من عليه قضاء رمضان له أن ينوي معه مثل نفل صوم عاشوراء والأيام البيض ويوم عرفة، والواقع أن النفل أعم من الفرض من جهة شروطه وما يطلب فيه؛ فيمكن أن يجتمع معه النفل بدون منافاة إذا لم يكن مانع آخر يقتضي المنافاة مثل الصورتين اللتين ذكرناهما، ولم نر خلافًا في نية تحية المسجد مع الفرض، وقوله: "والعبادة"؛ أي: مطلقًا ولو غير صلاة، وقد عرفت مسألة الصيام، ومثلها الحج مع العمرة النافلة مع أنهما صحيحان. "د". قلت: انظر في بيان الجمع بين عبادتين بأكثر من نية: "الأشباه والنظائر" "39" لابن نجيم، ط دار الفكر - دمشق، و"قواعد ابن رجب" "ق18 - بتحقيقي". 3 لأنهما متنافيان من جهة أن أحدهما عن واجب لوقت خاص، والآخر عن واجب لوقت آخر، ولذلك لم تجز كفارة واحدة عن مقتضى كفارات مثلًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 وَلِأَجْلِ هَذَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ جَمْعِ عُقُودِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خِلَافٌ، فَالْجَوَازُ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ1 حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ؛ فَمَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الصَّرْفِ وَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَالْقِرَاضِ وَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاقَاةِ وَالْبَيْعِ، وَالشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ، والجُعْل والبيع -والإجازة فِي الِاجْتِمَاعِ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْبَيْعِ- وَمَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ2 الْجُزَافِ وَالْمَكِيلِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اجْتِمَاعِ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ. وَهَذَا كُلُّهُ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ الْأَحْكَامِ3 الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فَالصَّرْفُ مَبْنِيٌّ على غاية التضييف حَتَّى شُرِطَ فِيهِ التَّمَاثُلُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْجِنْسِ4 وَالتَّقَابُضُ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ5، وَلَا بَقَاءَ عَلَقَةٍ6، وَلَيْسَ الْبَيْعُ كَذَلِكَ. وَالنِّكَاحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْمُسَامَحَةِ وَعَدَمِ الْمُشَاحَّةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهَ الصَّدَاقَ نِحْلَةً، وَهِيَ الْعَطِيَّةُ لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَأُجِيزَ فِيهِ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ مَبْنِيَّانِ عَلَى التَّوْسِعَةِ؛ إذ هما مستثنيان من أصل   1 كما قال أشهب: لا يحرم الصرف والبيع، وأنكر أن يكون مالك حرمه نظرًا إلى أن العقد احتوى على أمرين كل منها جائز على الانفراد، قال: "وإنما حرم مالك الذهب بالذهب على أن يكون مع كل منهما سلعة، قال ابن عرفة: وهو أوجه في النظر، وإن كان خلاف المشهور" "د". 2 الممنوع اجتماع جزاف من حب مع مكيل منه في عقد واحد، وكذا جزاف من أرض مع مكيل منها، وكذا اجتماع جزاف من حب مع مكيل من أرض؛ لأن في ذلك خروج أحدهما عن أصله أو خروجهما معًا عن أصلهما؛ إذ الأصل في الحب الكيل، وأصل الأرض أن تباع جزافًا، أما إذا اشترى أرضًا جزافًا مع مكيل حب؛ فلا مانع لأنهما جاءا على أصلهما. "د". 3 في "ط": "كله لاجتماع الأحكام". 4 فلا يجوز الصرف بتصديق في الجنس، وكذا في العدد أو الوزن، بل لا بد من التحقق من هذا كله قبل البت في الصرف. "د". 5 قالوا: إنه أضيق ما يطلب فيه المناجزة. "د". وفي "ط": "التي لا تردد ... ". 6 ولو بأن يوكل غيره في القبض بغير حضوره. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 مَمْنُوعٍ، وَهُوَ الْإِجَارَةُ الْمَجْهُولَةُ؛ فَصَارَا1 كَالرُّخْصَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رَفْعِ الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ وَالْأَجَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَأَحْكَامُهُ تُنَافِي أَحْكَامَهُمَا. وَالشَّرِكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَعَاشِ لِلْجَانِبَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ، وَالْبَيْعُ يُضَادُّ ذَلِكَ، وَالْجُعْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْجَهَالَةِ بِالْعَمَلِ، وَعَلَى أَنَّ الْعَامِلَ بِالْخِيَارِ2، وَالْبَيْعُ يَأْبَى هَذَيْنِ، وَاعْتِبَارُ الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ3 قَصْدٌ إِلَى غَايَةِ الْمُمْكِنِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَكِيلِ، وَالْجُزَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَبْلَغِ لِلِاجْتِزَاءِ فِيهِ بِالتَّخْمِينِ الَّذِي لَا يُوَصِّلُ إِلَى عِلْمٍ، وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ تُوجَدْ؛ فَهُوَ4 عَلَى أَصْلِ الْجَهَالَةِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ لِحَاجَةِ التَّعَاوُنِ كَالشَّرِكَةِ، وَالْبَيْعِ لَيْسَ5 كَذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي عَقْدٍ عَلَى بَتٍّ فِي سِلْعَةٍ وَخِيَارٍ فِي أُخْرَى، وَالْمَنْعُ بِنَاءٌ عَلَى تَضَادِّ الْبَتِّ وَالْخِيَارِ. وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَمْعِ الْعَادِيَيْنَ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَضَادِّ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا أَوْ عَدَمِ تَضَادِّهَا6؛ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي جَمْعِ الْعِبَادِيِّ مَعَ الْعَادِي؛ كَالتِّجَارَةِ7 فِي الْحَجِّ أَوِ الْجِهَادِ، وَكَقَصْدِ التَّبَرُّدِ مَعَ الوضوء، وقصد   1 في الأصل: "فصار". 2 لأن الجعل لا يلزم بالعقد، بخلاف البيع ما لم يكن على الخيار. "د". 3 في "ط": "بالمكيل". 4 في "ط": "فهي". 5 أي: فلا يجوز اجتماعهما، لكن المعروف في المذهب غير هذا، ونص خليل عدم فسادها مع البيع، قال الشراح: فلا تفسد مع البيع لعدم منافاتهما، سواء أكانت الإجارة في نفس المبيع أم في غيره؛ إلا أنها إذا كانت في غير المبيع لا يشترط فيها شيء، وإذا كانت فيه كما إذا اشترى منه قماشًا ليخيطه له ثوبًا اشترط لها شروط كعدم تأخير العمل ... إلخ. "د". 6 في "ط": "تضادهما". 7 التجارة في الحج ورد الإذن فيها بقوله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] ، وإن خالف أبو مسلم وادعى المنع وحمل الآية على ما بعد الفراغ من أعمال الحج؛ فهو محجوج بالآثار الصحيحة، فضلًا عن كونه يبعد بالآيه عن سبب النزول. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 الْحِمْيَةِ مَعَ الصَّوْمِ، وَفِي بَعْضِ الْعِبَادَتَيْنِ كَالْغُسْلِ بِنْيَةِ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ1، وَقَدْ مَرَّ هُنَا وَفِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ مَعَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، وَبِاللَّهِ التوفيق. وإن كانا غير متنافيي الْأَحْكَامِ؛ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنِ اعْتِبَارِ قَصْدِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَبْلُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُحْدِثَ الِاجْتِمَاعُ حُكْمًا يَقْتَضِي النَّهْيَ، أَوْ لَا. فَإِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ صَارَتِ الْجُمْلَةُ مَنْهِيًّا عَنْهَا وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ2 الطَّلَبِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ أَلْغَى الطَّلَبَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَجْزَاءِ، وَصَارَتِ الْجُمْلَةُ شَيْئًا وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِمَّا الْأَمْرُ وَإِمَّا النَّهْيُ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ إِنِ اقْتَضَى الْمَصْلَحَةَ، وَيَتَعَلَّقُ به النهي إن3 اقْتَضَى مَفْسَدَةً؛ فَالْفَرْضُ هُنَا أَنَّهُ اقْتَضَى مَفْسَدَةً؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ؛ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ صَوْمِ أَطْرَافِ رَمَضَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْخَلِيطَيْنِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَجَمْعِ الرَّجُلَيْنِ فِي الْبَيْعِ سِلْعَتَيْهِمَا عَلَى رَأْيِ مَنْ رَآهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ4 فَإِنَّ الْجَمْعَ يَقْتَضِي عدم   1 هذا مذهب الجمهور خلافًا لابن حزم في "المحلى" "2/ 43"، ونقل عدم الإجزاء عن جماعة من السلف، وساق آثارًا كثيرة تدل عليه، وفاته ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 282" بإسناد حسن عن عبد الله بن أبي قتادة؛ قال: "دخل علي أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة؛ فقال: غسل من جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة. قال: أعد غسلًا آخر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى". وانظر تبويب البيهقي في "الكبرى" عليه. 2 في "ط": "والحدث جهة .... ". 3 في "د": "إذا". 4 انظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل" "6/ 43". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 اعْتِبَارِ الْإِفْرَادِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْجَهَالَةِ1 فِي الثَّمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْلُومَةً؛ فَامْتَنَعَ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَأَمَّا الْمُجِيزُ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اعْتَبَرَ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَيِ السِّلْعَتَيْنِ لَمَّا قَصَدَا إِلَى جَمْعِ سلعتيهما في البيع صار ذلك [في] 2 مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِيهِمَا3، فَكَأَنَّهُمَا قَصَدَا الشَّرِكَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ بِيْعَهُمَا وَالِاشْتِرَاكَ فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا كَانَا فِي حُكْمِ الشَّرِيكَيْنِ، فَلَمْ يَقْصِدَا إِلَى مِقْدَارِ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِّلْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ كَجُزْءِ السِّلْعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَهُوَ قَصْدٌ تَابِعٌ لِقَصْدِ الْجُمْلَةِ؛ فَلَا أَثَرَ لَهُ، ثُمَّ الثَّمَنُ يُفَضُّ عَلَى4 رُءُوسِ الْمَالَيْنِ إِذَا أَرَادَا الْقِسْمَةَ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ؛ إِذْ لَا جَهَالَةَ5 فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الِاجْتِمَاعِ حُدُوثُ فَسَادٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَقْتَضِي النَّهْيَ؛ فَالْأَمْرُ مُتَوَجَّهٌ؛ إِذْ لَيْسَ إِلَّا أَمْرٌ أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه.   1 أي: المؤدية إلى التنازع والشحناء، على خلاف المصلحة الاجتماعية بين الناس. "د". 2 سقطت إلا من "ط"، وكتب "ف": "ولعله "في المعنى". 3 وقع خلاف بين الفقهاء في المحل في الشركة؛ فاتفقوا على جوازها في النقدين، واختلفوا في العروض قيميًّاكان أو مثليًّا أو عدديًّا متقاربًا وغير متقارب، والراجح الجواز، وهو ما أومأ إليه المصنف، وانظر في المسألة: "فتح القدير" "5/ 16"، و"بدائع الفوائد" "6/ 59"، و"المغني" 5/ 14"، و"حاشية الشرقاوي" على التحرير" "2/ 11"، و"كشاف القناع" "2/ 254"، و"الإقناع" "1/ 292"، و"الشركات في الفقة الإسلامي" "ص37" للخفيف، و"الشركات في الشريعة الإسلامية" "1/ 108-115" للخياط. 4 أي: يفرق على حسب رءوس الأموال. "ف". قلت: في "ط": "يقبض على". 5 لأن رأس مال كل منهما هو ما دفعه ثمنًا لسلعته، وهو معلوم. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الْأَمْرَانِ1 يَتَوَارَدَانِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِعًا إِلَى الجملة2، والآخر راجع إِلَى بَعْضِ تَفَاصِيلِهَا أَوْ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا، أَوْ إِلَى بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا؛ فَاجْتِمَاعُهُمَا جَائِزٌ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ. وَالَّذِي يُذْكَرُ هُنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا تَابِعٌ وَالْآخَرُ مَتْبُوعٌ وَهُوَ3 الْأَمْرُ الرَّاجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَمَا سِوَاهُ تَابِعٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ إِلَى التَّفَاصِيلِ أَوِ الْأَوْصَافِ أَوِ الْجُزْئِيَّاتِ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْجُمْلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لَهَا، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَطَلَبُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مُطْلَقًا، وَهَذَا [مَعْنَى كَوْنِهِ تَابِعًا، وَأَيْضًا4، فَإِنَّ هَذَا الطَّلَبَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ وُقُوعَ مُقْتَضَاهُ دُونَ] 5 مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْجُمْلَةِ، بَلْ إِنْ فُرِضَ فَقْدُ الْأَمْرِ بِالْجُمْلَةِ لَمْ يُمْكِنْ6 إِيقَاعُ التَّفَاصِيلِ؛ لِأَنَّ التَّفَاصِيلَ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مُفَصَّلٍ، وَالْأَوْصَافَ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مَوْصُوفٍ، وَالْجُزْئِيَّ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْكُلِّيِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَطَلَبُهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِطَلَبِ الْجُمْلَةِ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَالصَّلَاةِ -بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ الطَّهَارَةِ الْحَدَثِيَّةِ وَالْخَبَثِيَّةِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ، وَالْخُشُوعِ، وَالذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالدُّعَاءِ، واستقبال القبلة، وأشباه   1 الأمر هنا على حقيقته لا على الاصطلاح في المسألتين السابقتين. "د". 2 أي: إلى نفس المطلق، وقوله: "بعض تفاصيلها"؛ أي: أجزائها؛ كالقراءة، والذكر في الصلاة، وقوله: "بعض أوصافها؛ أي: كتطويل الركوع والسجود فيها وكونها بخشوع، وقوله: "بعض جزئياتها"؛ كصلاة الظهر أو التهجد أو الوتر، وهكذا من الجزئيات الداخلة تحت كل صلاة. "د". 3 في "ط": "فالمتبوع هو ... ". 4 دليل ثانٍ على أن ما سوى الأمر بالجملة تابع للأمر بها وليس مستقلًّا. "د". 5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 6 أي: من حيث كونها تفاصيل مع فرض فقدان الأمر بالجملة. "ف". وعنده بدل "يمكن": "لكن"، وقال: "وهكذا بالأصل، ولعله يمكن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 ذَلِكَ، وَمِثْلُ الزَّكَاةِ مَعَ انْتِقَاءِ أَطْيَبِ1 الْكَسْبِ [فِيهَا] وَإِخْرَاجِهَا فِي وَقْتِهَا وَتَنْوِيعِ2 الْمُخْرَجِ وَمِقْدَارِهِ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، مَعَ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَتَرْكِ الرَّفَثِ3، وَعَدَمِ التَّغْرِيرِ4، وَكَالْحَجِّ مَعَ مَطْلُوبَاتِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ كَالتَّفَاصِيلِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْأَوْصَافِ التَّكْمِيلِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ مَعَ الْعَدْلِ وَاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ5، وَالْبَيْعُ مَعَ تَوْفِيَةِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَحُسْنُ الْقَضَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالنَّصِيحَةُ6، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْنِيَّةٌ فِي الطلب على طلب ما رجعت   1 هو وما يليه للوصف، وتنويع المخرج ومقداره للجزئي. "د". وفي "ف": "انتقاء" بالفاء، ولعله بالقاف كما يقتضيه المعنى. 2 كونه من النقدين أو الزروع أو الأنعام، ومقداره كون الواجب في الأول ربع العشر مثلًا، وهكذا؛ فكل هذه الأوامر تابعة لـ {آتُوا الزَّكَاة} ، وقوله: "مع تعجيل الإفطار"، هذا وما بعده في الصوم وكلها من الأوصاف الكمالية فيه. "د". 3 السحور هو بضم السين: الفعل، وبفتحها: ما يؤكل آخر الليل، وقد ورد إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يؤخره حتى يبقى على الفجر قدر ما يقرأ القارئ خمسين آية. والرفث: الفحش. "ف"، وقال "ماء": "الجماع". 4 التغرير: التعرض للهلكة والأذى، وقد ورد النهي عن تعرض الصائم لما يفسد صومه من المباشر ومقدمات الجماع والمبالغة في المضمضة والاستنشاق؛ لأن ذلك كله مظنة لإفساد الصوم، ومثله الحجامة للحاجم والمحتجم. "د". قال "ف": "كذا بالأصل؛ فليتأمل". ا. هـ. 5 المماثلة في الحرية والإسلام مثلًا، بحيث لا يقتل الحر بالعبد ولا المسلم بالكافر؛ فهذان مكملان لهذا الضروري. "د". 6 الأمثلة الأربعة متعلقة بالبيع من باب الأوصاف؛ إلا أنه يقال: إن البيع من المباح، وهذه الأمور الأربعة الأوامر فيها بين واجب ومندوب، وكيف يقال فيه: تواردت الأوامر على المتبوع باعتباره في نفسه وباعتبار تفاصيله؛ إلا أن يقال: إن البيع من الضروريات أو الحاجيات على ما سبق؛ فهو إذا مطلوب تتوجه إليه الأوامر باعتبار ذاته كما تتوجه إليه باعتبار توابعه، على أنه وإن كان أصله الإباحة بالجزء؛ فإنه مطلوب بالكل. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 إِلَيْهِ، وَانْبَنَتْ عَلَيْهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُفْرَضَ1 إِلَّا وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأُمُورِ الْمَطْلُوبَةِ الْجُمَلِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّوَابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ. بِخِلَافِ2 الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ كَالشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ قَبْلَ الطِّيبِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَرِدْ عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ إِلَّا عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ، [فَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ] 3 فِيهَا؛ فَذَلِكَ رَاجِعٌ إلى صيروة الثَّمَرَةِ كَالْجُزْءِ التَّابِعِ لِلشَّجَرَةِ4، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا مَعًا؛ فَارْتَفَعَ النَّهْيُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى ما تقدم، وحصل5 من ذلك اتحاد   1 في "ط": "تعرض" بالعين. 2 أي: فالأمر فيهما بالعكس؛ ففي توارد الأمرين لم يرد الأمر بالتابع إلا مستندًا للأمر بالمتبوع، بحيث لا يتأتى الأمر بالتابع وحده مقطوعًا فيه النظر عما جعل تابعًا له، بخلاف توارد الأمر والنهي؛ فإنه ما توجه النهي على التابع مثلا إلا مع قطع النظر عن المتبوع، حتى إذا نظر إلى المتبوع سقط النهي وأُلغي، هذا في ذاته ظاهر، ولكن الكلام في فائدة هذه المسألة عمليًّا، ولا يخفى أن معنى الاتحاد الذي ذكره بعد هو اتحاد في مورد الأوامر، على معنى أن ما يرد على التفاصيل والأوصاف وارد على الجملة باعتبار هذه الأوصاف، وإن كان هذا لا يقتضي ألا يكون للأمر بالأوصاف أثر جديد زائد على الأمر الوارد على المتبوع باعتبار التابع أقوى من الوارد على نفس المتبوع، وذلك كالتوفية في الكيل والميزان بالنسبة للبيع، وقد يكون بالعكس كما في الأمر بتأخير السحور، وقد يكون آتيًا ببيان أن هذا التفصيل تتوقف عليه الجملة كجزء أصلي منها أو كشرط، وهكذا، وسيأتي له في المسألة الثالثة عشرة بيان أوفى تعلم منه فائدة جليلة عملية لمسألتنا هذه، وقد أشار إليه هنا إشارة إجمالية بقوله: "وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات ... إلخ"؛ أي: فالضروريات تعتبر هي الجملة، وهي المتبوع والأصل، وما عداها من الحاجيات والتحسينات تفاصيل تابعة بين مؤكدة وغير مؤكدة. "د". 3 سقط من "ط". 4 في "ف": "الشجرة"، واستظهر المحقق الصواب. 5 رجوع إلى أصل المسألة وتلخيصها. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 الْأَمْرِ إِذْ ذَاكَ، بِمَعْنَى تَوَارُدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِهَا فِي نَفْسِهَا وَاعْتِبَارِ تَفَاصِيلِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا وَأَوْصَافِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَرَتِ الضَّرُورِيَّاتُ مع الحاجيات والتحسينات؛ فَإِنَّ التَّوْسِعَةَ وَرَفْعَ الْحَرَجِ يَقْتَضِي شَيْئًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّضْيِيقُ وَالْحَرَجُ، وَهُوَ الضَّرُورِيَّاتُ بِلَا شَكِّ1، وَالتَّحْسِينَاتُ مُكَمِّلَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَلْزِمَ أُمُورًا تَكُونُ مُكَمِّلَاتٍ لَهَا؛ لِأَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّكْمِيلَ وَالتَّوْسِيعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْضُوعٍ إِذَا فُقِدَ فِيهِ ذَلِكَ عُدَّ غَيْرَ حَسَنٍ وَلَا كَامِلٍ وَلَا مُوَسَّعٍ، بَلْ قَبِيحًا مَثَلًا أَوْ نَاقِصًا أَوْ ضَيِّقًا أَوْ حَرِجًا؛ فَلَا بُدَّ من رجوعها إلى أمر آخر مطلوب أَنْ يَكُونَ تَحْسِينًا وَتَوْسِيعًا تَابِعٌ فِي الطَّلَبِ لِلْمُحْسِنِ وَالْمُوَسَّعِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَبِ التَّبَعِيَّةِ وَطَلَبِ الْمَتْبُوعِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ تصور في الموضع قسم آخر، وهي:   1 في "ط": "بالشك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فَنَقُولُ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى [الْجُمْلَةِ، وَالْآخَرُ رَاجِعٌ إِلَى] بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَوْ جُزْئِيَّاتِهَا1 أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مَا يُبَيِّنُ جَوَازَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَلَهُ صُورَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالنَّهْيُ إِلَى أَوْصَافِهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ؛ كَالصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَالصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَصِيَامِ أَيَّامِ الْعِيدِ، وَالْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ، وَالْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْعَدْلِ فِيهِ، وَالْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ فِي الْبُيُوعِ وَنَحْوِهَا، إِلَى مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْجِعَ النَّهْيُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْأَمْرُ إِلَى أَوْصَافِهَا، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَالتَّسَتُّرِ بِالْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءٍ؛ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ" 2.   1 الضمير راجع إلى الجملة المفهومة من السياق. "ف". وفي "ط": "وجزئياتها". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-305". 2 أخرج الطحاوي في "المشكل" "1/ 20"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 244"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 330" عن ابن عمر؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بعد أن رجم الأسلمي؛ فقال: "اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم؛ فليستتر بستر الله تعالى، وليتب إلى الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته يقم عليه كتاب الله". قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وقال شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 663": "وهو كما قالا"، وعزاه أيضًا إلى أبي عبد الله القطان في "حديثه" "56/ 1"، والعقيلي في "الضعفاء" "203"، وأبي القاسم الحنائي في "المنتقى من حديث الجصاص وأبي بكر الحنائي" "160/ 2"، وابن سمعون في "الأمالي" "2/ 183/ 2". قلت: إسناده حسن من أجل أسد بن موسى، صدوق، وباقي إسناد المتقدمين على = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 وَإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النِّسَاءِ: 17] . وَرَوَى: "مَنْ مَشَى مِنْكُمْ إلى طمع فليمش رويدًا" 1.   = شرطهما، وأسد لم يخرجا له، ولا أحدهما، ولذا قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 487": "ليس على شرط البخاري"، وحسن إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 135". وأخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825 - رواية يحيى، ورقم 6769 - رواية أبي مصعب، و698 - رواية محمد بن الحسن الشيباني" ومن طريقه الشافعي في "الأم" "6/ 145"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 326"، و"المعرفة" "13/ رقم 17484، 17509" - عن زيد بن أسلم مرسلًا بلفظ: "من أصاب من هذه القاذورات شيئًا؛ فليستتر بستر الله، فإنه من ... ". قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 321" و"الاستذكار" "24/ 85": "لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه"، ومراده من حديث مالك، وإلا؛ فقد ذكر أن ابن وهب قد وصله في "موطئه" عن ابن عباس من طريق آخر، وبلفظ آخر، وقد ورد موصولًا -كما رأيت- من حديث ابن عمر، والعجب من إمام الحرمين؛ فإنه قال في النهاية عن هذا الحديث: "حديث متفق على صحته"، وقد تعجب منه ابن الصلاح وقال: "أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم"؛ لأن في اصطلاحهم أن المتفق عليه ما رواه الشيخان معًا، انظر: "شرح الزرقاني على موطأ مالك" "4/ 147". 1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "10/ 170-171/ رقم 10239"، و"الأوسط" -كما في "المجمع" "10/ 286"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 188 و8/ 340"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 158-159" مختصرًا دون ذكر ما عند المصنف- والقضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 146-147، 261/ رقم 199، 422"، وابن الأعرابي، ومن طريقه الخطابي في "العزلة" "ص36 - ط القديمة وص106 - ط المحققة"، ووقع في الطبعتين إسناد هذا الحديث للحديث الآتي بعده فيه، وهو خطأ؛ إذ سرد الخطابي الحديث، ثم قال: "أخبرنا" على أنه للمتن السابق"، وفي الطبعتين: "أخبرنا"، جميعهم من طريق إبراهيم بن زياد العجلي ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعًا: "الغنى اليأس عما في أيدي الناس، ومن مشى منكم إلى طمع فليمش رويدًا". قال أبو نعيم: "غريب من حديث عاصم، تفرد به عنه أبو بكر فيما أرى"، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ1 الْأُصُولِيُّونَ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ هُنَا. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَيُؤْخَذُ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ مَعْنَى2 كَلَامِهِمْ فِي الْأَوَّلِ، فَإِلَيْكَ النَّظَرُ فِي التَّفْرِيعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْجَرُّ هُنَا الْكَلَامُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهِيَ:   = وقال في الموطن الأول: "تفرد به إبراهيم عن أبي بكر". قلت: وإبراهيم بن زياد متروك، ولذا قال الحضرمي محمد بن عبد الله: "قلت لإبراهيم بن زياد: هذا -أي: روايته الحديث- رأيتَه في المنام؟ ". فغضب، وقال: "تقول هذا؟ ". قال أبو الفتح الأزدي: "إبراهيم بن زياد متروك الحديث". قال ابن الجوزي، وضعفه الصغاني في "الدر الملتقط" "رقم 11"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "260"، وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" للعسكري في "المواعظ"، وأشار إلى ضعفه، وكذا شيخنا الألباني في "ضعيفه" "رقم 3939". وانظر عن معناه: "تفسير القرطبي" "13/ 69". 1 وأن له أثرًا بفساد ما تعلق به النهي إذا كان للتحريم في العبادات خاصة، أو فيها وفي غيرها، والتفصيل بين ما تعلق النهي لعين الفعل وما تعلق بوصف ملازم، وما تعلق بوصف منفك، والخلاف في ذلك كله. "د". 2 المقام يحتاج إلى فضل تأمل، فإن مثل اتباع السيئة الحسنة كل منهما أمر منفصل عن الآخر عملًا ووقتًا، وكأنه قال: إذا صدرت منك سيئة؛ فالمطلوب منك أن تتدارك الأمر بفعل حسنة، هل هذا إلا طلب واحد بخلاف المثالين اللذين معه؟ فإنه توجه النهي للجملة والطلب للتابع ظاهر فيهما. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ 1: وَذَلِكَ تَفَاوُتُ الطَّلَبِ فِيمَا كَانَ مَتْبُوعًا مَعَ التَّابِعِ لَهُ، وَأَنَّ الطَّلَبَ المتوجه للجملة أعلا رُتْبَةً وَآكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الطَّلَبِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى التَّفَاصِيلِ أَوِ الْأَوْصَافِ أَوْ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ [الْمَتْبُوعَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ] التَّابِعَ2 مَقْصُودٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، [وَمَا قُصِدَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ آكَدُ فِي الشَّرع وَالْعَقْلِ مِمَّا يَقْصِدُ الثَّانِي] ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يُلْغَى جَانِبُ التَّابِعِ فِي جَنْبِ الْمَتْبُوعِ، فَلَا يُعْتَبَرُ التَّابِعُ إِذَا كَانَ اعْتِبَارُهُ يَعُودُ عَلَى الْمَتْبُوعِ بِالْإِخْلَالِ3، أَوْ يَصِيرُ مِنْهُ كَالْجُزْءِ أَوْ كَالصِّفَةِ أَوِ التَّكْمِلَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْمَتْبُوعِ فِي الِاعْتِبَارِ وَضَعْفِ التَّابِعِ؛ فَالْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَتْبُوعِ آكَدُ4 فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالتَّابِعِ.   1 هذه المسألة مرتبطة بالمسألة الحادية عشرة ارتباط الفرع بأصله؛ فهي مبنية عليها، وهي الفائدة العملية لها. "د". 2 في "ف": "المتبوع"، وقال: "كذا بالأصل، والصواب أن التابع … إلخ لأنه هو الذي يقصد ثانيًا بالعرض"، وما بين المعقوفتين فقط من "ط"، وفيه "التابع إنما يقصد بالقصد … ". 3 كما سبق في المسألة الثامنة، وقوله: "أو يصير منه كالصفة"؛ كما في المسألة الحادية عشرة، ومعنى عدم اعتباره ظاهر في الأول؛ لأن النهي مثلًا يرد على التابع كثمرة الشجرة قبل بدو صلاحها، فإذا بيعت تابعة للأصل ألغي النهي، أما إلغاء التابع في الثاني؛ فليس على معنى إهداره، بل معناه أنه متوجه إلى المكمل والموصوف باعتبار الوصف والتكملة، وليس هذا إلغاء حقيقة بل اعتبارًا فقط، ويحتمل أن يقرأ قوله: "أو يصير" بالنصب وأو بمعنى إلا. "د". 4 تقدم النظر في هذا بأنه قد لا يطرد؛ كما في مثال البيع وصفته من التوفية في الكيل مثلًا، وبالتتبع تجد في الشريعة من هذا أمثلة كثيرة؛ كصفات الصلاة النافلة المعتبرة من أركانها، وكأجزائها من القراءة والركعات فعلًا، وسيأتي يقول في الضابط: "فإن لم يصح؛ فذلك المطلوب قائم مقام الركن، والجزء من الضروري المقام، وبه يقيد الكلام هنا"، يعني: إلا إذا كان قصده ثانويًّا، ولكنه صار كجزء المتبوع؛ فلا يكون أضعف من المتبوع. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ يُعْلَمُ أَنَّ الْأَوَامِرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَجْرِي فِي التَّأْكِيدِ مَجْرًى وَاحِدًا، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَصْدٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ الْأَوَامِرَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لَيْسَتْ كَالْأَوَامِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأُمُورِ الْحَاجِيَّةِ وَلَا التَّحْسِينِيَّةِ، وَلَا الْأُمُورِ الْمُكَمِّلَةِ1 لِلضَّرُورِيَّاتِ كَالضَّرُورِيَّاتِ أَنْفُسِهَا، بَلْ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ مَعْلُومٌ، بَلِ الْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ لَيْسَتْ فِي الطَّلَبِ عَلَى وزانٍ وَاحِدٍ؛ كَالطَّلَبِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَصْلِ الدِّينِ لَيْسَ فِي التَّأْكِيدِ كَالنَّفْسِ وَلَا النَّفْسُ كَالْعَقْلِ، إِلَى سَائِرِ أَصْنَافِ الضَّرُورِيَّاتِ. وَالْحَاجِيَّاتُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الطَّلَبُ بِالنِّسْبَةِ إلى التمتعات المتاحة2 الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا كَالطَّلَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ما له معارض؛ كالتمتع بالذات الْمُبَاحَةِ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقَرْضِ3، والسَّلم، وَالْمُسَاقَاةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَلَا أَيْضًا طَلَبُ هَذِهِ كَطَلَبِ الرُّخَصِ الَّتِي يَلْزَمُ فِي تَرْكِهَا حَرَجٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا طَلَبُ هَذِهِ كَطَلَبِ مَا يَلْزَمُ فِي تَرْكِهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ التَّحْسِينِيَّاتُ4 حَرْفًا بِحَرْفٍ. فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَنَّ الأمر للوجوب5، أو للندب، أو للإباحة.   1 كحرمة النظر المكملة لحرمة الزنا، وحرمة شرب القليل من الخمر التي من شأنها عدم الإسكار مكملة لحرمة شرب الكمية المسكرة شأنًا. "د". 2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "الممتعات المباحة". 3 لما فيه من النسيئة؛ فهو مستثنى من المحرم للتوسعة ودفع الحرج، ومثله القراض والسلم وما معه، كلها دخلها نوع من الترخيص لدفع الحرج؛ فليست تستوي مع المباحات التي لا تعارضها كليات أخرى في الشريعة، فطلب هذه أقل من طلب المباحات التي لا معارض لها، وما في تركه حرج على الجملة كالتيمم في بعض أحواله، وما يَلْزَمُ فِي تَرْكِهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ كأكل الميتة للمضطر آكد؛ لأنه واجب إذا خشي الهلاك، وهي درجة تكليف ما لا يطاق لو كلف بالصبر. "د". وفي "ط": القراض ... وما أشبه ذلك". 4 أي: فليس طلب ستر العورة للمرأة الحرة كطلب إكرام الضيف، ومنع الربا ليس كطلب الورع في المتشابهات، وليس طلب مندوبات الطهارة كطلب أصل الطهارة، وكل هذه الأمثلة من مرتبة التحسينيات. "د". 5 أي: كما هو رأي الجمهور، وقال الرازي: "إنه الحق"، وقال أبو هاشم وعامة المعتزلة = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 أَوْ مُشْتَرَكٌ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ1 فِي تَقْرِيرِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمَعْنَى يَرْجِعُ2 إِلَى اتَّباع الدَّلِيلِ في كل أمر، وإذا كان كذلك؛   = حقيقة في الندب، وتوقف الأشعري والقاضي في أنه موضوع لأيهما، وقيل: توقفا فيه بمعنى أنه لا يدرى مفهومه؛ فيحتمل أن يكون مشتركًا بينهما وبين التهديد والتكوين والتعجيز، إلى آخر المعاني التي تذكر للأمر، وقيل: مشترك بين الوجوب والندب، وقيل: مشترك بينهما وبين الإباحة أيضًا، وقيل: هو للإباحة لأن الجواز محقق ولكل دليل في كتب الأصول، وقوله: "إلى هذا المعنى يرجع ... إلخ" لعله يعني أنه ينبغي رجوع إلى هذا وإن كان بعيدًا من كلامه، أما ظاهر كلامه من أن في تقريرهم ما يؤخذ منه الرجوع لهذا؛ فلا يظهر، وقولهم: "إنه للوجوب ما لم يدل دليل ... إلخ" لا يفيد مدعاه؛ لأن الخلاف في وضعه لغة أو شرعًا لأي معنى من هذا المعاني، فمن يقول بوضع لواحد منها يقول إنه مجاز في غيره، ومعلوم أن المجاز لا بد له من قرين؛ فهي الدليل الذي ينقله المؤلف عنهم بقوله: "ما لم يدل دليل" وشتان بين هذا وبين أن ما ذهب إليه من أن الأمر لم يوضع لواحد من هذا المعاني بخصوصه، وكيف يتأتى هذا ممن يقول إنه حقيقة في الوجوب أو حقيقة في الندب مثلًا، إنما كان يصح تقريبه ممن قال بالاشتراك الذي لا بد له من قرينة، أو ممن قال بالوقف كما قال المؤلف: إنه أقرب المذاهب إلى القبول!! "د". قلت: الراجح أنه للوجوب، وهو مذهب الجماهير واختيار كثير من المحققين، وانظر في المسألة: "المحصول" "2/ 44 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "2/ 423" و"التمهيد" "1/ 145" و"المستصفى" "1/ 423"، و"البرهان" "1/ 216"، و"الإحكام" "1/ 329" لابن حزم و"الإحكام" "2/ 144" للآمدي، و"روضة الناظر" "2/ 604"، وأصول السرخسي" "1/ 14"، و"إحكام الفصول" "ص195"، و"ميزان الأصول" "1/ 220"، و"التلويح" "1/ 150 – مع التوضيح"، و"المرآة" "1/ 28 – مع حاشية الإزميري"، و"جمع الجوامع" "1/ 291 – مع شرح المحلّي"، و"المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي" "ص704–706". 1 أي: يذكر وهو بيان لقوله غير ذلك، وقوله إلى هذا المعنى لا متعلق بقوله: "يرجع" الواقع خبرًا عن قوله: "فإطلاق"؛ فافهم. "ف". 2 بعيد من معنى قولهم: "مالم يدل ... إلخ"؛ فإنه يفيد أن القائل بالوجوب مثلا يطلق القول فيه بدون دليل، ولا يخرج عنه إلا إذا وجد دليل على خلافه، وشتان بين المعنيين، وانظر قوله: "لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب" الذي يفيد أنهم يطلقونه مع عدم الدليل؛ فلا يتم رجوع كلامهم إلى ما ذكره. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 رَجَعَ إِلَى مَا ذُكِرَ، لَكِنَّ إِطْلَاقَ الْقَوْلِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُهُ صَعْبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ الْوَاقِفِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُرْشِدُ إِلَى اعْتِبَارِ جِهَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ دُونَ صَاحِبَتِهَا. فَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أن ينتظر فِي كُلِّ أَمْرٍ: هَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ [طَلَبَ الضَّرُورِيَّاتِ، أَوِ الْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قِسْمِ الضَّرُورِيَّاتِ -مَثَلًا- نَظَرَ هَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ] فِيهَا1 بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، أَمْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي؟ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَهُوَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ2، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَطْلُوبِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي نَظَرَ؛ هَلْ يَصِحُّ إِقَامَةُ أَصْلِ الضَّرُورِيِّ فِي الْوُجُودِ بِدُونِهِ حَتَّى يُطْلَقَ3 عَلَى الْعَمَلِ اسْمُ ذَلِكَ الضَّرُورِيِّ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ؛ فَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ قَائِمٌ مقام الركن والجزء المقوِّم4 لِأَصْلِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِدُونِهِ؛ فَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلَكِنَّهُ مُكَمِّلٌ5 وَمُتَمِّمٌ؛ إِمَّا مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، وَإِمَّا مِنَ التَّحْسِينِيَّاتِ، فَيَنْظُرُ فِي مَرَاتِبِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ أَوْ نَحْوِهِ، بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ في الشرع في كل جزء منها6.   1 الأوضح أن يقول: "هل هو مطلوب فيه ... إلخ". "م". 2 أي: الذي فرض توجه الطلب إليه. "د". 3 أي: بحيث يبقى الضروري المذكور قائمًا، ولا ينهدم بانهدام هذا التابع كصلاة مثلا لم يستعمل لها السواك، أو لم يفعل سنة من سننها؛ فإنها لا تزال يطلق عليها شرعًا اسم الصلاة. "د". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "المقام"، وكتب "د": "لعل الأصل هكذا: "والجزء لأصل الضروري المقام" بضم الميم: صفة للضروري". 5 يعني: وهذا هو الذي يقال فيه: إنه أضعف في الطلب من المتبوع، أما ما يعتبر جزءًا ينهدم الأصل بانهدامه؛ فلا يقال فيه ذلك. "د". 6 في "ط": "الاستقرار في كل جزء منه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ، عَلَى الْقَصْدِ الأول ليس أمرًا بِالتَّوَابِعِ1، بَلِ التوابعُ إِذَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا مفتقرةٌ إِلَى اسْتِئْنَافِ أَمْرٍ آخَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُطْلَقَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدَاتِ؛ فَالتَّوَابِعُ هُنَا رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْدِيَةِ الْمَتْبُوعَاتِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، والأمرُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا مُطْلَقًا لَا مُقَيَّدًا، فَيَكْفِي فِيهَا إِيقَاعُ مُقْتَضَى2 الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ؛ فَلَا يَسْتَلْزِمُ إِيقَاعَهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلَا عَلَى صِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ وَجْهٍ أَوْ صِفَةٍ عَلَى الْخُصُوصِ، واللفظُ لَا يُشْعَرُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَجْدِيدِ أَمْرٍ يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. [فَصْلٌ] وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُفْتَقِرٌ فِي أَدَاءِ مُقْتَضَى الْمُطْلَقَاتِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنَّا إِذَا فَرَضْنَاهُ مَأْمُورًا بِإِيقَاعِ عَمَلٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَثَلًا، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ وَجْهٍ مَخْصُوصٍ؛ فَالْمَشْرُوعُ فِيهِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ لَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِوَجْهٍ وَلَا بِصِفَةٍ3 بَلْ أَنْ يَقَعَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَعُ الْأَعْمَالُ الِاتِّفَاقِيَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْإِطْلَاقِ؛ فَالْمَأْمُورُ بِالْعِتْقِ مَثَلًا أُمِر بِالْإِعْتَاقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تقييد   1 المراد بالتوابع هنا ما هو أخص مما سبق له في معناها كما قال بعد: "فالتوابع هنا راجعة ... إلخ" يعني: ليس أمرًا بجزئي خاص من جزئيات المأمور به معتبر من توابعه، وليس المراد أنه ليس أمرًا بأي تابع؛ فذلك لا يصح لأنه فيما سبق اعتبر الأجزاء مثلًا من توابع الكل كما قال في القراءة والذكر والخشوع بالنسبة للصلاة، ولا يعقل أن يقال: إن الأمر بالصلاة مثلا ليس أمرًا بالركعات والقراءات والسجدات، وفائدة المسألة قوله: "وينبني على هذا ... إلخ". "د". 2 كما تقدم أن المطلوب بالمطلق فرد مما يصدق عليه اللفظ لا فرض خاص، أي: فإذا أريد ذلك الخاص كان لا بد له من دليل يخصه، والمقيدات معتبرة توابع كما تقدم في المسألة الحادية عشرة؛ فإنها جزئيات، والمراد مما قصد بالقصد الأول ما عبر عنه فيها بالجملة، وقوله: "فلا بد من تعيين .... إلخ"؛ أي: حيث كانت مأمورًا بها كما هو الفرض. "د". 3 في "ط": "صفة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 مثلا بكونه ذكر دُونَ أُنْثَى، وَلَا أَسْوَدَ دُونَ أَبْيَضَ وَلَا كَاتِبًا دُونَ صَانِعٍ1، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِذَا الْتَزَمَ هُوَ فِي الْإِعْتَاقِ نَوْعًا مِنْ هذه الأنوع دُونَ غَيْرِهِ؛ احْتَاجَ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا؛ كَانَ التزامُه غيرَ مَشْرُوعٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا الْتَزَمَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا أَنْ يَقْرَأَ بِالسُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا دَائِمًا2، أَوْ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْ مَاءِ [الْبِئْرِ دُونَ مَاءِ] 3 السَّاقِيَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي هِيَ تَوَابِعٌ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ فِي الْمَتْبُوعَاتِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا، لَمْ يَصِحَّ فِي التَّشْرِيعِ، وَهُوَ عُرْضَةٌ4 لِأَنْ يكُرّ5 عَلَى الْمَتْبُوعِ بِالْإِبْطَالِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَأْمُورِ الْمَتْبُوعِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ يَقْتَضِي بَعْضَ الصِّفَاتِ أَوِ الْكَيْفِيَّاتِ التَّوَابِعِ؛ فَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ عَمَلٌ مُطْلَقٌ، لَا يَخْتَصُّ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ بِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلَا وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ؛ فَالْمُخَصَّصُ6 لَهُ بِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَوْ وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ لَمْ يُوقِعْهُ عَلَى مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ؛ فَافْتَقَرَ إِلَى دَلِيلٍ [يَدُلُّ] عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ، أَوْ صَارَ مُخَالِفًا لمقصود الشارع.   1 أراد بالصانع من له حرفة أخرى غير صنع لكتابة بدليل المقابلة، أو لعله صائغ بالغين المعجمة. "ف". 2 كما في الأذكار الخلوتية، ومثلها صلوات الأسبوع لياليه وأيامه؛ كما في "قوت القلوب" "1/ 58" وما بعدها"، و"الإحياء" "1/ 197"، وانظر: "فوائد حديثية" "ص111" لابن القيم وتعليقي عليه. 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأشار لذلك ناسخُه. 4 أي: لأن هذا المقيد متى وقف عنده، فقد لا يتيسر له فعله، كما في مثال التزام الوضوء من البئر، وقد يبطل ثوابه بمخالفة قصد الشارع في التزام ما لم يشرعه، وعده مشروعًا. "د". 5 مضارع كر من باب قتل. "ف". 6 أي: فالملتزم تخصيصه، وإلا؛ فهو لا يقع في الوجود إلا مخصصًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ1 فِي الْمَسْجِدِ؛ فَقَالَ: "لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ الْقَدِيمِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أُحْدِثَ"، قَالَ: "وَلَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوُّلُهَا وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ"، وَقَالَ أَيْضًا: "أَتَرَى النَّاسَ الْيَوْمَ أَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ ". قَالَ ابْنُ رُشْدٍ2: [يُرِيدُ أَنَّ] الْتِزَامَ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِإِثْرِ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ مَا مَخْصُوصٍ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ سُنَّةٌ مِثْلَ مَا [يُفْعَلُ] بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ أَثَرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ فَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً". قَالَ: "وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا وَجْهَ لِكَرَاهِيَتِهَا" وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جَمِيعًا فَيَقْرَءُونَ3 فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ؛ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ لِلدُّعَاءِ؛ فَكَرِهَهُ، فَقِيلَ لَهُ: فَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي مَجْلِسِهِ فيجتمع الناس إليه ويكبرون4.   1 سيأتي تقييده في كلام ابن رشد. "د". والنقل من "العتبية" "1/ 242- مع شرحها". 2 في "البيان والتحصيل" "1/ 242" 3 وهو ما تقدم له تسميته بطريق الإدارة، أي: يديرون الكلمات بينهم على صوت واحد كما ذكره في "الاعتصام" "2/ 30-31 و2/ 58-59 - ط ابن عفان"، وهو المسمى في عرف زماننا بالقراءة الليثية، وهي مع كونها ليست من عمل السلف فيها ضرر أنه قد يبني بعضهم على قراءة بعض مما يؤدي إلى سقوط بعض الكلمات من بعض القارئين، ومن ذلك حسنت تسميتها بالإدارة، كما يدير الشركاء مال الشركة بينهم ويبني بعضهم عمله على عمل شريكه. "د". قلت: انظر أيضًا: "الحوادث والبدع" "ص161"، و"البيان والتحصيل" "1/ 298". 4 لعلها "ويكثرون" بالمثلثة، فإن كان بالباء؛ فيكون من كبُر بالضم في الماضي والمضارع أي عظم، لا أنه من كبَّر بالتشديد من التكبير؛ أي قول: الله أكبر؛ لأنه غير الدعاء الذي جعله سببًا للاجتماع أولًا وآخرًا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 قَالَ: "يَنْصَرِفُ، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ"1. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ2: "كَرِهَ هَذَا وَإِنْ3 كَانَ الدُّعَاءُ حَسَنًا وَأَفْضَلُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ لِذَلِكَ بِدْعَةٌ4 وَقَدْ رُوي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أفضلُ الهدْي هدْيُ مُحَمَّدٍ، وشرُّ الْأُمُورِ مُحدَثاتُها، وكلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" 5" وَكَرِهَ مَالِكٌ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقْصِدَ6 الْقَارِئُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ فَقَطْ لِيَسْجُدَ فِيهَا7، وَكَرِهَ فِي "الْمُدَوَّنَةِ"8 أَنْ يَجْلِسَ9 الرِّجْلُ لِمَنْ سَمِعَهُ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ لَا يريد بذلك تعلمًا   1 نقل نحوه عنه مالك: الطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص115 - ط المغربية". وأبو شامة في "الباعث" "29 - بتحقيقي"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص181–182 – بتحقيقي"، وهو في "العتبية" "1/ 274 – مع شرحها". 2 في "البيان والتحصيل" "1/ 274". 3 في "م": "لو". 4 انظر في بدعية ذلك: "الاعتصام" "1/ 463" – ط ابن عفان"، و"الباعث" "117-123 – بتحقيقي"، و"الحوادث والبدع" "ص115-116" للطرطوشي، و"البدع والنهي عنها" "ص46" لابن وضّاح، و"السنن الكبرى" "5/ 118"، و"تاريخ دمشق" "16/ ق660-661 – المخطوط المصوّر"، و"المغني" "2/ 259 - مع الشرح الكبير"، و"المجموع" "8/ 277" و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص309-310"، و"الأمر بالاتباع" "ص181-185 – بتحقيقي". 5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، ولكن بلفظ: "وخير الهدي ... " إلخ. "خطبة الحاجة" لشيخنا الألباني. 6 أي: فالقصد إليها للسجود وصف واعتبار زائد يحتاج إى دليل. "د". 7 انظر في بدعية ذلك: "المدونة الكبرى" "1/ 200"، و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" "261" لأبي شامة، و"الأمر بالاتباع" "ص192" للسيوطي، كلاهما بتحقيقي. 8 "1/ 201" ونحوه في "العتبية" "1/ 278". 9 أي: ليسجد السجدة تبعًا له؛ لأنه لا يطلب بها إلا إذا جلس عند القارئ يتعلم منه، أي ليستفيد حفظًا أو تجويدًا كما هو مذهبه، ويبقى النظر في إدخال هذا في سلك الالتزامات التي يعيبها ويقول: إنها محتاجة لدليل لا وجود له. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 وَأَنْكَرُ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ1 فِي الْمَسَاجِدِ وَيُجْتَمَعُ عَلَيْهِ، وَرَأَى أَنْ يُقَامَ. وَفِيهَا2: "وَمَنْ قَعَدَ إِلَيْهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ قِرَاءَةَ سَجْدَةٍ قَامَ عَنْهُ وَلَمْ يَجْلِسْ مَعَهُ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ3: "سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الِاعْتِمَادَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يُحَرِّكَ رِجْلَيْهِ قَدْ عُرِفَ وَسُمِّىَ؛ إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَكَانَ مَسَاءً4 يَعْنِي يُساء الثَّنَاءَ عَلَيْهِ". قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: "جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يُرَوِّحَ الرَّجُلُ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ يُقْرِنَهُمَا5 حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ عَلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ؛ إِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ الْمَرْضِيِّينَ الْكِرَامِ، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ"6. وَعَنْ مَالِكٍ نَحْوَ هَذَا فِي الْقِيَامِ لِلدُّعَاءِ، وَفِي الدُّعَاءِ عِنْدَ خَتْمِ القرآن7.   1 إذا كان ملتزمًا لذلك؛ كان من موضوعه. "د". 2 أي: في "المدونة" "1/ 201". 3 نحو في "المدونة الكبرى":1/ 196"، والمذكور لفظ "العتبية"؛ كما في "الاعتصام" "2/ 542 – ط ابن عفان". 4 بفتح الميم: مصدر ساء يسوء، والثناء: الذكر بوصف حسن أو قبيح، والمعنى: أن هذا الرجل كان إذا ذكر يذكر بما يسوء، ولذلك كره الإمام أن يذكره. "ف". 5 أي: فالمكروه هو التزام أن يجعل رجليه متقارنين، بحيث يكون الاعتماد في كل الصلاة عليهما معًا بحالة متساوية، يقول: إن هذا التضييق بالتزام هذا القيد لم يأت فيه دليل؛ فهو بدعة. "د". 6 "البيان والتحصيل" "1/ 296"، ونقله المصنف عن ابن رشد في "الاعتصام" "2/ 542" بحروفه. 7 انظر: "الباعث" "ص261". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ1، وَالتَّثْوِيبِ لِلصَّلَاةِ2، وَالزِّيَادَةِ فِي الذَّبْحِ عَلَى التَّسْمِيَةِ المعلومة، أو القراءة فِي الطَّوَافِ دَائِمًا3، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ4، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ، يَكُونُ الْأَمْرُ وَارِدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَيُقَيَّدُ بِتَقْيِيدَاتٍ تُلْتَزَمُ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صِلَاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ 5 إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ" 6.   1 انظر كلامًا مسهبًا، وتحريرا بديعا غاية للمصنف في بدعية ذلك في: "الاعتصام" "1/ 452-479 - ط ابن عفان"، و"الفتاوى" له "ص127-129"، وقد أثارت هذه المسألة على المصنف بعض معاصريه، وأثر هو في بعض تلاميذه ومحبيه؛ فنزعوا مثله للمنع، انظر التفصيل ذلك في: "المعيار المعرب" "1/ 280-284، 286"، و"نفح الطيب" "5/ 512"، و"أزهار الرياض" "2/ 7". 2 انظر: "الاعتصام" "1/ 327، 328 - ط ابن عفان"، و"الفتاوى" "ص207" للشاطبي، و"المعيار المعرب" "2/ 467". 3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 426". 4 انظر في تقرير الكراهة: "الحاوي" "1/ 392" للسيوطي، و"تفسير القاسمي" "12/ 147-148، النور: 16"، و"نفحة الريحانة" "4/ 429" للمحبي، و"معجم المناهي اللفظية" "ص214". 5 أي: بحيث يكون يمينه إلى المصلين، ويساره إلى القبلة وقت التسبيح والتحميد أو عند مفارقة مكان صلاته، أي: فذلك بدعة ليست من الدين؛ فهي من حظ الشيطان ونصيبه، أما الانصراف منها بالسلام؛ فيندب فيه التيامن بتسليمة التحليل. "د". 6 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337/ رقم 852"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين، 2/ 492/ رقم 707" عن ابن مسعود؛ قال: "لا يجعل = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ1 أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا؛ فَقَالَ: [بَلْ] نَلْتَفِتُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَنَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ" كَأَنَّهُ [كَرِهَ] 2 الْتِزَامَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ، وَرَآهُ مِنَ الأمور التي لم يرد3 التزامها.   1 مثل أنس، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337" تعليقًا: "كان أنس ينفتل عن يمينه وعن يساره، ويعيب على من يتوخى -أو من يعمد- الانفتال عن يمينه"، ووصله مسدد في "مسنده الكبير"؛ كما في "الفتح" "2/ 338". وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 708" بسنده إلى السدي قال: "سألت أنسًا: كيف أنصرف إذا صليت؛ عن يمين، أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه". قال ابن حجر في "تغليق التعليق" "2/ 341": "والجمع بين هذين الأثرين أن أنسًا كان ينكر على من يرى الانصراف عن اليمين حتمًا واجبًا، أما كونه يفعل على سبيل الاستحباب؛ فلعله كان لا ينكره إن شاء الله جمعًا بين روايته ورأيه، والله أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 339-340/ ط دار الفكر"، وعبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3212" عن واسع بن حبان؛ قال: "كنت أصلي وابن عمر يسند ظهره إلى جدار القبلة، فانصرفت عن يساري؛ فقال: ما يمنعك أن تنصرف عن يمينك؟ قلت: لا؛ إلا أني رأيتك فانصرفت إليك. فقال: أصبت، إن ناسًا يقولون: تنصرف عن يمينك، وإذا كنت تصلي فانصرف إن أحببت عن يمينك أو عن يسارك". وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3211" عن نافع؛ قال: "ما كان ابن عمر يبالي على أي ذلك انصرف، عن يمينه أو عن شماله. قال: وذلك أني سألته عن ذلك". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "د" والأصل، وأثبته من "م" و"ف" و"ط". 3 كيف هذا وقد ورد النهي الشديد عن الالتفات في الصلاة بجملة أحاديث، خرج بعضها الشيخان والنسائي، وبعضها أبو داود والبخاري والنسائي، وقد نص المالكية على كراهته بغير حاجة مهمة، وعند الشافعية والحنفية أيضًا كراهته. "د". قلت: الصواب "سئل عن الانفتال" وليس "الالتفات"، وإلا؛ فقد كان ابن عمر يكره الالتفات كما في "مصنف ابن أبي شيبة" "2/ 41"، وكان يتغيظ منه غيظًا شديدًاكما في "الأوسط" "3/ 96" لابن المنذر، ولم يكن يلتفت في صلاته كما في "الموطأ" "1/ 137". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 وقال عمر: "واعجبًا لك يابن الْعَاصِ، لَئِنْ كُنْتَ تَجِدُ ثِيَابًا؛ أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَابًا؟ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُ لَكَانَتْ سُنَّةً، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره"1. هَذَا فِيمَا لَمْ يَظْهَرِ2 الدَّوَامُ فِيهِ؛ فَكَيْفَ مَعَ الِالْتِزَامِ؟ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْخُصُوصَاتِ فِي الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا كَانَ قَوْلًا بِالرَّأْيِ وَاسْتِنَانًا بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ انْبَنَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَسْأَلَةِ أَنَّ الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد.   1 أخرج مالك في "الموطأ" "1/ 50 - رواية يحيى و1/ 56/ رقم 137 - رواية أبي مصعب" عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب "أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريبًا من بعض المياه، فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح، فلم يجد مع الركب ماء؛ فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال له عمر بن الخطاب: واعجبا لك يا عمرو بن العاص ... إلخ". وإسناده صحيح. وأخرجه البيهقي "1/ 170" وفي "المعرفة" "1/ 265"، والخطيب في "التالي" "رقم 203 - بتحقيقي"، وانظر: "الاستذكار" "3/ 116". وفي "ط": "لو فعلتها لم أره". 2 أي: ومع ذلك خشي أن يداوم عليه، كما قال: "لكانت سنة". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ1 بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ2، وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي3 وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْرُجُ4 عَنْ أَصْلِهِ مِنَ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَيُتَبَيَّنُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ قَصْدِ الشَّارِعِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ فَيُتَنَاوَلُ عَلَى الْوَجْهِ5 الْمَشْرُوعِ، وَيُنْتَفَعُ بِهِ كَذَلِكَ، وَلَا يُنْسَى حَقُّ اللَّهِ فيه لا في   1 سواء أكان من المباحات أو من المندوبات أو من الواجبات المطلوبة طلب العزائم؛ كما سيشير إليه بعد في قوله: "وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب ... إلخ"، وإن كان المهم الذي سيفرع عليه فوائد المسألة هو بيان الفرق في أولية القصد وثانويته بين نوعي المباح المطلوب الفعل بالكل والمطلوب الترك بالكل، والذي سماه فيما تقدم ما لا حرج فيه، وعالج إخراجه من المخير فيه بين الفعل والترك، راجع المسألة الثالثة والمسألة الرابعة من المباح. "د". 2 قال "ماء": "أعني مقصد الشارع". 3 سيأتي تمثيله بالغناء المتضمن لراحة النفس والبدن، والراحة منشطة على الخير والعبادة ... إلخ؛ فالشارع لم يقصد إلى الغناء مباشرة، بل باعتبار ما تضمنه من الراحة المعينة على الخير؛ فقصده إليه بالتبع لتضمنه الراحة المنشطة التي تكون به وبالمطلوب بالكل وغير ذلك. "د". 4 يأتي بيانه في الوجوه بعد، من مثل قوله: "وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم، لا أنفس النعم"، ومثله قوله: "إن جهة الامتنان لا تزول أصلًا"، ومثل قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه الذم قد تضمن النعمة، واندرجت تحته لكنه غطى عليها هواه"؛ أي: فهي حتى عند كونها انتقلت إلى القصد الثاني لا يزال ما يتعلق به القصد الأول باقيًا فيها، كما قال: "ولم يهدم أصل المصلحة، وإلا؛ لانهدم أصل المباح"، وكذا يقال في المطلوب الترك بالكل. "د". 5 يأتي شرحه وما بعده في مثال الرغيف الآتي. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 سَوَابِقِهِ وَلَا فِي لَوَاحِقِهِ وَلَا فِي قَرَائِنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ؛ كَانَ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ إِنَّمَا وَضَعَهَا الشَّارِعُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِحَيْثُ لَا تَقْدَحُ فِي دُنْيَا وَلَا فِي دِينٍ، وَهُوَ الِاقْتِصَادُ فِيهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جُعِلَتْ نِعَمًا، وَعُدَّتْ مِنَنًا، وَسُمِّيَتْ خَيْرًا وَفَضْلًا. فَإِذَا خَرَجَ الْمُكَلَّفُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الحد [إلى] أن تكون1 ضرارًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الدِّينِ؛ كَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَذْمُومَةً لِأَنَّهَا صَدَّتْ عَنْ مُرَاعَاةِ وُجُوهِ الْحُقُوقِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ وَالْمُقَارِنَةِ أَوْ عَنْ بَعْضِهَا؛ فَدَخَلَتِ الْمَفَاسِدُ بَدَلًا عَنِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ ذَلِكَ تَحَمُّلُ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَكْتَفِي مِنْهَا بِوَجْهٍ مَا2، أَوْ بِنَوْعٍ مَا، أَوْ بِقَدْرٍ مَا، وَكَانَتْ مَصَالِحُهُ تُجْرَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ زَادَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا فَوْقَ مَا يُطِيقُهُ تَدْبِيرُهُ وَقُوَّتُهُ الْبَدَنِيَّةُ وَالْقَلْبِيَّةُ؛ كَانَ مُسْرِفًا، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ عَنْ حَمْلِ الْجَمِيعِ؛ فَوَقَعَ الِاخْتِلَالُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ؛ كَالرَّجُلِ يَكْفِيهِ لِغِذَائِهِ مَثَلًا رَغِيفٌ، وَكَسْبُهُ الْمُسْتَقِيمُ إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ لِأَنَّ تَهْيِئَتَهُ لَا تَقْوَى عَلَى غَيْرِهِ؛ فَزَادَ عَلَى الرَّغِيفِ مِثْلَهُ؛ فَذَلِكَ إِسْرَافٌ مِنْهُ فِي جِهَةِ اكْتِسَابِهِ أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ مَا يَكْفِيهِ مَعَ التَّقْوَى، فَصَارَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ اثْنَيْنِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي جِهَةِ تَنَاوُلِهِ؛ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْغِذَاءِ فَوْقَ مَا تَقْوَى عَلَيْهِ الطِّبَاعُ فَصَارَ [ذَلِكَ] شَاقًّا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا ضَاقَ نَفْسُهُ وَاشْتَدَّ كَرْبُهُ، وَشَغَلَهُ عَنِ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبِ فِيهَا الْحُضُورُ مَعَ الله تعالى،   1 كذا في "ط" والأصل، وفي "د" و"ف" و"م": "بأن تكون"، وصوب "ف" المثبت. 2 أي: من وجوه الكسب مثلًا في صنعة لها فروع متعددة، وقوله: "أو بنوع" كتجارة مثلًا، وقوله: "بقدر" بأن كان يكفيه من الأول أو الثاني حد فيتعلق في كل منهما بما هو خارج عن كفايته، مع كونه لا يحتمله استعداده، ومثله تعدد الزوجات وتنوع المآكل والملابس والمساكن ومقادير ذلك وهكذا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 وَفِي جِهَةِ عَاقِبَتِهِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ1، وَهَذَا قَدْ عَمِلَ عَلَى وَفْقِ الدَّاءِ فيوشك أن يقع به.   1 هي بفتحات: التخمة وثقل الطعام على المعدة، وفي حديث ابن مسعود: "كل داء أصله البردة". "ف". قلت: الحديث ضعيف بمفرداته كلها، كما أفاده السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص62". فورد مرفوعًا عن ثلاثة من الصحابة، هم: أنس بن مالك: أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 513"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 204"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27"، وابن السني -كما في "المنهج السوي" "رقم 96"- والمستغفري في "الطب النبوي" -وهو مطبوع قديمًا في طهران، لم أظفر به للآن- والداقطني في "العلل" -كما في "إتحاف السادة المتقين" "7/ 400"- وفي إسناده تمام بن نجيح، وهو هالك، يروي أشياء موضوعة عن الثقات، كأنه المتعمد لها. عبد الله بن عباس: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "6/ 2318"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27"، وفيه مسلمة بن علي، قال البخاري وأبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال ابن معين ودحيم: "ليس بشيء"، وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: "متروك". أبو سعيد الخدري: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "3/ 981"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27-28"، وابن السني -كما في "المنهج السوي" "رقم 97"-. قال ابن عدي: "والحديث بهذا الإسناد باطل". قلت: هو من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، ورواية دراج عن أبي الهيثم مشهور ضعفها. وورد عن ابن مسعود قوله، يرويه الأعمش عن خيثمة عنه، قاله ابن قتيبة في "غريبه" "2/ 225"، والخطابي في "غريبه" "3/ 263" و"إصلاح خطأ المحدثين" "ص33 - ط لجنة الشبيبة السورية بالقاهرة، سنة 1355هـ -1936م"، وقال: "البرَدة؛ مفتوحة الراء: التخمة، أصحاب الحديث يقولوا: البُرْدَة "البَرْد"، وهو غلط. وقال ابن قتيبة: "وسميت التخمة بردة، لأنها تبرد حرارة الجوع والشهوة وتذهب بها، وما أكثر ما تأتي "فعلة" في الأدواء والعاهات". وذكر الزمخشري في "الفائق" "1/ 102" أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه. ورجح الدارقطني أنه من قول الحسن، وقال: "وهو أشبه بالصواب". وانظر: "تذكرة الحفاظ" "رقم 119" لابن ظاهر المقدسي، و"الميزان" "1341"، و"إتحاف السادة المتقين" "7/ 400"، و"الدرر المنتثرة" "15". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ أَحْوَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي حِينِ الْإِسْرَافِ؛ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْجَالِبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَفْسَدَةَ، لَا نَفْسَ الشَّيْءِ الْمُتَنَاوَلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ غِذَاءٌ تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ. فَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحَالَةَ1؛ وَجَدْتَ الْمَذْمُومَ تَصَرُّفَ الْمُكَلَّفِ فِي النِّعَمِ، لَا أَنْفُسِ2 النِّعَمِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ آلَةً لِلْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ ذُمَّتْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَهُوَ الْقَصْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَصْدِ الْمُكَلَّفِ الْمَذْمُومِ، وَإِلَّا؛ فَالرَّبُّ تَعَالَى قَدْ تَعَرَّفَ إِلَى عَبْدِهِ بِنِعَمِهِ، وَامْتَنَّ بِهَا قَبْلَ النَّظَرِ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مَحْمُودَةٌ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا ذُمت حِينَ صَدَّتْ مَنْ صَدَّتْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ3، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ جِهَةَ الِامْتِنَانِ لَا تَزُولُ4 أَصْلًا، وَقَدْ يَزُولُ الْإِسْرَافُ رَأْسًا، وَمَا هُوَ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى حَالٍ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَا قَدْ يَزُولُ؛ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَخَذَ الْمُبَاحَ كَمَا حُدَّ5 لَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الذَّمِّ   1 في الأصل: "الحاجة". 2 في "ط": "نفس". 3 في الأصل و"ط": "حين صدت عن سبيل الله من صدت". 4 وحيث إنها لا تزول رأسًا، فتجيء مع جهة الإسراف المذموم ويغطي عليها؛ فهذا قريب من قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه الذم ... إلخ"؛ فهما متلازمان شديدا القرب، إلا أنه لوحظ في الأول مجرد عدم الزوال، ولوحظ في الثاني الاندراج تحت وجه الذم وتغطيته عليه؛ فلذلك جعلهما في معنى دليل واحد، وترجم لما بعدهما بالثالث لا بالرابع" "د". 5 في "ف": "كما حاله"، واستظهر المحقق المثبت، وهو الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 شَيْءٌ، وَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ دَاعِي هَوَاهُ وَلَمْ يُرَاعِ مَا حُدَّ لَهُ، صَارَ مَذْمُومًا فِي الْوَجْهِ الَّذِي اتَّبَعَ فِيهِ هَوَاهُ، وَغَيْرَ مَذْمُومٍ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ وَجْهَ الذَّمِّ قَدْ تَضَمَّنَ النِّعْمَةَ وَانْدَرَجَتْ تَحْتَهُ، لَكِنْ غَطَّى عَلَيْهَا هَوَاهُ، وَمِثَالُهُ أَنَّهُ إِذَا تَنَاوَلَ مُبَاحًا عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ؛ فَقَدْ1 حَصَلَ لَهُ فِي ضِمْنِهِ جَرَيَانُ مَصَالِحِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَشُوبَةً؛ فَبِمَتْبُوعِ هَوَاهُ2، وَالْأَصْلُ هُوَ النِّعْمَةُ، لَكِنَّ هَوَاهُ أَكْسَبَهَا بَعْضَ أَوْصَافِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يَهْدِمْ أَصْلَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِلَّا؛ فَلَوِ انْهَدَمَ أَصْلُ الْمَصْلَحَةِ لَانْعَدَمَ أَصْلُ الْمُبَاحِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ أَصْلُ الْمُبَاحِ وَإِنْ كَانَ مَغْمُورًا تَحْتَ أَوْصَافِ الِاكْتِسَابِ وَالِاسْتِعْمَالِ الْمَذْمُومِ3؛ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ4 عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمُبَاحِ مَذْمُومًا وَمَطْلُوبَ التَّرْكِ إِنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ الثاني لا بقصد الْأَوَّلِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ كقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ   1 هكذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "قد". 2 ولعله: "فبمتبوعيته هواه"؛ أي: بسبب جعله هواه متبوعًا؛ فتأمل. "ف". 3 الاستعمال المذموم هو التعسف بعينه؛ لأن أصل المباح مشروع وغير مذموم، ومأتى الذم هو كيفية هذا الاستعمال وتوجيهه؛ إذ فيه الخروج عن الاعتدال والاقتصاد في التصرف، وقد وردت في الاقتصاد والاعتدال والإنصاف وذم الغلو والإجحاف نصوص كثيرة، ذكر بعضًا منها السخاوي في "الجواب الذي انضبط"، انظره بتحقيقنا، وانظر "الوسيطة في الإسلام" لمحمد مدني، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "254-257" للأستاذ فتحي الدريني. 4 أي: كما يدل على صحة قوله هناك: "وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ أَصْلِهِ من القصد الأول"؛ كما أشرنا لذلك، وهو ظاهر باعتبار أحدهما الذي شرحه هنا وهو المطلوب الفعل، وإنما اقتصر على إفادة دلالته على ما قال؛ لأنه الذي جعله رأس المسألة، ثم ينظر في المطلوب الترك: هل يؤخذ من كلامه الآتي ما يدل على أنه أيضًا عندما صار مطلوبًا بالقصد الثاني بقي ما يتعلق به القصد الأول؟ فعليك بالتأمل؛ لأن قوله: "وكل منهما لا يخرج عن أصله" دعوى أخرى غير أصل المسألة، تحتاج إلى بيان ودليل. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النَّحْلِ: 72] . [وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ] وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243، يوسف: 38] . وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ... } إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14] . فَهَذِهِ الْآيَاتِ وَأَشْبَاهُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بُثَّ فِي الْأَرْضِ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى أَصْلِ مَا بُثَّ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا وُضِعَ لَهُ فِيهَا اخْتِيَارٌ بِهِ يُنَاطُ1 التَّكْلِيفُ دَاخَلَتْهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الشَّوَائِبُ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ خَالِصَةٌ، فَإِذَا جَرَتْ فِي التَّكْلِيفِ بِحَسَبِ الْمَشْرُوعِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الشُّكْرُ، وَهُوَ جَرْيُهَا على ما وضعت له أَوَّلًا، وَإِنْ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الْكُفْرَانُ، وَمِنْ ثَمَّ انْجَرَّتِ الْمَفَاسِدُ وَأَحَاطَتْ بِالْمُكَلَّفِ، وَكُلٌّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] . وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا". فَقِيلَ: أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ: "لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا 2 بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا   1 في "ف": "نياط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب. 2 أي: إذا سار في طريقه واستعمله في حدود، فإذا انحرف به عن حده؛ جر إلى المفاسد، ولكن ليس هذا من طبيعة الخير، وإنما هو مما دخل عليه، كما أشار إليه الحديث؛ فإن الربيع به حياة الإنسان والحيوان، ومع ذلك؛ فقد تستعمل الماشية من آثاره النابتة ما يقتلها أو يقرب من قتلها، وذلك من تصرفها هي، فإذا كان ما أكلته ضارًا بطبعه؛ فيكون ذلك من تركها النافع وتناولها الضار، وإذا كان ما أكلته في ذاته نافعًا ولكنها زادت عن حاجتها منه؛ يكون المثل أظهر، ورواية البخاري وبعض روايات مسلم هكذا: "مما بنبت الربيع"، وفي بعض روايات مسلم: "كل ما ينبت الربيع"، والمعنى عليه متعين في الوجه الثاني، وأن جميع ما ينبته المطر يضر إذا استعمل على غير وجهه، أما إذا استعمل على وجهه وبالمقدار المناسب كعمل آكلة الخضر؛ فإنه لا يضر، والحبط انتفاخ بطن البعير من المرعى الوخيم، يقال: حبط بطنه إذا انتفخ فمات. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ" 1 الحديث. وأيضًا؛ فباب سد الذرائع مع هَذَا الْقَبِيلِ؛ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى طَلَبِ تَرْكِ مَا ثَبَتَ طَلَبُ2 فِعْلِهِ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفَاصِيلِهِ؛ فَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مِمَّا يُبْطِلُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى مِثْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] . وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 108] . وَشِبْهُ ذَلِكَ، وَالشَّوَاهِدُ فِيهِ كَثِيرَةٌ. وَهَكَذَا3 الْحُكْمُ فِي الْمَطْلُوبِ طَلَبَ النَّدْبِ، قَدْ يَصِيرُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مَطْلُوبَ التَّرْكِ، حَسْبَمَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ التَّعَمُّقِ وَالتَّشْدِيدِ4، وَالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ5،   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومضى "1/ 177". وفي الأصل: "للربيع". والحَبَط، بفتحتين: وجع يأخذ الإبل في بطونها من كلأ تستوبله، والمرض الحُباط -بالضم-، وقوله: "يُلِم" -بضم فكسر- أي: يقرب من القتل، وهو مثل المفرط في جمع الدنيا، مع منع ما جمعه من حقه. "ف". 2 المراد بالطلب الإذن وسيأتي في المسألة الثامنة عشرة، يقول في "سد الذرائع": "هو مَنَعَ الْجَائِزَ لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الْمَمْنُوعِ"، وقد أولنا الجائز هناك بهذا أيضًا. "د". 3 تكميل لبقية أنواع ما دخل في القسم الأول من المسألة، ولما كان كون طلب المندوب والواجب بالقصد الأول لا يحتاج إلى بيان كما احتاج المباح، وإنما الحاجة فيهما إلى بيان أنهما قد يصيران مطلوبي الترك بالقصد الثاني اقتصر عليه. "د". وفي "ط": "وهذا". 4 انظر ما مضى "1/ 527 و2/ 208، 228". 5 انظر ما مضى "1/ 526، 2/ 208". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 وَسَرْدِ الصِّيَامِ1، وَالتَّبَتُّلِ2، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَمِثْلُهُ الْمَطْلُوبُ طَلَبَ الْوُجُوبِ عَزِيمَةً، قَدْ يَصِيرُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مَطْلُوبَ التَّرْكِ، إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ فِيهِ مُشَوِّشًا3 وَعَائِدًا عَلَى الْوَاجِبِ بِالنُّقْصَانِ؛ كَقَوْلِهِ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" 4، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ رَاجِعٌ إِلَى مَا بُثَّ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى مَا وُضِعَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى سَوَاءٍ5؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] .   1 انظر ما مضى "2/ 240"، وفي "ط": "أو سرد". 2 انظر ما مضى "1/ 522، 2/ 228". 3 وهو ما تبلغ المشقة فيه حالة لا طاقة للمكلف بالصبر عليها طبعًا؛ كالمرض الذي يعجز فيه عَنِ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِهَا مَثَلًا، أو عن الصوم خوف فوت النَّفْسِ، أَوْ شَرْعًا؛ كَالصَّوْمِ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى إتمام أركانها؛ فهذا الضرب رَاجِعٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ، فَالتَّرَخُّصُ فِيهِ مَطْلُوبٌ، وقد جاء في مثله: "ليس من البر ... " الحديث كما تقدم له في المسألة الخامسة من مبحث الرخص؛ فقد صار المطلوب واجبًا بالقصد الأول، مطلوب الترك بالقصد الثاني عند هذه العوارض. "د". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلِّل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم 1115" عن جابر رضي الله عنه، ومضى تخريجه مفصلًا "1/ 517". 5 راجع إلى المدح والذم؛ أي: فليس القصد الأول للشارع فيها أنها ممدوحة كما هي الدعوى. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] . وَقَوْلُهُ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] . وَقَدْ مَرَّ أَنَّ التَّكَالِيفَ وُضِعَتْ لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ لِيَظْهَرَ فِي الشَّاهِدِ مَا سَبَقَ الْعِلْمُ بِهِ فِي الْغَائِبِ، وَقَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، لَكِنْ بِحَسَبِ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ، وَالِابْتِلَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَهُ1 جِهَتَانِ، لَا بِمَا هُوَ ذُو جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِذَلِكَ تَرَى النِّعَمَ الْمَبْثُوثَةَ فِي الْأَرْضِ لِلْعِبَادِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ، وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، وَتَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى سَوَاءٍ، فَإِذَا عُدَّتْ نِعَمًا وَمَصَالِحَ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِ؛ فَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِتَنًا وَنِقَمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَصَرُّفَاتِهِمْ أَيْضًا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَبْثُوثَةَ للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ومهيئة لِلتَّصَرُّفَيْنِ مَعًا، فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ الْمَبْثُوثَةُ فِي الْأَرْضِ لِلتَّكْلِيفِ بِهَذَا الْقَصْدِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ فَكَيْفَ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ؟ حَتَّى يُعَدَّ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ هُوَ بَثُّهَا نِعَمًا فَقَطْ؟ وَكَوْنُهَا نِقَمًا وَفِتَنًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَصْدِ الثَّانِي. فَالْجَوَابُ أَنْ لَا مُعَارَضَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ الَّتِي نَصَّتْ عَلَى أَنَّهَا نِعَمٌ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الشَّوَائِبِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا مَا هُوَ ظَاهِرُهَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ، أَوْ يُرَادُ بِهَا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ2 فِي العقل ولا يوجد   1 في غير "د": "يكون له"، وكتب "د": "لعله: "بما له جهتان" كما يدل عليه لاحقه". 2 هذا الوجه الأول لإثبات أنه لا تصح المعارضة، وذلك بنقض دليلها نقضًا إجماليًّا بأنه لو صح لما صحت جهة امتنان الله بها المقتضية أنها نعم خالصة، وأيضًا؛ فإننا باستقراء أنواع النعم نتحقق أنها نعم خالصة قطعًا كما صنع، والوجه الثاني بإزالة سبب الشبهة التي انبنت عليها المعارضة، وذلك أن ما يرى من كون هذه الأشياء نقمًا على البعض ليس آتيًا من جهتها، بل من جهة سوء التصرف فيها من المكلف كما سيوضحه؛ فتغاير الوجهان. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 فِي السَّمْعِ أَنْ يُخْبِرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَمْرٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّا إِنْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَبْثُوثَاتِ لَيْسَتْ بِنِعَمٍ خَالِصَةٍ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِقَمٍ خَالِصَةٍ؛ فَإِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهَا بِأَنَّهَا نِعَمٌ وَأَنَّهُ امْتَنَّ بِهَا وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ وَمَظِنَّةً لِحُصُولِ الشُّكْرِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ، ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا فِي تَفَاصِيلِ النِّعَمِ؛ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النَّحْلِ: 10] . إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا؛ أَفَيَصِحُّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا نِعَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ وَنِقَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ؟ هَذَا كُلُّهُ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْمَعْقُولِ [وَالْمَنْقُولِ] 1. وَالشَّوَاهِدُ2 لِهَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ هُدًى وَرَحْمَةً وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهُ النُّورُ الْأَعْظَمُ، وَطَرِيقُهُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيهِ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 26] . وَأَنَّهُ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 2] لَا لِغَيْرِهِمْ. وَأَنَّهُ: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لُقْمَانَ: 3] . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أُنزل الْقُرْآنُ لِيَكُونَ هُدًى لِقَوْمٍ وَضَلَالًا لِآخَرِينَ، أَوْ: هُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ هُدًى أَوْ ضَلَالًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ.   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 في "ط": "والشاهد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 لَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَصِحُّ بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورِينَ1 فِي أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَأَنَّهَا سُلَّمٌ إِلَى السَّعَادَةِ، وَجِدٌّ لَا هَزْلٌ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] . لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا حَقٌّ2 إِذَا حَمَلْنَا التَّعَرُّفَ3 بِالنِّعَمِ عَلَى ظَاهِرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، كَمَا يَصِحُّ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَشِفَاءً وَنُورًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخِلُّ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فِي بَثِّ النِّعَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ النِّعَمِ تَئُولُ بِأَصْحَابِهَا إِلَى النِّقَمِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ الْمُكَلَّفِ4؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ نِقَمًا فِي أَنْفُسِهَا، بَلِ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى غير   1 أحدهما الاعتبار المجرد عن الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الدُّنْيَا، مِنْ كَوْنِهَا متعرفًا للحق ومستحقًا لشكر الواضع لها، والثاني: الاعتبار المنظور فيه لهذه الحكمة، وسيأتي للمؤلف في المسألة الثالثة من تعارض الأدلة بيان مسهب حسن جدًّا في توجيه الاعتبارين، يعني: وعليه، فيصح توجه المدح والذم إلى النعم بهذين الاعتبارين. "د". 2 أي: صحيح توجيه الأمرين إلى النعم بهذين الاعتبارين، ولكن على أنهما ليسا مستويين، بل الأصل هو الوجه الممدوح وهو التعرف بالنعم؛ كما يدل عليه ظاهر الآيات، وما عداه من الفتن واللهو والغرور ليس بالقصد الأول، بل باعتبار العوارض الخارجة عما قصد منها قصدًا أوليًّا، كما يقال في هداية القرآن: هي الأصل الذي لا شك فيه، وقد عرض لأصحاب النفوس الفاسدة ما جعله يزيدهم غيًّا وضلالًا بالطعن فيه بأنه سحر وكذب إلى آخر إفكهم، وعند التأمل لا يجد أنه ضللهم في شيء من الحقائق كانوا عرفوها وبسببه انحرفوا عنها، وإنما كل ما يتعلق بإضلالهم به زيادتهم في الكفر بجحده والطعن فيه وفيمن جاء به، فلم يكن أحد على هدى ثم ضل بسبب القرآن؛ فاعرف هذه السانحة، وهي تؤيد ما يريده المؤلف، وأن ذلك ليس من القصد الأول بالقرآن، وفي قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] إشارة إلى هذا كما يأتي. "د". 3 في "م": "التعريف". 4 في الأصل و"ف" و"ط": "التكليف"، واستظهر "ف" الصواب وقال: "أي: استعماله المكلف لها وأخذه إياها على غير وجهها" ا. هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 الْوَجْهِ الْمَقْصُودِ فِيهَا هُوَ الَّذِي صَيَّرَهَا كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ مِهَادًا وَالْجِبَالِ أَوْتَادًا وَجَمِيعَ مَا أَشْبَهَهُ نِعَمٌ ظَاهِرَةٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ1؛ فَلَمَّا صَارَتْ تُقَابَلُ بِالْكُفْرَانِ بِأَخْذِهَا عَلَى غَيْرِ مَا حُدَّ2 صَارَتْ عَلَيْهِمْ وَبَالَا، وَفِعْلُهُمْ فِيهَا هُوَ الْوَبَالُ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا هِيَ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَعَانُوا بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَرَى شَأْنُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا مُثِّلَتْ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ، تَرَكُوا التَّأَمُّلَ وَالِاعْتِبَارَ فِيمَا قِيلَ لَهُمْ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَأَخَذُوا فِي ظَاهِرِ التَّمْثِيلِ بِالْعَنْكَبُوتِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى الْمَقْصُودِ3، وَقَالُوا: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26] ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحَقِيقَةِ السَّابِقَةِ فِيمَنْ شَأْنُهُ هَذَا بِقَوْلِهِ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [الْبَقَرَةِ: 26] .   1 في "ط": "لا تتغير". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "غير مأخذ". 3 أخرج الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26] ، قال: وذلك أن الله ذكر آلهة المشركين، فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج: 73] ، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيتم حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... } . وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عبد الغني، وهو واهٍ جدًّا، وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية، قاله السيوطي في "لباب النقول" "ص16". وأخرج عبد الرزاق "1/ 41"، وابن جرير "1/ 177"، وابن أبي حاتم "1/ 93/ رقم 274"، كلهم في "التفسير" عن معمر عن قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران!! فأنزل الله الآية، وحكاه الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" نحوه عن الحسن وقتادة بلا إسناد بلفظ: "قالت اليهود". وأخرجه ابن أبي حاتم "برقم 273"، وابن جرير "1/ 177" عن السدي بلفظ: "قال المنافقون"، وهو أنسب. وانظر: "4/ 212". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الْبَيَانَ الْمُنْتَظَرَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 26] نَفْيًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ بِقَصْدِ الْإِضْلَالِ لِقَوْمٍ وَالْهِدَايَةِ لِقَوْمٍ، أَيْ: هُوَ هُدًى كَمَا قَالَ أَوَّلًا {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 2] ، لَكِنَّ الْفَاسِقِينَ1 يَضِلُّونَ بِنَظَرِهِمْ إلى غيرهم الْمَقْصُودِ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، كَذَلِكَ هُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَوْبِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ مِنْ أَجْلِهِ، وَهَذَا الْمَكَانُ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى2، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ صَارَتِ النِّعَمُ نِعَمًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَكَوْنُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْذِهِمْ لَهَا عَلَى غَيْرِ الصَّوْبِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى الْقَصْدِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هُوَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ3؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّ الْمَطْلُوبَ الْفِعْلِ؛ صَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا قَطْعُ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ ينتظر حصوله منه على الخصوص؛ فسماع4 الْغِنَاءُ الْمُبَاحُ مَثَلًا لَيْسَ بِخَادِمٍ لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ وَلَا تَكْمِيلِيٍّ، بَلْ قَطْعُ الزَّمَانِ بِهِ صَدٌّ عَمًّا هُوَ خَادِمٌ5 لِذَلِكَ؛ فَصَارَ خَادِمًا لِضِدِّهِ. وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّهْوِ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّارِعُ بَاطِلًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الْجُمُعَةِ: 11] ، يَعْنِي: الطبل أو المزمار أو الغناء.   1 في "ط": "الفاسقون". 2 حيث تقرر فيها أن الإرادة جاءت على معنيين: قدرية، وأمرية، وأنه تعالى أعان أهل الطاعة؛ فجاء فعلهم على وفق الإرادتين، ولم يعن أهل المعصية؛ فجاء فعلهم على وفق الأولى فقط، وتقدم له إشارة إليه آنفًا في قوله: "وكل بقضاء الله وقدره". "د". 3 أي: وإن كان لا حرج في جزئيه بالقصد الثاني، بل قد يكون مطلوبًا بهذا القصد. "د". 4 هكذا في الأصل، وفي غيره: "فصار". 5 لم يقل: "صد عن هذه الأمور الثلاثة"؛ لأنه لو كان كذلك لكان منهيًّا عنه بالجزء أيضًا لا بالكل فقط، وإنما هو معطل للمباحات الأخرى من طريق الكسب وغيرها، الخادمة للمراتب الثلاثة، فيكون خادمًا لضد هذه المراتب، فكان مذمومًا بالقصد الأول. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 [أَوِ اللَّعِبَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لُقْمَانَ: 6] ، وَهُوَ الْغِنَاءُ] ، وَقَالَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلدُّنْيَا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} 1 الْآيَةَ [مُحَمَّدٍ: 36] . وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثَلَاثَةً2"3. فَعَدَّهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ إِلَّا الثَّلَاثَةُ، فَإِنَّهَا4 لَمَّا كَانَتْ تَخْدِمُ أَصْلًا ضَرُورِيًّا أَوْ لَاحِقًا بِهِ؛ اسْتَثْنَاهَا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا بَاطِلًا. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ لَمْ يَقَعِ الِامْتِنَانُ بِهِ، وَلَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ تَقْرِيرِ النِّعَمِ كَمَا جَاءَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ فَلَمْ يَقَعِ امْتِنَانٌ بِاللَّهْوِ مِنْ حَيْثُ [هُوَ] 5 لَهْوٌ، وَلَا بِالطَّرَبِ وَلَا بِسَبَبِهِ6 مِنْ جِهَةِ مَا يُسَبِّبُهُ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ العائدة   1 فاللهو ذكر في هذه الآية في معرض الذم، وقد جعل الطبل وما معه في الآية السابقة من اللهو، فيكون الطبل وما معه مما هو في معرض الذم في نظر الشارع بالقصد الأول. "د". 2 تقدم أنها الزوجة والفرس وآلات الرمي. 3 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله الحمد. 4 في الأصل: "لأنها". 5 زيادة من الأصل و"م" و"ط". 6 أي: والامتنان بالثلاثة المذكورة وأمثالها ليس من جهة أنها لهو، بل من جهة ما فيها من الفائدة الخادمة للنسل كما في الأول، أو للدين كما في غيره، فانظر إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الآية [الروم: 21] ، وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، وقد فسرت القوة ببعض ما تنطلق عليه من رمي النبل، وما وقع فيه من الفائدة، وإن كان ظاهره من اللهو، لكنه لما جرت به محاسن العادات، ففيها التزاوج، وتأديب الخيل، وتعلم الرماية، أما قسم الغناء وما معه، فإنه خارج عن العادات المستحسنة، ويمكن أن يعتبر قوله: "وهو على وفق ... إلخ" وجهًا آخر مستأنفًا؛ كأنه يقول: وأيضًا؛ فإن ما فيه الفائدة المذكورة جارٍ على وفق محاسن العادات، بخلاف هذا القسم فخارج عنها، وهذا دليل على ذمه بالقصد الأول، وإن كان ظاهر كلامه أنه من الوجه الثالث؛ إلا أنه يبقى الكلام في ضابط محاسن العادات وسيئاتها: هل ما يتفق على كونه حسنا في كل أمة وكل وقت، أم ما هو؟ "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 لِخِدْمَةِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ مَا جَرَى فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا القسم خارج عنها بالجملة. ويتحقق ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ وُجُوهَ التَّمَتُّعَاتِ هُيِّئَتْ لِلْعِبَادِ أَسْبَابُهَا خَلْقًا وَاخْتِرَاعًا؛ فَحَصَلَتِ الْمِنَّةُ بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا تَجِدُ لِلَّهْوِ أَوِ اللَّعِبِ تَهْيِئَةً تَخْتَصُّ1 بِهِ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَبْثُوثَةٌ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ جِهَتِهَا تَعَرُّفٌ بِمِنَّةٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الْأَعْرَافِ: 32] . وَقَالَ: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ: 10-22] . وَقَوْلِهِ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النَّحْلِ: 8] . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ2، وَلَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ تَعَرُّفَ اللَّهِ إِلَيْنَا بِشَيْءٍ خُلِقَ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُصُولَ اللَّذَّةِ وَرَاحَةِ النَّفْسِ وَالنَّشَاطِ لِلْإِنْسَانِ مَقْصُودٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَبْثُوثًا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، كَلَذَّةِ الطَّعَامِ، والشراب، والوقاع،   1 أي: لم يخلق شيء ليكون بأصل الخلقة للهو واللعب، ولكن هذين يصرف إليهما ما خلق للفوائد مما يكون قابلًا للتلهي به، ولذلك لم يحصل من جهة اللهو تعرف بالنعم وامتنان بها كما أشار إليه في الآيات، فالأولى جعل الامتنان فيها بإخراج وخلق ما يعدونه زينة لهم، والثانية بذكر الأرض وما فيها من المنافع الغذائية للإنسان، وبالبحرين وأنه يخرج منهما ما به الزينة، ولم يمتن بالتزين بهما، وكذا الآية الثالثة، وقد جعل الزينة فيها تابعة لمنافع الركوب، وهذا كله مما يحقق الوجه الثالث الذي يقول فيه: إنه لم يقع الامتنان باللهو، أي: لأنه إذا لم يخلق شيء يختص بأصل خلقته للهو، فلا يتأتى الامتنان به كذلك. "د". 2 تتميم لقوله: "وَلَا تَجِدُ لِلَّهْوِ أَوِ اللَّعِبِ تَهْيِئَةً تَخْتَصُّ به في أصل الخلق". "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 وَالرُّكُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَطَلَبُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ مَوْضُوعَاتِهَا جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ1 مَا وَرَاءَهَا مِنْ خِدْمَةِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا، فَلْيَكُنْ جَائِزًا أَيْضًا فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالتَّفَرُّجِ فِي الْبَسَاتِينِ، وَسَمَاعِ الْغِنَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ فِعْلُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: - مِنْهَا: بَثُّهَا2 فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. - وَمِنْهَا3: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النَّحْلِ: 6] . وَقَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النَّحْلِ: 8] . وَقَالَ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا 4 وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] .   1 وحيث سلمتم أن هذه اللذات ومروحات النفس تقصد وإن لم يقصد معها ما يخدم الضروري، وهي حينما تتجرد عن قصده لا يكون فرق بينها وبين السماع وأنواع اللهو، يلزم أن تسلموا بجوازها وقصدها قصدًا أوليًّا، وبهذا يعلم أنه يصلح دليلًا معارضًا، فانظر لِمَ لَمْ يعده رابعًا مع الثلاثة بعده؟ "د". 2 أي: انتشارها ومصاحبيتها لأنواعه، حتى كأنها ملازمة لها، أي: فحكم الجواز في القسم الأول يكون منصبا عليها أيضًا. "د". 3 معارضة للوجه الثالث. "د". 4 سيأتي له الكلام عليه بما يفيد أن اتخاذهم منه سكرًا ليس من مواضع الامتنان، فلا شأن له بإفادة الحل حتى نحتاج إلى القول بالنسخ كما صنعه بعض المفسرين. "د". وقال "ف": "السكر: الخمر، وإليه ذهب الجمهور، والآية نزلت بمكة والخمر إذ ذاك كانت حلالًا وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا؛ فالآية منسوخة بآية المائدة". وروي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة. وعن أبي عبيدة أنه المطعوم المتفكه به. وعن علماء الحنفية أنه ما لا يسكر من الأنبذة؛ فلا نسخ في الآية. والرزق الحسن التمر والزبيب وغير ذلك" ا. هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين1 لها، وَاتِّخَاذُ السَّكَرِ رَاجِعٌ2 إِلَى مَعْنَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنْ كَانَتْ خَادِمَةً لِضِدِّ الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ، فَهِيَ خَادِمَةٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا3؛ لِأَنَّهَا مِمَّا فِيهِ تَنْشِيطٌ وَعَوْنٌ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوِ الْخَيْرِ، كَمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِالْكُلِّ كَذَلِكَ، فَالْقِسْمَانِ مُتَّحِدَانِ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ اسْتِدْعَاءَ النَّشَاطِ وَاللَّذَّاتِ4 إِنْ كَانَ مَبْثُوثًا5 فِي الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ؛ فَهُوَ فِيهِ خَادِمٌ للمطلوب بالفعل، وَأَمَّا إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَهَى مَسْأَلَةُ النِّزَاعِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ تَكُونَ اللَّذَّةُ وَالنَّشَاطُ فِيمَا هُوَ خَادِمٌ لِضَرُورِيٍّ أَوْ نَحْوِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ لهوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثلاثة" 6؛   1 في الأصل: "التزين". 2 بل لا شيء أدخل في باب اللهو من تناول المسكر. "د". 3 أي: وإن كانت خادمةً لضد بعض المطلوب بالكل، فهي خادمة لبعض آخر منه كالعبادة وفعل الخير؛ لما فيها من تنشيط البدن، وراحة النفس من الأتعاب والهموم الموجبة للفتور والكسل عن الأعمال، عبادة وغيرها. "د". 4 في الأصل و"ط": "واللذة". 5 ففرق بين ما يكون استدعاء النشاط تابعًا لخدمة ضروري كما هو القسم الأول وبين ما يكون مجرد لهو، والثاني محل النزاع، والذي يدل لنا الحديثان بعد، ولا يخفى عليك صلاحية هذا الجواب لرد الأدلة الثلاثة المعارضة، بل الأربعة على ما قررناه. "د". 6 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله الحمد والمنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 فَاسْتَثْنَى مَا فِيهِ خِدْمَةٌ لِمَطْلُوبٍ مُؤَكَّدٍ، وَأَبْطَلَ الْبَوَاقِيَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلُّوا مَلَّةً؛ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَدِّثْنَا "يَعْنُونَ بِمَا يُنَشِّطُ النُّفُوسَ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} 1 الآية [الزمر: 23] .   1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 13" ثنا حجاج، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح، كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به. وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بالكوفة قديم قبل اختلاطه، بخلاف سماع حجاج بن محمد الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد، كما في "الكواكب النيرات" "ص288، 293". إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؟ فهو مرسل، بل معضل بلا شك. وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير سند. وأخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} . وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -كما في "المطالب العالية" "3/ 343 وق136/ ب -المسندة"- ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم 6209 - الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183": أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا. فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... } [يوسف: 1-3] ؛ فتلاها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا. فأنزل الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] ، كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قال خلاد: وزاد فيه حين قالوا: يا رسول الله! ذكرنا. فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] . وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرًا من طريق محمد بن سعيد = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 فَذَلِكَ1 فِي مَعْنَى أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالْجِدِّ فِيهِ غَايَةَ مَا طَلَبْتُمْ2 وَذَلِكَ مَا بُثَّ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْحِكَمِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالتَّحْذِيرَاتِ، وَالتَّبْشِيرَاتِ الْحَامِلَةِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَالْأَخْذِ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا فِيهِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهَذَا خلاف ما طلبوه.   = العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86 - مسند سعد و3/ 352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به. وأخرجه ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير" "رقم 24": ثنا حسين بن الأسود به. قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا] بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا عمر بن قيس إلا خلاد بن مسلم". قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم، غير خلاد وهو ثقة، وثقة ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: "حديث مقارب". وأعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو، وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات". والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق. وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وصححه الحاكم/ ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث حسن"، وفي "ف": "فقال: يا رسول الله! "، والصحيح: "فقالوا"، كما أثبتناه. 1 في "ط": "فكان ذلك". 2 انظره مع قوله: "وهذا خلاف ما طلبوه" لتوقف بينهما، ولعل الفرض بهذا أنه أولى ما يقع طلبكم له؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] ، فأجيبوا إلى خير مما طلبوا، يعني: ولو كان ما طلبوه مما فيه اللهو واللعب مما يقصد شرعًا لأجابهم إليه، ولما ازدادت رغبتهم في طلبهم الأول لم يجبهم إليه مباشرة، بل بما يكون مبثوثًا فيه فقط مع كونه خادمًا لأصل ضروري، وهو الدين. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 قَالَ الرَّاوِي: "ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا شَيْئًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ! فَنَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ1" فِيهَا آيَاتٌ وَمَوَاعِظُ، وَتَذْكِيرَاتٌ وَغَرَائِبُ تَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِدِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَرُوحُ مَنْ تَعَبِ أَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ مَعَ ذَلِكَ؛ فَدُلُّوا عَلَى ما تضمن قصدهم مما هُوَ2 خَادِمٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ، لَا مَا هُوَ خَادِمٌ لِضِدِّ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: "إِنَّ لِكُلِّ عابد شرة، ولكل شرة فَتْرَةٌ؛ فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ؛ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ 3؛ فَقَدْ هلك" 4.   1 مضى تخريجه في الحديث السابق. 2 كذا في "ط"، وفي الأصل: "هما"، وفي غيرهما: "بما هو". 3 إنما يظهر الشاهد في الحديث على وراية: "ومن كانت فترته إلى غير ذلك"، وهو يشمل اللهو واللعب، وذلك كما هو الواقع أن كثيرًا ممن تشددوا في العبادة حصل لهم بعدها فترة وارتخاء عنها، ثم مالوا إلى اللهو واللعب وملاذ النفوس، والبدعة بالمعنى الذي يحدده لها المؤلف، وهو أنها لا تكون إلا في عبادة ليس لها أصل فيما ورد عن الشارع، إذا أخذ بها في معنى الحديث يبعد أن يكون حكمها حكم اللهو واللعب الذي يقصده كالغناء وما معه الذي هو موضوع كلامنا. "د". 4 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 158، 165، 188، 210"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 51"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 11 - الإحسان"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 126/ رقم 1026"، وابن عبد البر في "التمهيد" "1/ 196" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا، وإسناده صحيح. وأخرجوه بألفاظ، الأول منها في "مسند أحمد": "إن لكل عابد"، وعند غيره " [إن] لكل عامل"، أو "إن لكل عمل"، وعندهم جميعهم: "شرة" بالراء، وفي الأصول كلها: "شدة" بالدال، وهو خطأ، و"الشرة" هي الحرص على الشيء والرغبة والنشاط، قال الطحاوي: "فوقفنا بذلك على أنها هي الحدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب منهم فيها ما دون الحدة التي لا بد من القصر عنها والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه، حتى يلقوا ربهم عز وجل". = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 وَأَمَّا آيَاتُ الزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالسَّكَرِ؛ فَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِيهَا1 لِتَبَعِيَّتِهَا لِأُصُولِ تِلْكَ النِّعَمِ، لَا أَنَّهَا [هِيَ] الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي تِلْكَ النِّعَمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَمَالَ وَالزِّينَةَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ خَادِمٌ2 لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] .   = وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2453"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 349"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 89"، وتمام في "الفوائد" "5/ 61-62/ رقم 1669 - ترتيبه" بإسناد جيد. وعن ابن عباس أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1027"، والبزار، ورجاله رجال الصحيح، كما في "مجمع الزوائد" "2/ 258-259". 1 أي: ذكرت الزينة وما معها في الآيات المذكورة تبعًا لما ذكر فيها من أصول النعم المعتد بها، كالدفء، وحمل الأثقال إلى الجهات البعيدة، وغيرها من المنافع التي أشار إليها هنا إجمالًا، وفصلها في آيات أخرى، كاللبن، والجلود تتخذ منها البيوت، وغير ذلك كما قال فيه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون: 21] ، ومما يحقق غرضه أنه مع تكرير ذكر النعم إجمالًا وتفصيلًا لم يذكر الجمال والزينة في الآيات الأخرى، أعني: التي في معرض الامتنان، لا التي مثل آية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف: 46] ؛ فإن هذه من باب آية: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، وعدم ذكره في الآيات الأخرى يدل على أنها إنما ذكرت فيما ذكرت فيه تبعًا، وقد عرفت منزلة التابع في المسائل السابقة، هذا ومتى كان نائب فاعل "ذكرت" عائدًا على نفس الزينة وما معها كما قررنا لا على لفظ آيات، فالعبارة مستقيمة لا تحتاج إلى تصحيح. "د". قلت: يرد "د" في كلامه هذا على "ف"، حيث قال: "لعله فيه -أي: في كتاب الله تعالى-" ا. هـ. وتابعه "م"، فأثبتها في المتن: "ذكرت فيه"، وقال في الهامش: في "د" ذكرت فيها". 2 أي: وتقدم أن ما كان مبثوثًا فيه، فهو خادم للمطلوب بالفعل. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 وقوله عليه الصلاة: "إن الله جميل يجب الْجَمَالَ" 1. "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى 2 أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" 3. وَأَمَّا السَّكَرُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النَّحْلِ: 67] ؛ فَنَسَبَ إِلَيْهِمُ اتِّخَاذَ السَّكَرِ وَلَمْ يُحَسِّنْهُ، وَقَالَ: {وَرِزْقًا حَسَنًا} [النَّحْلِ: 67] ؛ فَحَسَّنَهُ. فَالِامْتِنَانُ بِالْأَصْلِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّصَرُّفُ لَا بِنَفْسِ التَّصَرُّفِ؛ كَالِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ الْأُخْرَى الْوَاقِعِ فِيهَا التَّصَرُّفُ؛ فَإِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا بِمَشْرُوعٍ وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَلَمْ يُؤْتَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ قَطُّ عَلَى طَرِيقِ الِامْتِنَانِ بِهِ كَسَائِرِ النِّعَمِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} الآية [يونس: 59] ؛ فتفهم هذا.   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود رضي الله عنه. 2 أي: فرؤية أثر النعمة مما يخدمها، وقد جعل هذا الحديث وما قبله شاهدًا للمباح بالجزء المطلوب بالكل على جهة الندب، وأنه لو تركه الناس كلهم لكان مكروها، راجع المسألة الثانية في المباح، ومثله هناك بالتمتع بالطيبات من مأكل وملبس ... إلخ". "د". 3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن الله تعالى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، 5/ 123-124/ رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند" "رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 51" عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والحديث حسن، وله شواهد كثيرة، منها: حديث عمران بن حصين أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"، والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 50" بلفظ: "إذا أنعم الله عز وجل على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده صحيح. وانظر سائر الشواهد في: "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية المرام" "رقم 75". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ؛ فَإِنَّهَا إِنْ فُرِضَ كَوْنُهَا خَادِمَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ فَهِيَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ كَمُلَاعَبَةِ الزَّوْجَةِ، وَتَأْدِيبِ الْفَرَسِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِلَّا؛ فَخِدْمَتُهُمَا لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، إذ1 كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي لَعِبَ فِيهِ يُمْكِنُهُ فِيهِ عَمَلُ مَا يُنَشِّطُهُ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ كَمُلَاعَبَةِ الزَّوْجَةِ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَرِيحَ بِتَرْكِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَالِاسْتِرَاحَةُ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالنَّوْمِ وَغَيْرِهِ رَيْثَمَا يَزُولُ عَنْهُ كَلَالُ الْعَمَلِ لَا دَائِمًا كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةٌ؛ لِأَنَّهَا خَادِمَةٌ لِلْمَطْلُوبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ. أَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ مِنْ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ؛ فَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُدَاوَمَةٍ؛ فَقَدْ أَتَى بِأَمْرٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ2 خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ؛ فَصَارَتْ خِدْمَتُهُ لَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَبَايَنَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ إِذْ جِيءَ فِيهِ بِالْخَادِمِ لَهُ ابْتِدَاءً، وَهَذَا إِنَّمَا جِيءَ فِيهِ بِمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ التَّرْكِ، لَكِنَّهُ تَضَمَّنَ خِدْمَةَ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ إِذَا3 لَمْ يُدَاوَمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. فَصْلٌ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ تَدْقِيقٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقِسْمَيْنِ قَدْ تَضَمَّنَ4 ضِدَّ مَا اقْتَضَاهُ فِي وَضْعِهِ الْأَوَّلِ؛ فالواجب العمل على ما   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "إذا"، وكتب "د": "لعل الأصل: "إذ"؛ فهو تعليل لسابقه". 2 أي: النشاط والراحة التي هي خادم لما يطلب فعله من ضروري أو حاجي مثلا؛ أي: فليس خادما للمطلوب الفعل مباشرة، بل بواسطة، ولكنه يخدم مطلوب الترك مباشرة، أما القسم الأول؛ كالأكل، والشرب وتأديب الفرس مثلا؛ فهو خادم لأصل من الأصول مباشرة، فلذلك اختلف حكمهما. "د". 3 فإذا داوم عليه وضيع الوقت فيه؛ لم يكن خدم به شيئًا من المصالح، بل كان مضيعًا لها؛ فلهذا نهي عن الدوام. "د". 4 كما هي عبارته أول المسألة حيث قال فيهما: "وقد يصير مطلوب ... إلخ"، وقوله: "على ما يقتضيه الحال ... إلخ"؛ أي: فإن أدى استعماله إلى تفويت مصلحة نهي عنه، وإلا فلا. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 يَقْتَضِيهِ الْحَالُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِلْمُبَاحِ أَوْ تَرْكِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فِيمَا يَظْهَرُ، إِلَّا تَعْلِيقُ الْفِكْرِ بِأَمْرٍ صِنَاعِيٍّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْحَزْمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ أُمُورٌ1 فِقْهِيَّةٌ، وَأُصُولٌ عَمَلِيَّةٌ. - مِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الْعَوَارِضِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَاسِدِ، وَمَا لَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَإِنِ اعْتَرَضَتِ الْعَوَارِضُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْمَشْرُوعَةَ بِالْأَصْلِ إِذَا دَاخَلَتْهَا الْمُنَاكِرُ؛ كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْمُخَالَطَةِ، وَالْمُسَاكَنَةِ إِذَا كَثُرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَاشْتَهَرَتِ الْمُنَاكِرُ، بِحَيْثُ صَارَ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي حَاجَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي أَحْوَالِهِ لَا يَسْلَمُ فِي الْغَالِبِ مِنْ لِقَاءِ الْمُنْكَرِ أَوْ مُلَابَسَتِهِ؛ فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَنْ كُلِّ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى هَذَا، وَلَكِنَّ الْحَقَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنِ اقْتِضَاءِ حَاجَاتِهِ، كَانَتْ مَطْلُوبَةً بِالْجُزْءِ أَوْ بِالْكُلِّ، وَهَى إِمَّا مَطْلُوبٌ بِالْأَصْلِ2، وَإِمَّا خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ أَدَّى إِلَى التَّضْيِيقِ وَالْحَرَجِ3، أَوْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ ذلك، لكن مع الكف عما   1 أي: فروع في مسائل متنوعة، وقوله: "وأصول عملية"؛ أي: قواعد كلية تفيد عملا كما سيقول: "فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد". "د". 2 يرجع إلى قوله: "مطلوبة بالجزء"، وما بعده يرجع إلى ما بعده. "د". 3 يرجع إلى قوله: "خادم"، وقوله: "أو تكليف" راجع إلى قوله: "إما مطلوب بالأصل" فإن الحاجي خادم للضروري الذي هو حفظ الحياة في البيع والشراء والمساكنة مثلا، فإن كانت الحاجة إليه لا تصل إلى حفظ الحياة الذي هو ضروري، وكان يتحرج فقط بتركه؛ كان خادمًا للمطلوب الأول. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 يُسْتَطَاعُ الْكَفُّ عَنْهُ، وَمَا سِوَاهُ؛ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ1 لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ. وَقَدْ بَسَطَهُ2 الْغَزَّالِيُّ فِي كِتَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنَ "الْإِحْيَاءِ" عَلَى وَجْهٍ أَخَصَّ3 مِنْ هَذَا، فَإِذَا أَخَذَ قَضِيَّةً عَامَّةً اسْتَمَرَّ وَاطَّرَدَ. [وَقَدْ] 4 قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ5 فِي مَسْأَلَةِ دُخُولِ الْحَمَّامِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ جَوَازَهُ: "فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَمَّامُ دَارٌ يغلب فيها المنكر؛ فدخلوها إِلَى أَنْ يَكُونَ [حَرَامًا] 4 أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا؛ فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا؟ قُلْنَا: الْحَمَّامُ مَوْضِعُ تداوٍ وَتَطَهُّرٍ؛ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَ قَدْ غَلَبَ فِيهِ بِكَشْفِ العورات،   1 أي: لضروريه أو حاجيه فقط، ولو كان بحكم الأصل مباحًا لما ألزم بالوقوف عند حد، وقد سماه عفوًا كما سبق له في ذكر مرتبة العفو، وأنها مرتبة غير الأحكام الخمسة، وليست داخلة في المباح. 2 في "ف": "بسط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب. 3 لأنه بناه على أن المناكر تأتي من طبيعة المباحات إذا استرسل فيها دون حد، أما هنا؛ فالمناكر التي مثل بها المؤلف عارضة، خارجة عن نفس المباحات، لا دخل للمؤلف في جلبها؛ فهو يقول: "إذا أخذ الموضوع عاما أدخل على المباحات مطلقا ما يقتضي حظرها، سواء أكان من جهتها هي أم كان من عوارض خارجة عنها؛ فإنها تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة، مع التحرز بقدر الاستطاعة من الوقوع في المحظورات دفعا للحرج ولتكليف ما لا يطاق، ويكون ما لابسها من المحظورات من باب العفو". "د". قلت: قال الغزالي في "إحياء علوم الدين" "2/ 97": "إن أكثر المباحات داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل واستعمال الطيب للمتعزب؛ فإنه يحرك الشهوة، ثم الشهوة تدعو إلى الفكر، والفكر يدعو إلى النظر، والنظر يدعو إلى غيره ... " إلى أن قال: "وهكذا المباحات كلها، إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائلها بالمعرفة أولا، ثم بالحذر ثانيا؛ فقلما تخلو عاقبتها عن خطر، وكذا كل ما أخذ بالشهوة؛ فقلما يخلو عن خطر" ا. هـ. 4 سقط من "ط". 5 انظر كلامًا له عن الحمام في "عارضة الأحوذي" "10/ 244-246". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 وَتَظَاهُرِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ الْمَرْءُ دَخَلَهُ، وَدَفَعَ الْمُنْكَرَ عَنْ بَصَرِهِ وَسَمِعَهُ مَا أَمْكَنُهُ، وَالْمُنْكَرُ الْيَوْمَ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُلْدَانِ؛ فَالْحَمَّامُ كَالْبَلَدِ عُمُومًا، وَكَالنَّهْرِ خُصُوصًا. هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى1. وَهَكَذَا النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْأَصْلِ كُلِّهَا، وَهَذَا إِذَا أَدَّى الِاحْتِرَازُ مِنَ الْعَارِضِ لِلْحَرَجِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ وَكَانَ فِي الْأَمْرِ الْمَفْرُوضِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ [سِعَةً] 2 كَسَدِّ الذَّرَائِعِ؛ فَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ، وَيَتَجَاذَبُهَا طَرَفَانِ3؛ فَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِضَ سَدَّ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْحِيَلِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَصْلَ لَمْ يَسُدَّ مَا لَمْ يَبْدُ الْمَمْنُوعُ صُرَاحًا4. وَيَدْخُلُ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ النَّظَرُ فِي تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ5؛ فَإِنَّ لِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ6 رُسُوخًا حَقِيقِيًّا، وَاعْتِبَارُ غَيْرِهِ تَكْمِيلِيٌّ مِنْ بَابِ التعاون، وهو   1 وقد عقد لهذا المعنى المسألة الثانية عشرة من المباح [1/ 287] ، وفصله هناك تفصيلًا وافيًا. "د". 2 سقط من "ط". 3 إلا أنه في "5/ 199" تمسك بأصل الإباحة، ولم يلتفت إلى التفريق بين المراتب؛ فقال: " ... الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَاجِيَّةِ أَوِ التكميلية، إذا اكتنفها مِنْ خَارِجٍ أُمُورٌ لَا تُرْضَى شَرْعًا؛ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ صَحِيحٌ، عَلَى شَرْطِ التحفظ، بحسب الاستطاعة من غير حرج"، وذكر أمثلة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما قد يكون من المرتبة الثالثة كشهود الجنائز. 4 فإن ظهر أنه يقع في الممنوع غالبًا أو قطعا، مع فرض المسألة وهو أنه في سعة ليس فيها حرج ولا تكليف ما لا يطاق؛ فإنه لا خلاف في اعتبار المحظور وتقرير حرمة الدخول في هذا المباح. "د". 5 كما في جادة الطريق ونحوها يغلب عليها أن تصيبها النجاسة، لكن الأصل في الأشياء الطهارة؛ فهل تصح الصلاة فيها مع الشك؟ ينبني الحكم بالصحة أو البطلان على الخلاف في ترجيح الأصل على الغالب كما هو رأي مالك، أو العكس كما هو رأي ابن حبيب. "د". 6 في الأصل: "الاعتبار بالأصل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 ظَاهِرٌ. أَمَّا إِذَا1 كَانَ الْمُبَاحُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ؛ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، [إِذْ] لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى الْغِنَاءِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مُبَاحٌ إِذَا حَضَرَهُ مُنْكِرٌ أَوْ كَانَ فِي طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا هُوَ خَادِمٌ لِمَطْلُوبِ الْفِعْلِ؛ فَلَا يُمْكِنُ2 وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُكَلَّفُ حَظَّهُ مِنْهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِهِ جُمْلَةً، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ وَغَيْرُهُ. وَفِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ" بَيَانٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي فَصْلِ الرُّخَصِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا مَعَ عَدَمِ التَّحْذِيرِ مِنِ اجْتِنَابِهَا أَوِ اكْتِسَابِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حَذَّرَ السَّلَفُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ أَوْ كَانَ خَادِمًا لِلْمَطْلُوبِ؛ فَقَدْ تَرَكُوا الْجَمَاعَاتِ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ وَأَشْبَاهَهَا مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَحَضَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّزَوُّجِ وَكَسْبِ الْعِيَالِ؛ لِمَا دَاخَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَاتَّبَعَهَا3 مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ تَرَكَ4 الْجُمُعَاتِ، وَالْجَمَاعَاتِ، وَتَعْلِيمَ الْعِلْمِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ مُخَالَطَةِ النَّاسِ،   1 هذا مقابل قوله: "وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل"، وبها ينجلي الفرق. "د". 2 تفريع على النفي، وبيانه أنه لو كان مطلوب الفعل أو خادما له وحضره المنكر وعولنا على المنع منه بسبب ذلك لحصل الحرج بعدم استيفاء المكلف حظه من ذلك المباح؛ فلذا أبيح له الدخول فيه غير مبالٍ بما يلحقه، أما هنا؛ فليس كذلك، فحظه منه كالعدم؛ فلا بد من تركه جملة لما اتصل به من المنكر، فقوله: "فلا بد من تركه" تفريع على قوله: "لأنه غير مطلوب ... إلخ"، ومعنى "لا يمكن" لا يجوز. "د". 3 في "ط": "واستبعها". 4 التحقيق في سبب الترك أنه اعتراه سلس لازمه، وكان لا يحب أن يذكر ذلك للناس؛ لما فيه من رائحة الشكوى من قضاء الله تعالى؛ فليس مما نحن فيه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 وَهَكَذَا غَيْرُهُ، وَكَانُوا [عُلَمَاءَ، وَفُقَهَاءَ، وَأَوْلِيَاءَ، وَمُثَابِرِينَ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ وَطَلَبِ الْمَثُوبَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَهُ دَلِيلٌ فِي الشَّرِيعَةِ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] 1: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" 2، وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعُزْلَةِ3، وَهَى مُتَضَمِّنَةٌ لِتَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْكُلِّ أَوْ بِالْجُزْءِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا، خَادِمًا لِمَطْلُوبٍ أَوْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ بِالْمُبَاحِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُرَدُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي جَوَازِ الْمُخَالَطَةِ فِي طَلَبِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَغَيْرِهَا4، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا مَا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْجُزْءِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَرَّضْ5 فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّظَرِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا وَقَعَ التَّحْذِيرُ فِيهِ وَمَا فَعَلَ السَّلَفُ مِنْ ذَلِكَ إنما هو بناء على   1 سقط من "ط". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، 1/ 69/ رقم 19" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وفيه: " ... أن يكون خير مال المسلم غنم ... ". قال "ف": "شعف الجبال؛ أي: رءوسها، والمراد بمواقع القطر: الأودية والصحاري". 3 كما تراه في كتاب "العزلة" للخطابي، و"الرسالة المغنية في السكون ولزوم البيوت" لابن البناء البغدادي "ت471هـ"، و"الأمر بالعزلة في آخر الزمان" لابن الوزير "ت 840هـ"، وكلها مطبوعة. 4 أي: من الحاجية، وهي التي يؤدي الكف عنها إلى ضيق وحرج. "د". قال "ف": "ولعله: لا عن غيرها، فتأمل". 5 انظره في قوله: "لَا بُدَّ لَهُ مِنِ اقْتِضَاءِ حَاجَاتِهِ كَانَتْ مطلوبة بالجزء أو بالكل"، قوله: "وَهَكَذَا النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْأَصْلِ كُلِّهَا"، وجعله ما فيه السعة محل نظر، يجري فيه الخلاف في سد الذرائع ومسألة تعارض الأصل والغالب، وهل يقال: إن الحاجات الضرورية ليست مما يطلب بالجزء، وكذلك الحاجية المؤدية إلى الضيق والحرج الفادح. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 مُعَارِضٍ أَقْوَى فِي اجْتِهَادِهِمْ مِمَّا تَرَكُوهُ، كَالْفِرَارِ مِنَ الْفِتَنِ، فَإِنَّهَا فِي الْغَالِبِ قَادِحَةٌ فِي أُصُولِ1 الضَّرُورِيَّاتِ، كَفِتَنِ سَفْكِ الدِّمَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَاطِلِ، [أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ] ، أَوْ لِلْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّلَبُّسِ، مَعَ الْمَفْسَدَةِ الْمُنْجَرَّةِ بِسَبَبِهِ، أَوْ تَرْكِ2 وَرِعِ الْمُتَوَرِّعِ يَحْمِلُ عَلَى نَفْسِهِ مَشَقَّةً يَحْتَمِلُهَا، وَالْمَشَقَّاتُ تَخْتَلِفُ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ؛ فَكُلُّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِنَا عَلَى حَالٍ. فَصْلٌ - وَمِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ طَاعَةً وَمَا لَا يَنْقَلِبُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا خَادِمًا لِمَأْمُورٍ بِهِ تُصُوِّرَ فِيهِ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْوِقَاعَ وَغَيْرَهَا تَسَبَّبَ فِي إِقَامَةِ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُتَنَاوَلِ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالطِّيبِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يُعْتَدُّ بِهِ إِلَّا فِي أَخْذِهِ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِذَا أَخَذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ؛ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِعَيْنِهِ، وَإِذَا أَخَذَ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ؛ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْكُلِّ3 لِأَنَّهُ فِي الْقَصْدِ الشرعي خادم للمطلوب،   1 أما الجمعة والجماعات؛ فمن مكملات إقامة الدين، لما فيها من إظهار أبهة الإسلام وقوة أهله إلى آخر ما سبق. "د". 2 عطف في المعنى على قوله: "للإشكال"؛ أي: أو كان الترك لورع المتورع يحمل نفسه مشقة يطيقها هو وإن لم يطقها كثير من الناس، لا أن ذلك بسبب أنهم لا يقولون بجواز الدخول في المباحات المذكورة؛ فيصح أن يكون "ترك" فعلا مبنيًّا للمجهول؛ أي: ترك ما ذكر لأجل ورع المتورع من هؤلاء. "د". وفي "ط": "ترك ورع لمتورع". 3 بمراجعة المسألتين الثانية والثالثة من المباح يتضح المقام، ويعلم أن كون المباح مطلوبًا بالكل لا يتوقف على أخذه من جهة الإذن كما هو ظاهر العبارة، وأن المباح المطلوب بالكل لا بد أن يكون خادمًا لمطلوب، وأنه يوصف الفعل بِكَوْنِهِ مُبَاحًا إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ حَظُّ الْمُكَلَّفِ فقط؛ حتى يكون أخذًا له من جهة اختياره وإرادته لا غير، وأن الحظ على ضربين: فما كان داخلا تَحْتَ الطَّلَبِ؛ فَلِلْعَبْدِ أَخْذُهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ ولا يفوته حظه، والثاني غير داخل تحت الطلب كالسماع وأنواع اللهو؛ فلا يتأتى أخذه إلا من جهة اختياره وحظه، ويعلم أيضا أن قوله: "فهو مطلوب بالكل" ليس حمل موطأة يقصد منه التعريف، بل المراد أنه لا يتأتى أن يؤخذ من جهة الإذن إلا إذا كان مما يدخل تحت الطلب بالكل، يعني: ومتى أخذ كذلك بريء من الحظ وخرج عن كونه مباحًا إلى كونه طاعة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 وَطَلَبُهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ صَحَّ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ خَادِمُ الْمَطْلُوبِ1 الْفِعْلِ انْقِلَابُهُ طَاعَةً؛ إِذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا قَصْدَ الْأَخْذِ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ، وَأَمَّا مَا كَانَ خَادِمًا لِمَطْلُوبِ التَّرْكِ، فَلَمَّا كَانَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ؛ لَمْ يَصِحَّ2 انْصِرَافُهُ إِلَى جِهَةِ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ وَقَدْ فُرِضَ عَدَمُ الْإِذْنِ فِيهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ؛ فَلَيْسَ بِطَاعَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ أَنْ يَنْقَلِبَ طَاعَةً؛ فَاللَّعِبُ مَثَلًا لَيْسَ فِي خِدْمَةِ الْمَطْلُوبَاتِ كَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَشُرْبِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي جِنْسِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا دَارَ بِهَا، بِخِلَافِ اللَّعِبِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي جِنْسِ مَا هُوَ ضِدٌّ لَهَا، وَحَاصِلُ هَذَا الْمُبَاحِ أَنَّهُ مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ خَاصَّةً، لَا أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ كَالْمُبَاحِ حَقِيقَةً، وَقَدْ مَرَّ3 بَيَانُ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ السَّمَاعِ الْمُبَاحِ؛ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَنْقَلِبُ بِالْقَصْدِ طَاعَةً، وَإِذَا عُرِضَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبَيَّنَ الْحَقُّ4 فيه إن شاء   1 في الأصل و"ط": "للمطلوب". 2 لأنه إنما كان يصح انصرافه إليه لو كان يخدمه، مع أنه إنما يخدم ضده، وأيضا إنما ينصرف إليه لو كان داخلًا تحت الطلب "أي الكلي"، ومعلوم أنه مطلوب الترك بالكل، وحينئذ؛ فلا يتأتى أخذه من جهة الإذن حتى يبرأ من الحظ؛ فينقلب طاعة. "د". 3 أي: في المسألة الرابعة من المباح. "د". 4 أي: وأنه غير معقول انقلابه طاعة؛ لأنه من قسم المنهي عنه بالكل؛ فلا يتأتى أن ينظر إليها بأخذ المكلف له من حيث طلب الشارع له لأنه لم يطلبه جزئيًّا، وهو ظاهر، ولا كليًّا؛ لأنه منهي عنه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا سَلَّمَنَا أَنَّ الْخَادِمَ لِمَطْلُوبِ التَّرْكِ مَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ يَصِيرُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْقَصْدِ الثاني، فاللعب والغناء ونحوهما إِذَا قُصِدَ بِاسْتِعْمَالِهَا التَّنْشِيطُ عَلَى وَظَائِفِ الْخِدْمَةِ وَالْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ؛ فَقَدْ صَارَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ طَاعَةً؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ طَاعَةً؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِبَارَ وَجْهِ النَّشَاطِ عَلَى الطَّاعَةِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ لَعِبٌ أَوْ غِنَاءٌ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَ مِنْ ذَلِكَ، لَا1 بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ اسْتَوَى مَعَ النَّوْمِ مَثَلًا، وَالِاسْتِلْقَاءُ عَلَى الْقَفَا، وَاللَّعِبُ مَعَ الزَّوْجَةِ، فِي مُطْلَقِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَبَقِيَ اخْتِيَارُ كَوْنِهِ لَعِبًا عَلَى الْجُمْلَةِ أَوْ غِنَاءً تَحْتَ حُكْمِ اخْتِيَارِ الْمُسْتَرِيحِ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنِ اخْتِيَارِهِ فَهُوَ سَعْيٌ فِي حَظِّهِ؛ فَلَا طَلَبَ، وَإِنْ أَخْذَهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ؛ فَلَا طَلَبَ2 فِي هَذَا الْقِسْمِ كَمَا تَبَيَّنَ. وَلَوِ اعْتُبِرَ3 فِيهِ مَا تَضَمَّنَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي؛ لَمْ يَضُرَّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ، وَلَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ خِدْمَةَ المطلوب الفعل، فكأن   1 أي: لم يكن اعتبار للغناء بالقصد الأول، بل باعتبار ما تضمنه من الراحة المعينة على فعل الخير، أما هو نفسه؛ فليس معينًا بل صادًّا عن المطلوب. "د". 2 أي: بالقصد الأول المعتد به، يعني: ولا طاعة بدون طلب شرعي؛ لأنها امتثال أمر الشارع. "د". 3 أي: لو اعتبر ما تضمنه بالقصد الثاني، واعتد به في نظر الشارع حتى يكون مطلوبًا؛ فيؤخذ من جهة الطلب فينقلب طاعة، لو كان كذلك ما نهى الشارع عن استدامته؛ لأنه يكون حينئذ خادمًا لمطلوب الشارع، والواقع والفرض أنه خادم لضده مباشرة، ومطلوب الترك بالكل؛ فهذا يدل على أن ما تضمنه بالقصد الثاني لا ينقله إلى الطاعة. "د". وفيه سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 يَكُونَ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ هَذَا شَبِيهًا بِفِعْلِ الْمَكْرُوهِ طَلَبًا لِتَنْشِيطِ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَةِ؛ فَكَمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يَنْقَلِبُ طَاعَةً كَذَلِكَ [مَا كَانَ] 1 فِي مَعْنَاهُ أَوْ شَبِيهًا بِهِ. فَصْلٌ - وَمِنْهَا: بَيَانُ وَجْهِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ لِثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ: "قَلِيلٌ تُؤَدِي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ" 2، ثُمَّ دَعَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ يَضُرُّ بِهِ فلمَ دَعَا لَهُ؟ وَجَوَابُ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ دُعَاءَهُ لَهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي الِاكْتِسَابِ أَوْ أَصْلِ3 الطَّلَبِ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ. وَمِثْلُهُ التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ مَعَ أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الِاكْتِسَابِ لَهُ4 كَقَوْلِهِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ". قِيلَ5 وَمَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ؟ قَالَ: "زَهْرَةُ الدُّنْيَا". فَقِيلَ: هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ: "لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ" 6 الْحَدِيثَ. وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فأعطاني،   1 سقط من "ط". 2 الحديث ضعيف جدًّا؛ كما بينته بإسهاب في التعليق على "2/ 448". 3 في "ط": "وأصل". 4 في "ط": "مشروعية اكتسابه". 5 في "ط": "قال". 6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال "ف": "أي أنه في نضارته كثمرة حلوة المذاق خضرة اللون". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 [ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي] ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَا المال خضرة حلوة" 1 الْحَدِيثَ، وَقَالَ: "الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2 الْحَدِيثَ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا أَشَارَ بِهِ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَصْلِ الِاكْتِسَابِ الْمُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَلَا عَنِ الزَّائِدِ عَلَى مَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْمَقْصُودَ فِي الْمَالِ شَرْعًا مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا الِاكْتِسَابُ خَادِمٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الِاكْتِسَابُ مِنْ أَصِلِهِ حَلَالًا إِذَا رُوعِيَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ، كَانَ صَاحِبُهُ مَلِيًّا أَوْ غَيْرَ مَلِيٍّ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ عَنْ كَوْنِهِ مَطْلُوبًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ أَصْلِيٌّ، وَالنَّهْيُ تَبَعِيٌّ؛ فَلَمْ يَتَعَارَضَا، وَلِأَجْلِ هَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَعْمَلُونَ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي دُنْيَاهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. والفوائد المبنية عليها كثيرة.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/ 717/ رقم 1035" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعًا. وما بين المعقوفتين سقط من "م"، وفي "د" تكرر مرة رابعة. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستقراض، باب أداء الديون، 5/ 54-55/ رقم 2388" عن أبي ذر مرفوعا بلفظ: "إن الأكثرين هم الأقلون؛ إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ... ". وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 391" باللفظ الذي أورده المصنف عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي "ط": "هم المقلون". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي التَّأْكِيدِ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّلَبِ الْفِعْلِيِّ أَوِ التَّرْكِيِّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ. وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُتَصَوَّرُ انْقِسَامُ الِاقْتِضَاءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالتَّحْرِيمُ. وَثَمَّ اعْتِبَارٌ آخَرُ لَا يَنْقَسِمُ فِيهِ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، بَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ تَابِعًا لِمُجَرَّدِ الِاقْتِضَاءِ، وَلَيْسَ لِلِاقْتِضَاءِ إِلَّا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ. وَالْآخَرُ: اقْتِضَاءُ التَّرْكِ. فَلَا فَرْقَ فِي مُقْتَضَى الطَّلَبِ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ جَرَى عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنِ اطَّرَحَ مُطَالَبَ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَأَخَذَ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ؛ إِذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا، وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا، بَلْ رُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْدُوبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى السَّالِكِ، وَعَلَى الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَدُّوا الْمُبَاحَاتِ مِنْ قَبِيلِ الرُّخَصِ كَمَا مَرَّ1 فِي أَحْكَامِ الرُّخَصِ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا هذا المأخذ من طريقين:   1 في الإطلاق الرابع للرخصة، وهو أن كل ما كان توسعة على العباد مطلقًا؛ فهو رخصة، والعزيمة هي الأولى التي نبه عليها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56] ؛ فالأصل أنهم ملك، وليس لهم عليه من حق ولا حظ، بل عليهم التوجه الكلي لعبادته، وترك كل ما يشغل عنها حتى من المباحات؛ فالإذن لهم في نيل حظوظهم رخصة وتوسعة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ، وَهُوَ رَأْيُ مَنْ1 لَمْ يَعْتَبِرْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إِلَّا مُجَرَّدَ الِاقْتِضَاءِ، وَهُوَ2 شَامِلٌ لِلْأَقْسَامِ كُلِّهَا، وَالْمُخَالَفَةُ فِيهَا كُلُّهَا مُخَالَفَةٌ لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَذَلِكَ قَبِيحٌ شَرْعًا، دَعِ الْقَبِيحَ عَادَةً، وَلَيْسَ3 النَّظَرُ هُنَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ ذَمٍّ أَوْ عِقَابٍ، بَلِ النَّظَرُ إِلَى مُوَاجَهَةِ الْآمِرِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ بَالَغَ فِي الْحُكْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، وَعَدَّ كُلَّ مُخَالَفَةٍ كَبِيرَةً، وَهَذَا رَأْيُ أَبِي الْمَعَالِي فِي "الْإِرْشَادِ"؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ الِانْقِسَامَ إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ الِانْقِسَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَالَفَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَمَا رَآهُ يَصِحُّ فِي الِاعْتِبَارِ4. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وله اعتبارات:   1 هو أبو منصور الماتريدي، قال: إن صيغة الأمر للطلب أي ترجيح الفعل على الترك، وعزاه في "الميزان" [1/ 207] إلى شيوخ سمرقند، وقالوا في النهي ما قالوه في الأمر؛ فيكون معناه طلب الكف أي ترجيح الترك على الفعل، وقوله: "الآمر" بصيغة اسم الفاعل كما يدل عليه تقريره بعد ومقابلته في الطريق الثاني بقوله: "من جهة معنى الأمر"؛ إلا أن قوله: "وهو رأي ... إلخ" يتوقف على أن أبا منصور إنما ذهب إلى أنه موضوع للطلب بناء على اعتباره جهة الأمر، وهو يحتاج إلى نص منه؛ إلا أن يقال: معناه أنه يوافق هذا الرأي. "د". 2 أي: الاقتضاء؛ لأنه الطلب بلا شرط شيء. "د". 3 أي: وإلا لجاء الفرق بين المكروه والحرام، وعدنا إلى التقسيم باعتبار تفاوت المفسدة الناشئة عن المخالفة، وقوله: "بهذا الاعتبار"؛ أي: مواجهة الآمر بالعصيان والمخالفة، والمعقول أنه باعتبار الآمر لا فرق. "د". قلت: وفي "ف": " ... عادة وشرعًا، وليس ... "، وقال: "كذا بالأصل ولعل كلمة "وشرعًا" زائدة، والمعنى: اترك القبح العادي ولا تنظمه في سلك البيان؛ فإنه مفروغ منه ومسلم" ا. هـ. 4 انظر تعليق ابن القيم وبيانه مراد أبي المعالي في "مدارج السالكين" "1/ 315 - ط الفقي". وكلام أبي المعالي في "الإرشاد" "ص328 - ط أسعد تميم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 أَحَدُهَا: النَّظَرُ إِلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِمُقْتَضَاهَا؛ فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ النَّوَاهِي مِنْ حَيْثُ هِيَ تَقْتَضِي التَّقَرُّبَ مِنَ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِكَ؛ فَطَالِبُ الْقُرْبِ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَقْتَضِيهِ حَسْبَمَا دَلَّتْ1 عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْقُرْبِ، وَهُوَ إِمَّا الْبُعْدُ، وَإِمَّا الْوُقُوفُ عَنْ زِيَادَةِ الْقُرْبِ، وَالتَّمَادِي فِي الْقُرْبِ هُوَ الْمَطْلُوبُ؛ فَحَصَلَ مِنْ تِلْكَ2 أَنَّ الْجَمِيعَ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي قَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالْهَرَبِ عَنِ الْبُعْدِ. وَالثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ [عِنْدَ الِامْتِثَالِ، وَضِدُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ] 3؛ فَالْبَانِي عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ عِنْدَهُ طَلَبٌ مِنْ طَلَبٍ، كَالْأَوَّلِ4 فِي الْقَصْدِ إِلَى التَّقَرُّبِ. وَأَيْضًا5؛ فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى تكميل6 خَادِمٍ، وَمُكَمِّلٍ مَخْدُومٍ، وَمَا هُوَ كَالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ؛ فمتى حصلت   1 كما سيأتي في الحديث بعد التقرب بهما معًا، وقد أخر المكروه والحرام عن قوله: "حسبما دلت عليه الشريعة"، مع أنه سيأتي له في الأحاديث التي يذكرها بعد ما يدل عليه، فلو قدمه عليه ليكون راجعا للجميع؛ لكان أظهر. "د". 2 في "ط": "ذلك". 3 سقط من "ط". 4 أي: كالتقرير الذي قرر به الاعتبار الأول؛ فالكل إما طلب مصلحة أو درء مفسدة. "د". 5 وجه ثانٍ مبني على الاعتبار الثاني، ومحصله أن المندوب مآله إلى أنه خادم مكمل للواجب، وهذا مخدوم مكمل به، وأنه معه كالصفة للموصوف، ولا تكمل الواجبات إلا بالمندوبات؛ فالحكم على الموصوف يسري على الوصف بلا تمييز بينهما. "د". 6 في "م": "مكمل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 الْمَنْدُوبَاتُ كَمُلَتِ الْوَاجِبَاتُ، وَبِالضِّدِّ، فَالْأَمْرُ1 رَاجِعٌ إِلَى كَوْنِ الضَّرُورِيَّاتِ آتِيَةً عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا؛ فَكَانَ الِافْتِقَارُ إِلَى الْمَنْدُوبَاتِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، فَزَاحَمَتِ الْمَنْدُوبَاتُ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الِافْتِقَارِ؛ فَحُكِمَ عَلَيْهَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ مَعَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ رَائِدًا لَهَا2 وَأُنْسًا بَهَا؛ فَإِنَّ الْأُنْسَ بِمُخَالَفَةِ مَا يُوجِبُ3 بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ الْأُنْسَ بِمَا فَوْقَهَا؛ حَتَّى قِيلَ4: "الْمَعَاصِي بَرِيدُ الكفر".   1 أي: المسمى في عرف غير هؤلاء طلبًا غير جازم أو مندوبًا هو منصب في الحقيقة على الواجب معتبرًا فيه الكمال، ويصح أن يكون مراده أن الأمر مطلقًا سواء تعلق في ظاهر اللفظ بالواجب أو بالمندوب مآله قصد تأدية الواجبات على وجهها الأكمل، وهو لا يتحقق إلا بالواجب والمندوب معًا. "د". 2 تمهد لها وتسهل على النفس حصولها، كما يمهد الرائد لمن وراءه، ومتى تمرنت النفس على المخالفة الخفيفة جرؤت على أكبر منها؛ كما في حديث البخاري: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"؛ أي: فلا يزال يترقى من سرقة أمثال هذه الأمور التافهة حتى يسرق الأمور التي يتقطع فيها يده. "د". قلت: والحديث الذي أورده الشارح أخرجه البخاري في "صحيحه" "12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه" "3/ 1314/ رقم 1687" عن أبي هريرة، ومضى تخريحه "2/ 39". وفي "ط": "رائدًا إليها"، وفي الأصل و"ف": "رائدًا عليها"، وقال "ف": "الأنسب رائدًا لهم من راد لهم الكلأ يروده رودًا، وهو رائد؛ أي: طالب به لأجلهم؛ فكذا المكروهات هنا كأنها تطلب المحرمات وتسعى إليها". 3 في الأصل: "فإن الإنسان بمخالفة توجب"، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. 4 أسنده البيهقي في "الشعب" "5/ 44/ رقم 7223" إلى أبي جعفر بن حمدان عن أبي حفص به، ونسبها ابن القيم في "مدارج السالكين" "1/ 425 - ط الفقي" إلى بعض السلف، وتكلم عليها بما يشفي ويغني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 14] . وَتَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ1. وَحَدِيثُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ .... " 2 ... إلخ.   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ، رقم 3334، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 418"، و"التفسير" "2/ 505/ رقم 678"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، رقم 4244"، وأحمد في "المسند" "2/ 297"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 87 و30/ 62"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 517"، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 210/ رقم 930 - الإحسان"، والبيهقي في "الشعب" "5/ رقم 7203"، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه في "تفاسيرهم" -كما في "الدر المنثور" "6/ 325"- بإسناد حسن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت نكته سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب؛ صقلت قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه؛ فهو الران الذي ذكره الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ". وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الذهبي في "المهذب" -فيما نقل المناوي في "فيض القدير"-: "إسناده صالح". قال "د": "ومعنى ران على قلبه: غطاه، أي: فالمعاصي الرائنة على قلوبهم كانت سببا في شقائهم بالكفر، وهذا وإن كان غير ما نحن فيه إلا أنه تقريب للموضوع، وهو أن الأنس بالمخالفة يعد النفس لما فوقها، وإن كانت الآية في الحرام المؤدي إلى الكفر، لا في المكروه المؤدي إلى الحرام، أما الحديثان بعد؛ فدليلان على كلا النظرين السابقين برمتهما، فالقرب والمصلحة وتكميل الواجب في حديث: "ما تقرب إليَّ عبدي"، والبعد والمفسدة وخدمة الحرام في حديث: "الحلال بين"؛ فعليك بالتأمل حتى لا تحتاج إلى الإطالة. 2 مضى تخريجه "ص306"، وهو في "الصحيحين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 فَقَوْلُهُ1: "كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ 2 أَنْ يَقَعَ فِيهِ" 3 وَفِي قِسْمِ الِامْتِثَالِ قَوْلُهُ: "وَمَا تَقَرَّبَ إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عَلَيْهِ" 4 الْحَدِيثَ. وَالثَّالِثُ: النَّظَرُ إِلَى مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ بِالشُّكْرَانِ أَوْ بِالْكُفْرَانِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ امْتِثَالُ الأوامر واجتناب النواهي شكرانا على الإطلاق، وكان خلاف ذلك كفرانا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ مَمْدُودَةً مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْفَرْشِ بِحَسَبِ الِارْتِبَاطِ الْحُكْمِيِّ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَةِ: 13] . وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 32-34] . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. فَتَصْرِيفُ النِّعْمَةِ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ شُكْرَانٌ لِكُلِّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْكَ، أَوْ   1 إما أن يكون خبره محذوفًا يدل عليه سابق الكلام كما أشرنا إليه، وإما أن يكون الأصل هكذا: "إلى آخر قوله"، والأول غير مألوف في تأليفه". "د". 2 أي: فكثيرًا ما يكون عدم الورع بارتكاب المشتبه فيه سببا للوقوع في محرم، حيث يكون المشتبه فيه؛ إما مكروهًا، أو خلاف الأولى فقط. "د". 3 قطعة من حديث النعمان بن بشير، المتقدم "ص306"، وهو في "الصحيحين". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502"، وغيره عن أبي هريرة ضمن حديث إلهي. قال "د": "فأنت ترى النوافل كملت الفرائض حتى أوصلت العبد إلى هذه الدرجة محبة الله وما تفرع عليها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 كَانَتْ سَبَبًا فِي وُصُولِهَا إِلَيْكَ، وَالْأَسْبَابُ الْمُوَصِّلَةُ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَا تَخْتَصُّ بِسَبَبٍ دُونَ سَبَبٍ وَلَا خَادِمٍ دُونَ خَادِمٍ؛ فَحَصَلَ شُكْرُ النِّعَمِ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَتَصْرِيفُهَا فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ كُفْرَانٌ لِكُلِّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْكَ أَوْ كَانَتْ سَبَبًا فِيهَا كَذَلِكَ أَيْضًا. وَهَذَا النَّظَرُ ذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي "الْإِحْيَاءِ"1، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ وَلَا [بَيْنَ] نَهْيٍ وَنَهْيٍ؛ فَامْتِثَالُ كُلِّ أَمْرٍ شُكْرَانٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمُخَالَفَةُ كُلِّ أَمْرٍ كُفْرَانٌ على الإطلاق، ثم أَوْجُهٌ أُخَرُ يَكْفِي مِنْهَا مَا2 ذُكِرَ، وَهَذَا النَّظَرُ3 رَاجِعٌ إِلَى مُجَرَّدِ اصْطِلَاحٍ لَا إِلَى مَعْنًى يُخْتَلَفُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يُنْكِرُ أَصْحَابُ هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقوله4 الْجُمْهُورُ بِحَسَبِ التَّصَوُّرِ5 النَّظَرِيِّ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا فِي نَمَطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُقَالُ لَهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56] أَنْ يَقُومَ بِغَيْرِ التَّعَبُّدِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي مَرَاتِبِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي يُشْبِهُ الْمَيْلَ إلى مساحة الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فِي طَلَبِ حُقُوقِهِ، وَهَذَا غَيْرُ لائق بمن لا يملك لنفسه شيئًا فِي6 الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ، بَلْ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَالرَّبُّ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. فَصْلٌ وَيَقْتَضِي هَذَا النَّظَرُ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ مُخَالَفَةٍ تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الشَّارِعِ قَبِيحَةٌ شَرْعًا؛ ثَبَتَ أَنَّ المخالف   1 انظر: "4/ 88". 2 في "ط": "لما". 3 أي: الذي بنى عليه هذه المسألة كلها وهو الاعتبار الصوفي. "د". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يقول". 5 أو كما قال في صدر المسألة: "بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ". "د". 6 في "د": "لا في ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 مَطْلُوبٌ بِالتَّوْبَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ1 أَوِ النَّهْيِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ نَاقَضَتِ التَّقَرُّبَ، أَوْ مِنْ حَيْثُ نَاقَضَتْ وَضْعَ الْمَصَالِحِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ كُفْرَانًا لِلنِّعْمَةِ. وَيَنْدَرِجُ هُنَا الْمُبَاحُ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الرُّخَصِ، وَمَذْهَبُهُمُ الْأَخْذُ بِالْعَزَائِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الرُّخَصِ فِيمَا اسْتَطَاعَ الْمُكَلَّفُ؛ فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُبَاحِ مَرْجُوحٌ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِذَا كَانَ مَرْجُوحًا؛ فَالرَّاجِحُ الْأَخْذُ بِمَا يُضَادُّهُ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرَكُ شَيْءٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ مُخَالَفَةٌ؛ فَالنُّزُولُ إِلَى الْمُبَاحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخَالَفَةٌ2 فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَةً فِي الْحَقِيقَةِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ في اليوم سبعين مرة".3   1 المناسب للطريق الأول في كلامه أن يقول: "مخالفة الأمر والنهي"، كما يناسب أن يزيد بعد قوله: "ناقضت وضع المصالح"؛ فيقول: "أو من حيث لم يأتِ بالفرائض على كمالها المطلوب" ليكون تفريعًا على الشق الثاني من الاعتبار الثاني من الطريق الثاني". "د". 2 أي: فيحتاج هذا المباح إلى التوبة. "د". وفي "ط": "الوجه مخالف". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات: باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، 11/ 101/ رقم 6307" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "والله؛ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". وأخرجه بلفظ المصنف النسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 431" عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي آخره "مائة مرة". وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، 4/ 2075-2076" عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 وَقَوْلُهُ: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ" الْحَدِيثَ1. وَيَشْمَلُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النُّورِ: 31] . وَلِأَجْلِهِ أَيْضًا جَعَلَ الصُّوفِيَّةُ بَعْضَ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ إِذَا اقْتَصَرَ السَّالِكُ عَلَيْهَا دُونَ مَا فَوْقَهَا نَقْصًا وَحِرْمَانًا؛ فَإِنَّ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَوْقَ مَا تقضيه الْمُرَتَّبَةُ الَّتِي دُونَهَا، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى بِالدُّونِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِالِاسْتِبَاقِ إِلَى الْخَيِّرَاتِ مُطْلَقًا، وَقُسِّمَ الْمُكَلَّفُونَ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ [وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ وَالسَّابِقِينَ، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ] 2، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ 3، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منة، 4/ 2075" عن الأغر المزني مرفوعًا: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". وأخرجه من حديثه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 260"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، رقم 1515"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 442"، والطبراني في "الكبير" "رقم 888، 889". ومعنى "ليغان" ما قاله "ف": "أي: ليغطى عليه، من قولهم: غين على الرجل كذا أي: غطى عليه". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط" و"م"، وسقط من الأصل و"د". 3 أي: وهم السابقون كما قال في أول السورة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11] ؛ فالمقربون لهم روح وريحان وجنة نعيم، ولم نضف مثل ذلك لأصحاب اليمين، وإنما اضاف إليهم السلامة من العذاب من جهة أنهم من أصحاب اليمين؛ فدل على تفاوت مراتب الكمال وفضل السابقين المقربين مع أن الكل من أصحاب اليمين، هذا بالنظر للآية التي جمع فيها أصحاب اليمين مع السابقين الذين هم المقربون، وإن كان أسند في أول السورة إلى أصحاب اليمين أنهم: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 28-29] إلى آخر النعم التي أعدها لهم. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 الْآيَةَ: [الْوَاقِعَةِ: 88-89] ؛ فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَجَارُوا فِي مَيْدَانِ1 الْفَضَائِلِ، حَتَّى يَعُدُّوا مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ازْدِيَادٍ نَاقِصًا، وَمَنْ لَمْ يُعَمِّرْ أَنْفَاسَهُ بَطَّالًا2. وَهَذَا مَجَالٌ لَا مَقَالَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا نَبَّهَ حَدِيثُ النَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ3،   1 في الأصل: "ميزان"، وفي "ط": "يتجاوزوا في الميدان". 2 في الأصل: "باطلًا". 3 أخرج الترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد، باب منه، 4/ 603-604/ رقم 2403"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2660"، والدارمي في "السنن" "رقم 11"، وابن الشجري في "الأمالي" "2/ 35"، والبغوي في "التفسير" "4/ 247"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 178" بإسناد ضعيف فيه يحيى بن عبيد الله عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يموت إلا ندم؛ إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع"، قال "د": "وبتطبيقه على عبارته تجد تفاوتا في المعنى؛ فالحديث فيه الندم لكل شخص عند موته، وأما كون ذلك يوم القيامة للجميع دفعة؛ فيحتاج إلى دليل غير هذا الحديث، وأيضًا معنى "نزع" غير معنى "أحسن"؛ فلعله اطلع على غير هذا الحديث، أما الأخذ بالمعنى في هذا؛ فلا يصح الجواب به لأنه يشترط فيه اتحاد المعنى وإن لم يكن مستوفيًا لجميع مضمون الحديث، ومع ذلك؛ فحديث الترمذي بنفسه كاف في غرضه". قلت: حسرة أهل النار يوم القيامة ثابتة واردة في القرآن، أما أهل الجنة؛ فورد في ذلك أحاديث مرفوعة، أصرحها ما أخرجه الخطيب البغدادي في "تالي التلخيص" "رقم 164 – بتحقيقي" بسنده إلى معاذ بن جبل رفعه: "ما يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت لم يذكروا الله فيها". وإسناده ساقط، فيه عبد الله بن الحسين المصيصي، قال ابن حبان: "يسرق الأخبار ويقلبها، لا يحتج بما انفرد به". وأصحها ما أخرجه أحمد "2/ 463"، وابن حبان "2322 – موارد" عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما قعد قوم مقعدًا لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة للثواب"، وإسناده صحيح. وأخرج نحوه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "321"، والنسائي في "الكبرى" –كما في "تحفة الأشراف" "3/ 349"، والقاضي إسماعيل في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" "55" عن أبي سعيد الخدري، وتمام التخريج تجده في تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 حَيْثُ تَعُمُّ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ؛ فَيَنْدَمُ الْمُسِيءُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَحْسَنَ، وَالْمُحْسِنُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِ ازْدَادَ إِحْسَانًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إِثْبَاتٌ لِلنَّقْصِ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ لَا نَقْصَ فِيهَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْبَاتِ نَقْصٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ رَاجِحٌ وَأَرْجَحُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ1، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِهَا2 فِي الْأَكْمَلِيَّةِ وَالْأَرْجَحِيَّةِ، وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُم} [البقرة: 253] . [وقال: {فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض} [الْإِسْرَاءِ: 55] 3. وَمَعْلُومٌ أَنْ لَا نَقْصَ فِي مَرَاتِبِ النُّبُوَّةِ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُسَارَعَةَ فِي الْخَيْرَاتِ تَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِأَقْصَى الْمَرَاتِبِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَادَةً، فَلَا يَلِيقُ بِصَاحِبِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى مَرْتَبَةٍ دُونَ مَا فَوْقَهَا؛ فَلِذَلِكَ قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض   1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، 6/ 11/ رقم 2790، وكتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، 13/ 404/ رقم 7423" ضمن حديث طويل عن أبي هريرة، فيه: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ... ". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، 6/ 320/ رقم 3256"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يُرى الكوكب في السماء، 4/ 2177/ رقم 2831" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم". 3 سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 الْمَرَاتِبِ مَعَ إِمْكَانِ الرُّقِيِّ، وَتَتَحَسَّرُ إِذَا رَأَتْ شُفُوفَ1 مَا فَوْقِهَا عَلَيْهَا، كَمَا يَتَحَسَّرُ أَصْحَابُ النَّقْصِ حَقِيقَةً إِذَا رَأَوْا مَرَاتِبَ الْكَمَالِ؛ كَالْكُفَّارِ، وَأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَمَّا فَضَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دُورِ الْأَنْصَارِ وَقَالَ: "فِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ" 2. قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! خُيِّر دُورُ الْأَنْصَارِ فجُعِلنا3 آخِرًا. فَقَالَ: "أَوْ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ؟ " 4. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "قَدْ فَضَّلَكُمْ على كثير" 5. فهذا يشير إلى رُتَبَ الْكَمَالِ تَجْتَمِعُ فِي مُطْلَقِ الْكَمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَرَاتِبُ أَيْضًا؛ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، والله أعلم.   1 أي: فضل ما فوقها عليها زيادة ما هو فيه من نعمة وخير. "ف". 2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949-1950/ رقم 2511" عن أبي سعيد الساعدي رضي الله عنه مرفوعًا. وفي الباب عن أبي حميد كما سيأتي قريبًا. وفي "ط": "وفي كل ... ". 3 الرواية كما في البخاري في مناقب الأنصار بصيغة المبني للمجهول في خير وجعل، وهذا هو ما يقتضيه سياق الكلام، لا بصيغة الأمر كما في أصل النسخة؛ أي: فمع أنهم من الخيار لم يقنعوا بذلك، ولم يرضوا بمرتبة دون ما فوقها، وبهذا صح الاستدلال به على فضل تطلب المراتب العالية. "د". وفي هذا رد على "ف" حيث قال: "ولعله واجعلنا" طلب المفاضلة، ولو بجعله آخرًا". وضبط ناسخ "ط": "خير" بفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف. 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3791"عن أبي حميد الساعدي به. 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789" عن أبي أسيد مرفوعًا، وهو قطعة من الحديث قبل السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: "حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ"1 رَاجِعٌ2 إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وهو ظاهر [فيه] 3، والله أعلم.   1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته "التوبة" "ص45" بعد كلام: "وبهذا يعرف قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، مع أن هذا اللفظ ليس محفوظًا عمن قوله حجة؛ لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هو كلام وله معنى صحيح، وقد يحمل على معنى فاسد. أما معناه الصحيح؛ فوجهان: أحدهما: أن الأبرار يقتصرون على أداء الواجبات وترك المحرمات، وهذا الاقتصار سيئة في طريق المقربين، ومعنى كونه سيئة أن يخرج صاحبه عن مقام المقربين؛ فيحرم درجاتهم، وذلك مما يسوء من يريد أن يكون من المقربين؛ فكل من أحب شيئًا وطلبه إذا فاته محبوبه ومطلوبه ساءه ذلك؛ فالمقربون يتوبون من الاقتصار على الواجبات، لا يتوبون من نفس الحسنات التي يعمل مثلها الأبرار، بل يتوبون من الاقتصار عليها، وفرق بين التوبة من فعل الحسن وبين التوبة من ترك الأحسن والاقتصار على الحسن. الثاني: أن العبد قد يؤمر بفعل يكون حسنًا منه؛ إما واجبًا، وإما مستحبًّا لأن ذلك مبلغ علمه وقدرته، ومن يكون أعلم منه وأقدر لا يؤمر بذلك، بل يؤمر بما هو أعلى منه، فلو فعل هذا ما فعله الأول كان ذلك سيئة"، ثم قال بعد أن ذكر أمثلة: "وأما المعنى الفاسد؛ فأن يظن الظان أن الحسنات التي أمر الله بها أمرًا عاما يدخل فيه الأبرار ويكون سيئات للمقربين، مثل من يظن أن الصلوات الخمس ومحبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين لله ونحو ذلك هي سيئات في حق المقربين؛ فهذا قول فاسد غلا فيه قوم من الزنادقة المنافقين المنتسبين إلى العلماء والعباد؛ فزعموا أنهم يصلون إلى مقام المقربين الذي لا يؤمرون فيه بما يؤمر به عموم المؤمنين من الواجبات، ولا يحرم عليهم ما يحرم على عموم المؤمنين من المحرمات؛ كالزنا، والخمر، والميسر، وكذلك زعم قوم في أحوال القلوب التي يؤمر بها جميع المؤمنين أن المقربين لا تكون هذه حسنات في حقهم، وكلا هذين من أخبث الأقوال وأفسدها". 2 أي: يعتبرها المقربون سيئات لنقص رتبتها عن مراتب فوقها، وهو من هذا الباب. "د". 3 سقط من "ط". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَطْلُوبَةِ مَا هُوَ حَقٌّ1 لِلَّهِ [وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ وَأَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ] 2 كَمَا أَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ هُنَا بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَنَقُولُ: الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي يُمْكِنُ أَخْذُهَا امْتِثَالًا مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا3 عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَمَعْنَى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلًا بقول اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ؛ فَلِامْتِثَالِهِ هَذَا الْأَمْرَ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى [قُدْرَتِهِ عَلَى] قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِلَى زَادٍ يَبْلُغُهُ، وَإِلَى مَرْكُوبٍ يَسْتَعِينُ بِهِ، وَإِلَى الطَّرِيقِ إِنْ كَانَ مَخُوفًا أَوْ مَأْمُونًا، وَإِلَى اسْتِعَانَتِهِ بِالرُّفْقَةِ وَالصُّحْبَةِ لِمَشَقَّةِ الْوَحْدَةِ وَغَرَرِهَا4، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعُودُ عَلَيْهِ فِي قَصْدِهِ بِالْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْ بِالْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُ أَسْبَابُ السفر وشروطه العاديات؛ انتهض للامتثال،   1 أي: صرف، والله غني عنه؛ فهو راجع إلى مصلحة العباد دنيا أو أخرى، وهو العبادات والتحليل والتحريم وحفظ الضروريات الخمس وغير ذلك، ومنها ما كان حقا لله والعبد، ولكن حق الله مغلب؛ كحفظ النفس؛ إذ ليس للعبد إسلام نفسه للقتل، وَالثَّالِثُ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مغلب؛ كالعتق للعبد مثلا، هذا ولكنه في التفريع أجمل، ومع كونه أطلق في العبادات أنها حق الله؛ فإنه هنا جعل شروط الوجوب من حق المكلف، وهذا معقول. "د". 2 سقط من "ط". 3 أي: فلا يعتبر حق العبد مطلقًا بجانب حق الله، بل كأنه ليس للعبد حق أصلًا، ولا يقال: إنه تتعارض الأوامر التعلقة بحق الله تعالى حينئذ مع الأوامر المتعلقة بحق العبد؛ لأن هذه تعتبر رخصًا والأولى عزائم، ولا تعارض بينهما. "د". 4 في "د": "وغرورها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ عَلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَنْحَتِمْ1 عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، غَافِلًا وَمُعْرِضًا2 عَمَّا سِوَى ذَلِكَ فَيَنْتَهِضُ إِلَى الامتثال كيف أمكنه، لا يثنه عَنْهُ إِلَّا الْعَجْزُ الْحَالِيُّ3 أَوِ الْمَوْتُ آخِذًا لِلِاسْتِطَاعَةِ4 أَنَّهَا بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَ مِنْ رَمَقِهِ بَقِيَّةٌ، وَأَنَّ الطَّوَارِقَ5 الْعَارِضَةَ وَالْأَسْبَابَ الْمُخَوِّفَةَ لَا توازي عظمة أمر الله فتسقط، أَوْ لَيْسَتْ بِطَوَارِقَ وَلَا عَوَارِضَ فِي مَحْصُولِ الْعَقْدِ الْإِيمَانِيِّ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ. وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. فَأَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ: فجارٍ عَلَى اعْتِبَارِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الاستطاعة المشروطة راجع إليها6.   1 أي: إذا نظر في تحقق شروط الوجوب في نفسه وعدم تحققها ولم يجدها متحققة، أو بعضها عرف أن الطلب لم ينحتم، يعني: ولكنه لا يزال متوجهًا بدليل أنه إذا عالج الذهاب للحج مثلًا حتى أداه صح وكان طاعة، ولا يكون كذلك إلا والطلب الأصلي متوجه، ويكون عدم إثمه بعدم الفعل رخصة، وإن كانت بالمعنى الأعم؛ لأن قيام السبب لحكم الوجوب ليس كاملًا. "د". 2 في "ط": "أو معرضًا". 3 أي: الحاصل بالفعل، لا ما يطرأ في تقديره باعتبار؛ فقد بعض الشروط والأسباب العادية. "د". 4 هو حال من فاعل ينتهض والمعنى معتبرًا وملاحظا أن الاستطاعة باقية ما بقي فيه رمق. "ف". 5 لعلها: "الطوارئ" بالهمز؛ فإنها بالقاف من الطرق أو الطروق وهو القدوم ليلًا مثلًا لا تناسب، وكثيرًا ما تقدمت في كلامه بالهمز لا بالقاف، وقوله: "أو ليست بطوارئ" نظر أرقى مما قبله. "د". 6 فكأن الحق لله في هذه العبادة يثبت حتما عند استيفاء شروطها، فإذا لم تستوفِ؛ كان من حق العباد التخلي عنها. "د". وفي "ط": "في الاستطاعة راجع في الاستطاعة المشروعة راجع إليها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 وَأَمَّا الثَّانِي؛ فجارٍ عَلَى إِسْقَاطِ اعْتِبَارِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَأْخَذِ أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْعَبْدِ التَّعَبُّدُ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ عَلَى اللَّهِ ضَمَانُ الرِّزْقِ، كان ذلك مع تعاطي الأسباب أو لا2؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56-57] . [وَقَوْلُهُ] 3: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] . فَهَذَا وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ؛ فَالْمُقَدَّمُ حَقُّ اللَّهِ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَضْمُونَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالرِّزْقُ مِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَاقْتَضَى الْكَلَامُ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ4 بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ الرِّزْقِ، وَإِذَا ثَبَتَ هذا   1 في المسألة السابعة من الأسباب، وأن ذلك لصاحب الحال الذي يغلب عليه أن الأسباب والمسببات بيد الله، وأنه لا أثر مطلقا لهذه الأسباب، ويغفل عن العادة الموضوعة في الأسباب. "د". 2 تقدم في المسألة الثانية من الأسباب أن قوله تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132] ، وأمثاله مما ضمن فيه الرزق ليس راجعًا إلى التسبب، بل إلى الرزق المتسبب فيه، ولو كان المراد التسبب؛ لما طلب المكلف بتكسب عَلَى حَالٍ، وَلَوْ بِجَعْلِ اللُّقْمَةِ فِي الْفَمِ أو ازدراع الحب ... إلخ، لكن ذلك باطل باتفاق، وقوله: "فهذا واضح ... إلخ" هو من الخفاء بمكان؛ لأنه أين التعارض في الآيتين، وأين الترجيح بعد ما قال سابقا: إن ضمان الرزق لا شأن له بالتسبب كما عرفت؟ وكما سيأتي لنا في الدليل الثالث في آية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132] . 3 سقط من "ط". 4 يعني: دون أن يدخل في الأسباب الموضوعة لذلك، لكن أين هذا من الآيات ولم يكن في الآيات تعليق؟ ولو ضمنيًّا يقتضي أن تترك الأسباب رأسًا؛ فيأتي الرزق بمجرد الاشتغال بالعبادة والواقع والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه لا رابطة بين الرزق والإيمان، فضلًا عن سائر الطاعات، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 فِي الرِّزْقِ؛ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْمُجْتَلَبَةِ وَالْمَفَاسِدِ الْمُتَوَقَّاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 [يُونُسَ: 107] . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَنْعَامِ: 71] . وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 [الطَّلَاقِ: 3] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاقِ: 2-3] . فَمَنِ اشْتَغَلَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَاللَّهُ كَافِيهِ، وَالْآيَاتُ في هذا المعنى كثيرة.   = بل ربما كان الآمر بالعكس، وأن سعة الرزق لغير المؤمنين، ويدل عليه حديث عمر: "ادع الله أن يوسع على أمتك"، فقال له: "أفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم ... " إلخ، وأما آيه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] ؛ فمحل الجزاء قوله: {مِنْ حَيْثُ} كما يدل عليه الحديث في قصة رجل أشجع المتقدمة في المسألة الثانية في الرخص، وسيأتي لنا كلام آخر في الدليل الثالث يتعلق بهذا المبحث. "د". 1 أي: أيُّ ضر وأيُّ خير أراده لك؟! فليس لغيره دفعه عنك ولا جلبه إليك، لا يغالبه أحد، هذا ظاهر، ولكنه كلفنا فيما وضع له أسبابًا بالأخذ فيها وإن لم يكن لها تأثير في الفعل. "د". 2 نعم، وقد ورد "اعقلها وتوكل"*، و: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" **؛ فالطير التي شبه بها من يتوكل نهاية التوكل تأخذ في الأسباب فتغدو وتروح؛ فلا منافاة بين التوكل واعتقاد أن الأسباب لا أثر لها رأسا، وأنه تعالى خالق السبب والمسبب معًا مع امتثال الأمر بالأخذ في السبب. "د".   * انظر تخريجه "1/ 304". ** انظر تخريجه "1/ 303". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 وَالثَّانِي: مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ" 1 الْحَدِيثَ؛ فَهُوَ كُلُّهُ نَصٌّ فِي تَرْكِ الِاعْتِمَادِ2 عَلَى الْأَسْبَابِ، وَفِي الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بطاعة الله.   1 أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم 11560"، والبيهقي في "الأسماء" "رقم 126" من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وأخرجه من حديث ابن عباس أيضًا بلفظ مقارب: الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ 2516" –قال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 41-43" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في "الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"، وابن السني في "عمل اليوم الليلة" "رقم 427"، والبيهقي في "الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد رُوي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره". وانظر: "فتح الباري" "11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث، وهو صحيح. 2 ترك الاعتماد على الأسباب ليس تركًا للأسباب؛ لأن الاعتماد عليها عند المؤمن معناه النظر إليها بأنها إن لم تكن لا يوجد الله المسبب، كما هو مجرى العادة، وعدم الاعتماد عليها بهذا المعنى لا ينافي الأخذ بها امتثالًا للأمر مع إغفال مجرى العادة، كما هو دأب من يغلب عليهم شهود التوحيد في الأفعال. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 وَأَحَادِيثُ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ1؛ كَقَوْلِهِ: "اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَد مِنْكَ الْجَدُّ" 2. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ابْنِ صَيَّادٍ: "إِنْ يَكُنْهُ؛ فَلَا تُطِيقُهُ" 3. وَقَالَ: "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ" 4. وَقَالَ: "لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، وَلِتَنْكِحَ فإن لها   1 أي: وغيرهما؛ فالحديثان الأولان فيهما، والباقي في أمور أخرى تتعلق بالقدر أيضًا. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، 2/ 325/ رقم 844، وكتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، 11/ 306/ رقم 6473" مختصرًا و"كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، 1/ 414-415/ رقم 593" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعًا. قال "ف": "الجَد؛ بالفتح: الغنى والحظ، ومنك معناه عندك، أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه عمله بالطاعات كما قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] " ا. هـ. 3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، 4/ 2240/ رقم 2924" عن عبد الله بن مسعود بلفظ: "إن يكن الذي ترى؛ فلن تستطيع قتله". وأخرجه "4/ 2244/ رقم 2930" عن عمر بلفظ: "إن يكنه فلن تسلط عليه". قال "د": "أي: إنه مهما كان لديك من قوة السبب والقدرة على قتل مثله فلن تقتله؛ لأن ما في قدر الله ليس كذلك". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء، 9/ 117/ رقم 5076" عن أبي هريرة؛ قال: قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت له مثل ذلك؛ فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة! ... " وذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 مَا قُدِّرَ لَهَا" 1. وَقَالَ فِي الْعَزْلِ: "وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ" 2. وَفِي الْحَدِيثِ: "الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ [اللَّهُ] 3. وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ من الزنى أدرك ذلك لا محالة" 4.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ، 11/ 494/ رقم 6601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، 2/ 1033/ رقم 1413" عن أبي هريرة مرفوعًا. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العتق، باب من ملك من الأعراب رقيقا ... 5/ 170/ رقم 2542، وكتاب النكاح، باب العزل، 9/ 305/ رقم 5210"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب حكم العزل، 2/ 1061/ رقم 1438" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب المعصوم من عصم الله، 11-501/ رقم 6611، وكتاب الأحكام، باب بطانة الإمام وأهل مشورته، 13/ 189/ رقم 7198" عن أبي سعيد مرفوعًا، ونصه: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفته؛ إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمر بالمعروف وتخضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصم الله تعالي". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 29، 88" وغيره. وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاستئذان، باب زنى الجوارح دون الفرج، رقم 6243، وكتاب القدر، باب {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، رقم 6612"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القدر القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره، 4/ 2046/ رقم 2657" عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال "د": "وهو وما قبله من الأحاديث التي تذكر في باب القدر، وهو مقام آخر غير طلب التسبب المطلوب في العبادات والعادات، ولذلك لما ورد معناها على الصحابة فهموا منها ترك الأسباب، وقالوا: أفلا نتكل؟ قال عليه الصلاة والسلام: "اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له" 1، فلماذا تأتي بها دليلًا على خصوص ترك الأسباب في العادات مع أنها عامة كما ترى؟ ولو أخذت كذلك؛ لوقف التسبب في الطاعات أيضًا، وبالجملة؛ فالمأخذان المذكوران غير ظاهرين لأنهما في مقام آخر لا ينافي الأخذ بالأسباب" "د".   1 انظر تخريجه: "1/ 334". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 إِلَى سَائِرِ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَسْبَابِ التَّسَبُّبُ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا تَرُدُّ شَيْئًا، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعُ، وَأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ هِيَ الْعَزِيمَةُ الْأُولَى. وَالثَّالِثُ: مَا ثَبَتَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ [وَسَلَامُهُ] 1؛ فَقَدَّمُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ قَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى تفطرت2 قدماه.   1 زيادة من الأصل. 2 الشواهد التي ساقها المؤلف هنا محل بحث، أما قيامه عليه السلام حتى تفطرت قدماه؛ فإنما يصح أن يكون دليلًا إذا ثبت أنه في ذلك زاد عما طلب منه حتمًا على وجه الخصوصية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1] ، وقوله: "أفلا أكون عبدا شكورا؟ " جوابا لمن قال له: لِمَ تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ لا ينافي أن يكون الشكر بالامتثال، وأما تبليغه رسالة ربه على خوف من قومه؛ فمعلوم أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالتبليغ حتمًا، {قُمْ فَأَنْذِرْ ... } إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 2-7] ، وهذا في أول الأوامر بالتبليغ جاء حتما، ومثله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ، واقترن الأمر الحتم بكفالة التأييد {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 94-95] ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ .... } إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 36-37] ، وما وصل إليه الأمر بالتبليغ إلا بعد أن ثبته الله تعالى وطمأنه باطلاعه على باهر قدرته، وعظيم جنده المالئين للسماوات = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 .................................................   = والأرض، وأن واحدا من الجند كجبريل الذي أراه له قبل ذلك1 على هيئته الأصلية يستطيع سحق الأرض ومن عليها، بعد هذا كله جاء له الأمر الحتم بالتبليغ مع قرنه بالتأييد على ما عرفت، وقد سبق للمؤلف أنه لا ينحصر التسبب في الأسباب المشهورة، وأنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يجد قوتا أمر أهله بالصلاة"2 أخذا من قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ... } [طه: 132] ، وأن ذلك سبب خاص للرزق من باب الكرامة له عليه السلام وهو يحقق ما قلناه في الدليل الأول؛ فلا تؤخذ الآية عامة للاستدلال بها على ما يريد؛ فكيف يعد هذا مما نحن فيه، وأنه مع دواعي خوفه وعدم استكمال الشروط أو الأسباب بلغ الرسالة؛ لكنه لو قال: إنه في تبليغ الرسالة زاد عما طلب منه؛ فكان شديد الحرص على إيمان قومه وتلبية دعوته، وكان يعمل لذلك فوق الجهد والطاقة، ويألم أشد الألم لعدم مسارعتهم إلى الإيمان وإجابة الدعوة؛ حتى وردت الآيات لتخفف عنه ما كان يجد مثل: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 99] ، وأمثال ذلك، وقد لاحظ صلى الله عليه وسلم أصل الأمر بالدعوة جادا فيه معرضا عما سوى ذلك، نعم، هذا هو الذي يصح أن يعد دليلا على مدعاه، وآية: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] تؤيد ما ذكرنا؛ فإن عدم خشية غيره تعالى ما جاء إلا من التأييد بالقوة التي عرفوها واطمأنوا إليها مع الوعد بذلك؛ ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما عرضت عليه الرسالة لفرعون طلب أولا تقويته بهارون الأفصح منه، وأنه يخاف قتله قصاصا لمن قتله من قوم فرعون، فلما ضم إليه هارون؛ قالا معا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] ، فلما سمعا التأييد بقوله تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] سارعا إلى تنفيذ المطلوب بدون خوف من جند فرعون وصولته، وقول هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] أبلغ دليل على أنه مأمور عالم أنه مؤيد غاية التأييد؛ فليس مما نحن فيه أيضًا، وإلا لكان إلقاء باليد إلى التهلكة بدون موجب، وليس هناك فائدة تعود على هداية قومه التي ندبه الله لها من تسليط أمته بأجمعها على كيده والفتك به، نعم، إن مسألتي ابن أم مكتوم وجندع بن ضمرة وأخيه3 مما نحن فيه؛ فإنهم أخذوا بالأمر: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] بدون نظر إلى الرخصة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] ، وذلك داخل في الرخصة بالإطلاق الأول المشهور؛ إذ أن ذلك جاء بلفظ رفع الحرج أي مع بقاء أصل الطلب متوجها وإن لم يكن حتما. "د".   1 كما هو ثابت في "صحيح البخاري" "رقم 3232، 4856، 4857" وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه. 2 انظر تخريجه "1/ 333". 3 سيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف قريبًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 وَقَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" 1. وَبَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ2 [مِنْ قَوْمِهِ حِينَ تَمَالَئُوا عَلَى إِهْلَاكِهِ] ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التَّوْبَةِ: 51] . وَقَالَ لَهُ: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الْأَحْزَابِ: 48] . فَأَمَرَهُ بِاطِّرَاحِ مَا يَتَوَقَّاهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ3. وَقَالَ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] .   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ، 8/ 584/ رقم 4837"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2819" وغيرهما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. 2 لو قال: على ما تراكم حوله من دواعي الخوف من قومه مثلا؛ لكان أليق؛ فسيأتي في وصف الرسل: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] ، فلم يبلغها وعنده شيء من الخوف. "د". وما بين المعقوفتين بعدها سقط من "ط". 3 أي: كافيه شرهم وأذاهم؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] . "ف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الْأَحْزَابِ: 38] . وَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُبَلِّغُهُمُ الرِّسَالَةَ: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [هُودٍ: 55-56] . وَقَالَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] . فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] . وكان عبد الله بن أُمِّ مَكْتُومٍ قَدْ نَزَلَ عُذْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النِّسَاءِ: 95] ، وَلَكِنَّهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي أَعْمَى لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفِرَّ؛ فَادْفَعُوا إليَّ اللِّوَاءَ وَأَقْعِدُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ1. فَيَتْرُكَ مَا مَنَحَ مِنَ الرُّخْصَةِ، وَيُقَدِّمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ. ورُوي عَنْ جُنْدَعِ2 بْنِ ضَمْرَةَ أَنَّهُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمَّا أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ وَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الدِّينَ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ؛ قَالَ لِبَنِيهِ: "إِنِّي أَجِدُ حِيلَةً فَلَا أُعْذَرُ، احْمِلُونِي عَلَى سَرِيرٍ". فَحَمَلُوهُ، فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ وَهُوَ يُصَفِّقُ يَمِينَهُ عَلَى شَمَالِهِ وَيَقُولُ: "هَذَا لَكَ وَهَذَا لِرَسُولِكَ"3 الْحَدِيثَ.   1 أخرج نحوه عبد الله بن المبارك في كتابه "الجهاد" "رقم 110"، وفي إسناده ضعف. 2 أوله جيم مضمومة بعدها نون ساكنة، ودال مهملة مفتوحة، انظر: "الإكمال" "3/ 125"، و"المؤتلف والمختلف" "ص933" للدارقطني، وفي الأصل: "جندب". 3 أخرج ابن جرير في "التفسير" "5/ 240"، وأبو يعلى في "المسند" "5/ 81/ رقم 2679" والواحدي في "أسباب النزول" "132"، وابن أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 372"- وابن منده وعبد الغني بن سعيد في "تفسيره" -وهو الثقفي، أحد الضعفاء- كما في "الإصابة" "1/ 252-253" من طريقين عن ابن عباس نحوه، وفي كل منهما ضعف؛ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وأخٌ لِي أُحُدًا، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ؛ قُلْتُ لِأَخِي أَوْ قَالَ لِي: أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إِلَّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ؛ فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ، فَكَانَ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عُقْبة1 وَمَشَى عُقْبَةً؛ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَفِي النَّقْلِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرٌ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي فَصْلِ الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ إِذَا وُقِفَ مَعَهَا حَسْبَمَا تَقَرَّرَ اقْتَضَتِ اطِّرَاحَ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً، أَعَنِي مَا كَانَ مِنْهَا عَائِدًا إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَهَا وَأَمَرَ بِهَا، وَاسْتَعْمَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ2 والتابعون   = ففي أحدهما أشعث بن سوار وعبد الرحمن بن زياد المحاربي وهما ضعيفان، وفي الأخرى شريك، وهو ضعيف لسوء حفظه. وأخرجه الفاكهي "4/ 62/ رقم 2382"، والأزرقي "2/ 212"، كلاهما في "أخبار مكة"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 239"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 14"، وعبد الرزاق في "التفسير" "1/ 171"، وعبد بن حميد وابن المنذر -كما في "الدر المنثور" "2/ 208"- بإسناد صحيح إلى عكرمة نحوه. وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" "رقم 2384" عن ابن جريج نحوه، وأخرجه البلاذري والسراج من طريق سعيد بن جبير نحوه؛ كما في "الإصابة" "1/ 252". فالقصة مدارها على المراسيل، والمرفوع منها ضعيف، وفيها يذكر سبب نزول قول الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} [النساء: 100] . وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 352-352". 1 عُقْبة؛ بضم فسكون: النوبة والشوط، وانظر إلى هذه النية الخالصة والجهاد العظيم رضي الله عنهم، ولذلك كانوا خير القرون. "ف". 2 في "ط": "والصحابة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 بَعْدَهُ وَهَى عُمْدَةُ مَا حَافَظَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي الطَّلَبِ؛ فَمِنْهَا مَا هُوَ مَطْلُوبٌ حَتْمًا كَالْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ، وَسَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ الْمُرَاعَاةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِحَتْمٍ كَالْمَنْدُوبَاتِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْمَنْدُوبَاتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً؟ هَذَا [مِمَّا] لَا يَسْتَقِيمُ فِي النَّظَرِ. وَأَيْضًا؛ فَالْأَدِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِمَا تَقَدَّمَ أَكْثَرُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [الْبَقَرَةِ: 195] . وَقَوْلِهِ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 1 الآية [البقرة: 197] . وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْتَعِدُّ الْأَسْبَابَ لِمَعَاشِهِ وَسَائِرِ أَعْمَالِهِ مِنْ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ، وَيَعْمَلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَالسُّنَّةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ الْجَرَيَانُ عَلَى الْعَادَاتِ، وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَقْتَضِيهِ2؛ فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ صَحَّ بَطَلَ الْآخَرُ، وَلَيْسَ مَا دَلَّلْتُمْ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِمَّا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ، وَالتَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ تحكم.   1 قد يقال: إن هذه الآية على تفسيرها بالنهي عما يؤدي بالنفس إلى هلاكها لا تصلح دليلا هنا؛ لأن هذا ليس من حقوق العباد، بل من حق الله تعالى؛ كما تقدم للمؤلف أن حفظ النفس من حق الله تعالى، وكما قال هنا: "وسائر الضروريات المراعاة ... إلخ"؛ فلا يجوز للشخص أن يسلم نفسه للهلاك، وكذا يقال في آية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} ؛ فإنها وإن كان ظاهرها طلب الأخذ بأسباب حفظ النفس من الأعداء؛ فهي في الحقيقة طلب إعداد آلة الجهاد في سبيل الله؛ فهو واجب مكمل لواجب الجهاد الذي هو من حق الله تعالى قطعا. "د". 2 يريد: بل يقتضي خلافه، أما مجرد كونه لا يقتضيه؛ فلا يقتضي أنه ينافيه ويعارضه حتى يطلب التخلص منه. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 فالجواب: أن ما نقدم لَا يَدُلُّ عَلَى اطِّرَاحِ الْأَسْبَابِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ1 بَعْضِ الْأَسْبَابِ خَاصَّةً2 -وَهَى الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى- عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، عَلَى وَجْهٍ اجْتِهَادِيٍّ شَرْعِيٍّ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ؛ فَلَيْسَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْأَسْبَابِ وَاسْتِعْمَالُهُ لَهَا تَعَارُضٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِعْلَ مَنِ اطَّرَحَهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَعَمَلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى اطِّرَاحِهَا كَذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَنَدْبُهُ3 إِلَى ذَلِكَ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الْأَسْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَجْهُ الْفِقْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، عِنْدَ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ، هَذَا جَوَابُ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَتْ أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَيْفَ كَانَتْ، وَإِنَّمَا فُسِّحَ لِلْمُكَلَّفِ فِي أَخْذِ حَقِّهِ وَطَلَبِهِ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ لَا مِنْ بَابِ عَزَائِمِ الْمَطَالِبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْعَزَائِمُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مَا لَمْ يُعَارِضْ مُعَارِضٌ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ نَدْبًا إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ التحسينيات، [وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَ التَّحْسِينِيَّاتِ] خَادِمٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّى الْإِخْلَالُ بِهَا إِلَى الْإِخْلَالِ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّ الْمَنْدُوبَاتِ بِالْجُزْءِ وَاجِبَاتٌ بِالْكُلِّ؛ فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ قَدْ يَسْبِقُ4 إِلَى النَّظَرِ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَاجِبَاتِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ صحيح مستقيم في النظر.   1 أي: أن المأخذ الثاني ليس مبينا على إسقاط الأسباب رأسا، بل إسقاط الأسباب التي تتعلق بحق العبد، والاحتفاظ بالأسباب المتعلقة بحق الرب؛ فقوله: ليس هناك تعارض؛ أي: لأن الأمر بها والأخذ لا يقتضي الدلالة على تقديمها حتما على الأسباب المتعلقة بحق الله تعالى؛ فهذه مقدمة باعتبار هذا النظر وأدلته. "د". 2 في "ط": "الأسباب على بعض وهي ... ". 3 في "ط": "وندب". 4 هو كما ترى من الخطابة. "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ، فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ1 أَصْلًا وَإِذَا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ [فِيهَا] 2 مُعَارَضَةٌ أَصْلًا وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّ تَقْدِيمَ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ3 يُعَارِضُ فِي تَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ مُعَارِضٌ يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْيِيعُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَثَلًا لِمَرَضِهِ، وَلَكِنَّهُ صَامَ؛ فَشَغَلَهُ أَلَمُ الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَإِدَامَةِ الْحُضُورِ فِيهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ عَادَتْ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِحَقِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ بِنَكِيرٍ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ الْأَحَقُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا فِقْهٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَسَنٌ جِدًّا4، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا5 يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الْمُكَلَّفِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، أَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ؛ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تعالى، وقد تبين هذا في موضعه.   1 في "ف" و"ط": "حقوق الله على حقوق العباد" بتقديم وتأخير، وهو خطأ. وفي هذا الموضع من حاشية الأصل قال المحشي: "يعني أن الأدلة السابقة تدل على جواز اطراح حظ العبد وتقديم حد الله، وأن الجواز ليس بمستوي الطرفين، بل تقديم حق الله أولى، وأدلة حقوق العباد تدل على جواز مراعاة حظ العبد، وهذا لا ينافي الأول؛ فلا تعارضها، وبالجملة؛ فأدلة الجانبين متفقة على الجواز، وتزيد الجانب الأول؛ فإن الأولى والأرجح تقديم حق الله، وهذا واضح جدًّا في عدم التعارض؛ فتأمل". 2 سقط من "ط". 3 وفي الحقيقة يرجع إلى تقديم حق الله تعالى. "د". 4 نعم، فقه حسن، ولكن هذه المسألة ينقصها بسط التفريع على مسألة الحقوق كما أشرنا إليه، كما ينقصها أكثر من هذا تحرير الأدلة وإحكامها، كما تعودناه من المؤلف رحمه الله. "د". 5 في "ط": "مما". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ1، وَالْآخَرُ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ التَّعَاوُنِ، [هَلْ يُعْتَبَرُ الْأَصْلُ أَوْ جِهَةُ التَّعَاوُنِ] 2؟ أَمَّا اعْتِبَارُهُمَا مَعًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَلَا يَصِحُّ3، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ؛ فَالْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ أَوِ التَّعَاوُنِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ4؛ فَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ5 إِلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ فَإِنَّهُ مَنَعَ الْجَائِزَ6، لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الْمَمْنُوعِ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ7، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: اعْتِبَارُ الْأَصْلِ؛ إِذْ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُنْضَبِطُ، وَالْقَانُونُ الْمُطَّرِدُ. وَالثَّانِي: اعْتِبَارُ جِهَةِ التَّعَاوُنِ؛ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْأَصْلِ مؤدٍ إِلَى المآل8   1 وهو إقامة الضروري أو الحاجي، وقوله إلى جهة التعاون؛ أي: بأن يكون الفعل في ذاته غير مطلوب، ولكن يتوصل به إلى المطلوب. "ف". 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 3 لأنه يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق وقوعًا، مع الاتفاق على عدمه. "د". 4 ومثاله مشتري الأغذية من الأسواق لاحتكارها؛ فأصل الشراء مأذون فيه لكسب المعاش، ولكنه قد يؤدي إلى التضييق على الجمهور، والاحتكار ممنوع إذا أدى إلى ذلك كما رواه مالك* عن عمر؛ قال: "لا حكرة في سوقنا ... " الحديث. "د". 5 فمنهم من يعملها مطردة فيمنع الأصل كمالك، ومنهم من يخصها بمواضع قد يكون منها هذا وقد لا يكون، وقوله: "فإنه منع الجائز" مبني على إعمالها. "د". 6 أي: المأذون فيه؛ لأن الموضوع الأمر. "د". 7 وأنه متفق عليه في الجملة، وأنه حصل اختلاف في بعض التفاصيل. "د". 8 كذا في "ط"، وفي غيره: "الملال"، وكتب "د": "صوابه: "المآل" كما يعينه المقام =   * في "الموطأ" "404 - رواية يحيى و2/ 356/ رقم 2598 - وراية أبي مصعب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 ..................................   ولاحق الكلام، أو كما سيأتي في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد. وتلخيص المسألة أنه إذا ورد أمر ونهي على فعل باعتبارين: اعتبار أصله وذاته بقطع النظر عما يؤول إليه ويترتب عليه، ويعين هو عليه واعتبار المآل والتعاون، وكان أصل الفعل من الضروريات أو الحاجيات؛ فإما أن يرد الأمر على أصله والنهي على ما يؤدي إليه، أو بالعكس. فإن كان الأول؛ ففيه خلاف: 1- اعتبار الأصل وقطع النظر عما يؤول إليه، ووجهه أن الأصل هو المطرد والمنضبط. 2 اعتبار جهة التعاون والمآل لأن اعتبار الأصل وقطع النظر عن المآل يؤدي إلى هذا المآل المنهي عنه، وأيضًا يفتح باب الحيل لأن الحيل مبنية على أن يكون الشيء مستوفيا في ذاته شرائط الحل ولو صورة، ويقطع فيها النظر عما يؤول إليه من المفسدة الشرعية المنهي عنها، كما هو معروف في مثل حيل العقود المؤدية إلى الربا، فإن ظاهرها الحل باعتبار ذاتها وإن أدت إلى الربا. 3- التفصيل، إن غلبت جهة التعاون الممنوعة روعي الأصل؛ لأنه إن لم يراع بطل العمل بالأصل المأذون فيه، وهو ضروري أو حاجي؛ فيؤدي إلى تكليف ما لا يطاق أو إلى الحرج -ويساعده ما تقدم في الفصل الأول من المسألة الخامسة عشرة؛ فراجعة برمته- وإن لم تغلب؛ فالاجتهاد. وإن كان الثاني وهو توجه النهي إلى الأصل والطلب إلى التعاون؛ فالحكم اعتبار النهي الذي في الأصل لئلا يؤدي إلى إلغاء النهي، والتوسل بالممنوع شرعا إلى مطلوب ضعيف استحساني وهو من جهة التعاون؛ كالمثل الذي ذكره المؤلف: "يسرق ليتصدق"، وهو باطل: "ليتها لم تزن ولم تتصدق"، ومحل اعتبار النهي ما لم يكن فيه معارضة مصلحة الخاصة مع مصلحة العامة؛ فتقدم المصلحة العامة، وذلك كتلقي الركبان؛ فإنه ضروري أو حاجي لكسب الشخص لعياله، وإهمال هذا الكسب وتركه منهي عنه، ولكنه يؤدي إلى مصلحة العامة، حيث يشترون من السوق حاجاتهم بدون تعنت الوسيط الذي يرفع الأثمان؛ فهو منهي عنه، يؤدي إلى مطلوب هو إرفاق العامة؛ فقدمت مصلحة العامة، ومثله بيع الحاضر للبادي هو من الضروري أو الحاجي، وهو نصح مطلوب، وتركه منهي عنه، لكن هذا الترك فيه "تعاون ورفق بأهل الحضر؛ لأن البدوي يبيع لهم حسبما يفهم هو في الأسعار، ولكن الحاضر إذا باع له يقف على الأسعار الجارية في الحضر، وفيه تضييق عليهم؛ فألغي النهي عن ترك النصح، وروعي المطلوب وهو التعاون رفقا بالحضر، وتقديما للمصلحة = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 الْمَمْنُوعِ، وَالْأَشْيَاءِ إِنَّمَا تَحِلُّ وَتُحَرَّمُ بِمَآلَاتِهَا، وَلِأَنَّهُ فَتَحَ بَابَ الْحِيَلِ1. وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ جِهَةَ التَّعَاوُنِ غَالِبَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ غَالِبَةً؛ فَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَاجِبٌ؛ إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ الْغَالِبُ هُنَا لَأَدَّى إِلَى انْخِرَامِ الْأَصْلِ جُمْلَةً، وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَالِبَةً؛ فَالِاجْتِهَادُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَظَاهِرُهُ شَنِيعٌ لأنه إلغاء لجهة النهي2 ليتوصل إلى   = العامة، وكذا تضمين الصناع -والصانع أمين كالوكيل، والمودع بالفتح- وأصل الحكم إلى الضمان فيما بأيديهم للناس، وجعلهم ضامنين منهي عنهن حفظا لحقوقهم، لكنه يؤدي إلى مصلحة عامة المسلمين؛ فألغى النهي في الأصل، وروعي جانب التعاون والمآل، وهو المصلحة العامة لأنه نزل منزلة الضروري والحاجي. هذا وباب الحكم على الخاصة لأجل العامة واسع، ومنه نزع الملكية الخاصة للمنافع العامة، ومنه ما وقع في زمن معاوية رضي الله عنه من نقل قتلى أحد من مقابرهم إلى جهة أخرى لإجراء العين الجارية بحانب أحد، وكان ذلك بمحضر الصحابة ولم ينكروا عليه، وقد يكون منه تشريح جثث الأموات لفائدة طب الأحياء، إلى غير ذلك، وبهذا التلخيص تعلم ما كتبه بعضهم هنا". قلت: يعني بذلك "ف" حيث قال هنا: "فتحتاج النفس إلى ما ينشطها بفعل ما ليس بمطلوب لتستعين به على الفعل المطلوب" انتهى. وانظر في تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي: "بداية المجتهد" "2/ 138"، و"فتح القدير" "6/ 106"، وانظر في نزع الملكية الخاصة: "الاختيار شرح المختار" "3/ 483-484"، و"المدخل الفقهي" "1/ 227"، وانظر في التشريح: "شفاء التباريح والأدواء" لليعقوبي، و"أحكام الجراحة الطبية" "ص169 وما بعدها" للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، و"أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية" "2/ 5-70". 1 لأن الحاجة إلى الخروج عما في التزامه مشقة تستوجب البحث عن الحيلة للتخلص منه كما يقال: "الحاجة تفتق الحلية". "ف". 2 إذ لا أثر له حينئذ، وظاهره طلب المنهي عنه ليتوصل به إلى المأمور به، وهو شنيع، ولكنه قد يصح إذا كان في المنهي عنه ما في المأمور به، فينزل منزلته ويترجح عليه كما في منع تلقي الركبان، وهم التجار الذين يجلبون البضائع لمنفعة العامة؛ فإنه مأمور به لأجل منفعة أهل السوق ومنهي عنه لأنه من باب منع الارتفاق المطلوب، ورجح الجانب الأول لأنه من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة كما قال؛ فتدبر. "ف". وفي "ط": "النهي للتوصل إلى ... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 الْمَأْمُورِ بِهِ تَعَاوُنًا، وَطَرِيقُ التَّعَاوُنِ مُتَأَخِّرٌ فِي الِاعْتِبَارِ عَنْ طَرِيقِ إِقَامَةِ الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ لِأَنَّهُ تَكْمِيلِيٌّ، وَمَا هُوَ إِلَّا بِمَثَابَةِ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ لِيَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ يَبْنِيَ قَنْطَرَةً، وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ، كَالْمَنْعِ مِنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ1؛ فَإِنَّ مَنْعَهُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ؛ إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ مَنْعِ الِارْتِفَاقِ وَأَصْلُهُ ضَرُورِيٌّ أَوْ حَاجِيٌّ لِأَجْلِ أَهْلِ السُّوقِ، وَمَنْعِ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي2 لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَنْعٌ مِنَ النَّصِيحَةِ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِرْفَاقٌ لِأَهْلِ الْحَضَرِ، وَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّ جِهَةَ التَّعَاوُنِ هُنَا أَقْوَى. وَقَدْ أَشَارَ الصَّحَابَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ؛ إِذْ قَدَّمُوهُ خَلِيفَةً بِتَرْكِ التِّجَارَةِ وَالْقِيَامِ بِالتَّحَرُّفِ عَلَى الْعِيالِ3 لِأَجْلِ مَا هُوَ أَعَمُّ فِي التَّعَاوُنِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِوَضُهُ4 مِنْ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا5 النوع صحيح كما تفسر، والله أعلم.   1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر، 4/ 370/ رقم 2158"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، 3/ 1157/ رقم 1521" عن ابن عباس؛ قال: "نهى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمسارًا". وفي الباب عن غيره. 2 انظر الحديث المتقدم. 3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 184-185"، ووكيع في "أخبار القضاة" "1/ 104"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "ص44-45 الشيخان أبو بكر وعمر وولدهما"، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" "1/ 202، 252" من طرق به. 4 في الأصل و"ط": "عوضوه". 5 في "ط": "فهذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 الاستدراكات : الاستدراك1: قلت: مقوله مالك في "المدونة الكبرى" "1/ 5"، ونقلها القرافي في "الذخيرة" "1/ 183"، وابن عبد البر في "التمهيد" "18/ 270"، والراعي في "انتصار الفقير السالك" "ص286"، وفيها: "نكره" بالنون، وكذا في "ط"، وفي غيره بالياء آخر الحروف. قال المازري في "المعلم" "1/ 242": "اختلف في غسل الإناء من ولوغ الكلب؛ هل هو تعبد، أو لنجاسته؟ فعندنا أنه تعبد، واحتج أصحابنا بتحديد غسله سبع مرات أنه لو كانت العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء وقد يحصل في مرة واحدة، واختلف عندنا؛ هل يغسل الإناء من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه؟ فيصح أن يبنى الخلاف على الخلاف في الألف واللام من قوله: "إذا ولغ الكلب"؛ هل هي للعهد، أو للجنس؟ فإن كانت للعهد اختص بذلك بالمنهي عن اتخاذه، لأنه قد قيل: إنما سبب الأمر بالغسل التغليظ عليهم لينتهوا عن اتخاذها، وهل يغسل الإناء من ولوغه في الطعام؟ فيه أيضًا خلاف، ويصح أن يبنى على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام". وألزم العراقي في "طرح التثريب" "2/ 122" مالكًا بالقول فيه؛ فقال متعقبا قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 "ما أدري ما وجه ضعفه، وقد أنكر مالك على أهل العراق ردهم لحديث المصراة، وهو بهذا الإسناد من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة؛ فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: وهل في هذا الإسناد لأحد مقال؟ وصدق رحمه الله، وقد قال البخاري: إن هذا الإسناد أصح أسانيد أبي هريرة" ا. هـ. ويروي ابن القاسم عن مالك أكثر أقواله المخالفة للأحاديث الثابتة؛ فلا أدري كيف وقع هذا؟ وقد علل بعض المعاصرين أن ذلك راجع إلى كون أن ابن القاسم كان صاحب رأي، ولم يكن صاحب حديث كما قال مسلمة بن قاسم، كذا!! ولا يخلو من نظر إلا إن كان لا ينقل نص مالك، إنما ينقل فهمه، والله أعلم. تنبيه: قال الشيخ محمود شلتوت في "الفتاوى" "ص86-78": "وقد فهم كثير من العلماء أن العدد في الغسل مع الترتيب مقصودان لذاتهما؛ فأوجبوا غسل الإناء سبع مرات، كما أوجبوا أن تكون إحداهن بالتراب، ولكن الذي نفهمه هو الذي فهمه غيرهم من العلماء، وهو أن المقصود من العدد مجرد الكثرة التي يتطلبها الاطمئنان على زوال أثر لعاب الكلب من الآنية، وأن المقصود من التراب استعمال مادة مع الماء من شأنها تقوية الماء في إزالة ذلك الأثر، وإنما ذكر التراب في الحديث لأنه الميسور لعامة الناس ولأنه كان هو المعروف في ذلك الوقت مادة قوية في التطهير، واقتلاع ما عساه يتركه لعاب الكلب في الإناء من جراثيم، ومن هنا نستطيع أن نقرر الاكتفاء في التطهير المطلوب بما عرفه العلماء بخواص الأشياء من المطهرات القوية، وإن لم تكن ترابًا، ولا من عناصرها التراب" ا. هـ. قلت: وكلامه متعقب كما تراه في تعليقي على المجلد الثالث من "الخلافيات" للبيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 فهرس الموضوعات ... الموضوعات والمحتويات الموضوع الصفحة المسألة الأولى: الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في العبادات والعادات 7 نظرية الدافع والباعث وأهميتها 7-8 أهمية النيات في التفريق بين أحكام العبادات وأحكام غيرها 8-9 تخريج حديث صيد البر والبحر وذكر علله 10-12 فإن قيل: المقاصد معتبرة في الجملة وليس على الإطلاق، أدلة ذلك 12 - منها: الإكراه الواجب على الأعمال شرعا 12 التسلسل والإكراه 12 العبث في الأحكام 12 - منها: الأعمال ضربان: عادات وعبادات والأولى لا تحتاج إلى نية وذكر أمثلة على ذلك 13 من لم يشترط النية في الوضوء وغيرها 13-15 - منها: مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ قَصْدُ الامتثال عقلا وهو النظر الأول الإجابة على ذلك بأن الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَعْمَالِ ضَرْبَانِ: 16-17 ضَرْبٌ هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مختار يصح أن يقال فيه إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ فِيهِ شَرْعًا 17 وضرب آخر: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فِعْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات 18 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 ووجه آخر في الإجابة الرد على تفاصيل ما ذكروا 18 الرد على مسألة الإكراه 18-19 الرد على مسألة النية في العادات 19 الخلاف في الصوم وغيرهما 19-21 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: 23 قَصْدُ الشَّارِعِ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي الْعَمَلِ مُوَافِقًا لِقَصْدِهِ فِي التشريع ودليله واضح 23 بيع الشيء المباح لمن يستعمله في حرام 23 مبدأ سد الذرائع 23 مبدأ نظرية الباعث 23-24 قصد الشارع وضع الشريعة لمصالح العباد 23-24 المحافظة على الضروريات 24 الخلافة في الأرض؛ والتنبيه على خطأ شائع 24 الخلافة العامة والخاصة 25-26 فصل: المقاصد والتروك والأفعال والأحكام الخمسة 26 دخول المكلف في الأسباب 26 القصد الموافق والمخالف 26 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: 27 كُلُّ مَنِ ابْتَغَى فِي تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ غَيْرَ مَا شُرِعَتْ لَهُ، فَقَدْ نَاقَضَ الشريعة، وكل مناقضة باطلة 27-28 الاجتهاد فرض كفائي 28 الدليل على أَنَّ مَنِ ابْتَغَى فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ توضع له فهو مناقض: 28 الأول: الأفعال والتروك من حيث هي متماثلة عقلا 28 مسألة التحسين والتقبيح العقليين 28-29 الثاني: حاصل القصد أَنَّ مَا رَآهُ الشَّارِعُ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ هذا القاصد ليس بحسن وهكذا العكس 29 الثالث: الأخذ فِي خِلَافِ مَآخِذِ الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 درء المفسدة مشاقة ظاهرة 29-30 الرابع: أنه آخذ في غير مشروع حقيقة 30 الخامس: أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنَّمَا كُلِّفَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ جِهَةِ قصد الشارع بها في الأمر والنهي 30-31 التمثيل على ذلك في الحاشية بالنكاح إذا قصد به تحليل الزوجة لغيره 30 السادس: هذا استهزاء بآيات الله وأحكامه من آياته 31 أمثلة من المصنف على ذلك 31 الاعتراض على المسألة بأمثلة من الشرع 31 منها: نكاح الهازل وطلاقه، وقد سبقت في المسألة الأولى وكذلك المكره 31-32 ومنها: الحيل 32 الإجابة عن ذلك 32-33 المسألة: الرابعة: 34 أقسام الفعل والترك مع القصد: الأول: أن يكون "الفعل أو الترك" موافقا للشرع والقصد عنده الموافقة 34 الثاني: أن يكون مخالفا وقصده المخالفة 34 الثالث: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُوَافِقًا وَقَصْدُهُ المخالفة وهو ضربان: الأول منهما: أن يعلم الموافقة في الفعل والترك 34 الثاني: أن لا يعلم 34 ذكر الأمثلة: على الضرب الأول مثل: الواطئ لزوجته وهو ظان أنها أجنبية وغيرها من أمثلة 34-35 توضيح الأمر الأصولي وتجاذب طرفيه 35 أمثلة على الضرب الثاني 37 القسم الرابع منها: وهو ضربان كالسابق: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُخَالِفًا وَالْقَصْدُ موافقا، بالعلم والجهل 37 فأما مع العلم فهو الابتداع 37-38 ذكر الأدلة على حرمة البدع بعموم، ثم الاستشكال بأن من البدع ما هو غير مذموم بل هو إما مندوب أو واجب 38-39 الجواب عن هذا الإشكال بنقض الأمثلة واحدا واحدا 39 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 التفريق بين المصالح المرسلة والبدع 41 - ومع الجهل فله وجهان: 42 الأول: كون القصد موافقا، أي مع مخالفة الفعل أو الترك الثاني: كون العمل مخالفا 42 النية والقصد في هذا الضرب 42-45 إعمال جانب القصد وجانب الموافقة في الفعل أو الترك معا في المسألة لأمور: 45 الأول: اجتمع في متناول المحرم غير عالم بالتحريم؛ موافقة القصد ومخالفة الفعل 45-46 توضيح ذلك بالأمثلة من السنة وحياة السلف 46 النكاح بغير إذن الولي وتخريج حديثها 48-50 الثاني: اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان 50 الثالث: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى رَفْعِ الْخَطَأِ عَنْ هَذِهِ الأمة 51 الاختلاف فيما تعلق به رفع المؤاخذة 51 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: 53 جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ المأذون فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَلْزَمَ عنه إضرار الغير 53 الثاني: لزوم ذلك عنه وهو ضربان أيضًا: 53 قصد ذلك وعدم قصده وهذا ضربان أيضًا 53 الضرر العام والخاص وهذا ضربان: 53 متابعة التقسيم 55 ثم توضيح أحكام الأقسام هذه 55 الأقسام الثمانية وسردها من حاشية الأصل 55 الأول: ما لا يلزم عليه إضرار الغير الثاني: ما يلزم عليه الإضرار ويقصد الفاعل الإضرار الثالث: ما لا يقصد فيه، وكان الإضرار اللازم عاما الرابع: ما لا قصد فيه، والإضرار اللازم خاص والفعل محتاج إليه. الخامس: ما كان كذلك والفعل غير محتاج إليه ويؤدي إلى مفسدة قطعا السادس: أن تكون المفسدة على سبيل الندور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 السابع: أن تكون على سبيل الكثرة ولزومها أغلبي الثامن: ما لزومها غير أغلبي الأول: باقٍ على أصله من الأذن 55 الثاني: لا إشكال في منع القصد إلى الإضرار 55 النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق والتعسف فيه 56 الثالث: لا يَخْلُو أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَنْعِهِ الْإِضْرَارُ بِهِ بحيث لا ينجبر أو لا 57 مسألة الترس التي فرضها الأصوليون 57 الرابع: الموضع يَحْتَمِلُ نَظَرَيْنِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، ونظر من جهة إسقاطها وأمثلة مهمة 58 أمثلة في القسم الرابع 59 ذكر أمثلة لظلم عام تخلص منه فرد 59 ومناقشة بالعودة على مسألة الإضرار ورد الإشكال 61 وجهان في المسألة مع ردها إلى المسألة الثالثة: 62 الأول: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على السواء 62 أمثلة على ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف 62 الثاني: الإيثار على النفس؛ وأمثلة من سيرة السلف 66 إيثار بالملك من المال 68 وبالنفس 69 الصوفية والإيثار 70 الإيثار مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة، وتحمل المضرة اللاحقة بلا عتب، دون إخلال بمقصد شرعي 71 القسم الخامس: وله نظران الأول: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَاصِدًا لِمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ شَرْعًا، مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ 72 الثاني أن يكون عالما بلزوم المضرة 72 القبول والإجزاء والصحة لا تسلتزم الثواب عليها عند القرافي 73-74 القسم السادس: وهو على أصله من الإذن 74 القسم السابع: وهذا يحتمل الخلاف، وهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 اعتبار الظن أرجح لأمور: 75 الأول: أَنَّ الظَّنَّ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِيَّاتِ جارٍ مَجْرَى العلم 75 الثاني: أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ دَاخِلٌ في هذا القسم 75-76 الثالث: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ المنهي عنه 76 القسم الثامن: وهذا القسم مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى الأصل من صحة الإذن، باستدلالات أخرى غير مرتبة عند المصنف 77 مناقشة المصنف في بعض ما أورده من أمثلة 81 سد الذرائع والاحتياط والأخذ بالحزم 85 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: 86 كُلُّ مَنْ كُلِّفَ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ مَعَ الِاخْتِيَارِ والدليل على ذلك أوجه 86 الاستثناء في ذلك 87 المسألة السابعة: 88 كل مكلف بمصالح غيره الدنيويه، إما أن يكون قادرا على مصالحه الخاصة مع مصالح الغير، وإما أن لا يقدر فإن كانت مصالح الغير عامة فعليهم أن يقوموا بمصالحه إن صح أن يقوموا بها عنه؛ وإن كانت خاصة سقطت 88-89 تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة 89 فصل: قيام الغير بمصالح المكلف بوجه لا يخل بمصالحهم ولا يضر به 89 يقوم بمصلحة المكلف بيت المال أو الأوقاف 90 لا يعطى مباشرة لخوف المنة وإعطاء الأمثلة المشابهة لذلك 90 لا يجوز له القيام بنفسه لكلفة القيام بالوظيفتين 91 منع أخذ الأجرة من الخصمين 91 فصل: إذا كانت المصلحة الدنيوية العامة لا يمكن أن يقوم بها غيره تعارض في المسألة "قاعدة منع التكليف بما لا يطاق" و"قاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة" 92 الخلاف حاصل، وإذا أسقط المكلف حظوظه قدمت المصلحة العامة 92 ويدل عليه قاعدة الإيثار، وقصص الإيثار الواردة عن السلف 92-93 أما الأخروية كالعبادات العينية أو النواهي المخاطب بها عينا فلها تفصيل إن كان هناك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 إخلال بالمصلحة العامة أو الخاصة 94-96 فصل: قد تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ مِمَّا يُلْغَى مِثْلُهَا فِي جَانِبِ عظم المصلحة 96 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: 98 التَّكَالِيفُ إِذَا عُلِمَ قَصْدُ الْمَصْلَحَةِ فيها، فللمكلف في الدخول تحتها ثلاث أحوال: الأول: أن يقصد بها ما فهم من قصد الشارع في شرعها دون أن يخليه من قصد التعبد وإلا حرم خيرا كثيرا 98 الثاني: أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا عَسَى أَنْ يَقْصِدَهُ الشارع وهذا أكمل من الأول 98-99 الثالث: أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَهِمَ قَصَدَ المصلحة أو لم يفهم وهذا أكمل وأسلم 99 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: 101 كُلُّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، فَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فِي نفسه، فله فيه الخيرة 101 حقوق الله لا تسقط ولا ترجع لاختيار المكلف 101 ثبت ذلك بالاستقراء 101 إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من خلق الله في العباد 102-103 تقدم أَنَّ كُلَّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ لَا بُدَّ فِيهِ من تعلق حق الله به، وحق العبد ثبت بإثبات الشارع له 103-104 حق العبد له فِيهِ الِاخْتِيَارُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذلك دون الاستقلال 104 المسألة العاشرة: 106 الحيل: هو التوسط لإسقاط حكم أو قلبه ولا ينقلب ولا يسقط إلا بالواسطة فهو مشتمل على مقدمتين: 106 الأولى: قَلْبُ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي ظاهر الأمر 106 الثانية: جَعْلُ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الشَّرْعِ مَعَانٍ وَسَائِلَ إِلَى قَلْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ 106 هَلْ يَصِحُّ العمل على وفقه؟ 106 توضيح الحيل قبل الإجابة 106-108 المسألة الحادية عشرة: 109 الحيل بالمعنى السابق غير مشروعة في الجملة، لَكِنْ فِي خُصُوصِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 مجموعها منعها، والنهي عنها على القطع 109 سرد الأدلة 109-119 المسخ والقذف 113 استحلال السحت 114 تعقب الحافظ ابن حجر 115 الربا والرشاوي والتحليل 116 المسألة الثانية عشرة: 120-163 الحيل: مقدمة – الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا قُصِدَ بها المصالح التي شرعت لأجلها فإن كان الفعل مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً فَالْفِعْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مشروع 120 الأمثلة: الشهادتان وسائر العبادات 121 الزكاة 121-122 فدية الزوجة خوف أن لا يقيما حدود الله 123 اشتمال الشريعة على مصلحة كلية ومصلحة جزئية 123 فصل: عودة إلى الحيل 124 الحيل الباطلة مَا هَدَمَ أَصْلًا شَرْعِيًّا وَنَاقَضَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً 124 الحيل ثلاثة أقسام الأوليان قطعيان: 124 الأول: لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ، كَحِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ 124 الثاني: لا خلاف في جوازه، كالنطق للمكره على كلمة الكفر 124 تقديم المصالح والمفاسد الأخروية على الدنيوية 124 الثالث: محل إشكال وغموض لعدم تبين دليل واضح قطعي مثل: وجود مقصد للشارع واضح أو لم يثبت أنه على خلاف مصلحة شرعية 125 حسن الظن بالعلماء 125 نكاح المحلل 125-126 هل يَلْزَمُ إِذَا شُرِعَتِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ لِمَصْلَحَةٍ أَنْ تُوجَدَ الْمُصْلِحَةُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 أفرادها عينا 126 الحيل والبيوع والبنوك الإسلامية وكلمة عن الربا 127 العينة 128 الذرائع وأقسامها: 131 الأول: ما يسد باتفاق كسب الأصنام 131 الثاني: ما لا يسد باتفاق 131 الثالث: المختلف فيه، كمسألة الحيل 131 خلاصة كلام المصنف فيه فائدة عظمى في أنه جاء بأدلة مجيزي الحيل لتقريب المذاهب الفقهية للطلاب حتى لا يكون هناك تعصب 131-132 فصل: خاتمة لكتاب المقاصد تكون بيانا له 132 معرفة مقصود الشارع، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: 132 الأول: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ غَائِبٌ عَنَّا حتى يأتينا ما يعرفنا به 132 الثاني: في الطرف الآخر من الأول إلا أنه ضربان: 133 الأول: دعوى أن مقصود الشَّارِعِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، وَلَا مَا يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر 133 الضرب الثاني: أن يُقَالَ: إِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَعَانِي الألفاظ، بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص 133 الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا، بحيث لا يخل المعنى بالنص ولا بالعكس وهذا الذي أخذ به فحول العلماء ويعرف من أكثر من جهة: 134 الجهة الأولى: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي 134 توضيح هذه الجملة 134-135 الجهة الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي، والعلل تعرف بمسالكها المعروفة غير المعلومة لا بد فيه من التوقف، وهنا له نظران: 135 الأول: أن لا تتعدى الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ أَوِ السبب المعين 136 الثاني: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ شَرْعًا أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَالُّهَا حَتَّى يُعْرَفَ قَصْدُ الشارع لذلك التعدي 136 وهما مَسْلَكَانِ مُتَعَارِضَانِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ وَالْآخَرَ لا يقتضيه والمجتهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 أهل لهذا الموضع فلا يبقى تعارض 137 الالتفات إلى المعاني في العادات هو الأصل، والتعبد في جهة العبادات والخروج عن هذا المقتضى نادر والتمثيل عليه من مذهب مالك 138 الجهة الثَّالِثَةُ: أَنَّ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة 139 مضادة مقصد العامل لمقصد الشارع وضرب أمثلة على ذلك: التمثيل على ذلك بالنكاح 139-141 التمثيل في باب العبادات 140-141 فصل: إثبات المقاصد التابعة في العبادات 142 الحديث عن الاستخارة الشرعية والبدعية 143 الفوائد الدنيوية والأخروية في العبادات 144 المواهب التي يهبها الله للعبد في الدنيا والآخرة 145 الاضطرار إلى السؤال 145 إظهار الأعمال للاتباع 146 التَّعَبُّدُ بِقَصْدِ تَجْرِيدِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عالم الأرواح ورؤية الملائكة 147 الخوارق 147 تخريج حديث: "من أخلص لله أربعين صباحا ... " وقصة حوله 148-149 سؤال الصحابة عن الهلال، وما نزل فيها 149 العلم والعمل، والمعرفة بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَعْرِفَةِ بِمَصْنُوعَاتِهِ والعالم الروحاني 150 الخوارق: أولا: طلب الخوارق بالدعاء ولفتح البصيرة لا نكير فيه، إنما فيمن عبد لتحصيلها فقط 150-151 ثانيا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ نَجِدْ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، لَكَانَ لَنَا بَعْضُ الْعُذْرِ في التخطي عن عالم الغيب والشهادة إلى عالم الغيب 151 ثالثا: أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي 152 رابعا: أَنَّ طَلَبَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الرُّوحَانِيَّاتِ وَعَجَائِبِ الْمُغَيَّبَاتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 كَطَلَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ المحسوسات النائية 152 خامسا: أنه لو فرض كونه سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة 152 الابتلاء 152-153 فعل الطاعات لأغراض دنيوية 153-154 أقسام المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية: 154 الأول: ما يقتضي تأكيدها 154 الثاني: ما يقتضي نقضها 154 الثالث: ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا، ولا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينا 155 صحة ذلك في العادات دون العبادات 155 العزل عن النساء 155 الجهة الرابعة: السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ التَّسَبُّبِ أَوْ عَنْ شَرْعِيَّةِ العمل مع قيام المعنى المقتضي له 156 سكوت الشارع عن الحكم على ضربين: الأول: السكوت عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا موجب يقدر لأجله 157 الثاني: أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ 157 سجود الشكر عند مالك 158 تعريف البدع وتمثيلها 159-163 كتاب الأدلة الشرعية النظر فيها على الجملة والتفصيل 165 الأدلة ومعناها 165 بحث الأصولي في الأدلة الشرعية 165 النظر في الأدلة الشرعية على الجملة والكلام فيها في كليات تتعلق بها وفي العوارض اللاحقة لها 167 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: 171 لَمَّا انْبَنَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى قَصْدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ والتحسينات، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في جميع أبواب الشريعة وأدلتها 171-172 أهمية هذه المسألة في مسائل الأصول 171 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 النظر في الأدلة التفصيلية مع القواعد الكلية وارتباطهما في فهم الشريعة 171-172 هل يجوز للمجتهد استنباط الأحكام من القواعد دون الأدلة 172-174 سرد مجموعة من الأدلة على أصل المسألة 172 كتاب رزين من مظان الضعف 173 معنى: "لا يهلك على الله إلا هالك ... " 173 اعتبار الجزئيات بالكليات والعكس 173-174 التفريق بين المجتهد الذي استقرأ الأدلة، والمجتهد الذي تابع غيره 174 القدح في الكلي أو الجزئي مؤثر في الآخر 175 مخالفة جزئي للكلي 176 حكم الأكثري حكم الأغلب 176 إذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات، فليس لجزئي من الكلي 177 الحكم بالقاعدة دون الأدلة 177 التمثيل له بحفظ النفس، كالقصاص بالمثقل وكقتل الجماعة بالفرد 177-178 الرخص في الصلاة، مثل فيه 178 والصوم في السفر 178-179 الرخص عموما 178-179 البيوع والمستثنيات من القواعد 179 تبيان اعتبار المصالح في الشرع، وما لا يفهم منها بالعقل وتعارض قواعد المصالح والترجيح فيها 179-180 النظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي، والنظر في الجزئي من حيث يرد إلى الكلي 181 العسل وتوضيح معنى الشفاء فيه 181 امتناع وجود خبر في الشريعة بخلاف مخبره 181 اعتبار الجزئي وعدم اعتباره جهتان هنا 182 وظيفة المجتهد مع الأدلة 183 المسألة الثانية: 184 أقسام الأدلة الشرعية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 الأول: الدليل القطعي كأدلة وجوب الطهارة 184 الثاني: الدليل الظني الراجع إلى أصل قطعي وعليه عامة أخبار الآحاد وما فيه تبيان لنص الكتاب 184 الثالث: الدليل الظني غير الراجع لدليل قطعي وهو مضاد للشرع 184 الرابع: الدليل الظني غير الراجع لدليل قطعي وهو غير مضاد للشرع ولا موافق له 184 مناقشة المصنف في قوله: "قطعي" وإخراج القياس من أدلته 184 الأول: لا يحتاج إلى بيان والثاني: من أمثلته: ما جاء في النهي عن جملة من البيوع 185 النهي عن الإضرار والتعدي والجنايات على الأغيار 185-186 الثالث: الظني المعارض للأصل القطعي، ولا يشهد له أصل قطعي 186 الدليل على ذلك: الأول: مخالفته لأصول الشريعة، فلا يعد منها ما هو مخالف لها 186 الثاني: عدم وجود ما يشهد له بصحته 186 مثال على ذلك في المناسب الغريب وقصة من أفتى بإيجاب شهرين متتابعين على من ظاهر امرأته أو جامعها في نهار رمضان كحكم ابتدائي 186-188 توضيح للمناسب الغريب 186 توضيح أن أخبار الآحاد ليس كلها مما يشهد لها أصل قطعي 186 هذا القسم على ضربين الأول: أن تكون مخالفته للأصل قطعية، فيرد 188 الثاني: أن تكون ظنية: 188 أ- إِمَّا بِأَنْ يَتَطَرَّقَ الظَّنُّ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الظني 188 ب- وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ كونه قطعيا 188 هذا مجال المجتهدين 188 دخول الظاهرية في هذا الباب في باب معارضة نص بنص آخر أو قاعدة أخرى إذ لا يوجد تناقض في هذا لأسباب 188 مسألة فرعية خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطَ صِحَّتِهِ، هَلْ يجب عرضه على الكتاب 189 تخريج حديث في الباب 189 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 رد خبر الواحد بالقياس وكشف غلط على مالك وأبي حنيفة 190 أمثلة من سيرة السلف فيمن رد حديثا لمخالفته ما عنده من أحاديث أو غيرها من النصوص، أو لمخالفته قاعدة ثابتة عنده رد عائشة لحديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه 190-191 وردها لحديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء 191-192 وردت هي وابن عباس حديث غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء 192 تفسير المهراس 192 تبيان وجه الصواب فيمن اعترض على أبي هريرة 193 رد عائشة لحديث ابن عمر في الشؤم 194 قصة عمر مع وباء الطاعون في سفره إلى الشام تعود إلى هذا الأصل 194 مالك يتوقف في حديث ولوغ الكلب 195-196 حديث خيار المجلس 196-197 معارضة مالك في المسألة 197-198 حديث: صيام الولي عن الميت 198 حديث إكفاء قدور الطبخ في الحرب قبل تقسيم الغنيمة 198-199 صيام ست من شوال 199 الرضعات وبيان وجه لم يظهر للشيخ دراز 199-200 سد الذرائع والمصالح المرسلة عند مالك 199-200 ومثله عند أبي حنيفة: قدم خبر القهقهة على القياس 200 رد خبر القرعة في المماليك الستة 200-201 خبر الواحد المعارض لقاعدة 201 عودة إلى ولوغ الكلب في مذهب مالك 201 حديث العرايا وقاعدة الربا 201 قاعدة الربا في بيع الرطب بالتمر 202 أبو حنيفة وأهل الحديث 203 أهل العراق ومالك وحديث المصراة 204-205 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 النهي عن بيع كتب الفقه 205 الرابع: الظَّنِّيُّ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ ولا يعارض أصلا قطعيا فهو من باب المناسب الغريب 206-207 التمثيل عليه بالقاتل لموروثه، ومطلق زوجته في مرض الموت 206-207 فصل: المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي 207 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: 208 الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُنَافِي قَضَايَا العقول: 208 الوجه الأول: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا، لَمْ تَكُنْ أَدِلَّةً لِلْعِبَادِ على حكم شرعي ولا غيره 208 الوجه الثاني: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا، لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِمُقْتَضَاهَا تَكْلِيفًا بما لا يطاق 208 الوجه الثالث: أن مورد التكليف العقل، وبفقدانه يرتفع التكليف رأسا 209 الوجه الرابع: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ أَوَّلَ من رد الشريعة به، وهذا معلوم من حرصهم على ذلك 209 الوجه الخامس: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى جَرَيَانِهَا عَلَى مُقْتَضَى العقول 210 مناقشة الدعوى في أصل المسألة: 210 أولا: أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أصلا 210 ثانيا: المتشابهات الموجودة في الشريعة 211 ثالثا: فيها ما اختلفت فيه العقول حتى اختلفت فرقا 211 الإجابة عن المناقشات واحدا واحدا الإجابة عن فواتح السور 212 الإجابة عن المتشابهات 212 احتجاج النصارى بالتثليث من القرآن 213 مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس 213-216 المسألة الرابعة: 217 ارتباط هذه المسألة بمسألة: "يستحيل كون الشيء واحدا واجبا حراما من جهة واحدة" ... ومسألة: "إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب ... " 217 الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْأَدِلَّةِ تَنْزِيلُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ على حسبها وأفعال الْمُكَلَّفِينَ لَهَا اعْتِبَارَانِ: 217 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 اعتبار من جهة معقوليتها، ومن جهة وقوعها في الخارج 218 توضيح المسألة بمسألة الدار المغصوبة وسبب الاختلاف فيها وأماكن الخلاف بين العلماء 217-218 الأدلة على اعتبار 219 أحدها: في الأول؛ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَوِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ حَقَائِقُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تنطلق عليها تلك الأسماء 219 تعلق الأوامر والنواهي بالمطلق 219 الاعتبار الثاني: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّخْيِيرِ إِنَّمَا هو أن يقوم المكلف بمقتضاها، ولا تكون أمورًا ذهنية 219 ثانيها: في الأول؛ أَنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرِ الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ فِي الأفعال؛ لزمت شناعة مذهب الكعبي؛ لأن كل من فعل أو قول فمن لوازمه ترك الحرام 220 والثاني من الاعتبارين: لَوِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ مُجَرَّدًا عَنِ الْأَوْصَافِ الْخَارِجِيَّةِ، لَزِمَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْأَوْصَافُ الْخَارِجِيَّةُ بإطلاق وهو باب واسع 220 النيات في العادات 220 ثالثها: في الأول؛ أَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْأَفْعَالَ مِنْ حَيْثُ هِيَ خَارِجِيَّةٌ فَقَطْ، لَمْ يَصِحَّ لِلْمُكَلَّفِ عَمَلٌ إِلَّا في النادر 221 أما الثاني: فإن الْأُمُورَ الذِّهْنِيَّةَ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ تُعْقَلُ وما لا يعقل لا يكلف به 222 خلط العمل الصالح بالعمل السيء 221، 223-224 فصل: ويتصدى النظر فِيمَا يَصِيرُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَصْفًا لِصَاحِبِهِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ النَّظَرَانِ، وَمَا لَا يَصِيرُ كذلك، فلا يجريان فيه 224 المسألة الخامسة: 227 الأدلة الشرعية ضربان: ما يرجع إلى النقل المحض، وما يرجع إلى الرأي المحض 227 قد يكون ما يرجع باتفاق وما يرجع باختلاف 227-228 فصل: الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي أَصْلِهَا مَحْصُورَةٌ فِي الضَّرْبِ الأول؛ لأن الثاني ثبت عن طريقه 228 ما كان يرجع إلى النقل المحض فهو مستند الأحكام التكليفية من جهتين: 228 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 الأولى: من جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية 228 الثانية: من جِهَةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا الأحكام الجزئية الفرعية 228 فصل: إِنَّ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الكتاب من وجهين: 229 الأول: أَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا إِنَّمَا يَدُلُّ عليه الكتاب من وجهين: 229 الأول: أَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا إِنَّمَا يَدُلُّ عليه الكتاب 230 الثَّانِي: أَنَّ السُنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبِيِّنَةً لِلْكِتَابِ وشارحة لمعانيه 231 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: 231 كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَمَبْنِىٌّ عَلَى مقدمتين: 231 الأولى: راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، وهذه نظرية 231 والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، وهذه نقلية 231 ضرب الأمثلة في الفقه على الخمر والطهارات 232 وفي اللغة والعقليات 233 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: 235 كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ مُطْلَقًا غَيْرُ مُقَيِّدٍ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قَانُونٌ، وَلَا ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف 235 وكل ما ثبت مقيدًا ... فهو راجع إلى معنى تعبدي 235 المسألة الثامنة: 236 الأصول الكلية المدنية جزئية بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ تكميلًا 236 بيان ذلك في الضروريات الخمس: 236 الدين 236 الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 236 النفس 236 العقل: وتبيان ذلك في مسألة الخمر 237-238 النسل: وتبيان أهمية ذلك في تحريم الزنا 238 المال 238 العرض 238 تبيان ذلك في الأصل المكي 239 وفي صيام عاشوراء، وفي الجهاد 240 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: 241 كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يُمْكِنُ أَخْذُهُ كليا سواء كان كليا أو جزئيا 241 وكذلك عموم التشريع 242 أصل شرعية القياس 242 ومنها أن الله قَالَ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فَإِنَّ نَفْسَ التَّزْوِيجِ لَا صِيغَةَ لَهُ تَقْتَضِي عموما أو غيره 242 وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك بقوله وفعله 243 تخريج حديث "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" 243-244 تخريج حديث "إني لأنسى أو أنسى لأسن" 245 المسألة العاشرة: 247 الأدلة الشرعية ضربان: 247 الأول: أن يكون على طريقة البرهان العقلي 247 الثاني: مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي النِّحْلَةِ، وَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدالة على الأحكام التكليفية 248 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: 249 إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي اللَّفْظِ لَمْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِىِّ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَعْمِيمِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَعْمَلًا عند العرب في مثل ذلك اللفظ 249 توضيح ذلك بالأمثلة 249-251 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: 252 كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يخلو أن يكون له ثلاث حالات من حيث عمل السلف به: الأول: أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ دَائِمًا أَوْ أَكْثَرِيًّا 252 الثاني: أَنْ لَا يَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا قَلِيلًا أَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَوْ حَالٍ من الأحوال 252-253 الترجيح بين العمل الأكثري وغيره، وهناك مسائل ترجيح أخرى 253 قضايا الأعيان وحجيتها 254 وهذا القسم ضربان: 254 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ لِلْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَجْهٌ يصلح أن يكون سببا للقلة 254 ذكر الأمثلة مثل إمامة جبريل وغيرها 255-256 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 تعقب السيوطي في "الأزهار المتناثرة" في حديث "أسفروا بالفجر" 257 المحافظة على الأوقات 258 الاغتسال يوم الجمعة 259 قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان 259-260 توضيح للأمثلة التي ذكرها المصنف 263 مشروعية الجماعة للنافلة 264 الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلًا في نفسه 267 مثل القيام للقادم 267-268 إذا احتمل الموضوع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر 269 قصة المعانقة وتقبيل اليد 269-270 سجود الشكر عند مالك 270 العمل على شيء أقوى من الحديث عند مالك 270 التشهد والأذان عند مالك 271 سجود الشكر وعودة إليه 271-272 ووجه آخر: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلِيلُ خَاصًّا بِزَمَانِهِ أَوْ بصاحبه الذي عمل به 272 وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا فُعِلَ فَلْتَةً، فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ ذلك الصحابي ولا غيره 273 وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ رَأْيًا لِبَعْضِ الصحابة لم يتابع عليه 274 كأكل أبي طلحة البرد وهو صائم 274 أمثلة أخرى 275 ومنها: أَنْ يَكُونَ عُمِلَ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ نُسِخَ فترك العمل به جملة؛ مثل الصيام عن الميت 276 والسجود في المفصل 278 أما من عمل بالقليل فيلزمه لوازم منها 280 الأول: المخالفة للأولين 280 الثاني: استلزام ترك ما داوموا عليه ومخالفتهم 280 الثالث: أن ذلك ذريعة إلى اتدراس أعلام ما داموا عليه واشتهار ما خالفه 280 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 والقسم الثالث من أقسام المسألة: أَنْ لَا يَثْبُتَ عَنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ عَلَى حَالٍ، فَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ 280 كلمة في التحذير من مخالفة السلف 280-281 السنة والرافضة والخلافة 281 الباطنية وفرق الاعتقادات الأخرى 281-282 قراءة القرآن بالإدارة 283 دعاء المؤذنين بالليل 283 كلمة جامعة عن الابتداع والمصالح المرسلة عند السلف 283-284 وفيه التحذير من أن اختراع البدع والاحتجاج بأن السلف أحدثوا أمورا لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كجمع المصحف بأنه من تتبع المتشابه 283-284 احتجاجه بأن ذلك من المسكوت عنه لا دليل فيه؛ لأن المسكوت عنه على وجهين: 284-285 الوجه الأول: أَنْ تَكُونَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يشرع له أمر زائد 285 الثاني: أَنْ لَا تُوجَدَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ توجد، فيشرع له أمر زائد .... وهو المصالح المرسلة 285 الْمُطْلَقَ إِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ 285 فصل المخالفة لعمل الأولين مختلفة المراتب، ولكنها تقع من أحد شخصين: إما مجتهد بذل غاية الوسع فلا حرج، وإن لم يبذل فهو آثم 286 قد لا يكون مجتهدا وأدخل لنفسه خطأ 286-287 أهل الاجتهاد لَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ 287 العمل مخلص للأدلة من شوائب الاحتمالات المقدرة الموهنة 288 الفرق وأهل الضلالات لا يعجزون عن الاستدلال لمذاهبهم وذكر أمثلة على ذلك 288-289 وكذلك النصارى 289 التحري لعمل السلف وفهمهم هو الصواب 289 المسألة الثالثة عشرة: أَخْذَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ يَقَعُ فِي الْوُجُودِ على وجهين: 290 الأول: أَنْ يُؤْخَذَ الدَّلِيلُ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ وَاقْتِبَاسِ مَا تضمنه من الحكم ليعرض عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 النازلة 290 الثاني: أَنْ يُؤْخَذَ مَأْخَذَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى صِحَّةِ غَرَضِهِ في النازلة العارضة 290 وهذا شأن أهل البدع 290 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: 290 اقْتِضَاءُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَالِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: 292 أَحَدُهُمَا: الِاقْتِضَاءُ الْأَصْلِيُّ قَبْلَ طُرُوءِ الْعَوَارِضِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مجردا عن التوابع والإضاقات 292 الثاني: الِاقْتِضَاءُ التَّبَعِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مَعَ اعتبار التوابع والإضافات 292 هل يصح الاقتصار في الاستدلال على الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، أَمْ لَا بُدَّ من اعتبار التوابع والإضافات حتى يقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها 292 أخذ الْمُسْتَدِلُّ الدَّلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ مُفْرَدًا مُجَرَّدًا عَنِ اعتبار الواقع صح الاستدلال، وإلا فلا يصح 292 توضيح ذلك بالأمثلة 292 {لَاْ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ} ونزول {غَيْر أُولِيْ الْضَّرَرِ} 293 حديث: "من نوقش الحساب عذب" 293 "ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" 294 والأمثلة لا تحصى 295 فصل: مواضع تعين المناط: 296 الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كنزول الآيات على سبب 296 أَنْ يُتَوَهَّمَ بَعْضُ الْمَنَاطَاتِ دَاخِلًا فِي حُكْمٍ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الحكم 297 وَمِنْهَا أَنْ يَقَعَ اللَّفْظُ الْمُخَاطَبُ بِهِ مُجْمَلًا، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء 298 إذا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَعْيِينٌ فَيَصِحُّ أَخْذُهُ عَلَى وفق الواقع مفروض الوقوع 300 النظر الثاني في عوارض الأدلة 303 فينحصر في خمسة فصول: الفصل الأول: الإحكام والتشابه 305 المسألة الأولى 305 إطلاق المحكم على وجهين خاص وعام 305 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 المسألة الثانية: في التشابه 307 فوائد هذه المسألة 307 ثبت التشابه بقلة في النصوص "الأدلة" لأمور: 307 الأول: النص الصريح 307 الثاني: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَوْ كَانَ كَثِيرًا لَكَانَ الِالْتِبَاسُ والإشكال كثيرا 308 الثالث: الاستقراء 308 فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ قَلِيلًا؟ وَهُوَ كثير على الوجه الذي أراده المصنف 309 القواعد الكلية لا تجري على الاطراد 309 ثم إن المسائل المتفق عليها قليلة والمختلف عليها كثيرة 309 الْأَدِلَّةَ الَّتِي يَتَلَقَّى مَعْنَاهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا تتخلص من القوادح العشرة المذكورة 310 الكلام في أخبار الآحاد وضعف الأسانيد، والاختلاف فيها 311 وهناك القياس 311 مقدمتا الاستدلال الشرعي؛ "الشرعية"؛ و"نظرية" تتعلق بتحقيق المناط 311 الجواب عن هذه الإشكالات وأن التشابه إنما هو بحسب الواقع قبل البيان 311-312 لا بد من جمع النصوص في المسألة وعدم أخذ طرف منها 312 مثل المعتزلة في اتباع المتشابه 313 وجميع أهل الطوائف 313 المسألة الثالثة 313-314 المتشابه الواقع في الشريعة حقيقي وإضافي 315 فالأول: هو المراد بالآية، وهو قليل، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تكليف سوى مجرد الإيمان 315 اختلاف النصارى في شأن سيدنا عيسى عليه السلام وبالتالي إفكهم وافتراؤهم على الله جل وعلا 315-316 الهوى والفساد عند النصارى 316-317 الثاني: وهو الإضافي، وسبب ذم من اتبع هذا النوع 317 طرح أمثلة على النوع الثاني 317 الثالث: التشابه فيه ليس بعائد على الأدلة، إنما على مناطها كالاشتباه في الميتة والذكية 318 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 فصل: المتشابه هو الحقيقي فقط 318 إخراج مسائل الخلاف من المتشابهات بإطلاق 318 انتقاد المصنف في أسلوبه 318 مسائل العقيدة التي تكلم فيها السلف أو سكتوا عنها 319 نظر المجتهد في الأدلة وإصابة الحق 319 الإجماع والقياس 319-320 الخلاف في الأمة فرقا ومذاهب فقية 320 دخول علوم إلى الشرع لا يحتاج إليها 320-321 المسألة الرابعة: 322 التشابه الحقيقي لَا يَقَعُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ في الفروع الجزئية بالاستقراء، ولأن الْأُصُولَ لَوْ دَخَلَهَا التَّشَابُهُ، لَكَانَ أَكْثَرُ الشَّرِيعَةِ كذلك، وهو باطل 322 بيان عن الفرق الضالة وانحرافها في الأصول 323 تمييز الكلام بين الأصول والقواعد الكلية 323 عودة مجددة إلى آيات الصفات وإيهامها للتشبيه 323 الوقوف في قوله تعالى: 323 {وَمَا ْيَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلَّا اللهُ والْرَاسِخُوْنَ فِيْ العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهْ} 324 هل في القرآن كلمات لا معنى لها 325 المنسوخ والمتشابه 325-326 أخبار يوم القيامة، وفواتح السور 326 التفويض في الصفات 326 اختلاط الميتة بالذكية 326 المسألة الخامسة: 328 التأويل في المتشابه 328 الإضافي والحقيقي 328 المسألة السادسة: 330 ما يشترط في المؤول به أو ما يراعى في وصفه: 330 أولا: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنًى صَحِيحٍ فِي الِاعْتِبَارِ متفق عليه في الجملة بين المختلفين 330 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 ثانيا: أن يكون وضع اللفظ قابلا له بوجه من الوجوه 330 معرفة مراد المتكلم بكلامه 330 التأويل يُسَلَّطُ عَلَى الدَّلِيلِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى منه 331 معنى التأويل أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَلِيلًا في الجملة 332 أمثلة من التأويلات الفاسدة: 332 تأويل "الخليل" 332 و"غوى" 332 فصل: جريان ما سبق على باب التعارض والترجيح 333 التأويل الصحيح والفاسد 333 الفصل الثاني في الإحكام والنسخ 335 المسألة الأولى: 335 القواعد المكية والأحكام المدنية 335 ذكر بعض الأحكام الإسلامية التي شرعت في مكة، وبعض المعاصي التي كانت عند عرب الجاهلية 335 الأصول المكية كثيرة والأحكام قليلة 335 إكمال الأحكام في المدينة 336 النسخ والرخص في المدينة أكثر منها في مكة 336 النسخ وقع على أحكام كانت استئلافا للناس 336 المسألة الثانية: 336-337 النسخ في الكليات -مكية، أو مدينة- لا يقع، ثبت ذلك بالاستقراء من تتبع الناسخ والمنسوخ، ولأن الأحكام التي ثبتت على المكلف لا ترفع إلا بما هو ثابت قبلها 338 الأحكام المكية أكثرها كليات فالنسخ فيها قليل على عكس المدنيات 339 نسخ القرآن بخبر الآحاد أو بالمتواتر 339 فصل: إسقاط كثير من النسخ المدعى على جملة آيات وأحكام -ليست كليات- بالتأمل والجمع بين النصوص 340 مناقشة "الجلالين" في ادعاء النسخ 340 التمثيل على زكاة الفطر 340 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 تحريم المباح ليس بنسخ 341 تعريف النسخ 341 تمثيل على ما حرم بعد الإباحة: الخمر، والكلام في الصلاة 341 نقد المصنف في النقل عن الآخرين وفي عدم تمحيصه للأخبار 342 عبارات لتحريم ما هو مباح 342 المسألة الثالثة: 344 معاني النسخ عن المتقدمين: 344 تقييد ما أطلق وتخصيص ما عمم وتبيين ما أبهم 344 النسخ الذي عرف سابقا 344-345 هل النسخ يدخل على الأخبار وثمراتها؟ وبحث هام فيها! 345 نسخ التلاوة ونسخ التكليف 345-346 أمثلة على معاني النسخ عند الأقدمين ومناقشتها وتفسيرها على الوجه الأفضل 345 الهمم والخواطر 352 التخصيص والنسخ ومثال يخرج عليهما 354 الفرار من المعركة 355 حسن الظن بالعلماء 356 النسخ في الأخبار 356 النسخ في التهديد والوعيد 359 شهادة التائب من القذف 360-361 التيمم 360 المسألة الرابعة: 365 القواعد الكلية وما يحفظها ثابتة لا يدخلها نسخ 365 الضروريات مراعاة في كل ملة 365 مراعاة الحاجيات، والتكليف بما لا يطاق 365 اختلاف الأحكام الجزئية بين الشرائع 367 الفصل الثالث في الأوامر والنواهي 369 المسألة الأولى: 369 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 الطلب والإرادة من الآمر في الأمر والنهي 369 الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في إرادة الله الأمر ووقوعه 369 معاني الإرادة في الشريعة: الخلقية القدرية الكونية والأمرية 370 ذكر آيات وأحاديث على الإرادتين 372 تأويل الإرادة 372 عدم التمييز بينهما سبب للوهم 373 ذكر اصطلاح المصنف بكلمة "قصد الشارع" والقصد 373 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: 374 الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى إِيقَاعِهَا كَمَا أَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لترك إيقاعها 374 ثلاثة أوجه للاستدلال على هذه المقولة 374 إشكالات عليها 375 الإجابة عليها 376 مناقشة للمصنف في بعض الإجابات 377 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: 379 الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بالمقيد 379 مناقشة وتوضيح لرأي المصنف 379 الوجه الأول: لولا ذلك لانتفى أن يكون أمرًا بالمطلق 379 الثاني: ثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص 379 الثالث: أن التقييد تعيين ولكان تكليفا بما لا يطاق 380 معارضة ما سبق 381 والجواب عنه 383 الواجب المخير 384 المسألة الرابعة: الأمر بالمخير يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى أَفْرَادِهِ الْمُطْلَقَةِ الْمُخَيَّرِ فيها 385 المسألة الخامسة: 385 المطلوب الشرعي ضربان: 385 الأول: مَا كَانَ شَاهِدُ الطَّبْعِ خَادِمًا لَهُ وَمُعِينًا على مقتضاه 385 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 الثاني: ما لم يكن كذلك كالعبادات 385 في الأول يَكْتَفِي الشَّارِعُ فِي طَلَبِهِ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ والعادات الجارية 386 إطلاق كثير من العلماء على أمور أنها سنن أو مندوبات أو مباحات ومعناها 386 النصوص الجازمة غير موجودة في طلب الأمور العادية 387 أما الضَّرْبُ الثَّانِي: فَإِنَّ الشَّارِعَ قَرَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ 388 يكون ذلك في الأوامر والنواهي، وَيَلْحَقُ بِهَا اقْتِحَامُ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ ولا باعث طبيعي 388 الكلام عن لحم الخنزير وفصحه عند الكفار 388 العصيان بسبب الشهوة 389 المعاند المجاهر 389 فَصْلٌ: هَذَا الْأَصْلُ وُجِدَ مِنْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ جُمَلٌ 390 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: 392 كُلُّ خَصْلَةٍ أُمِرَ بِهَا أَوْ نُهِيَ عَنْهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا 392 ذكر جملة من الأوامر والخصال الحسنة 392 ذكر جملة من المنهيات والخصال السيئة 393 الإسراف والتبذير والفرق بينهما 393 ألفاظ المنكر والإثم والإجرام 393 ما سبق في الأوامر والنواهي جاءت في القرآن على ضربين: 395 الأول: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَكِنْ بِحَسَبِ كُلِّ المقام 395-396 سرد لمعاصٍ أخرى 395 توضيح للضرب الأول بالأمثلة 396 الضرب الثاني: أن تأتي في أقصى مراتبها، مقرونة بالوعيد في النواهي وبالمدح لفاعلها وبالنعيم في الأوامر 397 توقف السلف بالجزم بالتحريم 401 المسألة السابعة: 404 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 الأوامر والنواهي على ضربين: صريح وغير صريح 404 والصريح له نظران: 404 الأول: مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عِلَّةٌ مصلحية 404 الخلاف بين الصحابة في صلاة العصر في بني قريظة 407 احتجاج المبتدعة به على أهل السنة 407 رد التنازع إلى الكتاب والسنة 407 المحافظة على الأوقات 408 إصابة الحق 408 اعتبار المصالح وتحقيقها في الأحكام 409 الالتفات إلى المعاني 410 البول في الماء الراكد 411 القيم في الزكاة 411 النظر الثاني: هُوَ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي قصد شرعي بحسب الاستقراء في خصوصها 411 اعتبار المصالح في الأحكام 412 الوصال في الصيام 413-416 بيوع منهي عنها 416-418 تساوي الأوامر والنواهي من جهة اللفظ في دلالة الاقتضاء 419 اعتبار السياق في كلام العرب 419 الظاهرية هل هي بدعة 420 فصل: عمل الْعَامِلُ عَلَى مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ والنهي 421 قيام السلف بالعبادات والاجتهاد فيها 421 تيسير الرب العبادات على المكلفين 421 المشتقات والرخص 421-422 فصل: ضروب الأوامر والنواهي غير الصريحة: 422 أَحَدُهَا: مَا جَاءَ مَجِيءَ الْإِخْبَارِ عَنْ تَقْرِيرِ الحكم 422 الثاني: مَا جَاءَ مَجِيءَ مَدْحِهِ أَوْ مَدْحِ فَاعِلِهِ فِي الْأَوَامِرِ، أَوْ ذَمِّهِ أَوْ ذَمِّ فَاعِلِهِ في النواهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 وترتيب الثواب والعقاب والمحبة والكره 422-423 الثالث: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ كَالْمَفْرُوضِ فِي مَسْأَلَةِ ما لا يتم الواجب إلا به 423-424 فصل: معاني الغصب والتعدي عند العلماء واختلافهم فيه وهل يختص ذلك بالمنافع دون الرقاب وبحث مباحث أخرى تحتها 425-432 المسألة الثامنة: 433 توارد الأمر والنهي على متلازمين عند فرض الانفراد، مع حكم تبعية أحدهما للآخر المعتبر ما انصرف إلى المتبوع 433 أدلة ذلك: 433 الأول: الفرق الأول بين القصد الأصلي والتابع وإن كان الأمر والنهي هناك غير صريح وهنا صريح 433 الثاني: أنهما إما أن يردا معا أو لا يردا ألبتة أو أحدهما دون الآخر والأول والثاني غير صحيحين والثالث أحدهما تابع والآخر متبوع 434 الثالث: الاستقراء 434 الإشكالات الواردة على ما سبق 436 الأول: ما قيل أن الرقاب والذوات لا يملكها إلا الله والمنافع للعباد 436 الثاني: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فالمنافع هي المقصودة 437 الثالث: ما وجد من النصوص الشرعية 438 الرابع: قصد المنافع عند العقلاء 439 الإجابة عن الإشكالات 439 الجواب عن الأول 440 الجواب عن الثاني 441 الجواب عن الثالث 445 الجواب عن الرابع 446 القصد إلى المنافع 447 ضوابط المنافع بالكلية 447 فصل: أقسام منافع الرقاب: 448 الأول: مَا كَانَ فِي أَصْلِهِ بِالْقُوَّةِ لَمْ يَبْرُزْ إلى الفعل لا حكمًا ولا موجودًا 448 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 الثاني: مَا ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَجُودًا وَحُكْمًا أو حكمًا عاديًّا أو شرعيًّا 449 الثالث: ما فيه الشائبتان، وهو ضربان: 449 أحدها: ما كان هذا المعنى فيه محسوسا 449 ثانيها: ما كان في حكم المحسوس 449 تبيان وجه الخلاف بمثال السقي بعد بدو الصلاح 451 فصل: فوائد تتركب على هذا الأصل 452 مِنْهَا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ تبعية جارٍ في الحكم التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ أصل آخر 452 ذكر أمثلة على ذلك وتوضيحها 452 وَمِنْهَا: أَنَّ كُلَّ تَابِعٍ قُصِدَ، فَهَلْ تَكُونُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ مَقْصُودَةً عَلَى الْجُمْلَةِ لَا على التفصيل 454 وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ فَالْخَرَاجُ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ 455 ومنها: تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَا كَانَ تَابِعًا لِلشَّيْءِ الْمُسْتَصْنَعِ فيه 455 وَمِنْهَا: فِي الصَّرْفِ مَا كَانَ مِنْ حِلْيَةِ السيف والمصحف 456 التنبية على أن مسائلها كثيرة 456 فصل: ومن الفوائد: 456 أَنَّ كُلَّ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عليه وما فيه منفعة أو منافع فهو أحد ثلاثة أقسام: 457 الأول: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَرَامًا أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ 457 الثاني: أن يكون جميعها حلالًا 457 التنبيه على بعد هذين القسمين عن الواقع 457 الثالث: ما اختلطا 457 وهو قسمان: 457 الأول: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ عُرْفًا وَالْجَانِبُ الْآخَرُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْعَادَةِ 457 قصد العاقد إلى المحرم على الخصوص وهو يحتمل وجهين: 458 الوجه الأول: اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع 458 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 الوجه الثاني: اعتبار القصد الطارئ 458 فائدة حول اختلاط المنافع المحللة بالمحرمة 458 بدء ذكر الأمثلة وتوضيحها بالأصل السابق بما يشفي العليل 458 توجيه الوجه الأول وتقويته 459 القسم الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ تَبَعًا فِي الْقَصْدِ الْعَادِيِّ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة 459-460 ذكر بعض القواعد تحت هذه المسألة 465 المسألة التاسعة: 467 حال الاجتماع وحال الانفراد في الشرع 467 وُرُودُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْآخَرِ وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْوُجُودِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي؛ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلِّفَ ذَهَبَ قَصْدُهُ إِلَى جَمْعِهِمَا مَعًا في عمل واحد وفي غرض واحد 467 توضيح تأثير الاجتماع وتأثير التفرق وأن للاجتماع ما ليس للانفراد والعكس 468 سرد أمثلة من الكتاب والسنة على تأثير الاجتماع 468 كلمة عن الاجتماع والجماعة والفرقة 473 ذكر معاني الافتراق التي لا تزيلها حالة الاحتجاج 473 ذكر أمثلة في توضيح وتثبيت هذا الأصل 473 التأكيد على معاني الانفراد التي ليست في الاجتماع ومعاني الاجتماع التي ليست في الانفراد 474 -475 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: 477 الْأَمْرَانِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ لِصَاحِبِهِ إِذَا ذَهَبَ قصد المكلف إلى جمعهما في عمل واحد أو في غَرَضٍ وَاحِدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْجَمْعِ تَأْثِيرًا، وَأَنَّ فِي الْجَمْعِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الِانْفِرَادِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الِانْفِرَادِ لَا يَبْطُلُ بِالِاجْتِمَاعِ 477 حالة حصول تنافي بين الأعمال ضمن القاعدة السابقة 477 بيع وسلف وتطبيق ما سبق عليه 478 مسألة الانفكاك في النيات واجتماعها 478 جمع العقود عند مالك 480 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: 484 الْأَمْرَانِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِعًا إِلَى الأمر المطلق، والآخر راجع إِلَى بَعْضِ تَفَاصِيلِهَا، أَوْ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَوْ إِلَى بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فَاجْتِمَاعُهُمَا جَائِزٌ حَسْبَمَا ثبت في الأصول 484 سرد مجموعة من الأمثلة 484 الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ 486 التوسعة ورفع الحرج 487 المسألة الثانية عشرة: 488 الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وأحدهما رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَوْ جُزْئِيَّاتِهَا أَوْ نحو ذلك 488 صورتا المسألة 488 الأول: أَنْ يَرْجِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالنَّهْيُ إِلَى أوصافها ... وذكر أمثلة توضيحية 488 الثاني: أَنْ يَرْجِعَ النَّهْيُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْأَمْرُ إِلَى أوصافها.. وذكر أمثلة توضيحية 488 المسألة الثالثة عشرة: 491 تَفَاوُتُ الطَّلَبِ فِيمَا كَانَ مَتْبُوعًا مَعَ التَّابِعِ له، وأن الطلب المتوجه للجملة أعلا رُتْبَةً وَآكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الطَّلَبِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى التَّفَاصِيلِ أَوِ الْأَوْصَافِ أَوْ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ 491 جريان الأوامر في الشريعة في التأكيد على أكثر من مجرى أو قصد واحد 492 إطلاق القول في الأمر ... هل هو للوجوب أو غيره 492 ترجيح الأمر للوجوب 493 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ 495 الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى الْقَصْدِ الأول ليس أمرًا بالتوابع 495 دليل ذلك وما ينبني عليه في أداء المكلف للمطلقات 495 مثال ذلك في الإعتاق المطلق 496 بيان أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَأْمُورِ الْمَتْبُوعِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع 496 تمثيل ذلك بما يوضح معنى من معاني البدعة 497 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 فائدة المسألة: التزام الخصوصيات فِي الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ وَإِلَّا كان قولًا بالرأي 502 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: 503 الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هو المطلوب الترك بالقصد الأول 503 توضيح الأول وهو المطلوب الفعل: 503 الأول: أَنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ قَصْدِ الشَّارِعِ فيه وهو الأصل 503 النعم والإسراف والاقتصاد فيها وكذلك شكرها 504 الثاني: أَنَّ جِهَةَ الِامْتِنَانِ لَا تَزُولُ أَصْلًا وَقَدْ يزول الإسراف أيضًا 506 الثالث: أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى 507 ذكر بعض الآيات والأحاديث 507-508 باب سد الذرائع أيضًا 509 معارضة ما سبق - بأن الْمَدْحَ وَالذَّمَّ رَاجِعٌ إِلَى مَا بُثَّ فِي الأرض 510 التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار 511 الجواب على الاعتراض من وجهين 511 توضيح الثاني وهو المطلوب الترك للكل 515 أولا: لأنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل فصار مطلوب الترك 515 الثاني: أن الغناء -وهو المضروب مثلًا- مِنْ قَبِيلِ اللَّهْوِ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّارِعُ بَاطِلًا 515 الثالث: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ لَمْ يَقَعِ الِامْتِنَانُ بِهِ، ولا جاء في معرض تقرير النعم 516 معارضة ما سبق بأن حصول اللذة وراحة النفس مقصود للإنسان وطلبها مع اللذات جائز ... فليكن اللهو واللعب ... جائز 517 دليل المعارضة: الأول بثها في القسم الأول 518 الثاني: نصوص القرآن 518 الثالث: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنْ كَانَتْ خَادِمَةً لِضِدِّ الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ فَهِيَ خَادِمَةٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا 519 الجواب عليها وجهًا وجهًا 519 فصل: فائدة بحث المسألة: 525 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 مِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للمفاسد، وما لا يطلب الخروج عنه 526 النظر في تعارض الأصل والغالب 528 تحذير السَّلَفُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ 529 فَصْلٌ: وَمِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ من المباحات طاعة وما لا ينقلب 531 وَمِنْهَا: بَيَانُ وَجْهِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ عِلْمِهِ بسوء عاقبتهم فيه 534 المسألة السادسة عشرة: 536 الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي التَّأْكِيدِ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّلَبِ الْفِعْلِيِّ أَوِ التَّرْكِيِّ، وَإِنَّمَا ذلك بحسب تفاوت المصالح والمفاسد الناشئة 536 الصوفية وإطراح الدنيا ومساواة الواجب بالمندوب والمحرم بالمكروه 536 المباحات والرخص 536 مأخذهم في الأمر من طريقين: 536 الأول: مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ، وَهُوَ رَأْيُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إِلَّا مُجَرَّدَ الِاقْتِضَاءِ 537 الثاني: مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ: 537 أحدها: النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها 538 الثاني: النَّظَرُ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جلب المصالح ودرء المفاسد عند الامتثال 538 الثالث: النَّظَرُ إِلَى مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ بِالشُّكْرَانِ أَوْ بِالْكُفْرَانِ 541 فصل: ويقتضي ما سبق التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ مُخَالَفَةٍ تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ به أو فعل المنهي عنه 542 الصوفية ومراتبهم 544 مراتب الناس في الدنيا وفي الآخرة 544 المسألة السابعة عشرة: 549 الأوامر والنواهي وإمكانية أخذها امتثالا من جهة ما هو حق لله مُجَرَّدًا عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ العباد 549 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 مأخذ الامتثال في مثل قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 549 الأول: النظر في نفسه بالنسبة إلى قطع الطريق ، وإلى زاد يبلغه ... وما يعود عليه مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعُودُ عَلَيْهِ فِي قَصْدِهِ بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة 549 الثاني: أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ من الله، غافلا ومعرضا عما سوى ذلك 550 المأخذ الأول: مأخذ جارٍ على اعتبار حقوق العباد - وهو ما يخص الفقهاء 550 والثاني: جارٍ على إسقاط اعتبارها والدليل على صحته: 551 الأول: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْعَبْدِ التَّعَبُّدُ بِإِطْلَاقٍ 551 التقوى لله وكفاية الله له 551 الثاني: ما جاء في السنة من ذلك 553 الثالث: ما ثبت من هذا العمل من الأنبياء صلوات الله عليهم فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم 556 مناقشة المصنف فيما ذهب إليه من استدلالات وما نقله من نصوص عن الصحابة والسلف 556 إطراح الأسباب جملة 558 التنبيه على أن حقوق الله ليست على وزان واحد 561 مناقشة المصنف لنفسه ثم الإجابة على الإشكالات 561 ما تقدم يدل على تقديم بعض الأسباب التي يقتضيها حق الله 562 حقوق الله أعظم من حقوق العباد 562 فصل: تأخير حقوق العباد يرجع إلى المكلف لا إلى غيره 562 المسألة الثامنة عشرة 564 توارد الأمر والنهي عَلَى الْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ والآخر راجع إلى جهة التعاون 564 إذا اعتبر الأول الراجع إلى سد الذرائع فهو منع الجائز 564 ويحتمل ثلاثة أوجه: 564 الأول: اعتبار الأصل 564 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 الثاني: اعتبار جهة التعاون 564 "تفصيل المسألة وتوضيحها" 564-565 الثالث: التفصيل وترجيح الغالب 564-565 الاستدراكات 569 الموضوعات والمحتويات 571 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 المجلد الرابع كتاب الأدلة الشرعية تابع الطرف الأول: في أحكام الأدلة العامة الفصل الرابع: في العموم والخصوص ... تابع الطرف الأول: في أحكام الأدلة عامة الفصل الرابع: في العموم والخصوص ولا بد مِنْ مُقَدِّمَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ههنا، والمرادُ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ، كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ أَوْ لَا، فَإِذَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَفِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ أَوْ غَيْرِهِ: إِنَّهُ عَامٌّ فَإِنَّمَا مَعْنَى1 ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، بِدَلِيلٍ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَوْ لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ هُنَا إِنَّمَا هِيَ الِاسْتِقْرَائِيَّةُ، المحصِّلة بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ بِالْحُكْمِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَالْخُصُوصُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَنَاطُ النظر وتحقق؛ فيتعلق به مسائل:   1 سيأتي ذكره في المسألة السادسة، ويستدل عليه هناك بجملة وجوه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا ثَبَتَتْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ1. فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا مُعَارَضَةُ قَضَايَا الْأَعْيَانِ، وَلَا حِكَايَاتِ2 الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَاعِدَةَ مَقْطُوعٌ بِهَا بِالْفَرْضِ؛ لِأَنَّا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِي الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ مَظْنُونَةٌ أَوْ مُتَوَهَّمَةٌ، وَالْمَظْنُونُ لَا يَقِفُ لِلْقَطْعِيِّ وَلَا يُعَارِضُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِاسْتِنَادِهَا3 إِلَى الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ مُحْتَمِلَةٌ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ4 عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا، أَوْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهِيَ مُقْتَطَعَةٌ وَمُسْتَثْنَاةٌ5 مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ؛ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِبْطَالُ كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ بِمَا هَذَا شَأْنُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ جُزْئِيَّةٌ، وَالْقَوَاعِدُ الْمُطَّرِدَةُ كُلِّيَّاتٌ، وَلَا تنهض   1 لم ترد مقيدة، وقوله: "قضايا الأعيان" كما ورد مسحه -صلى الله عليه وسلم- على عمامته*، فلا يؤثر ذلك في قاعدة وجوب مسح نفس الرأس في الوضوء، ويكون مسح العمامة متى كانت روايته قوية مستثنى للعذر بجرح أو مرض بالرأس يمنع من مباشرة المسح عليها، وكما سيأتي في الفصل التالي في قضية قتل موسى للقبطي. "د". قلت: انظر عن تخصيص العام بقضايا الأعيان: "البحر المحيط" "3/ 405" للزركشي. 2 كالحكايات التي [ستأتي "ص59"] ** عن عثمان وعمر من تركهم في بعض الأحيان ما هو مشروع باتفاق كالأضحية خوفًا من اعتقاد الناس فيه غير حكمه كالوجوب مثلًا. "د". 3 أي: فالأدلة القطعية التي أنتجت هذه القاعدة حددت معناها بحيث صارت لا تحتمل إرادة غير ظاهرها. "د". 4 في "ط": "لأن تكون ... ". 5 أي: مع بقاء العموم في الباقي بعد الاستثناء. "د".   * انظر تخريجه والتعليق عليه في "3/ 272". ** بدلها في المطبوع: "تقدمت". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 الْجُزْئِيَّاتُ أَنْ تَنْقُضَ الْكُلِّيَّاتِ، وَلِذَلِكَ تَبْقَى أَحْكَامُ الْكُلِّيَّاتِ جَارِيَةً فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا مَعْنَى الْكُلِّيَّاتِ عَلَى الْخُصُوصِ، كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّفَرِيَّةِ1 بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتْرَفِ، وَكَمَا فِي الْغِنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَالِكِ النِّصَابِ وَالنِّصَابُ لَا يُغْنِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبِالضِّدِّ فِي مَالِكِ غَيْرِ النِّصَابِ وَهُوَ بِهِ غَنِيٌّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لَوْ عَارَضَتْهَا؛ فَإِمَّا أَنْ يُعملا مَعًا، أَوْ يُهْمَلَا، أَوْ يُعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَعْنِي فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ؛ فَإِعْمَالُهُمَا مَعًا بَاطِلٌ2، وَكَذَلِكَ إِهْمَالُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إِعْمَالٌ3 لِلْمُعَارَضَةِ فِيمَا بَيْنَ الظَّنِّيِّ وَالْقَطْعِيِّ، وَإِعْمَالُ الْجُزْئِيِّ دُونَ الْكُلِّيِّ تَرْجِيحٌ لَهُ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْقَاعِدَةِ؛ فَلَمْ يبقَ إِلَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ، وَهُوَ إِعْمَالُ الْكُلِّيِّ دُونَ الْجُزْئِيِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ عَلَى بَابَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ؛ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَظْنُونَةِ وَمَا ذَكَرْتَ جارٍ فِيهَا؛ فَيَلْزَمُ إِمَّا بُطلان مَا قَالُوهُ، وَإِمَّا بُطْلَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، لَكِنْ مَا قَالُوهُ صَحِيحٌ؛ فَلَزِمَ إِبْطَالُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. [فَالْجَوَابُ] 4 مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا5: أَنَّ مَا فُرِضَ فِي السُّؤَالِ لَيْسَ من مسألتنا بحال؛ فإن ما نحن   1 فإن العلة للرخصة بالإفطار أو القصر المشقة، وليست متحققة في الملك الذي يستعمل وسائل الترف في سفره، وهكذا ما بعده في الغنى بالنسبة إلى تحديد النصاب فيمن لا يجعله النصاب غنيًّا، وعكسه. "د". وفي "ط": "المشقة السفرية". 2 لأنه يستلزم التكليف بالضدين معًا، وهو لا يجوز. "د". 3 لأن إهمال الدليلين أو التوقف فيهما فرع عن تعارضهما مع عدم الترجيح لأحدهما، والواقع خلافه؛ لأنه لا معارضة إلا عند التساوي. "د". وفي "ط": "إهمال". 4 سقط من "ط". 5 أين ثانيهما؟ "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 فِيهِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْجُزْئِيُّ مُعَارِضًا وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمُعَارِضٍ؛ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ إِذَا كَانَتْ كُلِّيَّةً، ثُمَّ وَرَدَ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ وَقَضِيَّةٍ عَيْنِيَّةٍ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمُعَارَضَةَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ وَحْدَهَا، مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مُوَافِقًا لَا مُخَالِفًا فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنْ لَا مُعَارَضَةَ1 هُنَا، وَهُوَ هُنَا مَحَلُّ التَّأْوِيلِ لِمَنْ تَأَوَّلَ، أَوْ مَحَلُّ عدم2 الاعتبار إن لاق بِالْمَوْضِعِ الِاطِّرَاحَ وَالْإِهْمَالَ كَمَا3 إِذَا ثَبَتَ لَنَا أَصْلُ التَّنْزِيهِ كُلِّيًّا عَامًّا ثُمَّ وَرَدَ مَوْضِعٌ ظاهره التشبيه في أمر   1 أي: والعموم معتبر ويؤول الجزئي بما يليق به من المحامل التي تقبلها اللغة والأصول الدينية، وذلك حيث يكون الجزئي لا يليق به أن يطرح، بأن كان كتابًا أو سنة متواترة ولو معنى، وقوله: "أو محل عموم الاعتبار" لعل الأصل: "اعتبار العموم" هكذا بالتقديم والتأخير، أي: مع طرح الدليل الجزئي وعدم الاعتداد به إذا لم يكن كسابقه، بأن كان سنة دخلتها علة من العلل، كأن كانت مرسلة أو موقوفة أو مقطوعة أو كذب الأصل فيها الفرع، وكل من المحلين العموم فيه معتبر قطعًا لا رائحة للتخصيص فيه، إلا أن الأول لقوة الجزئي سندًا وعدم إمكان طرحه كان محل التأويل، والثاني لضعف سنده لا حاجة فيه إلى التأويل بدون ضرورة. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "عموم". 3 تقدم لك تمثيل قضايا الأعيان بالمسح على العمامة* وليس في مسألة التنزيه قضايا أعيان ولا حكاية حال، إنما فيها أدلة شرعية جزئية ربما يدل ظاهرها على المعارضة، كحديث: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ... إلخ "، وكما في آية: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح: 10] ، وهكذا، وأصل الكلام في قضايا أصول الفقه أو قضايا الفقه نفسه؛ كمثالي الملك المترف والنصاب لا في أصول العقائد. وبالجملة؛ فالمقام مشكل لأنا إذا جرينا على التقرير الماضي جميعه من أول المسألة إلى أول الجواب من أن الكلام في مسألة من أصول الفقه ورد عليه أن الأدلة لا سيما الرابع لا تظهر في كليات فروع الفقه، وأيضًا؛ فالجواب ضعيف لأنه ما الذي يعرف به أن في الجزئي ليس معارضًا في الحقيقة وإن فهم فيه المعارضة، فإما أن تئوله، وإما نسقطه، وأنه في هذه الحالة غير ما أريد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال، وأيضًا؛ فلا معنى للتمثيل بمسألة التنزيه وعصمة الأنبياء، ولا يقال: إن هذا مجرد تشبيه وليس تمثيلًا لما نحن فيه؛ فهو تشبيه يقرب الغرض من الفرق بين ما يتوهم فيه التخصيص وليس بتخصيص وبين ما يكون المراد ظاهر المخصص لأنا نقول: البعد =   * ليس الأمر كذلك؛ فقد ثبت فيه أحاديث، كما قدمناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 خَاصٍّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، عَلَى مَا أَعْطَتْهُ قَاعِدَةُ التَّنْزِيهِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ، وَكَمَا إِذَا ثَبَتَ لَنَا أَصْلُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ" 1 وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ لِاحْتِمَالِ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرِمُ2 ذَلِكَ الْأَصْلَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ؛ فَشَيْءٌ آخَرُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْمَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَصِّصِ ظَاهِرُهُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا احْتِمَالٍ؛ فحينئذ يعمل ويعتبر كما قاله الأصوليون، وليس ذلك مما نحن فيه.   = شاسع بين المقامين؛ لأن التنزيه وعصمة الأنبياء من المقطوع في عمومه بالأدلة القطعية والنقلية، فكل ما ورد مخالفًا لذلك من جزئيات الأدلة يعلم أنه ليس بمخصص، فيجري فيه أحد الأمرين المذكورين: إما التأويل، أو الإهمال، ولا كذلك القضايا العامة في الفروع لأنها جميعها قابلة للتخصيص حتى بخبر الآحاد، فلا طريق لمعرفة ما يراد منه ظاهره ليكون مخصصًا وما لم يرد حتى تئوله أو نطرحه، وإن جرينا على أن هذه المسألة في قضايا العقائد -وهو الذي يناسب ما يذكره في الفعل بعده تفريعًا على هذه المسألة- خرجت عما نحن فيه، ولم يناسبها التقرير السابق في قوله: "مقتطعة مستثناة من ذلك الأصل"، وقوله: "ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية ... إلخ"، وبالجملة؛ فلا بد أن أن يكون لسقوط الوجه الثاني أثر في التباس الجواب، وربما كان قوله: "كما إذا ثبت ... إلخ" مرتبطًا بما سقط من الوجه الثاني، والله أعلم، وقد يقال: إن المسألة الأولى يراد بها ما هو أعم من الأصوليين، فعليك بتتبع التقرير من أول المسألة والتمثيل والإشكال والجواب بناء على التعميم في الأصول المذكورة، فلعلك تصل إلى إزالة بعض ما أشرنا إليه من إشكالات المسألة. "د". قلت: وانظر ما قدمناه "2/ 195، 257 و3/ 319، 323" من قواعد وكليات تخص تأويل الصفات؛ ففيه ما يثلج الصدر، ويريح الفؤاد. 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 388/ رقم 3357، 3358 وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/ رقم 5084"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل -عليه السلام- 4/ 1840/ رقم 2371" عن أبي هريرة مرفوعًا. 2 في الأصل: "لا يخرج". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 فَصْلٌ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ1، عَظِيمُ النَّفْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالْكُلِّيَّاتِ إِذَا عَارَضَتْهَا الْجُزْئِيَّاتُ [وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ2] ، فَإِنَّهُ إِذَا تَمَسَّكَ بِالْكُلِّيِّ كَانَ لَهُ الْخِيَرَةُ فِي الْجُزْئِيِّ فِي حَمْلِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْجُزْئِيِّ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعَ التَّمَسُّكِ الْخِيَرَةُ3 فِي الْكُلِّيِّ؛ فَثَبَتَ فِي حَقِّهِ الْمُعَارَضَةُ، وَرَمَتْ بِهِ أَيْدِي الْإِشْكَالَاتِ فِي مهاوٍ بَعِيدَةٍ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَتَشَكُّكٌ فِي الْقَوَاطِعِ الْمُحْكَمَاتِ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَمِنْ فوائده سُهُولَةِ الْمُتَنَاوَلِ فِي انْقِطَاعِ الْخِصَامِ وَالتَّشْغِيبِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ. وَمِثَالُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ، وَقَدْ وَرَدَ عَلَى "غَرْنَاطَةَ" بَعْضُ "طَلَبَةِ"4 الْعُدْوَةِ الْأَفْرِيقِيَّةِ؛ فَأَوْرَدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ الْإِشْكَالَ الْمُورَدَ فِي قَتْلِ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْضِي بِوُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [الْقَصَصِ: 15] . وَقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] .   1 الفوائد التي ذكرت في هذا الفصل إنما تبنى على الكليات المقطوع بها التي لا تقبل تخصيصًا ولا استثناء، ومعلوم أن ذلك في أصول العقائد لا في أصول الفقه. "د". 2 مثلوا لها بإذنه -صلى الله عليه وسلم- بلبس الحرير للحكة، وللحنابلة قولان في صحة التخصيص بتلك القضايا، ولكن التحقيق أن التخصيص إنما هو بالعلة المصرح بها التي لأجلها ورد الإذن، فإذا لم تكن مصرحة؛ فلا تخصيص. "د" وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 3 لأن الكلي على ما تقدم غير محتمل، بل متحدد المعنى لا يقبل تأويلًا، فإذا اعتبر ظاهر الجزئي؛ فلا مناص من المعارضة. "د". وفي "ط": "به الخيرة". 4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 فَأَخَذَ مَعَهُ فِي تَفْصِيلِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ1 بِمُجَرَّدِهَا، وَمَا ذَكَرَ فِيهَا مِنَ التَّأْوِيلَاتِ بِإِخْرَاجِ2 الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَهَذَا الْمَأْخَذُ لَا يَتَخَلَّصُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الِانْفِصَالُ عَلَى غَيْرِ وِفَاقٍ؛ فَكَانَ مِمَّا ذَاكَرْتُ بِهِ بَعْضَ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ: [أَنَّ] الْمَسْأَلَةَ سَهْلَةٌ فِي النَّظَرِ إِذَا رُوجِعَ بِهَا الْأَصْلُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فَيُقَالُ لَهُ: الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَنِ الصَّغَائِرِ بِاخْتِلَافٍ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ مُوسَى كَبِيرَةً، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَيْضًا مِنَ الصَّغَائِرِ، [وَهُوَ صَحِيحٌ] 3؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ ذَنْبًا، فَلَمْ يَبْقَ4 إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَنْبٍ5، وَلَكَ فِي التَّأْوِيلِ السَّعَةُ6 بِكُلِّ مَا يَلِيقُ بِأَهْلِ النُّبُوَّةِ وَلَا يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، وَرَأَى ذَلِكَ7 مَأْخَذًا عِلْمِيًّا فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يَبْنِي عليه النظار، وهو حسن، والله أعلم.   1 في "ط": "تفاصيل ألفاظ الأئمة ... ". 2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "إخراج". 3 في الأصل: "الصحيح"، وسقط ما بين المعقوفتين من "ط". 4 في الأصل: "يتبين". 5 لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم؛ ففعله غير قاصد به القتل، وإنما وقع القتل مترتبًا عليه من غير قصد. "ف". 6 منه أنه -عليه السلام- بعد أن وقع منه ما وقع تأمل؛ فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز، وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب؛ فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله، فقال ما قال على عادة المقربين في استفظاعهم، خلاف الأولى. "ف". 7 في الأصل و"ف" و"ط": "ورأى مثله". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَلَمَّا كَانَ قَصْدُ الشَّارِعِ ضَبْطَ الْخَلْقِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ1 وَكَانَتِ الْعَوَائِدُ قَدْ جَرَتْ بِهَا سُنَّةُ اللَّهِ أَكْثَرِيَّةً لَا عَامَّةً، وَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْوَضْعِ؛ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُلْتَفَتِ إِلَيْهِ إِجْرَاءُ الْقَوَاعِدِ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، لَا الْعُمُومِ الْكُلِّيِّ التَّامِّ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ جُزْئِيٌّ مَا. أَمَّا كَوْنُ الشَّرِيعَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ؛ فَظَاهِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَضْعَ التَّكَالِيفِ عَامٌّ؟ وَجَعَلَ عَلَى ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ مَظِنَّةٌ لِوُجُودِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَكُونُ عِنْدَهُ فِي الْغَالِبِ لَا عَلَى الْعُمُومِ؛ إِذْ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ كُلِّيًّا عَلَى التَّمَامِ؛ لِوُجُودِ مَنْ يَتِمُّ عَقْلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَمَنْ يَنْقُصُ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا، إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ الِاقْتِرَانُ. وَكَذَلِكَ نَاطَ الشَّارِعُ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ بِالسَّفَرِ لِعِلَّةِ الْمَشَقَّةِ2، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِهَا وَقَدْ تُفْقَدُ مَعَهَا3، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّارِعُ تِلْكَ النَّوَادِرَ، بَلْ أَجْرَى الْقَاعِدَةَ مَجْرَاهَا، وَمِثْلُهُ حَدُّ الْغِنَى بِالنِّصَابِ، وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ   1 لأنه لا يتأتى ذلك من الجزئيات لاستحالة حصرها؛ فلا بد في التشريع العام من قواعد عامة. "د". أما "ف"؛ فقال: "أي: برجوعهم إليها أو إلى بمعنى الباء". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207"، و"البحر المحيط" "6/ 92" للزركشي. 2 جعل المشقة علة نظرًا إلى أنها المترتب عليها الترخيص في الأصل، ولكن لما كانت غير منضبطة لاختلافها بحسب الأشخاص والأحوال؛ نيط الترخيص بمظنتها، وهو السفر؛ فهو العلة، أي: الوصف الظاهر المنضبط، وهذا هو المشهور عند الأصوليين. "ف". 3 الأنسب تذكير الضمير لرجوعه إلى السفر. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 بِالْبَيِّنَاتِ1، وَإِعْمَالُ2 أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسَاتِ الظَّنِّيَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَتَخَلَّفُ مُقْتَضَيَاتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدَمِ التَّخَلُّفِ؛ فَاعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ كُلِّيَّةً عَادِيَّةً لَا حَقِيقِيَّةً. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تَجِدُ سائر القواعد التكليفية. وإذا ثبت3 ذلك ظهر أن لا بد مِنْ إِجْرَاءِ الْعُمُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مُنْضَبِطَةٌ بِالْمَظِنَّاتِ، إِلَّا إِذَا ظَهَرَ مَعَارِضٌ4؛ فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ فِيهِ، كَمَا إِذَا عَلَّلْنَا الْقَصْرَ بِالْمَشَقَّةِ؛ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالْمَلِكِ الْمُتْرَفِ وَلَا بِالصِّنَاعَةِ الشَّاقَّةِ، وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ بِالْكَيْلِ5؛   1 أي: مع أن البينة قد تخطئ، وقد تكذب، ومع ذلك يجب ترتيب الحكم على الشهادة؛ فقد يكون الحكم في الواقع خطأ، لكنه نادر لا يعتد به؛ لأنه لا طريق غيره لإجراء العدالة بين الناس، حسبما جرت به العادة الإلهية فيهم. "د". 2 في الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، مع أنها محتملة لما يجعلها غير صالحة للأخذ بها، وبناء الأحكام الشرعية العملية عليها، ومثله أو أشد منه يقال في القياسات، وكلها ظنية بين ضعيفة وقوية، كما هو معروف من أنه يتوجه على القياس نحو أربعة وعشرين اعتراضًا تجعل الأخذ به غير مقطوع بصحته في الواقع، ولكن الشرع مع ذلك اعتبره بناء على أنه يوصل إلى الصواب عادة. "د". 3 في "ط": "وإذ ثبت". 4 وذلك كما إذا ظهر كذب الشهود فيرد وينقض، وكما إذا ظهر نص في مقابلة القياس فيرجع للنص لفساد اعتبار القياس حينئذ؛ فقوله: "كما إذا ... إلخ" راجع لما قبل إلا. "د". 5 لا يخفى أن الكيل وصف طردي ليس فيه المناسبة التي يترتب عليها الحكم عند ذوي العقول السليمة، وقيل: العلة الوزن كما هو رأي أبي حنيفة، ورواية عند أحمد وعند مالك والشافعي أن العلة القوت، ورجحه ابن القيم، وأما الدراهم والدنانير؛ فمذهب أبي حنيفة أن العلة كونهما موزونين، وعند مالك والشافعي أن العلة الثمنية، وقال ابن القيم: إنه الصواب؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي جعل ضابطًا لقيم الأموال، فيجب أن يكون مضبوطًا محدودًا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كانت ترتفع وتنخفض لكانت كالسلع؛ ففسد أن تكون أصلًا = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَا يَتَأَتَّى كَيْلُهُ1 لِقِلَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ كَالتَّافِهِ مِنِ الْبُرِّ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّلْنَاهُ فِي النَّقْدَيْنِ بِالثَّمَنِيَّةِ لَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لِقِلَّتِهِ، أَوْ عَلَّلْنَاهُ فِي الطَّعَامِ بِالِاقْتِيَاتِ؛ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ اقْتِيَاتٌ؛ كَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتَرَضَتْ عِلَّةُ الْقُوتِ بِمَا يُقْتَاتُ فِي النَّادِرِ؛ كَاللَّوْزِ، وَالْجَوْزِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْبُقُولِ، وَشِبْهِهَا، بَلِ الِاقْتِيَاتُ إِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ مِنْهُ مَا كَانَ مُعْتَادًا مُقِيمًا لِلصُّلْبِ عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى الْعُمُومِ2، وَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ في جميع الأقطار3.   = يرجع إليه في تقويم الأموال وحاجة الناس إلى أصل ترد إليه القيم حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يكون إلا بما يستمر على حالة واحدة حتى ترتفع المنازعات وتنقطع الخصومات بالرجوع إليه، ولو أبيح دراهم بدراهم متخالفة في وصف ككون إحداهما صحيحة والأخرى مكسرة أو صغيرة وكبيرة وهكذا؛ لصارت الدراهم متجرًا وجر إلى ربا النسيئة فيها ولا بد, والأثمان لا تقصد لأعيانها، بل ليتوصل بها إلى السلع، فإذا صارت هي سلعًا تقصد لأعيانها فسدت مصالح الناس، وهذا أمر معقول يختص بالنقدين، لا يتعداه إلى كل موزون كما يقول أبو حنيفة، وبالجملة؛ فقد منع ربا الفضل في النقدين لأنه مفوت لمصلحة انضباط القيم ونقض لأساس التعامل؛ ولأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، ومنع في الطعام سدًّا لهذه الذريعة في الأقوات التي تشتد حاجة الناس إليها ولتفاضل في النقدين والطعام حرام ووسيلة للحرام. "د". قلت: انظر في علة الربا: "المغني" "4/ 125, مع الشرح الكبير"، و"إعلام الموقعين" "2/ 137"، و" الفروع" "5/ 148", و"المبسوط" "12/ 113"، و"عمدة القاري" "11/ 253"، و"المجموع" "9/ 445"، و"حاشية الخرشي" "3/ 412"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "29/ 473"، و"الربا والمعاملات المصرفية" "ص94 وما بعدها". 1 الكيل والثمنية والقوت ليست علة بمعنى الحكمة كالمشقة في السفر، وإنما هي الأوصاف المنضبطة التي نيط بها الحكم وجعلت علامة على وجود الحكمة، فإذن الذي يقال: إنه متى وجد الكيل أو الثمنية أو القوت حرم التفاضل، سواء أوجدت الحكمة وهي سد الذريعة وحفظ ما تشتد إليه حاجة الناس في الأقوات والأثمان، أم لم توجد، ولا يقال: وجد الكيل أم لم يوجد، كما لا يقال: وجد السفر أم لم يوجد؛ لأن الوصف الذي نيط به الحكم لا بد منه؛ فتأمل. "د". 2 بحيث لا تفسد البنية بالاقتصار عليه. "د". 3 كأنه يقول أيضًا: إنه لا يلزم أن تكون العادة عادة في جميع الأقطار، وهذا يرجع إلى تقييد أصل المسألة، وأن العموم العادي الذي يقول: إنه مبنى الأحكام الشرعية لا يلزم اتحاده في جميع الأقطار؛ إلا أن ذلك إن صح؛ ففي مثل الاقتيات والثمنية اللذين يختلفان في بعض الأقطار، بحيث يكون الثمن فيها غير الذهب والفضة، وبحيث يكون القوت فيها غير هذه الأصناف أو غير بعضها، أما العادة في جعل البلوغ مظنة للعقل الذي هو مناط التكليف والشهادات، وفي مسألة الخمر قليله وكثيره، وفي مسألة مجرد الإيلاج؛ فالعادة فيه مطردة لا فرق بين قطر وآخر. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْحَدَّ عُلِّقَ فِي الْخَمْرِ عَلَى نَفْسِ التَّنَاوُلِ حِفْظًا عَلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ أُجْرِيَ الْحَدُّ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ مَجْرَى الْكَثِيرِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ فِي تَنَاوُلِ1 الْكَثِيرِ، وَعُلِّقَ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْإِيلَاجِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ حِفْظَ الْأَنْسَابِ؛ فَيُحَدُّ مَنْ لَمْ يُنْزِلْ لِأَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ مَعَ الْإِيلَاجِ الْإِنْزَالُ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا. فَلْيَكُنْ عَلَى بَالٍ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الْقَوَاعِدَ العامة إنما تنزل على العموم العادي.   1 يعني أن العادة أن من يتناول القليل يتناول الكثير؛ فتحريم القليل والحد فيه من مكملات ضروري حفظ العقل. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا كَلَامَ فِي أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا وَضْعِيَّةً، وَالنَّظَرُ فِي هَذَا مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ هُنَا فِي أَمْرٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَطَالِبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا، ولكنه أكيد التقرير ههنا، وَذَلِكَ أَنَّ لِلْعُمُومِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيَغُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ نَظَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مَا تَدُلُّ عليه الصيغة في أهل وَضْعِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ1، وَإِلَى هَذَا النَّظَرِ قَصْدُ2 الْأُصُولِيِّينَ فَلِذَلِكَ يَقَعُ التَّخْصِيصُ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ3 وَالْحِسِّ4 وسائر5 المخصصات المنفصلة.   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 442/ 442-445". 2 ويتضح بما أثبته الآمدي في كتاب "الأحكام" "2/ 460" في قسم التخصيص بالمنفصل ومناقشته بالأوجه الثلاثة التي تقتضي أنه لا يصح التخصيص به، ثم تخلص بالجواب بأنه إذا نظر إلى أصل وضع الألفاظ من العموم صح التخصيص، وإذا نظر إلى عدم إرادة العموم من اللفظ، فإنه لا تخصيص، وأنه لا منافاة بين كون اللفظ دالا على المعنى لغة وبين كونه غير مراد من اللفظ. "د". 3 كما مثلوا له بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 162] ، فالعقل دليل على تخصيص الخلق بغير ذلك وصفاته، وكذلك القدرة. "د". قلت: انظر "المحصول" "3/ 73"، و"المستصفى" "2/ 100"، و"العدة" "2/ 547"، و"البرهان" "1/ 408"، و"التمهيد" "2/ 101"، و"المسودة" "ص118". 4 كما في قوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] ، {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] ؛ فالحس دليل على أنها لم تدمر الجبال والأنهار وغيرها مما أتت عليه؛ فإنه خلاف المشاهد. "د". قلت: انظر: "المحصول" "3/ 75"، و"المستصفى" "2/ 99"، و"نهاية السول" "2/ 141"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص215". 5 كتخصيص الكتاب والسنة بغير الاستثناء والشرط والوصف والغاية. "د". قلت: انظر "المحصول" "3/ 71 وما بعدها"، و"روضة الناظر" "2/ 722 وما بعدها". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وَالثَّانِي: بِحَسَبِ1 الْمَقَاصِدِ الِاسْتِعْمَالِيَّةِ الَّتِي تَقْضِي الْعَوَائِدُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْوَضْعِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ اسْتِعْمَالِيٌّ، وَالْأَوَّلُ قِيَاسِيٌّ. وَالْقَاعِدَةُ فِي الْأُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ الِاسْتِعْمَالِيَّ إِذَا عَارَضَ الْأَصْلَ الْقِيَاسِيَّ كَانَ الْحُكْمُ لِلِاسْتِعْمَالِيِّ. وَبَيَانُ ذَلِكَ هُنَا أَنَّ الْعَرَبَ [قَدْ] تُطْلِقُ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ بِحَسَبِ مَا قَصَدَتْ تَعْمِيمَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ خَاصَّةً، دُونَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْإِفْرَادِيِّ؛ كَمَا أَنَّهَا [أَيْضًا] 2 تُطْلِقُهَا وَتَقْصِدُ بِهَا تَعْمِيمَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقْتَضَى الْحَالِ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَأْتِي بِلَفْظِ عُمُومٍ3 مِمَّا يَشْمَلُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ نَفْسَهُ وَلَا يُرِيدُ4 أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَقْصِدُ بِالْعُمُومِ صِنْفًا مِمَّا يَصْلُحُ اللَّفْظُ لَهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَصْنَافِ، كَمَا5 أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ   1 في "ط": "باعتبار". 2 سقط من "ط". 3 لما حصروا التخصيص بالمنفصل في العقل والحس والدليل السمعي؛ قال القرافي: "الحصر غير ثابت؛ فقد يقع التخصيص بالعوائد كقولك: رأيت الناس فما رأيت أكرم من زيد، فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس"، ولا يخفى أن ما قاله القرافي إجمال ما بسطه المؤلف، ونقل بعض أمثلته ابن خروف، ولا يخفى أن التخصيص إن كان لدليل شرعي؛ لزم أن تكون العادة مشتهرة في عهد النبوة، أما العادات الطارئة؛ فإنها تخصص ما يجري بين أهل تلك العادة من المحاورات في التعبير. "د". 4 في "ط": "ولا يقصد". 5 هذا من باب التشبيه لا التمثيل لما نحن فيه؛ لأنه عكس الموضوع، لكنه يقرره ويوضحه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 ذِكْرَ الْبَعْضِ فِي لَفْظِ1 الْعُمُومِ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْضِ الْجَمِيعَ؛ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ2، وَالْمُرَادُ جَمِيعَ الْأَرْضِ، وَضُرِبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَمِنْهُ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن} [الرَّحْمَنِ: 17] . {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3 [الزُّخْرُفِ: 84] . فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ؛ فَلَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ بِمُرَادٍ، وَإِذَا قَالَ: أَكْرَمْتُ النَّاسَ، أَوْ قَاتَلْتُ الْكُفَّارَ، فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْ لَقِيَ مِنْهُمْ؛ فَاللَّفْظُ عَامٌّ فِيهِمْ خَاصَّةً، وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ دُونَ مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِالْبَالِ. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ4: "وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لَيَضْرِبَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي الدَّارِ وَهُوَ مَعَهُمْ فِيهَا، فَضَرَبَهُمْ وَلَمْ يَضْرِبْ نَفْسَهُ؛ لَبَرَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: اتَّهَمَ الْأَمِيرُ كُلَّ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ فَضَرَبَهُمْ؛ فَلَا يَدْخُلُ الْأَمِيرُ فِي التُّهَمَةِ وَالضَّرْبِ". قَالَ: "فَكَذَلِكَ5 لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى تَحْتَ الْإِخْبَارِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تعالى: {خَلَقَ كُلَّ شَيْء} [الزُّمَرِ: 62] لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقْصِدُ ذَلِكَ وَلَا تَنْوِيهِ، وَمِثْلُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَكِنَّ الْإِخْبَارَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ6 جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، وَعِلْمُهُ بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ شَيْءٌ آخَرُ". قَالَ: "فَكُلُّ مَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ نَحْوِ هَذَا، فلا تعرض فيه لدخوله تحت   1 أي: في مكان لفظ العموم؛ فيكون اللفظ دالًّا على البعض، وهو يريد الجميع. "د". 2 وهذا من باب الكناية التي تفيد المطلوب بدليل؛ فهي أوقع في باب الإفادة لأن من ملك حدي الشيء فقد ملك جميعه إلى نهايته. "د". 3 فهو إله معبود فيهما وفيما يتبعهما أيضًا لا في خصوصهما. "د". 4 له شرح على كتاب سيبويه لم يطبع، ولعل النقل منه. 5 في "ط": "وكذلك". 6 في "ط": "على". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 الْمُخْبَرِ عَنْهُ؛ فَلَا تَدْخُلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى تَحْتَ الْخِطَابِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ وَضْعِ اللِّسَانِ". فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُمُومَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَوُجُوهُ الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ ضَابِطَهَا مُقْتَضَيَاتُ1 الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْبَيَانِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الْأَحْقَافِ: 25] لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنَّهَا تدمر السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، وَلَا الْمِيَاهَ وَلَا غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهَا أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الْأَحْقَافِ: 25] . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] . ومن الدليل على هذ [أيضًا] أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِحَسَبِ اللِّسَانِ؛ فَلَا يُقَالُ: مِنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ إِلَّا نَفْسِي، أَوْ أَكْرَمْتُ النَّاسَ إِلَّا نَفْسِي، وَلَا قَاتَلْتُ الْكُفَّارَ إِلَّا مَنْ لَمْ أَلْقَ مِنْهُمْ، وَلَا مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ مِمَّنْ دَخَلَ الدَّارَ، أَوْ مِمَّنْ لَقِيتُ2 مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُوَ الَّذِي يُتَوَهَّمُ3 دُخُولُهُ لَوْ لَمْ يُسْتَثْنَ، هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ فِي التَّعْمِيمِ؛ فَهُوَ إِذًا الْجَارِي في عمومات الشرع.   1 وهل مقتضيات الأحوال سوى القرائن التي يدركها العقل والحس؟ كما في الأمثلة المذكورة ومثالي الكتاب الكريم اللذين ذكرهما بعد؛ إلا أن الكلام ابن خروف صريح في تأييد المؤلف في أنه لا يعد مثل هذا من باب التخصيص، لأن الخارج بالعقل والحس لم يدخل حتى يبحث عن إخراجه فيكون مخصصًا، وقد نسب ذلك إلى وضع اللسان واللغة. "د". 2 في "ط": "لقيت". 3 أي: ما يقع في الوهم دخوله، وذلك إنما يكون فيما يصح شمول اللفظ المخرج منه له حسب الاستعمال، أما طريقة الأصوليين؛ فمبنية على أن كل ما يدخل وضعًا يصح إخراج بعضه بالعقل وغيره؛ فيكون تخصيصًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وَأَيْضًا، فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ نَبَّهُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ قَصْدِهِ التَّعْمِيمَ إِلَّا بِالْإِخْطَارِ لَا يُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَيْهِ، إِلَّا مَعَ الْجُمُودِ عَلَى مُجَرَّدِ1 اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى؛ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ؛ كَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ؛ فَقَدْ طَهُرَ" 2. قَالَ الْغَزَالِيُّ3: "خُرُوجُ الْكَلْبِ عَنْ ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِلدِّبَاغِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ الْوَاقِعُ، وَنَقِيضُهُ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُسْتَبْعَدُ". وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ أَيْضًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ4 لِقَاعِدَةِ الْعَرَبِ، وَعَلَيْهِ يحمل كلام الشارع بلا بد.   1 أي: باعتبار أصل الوضع، أما مع مراعاة المعنى والقرائن ومقتضى الحال، فما لا يخطر بالبال لا يصح أن يعد داخلًا، فلا يحتاج إلى إخراج؛ فلا تخصيص. "د". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، 1/ 277/ رقم 366" عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "إذا دبغ ... ". وقد وهم بعضهم؛ فنسبه لمسلم بلفظ: "أيما إهاب ... "؛ كما تراه مبسوطًا في "نصب الراية" "1/ 116"، و"تحفة الأشراف" "5/ 53"، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات" للإمام البيهقي "1/ 194-198"، فراجعه إن أردت الاستزادة. 3 يريد الغزالي أن استثناء الشافعي لجلد الكلب من الطهارة بالدباغ لا يحتاج إلى مخصص منفصل ولا متصل، وهو يؤيد الأصل الذي يعمل المؤلف لإثباته هنا. "د". قلت: انظر "المستصفى" "2/ 60". 4 وقد يعد من ذلك مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ... } إلى أن قال: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، مع أن من شروط المعاهدة أن من جاء إلى المسلمين يرد إلى الكفار، وهو لفظ عام يشمل النساء بحسب أصل الوضع الإفرادي، ولا يقال: إن التخصيص ورد على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن التخصيص في معاهدة مثل هذا لا يكون إلا برضا الطرفين واطلاعهما، حتى إنهم لما لم يرضوا عن تخصيص أبي جندل؛ لم يقبله -صلى الله عليه وسلم- ولما قبل النساء المؤمنات لم يبد منهم اعتراض، وذلك دليل على أن خروج النساء عن ذهن المتعاقدين كافٍ، مع = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 فَإِنْ قِيلَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَنْطَلِقُ1 عَلَى جَمِيعِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي الْأَصْلِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّرْكِيبُ وَالِاسْتِعْمَالُ؛ فَإِمَّا أَنْ تَبْقَى دَلَالَتُهُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ2، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ3؛ فَهُوَ مُقْتَضَى وَضْعِ اللَّفْظِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وكل تخصيص لا بد لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ4 حَمَلَتِ اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى5 الْكَلَامِ يَقْتَضِي عَلَى مَا تَقَرَّرَ خِلَافَ مَا فَهِمُوا، وَإِذَا كَانَ فَهْمُهُمْ فِي سِيَاقِ الِاسْتِعْمَالِ مُعْتَبَرًا [فِي التَّعْمِيمِ] 6 حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ عِنْدَهُمْ، بِحَيْثُ صَارَ كَوَضْعٍ ثانٍ، بَلْ هُوَ باقٍ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، ثُمَّ التَّخْصِيصُ آتٍ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بدليل متصل أو منفصل.   = أن الوضع الإفرادي يشملهن، وما هذا إلا من تعويلهم على مقتضى الحال وما يفهم بالقرائن، ولا ينافي ذلك أنه لما جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن معيط إليه -صلى الله عليه وسلم- مهاجرة بعد عقد الهدنة خرج أخواها عمار والوليد إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليردها؛ فلم يردها، ونزلت الآية في ذلك، لا ينافي هذا ما قلنا؛ لأنهم لم يعترضوا بدخولهما في عقد الهدنة بلفظ: "من جاء" الشاملة وضعًا للنساء، كما اعترضوا في أبي جندل والموضع يحتاج إلى شيء من الدقة، وبهذا يتخلص من بعض ما قيل في كتب التفسير في هذه الآية. "د". 1 كذا في جميع الأصول، ولعلها "ينطبق". 2 في "ط": "الإفراد". 3 كما في قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} ؛ فليس محل إشكال ولا نزاع. "د". 4 أخذ عنوان "العرب" ولم يقل الصحابة مثلًا؛ لما سيجيء في آية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون ... } إلخ، وليتأتى انفصاله وتميزه عن الاعتراض الآتي في الفصل في قوله: "فلقائل أن يقول: إن السلف الصالح ... إلخ". "د". 5 يأتي إيضاح هذه الجملة في قوله بعد: "إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي ... إلخ". "د". 6 سقطت من "ط". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْآيَةَ [الأنعام: 82] ؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ1؟ فَقَالَ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " [لُقْمَانَ: 13] 2، وَفِي رِوَايَةٍ3: "فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " [لُقْمَانَ: 13] . وَمِثْلُ4 ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] قَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ: فَقَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَعُبِدَ الْمَسِيحُ، فَنَزَلَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 5 الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاءِ: 101] . إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ سِيَاقُهَا يَقْتَضِي بِحَسَبِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ عُمُومًا أَخَصَّ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَقَدْ فَهِمُوا فِيهَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَبَادَرَتْ أَفْهَامُهُمْ فِيهِ6، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ مَا وُضِعَ7 لَهُ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ؛ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فَهْمُهُ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا الِاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِيَّ؛ فَقَدْ تَبْقَى دَلَالَتُهُ الْأُولَى وَقَدْ لَا تَبْقَى، فَإِنْ بَقِيَتْ فَلَا تَخْصِيصَ، وَإِنْ لَمْ تَبْقَ دَلَالَتُهُ؛ فَقَدْ صَارَ لِلِاسْتِعْمَالِ اعْتِبَارٌ آخَرُ لَيْسَ لِلْأَصْلِ، وَكَأَنَّهُ وَضْعٌ ثَانٍ حَقِيقِيٌّ لا مجازي، وربما   1 أي: فقد أبقوا اللفظ على عمومه الذي كان له في الإفراد، ولم يتغير معناه عند استعماله، حتى احتاجوا إلى المخصص وهو قوله: "ليس بذاك ... إلخ"، مع أن سياق الآية وما قبلها من الآيات في أهل الشرك. "د". 2 مضى تخريجه "3/ 402"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود, رضي الله عنه. 3 الرواية الأولى أقعد في الفهم، وأوضح في الغرض. "د". 4 في الأصل: "ومثال". 5 مضى تخريجه "3/ 362". 6 في "ط": "إليه". 7 لعله: "لما وضع". "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 أَطْلَقَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَفْظَ "الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ" إِذَا أَرَادُوا أَصْلَ الْوَضْعِ، وَلَفْظَ "الحقيقة العرفية"1 إذا أراد الْوَضْعَ الِاسْتِعْمَالِيَّ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ لِلَّفْظِ2 الْعَرَبِيِّ أَصَالَتَيْنِ: أَصَالَةٌ قِيَاسِيَّةٌ، وَأَصَالَةٌ اسْتِعْمَالِيَّةٌ؛ فَلِلِاسْتِعْمَالِ هُنَا أَصَالَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا لِلَّفْظِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَتِنَا؛ فَالْعَامُّ إِذًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَدْخُلْهُ3 تَخْصِيصٌ بِحَالٍ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْفَهْمَ فِي عُمُومِ الِاسْتِعْمَالِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ الْمَقَاصِدِ فِيهِ، وَلِلشَّرِيعَةِ بِهَذَا النَّظَرِ مَقْصِدَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَقْصِدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَالثَّانِي4: الْمَقْصِدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي سور القرآن   1 الحقيقة العرفية عندهم كالحقيقة اللغوية في أنهما ينظر فيهما إلى اللفظ باعتبار الإفراد، كما قالوه في لفظ دابة، وأن استعماله في خصوص ذوات الأربع منظور فيه للفظ الإفرادي، يقع النظر عن معنى الكلام الذي تقضي العوائد بالقصد إليه ويفهم بمعونة سياق الكلام؛ فهناك فرق بين الحقيقة العرفية وبين الأصالة الاستعمالية التي يقررها في هذا المقام. "د". 2 في "ط": "من اللفظ". 3 أي: فهو وإن لم تبق دلالته الوضعية؛ إلا أنه دل على عموم آخر اقتضاه الاستعمال، ودلالته حقيقية أيضًا لا مجاز، وليس هذا تخصيصًا حتى يقال: "وكل تخصيص لا بد له من مخصص متصل أو منفصل" كما هو الاعتراض. "د". 4 أي: فهناك ثلاثة أوضاع: الوضع الإفرادي المعبر عنه بالأصالة القياسية، والوضع الاستعمالي المعبر عنه بالحقيقة العرفية، وهذا ما أثبته في الجواب الأول، والوضع الثالث الوضع الشرعي المسمى بالحقيقة الشرعية، والجواب عن الإشكال الأول يكفي فيه ملاحظة الوضع الثاني، أما الجواب عن الثاني؛ فلا بد فيه من ملاحظة وضع الحقيقة الشرعية والاستعمالات الواردة في الشريعة، حتى يتأتى تفاوت العرب في فهمها: بين من اتسع فهمه في إدراك الشريعة، وبين مبتدئ قد لا يعرف هذه الاستعمالات الشرعية؛ فيحصل له التوقف نظرًا لوقوفه عند الوضعين الأولين. "د". قلت: انظر في هذه الأوضاع: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "12/ 113-115 و19/ 235-236"، و"الإيمان" "10-112" لابن تيمية، و"نزهة الخاطر العاطر" "2/ 10-11" لابن بدران، ط دار الكتب العلمية، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص246" لعلي حسب الله، و"الحقيقة الشرعية" "ص13 وما بعدها" لعمر بازمول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 بِحَسَبِ تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مُطْلَقِ الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ الْعَرَبِيِّ كَنِسْبَةِ الْوَضْعِ فِي الصِّنَاعَاتِ الْخَاصَّةِ إِلَى الْوَضْعِ الْجُمْهُورِيِّ؛ كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: إِنَّ أَصْلَهَا الدُّعَاءُ لُغَةً، ثُمَّ خُصَّتْ فِي الشَّرْعِ بِدُعَاءٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهِيَ فِيهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ: إِنَّهَا إِنَّمَا تَعُمُّ [الذِّكْرَ] بِحَسَبِ مَقْصِدِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ الدَّلِيلِ عَلَى الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ، وَاسْتِقْرَاءُ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَالْعَرَبُ فِيهِ شَرَعٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَالتَّفَاوُتُ فِي إِدْرَاكِهِ حَاصِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ الطَّارِئُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ فِي فَهْمِهِ كَالْقَدِيمِ الْعَهْدِ، وَلَا الْمُشْتَغِلُ بِتَفَهُّمِهِ وَتَحْصِيلِهِ كَمَنْ لَيْسَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ، وَلَا الْمُبْتَدِئُ فِيهِ كَالْمُنْتَهِي {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [الْمُجَادَلَةِ: 11] ؛ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَوَقُّفِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي بَعْضِ مَا يُشْكِلُ أَمْرُهُ، وَيَغْمُضُ وَجْهُ الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ؛ حَتَّى إِذَا تَبَحَّرَ فِي إِدْرَاكِ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ نَظَرُهُ، وَاتَّسَعَ فِي مَيْدَانِهَا بَاعُهُ؛ زَالَ عَنْهُ مَا وَقَفَ مِنَ الْإِشْكَالِ1 وَاتَّضَحَ لَهُ الْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ عَلَى الْكَمَالِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ وَجْهُ الِاسْتِعْمَالِ؛ فَمَا ذُكِرَ مِمَّا تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا فرضه الأصوليون من وضع   1 في "ط": "الاتصال". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَوْضِعَ يَسْتَمِدُّ مِنْهَا1، وَهَذَا الموضع2 وَإِنْ كَانَ قَدْ جِيءَ بِهِ مُضَمَّنًا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ؛ فَلَهُ مَقَاصِدُ تَخْتَصُّ بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَسَاقُ الْحُكْمِيُّ أَيْضًا، وَهَذَا الْمَسَاقُ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعَارِفُونَ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعَارِفُونَ بِمَقَاصِدِ الْعَرَبِ؛ فَكُلُّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ فَمِنْ [هَذَا] 3 الْقَبِيلِ إِذَا تَدَبَّرْتَهُ. فَصْلٌ: وَيَتَبَيَّنُ لَكَ صِحَّةُ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُعْتَرَضِ بِهَا فِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ4. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 82] ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ أَنْوَاعُ الشِّرْكِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُقَرِّرَةٌ لِقَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ، وَهَادِمَةٌ لِقَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمَا يَلِيهِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ الْآيَةِ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مُحَاجَّتِهِ لِقَوْمِهِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ فِي الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الْأَنْعَامِ: 21] ، فبيَّن أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ ارْتَكَبَ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ5 وَظَهَرَ أَنَّهُمَا الْمَعْنِيَّ6 بِهِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِبْطَالًا بالحجة، وتقريرًا لمنزلتهما في المخالفة،   1 لعل الصواب: "الثاني". "د". 2 في "ط": "الخصلتين". 3 أي: عنى بهما في هذه الصورة إبطالًا لهما بالأدلة، وتقريرًا لبعدهما عن الحق، وتوضيحًا لما هو الحق في الواقع الذي هو ضدهما، وقوله: "فكأنه السؤال ... إلخ" يقتضي أن الآية نزلت قبل ظهور العناية في الكتاب -أو على الأقل في سورة الأنعام- بإبطال هاتين الخلتين، ولكن هذا يتوقف على أن الآية المذكورة كان نزولها سابقًا على تلك الآيات، حتى توقفوا فيها ولم يدركوا مقصد الشرع منها؛ فسألوا، ولو كانت الآيات المقررة لهذه المعاني سابقة عليها لفهموا مقصد الشرع بالظلم ولم يتوقفوا، هذا كلامه، وهو توجيه إذا تم سبق الآية لغيرها كما أشرنا إليه. "د". 4 استمداد غير مباشر على ما سيتضح بعد، وإلا، فليس هذا من الحقيقة الشرعية كالصلاة مثلًا. "د". 5 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط": "الوضع". 6 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"ط"، وسقط من "ف" و"د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُضَادٌّ لَهُمَا؛ فَكَأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَرَدَ قَبْلَ تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ تَقْرِيرًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِلَفْظٍ عَامٍّ؛ كَانَ مَظِنَّةً لِأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ ظُلْمٍ، دَقَّ أَوْ جَلَّ؛ فَلِأَجْلِ هَذَا سَأَلُوا وَكَانَ1 ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَقْرِيرِ جَمِيعِ كُلِّيَّاتِ2 الْأَحْكَامِ. وَسَبَبُ احْتِمَالِ3 النَّظَرِ ابْتِدَاءً أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 82] نَفْيٌّ عَلَى نَكِرَةٍ، لَا قَرِينَةَ فِيهَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَأْتِنِي رَجُلٌ؛ فَيَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ، وَهِيَ كُلُّهَا نَفْيٌ لِمُوجِبٍ مَذْكُورٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَلَا نَصَّ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الْمُحْتَمِلَةِ؛ إِلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِمَنْ وَمَا يُعْطِي مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ هُنَا، بَلْ فِي السُّورَةِ4 مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ وَارِدٌ على ظلم معروف، وهو ظلم   1 في "ط": "وكل". 2 أي: التي منها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . "د". 3 أي: فالآية باعتبار ذاتها وقطع النظر عن الآيات الآخرى السابقة واللاحقة نراها باعتبار الاستعمال مجملة، لا نص فيها على الاستغراق الوضعي ولا على غيره؛ فجاء الاحتمال المقتضي للسؤال. "د". 4 لا حاجة إليه في هذا المقام؛ لأنا في مقام سبب الإجمال كما قال بعد: "فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر ... إلخ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ؛ فَصَارَتِ الْآيَةُ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا1 بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَسَاقِ مَعَ كَوْنِهَا أَيْضًا فِي مَسَاقِ تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ مُجْمَلَةً2 فِي عُمُومِهَا فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ فِيهَا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ عُمُومَهَا إِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ نَوْعٌ أَوْ نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَذَلِكَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ3 عَلَى هَذَا بوجه.   1 فإفرادها بالنظر وعدم الالتفات إلى سياقها وسباقها -أي: حتى على فرض أنها نزلت بعد الآيات التي تقرر فيها المعنى المشار إليه سابقًا- وكونها في مساق تقرير الأحكام الذي هو مظنة عموم الظلم لما جل وما دق، هذا وذاك جعل العموم محتملًا وجعل الآية مجملة، فاحتاجت إلى السؤال والجواب للبيان لا للتخصيص. "د". قلت: وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 434": "إن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك -أي: إن معنى الظلم في الآية هو الشرك- فإنه الله سبحانه لم يقل: ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} ، ولبس الشيء بالشيء تغطيته به، وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر". وانظر حول تفسير الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 79-82". 2 في "ط": "محتملة". 3 كأنه يقول: إن هذا النوع أو النوعين من الظلم هما اللذان اختصا بالعناية في هذه السورة إبطالًا لهما بالحجة ... إلخ ما سبق، فلما جاء ذكر الظلم في آية: {الَّذِينَ آمَنُوا .... } إلخ [الأنعام: 82] جاء نازلًا من أول الأمر على معناه المذكور؛ فلا حاجة به إلى تخصيص، وهو في ذاته ظاهر إلا أنه لا يظهر فيه كونه وضعًا شرعيًّا، وعده من نوع الحقيقة الشرعية التي قال فيها: "إن نسبتها إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري"، فإنما يظهر ذلك بالنسبة لمثل لفظ صلاة وصوم وحج وزكاة، أما الظلم، فلم يوضع في الشرع وضعًا خاصًّا، بل لا يزال بالمعنى الذي يقتضيه الوضع الأصلي والوضع الاستعمالي العربي بحسب المقام والقرائن، نعم، الاستعمال الشرعي في هذه الآية فهم من الآيات السابقة، ومن عناية الكتاب في هذه السورة بهذا النوع من الظلم، فكان قرينة على المراد منه؛ فلا حاجة به إلى تخصيص آخر منفصل أو متصل، وما وجد من السؤال والجواب إزاحة لإجمال فقط، والحاصل أن قوله سابقًا: "والثاني المقصد في الاستعمال الشرعي الوارد في القرآن بحسب تقرير الشريعة" = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وأما قول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] ؛ فَقَدْ أَجَابَ النَّاسُ عَنِ اعْتِرَاضِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِيهَا بِجَهْلِهِ بِمَوْقِعِهَا، وَمَا رُوِيَ فِي الْمَوْضِعِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ يَا غُلَامُ"1؛ لِأَنَّهُ جَاءَ في الآية:   = واضح في ذاته، وعليه يتمشى هذا الكلام، ولكن قوله: "وَذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مُطْلَقِ الوضع ... إلخ"، وكذا قوله: "مع ما ينضاف إلى ذلك في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية"، وقوله بعد ذلك: "والموضع يستمد منها"، أي: من وضع الحقيقة الشرعية كل هذا لا يرتبط بالجواب عن آية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] ، ولا الآية الثانية، فإن الكلام فيهما إنما يرتبط بالمقصد الشرعي في الاستعمال، وهذا يستعان على فهمه بالآيات وبما يتقرر من الأحكام العامة في الشريعة، ولا دخل لهذا في مسألة الوضع الشرعي الذي ينقل معنى الكلمة إلى معنى أخص، بحيث لا تطلق في استعمال الشرع حقيقة إلا بهذا المعنى الخاص، اللهم إلا أن يكون مراده بذكر الوضع الشرعي وما أطال به فيه, مجرد التقريب والتشبيه فقط، وليس مراده أن الظلم انتقل في الوضع الشرعي إلى هذا النوع منه, وإن كان على كل حال ليس لذكره كبير فائدة. "د". 1 قال ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص111-112": "اشتهر في ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه القصة لابن الزبعرى: "ما أجهلك بلغة قومك، فإني قلت: وما تعبدون، وهي لما لا يعقل، ولم أقل: ومن تعبدون"، وهو شيء لا أصل له، ولا يوجد لا مسندًا ولا غير مسند". وقال في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 175": "وهذا لا أصل له من طريق ثابتة ولا واهية"، ثم ذكر منشأ وهم من ذكر هذا الحديث. وفي "تفسير الآلوسي" "17/ 86" نقلًا عنه زيادة على المذكور: "والوضع عليه ظاهر، والعجب ممن نقله من المحدثين". وحكم قبله ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 303" مثل هذا الحكم؛ فقال: "هذا خبر موضوع لا أصل له في السقيم؛ فكيف في الصحيح؟ ولا في الضعيف فضلًا عن القوي، ويدفعه القرآن؛ فإنه لو كان كما وضع هذا الملحد لما افتقرنا إلى الجواب بالآيات الثلاث، ولكان فيما وبخهم به كفاية، وأيضًا فإنه كان يجب أن يقال: "إن من سبقت لهم منا الحسنى"، فتكون الآية مطابقة للحديث، ولكنه جاء بكلمة "الذين" التي هي معنى كلمة "ما"؛ فيكون معنى الآية الأولى: إنكم والذين تعبدون من دون الله، وتكون الآية الثانية تخصيصًا صحيحًا باللفظ للفظ، وبالمعنى للمعنى، ونحن لا نحتاج إلى هذا كله، ونعوذ بالله من التكلف للحق؛ فكيف بالتكلف للباطل؟! ". وانظر: "المعتبر" "ص187" للزركشي، و" تفسير ابن كثير" "3/ 199". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] [فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ] 1، "وَمَا" لِمَا لَا يَعْقِلُ؛ فَكَيْفَ تَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ؟! وَالَّذِي2 يَجْرِي عَلَى أَصْلِ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ الْخِطَابَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَلَا الْمَسِيحَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ؛ فَقَوْلُهُ: {وَمَا تَعْبُدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] عَامٌّ فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ الِاسْتِعْمَالِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْمُعْتَرِضِ جَهْلًا مِنْهُ بِالْمَسَاقِ، وَغَفْلَةً عَمَّا قُصِدَ فِي الْآيَاتِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: "مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ يَا غُلَامُ"3 دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي فَهْمِ الْمَقَاصِدِ4 الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ؛ لِحَدَاثَتِهِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْهِ فِي الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَتَأَمَّلَ مَسَاقَ الْكَلَامِ حَتَّى يَهْتَدِيَ5 لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَنَزَلَ6 قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الْأَنْبِيَاءِ: 101] بَيَانًا7   1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط". 2 خلاصة الجواب على طريقة غير المؤلف أن لفظ "ما" لا يشمل عيسى ولا الملائكة بقطع النظر عن مساق الآية، وعلى طريقة المؤلف -من اعتبار المساق وكونها في كفار قريش- يكون الجواب بالنظر إلى الواقع وهو أن قريشًا لم تعبد عيسى ولا الملائكة؛ فلا يتصور دخولهما ولو كان لفظ "ما" صالحًا للشمول، وقد وجه المؤلف الأثر على كلتا الطريقتين، والواقع أنه صالح للتنزيل عليهما. "د". 3 انظر الحاشية في الصفحة السابقة. 4 أي: التي لا بد من الاسترشاد فيها بما يساق الكلام له. "د". 5 هكذا في الأصل، وفي غيره: "يتهدى". 6 مضى تخريجه "3/ 362". 7 أي: لزيادة بيان جهل المعترض؛ كما في "شرح المنهاج". "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 لِجَهْلِهِ. وَمِثْلُهُ مَا فِي "الصَّحِيحِ"1 أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ2: "اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ3 مُعَذَّبًا؛ لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ4 -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ؛ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ5 بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا6 مِنْ كِتْمَانِهِمْ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آلِ عِمْرَانَ: 187] كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 188] "؛ فَهَذَا7 من ذلك المعنى أيضًا.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} ، 8/ 233/ رقم 4568". 2 فاهمًا أن الموصول في قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الآية على عمومه شامل لكل من يؤتى شيئًا أو يأتي شيئًا، كما قيل: فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يحمده الناس بما هو عار عنه من الفضائل. "ف". 3 في "الصحيح": "يعمل". 4أي: إن الآية نزلت في شأن خاص بأهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ؛ فليس الموصول على عمومه شاملًا لما ذكر."ف". 5 في "ط": "عليه". 6 في "الصحيح": "أتوا". 7 فمروان أفرد الآية عما قبلها، فظن العموم؛ فبين له الحبر في جوابه ما يتنزل عليه هذا العموم، بمساعدة سياق الآية والقصة التي نزلت فيها، ومن أدب المؤلف مع مروان قوله: "فهذا من ذلك المعنى"، ولم يقل لعدم تمكن مروان من فهم مقاصد الشريعة، وقوله: "فجوابهم"؛ أي: الأجوبة التي سبقت عن توقفهم في الآيات الثلاث. "د". قلت: وانظر "البرهان في علوم القرآن" "1/ 27-28". قال "ف": ""أوتوا" قرئ بضم الهمزة؛ أي: أو أعطوا، وبفتحها مقصورة وممدودة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وَبِالْجُمْلَةِ، فَجَوَابُهُمْ بَيَانٌ لِعُمُومَاتِ تِلْكَ النُّصُوصِ كَيْفَ وَقَعَتْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّ ثَمَّ قَصَدًا آخَرَ سوى القصد العربي1 لا بد مِنْ تَحْصِيلِهِ، وَبِهِ يَحْصُلُ فَهْمُهَا، وَعَلَى طَرِيقِهِ يَجْرِي سَائِرُ الْعُمُومَاتِ، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ ثَمَّ تَخْصِيصٌ بِمُنْفَصِلٍ2 أَلْبَتَّةَ، وَاطَّرَدَتِ الْعُمُومَاتُ قَوَاعِدَ صَادِقَةَ الْعُمُومِ، وَلِنُورِدْ هُنَا فَصْلًا هُوَ مَظِنَّةٌ لِوُرُودِ الْإِشْكَالِ3 عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَبِالْجَوَابِ عَنْهُ يتضح المطلوب اتضاحًا أكمل.   1 أي: العربي البحت الذي لم يستند إلى تعرف مقاصد الشرع، والوقوف على مقتضى الحال من مثل سبب النزول، والرجوع إلى كليات الشريعة لفقه جزئياتها من الأدلة بمقارنتها للكليات، وهكذا سائر القرائن التي تعين على فهم المقصود من الألفاظ، وتكشف عن المراد منها وما استعملت فيه في الآية؛ فتكون تلك القرائن كبيان للمجمل، لا تخصيص وإخراج لبعض ما أريد من اللفظ. "د". 2 وسيأتي أنه لا تخصيص بالمتصل أيضًا. "د". 3 الإشكال في هذا الفصل وارد على الجواب عن الإشكال السابق القائل: إن العرب حملت الألفاظ على عمومها الإفرادي، مع أن سياق الاستعمال يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد أجاب عنه بأن فهم عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه، وأن فهم المقصد الشرعي مما يتفاوت الأمر فيه بين الطارئ الإسلام والقديم العهد، والمشتغل بتفهمه وتحصيله ومن ليس كذلك، فمن تبحر أدرك الاستعمال الشرعي ومقصد الشارع على الكمال فتوقف الصحابة في مثل آية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] إنما هو هو راجع إلى ذلك، لأن الآية في الأنعام وهي من أول ما أنزل، ولم تكن كليات الشريعة قد تم تقريرها؛ فهذا هو عذرهم في التوقف، ويريد بهذا الفصل أن يورد على هذا الجواب أنه غير حاسم للإشكال؛ لأن السلف الصالح المتبحرين في فهم مقاصد الشريعة كعمر بن الخطاب، ومعاوية، وعكرمة، وابن عباس، وغيرهم من الأئمة المجتهدين، أخذوا بعموم الألفاظ، وإن كان سياق الاستعمال ومقتضيات الأحوال تعارض هذا العموم، وما ذاك إلا لأن المعتبر عندهم هو العموم الإفرادي؛ فتكون هذه الأمثلة المذكورة في هذا الفصل وغيره مما خص بالمنفصل، لا أنها مما وضع في الاستعمال الشرعي على العموم، وأن عمومها باق لم يمسه تخصيص كما تقول، وبهذا يتبين الفرق بين الإشكال والجواب هنا وبين ما تقدم، وأن قوله: "والجواب عنه" معطوف على لفظ: "ما"؛ فالإشكال الآتي وارد على ما قرره في رأس المسألة ووارد على الجواب عنه بما تقدم كما عرفت، قوله: "يتضح" واقع في جواب الأمر، ولا مانع أن يكون سقط الباء من قوله: "والجواب" كما قاله بعضهم، وإن جعله هو الصواب. "د". قلت: يريد بقوله: "بعضهم": "ف"؛ فإن العبارة هذه: "والجواب عنه" وقال: "صوابه: "وبالجواب عنه"". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنِهِمْ عَرَبًا قَدْ أَخَذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّفْظِ1 عُمُومُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْإِفْرَادِيِّ وَإِنْ عَارَضَهُ السِّيَاقُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ صَارَ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ خُصُوصَهُ كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِمَّا2 خُصَّ بِالْمُنْفَصِلِ، لَا مِمَّا وُضِعَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ الْمُدَّعَى. وَلِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كَلَامِهِمْ أَمْثِلَةٌ، مِنْهَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَتَّخِذُ الْخَشِنَ مِنَ الطَّعَامِ، كَمَا كَانَ يَلْبَسُ الْمُرَقَّعَ فِي خِلَافَتِهِ؛ فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ طَعَامًا أَلْيَنَ مِنْ هَذَا. فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ تُعَجَّلَ طَيِّبَاتِي، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 3 [الْأَحْقَافِ: 20] الْحَدِيثَ. وَجَاءَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَقَدْ رَأَى بَعْضَهُمْ قَدْ تَوَسَّعَ فِي الْإِنْفَاقِ شَيْئًا: "أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 4 الآية   1 في "ط": "الوضع". 2 في "ط": "كما". 3 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 695-696"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 279"، وابن المبارك في "الزهد" "204"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "ص187, أخبار أبي بكر وعمر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص253-254, ترجمة عمر" من وجوه عن عمر، وفي بعضها انقطاع. وانظر: "مسند الفاروق" "2/ 505-506" لابن كثير، و"كنز العمال" "12/ رقم 35955". 4 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 696-697"، وابن عساكر في تاريخ دمشق" "ص255, ترجمة عمر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 [الْأَحْقَافِ: 20] "، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ، ثُمَّ قَالَ: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الْأَحْقَافِ: 20] ؛ فَالْآيَةُ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِحَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَخَذَهَا عُمَرُ مُسْتَنِدًا فِي تَرْكِ الْإِسْرَافِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَصْلٌ فِي "الصَّحِيحِ" فِي حَدِيثِ الْمَرْأَتَيْنِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَهُ. فَاسْتَوَى جَالِسًا؛ فَقَالَ: "أوفي شك [أنت] يابن الْخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" 1. فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَأْخَذِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ وَإِنْ دَلَّ السِّيَاقُ عَلَى خِلَافِهِ. وَفِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ2 الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النار يوم القيامة أن   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، 5/ 114-116/ رقم 2468، وكتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها، 9/ 278-279/ رقم 5191", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، 2/ 1111-1113/ رقم 1479 بعد 34" عن ابن عباس, رضي الله عنهما. وما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط". 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة، 4/ 591-593/ رقم 2382"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال: فلان جريء، 6/ 23 و24" عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال علام، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيه لك. قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار". لفظ مسلم. وتفرد الترمذي بذكر مقولة معاوية عقبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 مُعَاوِيَةَ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هُودٍ: 15] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. فَجَعَلَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ، وَهِيَ فِي الْكُفَّارِ؛ لِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هُودٍ: 16] إِلَخْ، فَدَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِعُمُومِ "مَنْ" فِي غَيْرِ الْكُفَّارِ أَيْضًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ قَالَ: "قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ؛ فَاكْتُتِبْتُ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَخْبَرْتُهُ؛ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سواد المشركين عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ؛ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 97] "1. فَهَذَا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّ عِكْرِمَةَ أَخَذَهَا عَلَى وَجْهٍ أَعَمَّ2 مِنْ ذَلِكَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نزلت:   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة ... } ، 8/ 262/ رقم 4596". 2 فجعلها شاملة لمن يعين على حرب ظالمة بين المسلمين. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ} الآية [البقرة: 284] ، دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ [لَمْ يَدْخُلْ مِنْ1 شَيْءٍ] ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا". فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . قَالَ: "قَدْ فَعَلْتُ". {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . قَالَ: "قَدْ فَعَلْتُ" الْحَدِيثَ2 إِلَخْ، فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ الْعُمُومَ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَزَلَ بَعْدَهَا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] عَلَى وَجْهِ النَّسَخِ أَوْ غَيْرِهِ مَعَ قَوْلِهِ3 تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وهي   1 الرواية لمسلم، وأصلها: "دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء"، وفي "تفسير ابن جرير": "لم يدخلها"، وهذه الجملة صفة لشيء، أي: دخل قلوبهم من الآية الكريمة شيء من الفزع والخوف لم يدخلها من أجل شيء آخر من الآيات. "د". قلت: وفي "م": "مثله شيء"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 221-222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 458/ رقم 5069"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "210-211"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص67-68"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص228". واقتصار المصنف في العزو على النسائي والترمذي وإهماله لمسلم قصور، والله الهادي، وأول الآية سقط من "م". 3 أي: وهو قرينة على أن الله لم يكلف بما يجري في النفس من الخواطر لأنه حرج، ومع أنه يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد كان معولهم على العموم الإفرادي لا الاستعمال الشرعي الذي يمنع من هذا الفهم، وقد أقرهم -صلى الله عليه وسلم- على ما فهموا حتى نزل ما يخصص، وهو {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، إلا أن قوله: "على وجه النسخ" من باب تكميل المقام في ذاته؛ لأنه عليه لا بد أن يكون مقصودًا ابتداء ثم نسخ، ويكون فهمهم في محله؛ فيخرج عما نحن فيه، وقوله "أو غيره" بناء على أنه تخصيص كما تقدم للمؤلف الكلام فيه في باب النسخ على اصطلاح المتقدمين، ولو ذكره واقتصر عليه لكان أنسب بالمقام، وهذا كله على بعض التفاسير في آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُم} [البقرة: 284] ؛ أي: على أنها راجعة للشهادة وكتمانها؛ فيكون فيه شاهد لما نحن فيه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 قَاعِدَةٌ مَكِّيَّةٌ كُلِّيَّةٌ؛ فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَإِنْ دَلَّ الِاسْتِعْمَالُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النِّسَاءِ: 115] الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] ثُمَّ إِنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً1 وَأَنَّ مُخَالِفَهُ عاصٍ، وَعَلَى أَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ مَذْمُومٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هُودٍ: 5] ظَاهِرُ مَسَاقِ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هُودٍ: 5] ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إِنَّهَا فِي أُنَاسٍ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا2 فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ؛ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ"3؛ فَقَدْ عَمَّ4 هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الآية مع   1 ذكر السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "2/ 243" في ترجمة "محمد بن عقيل الفريابي" حكاية عن الإمام الشافعي فيها استدلال بهذه الآية على حجية الإجماع، وقال: "سند هذه الحكاية صحيح لا غبار عليه". 2 يتخلوا: يدخلوا الخلاء المعروف. "ف". 3 أخرجه البخاري في "التفسير" "كتاب التفسير، باب {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} ، 8/ 349/ رقم 4681، 4682، 4683". 4 ابن عباس يقول صراحة: "إنها نزلت في الذين يستحيون"، ولا يلزم من الاستخفاء بمعنى الاستحياء النفاق أو الكفر؛ فهو يخالف غيره في سبب النزول؛ فلا يجعلها في الكفار ثم يسحب حكمها على بعض المؤمنين حتى تجعل الآية مما نحن فيه، فما لم يقل ابن عباس صراحة أنها نزلت في الكفار وأنها تشمل من استحيا ... إلخ، ثم يكن لذكرها ههنا وجه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 أَنَّ الْمَسَاقَ لَا يَقْتَضِيهِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، وَهُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَا خُصُوصِ السَّبَبِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [الْمَائِدَةِ: 44] مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ1 فِي الْيَهُودِ وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ عَمُّوا بِهَا غَيْرَ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: كُفْرٌ دون كفر2.   1 أي: الآيات الثلاث نزلت في اليهود خاصة؛ كما قال ابن عباس فيما أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 246"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب النفس بالنفس، 4/ 168/ رقم 4494، وكتاب الأقضية، باب الحكم بين أهل الذمة، 3/ 303/ رقم 3590، 3591"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب تأويل قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ، 8/ 18"، والدارقطني في "السنن" "3/ 198"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1738, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 366"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 24"، وهو صحيح بتعدد طرقه. 2 كما هو ثابت عن ابن عباس، أخرجه من طرق عنه: ابن جرير في "التفسير" "6/ 256، 257"، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" "رقم 569، 570، 571، 572، 573، 574"، وابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 237"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 313"، والبيهقي في "الكبرى" 8/ 20"، وابن أبي حاتم في "تفسيره", كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 97"، وسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 87". ولأخينا الفاضل علي بن حسن الحلبي جزء مفرد في تصحيحه، وهو مطبوع بعنوان: "القول المأمون"؛ فانظره غير مأمور. وانظر: "مدارج السالكين" "1/ 336 ط الفقي". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 فَإِذَا رَجَعَ هَذَا الْبَحْثُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنْ لَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ1، وَفِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا عُلِمَ2؛ فَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى [أَنَّ] 3 أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَلَا فَائِدَةَ زَائِدَةٌ4. وَالْجَوَابُ: إِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ إِنَّمَا جَاءُوا بِذَلِكَ الْفِقْهِ الْحَسَنِ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ رَاجِعٍ إِلَى الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا يَفْهَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِيَقُومَ الْعَبْدُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ عَلَى قَدَمَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَيَرَى أَوْصَافَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ؛ فَيَجْتَهِدُ رَجَاءَ أَنْ يُدْرِكَهُمْ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يَلْحَقَهُمْ فَيَفِرَّ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَيَرَى أَوْصَافَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ؛ فَيَخَافُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَفِيمَا يُشْبِهُهُ، وَيَرْجُو بِإِيمَانِهِ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِمْ؛ فَهُوَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مِنْ حَيْثُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ فِي وَصْفٍ مَا وَإِنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ الطَّرَفَانِ كَانَ الحائل بينهما مأخوذ5 الجانبين كمحال   1 وإن من المخصص المنفصل سبب النزول، يعني وما شاكله، فإن ما ذكره المؤلف في هذا المقام لا يقتصر مقتضى الحال فيه على خصوصية السبب، كما هو ظاهر، فإن كلامه فيما هو أوسع من ذلك، كما في كلام عمر وكلام معاوية. "د". 2 وهو أن الجمهور على القول باعتبار عموم اللفظ، ولا اعتبار بخصوص السبب، والنزاع فيما إذا بنى عام مستقل عل سبب خاص، مثاله أنه سئل -صلى الله عليه وسلم- عن بئر بضاعة التي تلقى فيها الجيف، فقال: "خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ... إلخ "، وكما في قصة مروره بشاة ميمونة ميتة، فقال: "أيما إهاب دبغ؛ فقد طهر"، وقد نقل عن الشافعي أن العبرة بخصوص السبب مخالف للجمهور الذين حجوه بالأدلة المتضافرة على أن العبرة بعموم اللفظ. "د". 3 سقطت من "ط". 4 قد يقال: وكيف لا تكون الفائدة زائدة، وقد صحح بناء على فهمك غير ما صححه الجمهور، من أن العبرة بالعموم لا بالخصوص؛ إلا أن يقال: إنه يريد الفائدة التي يعنيها المؤلف ويكد للحصول عليها، وهي أنه لا تخصيص بالمنفصل أصلًا. "د". 5 أي: يتجاذبه الطرفان، ويأخذه كل منهما إلى جهته؛ فهو مأخوذ لكل منهما؛ فالعبارة مستقيمة. "د". قلت: في هذا رد على "ف" حيث قال: "لعله مأخذ الجانبين، أي: جانبي تدبر الخوف والرجاء" ا. هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 الِاجْتِهَادِ لَا فَرْقَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ مَحْمَلَ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ1 فِي آيَةِ الْأَحْقَافِ وَهُودٍ وَالنِّسَاءِ فِي آيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الْآيَةَ] 2 [النِّسَاءِ: 97] ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] ، وَمَا سِوَى3 ذَلِكَ؛ فَإِمَّا مِنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، وَإِمَّا أَنَّهَا بَيَانُ فِقْهِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْعَامَّةِ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّخْصِيصُ، بَلْ بَيَانُ جِهَةِ4 الْعُمُومِ، وَإِلَيْكَ النَّظَرُ في التفاصيل، والله المستعان.   1 لأن الآيات المذكورة لا يتأتى فيها اندراج المؤمنين في عمومها اللفظي، لا سيما الآيات الثلاث الأول، وعلى ما هو الظاهر في الآية الرابعة من قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] ، ولذا أفردها بقوله: "ويظهر أيضًا". "د". وفي "ط": "وهذا ظاهر". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"م" و"ط". 3 أي: من الآيات السابقة المستشكل بها، وقوله: "من تلك القاعدة"، أي: المتقدمة في هذا الجواب، ويمكن اطرادها في الجميع، وأما أنه من المجيبين, كابن عباس في آية {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا} [آل عمران: 188] , بيان وتقرير لطريقة أخذ الجزئيات الفقهية من الكليات، وأنه يلزم أن يوقف بها عند الحد الاستعمالي في المقاصد الشرعية، ولا يرجع بها إلى الوضع على الإطلاق، وليس مقصودهم أن الآيات كانت في قصد الشارع عامة ثم خصصت، بل غرضهم بيان أن عمومها ليس بحسب ما فهم السائل عمومًا ينظر فيه للوضع العربي الإفرادي، بل الاستعمالي بحسب مقاصد الشارع في مثله، وما يعين عليه المقام وما يقتضيه الحال، وعليه يكون قوله: "وما سوى ذلك" راجعًا إلى ما سبق من أول الفصل، وظاهر أن صحة العبارة: "لا أن المقصود" وليست "لأن" كما في أصل النسخة. "د". 4 أي: وإنه عموم بقدر مقاصد الشرع فيه، يعد فهم قواعد الشريعة؛ أي: فلم يفهموا العموم من الوقوف عند حد اللفظ العام نفسه، ولم يفهموا الخصوص باعتبار أنه تخصيص وإخراج لما كان داخلًا حتى يكون المخصص منفصلًا بطريق من طرقه. "د". = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 ...........................................................................   = محور الكلام في هذه المسألة هو أن خصوص السبب هل يصلح أن يكون قرينة مخصصة أم لا؟ اختلفوا في هذه، وبناء على هذا الاختلاف اختلفت مناهج المؤلفين في تصنيف هذه المسألة، فمنهم من وصفها ضمن مباحث العام وجعل لها عنوانًا مستقلًّا، ومنهم من وصفها ضمن مباحث التخصيص بالمنفصل. فالآمدي في "الإحكام "2/ 459 و477" جعل الخطاب الوارد على سبب بنوعيه, أعني: ورود الخطاب جوابًا لسؤال، ووروده في قضية عين ذكرت فيه علة الحكم, في مباحث العلم، فجعل النوع الأول في المسألة السادسة، وجعل النوع الثاني في المسألة الثالثة عشرة. وليس في سلوك هذا المنهج ما يدل على أن الآمدي يرى في الحكم العام الوارد على سبب أن العبرة بعموم اللفظ، لأنه في الأصل متردد في صحة التخصيص بالمنفصل، وذكر أوجهًا ثلاثًا تقتضي منع التخصيص المنفصل، ثم حاول تطويع هذه الأوجه لتوافق القول بجواز التخصيص بالمنفصل. وأما الرازي في "المحصول" "2/ 183"؛ فعقد له هذا العنوان: القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم، مع أنه ليس كذلك وضمنه الخطاب الوارد على سبب، وقصر السبب على سؤال السائل. وانفرد في ذلك الشاطبي؛ فإنه لا يرى أصلًا التخصيص بالمنفصل ولا بالمتصل؛ لأن اللفظ العام بوضعه الاستعمال يدل دون ما يدل عليه ذلك اللفظ بوضعه اللغوي، والعموم إنما يفيد بالاستعمال، ووجوه الاستعمالات كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان، وهذه المقتضيات كالقرائن تعين على فهم المقصود من الألفاظ وتبين المجمل، وبهذا الفهم لا يكون إذ ذاك تخصيص بمنفصل, فالنصوص العامة التي وردت فيها مقتضيات أحوال ظاهرها أنها مخصصة للعموم ليست في الحقيقة مخصصة، بناء على هذه القاعدة: "المقصد الاستعمالي للفظ العام"، أو أن هذه المقتضيات وردت لبيان "فقه الجزئيات من الكليات العامة، لا أن المقصود التخصيص بل بيان جهة العموم". ويجعل الأحكام العامة الواردة على سبب باقية على عمومها، وإنما الأسباب اقتضت أحكامًا خاصة، يقول رحمه الله فيما مضى "1/ 465": "ولا يخرج عن هذا -أي: إن الأحكام الكلية مشروعة على الإطلاق والعموم- ما كان من الكليات واردًا على سبب، فإن الأسباب قد تكون مفقودة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 فَصْلٌ: إِذَا تَقَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَالتَّخْصِيصُ إِمَّا بِالْمُنْفَصِلِ أَوْ بِالْمُتَّصِلِ. فَإِنْ كَانَ بِالْمُتَّصِلِ؛ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالصِّفَةِ، وَالْغَايَةِ، وَبَدَلِ الْبَعْضِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِإِخْرَاجٍ لِشَيْءٍ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ مِنْهُ غَيْرَ مَا قَصَدَ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: "زَيْدٌ الْأَحْمَرُ" عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ "كَزَيْدٍ" وَحْدَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا الْأَحْمَرَ هُوَ الِاسْمُ الْمُعَرَّفُ بِهِ مَدْلُولُ زِيدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا كَانَ الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ هُوَ الِاسْمُ لَا أَحَدُهُمَا، وَهَكَذَا إِذَا قُلْتَ: "الرَّجُلُ الْخَيَّاطُ" فَعَرَفَهُ السَّامِعُ؛ فَهُوَ مُرَادِفٌ "لِزَيْدٍ"؛ فَإِذًا الْمَجْمُوعُ هُوَ1 الدَّالُّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا قُلْتَ: "عَشْرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً"؛ فَإِنَّهُ مُرَادِفٌ لِقَوْلِكَ: "سَبْعَةٌ"؛ فَكَأَنَّهُ وَضْعٌ آخَرُ عَرَضَ حالة التركيب   = قبل ذلك، فإذا وجدت اقتضت أحكامًا". والفرق بين الشاطبي وبين الأصوليين في حقيقة التخصيص أن التخصيص عنده بيان المقصود في عموم الصيغ؛ فهو يرجع إِلَى بَيَانِ وَضْعِ الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ خُرُوجِ الصِّيغَةِ عَنْ وَضْعِهَا من العموم إلى الخصوص؛ فالشاطبي جعل التخصيص بيانًا لوضع اللفظ، والأصوليون قَالُوا: إِنَّهُ بَيَانٌ لِخُرُوجِ اللَّفْظِ عَنْ وَضْعِهِ. انظر "مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص22-23" لمحمد العروسي عبد القادر. 1 ولا تخصيص فيه، وهو حقيقة فيه، وهذا رأي أبي الحسين أن ما خص بغير مستقل كالشرط والاستثناء والصفة؛ فالباقي يكون اللفظ فيه حقيقة، وذلك لأن هذه المذكورات صارت كالجزء من الدال على المعنى المقصود، وصار الدال معها لمعنى غير ما وضع له أولًا، وقوله: "ويظهر ذلك في الاستثناء"؛ لأن العام الذي أخرج منه البعض كقولك: أكرم بني تميم إلا البخلاء منهم باق على عمومه دلالة وإرادة، وليس من العام المخصص في شيء، ومثل هنا بعشرة، وليست أسماء العدد من العموم في شيء؛ إلا أن غرضه إفادة أن الاستثناء كجزء من الكلام الدال على السبعة، وهو أظهر من الصفة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا تَخْصِيصَ فِي مَحْصُولِ الْحُكْمِ لَا لَفْظًا وَلَا قَصْدًا1، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُجَازٌ أَيْضًا2 لِحُصُولِ الْفَرْقِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ قَوْلِكَ: "مَا رَأَيْتُ أَسَدًا يَفْتَرِسُ الْأَبْطَالَ"، وَقَوْلِكَ: "مَا رَأَيْتُ رَجُلًا شُجَاعًا"، وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ، وَالثَّانِيَ حَقِيقَةٌ، وَالرُّجُوعُ فِي هَذَا إِلَيْهِمْ، لَا إِلَى مَا يُصَوِّرُهُ الْعَقْلُ3 فِي مَنَاحِي الْكَلَامِ. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالْمُنْفَصِلِ؛ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ فِي عُمُومِ الصِّيَغِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ، لَا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْصِيصِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ. فَإِنْ قِيلَ: وَهَكَذَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ الْمَقْصُودِ بِالصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَإِنَّهُ رَفْعٌ لِتَوَهُّمِ دُخُولِ الْمَخْصُوصِ تَحْتَ عُمُومِ الصِّيغَةِ فِي فَهْمِ السَّامِعِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ الدُّخُولُ تَحْتَهَا، وَإِلَّا كَانَ التَّخْصِيصُ نَسْخًا فَإِذًا لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ وَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَّصِلِ عَلَى مَا فَسَّرْتَ؛ فَكَيْفَ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا ذَكَرْتَ وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى بَيَانِ وَضْعِ الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ خُرُوجِ الصِّيغَةِ عَنْ وَضْعِهَا مِنَ الْعُمُومِ إِلَى الْخُصُوصِ؛ فَنَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَيَانٌ لِوَضْعِ اللَّفْظِ، وَهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ بَيَانٌ لخروج اللفظ عن وضعه،   1 يترتب الثاني على الأول لأنه إذا كان اللفظ بقيده آتيًا على قدر المراد؛ فلا محل للتخصيص قصدًا. "د". قلت: انظر "المسودة" "154"، و"مجموع الفتاوى" "31/ 116". 2 انظر تفصيل ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 488-490 و31/ 116". 3 كأن يصور أن الرجل في سياق النفي عام عمومًا قصره الوصف على نوع منه، وهو أقل مما كان يتناوله قبل الوصف؛ فهو غير ما وضع له "رجل"؛ فيكون مجازًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وبينهما فرق؛ فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الَّذِي1 سِيقَ عَقِبَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِيُبَيِّنَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَالَّذِي لِلْأُصُولِيِّينَ نَظِيرُ2 الْبَيَانِ الَّذِي سِيقَ عُقَيْبَ الْحَقِيقَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَجَازُ؛ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَفْتَرِسُ الْأَبْطَالَ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَكُونُ تَأْصِيلُ أَهْلِ الْأُصُولِ كُلُّهُ بَاطِلًا، أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً، وَالْأُمَّةُ3 لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِجْمَاعُهُمْ؛ فَكُلُّ مَا يُعَارِضُهُ خَطَأٌ، فَإِذًا كَلُّ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ خَطَأٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ أَوَّلًا غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ؛ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِبْطَالُ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اعْتَبَرُوا صِيَغَ الْعُمُومِ بِحَسَبِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْوَضْعِ الْإِفْرَادِيِّ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا حَالَةَ الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ، حَتَّى إِذَا أَخَذُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ؛ رَجَعُوا إِلَى اعْتِبَارِهِ: كُلٌّ عَلَى اعْتِبَارٍ رَآهُ، أَوْ تَأْوِيلٍ ارْتَضَاهُ؛ فَالَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الصِّيَغَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، بِلَا4 خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؛ إِلَّا مَا يَفْهَمُ عَنْهُمْ مَنْ لَا يُحِيطُ عِلْمًا بِمَقَاصِدِهِمْ، وَلَا يُجَوِّدُ مَحْصُولَ كَلَامِهِمْ، وبالله التوفيق.   1 وهو لا يخرج الصيغ عن وضعها، وإنما يكشف عن الوضع المراد من بين الأوضاع. "د". قلت: في "ط" و"ف": "نظير بيان الذي"، وقال "ف": "لعله: "نظير البيان" بأداة التعريف" انتهى، وكذا في الأصل و"م" و"د". 2 وإنما قال: "نظيره" أي: شبيهه للفرق الظاهر بين المعنى المجازي المنقول إليه وبين المعنى الباقي بعد التخصيص؛ فإن الأول ليس بعضًا مما وضع له اللفظ حقيقة، بل معنى آخر مناسب له فقط، أما الثاني؛ فإنه بعض ما وضع له اللفظ؛ ولذا قال بعضهم: إنه لا يزال اللفظ فيه حقيقة. "د". وفي "ط": "الواقع هنا نظير ... ". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "31/ 109". 3 أي: والأصوليون أمة في فنهم. "د". 4 في الأصل و"ط": "فلا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ1 مَا مَرَّ أَنَّهُ بَحْثٌ فِي عِبَارَةٍ، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ. فَالْجَوَابُ أَنْ لَا، بَلْ هُوَ بَحْثٌ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ: - مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ إِذَا خُصَّ؛ هَلْ يَبْقَى2 حُجَّةً أَمْ لَا؟ وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَطِيرَةِ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ شَنِيعٌ لِأَنَّ غَالِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَعُمْدَتَهَا هِيَ الْعُمُومَاتُ، فَإِذَا عُدَّتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بِنَاءً عَلَى مَا قَالُوهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُمُومَاتِ أَوْ غَالِبَهَا مُخَصَّصٌ؛ صَارَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ مُخْتَلَفًا فِيهَا: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُلْقَى فِي الْمُطْلَقَاتِ3 فَانْظُرْ فِيهِ، فَإِذَا عَرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ؛ لَمْ يَبْقَ4 الْإِشْكَالُ الْمَحْظُورُ، وَصَارَتِ الْعُمُومَاتُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ قَوْلٍ.   1 يعني: يؤخذ من جوابه السابق أن المآل واحد، وأنهم وإن سموه تخصيصًا وإخراجًا لبعض ما دخل في العام؛ إلا أنهم عند الاستنباط وأخذ الأحكام اعتبروا الصيغ بالوضع الاستعمالي لا الوضع الإفرادي؛ فالمآل واحد، والخلاف في العبارة، وهذا ما رتب عليه هذا السؤال ليدفعه. "د". وفي "ط": "حاصل هذا أنه". 2 أي: العام الذي خصص بمبين كاقتلوا المشركين، المخصص بالذمي مثلًا، أما المخصص بمجمل نحو هذا العام مخصوص، أو لم يرد به ما يتناوله؛ فليس بحجة اتفاقًا، والجمهور على أن المخصص بمبين حجة في الباقي مطلقًا، وقال البلخي: "حجة إن خص بمتصل لا منفصل". "د". 3 أي: يوجد فيها. "ف". 4 أي: لأن من قال بعدم الحجية يقول في دليله: إن الصيغة إذا خصت صارت في بقية = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وَلَقَدْ أَدَّى إِشْكَالُ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى شَنَاعَةٍ1 أخرى، وهي أن عمومات   = المسميات مجازًا، بل كان ما تحتها من المسميات مراتب في المجاز متعددة، فكان اللفظ فيها مجملًا، فلا بد من دليل على ما يراد منها؛ فأنت ترى أن الإشكال في كون الباقي حجة ما نشأ إلا من دعوى أن التخصيص يجعل الباقي مجازًا، وعلي رأي المؤلف لا يكون مجازًا؛ فلا إشكال في أن العام حقيقة في جميع ما قصد؛ فهو حجة فيه، وسقط سبب الخلاف في الحجية، وقوله: "صارت العمومات حجة على كل قول" يعني أنه يلزم ذلك، وأن من خالف لو اطلع على ما قلنا وعرف سقوط سبب مخالفته ليقال بالحجية مع الجمهور. "د". قلت: وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "6/ 442" في منكري حجية العموم من المواقفة والمخصصة: "وهو مذهب سخيف"، و"كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر، وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام"، وانظر منه "29/ 166-167"، و"إجابة السائل" للصنعاني "ص309 وما بعدها". 1 تعلم أن المسألة آلت إلى أنه يقول: إن الذي يسمونه تخصيصًا بالمتصل أو المنفصل ليس تخصيصًا، وإن هذه العمومات وإن لم تبق بمعناها الوضعي الإفرادي الشامل لأكثر من المراد للشارع؛ فهي بحسب الاستعمال ومقاصد الشرع إنما تنطبق على ما يراد فقط، بحسب مقتضى المقام وقرائن الأحوال، وهي حقيقة فيما يراد لا مجاز، وأن هذه القرائن تعتبر كمبين المجمل لا كقرائن المجاز الذي يقتضيه القول بالتخصيص، وعليه فالمقدار الذي يتناوله العام المقصود للشارع لا يختلف على رأيه ورأي الأصوليين، والاعتداد بالعمومات القرآنية فيما أراده منها القرآن واحد، متى درجنا على القول بالحجية في الباقي الذي بالغ عليه، والقرائن العقلية والحسية وغيرها مما يسميه هو كبيان للمجمل ويسمونه مخصصًا لا بد منها عند الطرفين؛ فإنا إذا قلنا: لا يعمل بالعام إلا بعد الاستقصاء عن المخصص؛ فكذلك نقول: لا يعمل بالمجمل إلا بعد التحقق من المبين؛ فأين هو إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال بها إلا على جهة التساهل وتحسين الظن على رأيهم، وعدم ذلك على رأيه؟ ثم أين الإخلال بجوامع الكلم على رأيهم، وعدم الإخلال بها على رأيه؟ مع أن المقدار الذي يتناوله العام واحد بعد التخصص أو بعد البيان، وكيف نقول على رأيهم بافتقار الجوامع إلى قرائن ومخصصات، ولا نقول بذلك فيها على رأيه؟ وقد قال بعد: "فالحق أنها على عمومها الذي يفهمه العربي الفهم المطلق على مقاصد الشرع"، فإذًا ليست باقية على وضعها الإفرادي، ولا هي غير مفتقرة إلى فهم العربي المطلع على مقاصد الشرع لتكون قرينة له يفهم بها = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَفِيهِ مَا يَقْتَضِي إِبْطَالَ الْكُلِّيَّاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَإِسْقَاطَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ جُمْلَةً؛ إِلَّا بِجِهَةٍ مِنَ التَّسَاهُلِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ، لَا عَلَى تَحْقِيقِ النَّظَرِ وَالْقَطْعِ بِالْحُكْمِ، وَفِي هَذَا إِذَا تُؤُمِّلَ تَوْهِينُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَضْعِيفُ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا، وَرُبَّمَا نَقَلُوا فِي الْحُجَّةِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عام إلا مخصص، إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 [الْبَقَرَةِ: 282] ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنِ الْقَطْعِ بِعُمُومَاتِهِ الَّتِي فَهِمُوهَا تَحْقِيقًا، بِحَسَبِ قَصْدِ الْعَرَبِ فِي اللِّسَانِ، وَبِحَسَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي مَوَارِدِ الْأَحْكَامِ. وَأَيْضًا, فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعث بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ2، واختُصر لَهُ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ، وَأَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ فِي التَّحْصِيلِ، ورأسُ هَذِهِ الْجَوَامِعِ فِي التَّعْبِيرِ الْعُمُومَاتُ3، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ في   = مقدار ما تناوله العام؛ فليست مستغنية عن القرائن والمقيدات على ما قاله أيضًا، غايته أنه لا يسميه تخصيصًا بل بيانًا لا بد منه، وهلا قال في الفائدة الثانية وبذلك أيضًا انحسمت مادة الشناعة الناشئة من وجود خلاف في حجية العام المخصص؛ لأنه مهما كان الخلاف ضعيفًا فإن هذا النزاع يوهن الاستدلال بهذه العمومات وهي معتمد الشريعة، ويجعل الأخذ بها من طريق تحسين الظن، لا من باب تحقيق النظر والقطع بالحكم، وتبنى الفائدة الثالثة عليه أيضًا؛ لأن العمومات إنما تكون جوامع إذا كان معناها محددًا محررًا، وهو إنما يكون كذلك إذا كان اللفظ فيه حقيقة، لا مجازًا محتملًا كما تقدم بيانه عند من يذهب إلى أنه ليس بحجة لإجماله في المراتب التي يحتملها المجاز. "د". 1 مضى "3/ 309" بنحوه، وهو مما لا يصح عنه ألبتة. 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر"، 6/ 128/ رقم 2977" وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: "بُعِثتُ بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب؛ فبينما أنا نائم أوتيتُ خزائن الأرض ... ". 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 الْقُرْآنِ جَوَامِعَ، بَلْ عَلَى وَجْهٍ تَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى مُخَصِّصَاتٍ وَمُقَيِّدَاتٍ وَأُمُورٍ أُخَرَ؛ فَقَدْ خَرَجَتْ تِلْكَ الْعُمُومَاتُ عَنْ أَنْ تَكُونَ جَوَامِعَ مُخْتَصِرَةً، وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ؛ فَيَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. فَالْحَقُّ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ إِذَا وَرَدَتْ أَنَّهَا عَلَى عُمُومِهَا فِي الْأَصْلِ الِاسْتِعْمَالِيِّ، بِحَيْثُ يُفْهَمُ مَحَلُّ عُمُومِهَا الْعَرَبِيِّ الْفَهْمَ الْمُطَّلِعَ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ وَعَلَمٌ جَمِيلٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عُمُومَاتُ الْعَزَائِمِ وَإِنْ ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ الرُّخَصَ تُخَصِّصُهَا1؛ فَلَيْسَتْ بِمُخَصِّصَةٍ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، بَلِ الْعَزَائِمُ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّ الرُّخَصَ خَصَّصَتْهَا؛ فَإِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّخْصَةِ؛ إِمَّا أَنْ تَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَتْ بِرُخْصَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ إِذْ لَمْ يُخَاطَبْ بِالْعَزِيمَةِ مَنْ لَا يُطِيقُهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ هُنَا: إِنَّ الْخِطَابَ بِالْعَزِيمَةِ مَرْفُوعٌ مِنَ الْأَصْلِ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى رَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ؛ فَانْتَقَلَتِ الْعَزِيمَةُ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى، وَكَيْفِيَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْأَوْلَى كَالْمُصَلِّي لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ؛ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِالْقِيَامِ، بَلْ صَارَ فَرْضُهُ الْجُلُوسَ أَوْ عَلَى جَنْبٍ أَوْ ظَهْرٍ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَمَعْنَى الرُّخْصَةُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ إِنِ انْتَقَلَ إِلَى الْأَخَفِّ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، لَا أَنَّهُ سَقَطَ2 عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ [أَنَّهُ] 3 إِنْ تَكَلَّفَ فَصَلَّى قَائِمًا؛ [فَإِمَّا] 3 أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَدَّى الْفَرْضَ عَلَى كَمَالِ الْعَزِيمَةِ، أَوْ لَا؛ فَلَا يَصِحُّ4 أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ عَلَى كَمَالِهِ؛ إِذْ قَدْ سَاوَى فِيهِ الصَّحِيحَ الْقَادِرَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ؛ فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دليل؛ فلا بد أَنَّهُ أَدَّاهُ عَلَى كَمَالِهِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ داخلًا تحت عموم الخطاب بالقيام.   1 حتى يقال مثلًا: الظهر أربع إلا على المسافر، وصوم رمضان واجب إلا على المسافر، وهكذا؛ فتكون الرخص مخصصة لأدلة العزائم. "د". 2 ويدل على عدم سقوطه قولهم في الرخصة: "مع قيام السبب للحكم الأصلي". "د". 3 سقط من "ط". 4 الأنسب ولا يصح، وهو إبطال للاحتمال الثاني لإثبات الأول. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 فَإِنْ قِيلَ: [إِذَا قُلْتَ] : إِنَّ الْعَزِيمَةَ مَعَ الرُّخْصَةِ مِنْ [بَابِ] 1 خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ فَأَيُّ الْخَصْلَتَيْنِ فَعَلَ فَعَلَى حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَإِذَا كَانَ [ذَلِكَ] كَذَلِكَ؛ فَعَمَلُهُ بِالْعَزِيمَةِ عَمَلٌ عَلَى كَمَالٍ، وَقَدِ ارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمُ الِانْحِتَامِ، وَذَلِكَ مَعْنَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْعَزِيمَةِ بِالرُّخْصَةِ؛ فَقَدْ تَخَصَّصَتْ عُمُومَاتُ الْعَزَائِمِ بِالرُّخَصِ عَلَى هَذَا2 التَّقْرِيرِ؛ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْعُمُومَاتِ إِذْ ذَاكَ. وَأَيْضًا3، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ بَقَاءِ حُكْمِ الْعَزِيمَةِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى بَقَاءِ الْعَزِيمَةِ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتْمًا، وَمَعْنَى جَوَازِ التَّرَخُّصِ أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتْمًا، وَهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَنَاقِضَتَانِ، لَا تَجْتَمِعَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ؛ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمْرٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعَزِيمَةُ هُنَا بَاقِيَةً عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُنْحَتِمِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَعَ الرُّخْصَةِ لَيْسَتَا4 مِنْ بَابِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إِذْ لَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ ثَابِتٌ يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ، بَلِ الَّذِي أَتَى فِي حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَهَا؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ خَاصَّةً، لَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي فَصْلِ الْعَزَائِمِ وَالرُّخَصِ، وإذا ثبت   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 وكأنه يقول: الظهر تجب أربعًا وجوبًا منحتمًا إلا على المسافر؛ فإن أدى اثنتين أو أربعًا صح وارتفع انحتام الأربع الذي كان على غير المسافر، وهذا تخصيص لعموم دليل العزيمة. "د". 3 هذا الوجه وما بعده مبنيان على الوجه الأول ومتوقفان عليه فمتى بطل بطلا، ولذا كان الجواب بإبطال الأول كافيًا في إبطال الاعتراضين، ويبقى الكلام على ما جعله المؤلف جوابًا عن الثاني ليدفع التناقض به وسيأتي ما فيه. "د". وفي "ط": "وأيضًا؛ فإن الجميع ... ". 4 في "ط": "العزيمة بالرخصة ليست ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 ذَلِكَ؛ فَالْعَزِيمَةُ عَلَى كَمَالِهَا وَأَصَالَتِهَا فِي الْخِطَابِ بِهَا، وَلِلْمُخَالِفَةِ حُكْمٌ1 آخَرُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِالْعَزِيمَةِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْخِطَابَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ الْعَبْدِ فَلَيْسَا بِوَارِدَيْنِ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَاتُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَزَالَ2 التَّنَاقُضُ الْمُتَوَهَّمُ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَنَظِيرُ تَخَلُّفِ الْعَزِيمَةِ لِلْمَشَقَّةِ3 تَخَلُّفُهَا لِلْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْإِكْرَاهِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَتَوَجَّهُ4 الْخِطَابُ مَعَ وُجُودِهَا مَعَ أَنَّ التَّخَلُّفَ غَيْرُ مُؤَثَّمٍ وَلَا مُوقِعٌ فِي مَحْظُورٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَعْنًى آخَرَ يَعُمُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرَهَا5, وَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَاتِ الَّتِي هِيَ عَزَائِمُ إِذَا رُفِعَ الْإِثْمُ عَنِ6 الْمُخَالِفِ فِيهَا لِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَأَحْكَامُ تِلْكَ الْعَزَائِمِ مُتَوَجَّهَةٌ عَلَى عُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ؛ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّ الْأَعْذَارَ خَصَّصَتْهَا؛ فَعَلَى الْمَجَازِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِنَعُدَّهَا مَسْأَلَةً عَلَى حدتها، وهي:   1 وهو رفع الإثم. "د". 2 كيف والمخاطب واحد؟ على كل حال هو الله تعالى؛ فسواء أكان الخطابان من جهة حق الله، أم من جهة حق الآدمي، أم موزعين كما يقول؛ فالإشكال باقٍ لا يرتفع بهذا الجواب لأن الله كلفه بالعزيمة تكليفًا متحتمًا، وإن كان لحقه تعالى، وكلفه بها تكليفًا غير منحتم لحق العبد، والتكليف في قضية واحدة بالوحدات الثمانية المعتبرة في التناقض؛ فمهما اختلف سبب التكليف فإن التناقض حاصل، لا يدفعه إلا التخصص أو الجواب بأن العزيمة مع الرخصة ليست من باب خصال الكفارة كما قال: "هل هي" هي. "د". 3 أي: لا يعدم الطاقة الذي جعله لا تكليف معه؛ فيبقى الكلام في أن النسيان وما معه مما لا يطاق أم مما فيه المشقة فقط؟ فإن كان من الأول؛ لزم أن يسقط التكليف بلا فارق بينهما، وسيأتي تتميم الكلام. "د". 4 ويكون معنى رفعها في الحديث رفع الإثم لا رفع التكليف، بدليل مطالبته بالأداء بعد زوال النسيان وما معه. "د". 5 وإن لم يكن مما يسمى رخصة. "د". 6 في "ط": "على". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا مَا تَقَدَّمَ1، وَالْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ فَالصَّوَابُ جَرَيَانُهَا عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَزَائِمُ مَعَ الرُّخَصِ، وَلِنَفْرِضِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا 2: فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَتَنَاوَلَ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ؛ ظَهَرَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ كَشَارِبِ الْمُسْكِرِ يظنه حلالًا، وآكل مال   1 قال في الدليل الأول هناك: لا يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها؛ فالخطاب مرفوع من الأصل لرفع التكليف بما لا يطاق، فإجراء هذا الدليل لا يناسب ما نحن فيه؛ لأنه ينتج عكس مطلوبه ويقتضي أنه لا تكليف مع النسيان والخطأ، وأيضًا قالوا: إن الفهم والقدرة على الامتثال شرطان في التكليف، وأجابوا عن مثل اعتبار طلاق السكران الفاقد للشرط بأنه من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فهو من خطاب الوضع لا من التكليف، وهذا يشكل على المسألة هنا، وعلى قوله سابقًا: "ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ والنسيان والإكراه وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب ... إلخ"؛ إلا أن يقال: إنه جارٍ على القول بتوجه التكليف إلى هؤلاء جميعًا، وأشار إلى ذلك بقوله: "وإن كان مختلفًا فيها"، ويكون معنى الشرط على هذا القول أنه شرط في المؤاخذة لا في أصل توجه التكليف، هذا وقد سبق له في باب الأحكام الإفاضة في مرتبة العفو وأنها زائدة عن الأحكام الخمسة، وأقام الأدلة عليها إثباتًا ونفيًا، وذكر مواضعها على القول بثبوتها، وختم المبحث هناك بما ختمه به هنا من أن هذا مبحث لا ينبني عليه فقه، وأن الأولى تركه؛ فراجعه إن شئت. "د". 2 فرض المسألة في هذين الموضعين من باب التمثيل لا الاستقصاء؛ لأنها أوسع من ذلك، وقد سبق له في النوع الأول من الأنواع الثلاثة لمرتبة العفو المذكور هناك -وهو الوقوف مع الدليل المعارض قصد نحوه- أن أدرج فيه العمل بالعزيمة مع وجود مقتضى الرخصة، كما أدرج فيه المتأول كشارب المسكر يظنه حلالًا، وأدرج فيه خطأ القاضي في مسائل الاجتهاد ما لم يكن أخطأ نصًّا أو إجماعًا أو بعض القواطع، وإنما قيده بقوله: "ظهرت ... إلخ" حتى يتأتى له قوله بعد: "فهل يسوغ أن يقال ... إلخ" يعني، ومع مراعاة المصالح وبناء الأحكام عليها لا يمكن أن يقال ذلك، وكذا يقال في الموضع الثاني. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 الْيَتِيمِ أَوْ غَيْرِهِ يَظُنُّهُ مَتَاعَ نَفْسِهِ، أَوْ قَاتِلِ1 الْمُسْلِمِ يَظُنُّهُ كَافِرًا، أَوْ وَاطِئِ الْأَجْنَبِيَّةِ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَفَاسِدَ الَّتِي حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِأَجْلِهَا وَاقِعَةٌ أَوْ مُتَوَقَّعَةٌ، فَإِنَّ شَارِبَ الْمُسْكِرِ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ وَصَدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ قَدْ أَخَذَ مَالَهُ2 الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الضَّرَرُ وَالْفَقْرُ وَقَاتِلُ المسلم قد أزهق دم نفس ومن قتلها {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [الْمَائِدَةِ: 32] ، وَوَاطِئُ الْأَجْنَبِيَّةِ قَدْ تَسَبَّبَ فِي اخْتِلَاطِ نَسَبِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ؛ فَهَلْ يُسَوَّغُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهَا وَأَمَرَ3 بِهَا؟ كَلَّا، بَلْ4 عَذَرَ الْخَاطِئَ5 وَرَفَعَ الْحَرَجَ وَالتَّأْثِيمَ بِهَا، وَشَرَعَ مَعَ ذَلِكَ فِيهَا التَّلَافِي حَتَّى تَزُولَ الْمَفْسَدَةُ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِزَالَةُ؛ كَالْغَرَامَةِ، وَالضَّمَانِ فِي الْمَالِ، وَأَدَاءِ الدِّيَةِ مَعَ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ فِي النَّفْسِ، وَبَذْلِ الْمَهْرِ مَعَ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْوَاطِئِ، وما أشبه ذلك [ف] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الْأَعْرَافِ: 28] ، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النَّحْلِ: 90] ، غَيْرَ أَنَّ عُذْرَ الْخَطَأِ رَفْعُ حُكْمِ التَّأْثِيمِ الْمُرَتَّبِ على التحريم.   1 في الأصل و"ف": "قتل"، وقال "ف": "الأنسب: "أو قاتل المسلم" كما يقتضيه السياق". 2 في "ط": "أخذ له". 3 المناسب "أو" لينفي الإباحة والأمر؛ فيبقى النهي متوجهًا كما سيقول: "رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم"، وقوله بعد: "مَأْمُورًا بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فيه" يؤيد أن المقام لأوجه. "د". 4 يعني: بل نهى عنها، غايته أنه عذر الخاطئ؛ فلم يؤاخذه، يريد أن المكلف في كل عمل يتوجه عليه من الله؛ إما الإباحة لفعله، وإما الأمر، وإما النهي؛ فهنا في هذه الأمور لا يتأتى الإباحة ولا الأمر؛ فيبقى أن يتوجه النهي، غايته أنه لا يؤاخذه لفقد شرط المؤاخذة، وقد يذكر هذا دليلًا على أنه قد تخلو وقائع من حكم الله فيها, ودليلًا على ثبوت مرتبة العفو، وكلا هذين مبني على أنه لا تكليف رأسًا عند فقد الشرطين المذكورين آنفًا، خلافًا لما جرى عليه هو في هذه المسألة وما قبلها في قوله: "ونظير تخلف العزيمة للمشقة ... إلخ" "د". 5 بمعنى المخطئ لا الآثم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا أَخْطَأَ الْحَاكِمُ فِي الْحُكْمِ1، فَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوِ الزَّوْجَةَ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، أَوْ أَدَّبَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ تَأْدِيبًا وَتَرَكَ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بَرِيئَةً إِمَّا لِخَطَأٍ فِي دَلِيلٍ أَوْ فِي الشُّهُودِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ2 تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 49] . وَقَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاقِ: 2] . فَإِذَا أَخْطَأَ فَحَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ؟ أَوْ أَشْهَدَ ذَوَيْ زُورٍ؛ فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ3 بِقَبُولِهِمْ وَبِإِشْهَادِهِمْ؟ هَذَا لا يسوغ   1 قال ابن العربي في "القبس" "3/ 878": فإن أخطأ القاضي -وهي مسألة عظيمة- فإن ذلك لا يلزمه ضمانًا، ولا يوجب عليه ملامًا، والأصل في ذلك أن خالد بن الوليد لما أخطأ في بني جذيمة لم يعلق به النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، اللهم إلا أنه قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، 9/ 91"، ثم قال: "والمعنى يعضده، فإن القاضي لو نظر بشرط سلامة العاقبة وهو لا يعول على النص، إنما بنى حكمه على الاجتهاد، لكان ذلك باطلًا من وجهين، أحدهما أنه يكون تكليف ما لا يطاق، الثاني أنه يكون تنفيرًا للخلق عن الولاة؛ فتتعطل الأحكام". وانظر: "قواعد الأحكام" "1/ 90 و2/ 165"، و"الأصول والضوابط من التحرير" "ص356-357 و419-420"، و"المبسوط" "9/ 64 و25/ 132"، و"بدائع الصنائع" "7/ 16"، و"شرح السير الكبير" "3/ 869"، و"تبيين الحقائق" "4/ 204-205". 2 أي: فهو مما ظهرت علة تحريمه بنص. "د". 3 يريد: بل هو منهي عن ذلك، ولم لا يقال: إنه مأمور به في نظر المكلف وفي اجتهاده هو، وهو لا يكلف إلا بهذا القدر لا أنه مأمور به على التحقيق، ولهذا توجه الأمر الجديد بتلافي ما أفسده كما سيشير إليه بعد: "وقوله: لا فرق بين أمر وأمر ... إلخ" الفرق ظاهر يقتضيه نفس بناء الأحكام على المصالح؛ فإن التكليف للفاعل وللحاكم، إنما هو يطيقه ويظنه صوابًا، فإذا ظهر الخطأ في ظنه؛ فترتب عليه فساد أو ظلم للغير ورد تكليف جديد بإزالة الظلم، وهذا من لوازم مراعاة المصالح وبناء الأحكام عليها، فإذا جرينا على أن هذا من مرتبة العفو أو أنه لا يلزم لله في كل واقعة حكم؛ كان الأمر أشد وضوحًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 بِنَاءً عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ، تَفَضُّلًا كَمَا اخْتَرْنَاهُ، أَوْ لُزُومًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، غَيْرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي عَدَمِ إِصَابَتِهِ كَمَا مَرَّ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ1 وَهَذَا الْحَاكِمُ مَأْمُورًا بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ، لَكَانَ الْأَمْرُ بِتَلَافِيهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ، وَإِذْنٍ وَإِذْنٍ؛ إِذِ الْجَمِيعُ ابْتِدَائِيٌّ؛ فَالتَّلَافِي بَعْدَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ. فَإِنِ الْتَزَمَ أَحَدٌ هَذَا الرَّأْيَ، وَجَرَى2 عَلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ، وَرَشَّحَهُ بِأَنَّ الْحَرَجَ مَوْضُوعٌ فِي التَّكَالِيفِ وَإِصَابَةِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَجٌ3 أَوْ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا4 يُسْتَطَاعُ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ بِمَا يَظُنُّهُ صَوَابًا، وَقَدْ ظَنَّهُ كَذَلِكَ؛ فَلْيَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالتَّلَافِي بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَانٍ بِخِطَابٍ جَدِيدٍ؛ فَهَذَا الرَّأْيُ جَارٍ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ مَرَّ لَهُ تَقْرِيرٌ فِي فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَرَضَتْ5؛ لَكَانَ الْأَوْلَى تَرَكُ الْكَلَامِ فِيهَا لِأَنَّهَا لَا تكاد ينبني عليها فقه معتبر.   1 أي: لو كان كل من الفاعل في الموضع الأول والحاكم في الموضع الثاني مأمورًا ... إلخ. "ف". وفي "ط": "فاعل أو هذا ... ". 2 وليس بلازم على ما عرفت، وقد يشكل على كلامه من أن خطأ الحاكم منهي عنه ما هو متفق عليه من إثابة المجتهد إذا أخطأ، وأن له أجرًا واحدًا وللمصيب أجرين، وهذا في كل مجتهد في حكم سواء أكان قاضيًا به أم مفتيًا أم غيرهما؛ فهل يثاب على المنهي عنه؟ وسيأتي له في أول مسألة في كتاب الاجتهاد أن هذا النوع من الاجتهاد يسمى تحقيق المناط، وأنه يحتاج إلى بذل الوسع في تقدير قيمة شهادة الشاهد وعدالته وغير ذلك؛ فكيف يثاب على قضائه الخطأ وهو على رأيه منهي عنه؟ فشناعة هذا اللازم على ما اختاره لا انفصال له عنها. "د". 3 وهل هذا إلا اعتبار المصالح؟ فكيف نقول معه جرينا على التعبد المحض؛ إلا أن يقال: إنه لذلك سماه ترشيحًا لا دليلًا؟ "د". 4 في "ط": "ما لا". 5 المسائل التي تعرض في طريق المباحث الأصلية كثيرة؛ فلو تم له هذا لاتسع المجال لذكر ما لا ينبني عليه فقه، وقد أنكر ذلك في مقدمات الكتاب، وقد علمت أنه ذكر هذه المسألة بتفصيل أوسع في كتاب الأحكام في مسألة مرتبة العفو؛ فذكرها هنا لمجرد مناسبتها للتخصيص، وأنها تعد منه أو لا تعد. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْعُمُومُ إِذَا ثَبَتَ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ جِهَةِ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَطْ، بَلْ لَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الصِّيَغُ إِذَا وَرَدَتْ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَالثَّانِي: اسْتِقْرَاءُ مَوَاقِعِ الْمَعْنَى حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ فِي الذِّهْنِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ؛ فَيَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الصِّيَغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الثَّانِي وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ هَكَذَا شَأْنُهُ؛ فَإِنَّهُ تصفُّح جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِيَثْبُتَ مِنْ جِهَتِهَا حُكْمٌ عَامٌّ؛ إِمَّا قَطْعِيٌّ1، وَإِمَّا ظَنِّيٌّ2، وَهُوَ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ؛ فَإِذَا تَمَّ الِاسْتِقْرَاءُ حُكِمَ بِهِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ فَرْدٍ يُقَدَّرُ3، وَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالثَّانِي: أن التواتر المعنوي هذا معناه؛ فإن وجود حَاتِمٍ مَثَلًا إِنَّمَا ثَبَتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَعَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، بِنَقْلِ وَقَائِعَ خَاصَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ تَفُوتُ الْحَصْرَ، مُخْتَلِفَةٍ فِي الْوُقُوعِ، مُتَّفِقَةٍ فِي مَعْنَى الْجُودِ؛ حَتَّى حَصَّلَتْ لِلسَّامِعِ مَعْنًى كُلِّيًّا حُكِمَ بِهِ عَلَى حاتم وهو الجود، ولم يكن خصوص   1 أي: إذا كان تامًّا. "د". 2 إذا كان في غالب الجزئيات فقط. "د". 3 أي: يفرض وإن لم يجئ فيه نص، ولا يخفى عليك أن هذا يكون من نوع الظني حينئذ. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الْوَقَائِعِ قَادِحًا فِي هَذِهِ الْإِفَادَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ مَثَلًا مَفْقُودٌ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ؛ فَإِنَّا نَسْتَفِيدُهُ مِنْ نَوَازِلَ مُتَعَدِّدَةٍ خَاصَّةٍ، مُخْتَلِفَةِ الْجِهَاتِ مُتَّفِقَةٍ فِي أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا إِذَا وَجَدْنَا التَّيَمُّمَ شُرِعَ عِنْدَ مَشَقَّةِ طَلَبِ الْمَاءِ، وَالصَّلَاةَ قَاعِدًا عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقِيَامِ1، وَالْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي السَّفَرِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْمَرَضِ وَالْمَطَرِ، وَالنُّطْقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقَتْلِ وَالتَّأْلِيمِ، وَإِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ خَوْفِ2 التَّلَفِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَشَقَّاتِ، وَالصَّلَاةَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ3 لِعُسْرِ اسْتِخْرَاجِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَالْخُفَّيْنِ لِمَشَقَّةِ النَّزْعِ وَلِرَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْعَفْوَ فِي الصِّيَامِ عَمَّا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، إِلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا قَصْدُ الشَّارِعِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِمُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْأَبْوَابِ كُلِّهَا، عَمَلًا4 بِالِاسْتِقْرَاءِ، فَكَأَنَّهُ عُمُومٌ لَفْظِيٌّ، فَإِذَا ثبت اعتبار التواتر المعنوي؛   1 زاد في "د" هنا: "طلب" القيام، وليست في النسخ الأخرى. 2 المراد بالإباحة: الإذن, وبخوف التلف ما هو أعم من موجب ألم المسغبة ألمًا شاقًّا، وإلا؛ فالإباحة بمعنى استواء الطرفين أو ما لا حرج فيه على ما تقدم له، إنما تكون لما يدفع المشقة الفادحة، لا ما يوجب التلف وإلا كان واجبًا. "د". 3 في "د": "كان" وفي "ط": "وجهة كانت". 4 جمع بين نتيجة الدليل الأول والثاني كما ترى لاشتباكهما هنا على ما قرره؛ فإنه جعل الاستقراء طريقًا لإثبات التواتر المعنوي، وذلك لأن هذه الجزئيات تتضمن الكلي المراد إثباته، ولتعددها وكثرة تنوعها يفهم منها ثبوت القدر المشترك، وإنما قال: "ثبت في ضمنه"، ولم يقل: ثبت ما نحن فيه؛ لأن ما هنا ليس تواترًا معنويًّا بالمعنى المعروف؛ كجود حاتم؛ لأن ذلك وصف لجزئي هو حاتم، فكل جزئية من أخبار كرمه تعود على هذا الوصف مباشرة بالإثبات، بخلاف إثبات العموم أو الكلي باستقراء الجزئيات؛ فليس كل جزئي مثبتًا لعموم العام مباشرة حتى يتكون من المجموع تواتر معنوي بالمعنى المعروف، بل ذلك إنما جاء من تضمن تلك الجزئيات للمعنى العام الكلي؛ فيفهم بسبب تعددها وتنوعها أن الحكم ليس لخصوصية في الجزئي، هذا توضيح كلامه، نقول: ومتى تم له هذا أمكن أن يقال في كل استقراء ولم جزئيًّا أنه تواتر معنوي بهذا المعنى، وقد يقال: إنه ينافي قولهم: إن الحاصل من التواتر علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس كوجود مكة مثلًا، فلذا لا يقع في العموم بالذات، لأن مسائلها كليات، ونحن نثبت به هنا كليًّا وعامًّا؛ فتأمل. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِنَّمَا عَمِلَ السَّلَفُ بِهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَعَمَلِهِمْ فِي تَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ1 مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَكَإِتْمَامِ2 عُثْمَانَ الصلاة   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 381/ رقم8139"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن أبي الدنيا في "الضحايا" -كما في "التلخيص الحبير" "4/ 145"، والطبراني في "الكبير", كما في "مجمع الزوائد" "4/ 18"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 295" و"الخلافيات" "3/ ق 279", وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358" بسند صحيح عن أبي سريحة الغفاري؛ قال: "ما أدركت أبا بكر، أو رأيت أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كنا لا يضحيان -في بعض حديثهم- كراهية أن يقتدى بهما". قال البيهقي: "أبو سريحة الغفاري هو حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله, صلى الله عليه وسلم" وروى عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "إني لأدع الأضحى، وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليّ"، وإسناده صحيح أيضًا، وانظر: "إرواء الغليل" "4/ 354-355/ رقم 1139". 2 إتمام عثمان -رضي الله عنه- ثابت في "صحيح البخاري" "كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 2/ 563/ رقم 1082، 1084، وباب يقصر إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090، وكتاب الحج، باب الصلاة بمنى، 3/ 509/ رقم 1657"، و"صحيح مسلم" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قصر الصلاة بمنى، 1/ 482/ رقم 694-695", و"سنن أبي داود", "كتاب المناسك, باب الصلاة بمنى 2/ 199/ رقم 1960"، و"المجتبى" للنسائي "كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 3/ 120"، و"مسند أحمد" "1/ 416، 425، 464"، و"مسند الطيالسي" "رقم 1091"، و"مسند أبي عوانة" "2/ 340", و"مسند أبي يعلى", "9/ 123, 255-256/ رقم 5194, 5377", و"سنن الدارمي", "2/ 55"، و"شرح معاني الآثار" للطحاوي "1/ 416"، و"المعجم الكبير" "1/ 268"، للطبراني، وسيأتي تصريح المصنف "ص102" بسبب إتمام عثمان, رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فِي حَجِّهِ بِالنَّاسِ، وَتَسْلِيمِ الصَّحَابَةِ لَهُ فِي عُذْرِهِ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّتِي عَمِلُوا بِهَا، مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] . وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 108] . وَفِي الْحَدِيثِ: "مِن أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ" 1 وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَهِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ لَا تَتَلَاقَى مَعَ مَا حَكَمُوا بِهِ إِلَّا فِي مَعْنَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: اقْتِنَاصُ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ بيِّن، مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْعَقْلِيَّةَ بَسَائِطُ لَا تَقَبَلُ2 التَّرْكِيبَ، وَمُتَّفِقَةٌ لَا تَقْبَلُ الاختلاف؛ فيحكم العقل   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90" وغيرهما، وتتمته: "وهل يسب الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فيسب أمه". 2 أي: بحيث لا تزيد الماهيات ولا تنقص؛ فيجب أن تكون الجزئيات فيها متفقة الأحكام؛ فالمثلان هما المشتركان في جميع الصفات النفسية التي لا تحتاج في وصف الشيء بها إلى أمر زائد عليها كالإنسانية والحقيقة والشيئية للإنسان، وتقابلها الصفات المعنوية، وهي التي تحتاج في الوصف بها إلى تعقل أمر زائد على ذات الموصوف؛ كالتحيز والحدوث للجسم، ويلزم في كل مثلين اشتراكهما فيما يجب ويمكن ويمتنع؛ فكل ما يحكم به على أحدهما يحكم به على الآخر في كل ما يرجع إلى مقتضى التماثل، أما ما يخرج عن ذلك من كل ما كان تابعًا للوجود الخارجي الزائد عن الحقيقة؛ فاختلاف المتماثلين فيه جائز؛ فيحكم على زيد بأنه طويل وجاهل، وعلى عمرو بأنه قصير وعالم مثلًا، وهكذا، وهو ما يشير إليه بقوله في الثاني: "إن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدًا، وإذ ذاك ... إلخ"؛ فهذا جار في العقليات باعتبار الوجود الخارجي الذي فيه المعاني الخاصة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 فِيهَا عَلَى الشَّيْءِ بِحُكْمِ مِثْلِهِ شَاهِدًا وَغَائِبًا؛ لِأَنَّ فَرْضَ خِلَافِهِ مُحَالٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْوَضْعِيَّاتِ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَ النَّقْلِيَّاتِ، وَإِلَّا كَانَتْ هِيَ [هِيَ] 1 بِعَيْنِهَا؛ فَلَا تَكُونُ وَضْعِيَّةً، هَذَا خَلْفٌ، وَإِذَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى وَفْقِ الِاخْتِيَارِ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمِثْلِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ؛ لَمْ يَصِحَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقْتَنَصَ فِيهَا مَعْنًى كُلِّيٌّ عَامٌّ مِنْ مَعْنًى جُزْئِيٍّ خَاصٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ تَسْتَلْزِمُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامِّ، أَوْ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، وَهَذَا وَاضِحُ2 فِي الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْعَامِّ3 دُونَ التَّعَلُّقِ بِالْخَاصِّ عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ بِهِمَا مَعًا؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ؛ لَمْ يَصِحَّ نَظْمُ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ مِنْ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ إِلَّا عِنْدَ فَرْضِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَعِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا يَتَبَقَّى4 تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي اسْتِفَادَةِ مَعْنًى عَامٍّ؛ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعُمُومِ صِيغَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَنْ هَذَا الْعَنَاءِ الطَّوِيلِ. وَالثَّالِثُ5: أَنَّ التَّخْصِيصَاتِ6 فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ؛ فيخص محل   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 في "ط": "أوضح". 3 أي: المعنى المشترك. "د". 4 في الأصل و"ط": "يبقى". 5 هذا الثالث ليس وجهًا مستقلًّا عن الوجهين قبله، بل هو تفصيل وإيضاح لقوله في الأول: "وَإِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى وَفْقِ الِاخْتِيَارِ الَّذِي يَصِحُّ معه.. إلخ"، فإن قيل: إن ما تقدم في تجويز ذلك وهذا في وقوع ذلك بالفعل في هذه الأمثلة، قلنا: نعم، ولكنه لم يأت بمعنى جديد، ويمكنه أن يصله بالأول على طريق ضرب الأمثلة له، وقد يقال: إنه فصله وجعله مستقلًّا لأن جوابه غير جواب الأول؛ كما أشار إليه المؤلف، وإن كان بينهما هذا الاتصال الذي أشرنا إليه. "د". 6 في "إعلام الموقعين" "المجلد الثاني إلى ص 130" أجوبة سديدة عن أكثر ما ذكره هنا، وأثبت فيه بما لا مزيد عليه أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 بِحُكْمٍ، وَيُخَصُّ مِثْلُهُ بِحُكْمٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ؛ كَجَعْلِ التُّرَابِ طَهُورًا كَالْمَاءِ، وَلَيْسَ بِمُطَهِّرٍ1 كَالْمَاءِ، بَلْ هُوَ بِخِلَافِهِ، وَإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَسُقُوطِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَنِ الْحَائِضِ ثُمَّ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَتَحْصِينِ الْحُرَّةِ لِزَوْجِهَا وَلَمْ تُحْصِنِ الْأَمَةُ سَيِّدَهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَمَنْعِ النَّظَرِ إِلَى مَحَاسِنِ الْحُرَّةِ دُونَ مَحَاسِنِ الْأَمَةِ، وَقَطْعِ السَّارِقِ دُونَ الْغَاصِبِ وَالْجَاحِدِ وَالْمُخْتَلِسِ، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الزِّنَى دُونَ غَيْرِهِ، وَقَبُولِ شَاهِدَيْنِ فِي كُلِّ حَدٍّ مَا سِوَى الزِّنَى، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الْحُرِّ دُونَ قَذْفِ الْعَبْدِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ عِدَّتَيِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ، وحالُ الرَّحِمِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِمَا، وَاسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَالْأَمَةِ بِوَاحِدَةٍ، وَكَالتَّسْوِيَةِ فِي الْحَدِّ بَيْنَ الْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْنَ الزِّنَى2 وَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي دَمِ الْعَمْدِ، وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ3، وَبَيْنَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.   1 أي: بمزيل للنجاسات وآثارها كالماء، ومع ذلك جعل مثله في رفع الحديث. "د". 2 فلم يقبل العفو في الزنى، لا من الزوج ولا من أهل المرأة، بخلاف قتل العمد إذا عفا عنه الأولياء؛ فيقبل، ولعل هذا مؤخر من تقديم، ومحله قبل قوله: "وكالتسوية" لأن سائر ما قبله فرق فيها بين المتماثلات، وسائر ما بعده جمع فيه بين المختلفات، وهذا على ما قررنا من الأول. "د". 3 بجماع فيه إيلاجٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ مُسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمُفْتَرَقَانِ بِالتَّكْلِيفِ1 اللَّائِقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ كَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْعِدَّةِ، وَأَشْبَاهِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ، والاختصاصُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ2؛ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ فِيهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ؛ كَالْجُمُعَةِ3، وَالْجِهَادِ، وَالْإِمَامَةِ وَلَوْ فِي النِّسَاءِ4، وَفِي الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، مَعَ فَقْدِ الْفَارِقِ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرِكِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْعَبْدُ؛ فَإِنَّ لَهُ اخْتِصَاصَاتٍ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرَكِ5 أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِأَخْذِ عُمُومٍ مِنْ وَقَائِعَ مُخْتَصَّةٍ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ إِمْكَانَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَقَعَ مِثْلُهُ؛ فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْوَضْعَ الِاخْتِيَارِيَّ الشَّرْعِيَّ مُمَاثِلٌ6 لِلْعَقْلِيِّ الِاضْطِرَارِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ حَتَّى فَهِمُوهُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَنْظِمُوا الْمَعْنَى الْعَامَّ مِنَ الْقَضَايَا الْخَاصَّةِ حَتَّى عَلِمُوا   1 في "ط": "في التكليف". 2 وهو القسم المشترك. "د". 3 يعني: وهذه الأمور لائقة بكل منهما، ووقع فيها الاختصاص والتفرقة وكان يجدر بها التسوية؛ فهي مما فرق فيه الحكم كالقسم الأول، ولكنه نوع آخر جعل فيه محل الفرق أصناف الإنسان، وقد كان النظر سابقًا إلى جعل محل الفرق نفس الأفعال، بقطع النظر عن الذكورة والأنوثة مثلًا، فلذا فصله عن نوعي الأمثلة السابقين؛ فقال: "وأيضًا ... إلخ". "د". 4 في "ط": "ولو للنساء". 5 كفرضية الجمعة مثلًا. "د". 6 ويبقى قوله: "لم توضع وضع العقليات، وإلا كانت هي هي بعينها"، ولما كانت هذه مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ لم يلتفت إليها في الجواب، فإن مجرد شبه شيء بآخر في أمر من الأمور لا يجعلهما من باب واحد؛ إن عقليًّا فعقلي، وإن شرعيًّا فشرعي. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ وَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ غَيْرَ1 مُعْتَبَرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَوْ كَانَتِ الْخُصُوصِيَّاتُ مُعْتَبَرَةً بِإِطْلَاقٍ لَمَا صَحَّ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ وَلَارْتَفَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ رَأْسًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ الْإِشْكَالُ الْمُورَدُ2 عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ؛ فَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ هو الجواب هنا. فصل: وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَائِدُ تَنْبَنِي عَلَيْهَا، أَصْلِيَّةٌ وَفَرْعِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا تَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ اسْتَقْرَى مَعْنًى عَامًّا مِنْ أَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ، وَاطَّرَدَ له ذلك المعنى؛   1 ويبقى قوله: "وعند وجود ذلك الدليل لا يبقى تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي اسْتِفَادَةِ مَعْنًى عَامٍّ للاستغناء عنها بعموم صيغة الدليل"، ولم يلتفت إليه في الجواب؛ لأنه لا يلزم للعلم بأن هذه الخصوصيات غير معتبرة أن يكون ذلك مأخوذًا من دليل لفظي بصيغة فيها العموم، بل قد يكون بالاستقراء المشار إليه سابقًا، وهو مكون من جزئيات ليس فيها لفظ عام. "د". 2 وحاصله أن المنكرين للقياس قالوا: كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات والجمع بين المفترقات، وذكروا لذلك أمثلة كما هنا، ثم قالوا: وكيف يتجاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق؟ وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكو ذلك تحكمًا وتعبدًا. والجواب: بالمنع وأن الأحكام الشرعية ثلاثة أقسام: قسم لا يعلل أصلًا، وقسم يعلم كونه معللًا، كالحجر على الصبي؛ فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه. ونحن لا نقيس ما لم يقم دليل على كون الحكم معللًا، ودليل على عين العلة المستنبطة، ودليل على وجود العلة في الفرع، وما عدا ذلك لا يقاس فيه، والجواب هنا كذلك. فإن اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية والقطع بأخذ عموماتها من وقائع مختصة إنما هو فيما عدا ما وجد من فارق من الجزئيات، وعلم بالقرائن بناء على حكمه عليه؛ وهذا بظاهره مستثنى من العام وفي الحقيقة ليس من جزئياته؛ فتدبر. ا. هـ. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 لَمْ يَفْتَقِرْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى خُصُوصِ نَازِلَةٍ تَعِنُّ1، بَلْ يَحْكُمُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِالدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقْرَى مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِقِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ إِذْ صَارَ مَا اسْتُقْرِئَ مِنْ عُمُومِ الْمَعْنَى كَالْمَنْصُوصِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ؛ فَكَيْفَ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى صِيغَةٍ خَاصَّةٍ بِمَطْلُوبِهِ. وَمَنْ فَهِمَ هَذَا هَانَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ إِشْكَالِ الْقَرَافِيِّ2 الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، حَيْثُ اسْتَدَلُّوا فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا} [الأنعام: 108] . وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [الْبَقَرَةِ: 65] . وَبِحَدِيثِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا" 3 إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: "لَا تَجُوزُ شهادة خصم ولا ظنين" 4.   1 أي: تعرض. "ف". 2 في كتابه "الفروق" "3/ 266، الفرق الرابع والتسعون والمائة". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1027/ رقم 1581"، عن جابر بن عبد الله, رضي الله عنه. 4 أخرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 396", وأبو عبيد في "الغريب" "2/ 155" بسند رجاله ثقات إلى طلحة بن عبد الله بن عوف عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لخصم ولا ظنين"، ولفظ أبي عبيد ما أورده المصنف وهو مرسل؛ فهو ضعيف. ويشهد له ما أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 181، 204، 208، 225". وأبو داود في "السنن" "4/ 24/ رقم 2600"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 792/ رقم 2366"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 15364"، والدارقطني في "السنن" "4/ 243"، وابن جميع في "معجم الشيوخ" "ص108"، وابن مردويه في "ثلاثة مجالس من أماليه" "رقم 28"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 155" من طرق عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 قَالَ: "فَهَذِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَهِيَ لَا تُفِيدُ؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعَ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرَائِعَ خَاصَّةٍ، وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِلَّا؛ فَهَذِهِ لَا تُفِيدُ". قَالَ: وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمُ الْقِيَاسَ خَاصَّةً، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ إِبْدَاءُ الْجَامِعِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِدَفْعِهِ بِالْفَارِقِ، وَيَكُونُ دَلِيلُهُمْ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُدْرَكَهُمُ النُّصُوصَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرُوا نُصُوصًا خَاصَّةً بِذَرَائِعَ بُيُوعِ الآجال خاصة ويقتصرون عليها؛ كحديث1   = على أخيه، ولا موقوف على حد"، وبعضها طرفه حسنة، وقواه ابن حجر في "التلخيص الحبير"، وفي الباب عن أبي هريرة عند البيهقي في "الكبرى" "10/ 201"، وبعضهم أرسله كما في "الغيلانيات" "رقم 599"، وعن عائشة كما عند أبي عبيد، ومن طريقه البغوي في "التفسير" "1/ 410, ط دار الفكر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "18/ ق 282-283"، و"ذو الغمرة" الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة؛ فرد شهادته للتهمة، فهو بمعنى "خصم" في الحديث الذي أورده المصنف، و"القانع" الخادم والتابع، والمنقطع إلى القوم لخدمتهم، ويكون في حوائجهم، كالأجير والوكيل ونحوه، ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعًا؛ فهي مردودة، وهذا يشهد لكلمة "ظنين" في الحديث السابق. 1 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812، 4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور, كما في "نصب الراية" "4/ 16"، والدارقطني في "السنن" "2/ 52"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 330-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة؛ فسألتها؛ فقالت: "يا أم المؤمنين, كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بستمائة؛ فنقدته الستمائة؛ وكتبت عليه ثمانمائة. فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ". هَذَا مَا قَالَ فِي إِيرَادِ هَذَا الْإِشْكَالِ. وَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ الذَّرَائِعَ قَدْ ثَبَتَ سَدُّهَا فِي خُصُوصَاتٍ كَثِيرَةٍ بِحَيْثُ أَعْطَتْ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْنَى السَّدِّ مُطْلَقًا عَامًّا، وَخِلَافُ الشَّافِعِيِّ هُنَا غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ؛ فَالظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ تَمَّ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِتَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ إِعْلَامًا بِعَدَمِ وُجُوبِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ عند الشافعي ليس   = أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- إلا أن يتوب". وفي رواية البيهقي: "إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي العالية بنت أبضع؛ كما عند الدارقطني". وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما"، وكذا ابن حزم في "المحلى" "9/ 60"، وأما محبة لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية فمتعقب بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق", كما في "نصب الراية" "4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها. قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" "8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد الهادي. وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260"، و"إعلام الموقعين" "3/ 216"، وصححاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 بِحُجَّةٍ1، لَكِنْ عَارَضَهُ فِي مَسْأَلَةِ بُيُوعِ الْآجَالِ [دَلِيلٌ آخَرُ رَاجِحٌ2 عَلَى غَيْرِهِ فَأَعْمَلَهُ؛ فَتَرَكَ سَدَّ الذَّرِيعَةِ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا تَرَكَهُ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ] 3؛ لَمْ يُعَدَّ مُخَالِفًا [فِي أَصْلِهِ] 4. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ جَوَازُ إِعْمَالِ الْحِيَلِ؛ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْلِهِ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ إِلَّا الْجَوَازُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَرْكُهُ لِأَصْلِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهَذَا وَاضِحٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ مَالِكٍ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ فِيهَا، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ، وَإِذَا كان كذلك؛ فلا إشكال.   1 أي: فهذا دليل على أنه أخذ فيه بسد الذرائع. "د". قلت: انظر -لزامًا- ما سيأتي في التعليق على "458" من تحرير لمذهب الشافعي في حجية قول الصحابي، ومنه تعلم ما في قول المصنف هنا، والله الموفق. 2 هكذا في الأصل فقط، وفي النسخ المطبوعة: "رجح". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط". 4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةُ: الْعُمُومَاتُ إِذَا اتَّحَدَ مَعْنَاهَا، وَانْتَشَرَتْ فِي أَبْوَابِ1 الشَّرِيعَةِ، أَوْ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاطِنَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ؛ فَهِيَ مُجْرَاةٌ2 عَلَى عُمُومِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَرَّرَتْ أَنْ لَا حَرَجَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ تَسْتَثْنِ مِنْهُ مَوْضِعًا وَلَا حَالًا؛ فَعَدَّهُ عُلَمَاءُ الْمِلَّةِ أَصْلًا مُطَّرِدًا وَعُمُومًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ3، وَلَا طَلَبِ مُخَصِّصٍ4، وَلَا احْتِشَامٍ مِنْ إِلْزَامِ الْحُكْمِ بِهِ، وَلَا تَوَقُّفٍ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَا فَهِمُوا بِالتَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى التَّعْمِيمِ التَّامِّ. وَأَيْضًا قَرَّرَتْ أن {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْأَنْعَامِ: 164] ؛ فَأَعْمَلَتِ الْعُلَمَاءُ الْمَعْنَى فِي مَجَارِي عُمُومِهِ، وَرَدُّوا مَا خَالَفَهُ5 من أفراد الأدلة بالتأويل   1 من مثل العبادات والمعاملات والأنكحة؛ فهو غير التكرر الذي بعده الصادق بالتكرر ولو في باب من هذه الأبواب. "د". 2 أي: بدون توقف ولا بحث عن وجود معارض، هذا هو الغرض الذي ترمي إليه المسألة كما سيشير إليه قبيل الفصل وفيه أيضًا. "د". وفي "ط": "فهو مجراة ... ". 3 وعليه؛ فقولهم: "ما من عام إلا وخصص" يخرج منه هذا أيضًا، كما أخرجوا منه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} على رأي الأصوليين، ولا يقال: إن المشاق والحرج الذي يعتري أرباب الحرف والصناعات لم يرفعه الشارع ويبن عليه الفطر في الصوم والقطر في السفر مثلًا؛ لأنا نقول: تقدم له أن ذلك من المشاق المعتادة التي لا تبنى عليها الأحكام المذكورة. "د". 4 في الأصل: "مخصوص". 5 من مثل ضرب الدية على العاقلة، وما قيل في هذه الآية يقال مثله في آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مع ما خالفها من أفراد الأدلة كالصوم والحج عن الميت الواردين في الأحاديث، وتقدم الكلام فيها في مبحث النيابة في الأعمال والعبادات. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وَغَيْرِهِ، وَبَيَّنَتْ بِالتَّكْرَارِ أَنَّ "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 1؛ فَأَبَى أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ تَخْصِيصِهِ، وَحَمَلُوهُ2 عَلَى عُمُومِهِ، وَأَنَّ "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً [أَوْ سَيِّئَةً] ؛ كَانَ [لَهُ] مِمَّنِ اقْتَدَى بِهِ حَظٌّ إِنْ حَسَنًا وَإِنْ سَيِّئًا"3 وَأَنَّ "مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا دَخَلَ النَّارَ"4. وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ أَصْلٍ تَكَرَّرَ تَقْرِيرُهُ وَتَأَكَّدَ أَمْرُهُ وَفُهِمَ ذَلِكَ مِنْ مَجَارِي الْكَلَامِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ عَلَى حَسَبِ عُمُومِهِ وَأَكْثَرُ الْأُصُولِ5 تَكْرَارًا الْأُصُولُ الْمَكِّيَّةُ؛ كَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالْبَغْيِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُمُومُ مُكَرَّرًا وَلَا مُؤَكَّدًا وَلَا مُنْتَشِرًا فِي أبواب الفقه؛ فالتمسك بمجرده فيه نظر؛ فلا بد مِنَ الْبَحْثِ عَمَّا يُعَارِضُهُ أَوْ يُخَصِّصُهُ؛ وَإِنَّمَا حَصَلَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ فِيهِ التَّكْرَارُ وَالتَّأْكِيدُ وَالِانْتِشَارُ صَارَ ظَاهِرُهُ بِاحْتِفَافِ الْقَرَائِنِ بِهِ إِلَى مَنْزِلَةِ النَّصِّ الْقَاطِعِ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِاحْتِمَالَاتٍ؛ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي الْقَطْعِ بِمُقْتَضَاهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَى غَيْرِهِ وَيُبْحَثَ عن وجود معارض فيه.   1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده. 2 في "ط": "وعملوا". 3 أخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير -رضي الله عنه- وتقدم نصه وتخريجه "1/ 222"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجنائز، باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، 3/ 109/ رقم 1238"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، 1/ 94/ رقم 150" عن ابن مسعود مرفوعًا: "من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار"، قال: "وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة". وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 151"، عن جابر مرفوعًا: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار". 5 في "ط": "وأكثر الأول". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 فصل: وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الْقَوْلُ فِي الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ، وهل يصح من غير [بحث عن] 1 الْمُخَصِّصِ، أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ؛ أَفَادَ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِيهِ إِلَى بَحْثٍ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ إِلَّا حَيْثُ تُخَصِّصُ الْقَوَاعِدُ2 بَعْضَهَا بَعْضًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ فِي أَنَّهُ يُمْنَعُ3 الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ حَتَّى يُبْحَثَ هَلْ لَهُ مُخَصِّصٌ، أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ دَلِيلٌ مَعَ مُعَارَضِهِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنْ صَحَّ4؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَيْضًا5؛ فَالْبَحْثُ يُبْرِزُ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْعُمُومَاتِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ فَغَيْرُ مُخَصَّصٍ، بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ بَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِ دُونَ بَحْثٍ6 بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ من الاستقراء، والله أعلم.   1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، ولكن في "ط": "بحث على"، وسقط من النسخ المطبوعة. 2 كما هو الحال بين الإجماع المحكي بعد وبين هذه القاعدة الخاصة بالقسم الأول "د". 3 في "ط": "يمتنع". 4 إشارة إلى مخالفة الصيرفي فيه، قال إمام الحرمين: "وهذا ليس معدودًا من العقلاء، وإنما هو قول صدر عن غباوة وعناد". "د". 5 ليست في "م". 6 أي: فيكون البحث عبثًا. "د". وسقطت "دون بحث" من "ط". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 الفصل الخامس: في البيان والإجمال 1 ويتعلق به مسائل المسألة الأولى: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ؛ لَمَّا كَانَ مُكَلَّفًا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل َ2 إِلَيْهِم} [النَّحْلِ: 44] . فَكَانَ يُبَيِّنُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الطَّلَاقِ: "فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النساء" 3.   1 قال الآمدي [في "الإحكام" "3/ 11"] : "والحق أن المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه"، وذكر من أسبابه سبعة أمور؛ منها: أن يكون في لفظ مشترك كالعين للذهب والشمس، والقرء للطهر والحيض، وقد يكون بسبب الابتداء والوقف؛ كما في آية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، وقد يكون في الأفعال أيضًا. "د". قلت: وانظر لزامًا ما قدمناه في التعليق على "3/ 324" حول الوقف والابتداء في الآية. 2 أي: من القرآن والسنة. "د". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 294-296 و19/ 155-174". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء .... } ، 9/ 345-346/ رقم 2151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ... 2/ 1093/ رقم 1471" عن ابن عمر, رضي الله عنهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] : "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ" 1. وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ" 2: "إِنَّمَا عَنَيْتُ بِذَلِكَ كَذَا وَكَذَا" 3. وَهُوَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. وَكَانَ أَيْضًا يُبَيِّنُ بِفِعْلِهِ4: "أَلَا أَخْبَرْتِهِ 5 أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ" 6.   1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، عن عائشة, رضي الله عنها. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان, باب علامة المنافق, 1/ 89/ رقم 23" ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي هريرة مرفوعًا. 3 مضى تخريجه "2/ 282، 3/ 402". 4 ومنه أيضًا شربه قدح لبن وهو على بعيره بعرفة يوم عرفة، بيانًا لعدم مشروعية الصوم في عرفة يومها، ومضى تخريجه. 5 في "ط": "أخبرتيه". 6 قطعة من حديث أخرجه مالك في "المؤطأ" "1/ 291-292" عن عطاء بن يسار مرسلًا مطولًا، فيه ذكر جواز التقبيل للصائم، قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 54-55": "هذا الحديث مرسل عند جميع رواة "الموطأ" عن مالك"، قال: "والمعنى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم صحيح من حديث عائشة وحديث أم سلمة وحفصة". قلت: وبعضها في "الصحيحين"، ورواه الشافعي في "الرسالة" "رقم 1109" من طريق مالك، وقال: "وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله". = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا 1 يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 50] . وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ بِفِعْلِهِ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: "صَلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 2، "وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 3. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ إِقْرَارُهُ بَيَانًا أَيْضًا، إِذَا عَلِمَ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ لَوْ كَانَ بَاطِلًا أَوْ حَرَامًا، حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَسْأَلَةِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وَغَيْرِهِ4، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنْ نصير منه إلى معنى آخر، وهي:   = وقال الزرقاني في "شرح الموطأ" "2/ 92": "وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار". قلت: أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 184/ رقم 184", ومن طريقه أحمد في "المسند" "5/ 434"، وابن حزم في "المحلى" "6/ 207", وليس فيه اللفظ المذكور. ويغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، 2/ 779/ رقم 1108" بسنده إلى عمر بن أبي سلمة، أنه سأل رسول الله, صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سل هذه, لأم سلمة". فأخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك. وانظر: "ص94، 117" مع التعليق عليه. وقال "ف" وتبعه "م": "ألا: أداة تنبيه، أي: كما في قوله: ألا أخبرته". 1 وفيه البيان بالقول أيضًا. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث, رضي الله عنه. 3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297" وغيره. 4 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب القائف، 12/ 56/ رقم 6770، 6771"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القافة بالولد، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 المسألة الثانية: وَذَلِكَ أَنَّ الْعَالِمَ وَارِثُ النَّبِيِّ؛ فَالْبَيَانُ فِي حقه لا بد مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ثَبَتَ مِنْ كَوْنِ العلماء ورثة1 الأنبياء2، وهو معنى صحيح   = 2/ 1081/ رقم 1459" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عليّ مسرورًا، تبرق أسراير وجهه؛ فقال: "ألم تر أن مجزرًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد؟ " فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض. وقال "ف": "مجزز: رجل من بني مدلج مشهور بالقيافة، ومسألته أن المنافقين لما أنكروا نسب زيد لأسامة قال وقد رأى أقدامهما: هذه الأقدام بعضها من بعض. فاستبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ومنه أخذ الشافعية إثبات النسب بالقيافة؛ لأن الاستبشار تقرير ولم يعتبره الحنفية دليلًا في الحادثة" اهـ، ونحوه عند "م". وأضاف "د": "والحنفية قالوا: إن بشره -صلى الله عليه وسلم- إنما كان بقيام الحجة على المنافقين بناء على اعتقادهم في صحة القيافة، وترقبه -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا بسبب ذلك عن الطعن في نسب أسامة، لا أن هذا منه تقرير لصحة الأخذ بالقيافة في الأنساب". قلت: انظر "الطرق الحكمية" "ص8/ 246-271"، و"بدائع الفوائد" "3/ 130"، و"زاد المعاد" "5/ 418"، و"الذخيرة" "10/ 241, ط دار الغرب" للقرافي. 1 أي: في وظيفة النبوة معنى، وقوله: "في الإتيان بها"؛ أي: في تبليغها، وهذه الجملة بمعنى قوله في نهاية الدليل الثاني: "والبيان يشمل البيان الابتدائي ... إلخ". "د". 2 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، 3/ 317/ رقم 3641"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة, باب فضل العلماء والحث على طلب العلم, 1/ 81/ رقم 223" وأحمد في "المسند" "5/ 196"، والدارمي في "السنن" "1/ 98"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 429"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم 88, الإحسان"، والبزار في "المسند" "رقم 136, زوائده"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 275-276/ رقم 129"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 1188"، والخطيب في "الرحلة" "77-78"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 169، 170، 171، 172"، عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من سلك طريقًا يطلب فيه = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 ثَابِتٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ وَارِثًا قِيَامُهُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ فِي الْبَيَانِ، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ فَرْضًا عَلَى الْمَوْرُوثِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْوَارِثِ أَيْضًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْبَيَانِ بَيْنَ1 مَا هُوَ مُشْكِلٌ أَوْ مُجْمَلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَبَيْنَ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ فِي الْإِتْيَانِ بِهَا؛ فَأَصْلُ التَّبْلِيغِ بَيَانٌ لِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ، وَبَيَانُ الْمُبَلِّغِ مِثْلُهُ بَعْدَ التَّبْلِيغِ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ قَالَ2: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 159] . {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 42] . {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 140] . وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: "أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ" 3. وَقَالَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالَا؛ فَسَلَّطَهُ عَلَى هلكته   = علمًا..". وفيه: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وأورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". وفي بعض أسانيده ضعف وبعضها حسن في الشواهد، وللحديث شواهد يتقوى بها كما قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 160"، قال ابن حبان عقب الحديث: "في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا، هم الذين يعلمون علم النبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من سائر العلوم؛ ألا تراه يقول: "العلماء ورثة الأنبياء"؟ والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا -صلى الله عليه وسلم- سنته، فمن تعرى عن معرفتها, لم يكن من ورثة الأنبياء". 1 في "ط": "وبين". 2 فالآية الأولى ظاهرة في البيان بأصل التبيلغ، والثانية ظاهرة في بيان المبلغ، والثالثة ظاهرة في العموم. "د". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ أوعى من سامع"، 1/ 157-158/ رقم 67"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، 3/ 1305-1306" عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ؛ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" 1. وَقَالَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ 2 الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ" 3. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَالْبَيَانُ يَشْمَلُ الْبَيَانَ الِابْتِدَائِيَّ [وَالْبَيَانَ] 4 لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ وَالتَّكَالِيفَ الْمُتَوَجِّهَةَ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْبَنَى عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهِيَ5:   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، 3/ 276/ رقم 1409، وكتاب الأحكام، باب أجر من قضى بالحكمة، 13/ 120/ رقم 7141، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله تعالى لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، 13/ 298/ رقم 7316"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، 1/ 559/ رقم 816" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ المصنف. 2 يعني: ولو كان العلم موجودًا بوجود العلماء؛ لأظهروه في الناس بمقتضى واجبهم، فلا يظهر الجهل؛ فيدل على أن واجب العلماء إظهار العلم. "د". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب إثم الزناة، 12/ 113-114/ رقم 6808", ومسلم في "صحيحه" "كتاب العلم, باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2056/ رقم 2671" عن أنس بن مالك بلفظ المصنف. 4 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 5 في "ط": "وهو". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 المسألة الثالثة: فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ الْبَيَانُ يَتَأَتَّى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ فلا بد أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالِمِ، كَمَا حَصَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهَكَذَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّنْ صَارَ قُدْوَةً فِي النَّاسِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَلَا نَطُولُ بِهِ ههنا لأنه تكرار. المسألة الرابعة: إِذَا حَصَلَ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الْمُطَابِقِ لِلْقَوْلِ؛ فَهُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَيَانِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ الطَّهَارَةَ أَوِ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ، فَإِنْ حَصَلَ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيَانٌ أَيْضًا؛ إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ وَجْهٍ، بَالِغٌ أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَالْفِعْلُ بَالِغٌ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا الْبَيَانُ الْقَوْلِيُّ1؛ وَلِذَلِكَ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام الصلاة بفعله لأمته، كما فعل   1 أحال المصنف على هذا المبحث في كتابه "الاعتصام" "2/ 595, ط ابن عفان"، فقال: " ... والفعل أغلب من القول من جهة التأسي، كما تبين في كتاب "الموافقات"، وانظر لطائف وفوائد في هذا عند ابن القيم في "مدارج السالكين "1/ 446 وما بعدها, ط الفقي". ومن الجدير بالملاحظة هنا أن اجتماع أنواع أخرى من البيان مع القول والفعل يكون به أقوى، وأهم ذلك التقرير؛ فإنه يدل على رضا المبين عن الصورة الذهنية التي حصلت لدى المبين له؛ فإن البيان قد يكون وافيًا، ولكن أفهام بعض السامعين تقصر أو تغفل، فإن عمل المبين له بما بين؛ فوافقه المبين، وأقره فذلك أقوى ما يكون البيان. انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 105". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 بِهِ جِبْرِيلُ حِينَ صَلَّى بِهِ1، وَكَمَا بَيَّنَ2 الْحَجَّ كَذَلِكَ، وَالطَّهَارَةَ3 كَذَلِكَ، وَإِنْ جَاءَ فِيهَا بَيَانٌ بِالْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عُرِضَ نَصُّ الطَّهَارَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَيْنِ مَا تُلُقِّيَ بِالْفِعْلِ مِنَ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ الْمُدْرَكُ بِالْحِسِّ مِنِ الْفِعْلِ4 فَوْقَ5 الْمُدْرَكِ بِالْعَقْلِ مِنَ النَّصِّ لَا مَحَالَةَ، مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. وَهَبْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- زَادَ بِالْوَحْيِ الْخَاصِّ أُمُورًا لَا تُدْرَكُ مِنَ النَّصِّ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَتِلْكَ الزِّيَادَاتُ6 بَعْدَ الْبَيَانِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى النَّصِّ لَمْ يُنَافِهَا بَلْ يَقْبَلْهَا؛ فَآيَةُ الْوُضُوءِ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهَا فِعْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الْوُضُوءِ شَمِلَهُ بِلَا شَكٍّ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْحَجِّ مَعَ فِعْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيهِ، وَلَوْ تَرَكَنَا وَالنَّصَّ؛ لَمَا حَصَلَ لَنَا مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ، بَلْ أَمْرٌ أَقَلُّ مِنْهُ، وَهَكَذَا نَجِدُ الْفِعْلَ7 مع   1 مضى لفظه وتخريجه في التعليق على "3/ 255". 2 في حديث جابر الطويل وغيره، وفيه: "خذوا عني مناسككم"، وقد مضى تخريجه "3/ 246"، وقد جمع طرقه وألفاظه شيخنا الألباني -فسح الله مدته- في جزء مفرد مطبوع. 3 كما ثبت في غير حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- توضأ، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ركع ركعتين لم يحدث فيهما نفسه؛ غفر له ما تقدم من ذنبه". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، 1/ 259/ رقم 159، وكتاب الصيام، باب سواك الرطب واليابس للصائم، 4/ 158/ رقم 1934"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، 1/ 205/ رقم 226" عن عثمان مرفوعًا، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على كتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 1، 2، 3". 4 في الأصل: "العقل". 5 أي: أوسع بسطًا وأوضح معنى منه، فإذا فرض أنه -صلى الله عليه وسلم- زاد بفعله الذي أدركه بالوحي غير القرآني تفاصيل في الفعل لم تدرك من أصل النص القرآني؛ فهذه الأجزاء والتفاصيل الزائدة بهذا البيان الفعلي المفهوم له من الوحي الخاص إذا قيست وطبقت على النص القرآني لم ينابذها ولم ينافها، بل كان يحتملها وغيرها. "د". 6 في "ط": "الزيادة". 7 فإن القول مهما كان مستطيلًا في البيان لا يفي ببيان الهيئات الجزئية والكيفيات = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 الْقَوْلِ أَبَدًا، بَلْ يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُوجَدَ قَوْلٌ لَمْ يُوجَدْ لِمَعْنَاهُ الْمُرَكَّبِ نَظِيرٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمُعْتَادَةِ الْمَحْسُوسَةِ، بِحَيْثُ إِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ عَلَى مُقْتَضَى مَا فُهِمَ مِنَ الْقَوْلِ؛ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا إِخْلَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَائِطُهُ مُعْتَادَةً كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا يَقْرُبُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ1 الَّذِي مَعْنَاهُ الْفِعْلِيُّ بَسِيطٌ، وَوُجِدَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ إِحَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُعْتَادٍ؛ فَبِهِ حَصَلَ الْبَيَانُ لَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ2، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يقم القول هنا في   = المخصوصة التي تظهر من الفعل، ومن ذلك تجد لزوم التمرين في مثل الصناعات عمليًّا، ولا يكتفي بالقول والشرح فيها، وقوله: "بل يبعد" ترقّ لإيضاح ما قبله بتحديد المحل الذي لا يفي فيه القول، وفاء الفعل في ضبط كيفياته ضبطًا لا يدع نقصًا ولا زيادة، وذلك في الأعمال المركبة من أركان وشروط ومستحسنات، وتلحقها مبطلات وعوارض غير مستحسنة، ولم تجر بها عادة بين الناس تحددها تحديدًا وافيًا، وذلك كالصلاة والحج؛ فمجرد القول فيهما لا يفي بهما وفاء تامًّا، بحيث إذا اقتصر عليه لا يحصل زيادة عن المطلوب ولا نقص عنه، وإن كانت بسائطهما معتادة في شريعتنا ثم ورد تعديل ونسخ في كيفياتهما، أو معتادة باعتبار شرائع متقدمة؛ فكلي الصلاة والحج معتاد، ومجرد هذا لا يكفي القول فيه لضبط تفاصيل كيفياته للتفاوت بين الصلوات الخمس عددًا وكيفية، وسرًّا وجهرًا، وبسورة وغير سورة، كذلك نفس النوافل وصلاة العيدين والكسوف والخسوف والجنازة والوتر والضحى وهكذا؛ فتفاصيل هذه الصلوات لا يكفي فيه القول لضبطه، وإن كان أصل الصلاة معتادًا في شريعتنا، وإنما يقرب في العادة أن يؤدي القول مؤدى الفعل فيما كان معناه بسيطًا، أو وجد له نظير في المعتاد ولو كان مركبًا؛ فإنك إذا وصفت للخياط الحالة التي تريد أن يكون عليها الثوب وكان ما وصفت معتادًا؛ فلا مانع أن يجيء الثوب حسبما وصفت، بدون زيادة ولا نقص، ويكون البيان إذ ذاك حاصلًا بالفعل المعتاد لا بالقول، وعليه يكون قوله: "ووجد له نظير" الواو فيه بمعنى أو كما هو ظاهر، وكما يؤخذ من كلام المؤلف حيث جعل التركيب قيدًا، وكونه لا نظير له في الأفعال معتادة قيدًا آخر، وسيأتي في الفصل بعده ما يقتضي أن الواو على معناها الأصلي، وأن الذي يقرب أن يؤدي القول فيه مؤدى الفعل صورة واحدة، وهي ما كان بسيطًا بقيد أن يكون مثله معتادًا، ولك أن تقول كما قررنا: إن المعتاد ولو كان مركبًا يفي القول فيه وفاء الفعل، والشواهد عليه كثيرة. "د". 1 في "ط": "في القول". 2 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 106" للشيخ محمد الأشقر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 الْبَيَانِ مَقَامَ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَالْفِعْلُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهُوَ يَقْصُرُ عَنِ الْقَوْلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بَيَانٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ ذُو صِيَغٍ تَقْتَضِي هَذِهِ الْأُمُورَ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَعَلَى زَمَانِهِ، وَعَلَى حَالَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَدٍّ عَنْ مَحَلِّهِ أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ تُرِكْنَا وَالْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَثَلًا؛ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا مِنْهُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ. فَيَبْقَى عَلَيْنَا النَّظَرُ: هَلْ يَنْسَحِبُ طَلَبُ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ، أَوْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهَذَا الزَّمَانِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ، أَوْ يَكُونُ حُكْمُ أُمَّتِهِ حُكْمَهُ؟ ثُمَّ بَعَدَ النَّظَرِ فِي هَذَا يَتَصَدَّى نَظَرٌ آخَرُ فِي حُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ: مِنْ أَيِّ نَوْعٍ هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؟ وَجَمِيعُ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ لَا يَتَبَيَّنُ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إِقَامَةُ الْفِعْلِ مَقَامَ الْقَوْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا بَيِّنٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَابِ: 21] ، وَقَالَ حِينَ بَيَّنَ بِفِعْلِهِ الْعِبَادَاتِ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 2، وَ "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 3، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِيَسْتَمِرَّ الْبَيَانُ إِلَى أقصاه.   1 أي: ففعله لم يكف في طلب الاقتداء به فيه؛ لأن الفعل لا يدل على انسحابه على أمته كما قال؛ فاحتاج الأمر لبيان ذلك بالقول بهذه الآية، وبالأحاديث التي تذكر في مواضعها ليتبين الأمر من الجهتين أنه عام لهم، وأن كيفيته كما رأوا. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإمامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث, رضي الله عنه. 3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297" وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ1 الْقَوْلِ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ؛ فَلَا يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ؛ الْقَوْلُ، أَمِ الْفِعْلُ؟ إِذْ لَا يَصْدُقَانِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ إِلَّا فِي الْفِعْلِ الْبَسِيطِ الْمُعْتَادِ مِثْلِهِ إِنِ اتَّفَقَ؛ فَيَقُومُ أَحَدُهُمَا2 مَقَامَ الْآخَرِ، وَهُنَالِكَ يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ، أَوْ أَيُّهُمَا أَوْلَى؟ كَمَسْأَلَةِ الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ3 وَمِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ4 عِنْدَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ المسألة من ذلك،   1 أي: كما ذكره الأصوليون؛ فقائل يرجع الفعل لأنه أقوى في الدلالة على المقصود وليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة، وقائل بل يقدم القول لأنه يدل بنفسه على المقصود، أما الفعل؛ فلا يدل إلا بأحد أمور ثلاثة تفيد أن الفعل بيان للمجمل هي العقل، أو النص على أن هذا الفعل بيان للمجمل، أو أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، هذا إذا اجتمع القول والفعل واختلفا، أما إذا اجتمعا وتوافقا؛ فالسابق منهما هو البيان، والثاني مؤكد له، هذا محصول كلامهم، ولم ينح نحو مبحثه الذي تجلى به أن كلًّا منهما له جهة يكون فيها أقوى بيانًا من الآخر. "د". قلت: رجح أبو الحسين البصري الفعل بقوله في "المعتمد" "340": "إن الفعل أكشف" لأنه ينبئ عن صفة المبين مشاهدة، وانظر تفصيلًا حسنًا مع الأدلة حول القوة والوضوح بين البيان القولي والبيان الفعلي في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 99-103"، وانظر: "تيسير التحرير" "3/ 148-149"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" 2/ 100"، و" إحكام الأحكام" "3/ 34" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "ص123، 124"، و"أصول السرخسي" "2/ 27". 2 على أن القول في هذه الصورة إنما قام مقام الفعل لأن مثله معتاد؛ فحصول البيان فيه بالفعل مع القول أو بالفعل نفسه كما قال سابقًا. "د". 3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء"، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: إن رجلًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل؛ هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل". 4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان؛ فقد وجب الغسل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وَالَّذِي وُضِعَ إِنَّمَا1 هُوَ فِعْلُهُ ثُمَّ غُسْلُهُ؛ فَهُوَ الَّذِي يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَقَامَ صَاحِبِهِ، أَمَّا حُكْمُ الْغُسْلِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَتَأَسِّي الْأُمَّةِ [بِهِ] 2 فِيهِ؛ فيختص3 بالقول.   1 أي: إن هذا المقدار فقط هو الذي يقوم فيه كل من القول والفعل فيه مقام صاحبه، أما كون الغسل إذا ذاك واجبًا أو مندوبًا؛ فلا يستفاد إلا من القول، وقوله: "والذي وضع" لعل الأصل: "والذي وضح". [قلت: وفي الأصل: "وقع"، وقد احتملها "ف"] ؛ أي: الذي استبان بهذا القول والفعل إنما هو مجرد حصول الفعل ثم الغسل، وكلمة "وضح" ذكرها شارح "المنهاج" في مبحث البيان والإجمال. "د". قلت: وفي "ط": "والذي في الموضع". 2 سقط من "ط". 3 في "ط": "فمختص". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ بَيَانًا؛ فَالْفِعْلُ شَاهِدٌ لَهُ وَمُصَدِّقٌ، أَوْ مُخَصِّصٌ أَوْ مُقَيِّدٌ، وَبِالْجُمْلَةِ عَاضِدٌ لِلْقَوْلِ حَسْبَمَا1 قُصِدَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَرَافِعٌ لِاحْتِمَالَاتٍ فِيهِ تَعْتَرِضُ فِي وَجْهِ الْفَهْمِ، إِذَا كَانَ مُوَافِقًا غَيْرَ مُنَاقِضٍ، وَمُكَذِّبٌ لَهُ2 أَوْ مُوقِعٌ فِيهِ رِيبَةً أَوْ شُبْهَةً أَوْ تَوَقُّفًا إِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ إِيجَابِ الْعِبَادَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ، ثُمَّ فَعَلَهُ هُوَ وَلَمْ يُخِلَّ بِهِ فِي مُقْتَضَى مَا قَالَ فِيهِ؛ قَوِيَ اعْتِقَادُ إِيجَابِهِ، وَانْتَهَضَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ يُخْبِرُ عَنْهُ وَرَآهُ يَفْعَلُهُ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ مَثَلًا، ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَمْ يُرَ فَاعِلًا لَهُ وَلَا دَائِرًا3 حَوَالَيْهِ؛ قَوِيَ عِنْدَ مُتْبِعِهِ مَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْبَرَ عَنْ إِيجَابِهِ ثُمَّ قَعَدَ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ ثُمَّ فَعَلَهُ؛ فَإِنَّ نُفُوسَ الْأَتْبَاعِ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُ طُمَأْنِينَتَهَا إِذَا ائْتَمَرَ وَانْتَهَى، بَلْ يَعُودُ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى الْقَوْلِ مَا يَقْدَحُ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ إِمَّا مِنْ تَطْرِيقِ4 احْتِمَالٍ إِلَى الْقَوْلِ، وَإِمَّا مِنْ تَطْرِيقِ4 تَكْذِيبٍ إِلَى الْقَائِلِ، أَوِ اسْتِرَابَةٍ فِي بَعْضِ مَآخِذِ الْقَوْلِ، مَعَ أَنَّ التَّأَسِّيَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى من يعظم في دين أو دنيا كالمغروز فِي الْجِبِلَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعِيَانِ؛ فَيَصِيرُ الْقَوْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِلِ كَالتَّبَعِ لِلْفِعْلِ؛ فَعَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ الْقَائِلُ فِي مُوَافَقَةِ فِعْلِهِ لِقَوْلِهِ يَكُونُ اتِّبَاعُهُ وَالتَّأَسِّي بِهِ، أَوْ عَدَمُ ذلك.   1 زاده ليشمل المخصص والمقيد، ولذلك قال: "وبالجملة". "د". 2 الأحوال الأربعة تختلف باختلاف القرائن والأشخاص الذين يقع في أنفسهم أحدها، وستأتي بعد في كلامه من تكذيب القائل، أو وجود ريبة وشك في صدقه، أو احتمال أن قوله لا يؤخذ على ظاهره، أو أن دليله ليس كما ينبغي، وإلا لما ساغ لنفسه تركه. "د". 3 لأن فعل ما يشبه مقدمات الحرام يوجه الظنون إلى أن هذا العالم بصدد أن يفعله؛ فلذلك زاده المؤلف هنا، وليس في الواجب مثله؛ فقوله بعد: "ثم فعله" أي: أو دار حوله. "د". 4 في "ط": "تطرق". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الرُّتْبَةِ الْقُصْوَى مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُمْ أَشَدُّ اتِّبَاعًا، وَأَجْرَى عَلَى طَرِيقِ التَّصْدِيقِ بِمَا يَقُولُونَ، مَعَ1 مَا أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ شَوَاهِدَ الْعَادَاتِ تُصَدِّقُ الْأَمْرَ أَوْ تُكَذِّبُهُ؛ فَالطَّبِيبُ2 إِذَا أَخْبَرَكَ بِأَنَّ هَذَا الْمُتَنَاوَلَ سُمٌّ فَلَا تَقْرَبْهُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَنَاوُلِهِ دُونَكَ، أَوْ أَمَرَكَ بِأَكْلِ طَعَامٍ أَوْ دَوَاءٍ لِعِلَّةٍ بِكَ وَمِثْلُهَا بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ؛ دَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى خَلَلٍ فِي الْإِخْبَارِ، أَوْ فِي فَهْمِ الْخَبَرِ؛ فَلَمْ تَطْمَئِنَّ النَّفْسُ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 44] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} الْآيَةَ [الصَّفِّ: 2] . وَيَخْدِمُ هَذَا الْمَعْنَى الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَصِدْقُ الْوَعْدِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] . وَقَالَ فِي ضِدِّهِ: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون} [التَّوْبَةِ: 75-77] . فَاعْتُبِرَ فِي الصِّدْقِ كَمَا تَرَى مُطَابَقَةُ الْفِعْلِ الْقَوْلَ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الصِّدْقِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ؛ فَهَكَذَا إِذَا أَخْبَرَ الْعَالِمُ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؛ فإنما   1 أي: فتطريق التكذيب لا يتأتى بالنسبة لهم، وكذا الاسترابة في مأخذ القول؛ فلم يبق إلا احتمال ألا يؤخذ القول على ظاهره، كما سيأتي في مثالي التحلل من العمرة والإفطار في السفر. "د". 2 المثال بعينه في "مدارج السالكين" "1/ 446, ط الفقي". 3 فقوله: {أَفَلا تَعْقِلُون} [البقرة: 44] ؛ إما محذوف المفعول، أي: ألا تدركون قبح الجمع بين المتنافيين؟ فطلب البر والإحسان من الغير هو تحقيق لكونه برًّا وإحسانًا، ونسيانهم أنفسهم منه ينافي كونه كذلك في اعتقادهم، أو أنه منزل منزلة اللازم، أي: أفقدتم العقل رأسًا حتى يصدر منكم هذا، وعلى كل؛ فهو غاية التشنيع على ارتكابه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 يُرِيدُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَأَنَا مِنْهُمْ فَإِنْ وَافَقَ صَدَقَ وَإِنْ خَالَفَ كَذَبَ1. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُنْتَصِبَ لِلنَّاسِ فِي بَيَانِ الدِّينِ مُنْتَصِبٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَإِنَّهُ وَارِثُ النَّبِيِّ، وَالنَّبِيُّ كَانَ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَكَذَلِكَ الوارث لا بد أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْأَحْكَامَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِقْرَارَاتِهِ وَسُكُوتِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ، فَإِنْ كَانَ فِي التَّحَفُّظِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي التَّحَفُّظِ فِي الْقَوْلِ؛ فَهُوَ ذَلِكَ، وَصَارَ مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى هُدًى، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ صَارَ مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى خِلَافِ الْهُدَى، لَكِنْ بِسَبَبِهِ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- رُبَّمَا تَوَقَّفُوا عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي أَبَاحَهُ لَهُمُ السَّيِّدُ الْمَتْبُوعُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ، حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِفِعْلِهِ وَإِنَّ تَقَدَّمَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ أَرْجَحَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَهُ؛ حَتَّى إِذَا فَعَلَهُ اتَّبَعُوهُ فِي فِعْلِهِ، كَمَا فِي التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ2، وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ3، هَذَا وَكُلٌّ صحيح؛ فما ظنك بمن   1 سيأتي تفصيل ذلك عند المصنف "5/ 269". 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، 5/ 322" عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان -يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه-، وذكر صلح الحديبية، وفيه: "فلما فرغ من قضية الكتاب؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا"، قال: "فوالله ما قام منهم رجل"؛ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله, أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا ... ". وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 328-331"، وانظر "5/ 264". 3 ورد في ذلك أحاديث عديدة؛ منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُبَيِّنَ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، وَيُحَافِظَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْصُومٌ؛ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ الْمُبَيَّنِ خَلَلٌ، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنِ اعْتُبِرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ؛ فَلْيُعْتَبَرْ فِي تَرْكِ اتِّبَاعِ الْقَوْلِ، وَإِذْ ذَاكَ يَقَعُ فِي الرُّتْبَةِ فَسَادٌ لَا يُصْلَحُ، وخرق لا يرقع؛ فلا بد أَنْ يَجْرِيَ الْفِعْلُ مَجْرَى الْقَوْلِ، وَلِهَذَا تُسْتَعْظَمُ شَرْعًا زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَتَصِيرُ صَغِيرَتُهُ كَبِيرَةً، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ جَارِيَةً فِي الْعَادَةِ عَلَى مَجْرَى الِاقْتِدَاءِ، فَإِذَا زَلَّ؛ حُمِلَتْ زَلَّتُهُ عَنْهُ قَوْلًا كَانَتْ أَوْ فِعْلًا لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَنَارًا يُهْتَدَى بِهِ، فَإِنْ عُلِمَ كَوْنُ زَلَّتِهِ زَلَّةً؛ صَغُرَتْ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَجَسَرَ عَلَيْهَا النَّاسُ تَأَسِّيًا بِهِ، وَتَوَهَّمُوا1 فِيهَا رُخْصَةً عَلِمَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمُوهَا هُمْ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، وإن جهل كونها زلة؛   = باب غزوة الفتح في رمضان/ رقم 4279"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 784/ رقم 113" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. وما أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1114" عن جابر؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه؛ حتى نظر الناس إليه، ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة". وما أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 21"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 3550، 3556, الإحسان" عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نهر من ماء السماء وهو على بغلة له والناس صيام، فقال: اشربوا فجعلوا ينظرون إليه، فقال: "اشربوا؛ فإني راكب وإني أيسركم، وأنتم مشاة"، فجعلوا ينظرون إليه؛ فحول وركه فشرب، وشرب الناس، وإسناده صحيح على شرط مسلم. 1 في "ط": "أو توهموا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 فَأَحْرَى أَنْ تُحْمَلَ عَنْهُ مَحْمَلَ الْمَشْرُوعِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ". قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ, وَمِنْ حُكْمِ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ"1. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ"2. وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ3 وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: "يَا مَعْشَرَ العرب, كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع   1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "17/ 17/ رقم 14"، والبزار في "مسنده" "رقم 182, زوائده"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 830"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1865" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعًا، وإسناده ضعيف، فيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف. 2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 71"، والآجري في "تحريم النرد والشطرنج" "رقم 48"، والفريابي في "صفة النفاق" "ص71"، وابن المبارك في "الزهد" "ص520"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 234"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 833"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 641، 643"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1867، 1869، 1870"، وآدم بن أبي إياس في "العلم"، والعسكري في "المواعظة"، والبغوي والإسماعيلي ونصر المقدسي في "الحجة"؛ كما في "كنز العمال" "10/ رقم 29405، 29412"، و"مسند الفاروق" "2/ 660-661" من طرق عن عمر, بعضها إسناده صحيح, قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 662"، بعد أن ساق طرقه: "فهذه طرق يشد القوي منها الضعيف؛ فهي صحيحة من قول عمر -رضي الله عنه- وفي رفع الحديث نظر، والله أعلم". 3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1868" بسند رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي الدرداء، وسيسوق المصنف لفظه "ص327". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 أَعْنَاقَكُمْ، وَزَلَّةِ عَالِمٍ، وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ؟ "1. وَمِثْلُهُ عَنْ سَلْمَانَ أَيْضًا2. وَشَبَّهَ الْعُلَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِكَسْرِ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ3. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ. قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ يَجِدُ4 مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُ؛ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ"5. وَهَذِهِ الْأُمُورُ حَقِيقٌ أَنَّ تَهْدِمَ الدِّينَ، أَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ؛ فَكَمَا تَقَدَّمَ، وَمِثَالُ كَسْرِ السَّفِينَةِ وَاقِعٌ فِيهَا، وَأَمَّا الْحُكْمُ الْجَائِرُ؛ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَأَمَّا الْهَوَى الْمُتَّبَعُ؛ فَهُوَ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَمَّا الْجِدَالُ بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ -اللَّسِنِ الْأَلَدِّ- مِنْ أَعْظَمِ الْفِتَنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَهِيبٌ6 جِدًّا، فَإِنْ جَادَلَ بِهِ مُنَافِقٌ عَلَى بَاطِلٍ أَحَالَهُ حقًّا7،   1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1872" بسند حسن، وقد روي مرفوعًا، ولا يصح، والموقوف هو الصحيح؛ كما قال الدارقطني في "العلل" "6/ 81/ رقم 992". 2 يشير إلى ما أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1873" بسنده إلى سلمان, رضي الله عنه: "كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ: زَلَّةِ عَالِمٍ، وَجِدَالِ منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ ". 3 قول المصنف: "وشبه العلماء زلة العلم ... " من كلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 982". 4 ومن ذلك كان مالك يكره كتابة العلم عنه؛ أي: الفروع خشية أن ينشر عنه في الآفاق، وقد يرجع عنه. "د". 5 أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 835، 836"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 14" وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1877". قال "ف" شارحًا معناه: "أي على ما قال العالم برأيه مع أنه قد تركه لظهور مخالفته" ا. هـ. 6 فتتقي مخالفته ولو على الوجه الذي يزينه المنافق بسلاطة لسانه. "د". 7 في الأصل و"ف": "أسأل كونه حقًّا" وفي "ط": "أحال كونه حقًّا"، وتفردت نسخة الأصل بحذف الواو بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 وَصَارَ مَظِنَّةً لِلِاتِّبَاعِ عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْمُجَادِلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخَوَارِجُ فِتْنَةً عَلَى الْأُمَّةِ؛ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ جَادَلُوا بِهِ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَوَثَّقُوا تَأْوِيلَاتِهِمْ بِمُوَافَقَةِ الْعَقْلِ1 لَهَا؛ فَصَارُوا فِتْنَةً عَلَى النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ -بِمَا مَلَكُوا2 مِنَ السَّلْطَنَةِ عَلَى الخلق- قدروا3 عَلَى رَدِّ الْحَقِّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلِ حَقًّا، وَأَمَاتُوا سُنَّةَ اللَّهِ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الشَّيْطَانِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا؛ فَمَعْلُومٌ فِتْنَتُهَا لِلْخَلْقِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَقْوَى فِي التَّأَسِّي وَالْبَيَانِ إِذَا جَامَعَتِ الْأَقْوَالَ مِنِ انْفِرَادِ الْأَقْوَالِ، فَاعْتِبَارُهَا فِي نَفْسِهَا لِمَنْ قَامَ فِي مَقَامِ الِاقْتِدَاءِ أَكِيدٌ لَازِمٌ4، بَلْ يُقَالُ: إِذَا اعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ مَنْ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَمَنْزِلَةِ التَّبْيِينِ؛ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَا هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ اعْتِبَارَيْنِ5: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَفَصَّلُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَ فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَحْوَالُهُ بَيَانًا وَتَقْرِيرًا لِمَا شَرَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا انْتَصَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَالْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُحَرَّمٌ، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُبَيِّنٌ، وَالْبَيَانُ وَاجِبٌ لَا غير، فإذا   1 قال "ف": "أي: بزعمهم موافقة العقل لها، وإلا؛ فالعقول السليمة تنبو عنها". قلت: هي في "ط": "الفعل"، ولكنها في الأصل: "العقل"، وهو أظهر. 2 في "ط": "يملكون". 3 في "د": "وقدروا" بزيادة واو في أوله. وفي "ط": "قروا". 4 ترق على ما فرض فيه الكلام أولًَا من الواجب والحرام إلى التعميم في الأحكام الخمسة، ومن خصوص البيان بالأفعال إلى البيان مطلقًا بالأقوال والأفعال. "د". 5 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 137-138". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 كَانَ مِمَّا يُفْعَلُ1 أَوْ يُقَالُ؛ كَانَ وَاجِبَ الْفِعْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُفْعَلُ؛ فَوَاجِبُ التَّرْكِ، حَسْبَمَا يَتَقَرَّرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ. لَكِنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقْتَدَى بِهِ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ حَيْثُ تُوجَدُ مَظِنَّةُ الْبَيَانِ؛ إِمَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ [التَّرْكِ، وَإِمَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ خِلَافِ الْحُكْمِ] 2، أَوْ مَظِنَّةِ اعْتِقَادِ خِلَافِهِ3. فَالْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي يُوَافِقُ الْفِعْلَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَنْدُوبًا مجهول الحكم، فإن كان مندوبًا [و] مظنة لِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ؛ فَبَيَانُهُ بِالتَّرْكِ أَوْ بِالْقَوْلِ الَّذِي يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ التَّرْكُ، كَمَا فَعَلَ فِي تَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ وَتَرْكِ4 صِيَامِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ عَدَمِ الطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةً لِلتَّرْكِ5؛ فَبَيَانُهُ بِالْفِعْلِ وَالدَّوَامِ فِيهِ عَلَى وَزَانِ الْمَظِنَّةِ؛ كَمَا فِي السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي تُنُوسِيَتْ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ. وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ بَيَانُهُ بِالتَّرْكِ، أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي يُسَاعِدُهُ التَّرْكُ إِنْ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا؛ فَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لاعتقاد   1 أي: مأذونًا فيه بأقسامه الثلاثة؛ حتى المباح يصير في حقه واجبًا، ومثله يقال فيما لا يفعل بقسميه. "د". 2 سقط من "ط". 3 مثاله: أن يجهل قوم الحديث الوارد في الندب إلى التطوع قبل صلاة المغرب بعد الأذان، ويستنكروا ذلك؛ فعلى المبين أن يفعل ذلك ليحصل البيان لأن البيان في حقه واجب، ولعل من هذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا طلب أن يطعم من غير صيد غير المحرم، وطلب أن يطعم من الجعل الذي أخذوه على الرقية؛ قيامًا بواجب البيان، والله أعلم. 4 خشية اعتقاد وجوبها ملحقة برمضان, أو اعتقاد أنها نافلة مكملة له كالنوافل البعدية في الصلاة؛ كما روي عن مالك فيها. "د". 5 أي: لإهماله وعدم العناية به مع معرفتهم له؛ فبيانه بالفعل أي بقدر ما تزول الفكرة المخالفة أو ينشط الناس لفعله وإحيائه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 التَّحْرِيمِ وَتَرَجَّحَ1 بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ تَعَيَّنَ الْفِعْلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ وَأَقْرَّ بِهِ2، وَقَدْ قَالَ3 اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَابِ: 21] . وَقَالَ4: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 50] . وَفِي حَدِيثِ الْمُصْبِحِ جُنُبًا قَوْلُهُ: "وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ" 5. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ, أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصْنَعُ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا وَاللَّهِ, قَالَتْ عائشة:   1 كذا في "ط" والأصل، وفي غيرها: "وترجيح". 2 قد يظن أن في هذا تقريرًا من المصنف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل فعلًا حكمه الكراهة بشرط "على أقل ما يمكن"؛ أي: يقتصر على القدر الذي يحصل به البيان أن الفعل المبين ليس بحرام، وإنما هو مكروه، وسيأتي في المسألة الثانية ما يفيد شرطًا آخر وهو أن لا يكثر ولا يواظب عليه، ولا سيما أن لا يكون في مواطن الاجتماعات العامة، والحق أن فعله الذي أطلق عليه المصنف مكروهًا، إنما هو في حقه من باب تعارض المصلحة والمفسدة؛ فإن في فعله مصلحة البيان، ومفسدة مخالفة النهي، ومصلحة البيان أرجح، وعليه يدل السياق، وانظر في المسألة: "المسودة في أصول الفقه" "ص74"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" "2/ 96"، و"البحر المحيط" "4/ 176" للزركشي. 3 و4 الآيتان باجتماعهما، الأولى بعمومها في طلب الاقتداء، والثانية في هذا الفعل الخاص تفيدان جواز تزوج الرجل بزوجة متبناة، وهذا كان مظنة اعتقاد التحريم أو وجود الاعتقاد فعلًا، وتقدم لنا أنه بيان بالفعل والقول معًا. "د". 5 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 781/ رقم 1110"، ومالك في "الموطأ" "1/ 289", والمذكور لفظه، ومن طريقه أحمد في "المسند" "6/ 67، 156، 245"، والشافعي في "الأم" "1/ 258"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصيام، باب فيمن أصبح جنبًا في شهر رمضان/ رقم 2389"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 106"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 213" عن عائشة -رضي الله عنها- وإسناده صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ"1. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: "أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ ... " 2 إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ زِيَادِ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ: "رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَسُوقُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَهُوَ يَقُولُ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَفْعَلْ لَمِيسَا قَالَ: فَذَكَرَ الْجِمَاعَ بِاسْمِهِ؛ فَلَمْ يُكَنِّ عَنْهُ. قال: فقلت: يابن عَبَّاسٍ! أَتَتَكَلَّمُ بِالرَّفَثِ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الرفث ما روجع به النساء"3.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنبًا، 4/ 143/ رقم 1925، 1926"، وباب اغتسال الصائم، 4/ 153/ رقم 1930، 1931، 1932"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 779-780/ رقم 1109"، ومالك في "الموطأ" "1/ 290-291" والمذكور لفظه. 2 مضى تخريجه "ص74"، وسيأتي "ص117"، وانظر تعليقنا عليه. 3 أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/ 806/ رقم 345"، وابن أبي شيبة في "المصنف", كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 115"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 276"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 263-264"،والبخاري في "تاريخه" "3/ 3", مشيرًا إلى متنه دون ذكره، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 67"، وابن عبد البر في "التمهيد" "19/ 54"، و"الاستذكار" "13/ رقم 7910" من طرق عن ابن عباس لا تسلم واحدة منها من ضعف، ولكن مجموعها يدل على أن للأثر أصلًا، وبه يصل إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم. وذكروه بألفاظ، والذي عند المصنف لفظ البيهقي، وذكره جمهرتهم بلفظ: "ننك لميسًا", وكذا سيورده المصنف "ص118"، وانظر: "علل ابن أبي حاتم" "1/ 277". قال في "النهاية في غريب الحديث" "2/ 241": "كأنه -أي: ابن عباس- يرى الرفث = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 كَأَنَّهُ رَأَى مَظِنَّةَ هَذَا الِاعْتِقَادِ؛ فَنَفَاهُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوق} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 197] ، وَأَنَّ الرَّفَثَ لَيْسَ إِلَّا مَا كَانَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ الطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةً لِأَنْ يُثَابِرَ عَلَى فِعْلِهِ؛ فَبَيَانُهُ بِالتَّرْكِ جُمْلَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ، أَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَكِنْ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ؛ كَمَا فِي سُجُودِ1 الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَكَمَا فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بن صالح، وستأتي2 إن شاء الله.   = الذي نهى الله عنه: ما خوطبت به المرأة، فأما ما يقوله ولم تسمعه امرأة فغير داخل فيه، وقال الأزهري: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة". قلت: وقوله: "إن تصدق الطير" فيريد به أنه زجر الطير، فتيامن بمرها، ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله، أفاده الشيخ أحمد أو محمود شاكر في التعليق على "تفسير ابن جرير" "4/ 126"، و"اللميس": اسم امرأة، ويقال للمرأة اللينة الملمس: اللميس، انظر: "اللسان" "6/ 209-210، مادة لمس"، والهميس: قال السرقسطي في "غريبه": "الهميس: ضرب من السير لا يسمع له وقع". قلت: وهو صوت نقل أخفاف الإبل كما أفاده ابن منظور في "اللسان" "6/ 250"، ونحوه عند "ف". وقد ورد عن ابن عباس أكثر من تفسير للرفث في آية "197" من سورة البقرة، وانظر عدا "سنن سعيد"، والتعليق عليه: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" "1/ 85-88" للشيخ عبد العزيز الحميدي. 1 تقدم إنكار مالك لأصله وإنكاره ما روي عن أبي بكر فيه. "د". قلت: ورد ذلك بثبوت أحاديث وآثار صحت فيه، جمعها السخاوي في كتابه "تجديد الذكر في سجود الشكر"؛ كما في "الضوء اللامع" "8/ 19"، و"فهرس ابن غازي" "ص169" وغيره؛ كما في كتابنا: "مؤلفات السخاوي" "رقم 69" ولله الحمد والمنة. 2 في المسألة السابعة "ص114". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 وعلى الجملة؛ فالمراعى ههنا1 مَوَاضِعُ طَلَبِ2 الْبَيَانِ الشَّافِي الْمُخْرِجِ عَنِ الْأَطْرَافِ وَالِانْحِرَافَاتِ، وَالرَّادِّ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ تَبَيَّنَ ما تقرر بحول الله، ولا بد مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ أَوْ بَعْضِهَا حَتَّى يَظْهَرَ فِيهَا الْغَرَضُ المطلوب، والله المستعان.   1 أي: في التفاصيل السابقة من ترك الفعل جملة أو الفعل على الدوام وهكذا، إنما هو في المواطن التي يطلب فيها البيان الشافي، أما المواطن الأخرى؛ فيكفي فيها القول مثلًا. "د". 2 في "ط": "الطلب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمَنْدُوبُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ مَنْدُوبًا أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ، لَا فِي الْقَوْلِ وَلَا فِي الْفِعْلِ، كَمَا لَا يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَإِنْ سُوِيَّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ؛ فَعَلَى وَجْهٍ1 لَا يُخِلُّ بِالِاعْتِقَادِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الِاعْتِقَادِ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقٍ، بِمَعْنَى أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَالْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ إِذَا كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مُطْلَقِ2 التَّسْوِيَةِ وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُمْكِنَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْبَيَانِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّفْرِقَةُ، وَهُوَ تَرْكُ الِالْتِزَامِ فِي الْمَنْدُوبِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَاصَّةِ كَوْنِهِ مَنْدُوبًا. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعث هَادِيًا وَمُبَيِّنًا لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ3 فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ؛ كَنَهْيِهِ عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ أَوْ لَيْلَتِهِ   1 في الأصل: "فلا وجه"، وفي حاشيته: "لعل الصواب: "فلا بد من وجه لا يخل بالاعتقاد"، وترجمة المسألة على هذا هو أن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استويا في القول والفعل مطلوب من كل فرقة، هذا حاصل المسألة، ويعني بذلك أن الأمر إذا كان للندب وجب بيانه لئلا يلتبس بالواجب، لأنه مساوٍ له في الدلالة القولية الأمرية، وكذا إذا واظب القدرة على فعلين وكان أحدهما واجبًا والآخر مندوبًا؛ وجب عليه بيان المندوب منهما خيفة اعتقاد وجوبه" ا. هـ. 2 أي: التسوية المطلقة؛ أي: التامة التي يدخل فيها المساواة في الاعتقاد، أما التسوية في القول والفعل فقط؛ فجعلها صحيحة، إذا كانت على وجه لا يخل بالاعتقاد في المندوب بجعله واجبًا، لكنه قال في صدر المسألة: "إن التسوية بين المندوب والواجب ليست من حق المندوب، لا في القول، ولا في الفعل أيضًا" فيؤخذ من آخر الكلام بيان معنى صدره، وأن كونها ليست من حقه لا يقتضي بطلانها مطلقًا. "د". قلت: انظر "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 91" للأستاذ محمد الأشقر. 3 أي: البيان بالقول كما في المسلك الأول، وبالفعل كما في المسلك الثاني. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 بِقِيَامٍ1، وَقَوْلِهِ: "لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا فِي صِلَاتِهِ" 2، بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ وَاسِعُ بْنُ حِبَّانَ: "انْصَرَفْتُ مِنْ قِبَلِ شِقِّيَ الْأَيْسَرِ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِكَ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُكَ فَانْصَرَفْتُ إِلَيْكَ. قَالَ: أَصَبْتَ، إِنَّ قَائِلًا يَقُولُ: انْصَرِفْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأَنَا أَقُولُ: انْصَرَفَ كَيْفَ شِئْتَ، عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ"3. وَفِي بعض الأحاديث بعدما قَرَّرَ حُكْمًا غَيْرَ وَاجِبٍ: "مِنْ فَعَلَ فَقَدْ أحسن، ومن لا فلا حرج"4.   1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 4/ 232/ رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهة صوم يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم 1144"، والترمذي في "الجامع" "أبواب القيام، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده، 2/ 123/ رقم 740"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب الصيام" كما في "تحفة الأشراف" "10/ 351"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيام، باب في صيام الجمعة، 1/ 549/ رقم 1723"، وأحمد في "المسند" "2/ 495" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، لفظ مسلم. 2 مضى تخريجه "3/ 500"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا. وفي "ط": "من صلاته"!! 3 مضى تخريجه "3/ 501". 4 أخرج أبو داود في "السنن" "1/ 9/ رقم 35", ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" "2/ 84-85/ رقم 367, بتحقيقي"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 118/ رقم 3204"، وأحمد في "المسند" "2/ 371"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 121/ 122"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 94، 104"، من طريق عيسى بن يونس عن ثور عن الحصين الحبراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة مرفوعًا: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، ومن فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 ..........................................................................   = إلا أن يجمع كثيبًا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا حرج". وأخرجه من طرق أخرى عن ثور به: ابن ماجه في "السنن" "1/ 121-122 و2/ 1157/ رقم 337، 338, 3498", والدارمي في "السنن" "1/ 169-170"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "1/ 122"، و"مشكل الآثار" "1/ 127/ رقم 138"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 137", وابن حبان في "الصحيح" "4/ 257-258". وإسناده ضعيف، فيه حصين الحبراني، ويقال: الحميري، وحبران بطن من حمير، قال ذلك أبو بكر بن أبي داود، وهو مجهول؛ كما في "التقريب"، وفي "الكاشف" "1/ 239": "لا يعرف"، وانظر: "الجرح والتعديل" "9/ رقم 1758". قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 103": "مداره على أبي سعد الحبراني الحمصي، وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول، وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في "العلل"". ا. هـ. قلت: انظر كلام الدارقطني في "العلل" "8/ 283-285/ رقم 1570"، وقال البيهقي في "المعرفة" "1/ 201"، "ليس بالقوي"، وكلام ابن حجر السابق هو ما تقتضيه قواعد المصالح، بخلاف ما قرره بعد في "الفتح" "1/ 257" عندما حسن إسناد أبي داود، وتبعه العيني في "عمدة القاري" "1/ 722"، وأقره البنوري في "معارف السنن" "1/ 115"، وسبقه النووي في "المجموع" "2/ 55"؛ فقال عنه: "هذا حديث حسن" وانظر: "خلاصة البدر المنير" "1/ رقم 117"، و"تحفة المحتاج" "1/ رقم 39"، و"السلسلة الضعيفة" "3/ رقم 1028". والعجب من "د"؛ فإنه اقتصر في الهامش على قوله: "جزء من حديث أخرجه في "التيسير" عن الستة؛ إلا الترمذي". قلت: يغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، 2/ 790/ رقم 1121 بعد 107" عن حمزة بن عمرو الأسلمي -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله! أجد بي قوة على الصيام في السفر؛ فهل عليَّ جناج؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" 1. وَقَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عَلَى بَعْضٍ مِمَّا لَيْسَ تَأْخِيرُهُ بِوَاجِبٍ: "لَا حَرَجَ". قَالَ الرَّاوِي: فَمَا سُئِل يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ؛ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" 2 مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ عَلَى بَعْضٍ مَطْلُوبٌ، لَكِنْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ 3. وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُتَقَدَّمَ رَمَضَانُ بِيَوْمٍ أَوْ يومين4. وحرم5 صيام يوم العيد.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الزكاة في الإسلام، 1/ 106/ رقم 46"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 40-41/ رقم 11" عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- مرفوعًا. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، 1/ 180/ رقم 83، وكتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة, 3/ 569/ رقم 1736", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج, باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الحلق، 2/ 948/ رقم 1306"، عن عبد الله بن عمرو, رضي الله عنهما. 3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469". 4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469". 5 قال في "الاعتصام" "1/ 509-510, ط ابن عفان": "إن ذلك النهي علله العلماء بخوف أن يعد ذلك من رمضان"، يعني: فيحسب واجبًا، وأصله تطوع مندوب، ومثله يقال في نهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته بقيام، وقد جعله هناك من باب ما يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أو جزء منها، قال: "فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع"، وقوله: "وحرم صيام يوم العيد" لا يظهر وجه اندراجه هنا؛ لأنه منهي عنه نهي استقلال. "د". قلت: ومضى تخريج النهي عن صيام يوم العيد "3/ 469". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وَنَهَى1 عَنِ التَّبَتُّلِ2 مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 8] . وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ3، وَقَالَ: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ" 4 مَعَ أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْحَسَنَاتِ خَيْرٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ مِمَّا خِلَافُهُ مَطْلُوبٌ، وَلَكِنْ تَرَكَهُ وَبَيَّنَهُ خَوْفًا أَنْ يَصِيرَ مِنْ قَبِيلٍ آخَرَ فِي الِاعْتِقَادِ. وَمَسْلَكٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ5، قَالَتْ عَائِشَةُ: "وَمَا سَبَّحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وإني لأسبحها"6.   1 كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص، وفيه أنه رده على عثمان بن مظعون وهو في "الصحيحين" وغيرهما، ومضى تخريجه "2/ 228". 2 وهو الانقطاع الصرف عن شئون هذه الحياة كرهبانية النصارى، أما التبتل في الآية، فبمعنى الإخلاص في العبادة أو نحوه، والمقام مستوفى في كتاب "الاعتصام" "1/ 436, ط ابن عفان"، وهذا وما بعده لم يتبين فيه معنى الذريعة إلى اعتقاد الوجوب، ولذلك قال: "مع أن الاستكثار من الحسنات خير"، وقال -صلى الله عليه وسلم- في رد التبتل لعثمان بن مظعون ومن معه: "فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني"، ويؤخذ منه أنه ليس بمشروع، فضلًا عن كونه مندوبًا يخشى من الاستدامة عليه اعتقاد الوجوب، كما هو أصل الموضوع، فقوله: "مما خلافه مطلوب" لا يظهر في التبتل ولا يظهر في الوصال أيضًا. "د". 3 كما في "صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"، وانظر ما مضى "2/ 239". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782" عن عائشة, رضي الله عنها. 5 مضى تخريجه "3/ 260". 6 مضى تخريجه "3/ 260"، وهو في "الصحيحين". وقد ثبت في "الصحيح" أن معاذة سألت عائشة: "كم كان يصلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله". وجمع الحديث مع سابقه أن ذلك العلم من طريق غير الرؤية. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وَقَدْ قَامَ لَيَالِيَ مِنْ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ كَثُرُوا فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَعَلَّلَ بِخَشْيَةِ الْفَرْضِ1. وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرَضَ بِالْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ النَّاسِ. وَالثَّانِي: فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْخَوْفُ أَنْ يَظُنَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ بَعْدَهُ إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُتَمَكِّنٌ2. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا عَلَى3 هَذَا الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ لَمَّا فَهِمُوا هَذَا الْأَصْلَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ؛ فَتَرَكُوا أَشْيَاءَ وَأَظْهَرُوا ذَلِكَ لِيُبَيِّنُوا أَنَّ تَرْكَهَا غَيْرُ قَادِحٍ وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً؛ فَمِنْ ذَلِكَ تَرْكُ عُثْمَانَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ: "إِنِّي إِمَامُ النَّاسِ، فَيَنْظُرُ إِلَيَّ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَقُولُونَ: هَكَذَا فُرِضَتْ"4، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أن القصر   1 مضى تخريجه "3/ 260". 2 يريد أنه قوي وحال محله متمكن فيه، وبه يستغني عن الوجه الأول الذي أوردوا عليه ثم أجابوا عنه بما فيه ضعف، قال القاضي أبو الطيب: "يحتمل أن يكون أوحى إليه أنه إن داوم معهم على هذه الصلاة فرضت عليهم؛ فالمؤلف يرى قوة هذا الوجه، ويبني عليه استدلاله، ولا يريد أنه ممكن كما قال بعضهم؛ لأن مجرد الإمكان الضعيف لا يصحح له جعله من مسالك استدلاله". "د". وكتب "ف" هنا: "لعله ممكن". 3 سقط من "ط". 4 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 518-519/ رقم 4277"، وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 425" نحوه عن الزهري، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 144" من = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 مَطْلُوبٌ1. وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ: "شَهِدْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ"2، وَقَالَ بِلَالٌ: "لَا أُبَالِي أَنْ أُضَحِّيَ بِكَبْشٍ أَوْ بِدِيكٍ"3. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي لَحْمًا بِدِرْهَمَيْنِ يوم الأضحى، ويقول   = طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: "إن القصر سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبيه، ولكنه حدث طغام -يعني: فتح الطاء والمعجمة- فخفت أن يستنوا"، وعن ابن جريج أن أعرابيًّا ناداه في منى: "يا أمير المؤمنين! ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين"، وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا، قاله ابن حجر في "الفتح" "2/ 571"، وزاد: "ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام". وما ذكره المصنف عند أبي شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص182-183"، والطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص38-39, ط التونسية"، ومنه نقل المصنف كما صرح في "الاعتصام" "2/ 106"، وانظره: "2/ 31-32"، وانظر "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد "ص24"، وما قدمناه في التعليق على "ص59". قلت: في غير الأصل: "فنظر". 1 أي: سنة وليس واجبًا كما هو مذهب الحنفية، ولا هو رخصة بمعنى لا حرج في فعله، وبهذا يتم استدلاله على الموضوع. "د". 2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 381/ رقم 8139"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265"، و"الخلافيات" "3/ ق 279"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358"، والطبراني في "الكبير", كما في "المجمع" "4/ 18"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن أبي الدنيا في "الضحايا", كما في "التلخيص الحبير" "4/ 145", عن أبي سريحة الغفاري, واسمه حذيفة بن أسيد, به، وإسناده صحيح. 3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 385/ رقم 8156"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358" من طريقين عن عمران بن مسلم الجعفي عن سويد بن غفلة عن بلال به، وإسناده صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 لِعِكْرِمَةَ: "مَنْ سَأَلَكَ؛ فَقُلْ هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ غَنِيًّا"1. وَقَالَ بَعْضُهُمْ2: "إِنِّي لَأَتْرُكُ أُضْحِيَّتِي وَإِنِّي لَمِنْ أَيْسَرِكُمْ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَظُنَّ الْجِيرَانُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ"3. وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ: "كُنَّا نُضَحِّي عَنِ النِّسَاءِ وَأَهْلِينَا؛ فَلَمَّا تَبَاهَى النَّاسُ بِذَلِكَ تَرَكْنَاهَا"4، وَلَا خِلَافَ [فِي] 5 أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي صَلَاةِ الضحى: "إنها بدعة"6، وحمل على أحد   1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 382-383/ رقم 8146"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265" و"الخلافيات" "3/ ق 279، 280"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358". 2 هو ابن مسعود, رضي الله عنه. "د". قلت: بل القائل هو أبو مسعود الأنصاري. 3 أخرجه السرقسطي في كتابه من طريق سعيد بن منصور ثنا سفيان عن منصور عن أبي وائل عن أبي مسعود الأنصاري، قاله الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 206-207". وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 383/ رقم 8148، 8149"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 295"، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 145"، وعزاه لـ"سنن سعيد بن منصور". 4 ذكره أبو شامة في "الباعث" "ص182". وقد نقل المصنف هذه الأثار عن الطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص39"؛ كما صرح هو بذلك في "الاعتصام" "2/ 107 و2/ 602, ط ابن عفان". وانظر: "الاستذكار" "15/ 162-163". 5 سقطت من "ط". 6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي, صلى الله عليه وسلم 3/ 599/ رقم 1775" بسنده إلى مجاهد؛ قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم؛ فقال: بدعة". وانظر: "فتح الباري" "3/ 52"؛ ففيه عنه -رضي الله عنه- آثار عديدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، وَإِمَّا أَفْذَاذًا عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ1، وَقَدْ مَنَعَ النِّسَاءَ الْمَسَاجِدَ مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" 2؛ لِمَا3 أَحْدَثْنَ فِي خُرُوجِهِنَّ وَلِمَا يُخَافُ فِيهِنَّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ؛ فَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ صيام ست من شوال4، وذلك   1 انظر "الاعتصام" "1/ 447, ط ابن عفان" للمصنف. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، 2/ 347/ رقم 865، وباب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، 2/ 351/ رقم 873، وكتاب الجمعة، باب منه، 2/ 282/ رقم 899، 900، وكتاب النكاح، باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره، 9/ 337/ رقم 5238"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، 1/ 326-327/ رقم 442" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. 3 فليس لما يخشى من اعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب، ولا لبيان أن تركها ليس بقادح وإن كانت مطلوبة، بل لهذين المعنيين اللذين ذكرهما، وحينئذ؛ فما وجه إدراج هذا في المقام؟ "د". قلت: وجه قول المصنف في "الاعتصام" "1/ 511, ط ابن عفان": "وبالجملة؛ فكل عمل أصله ثابت شرعًا؛ إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة، فتركه مطلوب في الجملة أيضًا من باب سد الذرائع". 4 قال مالك في "الموطأ" "1/ 311" في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: "إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، وأراهم يعملون ذلك". قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 107 و2/ 604, ط ابن عفان" عقبه: "فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه، لكنه لم ير العمل عليه، وإن كان مستحبًّا في الأصل لئلا يكون ذريعة لما قال، كما فعل الصحابة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 لِلْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مَعَ أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي صِيَامِهَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ1؛ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ ضَمُّهَا إِلَى رَمَضَانَ. قَالَ الْقَرَافِيُّ2: "وَقَدْ وَقَعَ3 ذَلِكَ لِلْعَجَمِ". [وَقَالَ] 4 الشافعي في   = -رضي الله عنهم- في الأضحية، وعثمان في الإتمام في السفر". وانظر لزامًا: "الاستذكار" "10/ 258-259" لابن عبد البر، و"الذخيرة" "2/ 530" للقرافي، و"رفع الإشكال" للعلائي "ص77 وما بعدها"، و"المفهم شرح صحيح مسلم" "4/ 1950-1951" لأبي العباس القرطبي. أما مذهب الإمام أبي حنيفة؛ فنقل المصنف عنه الكراهة، وهو المنقول عنه في كتب أصحابه. قال ابن الهمام في "فتح القدير" "2/ 349": "صوم ستة من شوال، عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشايخ لم يروا به بأسًا". 1 وذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر". أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا. وقد ضعف ابن دحية الكلبي في كتابه "العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور"، هذا الحديث، ورد عليه الحافظ العلائي في كتاب مفرد طبع حديثًا، وعنوانه: "رفع الإشكال عن صيام ستة أيام من شوال"، وانظر: "لطائف المعارف" "ص389, ط المحققة عن دار ابن كثير" لابن رجب. 2 قلت: وعبارة القرافي في "الفروق" "2/ 191، الفرق الخامس والمائة": "قال لي الشيخ زكي الدين عبد العظيم المحدث, رحمه الله تعالى: إن الذي خشي منه مالك -رحمه الله تعالى- قد وقع بالعجم؛ فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم، والقوانين وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد"!! وانظر: "إيضاح السالك إلى قواعد الإمام مالك" "ص221-222" للونشريسي، و"ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين" "ص97-98"، وانظر: "الاعتصام" "2/ 604, ط ابن عفان". 3 فلينظر هذا الشوكاني الذي شنع على الإمامين لقولهم بالكراهة خشية هذا المحظور. "د". 4 سقط من "ط". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 الْأُضْحِيَّةِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ اسْتَدَلَّ1 عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِ وَتَعْلِيلِهِمْ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ أَصْلٌ عِنْدَهُ مُتَّبَعٌ، مُطَّرِدٌ فِي الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ نَقْطَعُ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ إِذَا اسْتَوَى الْقَوْلَانِ أَوِ الْفِعْلَانِ مَقْصُودٌ شَرْعًا، وَمَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ قَطْعًا2 كَمَا يُقْطَعُ بِالْقَصْدِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا اعْتِقَادًا. فَصْلٌ: وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحْصُلُ بِأُمُورٍ: مِنْهَا بَيَانُ الْقَوْلِ إِنِ اكْتُفِيَ بِهِ، وَإِلَّا؛ فَالْفِعْلُ [وَهُوَ أَحْرَى] بَلْ هُوَ فِي هَذَا النَّمَطِ مَقْصُودٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي سَوَابِقِ الشَّيْءِ الْمَنْدُوبِ وَفِي قَرَائِنِهِ وَفِي لَوَاحِقِهِ3، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَشْبَاهُهُ. وَأَكْثَرُ مَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ فِي الْكَيْفِيَّاتِ الْعَدِيمَةِ النَّصِّ، وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ؛ فَلَا كَلَامَ فِيهَا، فَالْفِعْلُ أَقْوَى إِذًا فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ يصدق القول أو يكذبه.   1 فقد اعتمد على فعل الصحابة فيه وتعليلهم؛ فهو قد سلم أن الترك للعلة التي هي خوف مظنة الوجوب؛ فهو من الباب نفسه وإن لم يصرح بكراهتها إذا وجدت العلة؛ فلذا قال المؤلف: "بنحو من ذلك". "د". 2 ينزل معناه على مقتضى قوله في صدر المسألة: "فَإِنْ سُوِيَّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ؛ فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد"، وذلك بإخفائه عن العامة من المقتدى به مثلًا. "د". 3 ففي ترك القيام في رمضان بعد حصوله ليالي بيان باللواحق، وفي استخفائه بصلاة الضحى حتى لم تره السيدة عائشة بيان بالمقارن. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 فَصْلٌ: وَكَمَا أَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ الْمَنْدُوبِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فِي الْفِعْلِ كَذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فِي التَّرْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُفْهَمْ كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَنْدُوبًا، هَذَا وَجْهٌ1. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِخْلَالًا بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ فِيهِ وَمِنَ الْمَنْدُوبَاتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالْكُلِّ؛ فَيُؤَدِّي تَرْكُهُ مطلقًا إلى الإخلال بالواجب، بل لا بد [فيه] مِنَ الْعَمَلِ بِهِ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ فَيَعْمَلُوا بِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ! إِنْ قَدَرْتَ أن تصبح و [تمسي] ليس فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ! وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي؛ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي؛ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ"2؛ فَجَعَلَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ إِحْيَاءً لها؛ فليس بيانها مختصًّا بالقول.   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 436 و22/ 407". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 46/ رقم 2678"، وإسناده ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال: "وعلي بن زيد صدوق؛ إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره"، قال: "وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة: حدثنا علي بن زيد وكان رفاعًا، ولا نعرف لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله، وقد روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس، ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب". قال: "وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه, ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا غيره". وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع الطبعات، واستدركناه من "جامع الترمذي". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي نُزُولِ الْحَاجِّ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ: "أَسْتَحِبُّ لِلْأَئِمَّةِ وَلِمَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنْ لَا يُجَاوِزُوهُ حَتَّى يَنْزِلُوا بِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ1 حَقِّهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ2 أَمْرٌ قَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخُلَفَاءُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِحْيَاءُ سُنَنِهِ وَالْقِيَامُ بِهِ3 لِئَلَّا يُتْرَكَ هَذَا الْفِعْلُ جُمْلَةً، وَيَكُونُ4 لِلنُّزُولِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمُ النُّزُولِ بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، لَا فَضِيلَةَ لِلنُّزُولِ بِهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ النُّزُولُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ". هَكَذَا نَقَلَ الباجي5. و [هو] ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَنْدُوبَ6 لا بد مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، وَذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَإِظْهَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ7 فِي حَدِيثِ عُمَرَ "بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ، وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ" 8: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ رَأَى أَنَّ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ نَهْجٌ لِلسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِلْقُدْوَةِ، يَعْنِي: فَعَمِلَ هُنَا عَلَى مُقْتَضَى الْأَخْذِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ فِي تَرْكِ تكلف ثوب آخر الصلاة، وَفِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ غَسْلِ الثَّوْبِ. وَفِي9 الحديث: "واعجبًا لك يابن العاص! لئن كنت تجد ثيابًا؛ أفكل   1 كذا في النسخ كلها، وفي مطبوع "المنتقى" للباجي: "في". 2 عند الباجي: "لأن هذا أمر". 3 في مطبوع "المنتقى": " .... سنته والقيام بها". 4 أي: ينسى حتى يصير هكذا في اعتقاد الناس. "د". وفي "ط": "ويكون النزول". 5 في "المنتقى" "3/ 44". 6 سقطت "في" من "د" وسقط "هو" من جميع النسخ إلا من "ط"، وسقطت من "ط" كلمة "مذهب" وقال "ف": "صحته أن في المندوب"!! 7 هو الباجي، وكلامه الآتي في "المنتقى شرح الموطأ" "1/ 103". 8 مضى تخريجه "3/ 502". 9 لو قال: "ولذلك في الحديث: واعجبًا ... إلخ"؛ لكان أجود سبكًا وأظهر في ضم أجزاء الحديث بعضها بعضًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 النَّاسِ يَجِدُ ثِيَابًا! وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً" 1 الْحَدِيثَ. وَلِمَكَانِ هَذَا وَنَحْوِهِ اقْتَدَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَفِيدُهُ2؛ فَفِي "الْعُتْبِيَّةِ" قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَخَّرْتَ الصَّلَاةَ شَيْئًا. فَقَالَ: "إِنَّ ثِيَابِي غُسِلَتْ"3. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: "يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ تِلْكَ الثِّيَابِ لِزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لَعَلَّهُ تَرَكَ أَخْذَ سِوَاهَا مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ لِيُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ، ائْتِسَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ فَقَدْ كَانَ أَتْبَعَ النَّاسِ لِسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ"4. وَمِمَّا نَحْنُ فِيهِ مَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَنْ [صَارَ] 5 تَرْكُ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لَهُ إِلْفًا وَعَادَةً، وَخِيفَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَزْجُرَهُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا" 6 الْحَدِيثَ.   1 قطعة من الأثر السابق، ومضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح. 2 لأن عمر بن الخطاب جد عمر بن عبد العزيز لأمه. "د". 3 "العتبية" "1/ 456, مع "شرحه" ونحوه عند ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص43". 4 "البيان والتحصيل" "1/ 456-457"، وانظر فيه: "18/ 555" عن اتباع عمر بن عبد العزيز لجده, رضي الله عنهما. 5 سقط من "ط". 6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125/ رقم 644، وباب فضل العشاء في الجماعة، 2/ 141/ رقم 657"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، 1/ 451/ رقم 651" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. وقال "د": "وسيأتي له أن ذلك كان خاصًّا بالمنافقين لبيان ابن مسعود الآتي في المسألة الثانية من الكتاب العزيز". قلت: قوله ضعيف لثلاثة أوجه، ذكرها ابن القيم في "الصلاة وحكم تاركها" "ص115-117"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "23/ 228"، وانظر كتابنا: "القول المبين" "ص291-293". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وَقَالَ: "أَيْضًا فِيمَا إِذَا تَوَاطَأَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ". قَالَ: "لِأَنَّ اعْتِيَادَ جَمِيعِ النَّاسِ لِتَأْخِيرِهَا مُفْضٍ بِالصَّغِيرِ النَّاشِئِ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَقْتُ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ". وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا فِي مَسَائِلَ أُخَرَ، وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ اعْتِرَاضِ الْمُحْتَسِبِ عَلَى أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلفت فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فِي بَعْضِ وُجُوهِهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُوَ يَرَى إِقَامَتَهَا وَهُمْ لَا يَرَوْنَهَا1، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِإِقَامَتِهَا عَلَى رَأْيِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِئَلَّا يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَظُنُّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ. وَهَذَا الْبَابُ يَتَّسِعُ، وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَقْوِيَةِ اعْتِبَارِ الْبَيَانِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ قِصَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ عُرْوَةَ بْنِ عِيَاضٍ حِينَ نَكَتَ بِالْخَيْزُرَانَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذِهِ غَرَّتْنِي مِنْكَ -لِسَجْدَتِهِ الَّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ-، وَلَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي؛ لَأَمَرْتُ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ فَقُوِّرَ"2. وَقَدْ عَوَّلَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَعَلُوهُ أَصْلًا يَطَّرِدُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِعْمَالِهِ فِي الْجُمْلَةِ وإن اختلفوا في التفاصيل؛ كقوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا 3 وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] .   1 انظر: "الحاوي الكبير" "2/ 383". 2 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص114"، وابن رشد في "البيان والتحصيل" "1/ 486". 3 كان اليهود يذكرون الكلمة سبًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يريدون بها, لعنهم الله: اسمع لا سمعت؛ فنهوا عنها. كما روي أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- سمعها منهم فقال: يا أعداء الله! عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده؛ لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأضربن عنقه. قالوا: أَوَلستم تقولونها؟ فنزلت الآية نهيًا للمؤمنين عن قولها؛ سدًّا للباب، وقطعًا للألسنة، وبعدًا عن المشابهة. ا. هـ. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 108] . وَقَدْ مَنَعَ1 مَالِكٌ لِمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وحده أن يُفْطِرَ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْطَارِ الْفُسَّاقِ مُحْتَجِّينَ بِمَا احْتَجَّ بِهِ2، وَقَالَ بِمِثْلِهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَا زُورٍ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَفْعَلْ؛ فَمَنَعَهُ مِنْ وَطْئِهَا إِلَّا أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ3. وَرَاعَى زِيَادٌ مِثْلَ هَذَا فِي صَلَاةِ النَّاسِ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ4 إِذَا صَلَّوْا فِي صَحْنِهِ وَرَفَعُوا مِنَ السُّجُودِ مَسَحُوا جِبَاهَهُمْ مِنَ التُّرَابِ؛ فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحَصَى فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: "لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيَظُنُّ الصَّغِيرُ إِذَا نَشَأَ أَنَّ مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ"5. وَمَسْأَلَةُ مَالِكٍ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى "الْمُوَطَّأِ" فَنَهَاهُ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ من هذا6 القبيل أيضًا7.   1 المثبت من "ط"، وفي غيرها: "رأى مالك ... أن لا يفطر". 2 قال مالك في "الموطأ" "1/ 287": "ومن رأى هلال شوال وحده؛ فإنه لا يفطر لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونًا، ويقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال". 3 انظر: "الذخيرة" "10/ 262-263, ط دار الغرب" للقرافي. 4 في "ط" زيادة: "كانوا". 5 ذكره في "الاعتصام" "2/ 108"، وقال عقبه: "وهذا في مباح؛ فكيف به في المكروه أو الممنوع؟ "، وصرح أنه نقل هذه الحكاية عن الماوردي، وكذا سيفعل هنا في "ص120". 6 لأنه إذا تطاول الزمان على الاقتصار عليه في العمل يظن الناس أنه لا يصح العمل بغيره من الأحاديث والسنن. "د". 7 نحوه في "جامع بيان العلم" "رقم 870" لابن عبد البر، و"ذيل المذيل" "107" لابن جرير، و"السير" "8/ 70"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 209" للذهبي، و"التزيين" "41" للسيوطي، و"كشف المغطى في فضل الموطا" "53-55" لابن عساكر، و"ترتيب المدارك" "1/ 192، 193، 2/ 72" للقاضي عياض، و"إعلام الموقعين" "2/ 296-297"، و"انتصار الفقير السالك" "ص191-192، 207-208"، و"مفتاح السعادة" "2/ 87"، و"الديباج المذهب" "1/ 119"، و"إتحاف السالك" "رقم 224" لابن ناصر الدين، وفي ثبوت هذه القصة نظر؛ كما في كتابنا: "قصص لا تثبت"، يسر الله إتمامه بخير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وَلَقَدْ دَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ؛ فَقَالَ لَهُ: "انْظُرْ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ: اخْلَعْ نَفْسَكَ أَوْ نَقْتُلُكَ. قَالَ لَهُ: أَمُخَلَّدٌ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ يَمْلِكُونَ لَكَ جَنَّةً أَوْ نَارًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَا تَخْلَعْ قَمِيصَ اللَّهِ عَلَيْكَ فَتَكُونَ سُنَّةً، كُلَّمَا كَرِهَ قَوْمٌ خَلِيفَتَهُمْ خَلَعُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ"1. وَلَمَّا هَمَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ عَلَى مَا بَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ شَاوَرَ مَالِكًا فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: "أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ بَعْدَكَ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُغَيِّرَهُ؛ إِلَّا غَيَّرَهُ فَتَذْهَبَ هَيْبَتُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ"2. فَصَرَفَهُ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ؛ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهَا تَصِيرُ سُنَّةً مُتَّبَعَةً بِاجْتِهَادٍ أو غيره؛ فلا يثبت على حال.   1 أخرجه خليفة في "تاريخه" "1/ 183"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1223-1224"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 1/ 45"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص359, ترجمة عثمان"، والخبر في "التمهيد والبيان" "ق 114". 2 نحوه في "ترتيب المدارك" "1/ 213, ط بيروت"، وفيه المهدي وليس المنصور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمُبَاحَاتُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهَا1 مُبَاحَاتٍ أَنْ لَا يُسَوَّى2 بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَلَا الْمَكْرُوهَاتِ3؛ فَإِنَّهَا إِنْ سُوِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ بِالدَّوَامِ عَلَى الْفِعْلِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ فِيهَا مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِ4 ذَلِكَ؛ تُوُهِّمَتْ مَنْدُوبَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْحِ الْجِبَاهِ بِأَثَرِ الرَّفْعِ مِنَ السُّجُودِ5، وَمَسْأَلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي غَسْلِ ثَوْبِهِ مِنَ الِاحْتِلَامِ وَتَرْكِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ6. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ7 عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ؛ فَجَلَسَ سَاعَةً ثُمَّ دَعَا بِالْوُضُوءِ وَالطَّعَامِ، فَقَالَ: "ابْدَءُوا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي نَفْسَهُ- لَا يَغْسِلُ يَدَهُ. فَقَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ رَأْيِ الْأَعَاجِمِ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَكَلَ مَسَحَ يَدَهُ بِبَاطِنِ قَدَمِهِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَأَتْرُكُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ, فَمَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ صَالِحٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا نَأْمُرُ الرَّجُلَ أَنْ لَا يَغْسِلَ   1 في "ف": "من حيث استقرارها"، وقال: "لعله هنا وفي المسألة الثامنة الآتية من حقيقة استقرارها كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه". 2 أي: في الفعل والقول، بل يفرق بهما أو بأحدهما؛ كما سيأتي أنه وإن داوم على ترك أكل الضب والفوم؛ إلا أنه بين حكمهما ببيان سبب امتناعه عن تعاطيهما. "د". 3 واقتصر عليهما؛ لأن لا يرتقي الوهم في المباحات إلى توهمهما واجبات أو محرمات، بخلاف المكروهات كما يأتي بعد. "د". 4 عطف على قوله "بالدوام"؛ فترك عمر المباح من استبدال ثوب آخر بثوبه في هذا المقام، وهو يظن الاستنان ترك لما فيه تسوية للمباح بالمسنون. "د". 5 انظر: "ص112". 6 انظر: "3/ 502، 4/ 109". 7 في "ترتيب المدارك" "1/ 210, ط مكتبة دار الحياة, بيروت". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 يَدَهُ، وَلَكِنْ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ فَلَا، أَمِيتُوا سُنَّةَ الْعَجَمِ، وَأَحْيُوا سُنَّةَ الْعَرَبِ، أَمَّا سَمِعْتَ قَوْلَ عُمَرَ: تَمَعْدَدُوا، وَاخْشَوْشِنُوا، وَامْشُوا حُفَاةً، وَإِيَّاكُمْ وَزِيِّ الْعَجَمِ"1. وَهَكَذَا إِنْ سَوَّى فِي التَّرْكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَاتِ؛ رُبَّمَا تُوُهِّمَتْ مَكْرُوهَاتٍ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ الضَّبَّ وَيَقُولُ: "لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ" 2، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ؛ فَظَهَرَ حُكْمُهُ. وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ ثُومٌ لَمْ3 يَأْكُلْ مِنْهُ، قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ, وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ ريحه" 4 وفي رواية [أخرى] 5, أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "كُلُوا؛ فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إني أخاف أن أؤذي صاحبي" 6.   1 أخرجه علي بن الجعد في "مسنده" "رقم 1030، 1031"، وأبو عوانة في "مسنده" "5/ 456، 459، 460" بإسناد صحيح. قال "ف": "التمعدد: الصبر على عيش معد بن عدنان، وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش، يقول: فكونوا مثلهم، ودعوا التنعم وزي العجم". وانظر في شرحه والتعليق عليه: كلام ابن القيم في "الفروسية" "ص120، 121, بتحقيقي"، وترى تخريجه أوعب مما هنا. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه. 3 في "ط": "ولم .... فقال له ... ". 4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة أكل الثوم وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار تركه وكذا ما في معناه، 3/ 1623/ رقم 2053" عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- مرفوعًا. 5 زيادة من "م". 6 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في الرخصة في الثوم مطبوخًا، 4/ 262/ رقم 1810"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب أكل الثوم والبصل والكراث، 2/ 1116/ رقم 3364"، والحميدي في "المسند" "1/ 162/ رقم 339"، والدارمي في "السنن" "2/ 102" عن أم أيوب -رضي الله عنها- مرفوعًا بألفاظ، واللفظ المذكور لفظ الترمذي؛ إلى أن أوله: "كلوه"، وهو حسن، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، خرجتها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن الدخان"، وهو مطبوع ولله الحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةٍ خَشِيَتْ أَنْ يُطْلِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي، وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِيِ لِعَائِشَةَ. فَفَعَلَ؛ فَنَزَلَتْ1: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا 2 بَيْنَهُمَا صُلْحًا} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 128] ؛ فَكَانَ هَذَا تَأْدِيبًا وَبَيَانًا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِأَمْرٍ3 رُبَّمَا اسْتُقْبِحَ بِمَجْرَى الْعَادَةِ؛ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَكْرُوهِ، وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ نَحْوٌ مِنَ الأدلة على استقرار المندوبات.   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النساء، 5/ 249/ رقم 3040" عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس به بهذا اللفظ، وقال: "هذا حديث حسن غريب". قلت: إسناده ضعيف؛ لأن رواية سماك عن عكرمة خاصة مضطربة؛ كما في "التهذيب" "4/ 204-205". وله شاهد في "صحيح البخاري" "كتاب التفسير، باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ... } ، 8/ 265/ رقم 4601، وكتاب النكاح، باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا ... } ، 9/ 304/ رقم 5206، وباب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، 9/ 312/ 5212", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع, باب جواز هبتها نوبتها لضرتها, 2/ 1085/ رقم 1463" عن عائشة -رضي الله عنها- بدون ذكر نزول الآية. 2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو: "يصَّالحا" بفتح الياء والتشديد، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {يُصْلِحَا} بضم الياء والتخفيف، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "238". 3 هو النزول عن حق المرأة في القسم لزوجة أخرى؛ فبين بهذا جوازه ولو لم يحصل هذا البيان لفهم من ترك هذا المباح جريًا على العادة كراهته شرعًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمَكْرُوهَاتُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهَا مَكْرُوهَاتٍ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُبَاحَاتِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهَا إِذَا أُجْرِيَتْ ذَلِكَ الْمَجْرَى تُوُهِّمَتْ مُحَرَّمَاتٍ، وَرُبَّمَا طَالَ الْعَهْدُ فَيَصِيرُ التَّرْكُ وَاجِبًا1 عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ ارْتِكَابًا لِلْمَكْرُوهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْبَيَانُ آكَدُ، وَقَدْ يُرْتَكَبُ النَّهْيُ الْحَتْمُ إِذَا كَانَتْ لَهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ أَلَا تَرَى إِلَى كَيْفِيَّةِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ2 عَلَى الزَّانِي، وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَهُ: "أَنِكْتَهَا"3 هَكَذَا مِنْ غَيْرِ كِنَايَةٍ، مَعَ أَنَّ ذِكْرَ [هَذَا] اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَعْرِضِ الْبَيَانِ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؟ غَيْرَ أَنَّ التَّصْرِيحَ هُنَا آكَدُ، فَاغْتُفِرَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا، أَلَا تَرَى إِلَى إِخْبَارِ عَائِشَةَ عَمَّا فعلته مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ4، وَقَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ" 5، مَعَ أَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْبَيَانِ منهي عنه؟   1 وتقدم أنه إذا أدى الفعل أو الترك إلى اعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب وجب البيان بالقول أو الفعل. "د". 2 لو قال: "تقرير الزاني"؛ لكان أخصر وأوضح. "د". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت، 12/ 35/ رقم 6824" عن ابن عباس, رضي الله عنهما. 4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص83". 5 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص74"، وأوهم صنيع المصنف في "ص94" أن الحديث في الإصباح جنبًا في الصوم، وأوهم كلامه هنا أن الحديث لعائشة وأنه في التقاء الختانين، مع أنه صرح هناك أنه لأم سلمة، وهو كما في مصادر تخريجه في ذكر جواز التقبيل للصائم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ارْتِجَازِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِقَوْلِهِ: ......... .......................... ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا1 مِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ2 فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهَا إِذَا عُمِلَ بِهَا دَائِمًا وَتُرِكَ اتِّقَاؤُهَا تُوُهِّمَتْ مُبَاحَاتٍ؛ فَيَنْقَلِبُ حُكْمُهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّغْيِيرِ وَالزَّجْرِ عَلَى مَا يَلِيقُ3 بِهِ فِي الْإِنْكَارِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي هِيَ عُرْضَةٌ لِأَنْ تُتَّخَذَ سُنَنًا، وَذَلِكَ الْمَكْرُوهَاتُ4 الْمُفَعْوِلَةُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَفِي مَوَاطِنِ الِاجْتِمَاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْمَحَاضِرِ الْجُمْهُورِيَّةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ شَدِيدَ الْأَخْذِ عَلَى مَنْ فَعَلَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ، بَلْ وَمِنَ الْمُبَاحَاتِ5؛ كَمَا أَمَرَ بِتَأْدِيبِ مَنْ وَضَعَ رِدَاءَهُ أَمَامَهُ مِنَ الْحَرِّ6، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَصْلٌ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَتَفَرَّعُ عَنْهَا قَوَاعِدُ فِقْهِيَّةٌ وَأُصُولِيَّةٌ، مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنِ الْتَزَمَ عِبَادَةً مِنِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ النَّدْبِيَّةِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَيْهَا مُوَاظَبَةً يَفْهَمُ   1 مضى تخريجه مع شرحه في التعليق على "ص94". 2 بل هو مطلوب متى كان للبيان والفرق بين المكروهات والمحرمات كما هو أصل المسألة. "د". قلت: معنى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يفعل ما فيه الإثم في قوله السابق، بل المصلحة الراجحة ألغت التحريم؛ فعاد الفعل مباحًا، بل واجبًا في تلك الحالة الخاصة. 3 فالزجر عن المكروه لا يبلغ به مبلغ الزجر عن الحرام. "د". 4 في الجزء الثاني من "الاعتصام" شيء كثير من أمثلتها. "د". 5 أي: التي يتوهم أنها قربة. "د". 6 ستأتي القصة بتمامها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 الْجَاهِلُ مِنْهَا الْوُجُوبَ، إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ مَرْمُوقًا، أَوْ مَظِنَّةً لِذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْوَاجِبِ الْمُكَرَّرِ الِالْتِزَامُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَنْدُوبِ عَدَمُ الِالْتِزَامِ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ فَهِمَ النَّاظِرُ مِنْهُ نَفْسَ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لِلْوَاجِبِ؛ فَحَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَضَلَّ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَتَأَتَّى عَلَى كَيْفِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِهَا فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْأُخْرَى، أَوْ ضُمَّتْ عِبَادَةٌ أَوْ غَيْرُ عِبَادَةٍ إِلَى الْعِبَادَةِ قَدْ يُفْهَمُ بِسَبَبِ الِاقْتِرَانِ مَا لَا يُفْهَمُ دُونَهُ، أَوْ كَانَ الْمُبَاحُ يَتَأَتَّى فِعْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ؛ فَيُثَابَرُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ تَحَرِّيًا لَهُ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُ، أَوْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي التَّرْكِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ النَّاسُ، قَرَأَهَا فِي كَرَّةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ مَوْضِعِهَا تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ؛ فَلَمْ يَسْجُدْهَا، وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ" 1. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ؛ فَقَالَ: "أَيُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَ؟ "2 إِنْكَارًا لِمَا يُوهِمُهُ سُؤَالُهُ مِنْ تَأْكِيدِ الطلب فيها عند الوضوء.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله -عز وجل- لم يوجب السجود، 2/ 557/ رقم 1077". 2 المشهور عن مالك أنه كان يقول هذه المقولة في الجهر بالتسمية في الصلاة، وليس في الوضوء؛ إذ هي مستحبة عنده فيه، ثم رأيت القرافي في "الذخيرة" "1/ 284" يقول عن التسمية في الوضوء: "استحسنها مالك -رحمه الله- مرة، وأنكرها مرة، وقال: أهو يذبح؟ ما علمت أحدًا يفعل"، وانظر: "عقد الجواهر الثمينة" "1/ 44". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا نُبَالِي أَبَدْأَنَا بِأَيْمَانِنَا أَمْ بِأَيْسَارِنَا"1 يَعْنِي: فِي الْوُضُوءِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ التَّيَامُنُ فِي الشَّأْنِ كُلِّهِ2. وَمِثَالُ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ يُلْتَزَمُ فِيهَا كَيْفِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِنْكَارُ مَالِكٍ لِعَدَمِ3 تَحْرِيكِ الرِّجْلَيْنِ في القيام للصلاة4. "استدراك*". وَمِثَالُ ضَمِّ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ إِلَى الْعِبَادَةِ حِكَايَةُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ5، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَعَ عَمْرٍو: "لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً، بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ"6. وَمِثَالُ فِعْلِ الْجَائِزِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْوُضُوءِ قَالَ: "لَا، الْوُضُوءُ مَرَّتَانِ مَرَّتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ ثلاث"، مع أنه   1 المشهور في هذه العبارة أنها لعلي لا لعمر -رضي الله عنهما- كما قال المصنف، وأخرجها عنه أحمد في العلل ومعرفة الرجال "1/ 205, رواية عبد الله"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 39"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 324, بتحقيقي"، والدارقطني في "السنن" "1/ 88-89"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 42" بإسناد منقطع، لم يسمع عبد الله بن عمرو بن هند من علي، مع ضعف في عبد الله بن عمرو بن هند، قال الدارقطني: "ليس بالقوي". "استدراك*". 2 ودليله ما أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، 2/ 523/ رقم 426"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، 1/ 226/ رقم 268" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله". 3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 196"، و"الاعتصام" "2/ 542, ط ابن عفان". 4 قال ابن رشد: "كره مالك أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، وهو من محدثات الأمور". "د". 5 وقد تقدمت "ص112". 6 مضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 لَمْ يُحَدَّ فِي الْوُضُوءِ وَلَا فِي الْغُسْلِ إِلَّا مَا أَسْبَغَ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: "وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَحِمَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا رَأَى مَنْ يَقْتَدِي بِهِ يَتَوَضَّأُ مَرَّةً مَرَّةً فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يُحْسِنُ الْإِسْبَاغَ بِوَاحِدَةٍ فَيُوقِعُهُ فِيمَا لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهِ"1. وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا فُعِلَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَحَيْثُ يُمْكِنُ الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاعِلِ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ وَحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ؛ فَلَا بَأْسَ، كَمَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي صِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ: إِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مُعْتَقِدًا وَجْهَ الصِّحَّةِ؛ فَلَا بَأْسَ، وَكَذَا قال مالك في المرة الواحدة: "لَا أُحِبُّ ذَلِكَ إِلَّا لِلْعَالِمِ بِالْوُضُوءِ"، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْوَاحِدَةَ حَيْثُ لَا يُقْتَدَى بِهِ؛ فَلَا بَأْسَ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَالِكٍ فِيهِ عَدَمُ التَّوْقِيتِ2. فَأَمَّا إِنْ أَحَبَّ الِالْتِزَامَ، [وَأَنْ] 3 لَا يَزُولَ عَنْهُ وَلَا يُفَارِقُهُ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَرُبَّمَا عَدَّهُ الْعَامِّيُّ وَاجِبًا أَوْ مَطْلُوبًا أَوْ مُتَأَكَّدَ الطَّلَبِ بِحَيْثُ لَا يترك، ولا يكون كذلك شرعًا؛ فلا بد فِي إِظْهَارِهِ مِنْ عَدَمِ الْتِزَامِهِ فِي بَعْضِ الأوقات، ولا بد فِي الْتِزَامِهِ مِنْ عَدَمِ إِظْهَارِهِ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ4 الْمَذْكُورِ فِي أول كتاب الأدلة.   1 انظر: "الذخيرة" "1/ 286-287, ط دار الغرب" للقرافي. 2 على التحديد بالعدد، وأن المقصود الإسباغ. "د". 3 سقط من "ط". 4 وهو المحافظة على قصد الشارع، وأنه لا بد من اعتبار الكلي والجزئي معًا في كل مسألة؛ فلا تهمل القواعد الكلية، كما لا تهمل الأدلة الجزئية إذا حصل تعارض، لا يحري الأعمال بالطريق المرسومة لذلك، وعلى هذا؛ ففي مسألتنا وجدت أدلة جزئية تدل على أن بعض المطلوبات غير الواجبة أظهرها -صلى الله عليه وسلم- وواظب عليها، وذلك كالإقامة لصلاة الفرض ورفع اليدين عند تكبيرة الإحرام والبدء بالسلام على اليمين وهكذا؛ فهذه وأمثالها لا بد من استثنائها من هذه القاعدة حتى لا تهمل هذه الأدلة الجزئية المتفق عليها، ولا يضر هذا في تأصيل المسألة كما تقدم له في كتاب الأدلة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ لِلدَّوَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ1؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَمَا يُطْلَقُ الدَّوَامُ عَلَى ما لا يُفَارَقُ أَلْبَتَّةَ كَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا تُرِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لَمْ يَخْرُجْ صَاحِبُهُ عَنْ أَصْلِ الدَّوَامِ، كَمَا لَا نَقُولُ فِي الصَّحَابَةِ حِينَ تَرَكُوا التَّضْحِيَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مُدَاوِمِينَ عَلَيْهَا؛ فَالدَّوَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ عَدَمُ التَّرْكِ رَأْسًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْغَلَبَةُ فِي الْأَوْقَاتِ أَوِ الْأَكْثَرِيَّةُ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَى صَاحِبِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا فِي اللُّغَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ2 قَدِ الْتَزَمَتْ فِي السُّلُوكِ مَا لَا يَلْزَمُهَا حَتَّى سَوَّتْ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فِي الْتِزَامِ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فِي الْتِزَامِ التَّرْكِ، بَلْ سَوَّتْ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي التَّرْكِ، وَكَانَ هَذَا النَّمَطُ دَيْدَنُهَا لَا سِيَّمَا مَعَ تَرْكِ أَخْذِهَا بِالرُّخَصِ؛ إِذْ مِنْ مَذَاهِبِهَا عَدَمُ التَّسْلِيمِ لِلسَّالِكِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ سَالِكٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْجُمْهُورَ، بَنَوْا طَرِيقَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَلَامِيذِهِمْ عَلَى كَتْمِ3 أَسْرَارِهِمْ وَعَدَمِ إِظْهَارِهَا، وَالْخَلْوَةِ بِمَا الْتَزَمُوا مِنْ وَظَائِفِ السُّلُوكِ وَأَحْوَالِ الْمُجَاهَدَةِ خَوْفًا مِنْ تَعْرِيضِ مَنْ يَرَاهُمْ وَلَا يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ إِلَى ظَنِّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاجِبًا، أَوْ ما هو4   1 مضى تخريجه "1/ 526 و2/ 405"، وهو صحيح. 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإنما كانت"، وفي "م": "التزمت السلوك". 3 وبذلك كانوا جارين على مقتضى القواعد المتقدمة؛ فلم يخالفوا الشريعة بعملهم. "د". 4 في "ط": "وما هو". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 جَائِزٌ غَيْرَ جَائِزٍ أَوْ مَطْلُوبًا، أَوْ تَعْرِيضِهِمْ لِسُوءِ الْقَالِ1 فِيهِمْ؛ فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي كَتْمِ أَسْرَارِ مَوَاجِدِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ2 يَسْتَنِدُونَ، وَلِأَجْلِ إِخْلَالِ بَعْضِهِمْ بِهَذَا الْأَصْلِ؛ إِمَّا لِحَالٍ غَالِبَةٍ، أَوْ لِبِنَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ صَحِيحٍ3، انْفَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابُ سُوءِ الظَّنِّ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَبَابُ فَهْمِ الْجُهَّالِ عَنْهُمْ ما لم يقصدوه، وهذا كله محظور.   1 كذا في "ط"، وفي النسخ المطبوعة: "السؤال القال"!! وكتب "د" ما نصه: "صوابه: "لسوء القال فيهم"، وهو مصدر قال، يغلب ذكره في الشر". 2 وهو أن الالتزام للأعمال الندبية إنما يمنع حيث أمكن الاقتداء فيما يفعل بحضرة الناس. "د". 3 وهذا حالهم وديدنهم، ولذا شكا منهم كبار علماء الملة، وللطرطوشي فتوى مهمة فيهم، انظرها في "تفسير القرطبي" "11/ 237-238". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ 1: الْوَاجِبَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ وَاجِبَاتٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا تُتْرَكُ وَلَا يُسَامَحُ فِي تَرْكِهَا أَلْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَسْتَقِرُّ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا تُفْعَلُ وَلَا يُسَامَحُ فِي فِعْلِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّا نَسِيرُ مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ مَا إِذَا تُرِكَتْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ2، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا إِذَا فُعِلَتْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَيْضًا حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا كَلَامٌ فِي مُتَرِتِّبَاتِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ تَحَكُّمَاتِ الْعِبَادِ. كَمَا أَنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ مَا إِذَا تُرِكَتْ وَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا إِذَا فُعِلَتْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا3 حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. فَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ يُخَالِفُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ؛ فَمِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِ أَحْكَامِهَا تَغْيِيرُهَا فِي أَنْفُسِهَا؛ فَكُلُّ مَا يُحْذَرُ فِي عَدَمِ الْبَيَانِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ يُحَذَرُ هُنَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هُنَالِكَ يَجْرِي مَثَلُهَا هُنَا. وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ: إِذَا وَضَعَ الشَّارِعُ حَدًّا فِي فِعْلٍ مُخَالِفٍ فَأُقِيمَ ذَلِكَ الْحَدُّ عَلَى الْمُخَالِفِ؛ كَانَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ [فِيهِ] مُقَرَّرًا مُبَيِّنًا، فَإِذَا لَمْ يُقَمْ؛ فَقَدْ أُقِرَّ عَلَى غَيْرِ مَا أَقَرَّهُ الشَّارِعُ، وَغُيِّرَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الحكم، ووقع بيانه مخالفًا؛ فيصير المنتصب   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 686-687". 2 في "ط": "ديني". 3 في "ط": "عليه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 لِتَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ قَدْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ؛ فَيَجْرِي1 فِيهِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا رَأَى الْجَاهِلُ مَا جَرَى؛ تَوَهَّمَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَرَّرَ الْمُنْتَصِبُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهٍ ثُمَّ أَوْقَعَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ حَصَلَتِ الرِّيبَةُ، وَكَذَّبَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَسَادٌ، وَبِهَذَا الْمِثَالِ2 يَتَبَيَّنُ أَنَّ وَارِثَ النَّبِيِّ يَلْزَمُهُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا؛ فِي أَنْفُسِهَا، وَفِي لَوَاحِقِهَا، وَسَوَابِقِهَا، وَقَرَائِنِهَا، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَرْعًا؛ حَتَّى يَكُونَ دِينُ اللَّهِ بَيِّنًا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَإِلَّا؛ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159] .   1 في "ط": "فجرى". 2 في الأصل: "المثل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَا يُخْتَصُّ هَذَا الْبَيَانُ الْمَذْكُورُ بِالْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، بَلْ هُوَ لَازِمٌ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ وَالشُّرُوطَ وَالْمَوَانِعَ وَالْعَزَائِمَ وَالرُّخَصَ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمَعْلُومَةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، لَازِمٌ بَيَانُهَا قَوْلًا وَعَمَلًا، فَإِذَا1 قُرِّرَتِ الْأَسْبَابُ قَوْلًا، وَعُمِلَ عَلَى وَفْقِهَا إِذَا انْتَهَضَتْ؛ حَصَلَ بَيَانُهَا لِلنَّاسِ، فِإِنْ2 قُرِّرَتْ، ثُمَّ لَمْ تُعْمَلْ مَعَ انْتِهَاضِهَا كَذَّبَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ، وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ إِذَا انْتَهَضَ السَّبَبُ مَعَ وُجُودِهَا فَأُعْمِلَ، أَوْ مَعَ فُقْدَانِهَا فَلَمْ يُعْمَلْ؛ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ، فَإِنْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ وَقَعَ الْخِلَافُ؛ فَلِمَ يَنْتَهِضِ الْقَوْلُ بَيَانًا، وَهَكَذَا الْمَوَانِعُ وَغَيْرُهَا. وَقَدْ أَعْمَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ فِي الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ3 وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ4، وَأَعْمَلَ الْأَسْبَابَ، وَرَتَّبَ الْأَحْكَامَ حَتَّى فِي نَفْسِهِ، حِينَ أَقَصَّ مِنْ نَفْسِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-5, وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَالشَّوَاهِدُ [عَلَى هَذَا] لَا تُحْصَى، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تحت هذه الجملة، والتنبيه كافٍ.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإن"، وكتب "ق": "لعله: "وإن"". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإن". 3 في عمرة الحديبية أحل هو والصحابة، وأما في عمرة حجته؛ فالصحيح أنه كان قارنًا وساق الهدي، فلم يحل هو لذلك، ولكنه أمر من لم يسق الهدي بالإحلال من العمرة، سواء أكان مهلًّا بالعمرة فقط أم كان مهلًّا في أول أمره بالحج ثم فسخه في عمرة؛ كما فعله أكثر الصحابة. "د". قلت: وإحلاله في عمرة الحديبية مضى لفظه، وتخريجه في التعليق على "ص87". 4 مضى تخريجه "ص87-88". 5 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الديات، باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، 4/ 183/ رقم 4537"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب القصاص من السلاطين، 8/ 34"، وأحمد في "المسند" "1/ 41"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 480"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 174-175/ رقم 196"، والبيهقي في = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيَانٌ صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ في صحته؛ لأنه لذلك بعث، قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] , وَلَا خِلَافَ فِيهِ1. وَأَمَّا بَيَانُ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى مَا بَيَّنُوهُ؛ فَلَا إشكال في صحته أيضًا،   = "السنن الكبرى" "9/ 29، 42" و"الشعب" "5/ 555/ رقم 2379"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 170، 172-173"، والآجري في "أخلاق أهل القرآن" "رقم 26"، ومسدد كما في "المطالب العالية" "ق 75/ ب"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 439" عن أبي فراس, وهو مقبول, أن عمر -رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه". وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 468/ رقم 18040"، والبزار في "مسنده" "رقم 285"، والدارقطني في "الأفراد" "ق20/ 1, الأطراف" من وجه آخر عنه، وفيه ضعف. وقد وردت قصص كثيرة تشهد لهذا الحديث، منها: عند الطبراني: عن عبد الله بن جبير الخزاعي، واختلف في صحبته، والراجح أنه ليس له صحبة، ولذا قال عنه في "التقريب": "مجهول". وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 465-466/ رقم 18037": عن أبي سعيد الخدري، وإسناده واهٍ جدًّا، فيه أبو هارون العبدي، واسمه عمارة بن جوين، وهو متهم. وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 469/ رقم 18042" من مرسل سعيد بن المسيب. وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 466، 467/ رقم 18038، 18039"، من مرسل الحسن البصري. وكذا عند ابن إسحاق, كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 278"، وعبد الرزاق كما في "الإصابة" "3/ 218" عن سواد بن غزية، وإسنادهما ضعيف. ومجموع هذه الطرق صالح لصحة معنى ما قال المصنف، والله أعلم. 1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 236". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ المبين لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [الْمَائِدَةِ: 6] ، وَإِنْ لَمْ يُجْمِعُوا1 عَلَيْهِ؛ فَهَلْ يَكُونُ بَيَانُهُمْ حُجَّةً، أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَرَجَّحُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي الْبَيَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَتُهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ، لَمْ تَتَغَيَّرْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَمْ تَنْزِلْ عَنْ رُتْبَتِهَا الْعُلْيَا فَصَاحَتُهُمْ؛ فَهُمْ أَعْرَفُ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ عَنْهُمْ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ؛ صَحَّ اعْتِمَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَالثَّانِي: مُبَاشَرَتُهُمْ لِلْوَقَائِعِ وَالنَّوَازِلِ، وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُمْ أَقْعَدُ فِي فَهْمِ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ2 وَأَعْرَفُ بِأَسْبَابِ التَّنْزِيلِ، وَيُدْرِكُونَ مَا لَا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. فَمَتَى جَاءَ عَنْهُمْ تَقْيِيدُ بَعْضِ الْمُطْلَقَاتِ، أَوْ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْعُمُومَاتِ؛ فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ صَوَابٌ، وَهَذَا3 إِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهادية.   1 أي: بأن اختلفوا، أو بين بعضهم ولم ينقل بيان عن غيره يخالفه، وقد فصل فجعل الأول محل اجتهاد، بمعنى أنه لا يترجح الوقوف عند بيانهم لهذا الاختلاف، وجعل الثاني محل الاعتماد والترجح على بيان غيرهم. "د". قلت: انظر في ذلك "المسودة" "ص315-317، 321"، و"البرهان" "2/ 1359"، و"شرح اللمع" "2/ 749"، و"أصول السرخسي" "2/ 105"، و"التمهيد" "3/ 217"، و"الإحكام" "4/ 149" للآمدي، و"تيسير التحرير" "3/ 132"، و"شرح تنقيح الفصول" "445"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 14، 573-576". 2 أي: التي تجيء من جهة الحوادث والنوازل المقتضية لنزول الآية والحديث، أما القرائن المقالية؛ فيشترك فيهما معهم غيرهم من أهل الفهم في ذلك، وإن كان مقتضى الوجه الأول أن بيانهم أرجح من جهة اللغة أيضًا. "د". 3 في "ط": "هذا" بغير واو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 مِثَالُهُ قَوْلُهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ" 1؛ فَهَذَا التَّعْجِيلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ إِيقَاعُهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا؛ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ2 بَيَانًا أَنَّ هَذَا التَّعْجِيلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، بَلْ إِذَا كَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَهُوَ تَعْجِيلٌ أَيْضًا، وَأَنَّ التَّأْخِيرَ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَهْلُ المشرق3 شيء   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعًا. 2 أخرجه مالك في "الموطأ" "193, رواية يحيى و128, رواية محمد بن الحسن ورقم 774, رواية أبي مصعب"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 225"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 238"، وقد صحح نحوه ابن عبد البر في "التمهيد" "22/ 23-24". 3 يشير المصنف "وهو من أهل القرن الثامن الهجري" إلى تأخير أهل المشرق الفطر في زمانه وأوانه إلى بعد الغروب, وقد شكا الحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ" من هذا الصنيع؛ فقال في "فتح الباري" "4/ 199" في آخر شرحه "باب تعجيل الإفطار" من "صحيح البخاري"، قال ما نصه: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان ... وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت، زعموا! فأخروا الفطر، وعجلوا السحور، وخالفوا السنة؛ فلذلك قل عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان". وكتب "د" هنا ما نصه: "من هم أهل المشرق الذين كان عمر وعثمان يقصدان مخالفتهم، وبيان أنهم متعمقون؟ "، وهذا ينبئ عن عدم فهم عبارة المصنف، وقد أخرج مالك في "الموطأ" "193, رواية يحيى ورقم 773, رواية أبي مصعب", ومن طريقه الفريابي في "الصيام" "رقم 57"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 491/ رقم 3631"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 12" عن سعيد بن المسيب رفعه: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، ولم يؤخروه تأخير أهل المشرق". وأخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 46-48"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 225/ رقم 7589" عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن عمر قوله: "لن يزالوا -أي: أهل الشام- ما عجلوا الفطر، ولم يتنطعوا تنطع أهل العراق، وفيه قصة، وإسناده قوي، ويظهر لي أن مرسل سعيد السابق عند مالك في آخره إدراج، وهو "ولم يؤخروه ... "، وأهل العراق هم المرادون به، وذكر ابن عبد البر مرسل سعيد وحذف آخره، وتكلم عمن وصل أوله فحسب على غير عادته، ولم يفطن للإدراج الذي فيه، راجع "التمهيد" "20/ 22"، و"الاستذكار" "10/ 40". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 آخَرُ دَاخِلٌ فِي التَّعَمُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ1، وَكَذَلِكَ2 ذُكِرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الْإِفْطَارَ3؛ فَنُدِبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى التَّعْجِيلِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ" 4 احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مُقَيَّدَةً5 بِالْأَكْثَرِ، وَهُوَ أَنْ يُرَى بَعْدَ   1 مضت بعض النصوص "1/ 522 و2/ 228". وفي "ط": "وداخل ... ". 2 يعني: وبيانًا لأن ندب التعجيل لمخالفة اليهود المتعمقين في التأخير لا يستدعي أن يكون الإفطار قبل الصلاة؛ فينتظم هذا في سلك ما قبله. "د". 3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر، 2/ 305/ رقم 2353"، والنسائي في "الكبرى", كما في "التحفة" "11/ 5/ رقم 15024"، وأحمد في "المسند" "2/ 450"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 11"، والفريابي في "الصيام" "رقم 36، 37"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 2060"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 273-274/ رقم 3503، 3509, الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 431"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 237" و"الشعب" "7/ 492/ رقم 3633"، وابن عبد البر في "التمهيد" "22/ 23" بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر, إن اليهود والنصارى يؤخرون". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" 4/ 119/ رقم 1906"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. 5 أي: فيكون فطر اليوم التالي للرؤية إذا وقعت بعد الغروب، أما إذا رئي على غير الأكثر وهو الرؤية قبل الغروب؛ فإن الفطر لليوم نفسه لا للتالي؛ فبين عثمان أن هذا التقييد غير لازم، وأن الفطر لليوم التالي للرؤية مطلقًا قبل الغروب وبعده، فلم يفطر حتى أمسى، والمسألة خلافية؛ فأبو يوسف يقول: إن الرؤية نهارًا قبل الزوال للماضي، وبعده للمستقبل، وأبو حنيفة ومالك والشافعي كعثمان يرون أنها لا يعتد بها للماضي مطلقًا قبل الزوال وبعده. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ فَبَيَّنَ عُثْمَانُ [بْنُ عَفَّانَ] أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَرَأَى الْهِلَالَ فِي خِلَافَتِهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى أَمْسَى وَغَابَتِ الشَّمْسُ1. وَتَأَمَّلْ؛ فَعَادَةُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي "مُوَطَّئِهِ" وَغَيْرِهِ الْإِتْيَانُ بِالْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ مُبَيِّنًا بِهَا السُّنَنَ، وَمَا يُعْمَلُ بِهِ مِنْهَا وَمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَمَا يُقَيَّدُ بِهِ مُطْلَقَاتُهَا، وَهُوَ دَأْبُهُ وَمَذْهَبُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَمِمَّا بَيَّنَ كَلَامُهُمُ اللُّغَةَ أَيْضًا، كَمَا نَقَلَ مَالِكٌ فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ وَغَسَقِ اللَّيْلِ كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ2، وَفِي مَعْنَى السَّعْيِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ3، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةَ: 9] ، وَفِي مَعْنَى الْإِخْوَةِ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ4 أَنَّ الْإِخْوَةَ اثنان فصاعدًا5، كما تبين بكلامهم   1 أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "2/ 480, ط دار الفكر"؛ قال: "حدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة أن الناس رأوا هلال الفطر حين زاغت الشمس؛ فأفطر بعضهم، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: أما أنا؛ فمتم صيامي إلى الليل". وقال مالك في "الموطأ" "1/ 287, رواية يحيى": "بلغني أن الهلال رئي في زمان عثمان بن عفان بعشي، فلم يفطر عثمان حتى أمسى، وغابت الشمس". وانظر: "الاستذكار" "10/ 19". 2 انظر: "الموطأ" 33, رواية يحيى و1/ 10، 11, رواية أبي مصعب". 3 انظر: "الموطأ" "87, رواية يحيى و1/ 174-175, رواية أبي مصعب"، و"معجم ابن الأعرابي" "رقم 1134"، و"البرهان في علوم القرآن" "1/ 222". قال "ماء": "أي: امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، والمراد بذكر الله هنا الخطبة، والصلاة وذروا البيع؛ أي: اتركوا المعاملة، على أن البيع مجاز عن ذلك؛ فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات". 4 في "الموطأ" والأصل و"ط": "مضت"، وفي جميع النسخ المطبوعة: "قضت". 5 انظر: "الموطأ" "313, رواية يحيى و2/ 524, رواية أبي مصعب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. لَا يُقَالُ: [إِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ رَاجِعٌ إِلَى تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ مِنَ النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ1؛ لِأَنَّا نَقُولُ:] 2 نَعَمْ، هُوَ تَقْلِيدٌ، وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ إِلَّا لَهُمْ لِمَا3 تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ عَرَبِيُّ الْأَصْلِ وَالنِّحْلَةِ، [وَبَيْنَ] 2 مَنْ تَعَرَّبَ. ................................. ... غَلَبَ التَّطَبُّعُ شِيمَةَ الْمَطْبُوعِ4 وَأَنَّهُمْ شَاهَدُوا مِنْ أَسْبَابِ التَّكَالِيفِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهَا مَا لَمْ يُشَاهِدْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَنَقْلُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ على ما هي عليه كالمعتذر؛ فلا بد مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ فَهْمَهُمْ فِي الشَّرِيعَةِ أَتَمُّ وَأَحْرَى بِالتَّقْدِيمِ، فَإِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي السُّنَّةِ مِنْ بَيَانِهِمْ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ التَّفْسِيرِ، بِحَيْثُ لَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَمْ يُمْكِنْ تَنْزِيلُ النَّصِّ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ انْحَتَمَ الْحُكْمُ بِإِعْمَالِ ذَلِكَ الْبَيَانِ لِمَا ذُكِرَ، وَلِمَا جاء في   1 أي: في تقليده، وكذا في حجية مذهبه؛ فقد أجمعوا على أنه ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين مقدمًا على القياس، والمختار أنه ليس بحجة، راجع: "الأحكام" "4/ 201" للآمدي، والمؤلف اختار طريقًا وسطًا يؤيد فيه القول بالحجية في نوع منه، وهو ما احتاج إلى القرائن الحالية التي هم أعرف بها من غيرهم، وكذا ما يحتاج إلى القوة في معرفة لغة العرب، وإذا قرأت مسألتي مذهب الصحابي في "الأحكام" حكمت بأنهما مأخذ المؤلف وأصله الذي استنبط منه مسألته لهذه، وكما أن الخلاف حاصل في حجية مذهب الصحابي على من بعده، كذلك الخلاف في تقليده حاصل، والمختار المنع أيضًا إلا للعامي إذا عرف حقيقة مذهب الصحابي؛ فيجوز له تقليده. "د". 2 في "د": "كما". 3 سقط من "ط". 4 عزاه الشريشي في "شرح المقامات" "2/ 507" للشريف الرضي، وهو في "شعره" "ص78" جمع ضحى عبد العزيز، وهو ضمن قصيدة طويلة في الغزل، وأوله: هيهات لا تتكلفن في الهوى ... ............................... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 السُّنَّةِ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ وَالْجَرَيَانِ عَلَى سُنَنِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تمسكوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" 1، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحاديث؛ فإنها عاضدة لهذا   1 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 126، 127"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200-201/ رقم 6407"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 44/ رقم 2676"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، 1/ 15-16 و16، 17/ رقم 42-44"، وابن جرير في "جامع البيان" "10/ 212"، والدارمي في "السنن" "1/ 44"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 205/ رقم 102"، وابن أبي عاصم في "السنة" "1/ 17، 18، 19، 20، 29، 30"، ومحمد بن نصر في "السنة" "ص21، 22"، والحارث بن أبي أسامة في "المسند" "ق 19, مع بغية الباحث"، والآجري في "الشريعة" "ص46، 47"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 104/ رقم 45, مع الإحسان"، والطبراني في "المعجم الكبير "18/ 245، 246، 247، 248، 249، 257"، والمعجم الأوسط" "رقم 66"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 222، 224"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 95، 96، 97"، و"المدخل إلى الصحيح" "1/ 1"، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" "2/ 423"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 176-177"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" "1/ 10-11"، و"الاعتقاد" "ص113"، و"دلائل النبوة" "6/ 541-542"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "ص115-116/ رقم 50 و51"، و"السنن الكبرى" "10/ 114"، وابن وضاح في "البدع" "ص23، 24"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "5/ 220، 221 و10/ 114، 115"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 69"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 74، 75"، والهروي في "ذم الكلام" "69/ 1-2"، وابن عساكر في "تاريخ دمش" "11/ 265/ 1-266/ 1"، وأحمد بن منيع في "المسند"؛ كما في "المطالب العالية" "3/ 89" من طرق كثيرة عن العرباض بن سارية, رضي الله عنه. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقال الهروي: "وهذا من أجود حديث في أهل الشام"، وقال البزار: "حديث ثابت صحيح"، وقال البغوي: "حديث حسن"، وقال ابن عبد البر: "حديث ثابت"، وقال الحاكم: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي، وقال أبو نعيم: "هو حديث جيد من صحيح الشاميين"، وصححه الضياء المقدسي في "جزء في اتباع السنن واجتناب البدع" "رقم 2"، وقال ابن كثير في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" "رقم 36": صححه الحاكم وقال: ولا أعلم له علة، وصححه أيضًا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه". وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 107/ رقم 2455"، و"جامع العلوم والحكم" "ص187"، و"المعتبر" للزركشي "187/ 1" مخطوط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ1. أَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ؛ فَهُمْ وَمَنْ سِوَاهُمْ فِيهِ شَرْعٌ سَوَاءٌ؛ كَمَسْأَلَةِ الْعَوْلِ، وَالْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، وَكَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا الَّتِي قَالَ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا آيَةَ الرِّبَا؛ فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ"2، أَوْ كَمَا قَالَ؛ فَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِلْجَمِيعِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الصَّحَابَةُ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ خِلَافٌ3 بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ وَرَأْيَهُ حُجَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ؛ كَالْأَحَادِيثِ وَالِاجْتِهَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ فَلَا يُحْتَاجُ إلى ذكره ههنا.   1 وإنما قال: "في الجملة"؛ لأنه لا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدي فيه، فيمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عنه -صلى الله عليه وسلم- وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه كما قال الآمدي. "د". 2 أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 36"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، 2/ 764/ رقم 2276"، وابن حزم في "المحلى" "8/ 477"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 365" لابن جرير وابن المنذر، وهو من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، وهو لم يسمع منه، وله طرق أخرى به يصح، انظر: "مسند الفاروق" "2/ 571"، لابن كثير، و"صحيح سنن ابن ماجه" "2/ 28". 3 قد علمته، وقوله: "كالأحاديث"؛ أي: فيقدم مذهبه على القياس، وممن ذهب إليه مالك والشافعي وابن حنبل في قول لهما وهو رأي الرازي وبعض أصحاب أبي حنيفة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْإِجْمَالُ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ، وَإِمَّا غَيْرُ1 وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الْآيَةَ2 [الْمَائِدَةِ: 3] . وَقَوْلِهِ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 138] . وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ 3 لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْلِ: 44] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [الْبَقَرَةِ: 2] ، {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين} [لُقْمَانَ: 3] ، وَإِنَّمَا كَانَ هُدًى لِأَنَّهُ مُبَيَّنٌ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَقَعُ بِهِ بَيَانٌ، وَكُلُّ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ, لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا" 4. وَفِيهِ: "تَرَكْتُ فِيكُمُ اثْنَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بهما؛ كتاب الله،   1 إذا قلنا: إن الراسخين يعلمون المتشابه، أما إن قلنا: إنهم لا يعلمونه؛ فليس التكليف واقعًا إلا بالإيمان به على أنه من عند الله، وأنه على ما أراده منه حق. "د". 2 لا حاجة إلى بقية الآية فيما هو بصدده. "د". 3 أي: فإذا بقي شيء مجمل بدون بيان لم يكن أدى وظيفته، وحاشاه, صلى الله عليه وسلم. "د". 4 هو الجزء الأول من حديث العرباض المتقدم قريبًا "ص133"، وفيه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ... "، وهو صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 وَسُنَّتِي" 1. وَيُصَحِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ: 59] ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بَيَانٌ لِكُلِّ مُشْكِلٍ، وَمَلْجَأٌ مِنْ كُلِّ مُعْضِلٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا تَرَكْتُ 2 شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ" 3. وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مُجْمَلٌ؛ فَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ؛ كَبَيَانِهِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَلِلزَّكَاةِ وَمَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَمَا تُخْرَجُ مِنْهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلِلْحَجِّ إِذْ قَالَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 4، وما أشبه ذلك.   1 ورد من حديث مجموعة من الصحابة، وهي بمفرداتها لا تخلو من ضعف، ولكنها تجبر بتعدد طرقها، انظر تفصيل ذلك في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1761". 2 وهل هذا يقتضي أن كل ما أمر به أو نهى عنه لا إجمال فيه؟ ومثله يقال في الآية الأولى؛ إلا أن إتمام النعمة فيها يرشح استقامة الاستدلال بها؛ لأنه إذا بقي إجمال وعدم فهم لبعض الشريعة لا تكون النعمة فيها تامة، وأيضًا؛ فإن كمال الدين لا يقال إذا بقي منه شيء غير مفهوم المراد، أما الحديث؛ فالسؤال فيه لا يزال متوجهًا. "د". 3 أخرجه الشافعي في "المسند" "7, بدائع المنن"، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر" "3/ رقم 100" ,كما في "الصحيحة" "رقم 1803"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 92-93" عن المطلب بن حنطب به مرفوعًا، وهو مرسل حسن، وله شاهد عن أبي ذر، أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 153، 162"، والطبراني في "الكبير" "1647"، والبزار في "المسند" "رقم 147, زوائده"، وإسناد أحمد صحيح. 4 مضى تخريجه "3/ 246". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 ثُمَّ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا1 لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْجَمِيعُ بَيَانٌ مِنْهُ عَلَيْهِ, الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ مُجْمَلٌ2، أَوْ مُبْهَمُ الْمَعْنَى، أَوْ مَا لَا يُفْهَمُ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ بِمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَطَلَبُ مَا لَا يُنَالُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى فيه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} [آل عمران: 7] .   1 كزكاة الفطر، وأكثر المناهي في البيع كالنجش والغرر وتحريم لحوم الحمر الأهلية كما قال, صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". "د". قلت: وسيأتي تخريجه في "ص190-191، 322-323"، وهو صحيح. 2 "مجمل" كالمشترك "أو مبهم" خفي المعنى، كالأب نوع من النبات خفي معناه على عمر كما سبق، "أو ما لا يفهم"؛ أي: لا يعقل معناه المتبادر منه وضعًا؛ كالوجه، واليد، والمجيء المنسوبة لله سبحانه، هذا هو مقتضى التعبير بأو، ويصح أن يكون تنويعًا في العبارة، والكل مجمل بالمعنى العام أي الذي لم يتضح المراد منه بسبب من الأسباب المشار إليها آنفًا؛ فلا تكون متقابلة، وقوله بعد: "فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به" يقتضي احتمالًا ثالثًا، وأن المراد منها واحد وهو المتشابه؛ فلا يدخل فيه مثل الأب الذي وإن توقف فيه عمر؛ فقد عرفه غيره. "د". قلت: انظر لزامًا ما تقدم "2/ 195، 257 و3/ 319، 323"، حول مذهب السلف في الصفات؛ فقد أخطأ المعلق هنا، ولم يصب الحق في هذا الباب، والله الموفق للصواب، وقرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "7/ 391-392" أن لفظ المجمل في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم، سواء لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين, وأخطأ في ذلك, بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به, وإن كان ظاهرًا حقًّا. وانظر: "مباحث في المجمل والمبين من الكتاب والسنة" لعبد القادر شحاتة "ص10 وما بعدها"، دار البيان للنشر والتوزيع، و"بيان النصوص التشريعية؛ طرقه وأنواعه" لبدران أبو العينين بدران "ص729". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا؛ بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفٌ إِلَّا الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ، لَا عَلَى مَا يَفْهَمُ الْمُكَلَّفُ مِنْهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ .... } إِلَى قَوْلِهِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] . وَالنَّاسُ في المتشابه1 المراد ههنا عَلَى مَذْهَبَيْنِ2: فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَهُ؛ فَلَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ عَلَيْهِمْ وَإِنْ تَشَابَهَ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَسَائِرِ الْمُبَيِّنَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ عَلَى غَيْرِ الْعَرَبِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ وَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِمَا يُرَادُ بِهِ مَرْفُوعٌ بِاتِّفَاقٍ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُجْمَلٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ثُمَّ يُكَلَّفُ بِهِ، وَهَكَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنِ الرَّاسِخِينَ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِمُقْتَضَاهُ، مَا دَامَ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِمْ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَفِعُ تَشَابُهُهُ؛ فَيَصِيرُ كَسَائِرِ الْمُبَيَّنَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ مُتَشَابِهًا فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مُشْتَبِهَاتٍ بِقَوْلِهِ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" 3، وَهَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتُ مُتَّقَاةٌ4 بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لِقَوْلِهِ: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ استبرأ لدينه   1 وهو المتشابه الحقيقي، وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم حقيقة المراد منه ولا نصب دليل على ذلك. "د". 2 انظر لزامًا ما قدمناه "3/ 319". 3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير, رضي الله عنه. 4 في الأصل: "متلقاة" وفي "ط": "متعلقات". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَعِرْضِهُ" 1؛ فَهِيَ إِذًا مُجْمَلَاتٌ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ2، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] قَدَ انْبَنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْإِجْمَالَ وَالتَّشَابُهَ لَا يَتَعَلَّقَانِ3 بِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي التَّشَابُهِ الْوَاقِعِ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ، وَتَشَابُهِ الْحَدِيثِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ حَسْبَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ4 التَّشَابُهِ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ تَكْلِيفٌ بِمَعْنَاهُ الْمُرَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَلٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبِأَنْ يَجْتَنِبَ فِعْلَهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ" 5. وَيَجْتَنِبَ النَّظَرَ فِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ كَقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . وَفِي الْحَدِيثِ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا" 6، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. هَذَا مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَإِلَّا؛ فَالتَّكْلِيفُ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، مِنْ حَيْثُ يُعْتَقَدُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ إِنْ صَحَّ تصرف العباد فيه، إلى   1 انظر الحاشية رقم "3" في الصفحة السابقة. 2 أي: باتقائها واجتنابها. "د". 3 في "ط": "يعلقان". 4 في النوع الثالث من المتشابه من المسألة الثالثة هناك؛ فراجعه. "د". 5 مضى تخريجه قريبًا. 6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، 3/ 29/ رقم 1145"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، 1/ 521/ رقم 758" عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي الباب أحاديث كثيرة جدًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ مِنَ الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ تَفْهِيمُ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ، مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ بَيِّنًا وَاضِحًا لَا إِجْمَالَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ بِحَسَبِ هَذَا الْقَصْدِ اشْتِبَاهٌ وَإِجْمَالٌ؛ لَنَاقَضَ أَصْلَ مَقْصُودِ الْخِطَابِ، فَلَمْ تَقَعْ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِهَةِ رَعْيِ الْمَصَالِحِ؛ تَفَضُّلًا، أَوِ انْحِتَامًا، أَوْ عَدَمِ1 رَعْيِهَا؛ إِذْ لَا يُعْقَلُ خِطَابٌ مَقْصُودٌ مِنْ غَيْرِ تَفْهِيمٍ مَقْصُودٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَّةِ2؛ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ سَمْعًا فَبَقِيَ3 الِاعْتِرَافُ بِامْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ؛ فَمَسْأَلَتُنَا مِنْ قَبِيلِ4 هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ فِي وُرُودِهِ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَسَّرٍ، إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ مَعَ عَدَمِ بَيَانِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ؛ فَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا، وَإِنْ قُصِدَ؛ رَجَعَ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَجَرَتْ دَلَائِلُ الْأُصُولِيِّينَ هُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ -أَعْنِي5: الثَّانِيَ والثالث- إن جاء في القرآن مجمل؛ فلا بد مِنْ خُرُوجِ مَعْنَاهُ عَنْ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وهو المطلوب.   1 أي: حتى مع قطع النظر عن رعاية المصالح هو ممنوع؛ لأنه غير معقول في ذاته. "د". 2 انظر في هذا: "البحر المحيط" "3/ 46، 93"، و"العدة" "3/ 724"، و"البرهان" "1/ 166"، و"المستصفى" "1/ 368"، و"الإحكام" "1/ 75" لابن حزم، و"الإحكام" "3/ 32" للآمدي. 3 في "ط": "فيبقى". 4 نقول: بل هي أشد؛ لأن ذاك كان مجرد تأخير للبيان، يعني مع حصول البيان بعد الوقت، أما هذا فلا بيان رأسًا، لا في عهده -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده. "د". 5 وإنما قيده بهما لأنه ذكر مثله في الأول؛ فلم يحتج لربط هذا التفريع به أيضًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل مدخل ... الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالرَّأْيُ1. وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الْأَصْلُ لِمَا سِوَاهُمَا؛ اقْتَصَرْنَا عَلَى النَّظَرِ فِيهِمَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ2 كَثِيرًا مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ النَّاظِرُ فِي غَيْرِهِمَا، مع أن الأصوليين تكلفوا3 بما عداهما كما4 تكلفوا بِهِمَا؛ فَرَأَيْنَا السُّكُوتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالرَّأْيِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فالأول أصلها، وهو الكتاب، وفيه مسائل:   1 يشمل الباقي من قياس وغيره. "د". 2 لعل فيه سقط كلمة "والسنة" كما يفيده السابق واللاحق، أي: إنه تعرض لكثير من المباحث المتعلقة بغير الكتاب والسنة أثناء تعرضه لمباحثهما. "د". 3 في "ط": "تكلفوا". 4 كان يقتضي الذكر لا السكوت عن الكتاب والسنة أيضًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 الدليل الأول: الكتاب الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ الْكِتَابَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ1 كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ وَاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ2، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَزِمَ ضَرُورَةً لِمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَطَمِعَ فِي إِدْرَاكِ مَقَاصِدِهَا، وَاللِّحَاقِ بِأَهْلِهَا، أَنْ يَتَّخِذَهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ جَلِيسَهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي؛ نَظَرًا وَعَمَلًا، لَا اقْتِصَارًا عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَفُوزَ بِالْبُغْيَةِ، وَأَنْ يَظْفَرَ بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ3، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، ولا يقدر عليه إلا من زاول مَا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْكِتَابِ، وَإِلَّا؛ فَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ، وَالسَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ آخِذٌ بِيَدِهِ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ الشَّرِيفِ، وَالْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَةِ. وَأَيْضًا4؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا أَفْحَمَ الْفُصَحَاءَ، وَأَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ؛ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَارِيًا عَلَى أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، مُيَسَّرًا لِلْفَهْمِ فِيهِ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى، لَكِنْ بِشَرْطِ الدُّرْبَةِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ؛ إِذْ لَوْ خَرَجَ بِالْإِعْجَازِ عَنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ مَعَانِيهِ؛ لَكَانَ خِطَابُهُمْ بِهِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْوُجُوهِ الْإِعْجَازِيَّةِ فِيهِ؛ إِذْ مِنَ الْعَجَبِ إِيرَادُ كَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي اللِّسَانِ وَالْمَعَانِي وَالْأَسَالِيبِ، مَفْهُومٌ مَعْقُولٌ، ثُمَّ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى الإتيان بسورة مثله   1 في "د": "أن". 2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 332 و19/ 76-92 و20/ 499". 3 أي: الطائفة المتقدمة. "ف". 4 تتميم لبيان ما يعينه على فهمه، كأنه قال: "من السنة والدربة في اللسان العربي، ولا يمنع من ذلك كونه معجزًا ... إلخ". "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وَلَوِ اجْتَمَعُوا وَكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا؛ فَهُمْ أَقْدَرُ مَا كَانُوا عَلَى مُعَارَضَةِ الْأَمْثَالِ، أَعْجَزُ مَا كَانُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [الْقَمَرِ: 17، 22] . وَقَالَ1: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مَرْيَمَ: 97] . وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [فُصِّلَتْ: 3] . وَقَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشُّعَرَاءِ: 195] . وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ2 فُرِضَ إِعْجَازُهُ؛ فَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى فَهْمِهِ وَتَعَقُّلِ مَعَانِيهِ، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] ؛ فَهَذَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ الْوُصُولِ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ، وكذلك ما كان مثله، وهو ظاهر.   1 أورد في "ط" بدل هذه الآية {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58] . 2 ذكروا في إعجازه وجوهًا كثيرة؛ كما يعلم من الكتب المؤلفة خصيصة بذلك؛ فعلى جميع الوجوه لا يمنع إعجازه من فهمه على وجهه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ لَازِمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْقُرْآنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ إِعْجَازُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَاصِدِ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ إِنَّمَا مَدَارُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ: حَالِ الْخِطَابِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْخِطَابِ، أَوِ المخاطِب، أَوِ المخاطَب، أَوِ الْجَمِيعِ؛ إِذِ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ فَهْمُهُ بِحَسَبِ حَالَيْنِ، وَبِحَسَبِ مُخَاطَبَيْنِ، وَبِحَسَبِ غَيْرِ ذَلِكَ؛ كَالِاسْتِفْهَامِ، لَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَيَدْخُلُهُ مَعَانٍ أُخَرُ مِنْ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ1 وَكَالْأَمْرِ يَدْخُلُهُ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَأَشْبَاهِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا2 الْمُرَادِ إِلَّا الْأُمُورُ الْخَارِجَةُ، وَعُمْدَتُهَا مُقْتَضَيَاتُ الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ حَالٍ يُنْقَلُ وَلَا كُلُّ قَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِنَفْسِ الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ، وَإِذَا فَاتَ نَقْلُ بَعْضِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ؛ فَاتَ فَهْمُ الْكَلَامِ جُمْلَةً، أَوْ فَهْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةُ الْأَسْبَابِ رَافِعَةٌ لِكُلِّ مُشْكِلٍ فِي هَذَا النَّمَطِ؛ فَهِيَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ في فهم الكتاب بلا بد، وَمَعْنَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ هُوَ مَعْنَى مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِأَسْبَابِ التَّنْزِيلِ مُوقِعٌ فِي الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالَاتِ، وَمُورِدٌ لِلنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ مَوْرِدَ الْإِجْمَالِ حَتَّى يَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ وُقُوعِ النِّزَاعِ3.   1 في "ط": "وغيرهما". 2 لعله "على معناه المراد". "ف". 3 الخطاب الذي جاء بسبب لا يمكن في بعض الحالات فهمه، ولا إدراك معناه إلا من معرفة الواقعة، أو السؤال الذي تسبب في وروده؛ ففائدة معرفة السبب الذي ورد عليه الخطاب تعين على فهم المراد، فمن قرأ قوله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا .... } [المائدة: 93] ، ولم يطلع على نزولها؛ فقد يقول بجواز شرب الخمر كما تأولها من تأولها في زمن عمر, رضي الله عنه [وسيأتي تخريج ذلك قريبًا] ، وكذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 ...........................................................................   = الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ؛ فإنه لو أخذنا بمدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرًا ولا حضرًا، وهو خلاف الإجماع، فلا يفهم مراد الآية حتى يعلم سببها، وذلك أنها نزلت وكان الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية؛ فأدركتهم الصلاة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة؛ فتوجه كل منهم إلى ناحية، فلما أصبحوا أخبروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم صلوا إلى غير القبلة؛ فنزلت الآية، على ما ذكره ابن كثير في "تفسيره" "1/ 159"، وعزاه لابن جرير والترمذي "رقم 2958"، وقال: "هذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا". وقد تكون معرفة أسباب نزول الآية أو أسباب ورود الحديث ضرورية؛ لأن الحكم الوارد على سبب قد يكون لفظًا عامًّا، ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورة ذلك السبب؛ فإن دخول صورة السبب قطعي، وإخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد ممنوع بالاتفاق؛ كما قاله الباقلاني في "التقريب", ونقله عنه السيوطي في "الإتقان" "1/ 28"، والغزالي في "المستصفى" "2/ 61"، وقد ذكر علاء الدين الكناني في "سواد الناظر وشقائق الروض الناضر" "2/ 427, مضروبة على الآلة الكاتبة، رسالة دكتوراه" من فوائد نقل السبب أمورًا أخرى غير التي ذكرها المصنف، منها بيان أخصية السبب بالحكم؛ فيمتنع تخصيص الحكم بالسبب؛ لأن دخول السبب في العام قطعي، ولا يصح إخراج محل السبب بالتخصيص لأمرين: أحدهما: أنه يلزم من تأخير البيان عن وقت الحاجة، ذكر هذا الزركشي في "البرهان" "1/ 23". الثاني: فيه عدول عن محل النازلة أو محل السؤال، وهذا يؤدي إلى التباس الحكم على السائل أو من ورد في حقه الحكم. - ومنها: معرفة تأريخ الحكم بمعرفة تأريخ السبب ليعرف الناسخ والمنسوخ. - ومنها: توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيفتح ثواب المصنفين في تأريخ النزول، وثواب المجتهدين بالنظر في ذلك، والرجوع إلى حكم الناسخ وترك المنسوخ. - ومنها: التأسي بوقائع السلف؛ فيخف أمر اللعان مثلًا على من أراده تأسيًا بهم. - ومنها: أن معرفة السبب تساعد على معرفة المراد من النص، قال في "المسودة" "ص231": "فجهات معرفة مراد المتكلم ثلاثة في كلام الشارع وكلام العباد: = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ؛ قَالَ: "خَلَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ؛ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، [وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ] ؟ [فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ؟] . فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فقرأناه، وعلمنا فيما نَزَلَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ولا يدرون فيما نَزَلَ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا. قَالَ: فَزَجَرَهُ عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ؛ فَانْصَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَظَرَ عُمَرُ فِيمَا قَالَ؛، فَعَرَفَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَ. فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ؛ فعرف عمر قوله وأعجبه"1.   = أحدها: العلم بقصده من دليل منفصل؛ كتفسير السنة للكتاب، وتخصيص العموم. الثاني: سبب الكلام وحال المتكلم. الثالث: وضع اللفظ والقرائن اللفظية. - ومنها: أن معرفة السبب ينتفع بها في معرفة جنس الحكم تارة، أو في صفته أخرى، وفي محله آخر. وانظر غير مأمور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339"، و"مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص26-29"، و"أسباب نزول القرآن، دراسة منهجية" "60-72". 1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص45-46"، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 176/ رقم 42, ط الجديدة", ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "5/ 230-231/ رقم 2086"، والخطيب البغدادي في "الجامع" "2/ 194/ رقم 1587", عن هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي به، والتيمي لم يدرك زمن عمر؛ فإسناده منقطع. وأخرجه ابن ديزيل في "جزئه" "رقم 26" من طريق هشيم عن إبراهيم التيمي به؛ دلس في هذا الإسناد وأرسل. وأخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" "11/ 217-218/ رقم 20368", ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" رقم "198"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 516-517" عن علي بن بذيمة الجزري عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس به نحوه، وإسناده صحيح. وما بين المعقوفتين الأولى ليست في الأصل ولا في "ط"، والثانية ليست "إلا" فيهما. وأخرج الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأهوال عن ابن عمر -لا عن عمر- نحوه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وانظر: "تخريج الزيلعي على الكشاف" "3/ 204". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِي الِاعْتِبَارِ، وَيَتَبَيَّنُ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ كَانَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: "يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"1. فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. وَرُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَ بَوَّابَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: "قُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا؛ لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ"2، ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ   1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 282" تعليقًا، قال: "وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق، وقال: إنهم انطلقوا ... "، وذكر الأثر. ووصله ابن جرير في "تهذيب الآثار" -كما في "تغليق التعليق" "5/ 259"، و"الفتح" "12/ 286"- من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج؛ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ كَانَ رَأْيُ ابْنِ عمر في الحرورية؟ فذكره، قال ابن حجر: "وسنده صحيح". انظر: "مجموعة الرسائل الكبرى" "1/ 36-37" لابن تيمية، و"الاعتصام" "2/ 692" للمصنف؛ وعزاه لابن وهب أيضًا، وكذا ابن عبد البر في "الاستذكار" "8/ 90/ رقم 10576". 2 مضى تخريجه "ص32". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 أُوتُوا الْكِتَابَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 187-188] ؛ فَهَذَا السَّبَبُ بَيِّنٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ غَيْرُ مَا ظَهَرَ لِمَرْوَانَ. وَالْقُنُوتُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا1 مِنَ الْمَعْنَى يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [الْبَقَرَةِ: 238] ، فَإِذَا عُرِفَ السَّبَبُ؛ تَعَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ؛ فَقَدِمَ الْجَارُودُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: "إِنْ قُدَامَةَ شَرِبَ فَسَكِرَ. فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَشْهَدْ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ الْجَارُودُ: أَبُو هُرَيْرَةَ يَشْهَدُ عَلَى مَا أَقُولُ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ؛ فَقَالَ عُمَرُ: "يَا قُدَامَةُ! إِنِّي جَالِدُكَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ شَرِبْتُ كَمَا يَقُولُونَ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي. قَالَ عُمَرُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [الْمَائِدَةِ: 93] ... إِلَخْ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهَ". وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: "لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَأَيُّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَنْ لَا أَجْلِدُكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [الْمَائِدَةِ: 93] إِلَى آخَرَ الْآيَةِ؛ فَأَنَا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَدْرًا، وَأُحُدًا، وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهِدَ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ   1 كالخشوع، وعدم الالتفات، والذكر وغيرها، وقوله: "تعين المعنى المراد"؛ أي: وهو عدم تكليم بعضهم بعضًا كما كان يحصل قبل نزول الآية. "د". أما "ف"؛ فتوسع وقال: "كالانقياد وكمال الطاعة والذكر والخشوع وطول الركوع وأن لا يلتفت، ولا يقلب الحصى، ولا يعبث بشيء، ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في "صحيحه" بالسكوت عن الكلام ... ، ثم احتج له بما يناسبه". قلت: انظر معاني القنوت عند ابن القيم في "الزاد" "1/ 283". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلْنَ عُذْرًا لِلْمَاضِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْبَاقِينَ؛ فَعَذَرَ الْمَاضِينَ1 بِأَنَّهُمْ لَقُوا اللَّهَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَمْرُ، وَحُجَّةً عَلَى الْبَاقِينَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [الْمَائِدَةِ: 90] ، ثُمَّ قَرَأَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ الْخَمْرُ. قَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ"2 الْحَدِيثَ. وَحَكَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي؛ قَالَ: "شَرِبَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْخَمْرَ، وَعَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ، وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [المائدة: 93] ، قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ، قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ قَبْلَ أَنْ يُفْسِدُوا مَنْ قِبَلَكَ. فَلَمَّا أَنْ قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ اسْتَشَارَ فِيهِمُ النَّاسَ؛ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! نَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَشَرَعُوا فِي دِينِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ .... " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ3. فَفِي الْحَدِيثَيْنِ بَيَانٌ أَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ تُؤَدِّي إِلَى الخروج عن المقصود بالآيات.   1 في الأصل و"ط": "الماضون". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه، 7/ 319/ رقم 4011" مختصرًا، وأخرجه مطولًا عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 240-242/ رقم 17076"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 842-849"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/ 56"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315-316" بأسانيد وألفاظ، وكذا ساقه الجصاص في "أحكام القرآن" "4/ 128-129"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "4/ 199"، وابن عبد البر في "الاستيعاب" "3/ 248"، وابن حجر في "الإصابة" "3/ 220"، والنويري في "نهاية الأرب" "19/ 364"، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" "2/ 45" بنحوه. 3 نحوه في "أحكام القرآن" "4/ 128" للجصاص، وعزاه المصنف في "الاعتصام" "2/ 527, ط ابن عفان" للقاضي إسماعيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَقَالَ: تَرَكْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ، يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدُّخَانِ: 10] ؛ قَالَ: يَأْتِي النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُخَانٌ، فيأخذ بأنفاسهم، حتى يأخذهم [منه] كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآية [الدخان: 10] ... " إلى آخر القصة1. وهذا شَأْنُ أَسْبَابِ النُّزُولِ فِي التَّعْرِيفِ بِمَعَانِي الْمُنَزَّلِ، بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَ ذِكْرُ السَّبَبِ؛ لَمْ يُعْرَفْ مِنَ الْمُنَزَّلِ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ، دُونَ تَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ وَتَوَجُّهِ الْإِشْكَالَاتِ، وَقَدْ قَالَ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ" 2، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَقَدْ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خطبها: "والله؛ لقد   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب سورة الروم، 8/ 511/ رقم 4774، وباب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيم} ، 8/ 571/ رقم 4821، وباب {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُون} , 8/ 573/ رقم 4822, وباب {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} ، 8/ 573/ رقم 4823"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب الدخان، 4/ 2155-2157/ رقم 2798" عن ابن مسعود به. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود، 7/ 102/ رقم 3760، وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي بن كعب، 7/ 126/ رقم 3808، وكتاب فضائل القرآن، باب القراء مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 9/ 46/ رقم 4999"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضي الله تعالى عنهما- 4/ 1913/ رقم 2464" عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ"1، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كتاب الله إلا [و] أنا أعلم فيما أُنْزِلَتْ, وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ"2، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ عِلْمَ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَكُونُ الْعَالِمُ بِهَا عَالِمًا بِالْقُرْآنِ. وَعَنِ الْحَسَنِ؛ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً؛ إِلَّا وهو يحب أن يعلم فيما أُنْزِلَتْ وَمَا أَرَادَ بِهَا"3، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَوْضِعِ مُشِيرٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ عِلْمِ الْأَسْبَابِ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ؛ قَالَ: "سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيما أُنْزِلَ الْقُرْآنُ"4. وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ بِالْمُزَاوَلَةِ لعلم التفسير.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب القراء مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 9/ 46-47/ رقم 5000"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/ 1912/ رقم 4262"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 343-344"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 1007"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 22"، وابن أبي داود في "المصاحف" "ص22-23". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب القراء مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 9/ 47/ رقم 5002"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/ 1913/ رقم 2463"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 342"، وابن أبي داود في "المصاحف" "23-24"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 80/ رقم 83"، والخطيب في "الرحلة" "94-95". وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وفي النسخ المطبوعة: "فيم أنزلت". 3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص42". 4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "1/ 185/ رقم 44, ط الجديدة"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 830"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 86/ رقم 97"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 230/ رقم 2085"، والواحدي في "أسباب النزول" "4-5"- وذكره السيوطي عنه في "الإتقان" "1/ 41"، و"لباب النقول" "13"-، وبعض أسانيده صحيحة على شرط الشيخين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَمَجَارِي أَحْوَالِهَا حَالَةَ التَّنْزِيلِ، وَإِنْ لم يكن ثم سبب خاص لا بد لِمَنْ أَرَادَ الْخَوْضَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالَاتِ الَّتِي يُتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، وَيَكْفِيكَ [مِنْ ذَلِكَ] 1 مَا تَقَدَّمَ2 بَيَانُهُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ؛ فَإِنَّ فِيهِ مَا يُثْلِجُ الصدر ويورث اليقين في هذا المقام، ولا بد مِنْ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا: أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 196] ؛ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ دُونَ الْأَمْرِ بِأَصْلِ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ آخِذِينَ بِهِ، لَكِنْ عَلَى تَغْيِيرِ بَعْضِ الشَّعَائِرِ، وَنَقْصِ جُمْلَةٍ مِنْهَا؛ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا غَيَّرُوا، فَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَ إِيجَابُ الْحَجِّ نَصًّا فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ [تَبَيَّنَ] 3 هَلْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِيجَابِ الْحَجِّ أَوْ إِيجَابِ الْعُمْرَةِ4، أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] ، نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ؛   1 وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة. 2 وهو أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مِنِ اتباع معهود العرب. "د". 3 بدلها في "ط": "علم بيسر". 4 انظر: "الذخيرة" "3/ 181، 373-374, ط دار الغرب"، و"أحكام القرآن" "1/ 118-119" لابن العربي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 فَيُرِيدُ أَحَدُهُمُ التَّوْحِيدَ، فيُهمّ فَيُخْطِئُ بِالْكُفْرِ؛ فَعَفَا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا عَفَا لَهُمْ عَنِ النُّطْقِ بِالْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، قَالَ: "فَهَذَا عَلَى الشِّرْكِ، لَيْسَ عَلَى الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لَمْ تَكُنِ الْأَيْمَانُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي زَمَانِهِمْ". وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْلِ: 50] ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، إِنَّمَا جَرَى عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِإِلَهِيَّةِ الْوَاحِدِ الْحَقِّ؛ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ بِتَعْيِينِ الْفَوْقِ وَتَخْصِيصِهِ تَنْبِيهًا عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْأَرْضِ؛ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ جِهَةٍ أَلْبَتَّةَ1؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2 [النَّحْلِ: 26] ؛ فَتَأَمَّلْهُ، وَاجْرِ عَلَى هَذَا الْمَجْرَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النَّجْمِ: 49] 3؛ فَعَيَّنَ هَذَا الْكَوْكَبَ لِكَوْنِ الْعَرَبِ عَبَدَتْهُ، وَهُمْ خُزَاعَةُ، ابْتَدَعَ ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو كَبْشَةَ، وَلَمْ تَعْبُدِ الْعَرَبُ مِنَ الْكَوَاكِبِ غَيْرَهَا؛ فَلِذَلِكَ عُيِّنَتْ. فَصْلٌ: وَقَدْ يُشَارِكُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْمَعْنَى السُّنَّةُ، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَقَعَتْ عَلَى أَسْبَابٍ، وَلَا يَحْصُلُ فَهْمُهَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، ومنه أنه نهى عليه الصلاة   1 قارنه لزامًا بما عند ابن تيمية في "نقض تأسيس الجهمية" "1/ 520"، و"التدمرية" "ص45"، وانظر أيضًا: "مختصر العلو" "286-287"، و"البيهقي وموقفه من الإلهيات" "353"، وكتابنا: "الردود والتعقبات" "ص168-170". 2 أي: فليست الفوقية لتخصيص الجهة؛ لأن السقف لا يكون إلا فوق، إنما ذلك ذكر للمعهود فيه. "د". قلت: انظر الهامش السابق. 3 قال العلماء: إن هذا النجم قطره عشرة أمثال قطر كوكب الشمس؛ فهو أكبر ما عرفه العرب من الكواكب فعبدوه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وَالسَّلَامُ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فلما كان بعد ذلك؛ قيل [له] : لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ، وَيَحْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ1، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ. فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالُوا: نَهَيْتَ عَنْ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ؛ فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا" 2. وَمِنْهُ حَدِيثُ3 التَّهْدِيدِ بِإِحْرَاقِ الْبُيُوتِ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ [مُخْتَصٌّ] بِأَهْلِ4 النِّفَاقِ، بِقَوْلِهِ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ"5. وَحَدِيثُ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 6 وَاقِعٌ عَنْ7 سبب، وهو أنهم لما أمروا   1 بفتحتين: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. "ف". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن عبد الله بن واقد -رضي الله عنه- مرفوعًا. قال "ف" في معنى "الدافة": "بتشديد الفاء: قوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد، يريد أنهم قدموا المدينة عيد الأضحى؛ فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ليفرقوها ويتصدقوا بها وينتفع أولئك القادمون بها؛ فالنهي لسبب خاص إذا لم يوجد جاز الأكل والتصدق والادخار؛ كما جاء في الحديث" ا. هـ. 3 مضى تخريجه "ص110". 4 كذا في "ط"، وفي "د": "أنه بأهل"، وفي غيرهما: "أنه من أهل". 5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدي، 1/ 453/ رقم 654" عن ابن مسعود؛ قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض". وفي لفظ: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق". 6 مضى تخريجه "1/ 459"، وهو في "الصحيحين"؛ إلا أن سبب الورود الذي ذكره = 7 في "ط": "على". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 بِالْهِجْرَةِ هَاجَرَ نَاسٌ لِلْأَمْرِ، وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ هَاجَرَ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ أَرَادَ نِكَاحَهَا تُسَمَّى أُمُّ قَيْسٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ مُجَرَّدَ الْهِجْرَةِ لِلْأَمْرِ؛ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَمَّى: مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ, وَهُوَ كثير1.   = المصنف لا صلة له بهذا الحديث، خلافًا لما هو مشهور، وقد وقع فيه ابن دقيق العيد في "الإحكام" "1/ 79-81"، ونبه على هذا الخطأ ابن رجب؛ فقال في "جامع العلوم والحكم" "1/ 74-75": "وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها"، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلًا بإسناد صحيح، والله أعلم"، وقال ابن حجر في "الفتح" "1/ 10": "لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك". وقد أخرج سعيد بن منصور في "سننه"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "رقم 8540" عن الأعمش عن شقيق؛ قال: خطب أعرابي من الحي امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجته، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال: فقال عبد الله, يعني ابن مسعود: "من هاجر يبتغي شيئًا؛ فهو له". وإسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال ابن حجر. وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما كان في عهد ابن مسعود، ولكن روي من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؛ قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها؛ فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال ابن مسعود: "من هاجر لشيء؛ فهو له"، ورجاله ثفات؛ كما في "طرح التثريب" "2/ 25"، وعلى فرض ثبوت ذلك؛ فليس فيه أنه سبب ورود حديث عمر: "إنما الأعمال بالنيات"، ومنه تعلم القصور في صنيع المصنف، والله الموفق. وانظر: "شرح شاكر لألفية السيوطي" "ص214". 1 اعتنى بمفردات "أسباب الورود": ابن حمزة الحسيني في كتابه "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف"، وقبله السيوطي في "اللمع في أسباب ورود الحديث"، وكلاهما مطبوع، وللبلقيني في "محاسن الاصطلاح" "633 وما بعدها" كلام جيد نحو ما عند المصنف، وانظر "أسباب ورود الحديث, تحليل وتأسيس" لمحمد رأفت سعيد "كتاب الأمة، رقم 37، ص102 وما بعدها"، ولصديقنا الشيخ طارق الأسعد دراسة مسهبة قيد الإعداد بعنوان: "علم أسباب ورود الحديث، ومنزلته في تفسير النصوص الشرعية، ومجال تطبيقه عند المحدثين والأصوليين"، وانظر في فائدة عيان النص: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 163" لابن العربي، وفي ضرورة معرفة أسباب الورود أيضًا: "مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص28-30". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كُلُّ حِكَايَةٍ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا1 وَهُوَ الْأَكْثَرُ رَدٌّ لَهَا، أَوْ لَا فَإِنْ وَقَعَ رَدٌّ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي بُطْلَانِ ذَلِكَ الْمَحْكِيِّ وَكَذِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَهَا رَدٌّ؛ فَذَلِكَ دَلِيلُ صِحَّةِ الْمَحْكِيِّ وَصِدْقِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بُرْهَانٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 91] . فَأَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 91] . وَقَالَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 136] . فَوَقَعَ التَّنْكِيتُ عَلَى افْتِرَاءِ مَا زَعَمُوا بقوله: {بِزَعْمِهِمْ} ، وَبِقَوْلِهِ: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 136] . ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الْأَنْعَامِ: 138] إِلَى تَمَامِهِ. وَرُدَّ بِقَوْلِهِ: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُون} [الْأَنْعَامِ: 138] . ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ} الآية [الأنعام: 139] .   1 أو قبلها وبعدها معًا، كما في آية: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: 66] مع قوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] ، ولا يكون الشريك ولا الولد مملوكًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الْأَنْعَامِ: 139] زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الْفَرْقَانِ: 4] . فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الْفَرْقَانِ: 4] . ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الْآيَةَ [الْفَرْقَانِ: 5] . فَرَدَّ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الْآيَةَ [الْفَرْقَانِ: 6] . ثُمَّ قَالَ: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرفان: 8] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الْفَرْقَانِ: 9] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ... } إلى قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 4-8] . ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8] . إِلَى آخِرِ مَا هُنَالِكَ. وَقَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الْبَقَرَةِ: 116، وَغَيْرِهَا] . ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ ثَبَتَتْ فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] . وَقَوْلِهِ: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْبَقَرَةِ: 116] . وَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 68] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وَقَوْلِهِ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} 1 [مَرْيَمَ: 90] إِلَى آخِرِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَحْضَرَهُ فِي ذِهْنِهِ عَرَفَ هَذَا بِيُسْرٍ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ نَفْسِ الْحِكَايَةِ وَإِقْرَارِهَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ فُرْقَانًا، وَهُدًى، وَبُرْهَانًا، وَبَيَانًا، وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَأْبَى أَنْ يُحْكَى فِيهِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ ثُمَّ لَا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا2؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يُحْكَى فِيهِ مِنْ شَرَائِعِ الْأَوَّلِينَ وَأَحْكَامِهِمْ، وَلَمْ يُنَبَّهْ عَلَى إِفْسَادِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ فِيهِ؛ فَهُوَ حَقٌّ يُجْعَلُ عُمْدَةً عِنْدَ طَائِفَةٍ فِي شَرِيعَتِنَا، وَيَمْنَعُهُ قَوْمٌ، لَا مِنْ جِهَةِ قَدْحٍ فِيهِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ كَشَرِيعَتِنَا، وَلَا يَفْتَرِقُ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِحُكْمِ النَّسْخِ فَقَطْ، وَلَوْ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ لَكَانَ فِي حُكْمِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 75] . وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِه ِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا   1 "وتنشق الأرض" سقط من الأصل. 2 هذا نوع آخر غير ما ذكر في صدر المسألة؛ فإن الأول ليس من الشرائع، وهذا من الشرائع، وما في حكمها وما دخل عليها من تحريف وغير ذلك؛ فهو معطوف على قوله: "كل حكاية ... إلخ"، ويحتمل أن يكون دليلًا على الثاني، ويؤيده قوله بعد: "ولو نبه على أمر فيه ... إلخ"، وقوله: "فصار هذا من النمط الأول"، ويكون قوله أولًا: "كل حكاية" أعم مما يتعلق بالشرائع والقصص. "د". قلت: انظر في هذا "كشف الأسرار" "3/ 933-936"، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص27، 28" لعلي حسب الله، و"أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 155-156" للأشقر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 فَخُذُوهُ} 1 الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 41] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} 2 [النِّسَاءِ: 46] ؛ فَصَارَ هَذَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ جَمِيعُ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِمَّا كَانَ حَقًّا؛ كَحِكَايَتِهِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى, عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَلِاطِّرَادِ هَذَا الْأَصْلِ اعْتَمَدَهُ النُّظَّارُ3؛ فَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 4 الْآيَةَ [الْمُدَّثِّرِ: 43-44] ؛ إِذْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ بَاطِلًا لَرُدَّ عِنْدَ حِكَايَتِهِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ: {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْفِ: 22] ، وَأَنَّهُمْ: {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْفِ: 22] ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الْكَهْفِ: 22] ؛ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلَا عِلْمٌ غَيْرُ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَرَجْمُ الظُّنُونِ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْفِ: 22] ؛ لَمْ يُتْبِعْهُ بِإِبْطَالٍ بَلْ قَالَ: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الْكَهْفِ: 22] ؛ دَلَّ الْمَسَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ دُونَ القولين الأولين.   1 في النسخ المطبوعة: "عن مواضعه"، وهو خطأ. 2 في النسخ المطبوعة: "من بعد مواضعه"، وهو خطأ. 3 في "ط": " ... الفصل اعتمده الناظر ... ". 4 أي: فقد سلم تعليلهم ودخولهم بهذا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "أَنَا مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُمْ"1. وَرَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ2 أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَةِ: 260] ؛ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ شَاكًّا حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ آيَةً؟ فَقَالَ: لَا، إنما كَانَ طَلَبُ زِيَادَةِ إِيمَانٍ إِلَى إِيمَانٍ3، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [الْبَقَرَةِ: 260] ، فلو عمل شَكًّا مِنْهُ لَأَظْهَرَ4 ذَلِكَ؛ فَصَحَّ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ كَانَتْ عَلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ. بِخِلَافِ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الْحُجُرَاتِ: 14] ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ5: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا   1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع الزوائد" "7/ 53"-، والواحدي في "الوسيط" "3/ 142" بإسناد ضعيف فيه يحيى بن أبي روق، وقد صححه المناوي في "الفتح السماوي" "2/ 793"؛ فأخطأ، وأخرجه من طرق أخرى عنه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 400"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 143"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 226-227"، والفريابي -كما في "الدر المنثور" "5/ 375"-، وصححه ابن كثير في "تفسيره" "3/ 83". 2 المذكور في "تفسيره" "ص27" المطبوع سنة "1326هـ-1908م" بمطبعة السعادة بمصر. 3 في "تفسير سهل": "طالبًا زيادة يقين إلى إيمان كان معه، فسأل كشف غطاء العين بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقينًا في قدرة الله، وتمكينًا في خلقه، ألا تراه ... ". 4 أي: لنبه الله إليه كما هو الشأن في الكتاب. "د". قلت: عبارة سهل في "تفسيره" "ص27" تدل على هذا المعنى، وتصرف بها المصنف، وهذا نصها: "فلو كان شاكًّا لم يجب ببلى، ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر شكه لكشف الله تعالى ذلك؛ إذ كان مثله مما لا يخفى عليه؛ فصح أن طلب طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه". 5 في "ف" و"م": "بقولهم"، وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14] . وَمَنْ تَتَبَّعَ مَجَارِيَ الْحِكَايَاتِ فِي الْقُرْآنِ عَرَفَ مَدَاخِلَهَا، وَمَا هُوَ مِنْهَا حَقٌّ مِمَّا هُوَ بَاطِلٌ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] إِلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَمْزُوجَةُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فَظَاهِرُهَا حَقٌّ وَبَاطِنُهَا كَذِبٌ، مِنْ حَيْثُ كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُعْتَقَدِ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] تَصْحِيحًا لِظَاهِرِ الْقَوْلِ، وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] إِبْطَالًا لِمَا قَصَدُوا بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 67] ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: "حَدِّثْنَا يَا يَهُودِيُّ". فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ يَا أبا القاسم إذا وضع الله السموات عَلَى ذِهْ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى ذِهْ، وَالْمَاءَ عَلَى ذِهْ، وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهْ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهْ؟ وَأَشَارَ الرَّاوِي بِخِنْصَرِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَابَعَ حَتَّى بَلَغَ الْإِبْهَامَ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67] 1. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السموات عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى أصبع،   1 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3240", وفيه: "يا يهودي! حدثنا ... "، و"الأرض"، وابن خزيمة في "التوحيد" "78"، وأحمد في "المسند" "1/ 151"، وابن جرير في "التفسير" "14/ 26"، وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وهو مختلط. وفي الباب عن ابن مسعود في "الصحيحين" وغيرهما، وسيأتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وَالْخَلَائِقَ عَلَى أُصْبُعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "أَنَا الْمَلِكُ". فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 1 [الزمر: 67] . وفي رواية: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا2. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ كَأَنَّهُ مُفَسِّرٌ لِهَذَا، وَبِمَعْنَاهُ يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67] ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ كَلَامَ الْيَهُودِيِّ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَرِ: 67] ، وَأَشَارَتْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَأَدَّبْ مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَعْنَى الْأَصَابِعِ بِأَصَابِعِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلتَّنْزِيهِ لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ؛ فَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التَّوْبَةِ: 61] ؛ أَيْ: يسمع الحق والباطل، فرد   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، 8/ 550-551/ رقم 4811، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} , 13/ 393/ رقم 7414، 7415، وباب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} ، 13/ 438/ رقم 7451، وباب كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، 13/ 474/ رقم 7513"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب منه، 4/ 2147/ رقم 2786"، والترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3238" والمذكور لفظه، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 236-237/ رقم 270-471، وكتاب النعوت" -كما في "التحفة" "رقم 9404"- عن ابن مسعود, رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} ، 13/ 393/ رقم 7414"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2147/ رقم 2786"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، رقم 470"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3239" عن ابن مسعود, رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 الله عليهم فيما هو باطل، وأحق؛ فَقَالَ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم} ، [ {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} ] الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 61] وَلَمَّا قَصَدُوا الْإِذَايَةَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 61] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] ؛ فَهَذَا مَنْعُ امْتِنَاعٍ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِحُجَّةِ قَصْدِهِمْ فِيهَا الِاسْتِهْزَاءِ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 47] ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَيْدٌ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَجَوَابُ {أَنْفِقُوا} أَنْ يُقَالَ: نَعَمْ أَوْ لَا، وَهُوَ الِامْتِثَالُ أَوِ الْعِصْيَانُ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا تُعَارَضُ؛ انْقَلَبَ1 عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوا؛ إِذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ بِالْمَشِيئَةِ2 الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يُكَلِّفَهُمُ الْإِنْفَاقَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ3 يَشَاءُ الطَّلَبُ مِنَّا وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُطْعِمَهُمْ لِأَطْعَمَهُمْ؟ وَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 78] ؛ فَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] تَقْرِيرٌ لِإِصَابَتِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَكِنْ لَمَّا كان المجتهد معذورًا مأجورًا بعد بذله   1 أي: حيث إن المشيئة الإلهية لا تعارض، فكان يجب الامتثال وعدم المعارضة فيها؛ فانقلبت الحجة عليهم لأنهم عارضوها فلم يمتثلوا مشيئة الطلب الموجه إليهم، وهذا على أن قوله: "إن أنتم" موجه إليهم من قبل الله أو المؤمنين، أما إذا كان موجهًا منهم إلى المؤمنين يخطئونهم في طلب النفقة على فقراء المسلمين أقاربهم على طريق الاستهزاء؛ أي: ما لكم تقولون: إن الله يرزق من يشاء ثم تطلبون النفقة منا؟ فهذا تناقض، وهو غاية الضلال؛ فلا يكون من هذا الباب. "د". 2 على حد قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] . "د". 3 وتوجيه هذا يتمكن منه بمراجعة الفخر الرازي [26/ 74] في الآية: "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 الْوُسْعَ؛ قَالَ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] ، وَهَذَا مِنَ الْبَيَانِ الْخَفِيِّ1 فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. قَالَ الْحَسَنُ: "وَاللَّهِ لَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؛ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ"2. وَالنَّمَطُ هُنَا يَتَّسِعُ، وَيَكْفِي مِنْهُ مَا ذُكِرَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: وَلِلسُّنَّةِ مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُحَصَّلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَسْكُتُ عَمَّا يَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ مِنَ الْبَاطِلِ؛ حَتَّى يُغَيِّرَهُ أَوْ يُبَيِّنَهُ إِلَّا إِذَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُمْكِنُ السُّكُوتُ إِحَالَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ فِيهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ في الأصول3.   1 لأنه لم يصرح بخطأ داود، إنما يفهم من قصر التفهيم على سليمان. "د". 2 أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره"؛ كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 195-196" نحوه، وذكره عنه القرطبي في "تفسيره" "11/ 309" بنصه وحرفه. 3 في مسألة "إذا علم بفعل ولم ينكره قادرًا على إنكاره؛ فإن كان معتقد كافر؛ فلا أثر لسكوته عنه لما علم أنه منكر له؛ فلا دلالة له على صحته ... إلخ"، راجع "تحرير الأصول". "د". قلت: وانظر "البحر المحيط" "3/ 488 و4/ 204" للزركشي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ التَّرْغِيبُ قَارَنَهُ التَّرْهِيبُ فِي لَوَاحِقِهِ أَوْ سَوَابِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ1 وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيَةُ مَعَ التَّخْوِيفِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مِثْلُهُ، وَمِنْهُ ذِكْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُقَارِنُهُ ذِكْرُ أَهْلِ النَّارِ، وَبِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْمَالِهِمْ تَرْجِيَةٌ، وَفِي ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ تَخْوِيفًا؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْجِيَةِ وَالتَّخْوِيفِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَرْض الْآيَاتِ عَلَى النَّظَرِ؛ فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَمْدَ فَاتِحَةَ كِتَابِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الْفَاتِحَةِ: 6-7] إِلَى آخِرِهَا. فَجِيءَ بِذِكْرِ الفريقين، ثم بُدئت سورة البقرة بذكرهما أيضًا؛ فقيل: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 2] . ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 6] . ثُمَّ ذُكر بِإِثْرِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَهُوَ صِنْفٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ بِالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ، وَبَعْدَهُ بِالتَّرْجِيَةِ؛ فَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 24-25] . ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ   1 كما في الآيات المشتملة عليهما معًا، ومن أظهرها في ذلك قوله تعالى في سورة الدهر: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ... } إلى قوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنساء: 5-11] . "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 آمَنُوا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 26] . ثُمَّ ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِثْلَ هَذَا، وَلَمَّا ذُكِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اعْتِدَائِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؛ قِيلَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ... } إِلَى قَوْلِهِ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [الْبَقَرَةِ: 62-81] . ثُمَّ ذَكَرَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ الِاعْتِدَاءِ إِلَى أَنْ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 102] ، وَهَذَا تَخْوِيفٌ. ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 103] ، وَهُوَ تَرْجِيَةٌ. ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ1 الْمُخَالِفِينَ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 112] . ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 121] . ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبَنِيهِ، وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا التَّخْوِيفَ وَالتَّرْجِيَةَ، وَخَتَمَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَطُولُ عَلَيْكَ زَمَانُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ فِي هَذَا الِاقْتِرَانِ؛ فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَشْيَاءُ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَقْصُودِ، وَالرُّجُوعُ بَعْدُ إِلَى مَا تقرر.   1 يريد بذلك قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] ، أو قوله: {وَدَّ كَثِير .... } إلخ [البقرة: 109] بدليل قوله، ثم قال: بلى من أسلم، والواقع أن آية: {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] وما بعدها من ذكر إبراهيم والثناء عليه بأنه إمام للناس، وبنائه للبيت، وتعظيم البيت وبانيه، كل هذا كتوطئة وتمهيد لذكر مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُخَالِفِينَ فِي تَحْوِيلِ القبلة بقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء ... } إلخ [البقرة: 142] . "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ فِي الْمَكِّيَّاتِ نَظِيرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْمَدَنِيَّاتِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .... } إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 1] . وَذَكَرَ الْبَرَاهِينَ التَّامَّةَ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِكُفْرِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ بِسَبَبِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْأَنْعَامِ: 12] . فَأَقْسَمَ بِكَتْبِ الرَّحْمَةِ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ خَالَفَ، وَذَلِكَ يُعْطِي التَّخْوِيفَ تَصْرِيحًا، وَالتَّرْجِيَةَ ضِمْنًا. ثُمَّ قَالَ: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 15] ؛ فَهَذَا تَخْوِيفٌ. وَقَالَ: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 16] ، وَهَذَا تَرْجِيَةٌ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 17] . ثُمَّ مَضَى فِي ذِكْرِ التَّخْوِيفِ، حَتَّى قَالَ: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الْأَنْعَامِ: 32] . ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الْأَنْعَامِ: 36] . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 39] . ثُمَّ [جَرَى] 1 ذِكْرُ ما يليق بالموطن إلى لأن قَالَ: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 48] . وَاجْرِ فِي النَّظَرِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، يَلُحْ1 لَكَ وَجْهُ الْأَصْلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لَبُسِطَ مِنْ ذلك كثير.   1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فَصْلٌ: وَقَدْ يَغْلِبُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ: فَيَرِدُ التَّخْوِيفُ وَيَتَّسِعُ مَجَالُهُ1، لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ التَّرْجِيَةِ، كَمَا فِي سُورَةِ الأنعام؛ فإنها جاءت مقررة للحق2، وَمُنْكِرَةً عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَاخْتَرَعَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَصَدَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَأَنْكَرَ مَا لَا يُنْكَرُ، وَلَدَّ3 فِيهِ وَخَاصَمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَأْكِيدَ التَّخْوِيفِ، وَإِطَالَةَ التَّأْنِيبِ وَالتَّعْنِيفِ؛ فَكَثُرَتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَلَوَاحِقُهُ، وَلَمْ يخلُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ طَرَفِ التَّرْجِيَةِ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ مَدْعُوُّونَ إِلَى الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدُّعَاءُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيدُ تَكْرَارٍ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَمَوَاطِنُ الِاغْتِرَارِ يُطْلَبُ فِيهَا التَّخْوِيفُ أَكْثَرَ مِنْ طَلَبِ التَّرْجِيَةِ؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ آكَدُ. وَتَرِدُ التَّرْجِيَةُ أَيْضًا وَيَتَّسِعُ مَجَالُهَا، وَذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ الْقُنُوطِ وَمَظِنَّتِهِ4؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] ؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا؛ فَأَتَوْا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: إن الذي تقول   1 فمثلًا سورة الرحمن ثلثها الأول تقريبًا آيات دالة على الصانع المبدع سبحانه توطئة لما يجيء بعد من التخويف والترغيب، وأنه بعلمه وقدرته وإبداعه لا يعجزه ما خوف منه وما رغب فيه، والثلث الثاني غاية التخويف والوعيد، والثالث غاية الترغيب والترجية. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للخلق"!! 3 اللدة: شدة الخصومة. "ف". 4 في "ط": "أو مظنته". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَلَنَا لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ؟ فَنَزَلَتْ1. فَهَذَا مَوْطِنُ خَوْفٍ يُخَافُ مِنْهُ الْقُنُوطُ؛ فَجِيءَ فِيهِ بِالتَّرْجِيَةِ غَالِبَةً2، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُودٍ: 114] ، وَانْظُرْ فِي سَبَبِهَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا3. وَلَمَّا كَانَ جَانِبُ الْإِخْلَالِ4 مِنَ الْعِبَادِ أَغْلَبَ؛ كَانَ جَانِبُ التَّخْوِيفِ أَغْلَبَ، وَذَلِكَ فِي مَظَانِّهِ الْخَاصَّةِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا لم يكن هنالك مظنة   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة، 7/ 165/ رقم 3855، وكتاب التفسير، باب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَاب} ، 8/ 494/ رقم 4764"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب منه، 4/ 2318/ رقم 3023" بعد "19" عن ابن عباس نحوه. وأخرجه من حديثه أيضًا بلفظ المصنف: البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب سورة الزمر، 8/ 549/ رقم 4810"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، 1/ 113/ رقم 122"، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 484"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 403"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 98". 2 لأنه أطلق الذنوب، فلم يقيد بصغيرة ولا كبيرة، ولم يشترط شرطًا ما؛ فلم يقل: "لمن يشاء"، ثم أكد الأمر بقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر: 53] ، ومثله يقال في إذهاب الحسنات للسيئات في الآية الآتية بعدها. وفي "ط": "بالترجية فيه غالبة". 3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} ، 4/ 2115-2116" عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له؛ فنزلت ... وأخرجه أيضًا البخاري في "صحيحه" "رقم 526، 4687"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، رقم 267"، والترمذي في "جامعه" "رقم 3114"، وابن ماجه في "سننه" "رقم 1398، 4254". 4 في "ط": "الانحلال". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 هَذَا وَلَا هَذَا أَتَى الْأَمْرُ مُعْتَدِلًا، وَقَدْ مَرَّ لِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَطَّرِدُ؛ فَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يُؤْتَى مَعَهُ بِالْآخَرِ، فَيَأْتِي التَّخْوِيفُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيَةٍ، وَبِالْعَكْسِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ... } [الْهَمْزَةِ: 1-9] إِلَى آخِرِهَا؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَخْوِيفٌ. وَقَوْلَهُ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ... } [الْعَلَقِ: 6-19] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَوْلَهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ... } [الْفِيلِ: 1-5] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الْأَحْزَابِ: 57-58] . وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ... } [الضُّحَى: 1-11] إِلَى آخِرِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... } [الشَّرْحِ: 1-8] إِلَى آخِرِهَا. وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ [النُّورِ: 22] . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَوْلُهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] . فَقَالَ ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 عَبَّاسٍ: لَكِنَّ قَوْلَ اللَّهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [الْبَقَرَةِ: 260] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضِيَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: {بَلَى} ". قَالَ1: "فَهَذَا لِمَا يَعْتَرِضُ فِي الصُّدُورِ مِمَّا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ"2. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: "فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مَا قَرَأَهُمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ عِنْدَ ذَنْبٍ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ". وَفَسَّرَ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آلِ عِمْرَانَ: 135] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] .   1 أي: إن عبد الله قال لابن عباس: إن هذا في موضوع آخر؛ كحديث القائل له, صلى الله عليه وسلم: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إليَّ من أن أتكلم به. فقال له, صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة" 1؛ فليس راجعًا إلى أصل الإيمان أو قبول فيه حتى تكون الآية أرجى الآيات كما فهمت. "د". 2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص149" بسند ضعيف، فيه عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم أبو صالح المصري، كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. 3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "149-150"، والطبراني في "مسند الشاميين" "2/ 334-335/ رقم 1444" بإسناد ضعيف، فيه أبو الفرات مولى صفية وهو مجهول، انظر عنه: "الاستغناء" لابن عبد البر "3/ 1511-1512"، ونحوه عن ابن مسعود في "تفسير القرطبي" "5/ 380"، وفيه: "وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة؛ قالا: قال ابن مسعود ... وذكره". وقلت: ظفرت به من طريق أبي الأحوص سلَّام بن سُلَيم عن أبي إسحاق السبيعي به، أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/ 1091/ رقم 526" ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 241/ رقم 9035"، وابن المنذر في "تفسيره" كما في هامش "تفسير ابن أبي حاتم" "2/ ق 68 =   1 سيأتي نحوه في "5/ 34". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ فِي النِّسَاءِ خَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا مَرُّوا بِهَا مَا يَعْرِفُونَهَا1 قَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 31] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 40] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 64] . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2 [النِّسَاءِ: 110] .   = /أ" وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 328/ رقم 9572"، كلاهما عن أبي الأحوص به. وإسناده رجاله ثقات، وأبو إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وقد اختلط، ولكن روى عنه سفيان قبل اختلاطه، وظفرتُ برواية سفيان -التي أشار إليها القرطبي- في "تفسير عبد بن حميد" كما في هامش "تفسير ابن أبي حاتم" "2/ ق 180/ أ". وأخرجه سعيد بن منصور بنحوه في "سننه" "4/ 1371/ رقم 687" -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 250-251/ رقم 9070"- بإسناد ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، ومجموع هذه الطرق تنبئ على أن للأثر أصلًا، وبها إن شاء الله يصل إلى درجة الحسن. 1 في الأصل و"ط": "ما يعرفونها"، وكذا في جميع الطبعات، والصواب حذف "ما" كما في مصادر التخريج. 2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص150"، وسعيد بن منصور في "السنن" "4/ 1297/ رقم 659", ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 250/ رقم 9069"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 361/ رقم 2203"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 305" ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "5/ 360-361/ رقم 2202"، جميعهم من طريق مسعر بن كِدَام عن معن بن عبد الرحمن عن أبيه؛ قال: قال عبد الله بن مسعود به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "7/ 11-12": "رجاله رجال الصحيح". قلت: نعم، ولكنه منقطع، لم يسمع عبد الرحمن من أبيه إلا حديثين؛ ولذا قال الحاكم عقبه, ووافقه الذهبي: "هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه؛ فقد اختلف في ذلك". ولهذا الأثر طرق تدل على أن له أصلًا؛ فأخرج عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 155-156" ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "8/ 256-257/ رقم 9233" عن معمر عن رجل عن ابن مسعود به نحوه. وأخشى أن يكون هذا الرجل المبهم هو عبد الرحمن، والحكم على هذا الإسناد متوقف على معرفته. وأخرج هناد في "الزهد" "2/ 454-455/ رقم 903" نحوه عن ابن مسعود، وفي إسناده بشير الأوديّ، وهو مجهول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وَأَشْيَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةٌ، إِذَا تُتِبِّعَتْ وُجِدَتْ؛ فَالْقَاعِدَةُ لَا تَطَّرِدُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَالُ: أَنَّ كُلَّ مَوْطِنٍ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَهُوَ الَّذِي يَطَّرِدُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، أَمَّا هَذَا التَّخْصِيصُ؛ فَلَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ غَيْرُ صادٍّ عَنْ سَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ: إِجْمَالِيٌّ، وَتَفْصِيلِيٌّ: فَالْإِجْمَالِيُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْعَامَّ وَالْقَانُونَ الشَّائِعَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا تَنْقُضُهُ الْأَفْرَادُ الْجُزْئِيَّةُ الْأَقَلِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْكُلِّيَّةَ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرِيَّةً فِي الْوَضْعِيَّاتِ انْعَقَدَتْ كُلِّيَّةً، وَاعْتُمِدَتْ فِي الْحُكْمِ بِهَا وَعَلَيْهَا، شَأْنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ1 الْجَارِيَةِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ مِنْ ذلك قليل، يدل عليه الِاسْتِقْرَاءِ؛ فَلَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا تَأَصَّلَ. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَةِ: 1] قضية   1 أي: فمع كونها أغلبية اعتبرها الشارع في إجراء الأحكام عليها، كما في أحكام السفر، وبناء التكليف على البلوغ الذي هو مظنة العقل، وهكذا، كما تقدم في "المقاصد" في المسألة العاشرة من النوع الأول والخامسة عشرة من النوع الرابع. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 عَيْنٍ فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ1 مِنَ الْكُفَّارِ، بِسَبَبِ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، مِنْ هَمْزِهِ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَعَيْبِهِ إِيَّاهُ؛ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ جَزَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ، لَا أَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى التَّخْوِيفِ؛ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ جَارٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} 2 [الْعَلَقِ: 6-7] ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيتين [الأحزاب: 57-58] جَارٍ3 عَلَى مَا ذُكِرَ. وَكَذَلِكَ سُورَةُ وَالضُّحَى، وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْحِ: 1] غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالشُّكْرِ لِأَجْلِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمِنَحِ. وَقَوْلُهُ: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النُّورِ: 22] قَضِيَّةُ عَيْنٍ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، نَفَّسَ بِهَا مِنْ كَرْبِهِ فِيمَا أَصَابَهُ بِسَبَبِ الْإِفْكِ الْمُتَقَوَّلِ عَلَى بِنْتِهِ عَائِشَةَ؛ فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ كَالتَّأْنِيسِ لَهُ وَالْحَضِّ عَلَى إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِدَامَتِهَا، بِالْإِنْفَاقِ عَلَى قَرِيبَةِ الْمُتَّصِفِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَحَبَّ اللَّهُ لَهُ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ. وَقَوْلُهُ: {لَا تَقْنَطُوا} [الزُّمَرِ: 53] وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي الْمُذَاكَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِذِكْرِ ذَلِكَ النَّقْضَ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلِ النَّظَرَ فِي مَعَانِي آيَاتٍ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 53] أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 54] ، وَفِي هَذَا تَخْوِيفٌ عظيم   1 هو أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو الوليد بن المغيرة أو العاصي بن وائل، أو هم جميعًا لأنهم كانوا أغنياء عيابين في النبي -صلى الله عليه وسلم- تنطبق عليهم الأوصاف التي في السورة. "د". 2 نزل في أبي جهل وإن كان المراد الجنس، وقد نزلت الآيات بعد ما قبلها من السورة بزمن طويل. "د". 3 لأنهما نزلتا في أبي بن سلول ومن معه في قضية الإفك، أو فيمن طعنوا عليه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية بنت حيي بن أخطب. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 مُهَيِّجٌ لِلْفِرَارِ مِنْ وُقُوعِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ1 مِنَ السَّبَبِ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَقْنَطُوا} [الزُّمَرِ: 53] رَافِعٌ لِمَا تُخُوِّفُوهُ مِنْ عَدَمِ الْغُفْرَانِ لِمَا سَلَفَ. وَقَوْلَهُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَةِ: 260] نَظَرَ فِي مَعْنَى آيَةٍ فِي الْجُمْلَةِ وَمَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا، وَإِلَّا؛ فَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} [الْبَقَرَةِ: 260] تَقْرِيرٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْوِيفِ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا، فَلَمَّا قَالَ: "بَلَى" حَصَلَ الْمَقْصُودُ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آلِ عِمْرَانَ: 135] كَقَوْلِهِ: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 53] . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النِّسَاءِ: 110] دَاخِلٌ تَحْتَ أَصْلِنَا لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النِّسَاءِ: 105] ، {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النِّسَاءِ: 107-109] . وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} آتٍ بَعْدَ الْوَعِيدِ عَلَى الْكَبَائِرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَالِكَ؛ كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْحَيْفِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَغَيْرِهِمَا، فَذَلِكَ مِمَّا يُرْجَى بِهِ [بَعْدَ] تَقَدُّمِ2 التَّخْوِيفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاءِ: 40] ؛ فَقَدْ أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 42] ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابًا مُهِينًا} [النِّسَاءِ: 37] ، بَلْ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] جمع التخويف مع الترجية.   1 "ص170". 2 لعل الأصل: "تقدمه"؛ أي: فقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} الآية مما يرجي به، لكن سبقه التخويف. "د". قلت: قاله بسبب سقوط "بعد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} 1 الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 64] تَقَدَّمَ قَبْلَهَا وَأَتَى بَعْدَهَا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ؛ فَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] جَامِعٌ لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّرْجِيَةِ مِنْ حَيْثُ قَيَّدَ غُفْرَانَ مَا سِوَى الشِّرْكِ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: "مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" أَنَّهَا آيَاتُ تَرْجِيَةٍ خَاصَّةٍ، بَلْ مُرَادُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ فِي الشَّرِيعَةِ مُحْكَمَاتٌ، قَدِ احْتَوَتْ عَلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ، وَأَحَاطَتْ بِقَوَاعِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا مَرُّوا بِهَا مَا يَعْرِفُونَهَا"2، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ جَارٍ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَوْطِنٍ ما يناسبه [وإن الذي يُنَاسِبُهُ] إِنْزَالُ الْقُرْآنِ إِجْرَاؤُهُ3 عَلَى الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ لَا أَنَّهُ أُنْزِلَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: وَمِنْ هُنَا يُتَصَوَّرُ لِلْعِبَادِ أَنْ يَكُونُوا دَائِرِينَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ دَائِرَةٌ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ .... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 57-60] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] .   1 "جاءوك" سقطت من الأصل. 2 كذا في الأصول كلها، وسبق التنبيه قريبًا "ص174" أن الأثر في كتب التخريج دون "ما". 3 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط، ولذا كتب "د": "إجراؤه بدل من إنزال"، وقال "ف": "لعل العبارة: ما يناسب إنزال القرآن وإجراؤه". قلت: وكذا أثبتها "م". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه} [الْإِسْرَاءِ: 57] . وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ طَرَفُ الِانْحِلَالِ وَالْمُخَالَفَةِ؛ فَجَانِبُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ أَقْرَبُ، وإن غلب [الخوف] 1 عَلَيْهِ طَرَفُ التَّشْدِيدِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ فَجَانِبُ الرَّجَاءِ إِلَيْهِ أَقْرَبُ، وَبِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ2، وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى قَوْمٍ جَانِبُ الْخَوْفِ قِيلَ لَهُمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] . وَغَلَبَ عَلَى قَوْمٍ جَانِبُ الْإِهْمَالِ فِي بَعْضِ3 الْأُمُورِ، فَخُوِّفُوا وَعُوتِبُوا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 57] . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي آيَاتِهِ؛ فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلُ على وفق ذلك التأديب.   1 زيادة من "م" فقط. 2 تجد طائفة من الأحاديث الواردة في ذلك في "التذكرة" للقرطبي، يسر الله إتمامه ونشره. 3 تقدم أن الآية نزلت في أبي بن سلول أو فيمن طعنوا فيه وعابوه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية، وسواء أكان هذا أم ذاك؛ فقد نزلت في شأن قوم من الكفار، والموضع الآن لذكر المؤمنين الذين غلب عليهم أحد الطرفين وطريقة تأديبهم، فلو ذكر في تأديب من غلب عليه جانب الإهمال في بعض الأمور مثل آية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16] ؛ لكان ظاهرًا وصح تسميته عتابًا، أما الذين يلعنون في الدنيا والآخرة؛ فلا يعد هلاكهم الأبدي عتابًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَكْثَرُهُ كُلِّيٌّ1 لَا جُزْئِيٌّ، وَحَيْثُ جَاءَ جُزْئِيًّا؛ فَمَأْخَذُهُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ إِمَّا بِالِاعْتِبَارِ2، أَوْ بِمَعْنَى3 الْأَصْلِ؛ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِثْلَ خَصَائِصِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ الْمُعْتَبَرِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ4 إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبَيَانِ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ عَلَى كَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا إِنَّمَا هِيَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] . وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِي مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة" 5.   1 معنى الكلية هنا أنه لا يختص بشخص دون آخر، ولا بحال دون حال، ولا زمان دون آخر، وأيضًا ليس مفصلًا مستوعبًا لشروط وأركان وموانع ما يطلب أو ما ينهى عنه، وهو المسمى بالمجمل، وإنما حملنا الكلية على هذين المعنيين معًا لتنزيل كلامه الآتي عليه، ألا ترى إلى قوله: "إلا ما خصه الدليل"، وإلى قوله: "ويدل على هذا المعنى أنه محتاج إلى كثير من البيان"، وقوله: "وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة ... إلخ"؟ "د". قلت: بين هذه الكليات ابن القيم في "مدارج السالكين" "1/ 452-453, ط الفقي". 2 أي: باعتبار المآلات، وهو المسمى بالاستحسان. "د". 3 وهو القياس. "د". 4 لمعرفة التفاصيل والشروط والموانع وأركان الماهيات الشرعية وغير ذلك، وهذه الحاجة هي علامة الكلية. "د". 5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم "بعثت بجوامع = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وَإِنَّمَا1 الَّذِي أُعْطِيَ الْقُرْآنَ، وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَبَيَانٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْقُرْآنُ عَلَى اخْتِصَارِهِ جَامِعٌ، وَلَا يَكُونُ جَامِعًا إِلَّا وَالْمَجْمُوعُ فِيهِ أُمُورٌ كُلِّيَّاتٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تَمَّتْ بِتَمَامِ نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 3] . وَأَنْتَ2 تَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْجِهَادَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ لَمْ يَتَبَيَّنْ جَمِيعُ أَحْكَامِهَا فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْهَا3 السُّنَّةُ، وَكَذَلِكَ الْعَادِيَّاتُ مِنَ الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها.   = الكلم"، 13/ 247/ رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. وفي "ط": "ما من الأنبياء من نبي ... ". قال "ف" شارحًا "ما مثله آمن عليه البشر": "أي: لأجله، بحيث إذا شاهده اضطر إلى التصديق به؛ فموسى -عليه السلام- أعطي آية العصا وقلبها حية لأن الغلبة إذ ذاك للسحرة؛ فجاءهم بما يوافق السحر، فاضطرهم إلى الإيمان بذلك، وكذلك عيسى أعطي آية إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ لأن الغلبة في زمانه للطب، فجاءهم بما هو أعلى منه، وهو إحياء الموتى. وفي زمان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت الغلبة للبلاغة والبيان؛ فجاءهم بالقرآن من جنس ما تناهوا فيه مما عجز عنه البلغاء الكاملون في عصره؛ فاضطرهم إلى التصديق بمعجزاته، وهكذا كل نبي أعطي من المعجزات ما يناسب أهل زمانه مما إذا شوهد اضطر الشاهد إلى التصديق به بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، ولا يقدر على الإتيان بمثله" ا. هـ. 1 لأنه المشتمل على ما آمن لأجله الناس من المعجزة، وليس هذا في السنة، وإذا كان الذي أعطيه هو القرآن؛ فلا يتأتى أن يكون جامعًا لحاجة البشر في دينهم ودنياهم؛ إلا إذا كان مشتملًا على التفاصيل في معاملة الخلق والخالق، ولكنه يبقى أن يقال: إنه ورد في الحديث الآخر: "أعطيت القرآن ومثله معه"؛ فهذا الحصر غير مسلم إلا باعتبار الإعجاز الذي في الحديث؛ فلا يظهر وجه الاستدلال بالحديث على الكلية لتعريفه للأحكام الشرعية. "د". 2 من تتمة الدليل قبله. "د". 3 وسيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان ذلك بتفصيل. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وَأَيْضًا1، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى رُجُوعِ الشَّرِيعَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَجَدْنَاهَا قَدْ تَضَمَّنَهَا2 الْقُرْآنُ عَلَى الكمال، وهي3 الضروريات والحاجيات والتحسينيات وَمُكَمِّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا4؛ فَالْخَارِجُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَنِ الْكِتَابِ هُوَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَدَّ النَّاسُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاءِ: 105] مُتَضَمِّنًا لِلْقِيَاسِ، وَقَوْلَهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7] مُتَضَمِّنًا لِلسُّنَّةِ، وَقَوْلَهُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] مُتَضَمِّنًا لِلْإِجْمَاعِ، وَهَذَا أَهَمُّ مَا يَكُونُ. وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ .... " 5 إِلَخْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ يعقوب،   1 استدلال آخر على كلية تعريف الكتاب للأحكام الشرعية. "د". 2 في "ط": "تضمنت". 3 انظر بيانه الوافي في المسألة الرابعة من دليل السنة من قوله: "وَمِنْهَا النَّظَرُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ في الجملة ... ". "د". 4 لعل الأصل: "وأيضًا؛ فالخارج ... إلخ" ليكون دليلًا ثالثًا على الكلية بالمعنيين وتكون هذه الآيات الثلاث من أوسع كلياته شمولًا، وهو ما يشير إليه قوله: "وهذا أهم ما يكون". "د". قلت: هو في "ط" كذلك: "وأيضًا؛ فالخارج ... ". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، 8/ 630/ رقم 4886، 4887، وكتاب اللباس، باب الموصولة، 10/ 378/ رقم 5943، وباب المستوشمة، 10/ 380/ رقم 5948"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، 3/ 1678/ رقم 2125", والترمذي "أبواب الأدب, باب ما جاء في الواصلة والمستوصلة, 5/ 104/ رقم 2782"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب لعن المتنمصات والمتفلجات، 8/ 188"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب الواصلة والمستوشمة، 1/ 640/ رقم 1989"، وأحمد في "المسند" "1/ 433-434، 443، 448، 454، 462، 465" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- به.= الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَذَكَرَتْهُ. فقال عبد الله: وما لي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ1 رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ! فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، قَالَ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] الْحَدِيثَ. وَعَبْدُ اللَّهِ مِنَ الْعَالِمِينَ بِالْقُرْآنِ. فَصْلٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ دُونَ النَّظَرِ فِي شَرْحِهِ وَبَيَانِهِ وَهُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلِّيًّا وَفِيهِ أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ2 كَمَا فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا؛ فَلَا مَحِيصَ عَنِ النَّظَرِ فِي بَيَانِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي تَفْسِيرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ إِنْ أَعْوَزَتْهُ السُّنَّةُ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا؛ فَمُطْلَقُ3 الْفَهْمِ الْعَرَبِيِّ لِمَنْ حَصَّلَهُ يَكْفِي فِيمَا أعوز من ذلك، والله أعلم.   1 أي: في الحديث السابق، وهو لم يرفعه هنا اكتفاء بقوله: "لعن رسول الله"، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ... } إلخ [الحشر: 7] ؛ فالحديث دليل تفصيلي لمسألتها والآية دليل إجمالي. "د". 2 يتأمل في الفرق بين كونه كليًّا وبين أن فيه أمورًا كلية. "د"، و"جملية" من "ط" فقط، وبدلها في غيره "كلية". 3 المراد الفهم الناشئ عن الدربة فيه كما تقدم آنفًا لا مجرد أي فهم عربي فرض. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقُرْآنُ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَالْعَالِمُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ1 الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَعُوزُهُ2 مِنْهَا شَيْءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: - مِنْهَا: النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ، مِنْ قَوْلِهِ3: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 4 الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 3] . وَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] . وَقَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 5 [الْأَنْعَامِ: 38] . وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الْإِسْرَاءِ: 9] ، يَعْنِي: الطريقة الْمُسْتَقِيمَةَ6، وَلَوْ لَمْ يَكْمُلْ فِيهِ جَمِيعُ مَعَانِيهَا؛ لَمَا صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُدًى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَا يَكُونُ شِفَاءً لِجَمِيعِ7 مَا فِي الصُّدُورِ إِلَّا وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. - وَمِنْهَا: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمُؤْذِنَةِ بِذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النور المبين، والشفاء النافع، عصمة   1 أي: عالم بالشريعة إجمالًا، لا ينقصه من إجمالها وكلياتها شيء. "د". قلت: انظر "مجموع الفتاوى" "17/ 443-444 و19/ 175-176، 308 و34/ 206-207"، و"جواهر القرآن ودرره" "ص26-27" للغزالي، و"النبأ العظيم" "ص117 وما بعدها". 2 في "ط": "لا يعوزه". 3 ربما يقال: إكماله بالكتاب والسنة؛ لأنه لم يقل: أكملته في خصوص الكتاب. "د". 4 {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} سقطت من الأصل. 5 بناء على أن المراد به القرآن، وفيه أقوال أخرى معتبرة. "د". 6 وهي النظام الكامل في معاملة الخلق والخالق. "د". 7 جاء به من لفظ: "ما" العام. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةً لِمَنْ تَبِعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ 1، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ ... " 2 إِلَخْ؛ فَكَوْنُهُ حَبْلَ اللَّهِ بِإِطْلَاقٍ، وَالشِّفَاءَ النَّافِعَ إِلَى تَمَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الْأَمْرِ فِيهِ. وَنَحْوِ هَذَا فِي3 حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ, عَلَيْهِ الصلاة والسلام4.   1 أي: يرجع عن الزيغ، ويطلب الرضا. "ف". 2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 6017"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 165, ط دار الفكر، و10/ 482-483/ ط الهندية"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 555"، والمروزي في "قيام الليل" "ص121"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 100"، والطبراني في "الكبير" "9/ 139/ رقم 8646"، وابن منده في "الرد على من يقول {الم} حرف/ رقم 11"، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 30، 31، 32"، وابن الضريس في "فضائل القرآن" "58"، والآجري في "أخلاق حملة القرآن" "11"، والبيهقي في "الشعب" "4/ 550"، والخطيب البغدادي في "الجامع" "1/ 107"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 109/ رقم 145" عن ابن مسعود مرفوعًا بهذا اللفظ، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو متروك. وانظر: "الميزان" "1/ 166"، و"تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 212"، وأخرجه عن ابن مسعود مختصرًا أيضًا الدارمي في "السنن" "1/ 429"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "2/ 278" من طريق أبي الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "4/ 252"، والشجري في "أماليه" "1/ 84" بإسناد فيه الهجري السابق، وقد أوقفه بعضهم على ابن مسعود، وهو أشبه؛ كما عند ابن المبارك في "الزهد" "279"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 462"، والفريابي في "الفضائل" "63"، وإسناده صحيح موقوفًا. 3 في الأصل و"د": "من". 4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، 5/ 172/ رقم 2906"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 164"، والدارمي في "السنن" "2/ 435"، والبزار في "البحر الزخار" "3/ 70-72"، وأحمد في "المسند" "1/ 91"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 302-303/ رقم 367"، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" "ص123"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 80، 81، 82"، وإسحاق بن راهوية -كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 212"- وفيه: "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم ... "، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن علي إلا الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم 322"= الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ كُلَّ مُؤَدِّبٍ يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى أَدَبُهُ، وَإِنَّ أَدَبَ اللَّهِ الْقُرْآنُ" 1. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"2، وَصَدَّقَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [الْقَلَمِ: 4] . وَعَنْ قَتَادَةَ: "مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا فَارَقَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ"، ثُمَّ قَرَأَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ: 82] 3. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آلِ عِمْرَانَ: 193] ؛ قَالَ: "هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلُّهُمْ رأى النبي, صلى الله عليه وسلم"4.   = والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 80، 81، 82"، وإسحاق بن راهوية -كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 212"- وفيه: "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم ... "، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن علي إلا الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم 322". 1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21، 52"، والدارمي في "السنن" "2/ 433"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص289" عن ابن مسعود قوله. ورفعه بعضهم فوهم. انظر: "ضعيف الجامع" "رقم 4247". 2 مضى تخريجه "2/ 332"، وهو صحيح. 3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص23"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 437" عن قتادة به، وذكره عنه القرطبي في "التفسير" "10/ 320"، والغزالي في "الإحياء" في "آداب تلاوة القرآن". 4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "7/ 480"، وأبو عبيد في "الفضائل" "ص24". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 وَفِي الْحَدِيثِ: "يَؤُمُّ النَّاسَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ" 1، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ؛ فَالْعَالِمُ بِالْقُرْآنِ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ. وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ2. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: "إِذَا أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ؛ فَأَثِيرُوا3 الْقُرْآنَ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ"4.   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، 1/ 465/ رقم 673" عن أبي مسعود الأنصاري مرفوعًا. 2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص37"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 155" من طريق محمد بن عبد الرحمن السدوسي عن معفس بن عمران بن حطان عن أم الدرداء عن عائشة به، وإسناده ضعيف، معفس مترجم في "الجرح والتعديل" "8/ 433"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. 3 بالتفهم فيه. "د". 4 أخرجه مسدد في "المسند" -كما في "المطالب العالية" "ق 108 -ب- المسندة و3/ 133/ رقم 3079- المطبوعة"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" "ص229"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "291-292"، والطبراني في "الكبير" "9/ 146/ رقم 8666" من طريق شعبة، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "41-42"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 814", ومن طريقه الفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 78" -وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 485"- ومن طريقه النحاس في "القطع والائتناف" "ص84"، وأبو الليث السمرقندي في "بحر العلوم" "1/ 202-204" من طريق سفيان الثوري، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 7/ رقم 1", ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "4/ 513/ رقم 1808" عن حديج بن معاوية، وابن أبي شيبة في "المصنف" "14/ 94" من طريق زهير, والطبراني في "الكبير" "9/ 145-146/ رقم 8664 و8665" من طريق إسرائيل وزهير، خمستهم عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل البكيلي عن ابن مسعود به، وأبو إسحاق مدلس، وقد اختلط، ورواية شعبة عنه مأمونة؛ فإنه قال: "كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة"، و"هذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة, إنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع، ولو كانت معنعنة"، قاله ابن حجر، وهو -أي شعبة- ممن روى عن أبي إسحاق قبل الاختلاط؛ فطريقه صحيحة على شرط الشيخين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو1؛ قَالَ: "مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ؛ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَقَدْ أُدْرِجَتِ2 النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يوحى إليه"3.   1 في الأصل والطبعات كلها: "عمر" بضم العين، والصواب فتحها، كما في مصادر التخريج و"ط". 2 في مطبوع "فضائل القرآن" لأبي عبيد: "استدرج"، وفي "ط": "استدرجت". 3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 155, ط دار الفكر" عن وكيع عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف للمبهم الذي فيه، ولضعف ابن رافع. وأخرجه من طريق ابن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الله بن عمرو به المروزي في "زياداته على زهد ابن المبارك" "رقم 799"، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" "72". وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "53" عن يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن ثعلبة بن أبي الكنود عن عبد الله بن عمرو به قوله. وكذا أخرجه المروزي في "زياداته على فضائل أبي عبيد" "ص53" عن مرو بن الربيع بن طارق عن يحيى به. وخالفه يحيى بن عثمان بن صالح السهمي؛ فرواه عن عمرو بن الربيع ورفعه؛ كما عند الحاكم في "المستدرك" "1/ 552"، والموقوف أشبه، والله أعلم. نعم، ورد في المرفوع من مرسل الحسن عند سعيد بن منصور في "السنن" "2/ 263/ رقم 68" بإسناد ضعيف جدًّا، وعن أبي أمامة عند ابن حبان في "المجروحين" "1/ 187-188"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 440-441"، وابن الأنباري في "المصاحف" -كما في "تفسير القرطبي" "1/ 8- والبيهقي في "الشعب" "4/ 557 و5/ 530"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "1/ 252-253"، وفيه بشر بن نمير متهم، وله نسخة عن القاسم بن يزيد عن أبي أمامة -وهذا الحديث منها- ساقطة؛ كما في "الميزان" "1/ 326"، وعن ابن عمر أخرجه الخطيب في "تاريخه" "12/ 446"، وفيه إبراهيم الملطي، كان كذابًا أفاكًا يضع الحديث كما قال الخطيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَقَدِ اضْطَّرَبَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ"1. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لأنه2 جَامِعٌ لِمَعَانِي النُّبُوَّةِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. - وَمِنْهَا: التَّجْرِبَةُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَجَأَ إِلَى الْقُرْآنِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا وَجَدَ لَهَا فِيهِ أَصْلًا، وَأَقْرَبُ الطَّوَائِفِ مِنْ إِعْوَازِ الْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقِيَاسَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ3 الدَّلِيلِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمِ الظَّاهِرِيِّ4: "كُلُّ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَيْسَ مِنْهَا بَابٌ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، نَعْلَمُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، حَاشَ الْقِرَاضَ؛ فَمَا وَجَدْنَا لَهُ أَصْلًا فِيهِمَا أَلْبَتَّةَ"5 إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْقِرَاضَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ, وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ، فِي الْقُرْآنِ ثَابِتٌ6، وَبَيَّنَ ذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ الصلاة   1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص53" موقوفًا، وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط. 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أنه". 3 لكن يقال: إن لم يجدوا في القرآن وجدوا في السنة؛ فبعض الأدلة على ما ترى، ويرشح النظر الذي أشرنا إليه ما نقله عن ابن حزم، وما عقب به على استثنائه باب القراض. "د". 4 الظاهرية هم الواقفون عند ظواهر نصوص الشريعة من غير اعتبار القياس بدعوى أنها تفي بأحكام الوقائع حيثما تجددت، ومن مقتضى مذهبهم أن الحديث متى ثبت سنده يعتبر كقاعدة مستقلة بنفسها، ويجب العمل به من غير أن تتحكم فيه القواعد بتعطيل أو تخصيص أو تقييد أو تعميم أو إطلاق ... إلخ. ا. هـ. "ف". 5 انظر: "النبذ في أصول الفقه" "ص118". 6 وذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 26-27] ، وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في "الأم" "3/ 250": "فأجاز الإجارة على الرضاع، والرضاع يختلف لكثرة رضاع المولود وقلته، وكثرة اللبن وقلته، ولكن لما لم يوجد فيه إلا هذا جازت الإجارة عليه، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وَالسَّلَامُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ بِهِ1. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْقَوَاعِدِ غَيْرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ فِي السُّنَّةِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ مَا فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرَى مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ" 2، وَهَذَا ذَمٌّ، ومعناه اعتماد السنة أيضًا.   = وإذا جازت عليه جازت على مثله، وما هو في مثل معناه، وأحرى أن يكون أبين منه، وقوله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] ، معنى هذه الآية أن موسى قال للخضر, عليهما السلام: لو شئت لاتخذت أجرًا على إقامة الجدار المنهدم، قال الماوردي في "الحاوي الكبير" "9/ 203": "فدل ذلك من قول موسى وإمساك الخضر على جواز الإجارة واستباحة الأجرة" وترجم البخاري في "صحيحه" "باب إذا استأجر أجيرًا على أن يقيم حائطًا يريد أن ينقض جاز"، وأورد هذه الآية، وانظر: "الإجارة الواردة على عمل الإنسان" "ص35-37". 1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، 4/ 442/ رقم 2263، وباب إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، 4/ 443/ رقم 2264" عن عائشة, رضي الله عنها: " ... واستأجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل ثم من بني عبيد بن عدي هاديًا خريتًا ... فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ... ". 2 أخرجه بهذا اللفظ الحميدي في "المسند" "551" -ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "1/ 108-109"، والهروي في "ذم الكلام" "ص71"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2341"- عن ابن المنكدر مرسلًا، وليس الحديث في "الصحيح" كما قال المصنف. نعم، الحديث صحيح ثابت بتعدد طرقه وشواهده، منها: ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200/ رقم 4604"، وأحمد في "المسند" "4/ 130-131"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن نصر المروزي في "السنة" "ص116"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 549"، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "1/ 89"، والحازمي في "الاعتبار" "ص7"، وابن عبد البر في "التمهيد" "1/ 149-150"، والهروي في "ذم الكلام" "73" من طريق حريز بن عثمان عن عبد الله بن أبي عوف الجرشي عن المقدام بن معدي كرب مرفوعًا، وإسناده صحيح. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 وَيُصَحِّحُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 59] . قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: "الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ إِذَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ؛ فَالرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ"1. وَمِثْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2 الآية [الأحزاب: 36] .   = وتابع حريزًا مروان بن رؤبة التغلبي؛ كما عند أبي داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع، 3/ 355/ رقم 3804, مختصرًا"، والدارقطني في "السنن" "4/ 287"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 97, موارد"، وابن نصر في "السنة" "ص116"، والخطيب في الفقيه والمتفقه" "1/ 89"، وابن رؤبة مقبول، وقد توبع. وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي, صلى الله عليه وسلم 5/ 38/ رقم 2669"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتغليظ على من عارضه، 1/ 6/ رقم 12"، وأحمد في "المسند" "4/ 130-131"، والدارمي في "السنن" "1/ 144"، والدارقطني في "السنن" "4/ 286"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 76"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 88"، و"الكفاية" "8-9"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2343"، والحازمي في "الاعتبار" "ص245"، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" "ص3"، والهروي في "ذم الكلام" "ص72" من طريق معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب، وذكر لفظًا نحوه، وسيأتي عند المصنف "ص323"، والحسن بن جابر وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول"، وفي الباب عن جماعة كما سيأتي "ص323". 1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "5/ 96"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 58، 59، 85"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 72-73/ رقم 76"، والهروي في "ذم الكلام" "ص76"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2328، 2344"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 474"، وابن شاهين في "السنة" "45"، والخطيب في "الفقيه" "1/ 144" بإسناد حسن، وذكره البيهقي في "الاعتقاد" "ص129"، وأسنده في "المدخل" كما في "مفتاح الجنة" "ص20". 2 {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ساقطة من الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 [وَلَا] يُقَالُ1: إِنَّ السُّنَّةَ يُؤْخَذُ بِهَا عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ لِكِتَابِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النَّحْلِ: 44] , وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا لِلْكِتَابِ؛ فَفِي أَحَدِ قِسْمَيْهَا، فَالْقِسْمُ الْآخَرُ2 زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ [عَلَى] خَالَتِهَا3، وَتَحْرِيمِ الحُمر الْأَهْلِيَّةِ4، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ5. وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بكافر"6.   1 المناسب أن يكون قد سقط منه كلمة "لا"؛ فهو ينفي من أول الأمر صحة أن يكون هذا جوابًا ويدفع توهم الإجابة به، أما ما قيل من أصله "ويمكن أن يقال"؛ فإنه لا يناسب قوله بعد: "لأنا نقول"؛ إذ هو تعليل لنفي صحة الإجابة به لا لإمكانها. "د". قلت: وهذا رد على "ف"؛ حيث قال: "ويمكن أن يقال: أي: جوابًا عن قوله، ولقائل ... إلخ، وقوله: "لأنا نقول" رد لهذا الجواب". قلت: والمثبت من "ط" فقط. 2 لعله: "والقسم" بالواو، وسيأتي هذا التقسيم. "ف". 3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 82"، وما بين المعقوفتين ليس في "د". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 7/ 467-468/ رقم 4198، 4199"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحُمر الإنسية، 3/ 1540/ رقم 1940" عن أنس؛ قال: " .... فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس أو نجس". وفي الباب عن جماعة من الصحابة. 5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. 6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كتابة العلم، 1/ 204/ رقم 111" عن أبي جحيفة؛ قال: قلت لعلي ... وذكره. وانظر دراسة توثيقية فقهية جيدة عن "صحيفة علي بن أبي طالب" رضي الله عنه في دراسة مستقلة للدكتور رفعت فوزي عبد المطلب، طبع دار السلام - القاهرة، سنة 1406هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ؛ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَصَّلَتْ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الدَّلِيلِ الثَّانِي، وَهُوَ السُّنَّةُ1 بِحَوْلِ اللَّهِ. وَمِنْ نَوَادِرِ الِاسْتِدْلَالِ الْقُرْآنِيِّ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ أَقَلَّ: الْحَمْلِ2 سِتَّةُ أَشْهُرٍ انْتِزَاعًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15] مَعَ قَوْلِهِ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} 3 [لُقْمَانَ: 14] .   1 في المسألة الرابعة هناك التفصيل الوافي في السؤال والجواب. "د". 2 جعلوه في الأصول من باب دلالة المنطوق غير الصريح، من نوع دلالة الإشارة، وهو ما كان لازمًا لم تقصد إفادته، ومثله دلالة الحديث: "تمكث شطر دهرها لا تصلي" على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا. "د". قلت: إلا أن حديث "تمكث ... " لم يصح؛ كما فصلناه في التعليق على "2/ 152"، والمثبت من "ط" وفي غيره: "علي أنه قال: الحمل ... "!! 3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825, رواية يحيى"، ومن طريقه إسماعيل بن إسحاق القاضي في "أحكام القرآن"، كما في "المعتبر" "رقم 208"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 442-443" أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها، وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ، وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ؛ قال: فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل ستة أشهر. ووصله ابن أبي ذئب في "موطئه" كما في "الاستذكار" "24/ 73"، ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "35/ 102"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 979"، وابن أبي حاتم في "تفسيره", ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 214", من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن بعجة بن عبد الله الجهني به مطولًا، قال ابن حجر: "هذا موقوف صحيح"، وقال: = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وَاسْتِنْبَاطُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ1 مِنْ قَوْلِهِ2: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الآية [الحشر: 10] .   = "وأظن مالكًا سمعه من ابن قسيط؛ فإنه من شيوخه". ثم قال: "وقد أخرج إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بسند له فيه رجل مبهم عن ابن عباس أنه جرى له مع عثمان في نحو هذه القصة الذي جرى لعلي؛ فاحتمل أنه كان محفوظًا أن يكون توافق معه، وأما احتمال التعدد؛ فبعيد جدًّا". قلت: وأخرج ما جرى وابن عباس مع عثمان: ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 977، 978"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 34, ط شاكر"، وسعيد بن منصور في "سننه" "3/ 2/ 69"، وعبد الرزاق في "المصنف" "7/ 351، 352"، وهذه رواية ثقات أهل مكة، والرواية الأولى رواية أهل المدينة، وأهل البصرة يرونها لعمر بن علي؛ كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 979"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 442". وانظر: "الاستذكار" "24/ 74-75"، و"المعتبر" "ص194" للزركشي، و"تفسير ابن كثير" "4/ 136، 157". 1 ذكره عن مالك أيضًا البغوي في "شرح السنة" "1/ 229"، والقاضي عياض في "الشفا" "2/ 268"، والقرطبي في "تفسيره" "16/ 296-297و18/ 32"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 97"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص76, بتحقيقي"، وابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" "252". وأخرجه عنه مسندًا ابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 190"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ رقم 2400"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 327"، وابن عبد البر في "الانتقاء" "35"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" "رقم 32، 33, بتحقيقي"، والخطيب كما قال القرطبي في "التفسير" "16/ 296-297"، وهو صحيح عنه. 2 رأى ابن عمر كما في "صحيح أبي داود" أن آية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه .... } إلخ [الحشر: 7] استوعبت ما ذكر فيها وما بعده من الفقراء والمهاجرين والذين تبوءوا الدار والذين جاءوا من بعدهم؛ فجعل مالك قولهم: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] شرطًا لاستحقاقهم في الفيء؛ لأن قوله: "يقولون" حال؛ فهو قيد في الاستحقاق من الفيء، وأي غل أعظم من غل من يسب الصحابة؟ أما على رأي من يجعل قوله: "للفقراء ... إلخ" كلامًا مستأنفًا؛ فلا يظهر وجه الاستدلال به. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "الْوَلَدُ لَا يَمْلِكُ"1: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] . وَقَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ2: "إِنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَا يُسَمَّى إِنْسَانًا" مِنْ قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} [الْعَلَقِ: 2] . وَاسْتِدْلَالُ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّ غَيْرُ مَطْبُوعٍ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ3 بُقُولِهِ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النَّحْلِ: 78] . وَأَغْرَبُ [من] 4 ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ ابْنِ الْفَخَّارِ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَاءَ بِالرِّءُوسِ إِلَى جَانِبٍ عِنْدَ الْإِبَايَةِ وَالْإِيمَاءَ بِهَا سُفْلًا عِنْدَ الْإِجَابَةِ5 أَوْلَى مِمَّا يَفْعَلُهُ   1 لأنه رد عليهم بأنهم عباد الله، جمع عبد، فمعناه أنه كيف يجمع بين كونهم عبادًا وهو مسلم وبين كونهم أولاد الله؟ يعني: ولا يتأتى ذلك لما هو مسلم من أن الولد لا يملك لوالده للتنافي في اللوازم؛ فالقرآن يقرر هذا الحكم بهذه الدلالة الإشارية. "د". قلت: انظر: "الإكليل" للسيوطي "ص179". 2 في "أحكام القرآن" "4/ 1955". 3 واستنبط السيوطي في "الإكليل" "163" منها على أن الأصل في الناس الجهل حتى يبحثوا عن العلم. 4 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة، وأثبتناها من "م"، وكتب "ف": "الأنسب "وأغرب من ذلك"". 5 على فرض أنها تفيد أن الإيماء إلى جانب فيه الإباية؛ فليس في الآية ما يفيد أن الإيماء سفلاً فيه الإجابة، وأيضًا؛ فأصل الكلام إنكار لفعلهم هذا، وأن عادتهم كانت كذلك، وليس فيه إقرار لفعلهم حتى تؤخذ الأولوية للإشارة عند الإباية بليّ الرءوس؛ فلذا عده غريبًا، ولو أطلق عليه أكثر من ذلك لحق له. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 الْمَشَارِقَةُ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} الْآيَةَ [الْمُنَافِقُونَ: 5] . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ الصُّوفِيُّ إِذَا لَبِسَ شَيْئًا خَرَقَ فِيهِ مَوْضِعًا؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: أَيْنَ فِي الْعِلْمِ إِفْسَادُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ؟ فَقَالَ: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} 1 [ص: 33] . ثُمَّ قَالَ الشِّبْلِيُّ: أَيْنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَبِيبَ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ؟ فَسَكَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَقَالَ لَهُ: قُلْ: قَالَ قَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 18] . وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ2 عَلَى مَنْعِ سَمَاعِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الآية [الأعراف: 143] .   1 إفساد المال في شريعتنا غير جائز، وخوف الاشتغال به لا يجيز إفساده، وطرق التحفظ من الاشتغال به كثيرة منها الهبة والصدقة وغيرهما، وشرع من قبلنا يعمل به ما لم ينسخ، على أنه إذا كان المسح برقاب الخيل وسوقها معناه ضربهما بالسيف كما قاله الجمهور, لا المسح باليد عند استعراضها لتفقد أحوالها وإصلاح شأنها كما قال الفخر الرازي والطبري، وكما روى عن ابن عباس والزهري، فأما أن يكون ذلك في شريعته للتقرب بذبحها كما يتقرب النعم، وأما أن يكون مجرد خدش ليكون علامة على تحبيسها في سبيل الله على حد وسم إبل الصدقة، قال الآلوسي: "أما إنه أتلفها غضبًا لأنها شغلته؛ فقول باطل لا ينظر إليه" ا. هـ. وهذا كله داخل تحت قوله: "وفي بعض هذه الاستدلالات نظر". "د". قلت: قال القرطبي في "تفسيره" "15/ 197": "وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا، وهو استدلال فاسد". 2 رتب موسى -عليه السلام- طلب النظر على تكليم الله تعالى له؛ ففهم هذا البعض أن موسى بنى هذا على أن من يجوز سماع كلامه يجوز النظر إليه وبالعكس, وحيث إن المرأة لا تجوز رؤيتها باتفاق؛ فلا يجوز سماع كلامها، وما أبعد هذا لا سيما مع ملاحظة الفرق في مادة الجواز؛ ففي مسألة موسى الجواز عقلي، ومسألة رؤية المرأة وسماع كلامها الكلام فيه من أحكام التكليف الخمسة، فلما لم تجز رؤية المرأة والنظر إليها باتفاق؛ لم يجز سماع كلامها. "د". قلت: والصواب أن النساء يرين الله تعالى، والأدلة على ذلك كثيرة، وانتصر لهذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة مفردة موجودة في "مجموع الفتاوى" "6/ 401-460"، وكذا السيوطي في "تحفة الجلساء في رؤية الله للنساء"، وهي مطبوعة في "الحاوي للفتاوى" له "2/ 198-201". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ نَظَرٌ. فَصْلٌ: وَعَلَى هذا لا بد فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ يُرَادُ تَحْصِيلُ عِلْمِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى أَصْلِهَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنْ وُجِدَتْ مَنْصُوصًا عَلَى عَيْنِهَا أَوْ ذُكِرَ نَوْعُهَا أَوْ جِنْسُهَا؛ فَذَاكَ، وَإِلَّا؛ فَمَرَاتِبُ النَّظَرِ فِيهَا مُتَعَدِّدَةٌ، لَعَلَّهَا تُذْكَرُ بَعْدُ فِي مَوْضِعِهَا, إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ قَبْلَ هَذَا أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ فَإِمَّا مَقْطُوعٌ بِهِ، أَوْ رَاجِعٌ إِلَى مَقْطُوعٍ1 بِهِ، وَأَعْلَى مَرَاجِعِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ فَهُوَ أَوَّلُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَدْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا الْعَمَلُ خَاصَّةً، فَيَكْفِي الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى السُّنَّةِ الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ، كَمَا يَكْفِي الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ أَضْعَفُ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى أَصْلِهَا فِي الْكِتَابِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى ذَلِكَ فِي جَعْلِهَا أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، أَوْ دِينًا يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ تَلَقِّيهَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ2 كَمَا تَقَدَّمَ.   1 في الأصل: "المقطوع". 2 كلام المصنف هنا مبني على أصل عنده، سيأتي ذكره في "ص316"، من أن السنة لا يوجد فيها شيء إلا وله أصل في القرآن؛ فانظره ومناقشته هناك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْعُلُومُ الْمُضَافَةُ إِلَى الْقُرْآنِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُوَ كَالْأَدَاةِ لِفَهْمِهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَالْمُعِينِ عَلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ؛ كَعُلُومِ1 اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ التي لا بد مِنْهَا وَعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَقَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا نَظَرَ فِيهِ هُنَا. وَلَكِنْ قَدْ يُدَّعَى فِيمَا لَيْسَ بِوَسِيلَةٍ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مَطْلُوبٌ كَطَلَبِ مَا هُوَ وَسِيلَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَعِلْمَ الْأَسْبَابِ، وَعِلْمَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَعِلْمَ الْقِرَاءَاتِ، وَعِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ، مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مُعِينَةٌ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَعُدُّهُ بَعْضُ النَّاسِ وَسِيلَةً أَيْضًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ2 فِي حِكَايَةِ الرَّازِيِّ فِي جَعْلِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَسِيلَةً إِلَى فَهْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] . وَزَعَمَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَكِيمُ فِي كِتَابِهِ الذي سماه بـ"فصل الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنَ الِاتِّصَالِ"3 أَنَّ عُلُومَ الْفَلْسَفَةِ مَطْلُوبَةٌ؛ إِذْ لَا يُفْهَمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِهَا، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالضِّدِّ مِمَّا قَالَ لَمَا بَعُدَ فِي الْمُعَارَضَةِ. وَشَاهِدُ مَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تِلْكَ4 الْعُلُومِ، هَلْ كَانُوا آخِذِينَ فِيهَا، أَمْ كَانُوا تَارِكِينَ لَهَا أَوْ غَافِلِينَ عَنْهَا؟ مَعَ الْقَطْعِ بِتَحَقُّقِهِمْ بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، يَشْهَدُ لَهُمْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ؛ فَلْيَنْظُرِ امرؤ أين يضع قدمه،   1 في الأصل: "العلم". 2 في "1/ 51-52". 3 وهو مطبوع، والمذكور فيه: "ص19 وما بعدها". 4 في "ط": "ترك". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخَرُ يَعْرِفُهَا مَنْ زَاوَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَلَا يُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ؛ فَأَبُو حَامِدٍ1 مِمَّنْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ خِبْرَةً، وَصَرَّحَ فِيهَا بِالْبَيَانِ الشَّافِي فِي مَوَاضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ. وَقَسْمٌ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جُمْلَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ خِطَابٌ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ هُوَ، وَذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ؛ إِذْ لَمْ تَنُصَّ آيَاتُهُ وَسُوَرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ نَصِّهَا عَلَى الْأَحْكَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْجِيزِ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا سُورَةٍ دُونَ سُورَةٍ، وَلَا نَمَطٍ مِنْهُ دُونَ آخَرَ، بَلْ مَاهِيَّتُهُ هِيَ الْمُعْجِزَةُ لَهُ، حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ [قَوْلُهُ عَلَيْهِ] 2 الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 3؛ فهو بهيأته الَّتِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا دَالٌّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَفِيهَا عَجَزَ الْفُصَحَاءُ اللُّسُنُ، وَالْخُصَمَاءُ اللُّدُّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُمَاثِلُهُ أَوْ يُدَانِيهِ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ مُعْجِزًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَمَا تُصَوِّرَ4 الْإِعْجَازُ بِهِ؛ فَمَاهِيَّتُهُ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِلَى أَيِّ نَحْوٍ مِنْهُ مِلْتَ دَلَّك [ذَلِكَ] 5 عَلَى صَدْقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا نَظَرَ فيه هنا، وموضعه كتب الكلام.   1 من لطيف ما قيل عنه عبارة ابن العربي: "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع". انظر: "الصفدية" "1/ 211"، و"السير" "19/ 327"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 66، 164". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 3 مضى تخريجه "ص180". 4 في "ط": "يتصور". 5 ليست في الأصل ولا في "ط". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 وَقِسْمٌ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِهِ، وَخِطَابِ الْخَلْقِ بِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْحُسْنَى مِنْ جَعْلِهِ عَرَبِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَ نَيْلِ أَفْهَامِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ الْقَدِيمُ، وَكَوْنُهُ تَنَزَّلَ لَهُمْ بِالتَّقْرِيبِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعْلِيمِ فِي نَفْسِ الْمُعَامَلَةِ بِهِ، قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى مَا حَوَاهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْخَيْرَاتِ، وَهَذَا نَظَرٌ خَارِجٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعُلُومِ، وَيَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّخَلُّقِ1 بِصِفَاتِ اللَّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ. وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَوَائِدِ الْفَرْعِيَّةِ، وَالْمَحَاسِنِ الْأَدَبِيَّةِ؛ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أَمْثِلَةً يُسْتَعَانُ بِهَا فِي فَهْمِ الْمُرَادِ: - فَمِنْ ذَلِكَ: عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ قَبْلَ الْإِنْذَارِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 15] ؛ فَجَرَتْ عَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَإِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْفِ: 29] ، وَلِكُلٍّ جَزَاءُ مِثْلِهِ. - وَمِنْهَا: الْإِبْلَاغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَا خَاطَبَ بِهِ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بُرْهَانًا فِي نَفْسِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا فِيهِ، وَزَادَ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا فِي بَعْضِهِ الْكِفَايَةُ2. - وَمِنْهَا: تَرْكُ الْأَخْذِ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِالذَّنْبِ، وَالْحِلْمُ عَنْ تعجيل المعاندين   1 قرر ابن تيمية في "الصفدية" "2/ 337"، وابن القيم في "بدائع الفوائد" "1/ 164" و"عدة الصابرين" "36" أن هذه العبارة غير سديدة، وأنها منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة، وبينا أن هذا مسلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية، وصار ذلك مع ما ضموا إليه من البدع والإلحاد موقعًا لهم في الحلول والاتحاد، وذكرا أن الأحسن من هذه العبارة التعبد، وأحسن منها -بالعبارة المطابقة للقرآن- وهي الدعاء، المتضمن للتعبد والسؤال. 2 في "ف": "ما فيه"، وقال: "لعله "ما في بعضه الكفاية". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 بِالْعَذَابِ، مَعَ تَمَادِيهِمْ عَلَى الْإِبَايَةِ وَالْجُحُودِ بَعْدَ وُضُوحِ الْبُرْهَانِ، وَإِنِ اسْتَعْجَلُوا بِهِ. - وَمِنْهَا: تَحْسِينُ الْعِبَارَةِ بِالْكِنَايَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى ذِكْرِ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ ذِكْرِهِ فِي عَادَتِنَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النِّسَاءِ: 43، وَالْمَائِدَةِ: 6] . {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التَّحْرِيمِ: 12] . وَقَوْلِهِ: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} [الْمَائِدَةِ: 75] . حَتَّى إِذَا وَضَحَ السَّبِيلُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ، وَحَضَرَ وَقْتُ التَّصْرِيحِ بما ينبغي التصريح به1؛ فلا بد مِنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [الْبَقَرَةِ: 26] . {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الْأَحْزَابِ: 53] . - وَمِنْهَا: التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالْجَرْيُ عَلَى مَجْرَى التَّثَبُّتِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي حَقِّنَا؛ فَلَقَدْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً؛ حَتَّى قَالَ الْكُفَّارُ: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الْفَرْقَانِ: 32] . فَقَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الْفَرْقَانِ: 32] . وَقَالَ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 106] . وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كَانَ الْإِنْذَارُ يَتَرَادَفُ، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل   1 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "به". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وُجْهَةٍ وَإِلَى كُلِّ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَحِينَ أَبَى من أبى من الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ بُدِئُوا1 بِالتَّغْلِيظِ بِالدُّعَاءِ؛ فَشُرِعَ الْجِهَادُ لَكِنْ عَلَى تَدْرِيجٍ2 أَيْضًا، حِكْمَةً بَالِغَةً، وَتَرْتِيبًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ3 الدِّينُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، وَلَمْ يَبْقَ لِقَائِلٍ مَا يَقُولُ؛ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَيْهِ وَقَدْ بَانَتِ الْحُجَّةُ، وَوَضَحَتِ الْمَحَجَّةُ، وَاشْتَدَّ أُسُّ4 الدِّينِ، وَقَوِيَ عَضُدُهُ بِأَنْصَارِ اللَّهِ؛ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ. - وَمِنْهَا: كَيْفِيَّةُ تَأَدُّبِ الْعِبَادِ إِذَا قَصَدُوا بَابَ رَبِّ الْأَرْبَابِ بِالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ مَسَاقُ الْقُرْآنِ آدَابًا اسْتُقْرِئَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا بِالْعِبَارَةِ؛ فَقَدْ أَغْنَتْ إِشَارَةُ التَّقْرِيرِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْبِيرِ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِـ"يَا" الْمُشِيرَةِ إِلَى بُعْدِ الْمُنَادِي لِأَنَّ صَاحِبَ النِّدَاءِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ، مَوْصُوفٌ بِالتَّعَالِي عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ، فَإِذَا قَرَّرَ نِدَاءَ الْعِبَادِ لِلرَّبِّ أَتَى بِأُمُورٍ تَسْتَدْعِي قُرْبَ الْإِجَابَةِ: - مِنْهَا: إِسْقَاطُ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمُشِيرِ إِلَى قُرْبِ الْمُنَادَى، وَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَ الْمُنَادِيِ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْهُ؛ فَدَلَّ عَلَى اسْتِشْعَارِ الرَّاغِبِ هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا "رَبَّنَا" "رَبَّنَا" كَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} 5 [الْبَقَرَةِ: 286] . {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] .   1 في "ط": "بدئ". 2 كما سبق إذن لا إيجاب، ثم إيجاب لمقاتلة من يلونهم من الكفار، ثم مقاتلة المشركين كافة. "د". 3 في الأصل: "أكمل". 4 في الأصل: "أمر". 5 وهذا وما ماثله وإن كان على لسان العباد؛ إلا أنه بتعليمه تعالى لهم؛ فلا يقال: إن هذا حكاية لما قالوه، ولا يتأتى أن يغير شيئًا منها بحذف حرف النداء ليعلمنا بذلك شيئًا من آداب مخاطبته تعالى. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35] . {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَةِ: 260] . - وَمِنْهَا: كَثْرَةُ مَجِيءِ النِّدَاءِ بِاسْمِ الرَّبِّ الْمُقْتَضِي لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْعِبَادِ1 وَإِصْلَاحِهَا؛ فَكَانَ العبد متعلق2 بِمَنْ شَأْنُهُ التَّرْبِيَةُ وَالرِّفْقُ وَالْإِحْسَانُ، قَائِلًا: يَا مَنْ هُوَ الْمُصْلِحُ لِشِئُونِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَتِمَّ لَنَا ذَلِكَ بِكَذَا، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا يَدْعُو بِهِ، وَإِنَّمَا أَتَى "اللَّهُمَّ" فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ، ولمعانٍ اقْتَضَتْهَا الْأَحْوَالُ. - وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ الْوَسِيلَةِ بَيْنَ يَدَيِ الطَّلَبِ3؛ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الْآيَةَ [الْفَاتِحَةِ: 5-6] . {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آلِ عِمْرَانَ: 16] . {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} [آلِ عِمْرَانَ: 53] . {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 191] . {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً} الْآيَةَ [يُونُسَ: 88] . {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ .... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نُوحٍ: 21-28] . {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [الْبَقَرَةِ: 127] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِدَاءِ بالأفعال، والتخلق   1 في "ط": "العبد". 2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فكان العبد متعلقًا". 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 284-286". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 بِالصِّفَاتِ، تُضَافُ إِلَى مَا هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 أَيْضًا مِنْهُ جُمْلَةٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ احْتَوَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَحَاسِنِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى كَثِيرٍ يَشْهَدُ بِهَا شَاهِدُ الِاعْتِبَارِ، وَيُصَحِّحُهَا نُصُوصُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ. وَقِسْمٌ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ2 بِالذِّكْرِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَعَرَفُوهُ مَأْخُوذًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا، عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ محتوٍ مِنَ الْعُلُومِ3 عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ4: أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ. وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ مَآلِ الْعَبْدِ لِيَخَافَ اللَّهَ بِهِ وَيَرْجُوَهُ. وَهَذِهِ الْأَجْنَاسُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَقْصُودُ، عَبَّرَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذَّارِيَاتِ: 56] ؛ فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ؛ إِذِ الْمَجْهُولُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَلَا يُقْصَدُ بِعِبَادَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، فَإِذَا عُرِفَ -وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ أَنَّهُ آمِرٌ وناهٍ وَطَالِبٌ لِلْعِبَادِ بِقِيَامِهِمْ بِحَقِّهِ- تَوَجَّهَ الطَّلَبُ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى دُونَ معرفة كيفية التعبد؛ فجيء بالجنس الثاني.   1 في المسألة الخامسة من النوع الثاني، وجعل دلالة الكلام على هذه الآداب من نوع الدلالة التبعية، وبسط المقام هناك؛ فراجعه ليتبين به بعض الحاصل الذي أشار إليه بعد. "د". 2 وهو من قسم الدلالة على المعنى الأصلي. "د". 3 في الأصل: "محتوى العلوم". 4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 20-36". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 وَلَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مِنْ شَأْنِهَا طَلَبُ النَّتَائِجِ وَالْمَآلَاتِ، وَكَانَ مَآلُ الْأَعْمَالِ عَائِدًا عَلَى الْعَامِلِينَ، بِحَسَبِ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ التَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ فِي ذِكْرِهَا أَتَى بِالْجِنْسِ الثَّالِثِ مُوَضِّحًا لِهَذَا الطَّرَفِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ إِقَامَةٍ، وَإِنَّمَا الْإِقَامَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. فَالْأَوَّلُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ عِلْمُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِي الصِّفَاتِ أَوْ فِي الْأَفْعَالِ النَّظَرُ فِي النُّبُوَّاتِ؛ لِأَنَّهَا الْوَسَائِطُ بَيْنَ الْمَعْبُودِ وَالْعِبَادِ، وَفِي كُلِّ أَصْلٍ ثَبَتَ لِلدِّينِ عِلْمِيًّا كَانَ أَوْ عَمَلِيًّا، وَيَتَكَمَّلُ بِتَقْرِيرِ الْبَرَاهِينِ، وَالْمُحَاجَّةِ لِمَنْ جَادَلَ خَصْمًا مِنَ الْمُبْطِلِينَ1. وَالثَّانِي: يَشْتَمِلُ عَلَى التَّعْرِيفِ بِأَنْوَاعِ التَّعَبُّدَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَمَا يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ، وَهِيَ أَنْوَاعُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَجَامِعُهَا2 الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالنَّظَرُ فِيمَنْ يَقُومُ بِهِ. وَالثَّالِثُ: يَدْخُلُ فِي ضِمْنِهِ النَّظَرُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: الْمَوْتِ وَمَا يَلِيهِ، وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَحْوِيهِ، وَالْمَنْزِلِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَمُكَمِّلُ هَذَا الْجِنْسِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، وَمِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاجِينَ وَالْهَالِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمَا أداهم إليه حاصل أعمالهم.   1 في الأصل: "خصماء المبطلين"، وفي "ط": "من خصماء المبطلين". 2 أي: الجامع من بين فروض الكفايات الذي يتعلق بكل مطلوب وكل منهي عنه في الشريعة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه لا يختص بباب من الشريعة دون باب، بخلاف فروض الكفايات الأخرى؛ كالولايات العامة، والجهاد، وتعليم العلم، وإقامة الصناعات المهمة، فهذه كلها فروض كفايات قاصرة على بابها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي مكمل لجميع أبواب الشريعة، هنا معنى الجمع، وليس المراد بكونه جامعها أنه كلي لها، وأنها جزئيات مندرجة تحته؛ فإنه لا يظهر. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَلَخَّصَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعُلُومِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقُرْآنِ اثْنَا عَشَرَ عِلْمًا1، وَقَدْ حَصَرَهَا الْغَزَالِيُّ2 فِي سِتَّةِ أَقْسَامٍ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا هِيَ السَّوَابِقُ وَالْأُصُولُ الْمُهِمَّةُ، وَثَلَاثَةٌ هِيَ تَوَابِعٌ وَمُتَمِّمَةٌ. فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ [الْأُوَلُ] 3؛ فَهِيَ تَعْرِيفُ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، وَهُوَ شَرْحُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَتَعْرِيفِ طَرِيقِ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ بِالتَّحْلِيَةِ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّزْكِيَةِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَتَعْرِيفِ الْحَالِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ حَالَيِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ، وَمَا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ؛ فَهِيَ تَعْرِيفُ4 أَحْوَالِ الْمُجِيبِينَ لِلدَّعْوَةِ، وَذَلِكَ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَسِرُّهُ التَّرْغِيبُ، وَأَحْوَالِ النَّاكِبِينَ وَذَلِكَ قِصَصُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَسِرُّهُ التَّرْهِيبُ، وَالتَّعْرِيفُ بِمُحَاجَّةِ الْكُفَّارِ بَعْدَ حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمُ الزَّائِغَةِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ بِمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَادِّكَارِ5 عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَسِرُّهُ فِي جَنَبَةِ الْبَاطِلِ التَّحْذِيرُ وَالْإِفْضَاحُ، وَفِي جَنَبَةِ الْحَقِّ التَّثْبِيتُ وَالْإِيضَاحُ، وَالتَّعْرِيفُ بِعِمَارَةِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَكَيْفِيَّةِ أَخْذِ   1 لأن كل واحد من الأجناس الثلاثة تحته ثلاثة أنواع من العلم، ولكل جنس مكمل، أما الغزالي؛ فجعل الأجناس الثلاثة علومًا ثلاثة فقط، بدون مراعاة تعدد ما اندرج تحتها والنظر في شعبها، غير أنه جعل الثاني تعريف طريق السلوك إليه بالتحلية والتزكية، وجعل التعريف بالعبادات والمعاملات ... إلخ من التوابع والمتممات، وعليك بالمقارنة بين اعتباراته والاعتبارات السابقة، واعتباره أنسب بمقام الصوفية. "د". 2 في كتابه "جواهر القرآن" "ص9 وما بعدها". 3 زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وسقطت من "ف" و"د". 4 فالتعريف الأول مكمل للثالث، والتعريف الثاني مكمل للأول، والتعريف الثالث تابع ومكمل للثاني. "د". 5 في "ط": "وإنكار"!! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 الْأُهْبَةِ وَالزَّادِ، وَمَعْنَاهُ مَحْصُولُ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ تَتَشَعَّبُ إِلَى عَشْرَةٍ، وَهِيَ: ذِكْرُ الذَّاتِ، وَالصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْمَعَادِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ جَانِبُ1 التَّحْلِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَعْدَاءِ، وَمُحَاجَّةِ الكفار، وحدود الأحكام.   1 في "ط": "جانبا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا1، وَرُبَّمَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ؛ فَعَنِ الْحَسَنِ مِمَّا أَرْسَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ -بِمَعْنَى ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ- وَكُلُّ حرفٍ حَدٌّ، وَكُلُّ حَدٍّ مَطْلَعٌ" 2. وَفُسِّرَ3 بِأَنَّ الظَّهْرَ وَالظَّاهِرَ هُوَ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، وَالْبَاطِنَ هُوَ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ لِمُرَادِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 78] . وَالْمَعْنَى: لَا يَفْهَمُونَ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ مِنَ الْخِطَابِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ نَفْسَ الْكَلَامِ، كَيْفَ وَهُوَ مُنَزَّلٌ بِلِسَانِهِمْ؟ وَلَكِنْ لَمْ يَحْظَوْا4 بِفَهْمِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عليّ أنه سئل: هل عندكم كتاب؟   1 انظر: "قانون التأويل" "ص196"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 230 وما بعدها". 2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص43" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "1/ 262/ رقم 122"- بإسناد ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وهو مرسل. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" "رقم 11, ط شاكر"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10090"، والبزار في "المسند" "رقم 2312"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 276/ رقم 75, الإحسان" عن ابن مسعود مرفوعًا: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن". وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري. وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 10" من طريق آخر بإسناد فيه مبهم؛ فهو ضعيف، وتكلم البغوي على شرح هذا الحديث بكلام مسهب حسن؛ فراجعه، وانظر أيضًا: "فهم القرآن" للمحاسبي "ص328". 3 المذكور في "تفسير سهل التستري" "ص3". 4 في "ط": "يخصوا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 فَقَالَ: لَا؛ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ1. الْحَدِيثَ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ لِلْحَدِيثِ؛ إِذْ قَالَ: "الظَّهْرُ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ2 هُوَ السِّرُّ"3. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النِّسَاءِ: 82] . فَظَاهِرُ الْمَعْنَى شَيْءٌ، وَهُمْ عَارِفُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ وَالْمُرَادُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا حَصَلَ التَّدَبُّرُ لَمْ يُوجَدْ4 فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ أَلْبَتَّةَ؛ فَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ يُفْهَمُ الِاتِّفَاقُ وَيَنْزَاحُ الِاخْتِلَافُ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَلَمَّا قَالُوا فِي الْحَسَنَةِ: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِِ} [النِّسَاءِ: 78] ، وَفِي السَّيِّئَةِ: هَذَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يفقهون حديثًا، لكن بَيَّنَ الْوَجْهَ الَّذِي يُتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 79] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [مُحَمَّدٍ: 24] . فَالتَّدَبُّرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ؛ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ تَدَبُّرٌ، قَالَ بعضهم: "الكلام في القرآن على ضربين:   1 مضى تخريجه "ص192"، وهو صحيح. 2 كذا في الأصل وجميع الطبعات، والصواب: "والبطن". 3 أخرجه عنه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "43". 4 فإن الاختلاف إنما جاء من الوقوف عند بعض الظواهر، وضرب بعضها ببعض، وعدم التدبر في فقه النصوص حتى تتفق في المقصود منها، وذلك بتفسير بعضها ببعض بتخصيص أو تقييد أو تعميم، وهكذا من وجوه الفهم التي ترشد إليها المقاصد الشرعية وسائر أدوات الفهم الستة المتقدمة في المسألة السابعة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 أَحَدُهُمَا: يَكُونُ بِرِوَايَةٍ؛ فَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِيهَا إِلَّا النَّقْلُ. وَالْآخَرُ: يَقَعُ بِفَهْمٍ؛ فَلَيْسَ يَكُونُ إِلَّا بِلِسَانٍ مِنَ الْحَقِّ إِظْهَارُ1 حِكْمَةٍ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ" وَهَذَا الْكَلَامُ يُشِيرُ إِلَى مَعْنَى كَلَامِ عَلِيٍّ. وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ، وَالْبَاطِنُ هُوَ مُرَادُ2 اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ وَخِطَابِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُ مَنْ أَطْلَقَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَا فُسِّرَ؛ فَصَحِيحٌ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ إِثْبَاتُ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا كَانَ معلومًا عند الصحابة ومن بعدهم؛ فلا بد مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُثْبِتُ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهَا أَصْلٌ يُحْكَمُ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ، فَلَا يَكُونُ ظَنِّيًّا، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ إِنَّمَا غَايَتُهُ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ أَنْ يَنْتَظِمَ فِي سِلْكِ الْمَرَاسِيلِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَلْنَرْجِعْ إِلَى بَيَانِهِمَا3 عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَلَهُ أَمْثِلَةٌ تُبَيِّنُ مَعْنَاهُ بِإِطْلَاقٍ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَتَدْخِلُهُ وَلَنَا بَنُونَ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ. فَسَأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصْرِ: 1] ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وقرأ   1 أي: قصد إظهار حكمة؛ فهو مفعول لأجله مضاف؛ أي: يريد الله إظهار سر ومعنى من المعاني الخفية على لسان عبد من أصفيائه. "د". قلت: وفيه تعريض بـ"ف" حيث قال: "لعله إظهار لحكمه على لسان العبد". 2 أي: الذي يتوصل إليه بالوسائل التي أشار إليها سابقًا، وإلا؛ فالزائغون يدعون أن تأويلاتهم الزائغة هي مراد الله تعالى، لكنه يحتاج في بعض ذلك إلى زيادة بصيرة كما في مسألة ابن عباس وعمر المذكورة، وسيأتي له في فصل المسألة التابعة شرطان يستقر عليهما ما يعنيه بالباطن المراد لله تعالى، وينزاح بتحققها دعاوى الزائفين والمحرفين. "د". 3 أي: الظاهر والباطن على التفسير الذي ارتضاه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 السُّورَةَ إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ"1. فَظَاهِرُ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُسَبِّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ إذ نَصَرَهُ اللَّهُ وَفَتَحَ عَلَيْهِ، وَبَاطِنُهَا أَنَّ اللَّهَ نَعَى إِلَيْهِ نَفْسَهُ. وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 3] ؛ فَرِحَ الصَّحَابَةُ وَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: "مَا بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا النُّقْصَانُ"2 مُسْتَشْعِرًا نَعْيَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فما عاش بعدها إلا واحدًا وثمانين يومًا3.   أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب إذا جاء نصر الله والفتح، 8/ 20/ رقم 4294، وباب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، 8/ 130/ رقم 4430، وكتاب التفسير، باب قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاس ... } ، 8/ 734/ رقم 4969، وباب قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} ، 8/ 734/ رقم 4970"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب سورة النصر، 5/ 450/ رقم 3362" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 337، 344 مختصرًا"، والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 321/ رقم 10617"، والحاكم والبزار وابن سعد كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 321". 2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140, ط دار الفكر" عن محمد بن فضيل، وابن جرير في "تفسيره" "6/ 52" من طريق سفيان عن ابن فضيل، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154" من طريق سهل بن عثمان، كلاهما "هو وابن فضيل" عن هارون بن عنترة عن أبيه؛ قال: لما نزلت وذكر نحوه، ومضى لفظه عند المصنف "1/ 152"، وأخرجه ابن جرير من طريق أحمد بن بشير عن هارون به. وإسناده ضعيف، أبو هارون عنترة بن عبد الرحمن، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، روى له النسائي حديثًا واحدًا عن ابن عباس، وروايته هذه مرسلة، وانظر: "الدر المنثور" "3/ 18". وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 24": "ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا؛ فطوبى للغرباء". قلت: انظر ما قدمناه "1/ 151". 3 أسنده ابن جرير في "التفسير "6/ 80" عن ابن جريج، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" "1/ 416, ط لبنان"، وابن كثير في "التفسير" "2/ 14". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوت اتَّخَذَتْ بَيْتًا} 1 الْآيَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 41] ، قَالَ الْكُفَّارُ: مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ؟ مَا هَذَا الْإِلَهُ2؛ فَنَزَلَ3: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [الْبَقَرَةِ: 26] ؛ فَأَخَذُوا بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْمُرَادِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 26] . وَيُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظَرُ الْكُفَّارِ لِلدُّنْيَا، وَاعْتِدَادُهُمْ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ، وَتَرْكُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْهَا، وَهُوَ كَوْنُهَا مَجَازًا وَمَعْبَرًا لَا مَحَلَّ سُكْنَى، وَهَذَا هُوَ بَاطِنُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ4 مِنَ التَّفْسِيرِ. وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} [الْمُدَّثِّرِ: 30] نَظَرَ الْكُفَّارُ إِلَى ظَاهِرِ الْعَدَدِ؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ, فِيمَا روي5: لأنه يعجز كل عشرة منكم أن   1 سقطت {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} من الأصل. 2 في الأصل: "الآله". 3 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ رقم 281" عن ابن جريج به، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره""1/ 41" عن قتادة به، وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" عن عبد الغني بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وذكر نحوه. قال السيوطي في "لباب النقول" "19": "عبد الغني واه جدًّا"، وقال: "وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية". وانظر -لزامًا- "3/ 514". وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل. 4 وسيأتي له مزيد بسط في المسألة الثالثة من مبحث التعارض. "د". 5 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "29/ 159" عن ابن عباس بإسناد ضعيف فيه مجاهيل. وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 2/ 329"، وابن جرير في "التفسير" "29/ 159-160"، وعبد بن حميد -كما في "الدر المنثور" "8/ 333"- عن قتادة به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ. فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَاطِنَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [الْمُدَّثِّرِ: 31] . وَقَالَ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [الْمُنَافِقُونَ: 8] ؛ فَنَظَرُوا إِلَى ظَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا1، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [الْمُنَافِقُونَ: 8] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... } الْآيَةَ [لُقْمَانَ: 6] لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ هُدًى لِلنَّاسِ وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ، نَاظَرَهُ2 الْكَافِرُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بِأَخْبَارِ فَارِسَ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَبِالْغِنَاءِ3؛ فَهَذَا هُوَ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ لِبَاطِنِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}   1 يومئ المصنف إلى مقولة عبد الله بن أبي، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب سورة "المنافقون"، 8/ 644/ رقم 4900-4904" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنت في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي -أو لعمر- فذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فدعاني فحدثته، فأرسل رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} ، فبعث إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ؛ فقال: "إن الله قد صدقك يا زيد". 2 لعله: "وناظره". "ف". وفي "ط": "ناظره الكفار". 3 الخبر بالتفصيل عند الواحدي في "الوسيط" "3/ 440-441"، و"أسباب النزول" "232-233"، وعزاه السيوطي في "لباب النقول" "ص169" لجويبر عن ابن عباس، وكذا فعل في "الدر المنثور" "6/ 504"، وعزاه فيه أيضًا إلى البيهقي في "الشعب" "4/ 5194". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 [الْحَشْرِ: 13] ، وَهَذَا عَدَمُ فِقْهٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ مُصَرِّفُ الْأُمُورِ؛ فَهُوَ الْفَقِيهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الْحَشْرِ: 13] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التَّوْبَةِ: 127] لِأَنَّهُمْ نَظَرَ بَعْضُهُمْ1 إِلَى بَعْضٍ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا. فَاعْلَمْ2 أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا نَفَى الْفِقْهَ أَوِ الْعِلْمَ عَنْ قَوْمٍ؛ فَذَلِكَ لِوُقُوفِهِمْ مَعَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ لِلْمُرَادِ مِنْهُ، وَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ لِفَهْمِهِمْ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ خِطَابِهِ، وَهُوَ بَاطِنُهُ. فَصْلٌ: فَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَا يَنْبَنِي فَهْمُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَيْهَا؛ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الظَّاهِرِ. فَالْمَسَائِلُ الْبَيَانِيَّةُ وَالْمَنَازِعُ الْبَلَاغِيَّةُ لَا مَعْدِلَ بِهَا عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ ضَيِّقٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا 3} [الْأَنْعَامِ: 125] ، وَبَيْنَ ضَائِقٍ فِي قَوْلِهِ: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُك} [هُودٍ: 12] .   1 أي: لأن المنافقين حينما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض، وهم في محفل تبليغ الوحي ليتواطئوا على الهرب كراهة سماعها، قائلين إشارة: هل يراكم من أحد من المسلمين إذا قمتم من المجلس؟ كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} الآية [التوبة: 157] . "ف". 2 لعله: "واعلم" بصيغة الأمر وبالواو. "ف". 3 صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام في حق من يريد الله أن يضله بخلاف "ضائق" اسم الفاعل الدال على الحدوث والتجدد، وأنه أمر عارض له, صلى الله عليه وسلم. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وَالْفَرْقُ1 بَيْنَ النِّدَاءِ بِـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، أَوْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا} 3، وَبَيْنَ النِّدَاءِ بِـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 4، أَوْ بِـ {يَا بَنِي آدَمَ} 5. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} 6 [الْبَقَرَةِ: 6] ، وَالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لُقْمَانَ: 6] ، وَكِلَاهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِهِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشُّعَرَاءِ: 154] ، وَبَيْنَ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} 7 [الشعراء: 186] .   1 ويبقى الكلام في أن هذا الفرق يرجع في جميع ما ذكره إلى المعاني الثانوية التي هي منازع بيانية، أو أنه يرجع إلى المعاني الوضعية في بعض الأمثلة. "د". 2 مدني خاص. "د". 3 مكي خاص. "د". 4 للناس كافة. "د". 5 للناس كافة. "د". 6 المقصود بما قبله بيان حال الكتاب تقريرًا لكونه يقينًا لا شك فيه، وفي ضمن هذا البيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال، بحيث لا يجدي فهم الإنذار ولا يستفيدون من الكتاب؛ فالآية تكميل لما قبلها؛ فالمحل للفصل، أما آية: {وَمِنَ النَّاس} ؛ فالمقصود منها مع سابقتها أن الناس على صنفين مهتد هاد، وضال مضل، وبينهما التضاد؛ فالمحل للوصل، فقوله: "وكلاهما تقدم عليه ... إلخ"، يعني: الذي كان يقتضي الوصل لشبه التضاد المعتبر جامعًا، وهذا من المنازع البلاغية وكذلك الأمثلة بعده كما سيقول: "من الأمور المعتبرة ... إلخ"، وإن كانت حروف النداء المتقدمة من أصل الوضع والمعاني الأولية، ومثله يقال في دلالة الفعل واسم الفاعل. "د". 7 أدخل الواو بين الجملتين للدلالة على أن كلًّا من التسحير والبشرية مناف للرسالة، أما في آية: {مَا أَنْت} ؛ فإنما قصدوا كونه مسحرًا وأكدوه بأنه بشر مثلهم، وفي "الكشاف" "3/ 125": "غير هذا الوجه مما يقتضي أن كلًّا له موضع اختصاصه، هذا ومعلوم أن الآيتين في قصتين = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّفْعِ1 فِي قَوْلِهِ: {قَالَ سَلامٌ} [هُودٍ: 69] ، وَالنَّصْبِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {قَالُوا سَلامًا} [هُودٍ: 69] . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ2 فِي التَّذَكُّرِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الْأَعْرَافِ: 201] ، وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْإِبْصَارِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون} [الْأَعْرَافِ: 201] . أَوْ3 فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ إِذَا وَإِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} 4 [الْأَعْرَافِ: 131] ، وَبَيْنَ "جاءتهم" و"تصبهم" بالماضي مع إذا، والمستقبل مع إن.   1 لقصد الثبات؛ فيكون تحيته أحسن من تحيتهم؛ لأنهما جملة اسمية. "د". 2 لأنه يحدث بعد مس الشيطان ويتجدد بسبب المس، بخلاف الإبصار بالحق؛ فهو ثابت له قائم بهم لأن اسم الفاعل حقيقة فيمن قام به الفعل، وقد يغطيه مس الشيطان؛ فتجدد التذكر، يكشف هذا الغطاء ليتجلى لهم الحق الذي عهدوه قائمًا بنفوسهم؛ أي: يفاجئهم قيام البصيرة بهم دفعة بخلاف التذكر. "د". انظر: "نظم الدرر" "8/ 206". 3 الأنسب: "وفهم" بالواو. "ف". 4 المراد بالحسنة ما يستحسنونه من الخصب والرخاء والعافية، ولما كانت هذه الحسنات شائعة عامة الوقوع بمقتضى العناية الإلهية بسبق الرحمة وشيوع النعمة كانت متحققة؛ فجيء فيها بالماضي وبإذا وتعريف الحسنة، ولما كانت السيئة التي يراد منها أنواع البلاء نادرة الوقوع ولا تتعلق الإرادة بها إلا تبعًا؛ فإن النقمة بمقتضى العناية الإلهية إنما تستحق بالأعمال جيء فيها بأداة الشك، ولفظ الفعل المستقبل، وتنكير السيئة. "د". قلت: انظر "الكشاف" "2/ 84"، وكلام الشارح منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} 1 [الرُّومِ: 36] مَعَ إِتْيَانِهِ بِقَوْلِهِ: {فَرِحُوا} بعد إذا و {يَقْنَطُونَ} بَعْدَ إِنْ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْبَيَانِ، فَإِذَا حَصَلَ فَهْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَقَدْ حَصَلَ فَهْمُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ هُنَا حَصَلَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِعْجَازَهُ بِالْفَصَاحَةِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 23] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هُودٍ: 13] ، وَهُوَ لَائِقٌ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ بِالْفَصَاحَةِ لَا بِغَيْرِهَا؛ إِذْ لَمْ يُؤْتَوْا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا مِنْ بَابِ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِثْلَهُ في الجملة، ولأنهم دعوا [وتحدوا] وَقُلُوبُهُمْ لَاهِيَةٌ عَنْ مَعْنَاهُ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ إِنْزَالِهِ، فَإِذَا عَرَفُوا عَجْزَهُمْ عَنْهُ؛ عَرَفُوا صِدْقَ الْآتِي بِهِ وَحَصَلَ الْإِذْعَانُ، وَهُوَ بَابُ2 التَّوْفِيقِ وَالْفَهْمِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى.   1 إذا معبرًا بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة، إشارة إلى سعة جوده، وقال: {وَإِن} بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجودًا، وقال: {تُصِبْهُم} غير مسند لها إليه تأديبًا لعباده، وإعلامًا بغزير كرمه، قاله النقاعي في "نظم الدرر" "15/ 95"، والتعبير بالمضارع في {يَقْنَطُونَ} لرعاية الفاصلة، والدلالة على الاستمرار في القنوط، قاله الآلوسي في "تفسيره" "21/ 43". 2 أي: فالإعجاز الذي يترتب على فصاحته يقصد منه أثره، وهو رجوعهم بسبب العجز إلى تصديقه والتفهم في مراده، فما كان مؤديًا إلى العجز عن المعارضة وإلى أصل الاعتراف بصدقه يكون من الظاهر، وما يجيء بعد ذلك من ثمرة الاعتراف وهو فهم المعاني التي يتحقق بها للعبد وصف العبودية والقيام بموجبها؛ فذلك من الباطن المراد والمقصود من الإنزال. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْمُخَاطَبِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالشَّوَاهِدِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [الْبَقَرَةِ: 245] ، قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ اسْتَقْرَضَ مِنَّا مَا أَعْطَانَا، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ1، وَقَالَتِ2 الْيَهُودُ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 181] ؛ فَفَهْمُ أَبِي الدَّحْدَاحِ هُوَ الْفِقْهُ، وَهُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "نَعَمْ ليُدخلكم الْجَنَّةَ". وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ3، وَفَهْمُ الْيَهُودِ لَمْ يَزِدْ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَوْلِ الْعَرَبِيِّ الظَّاهِرِ، ثُمَّ حَمَلَ اسْتِقْرَاضَ الرَّبِّ الْغَنِيِّ عَلَى اسْتِقْرَاضِ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ، عَافَانَا الله من ذلك.   1 سيأتي نصه وتخريجه قريبًا إن شاء الله. 2 راجع: "روح المعاني" في الآية. "د". 3 أخرج الحسن بن عرفة في "جزئه" "رقم 87"، وابن جرير في "تفسيره" "2/ 593"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/ 301/ رقم 764"، وأبو يعلى في "المسند" "8/ 404/ رقم 4986"، والبزار في "مسنده" "1/ 447/ رقم 944, زوائده"، وابن حيويه في "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص59-60"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 306"- من طريق خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ، قال أبو الدحداح: يا رسول الله, وإن الله يريد منا القرض!! قال: "نعم يا أبا الدحداح". قال: أرني يدك. قال: فناوله، قال: فإني أقرضت ربي حائطًا لي فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط، وأم الدحداح فيه وعيالهم فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي، قد أقرضت ربي حائطًا فيه ستمائة نخلة. وفي سنده حميد الأعرج، قال البخاري: "منكر الحديث"، انظر: "التاريخ الكبير" "1/ 2 = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 ....................................................................................   =/ 354"، و"التاريخ الصغير" "2/ 108"، و"الضعفاء الصغير" "31". وقال النسائي: "متروك الحديث"، انظر: "الضعفاء والمتروكين" "33"، وقال الدارقطني: "متروك"، انظر: "الضعفاء والمتروكين" "رقم 167"، وضعفه أحمد وابن معين والترمذي. وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء، كذا قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" "3/ 47". ولهذا السند علة أخرى وهي الانقطاع بين عبد الله بن الحارث وابن مسعود, قال أبو حاتم في ترجمته "حميد الأعرج": "قد لزم عبد الله بن الحارث من ابن مسعود، ولا نعلم لعبد الله عن ابن مسعود شيئًا"، انظر: "الجرح والتعديل" "1/ 2/ 226"، وقال ابن حبان في ترجمة حميد أيضًا: "يروي عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج بخبره إذا انفرد، وليس هذا بصاحب الزهري، ذاك حميد بن قيس الأعرج". انظر: "المجروحين" "1/ 262". وقال الدارقطني: "حميد متروك، أحاديثه تشبه الموضوعة، وهو كوفي، وعبد الله بن الحارث كوفي ثقة، ولم يسمع من ابن مسعود". انظر: "سؤالات البرقاني للدارقطني" "ترجمة رقم 98", وانظر: "الكامل في الضعفاء" "2/ 689"، و"الضعفاء الكبير" "1/ 268" للعقيلي. والحديث عزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 746" إلى سعيد بن منصور وابن سعد والبزار وابن المنذر والحكيم الترمذي والبيهقي. وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح"، وأورده ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 105/ رقم 4080"، وعزاه إلى أبي يعلى، وقال: "فيه ضعف"، ونقل الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي عن البوصيري قوله: "رواه أبو يعلى بسند ضعيف". قلت: وهذا هو الصحيح لما تقدم، بل ذكره الهيثمي نفسه "3/ 113-114"، وعزاه للبزار، وقال: "وفيه حميد بن عطاء الأعرج، وهو ضعيف". قلت: وللحديث علة ثالثة، وهي تغير خلف بن خليفة واختلاطه. قال ابن سعد: "تغير قبل موته واختلط"، وقال أحمد: "رأيت خلفًا مفلوجًا لا يفهم، فمن كتب عنه قديمًا؛ فسماعه صحيح، أتيته فلم أفهم عنه؛ فتركته". انظر "ميزان الاعتدال" "1/ 659-660". = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا بَلِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا طُلِبَ بِهَا الْعَبْدُ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْلِ: 78] . وَفِي الْأُخْرَى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السَّجْدَةِ: 9] . وَالشُّكْرُ ضِدُّ الْكُفْرِ؛ فَالْإِيمَانُ وَفُرُوعُهُ هُوَ الشُّكْرُ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ تَحْتَ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ بِهَذَا الْقَصْدِ؛ فَهُوَ الَّذِي فَهِمَ الْمُرَادَ مِنَ الْخِطَابِ، وَحَصَّلَ بَاطِنَهُ عَلَى التَّمَامِ، وَإِنْ هُوَ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى عِصْمَةِ مَالِهِ وَدَمِهِ فَقَطْ؛ فَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَوَاقِفٌ مَعَ ظَاهِرِ الْخِطَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التَّوْبَةِ: 5] . ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 5] . فَالْمُنَافِقُ إِنَّمَا فَهِمَ مُجَرَّدَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مِنْ أن الدخول فيما دخل فيه   = وعزاه ابن حجر في "الإصابة" "4/ 59" إلى ابن منده، وللحديث شواهد من غير ذكر للآية فيه. أخرجه نحو القصة المذكورة من حديث أنس عن رجل أحمد في "المسند" "3/ 146"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/ 300"، والبغوي والحاكم؛ كما في "الإصابة" "4/ 51"، وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح"، وأخرج نحوها الطبراني في "الأوسط" "2/ 516-517/ رقم 1887"، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب، وفيه إسماعيل بن قيس، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع" "3/ 113"، وعبد بن حميد عن جابر بن سمرة، وأخرج مسلم في "صحيحه" "2/ 665"، وأحمد في "مسنده" "5/ 18 و102"، والطيالسي "760 و761" وغيرهم من حديث جابر بن سمرة: "كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح". وذكر ابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 221" أن اسم أبي الدحداح ثابت بن الدحداح وابن مردويه عن أبي هريرة وابن جرير في "تفسيره" "2/ 593" عن زيد بن أسلم مرسلًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 الْمُسْلِمُونَ مُوجِبٌ لِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ؛ فَعَمِلُوا عَلَى الْإِحْرَازِ مِنْ عَوَادِي الدُّنْيَا، وَتَرَكُوا الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تُشْعِرُ بِإِلْزَامِ الشُّكْرِ بِالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِهِ؛ فَمَنْ دَخَلَهَا عَرِيًّا مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ يُعَدُّ مِمَّنْ فَهِمَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ؟ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ فَوَجَبَ عَلَيْهِ شُكْرُ النِّعْمَةِ بِبَذْلِ الْيَسِيرِ مِنَ الْكَثِيرِ، عَوْدًا1 عَلَيْهِ بِالْمَزِيدِ؛ فَوَهَبَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنْ أَدَائِهَا لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ، كَيْفَ يَكُونُ شَاكِرًا لِلنِّعْمَةِ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ يُضَارُّ الزَّوْجَةَ لِتَنْفَكَّ لَهُ مِنَ الْمَهْرِ عَلَى غَيْرِ طِيبِ النَّفْسِ لَا يُعَدُ عَامِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 229] حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . وتجري [ها] هنا مَسَائِلُ الْحِيَلِ أَمْثِلَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ فَهِمَ بَاطِنَ مَا خُوطِبَ بِهِ لَمْ يَحْتَلْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ حَتَّى يَنَالَ مِنْهَا بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، وَمَنْ وَقَفَ مَعَ مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ؛ اقْتَحَمَ هَذِهِ الْمَتَاهَاتِ الْبَعِيدَةَ. وَكَذَلِكَ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُبْتَدَعَةِ أَمْثِلَةً أَيْضًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ؛ كَمَا قَالَ2 الْخَوَارِجُ لعلي: إنه حكم   1 في "ط": "موعودًا". 2 هو وما يأتي بعد في قوله: "فلو نظر ... إلخ" يساعد على تعيين الجملة الساقطة فيما سبق في المسألة الثانية من مبحث الأحكام. "د". قلت: أخرج مناظرة ابن عباس -رضي الله عنه- الحرورية فيما أنكروه على عليّ -رضي الله عنه- وفيها ما عند المصنف من قولهم: "إنه حكم الخلق في دين الله"، وكذا قولهم: "إنه محا نفسه ... "، وقولهم لابن عباس أيضًا: "لَا تُنَاظِرُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ ... ": عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 157/ رقم 18678"، وأحمد في "المسند" "1/ 342"، والفسوي في = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 الْخَلْقَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 57، وَيُوسُفَ: 40، 67] . وَقَالُوا: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ1؛ فَهُوَ إِذًا أمير الكافرين.   = "المعرفة والتاريخ" "1/ 522-524"، وأبو عبيد في "الأموال" "444"، والنسائي في "خصائص علي" "190"، والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 312"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 150-152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 179"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 318-320"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 103"، والخوارزمي في "المناقب" "183"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "12/ 183/ أ"، كلهم من طريق عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل حدثني عبد الله بن عباس به وذكر أحمد وأبو عبيد جزءًا منه. وصححه الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وهو كذلك. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 241": "رواه الطبراني وأحمد بعضه، ورجالهما رجال الصحيح". وله شاهد عن عبد الله بن شداد عن علي، وفيه أن عليًّا -رضي الله عنه- ناظرهم أولًا، ثم بعث إليهم ابن عباس. أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 86"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 367-371/ رقم 474"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 179"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "9/ ق 403"، والضياء في "المختارة" "605"، وإسناده صحيح. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 280": "تفرد به أحمد، وإسناده صحيح، واختاره الضياء". وعزاه في "المطالب العالية" "4504" لإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي يعلى في "مسانيدهم". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 235-237": "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات". ورويت المناظرة من طرق أخرى، انظر: "فتح الباري" "12/ 296-297" تحت حديث رقم "6933". وانظر "الاعتصام" "1/ 303, ط ابن عفان"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 30-31". 1 في "ط": "المسلمين". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وَقَالُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ1: لَا تُنَاظِرُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} [الزُّخْرُفِ: 58] ، وَكَمَا زَعَمَ أَهْلُ التَّشْبِيهِ فِي صِفَةِ الْبَارِي حِينَ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [الْقَمَرِ: 14] ، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشُّورَى: 11] ، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزُّمَرِ: 67] ، وَحَكَّمُوا مُقْتَضَاهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ؛ فَأَسْرَفُوا مَا شَاءُوا2. فَلَوْ نَظَرَ الْخَوَارِجُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَّمَ الْخَلْقَ فِي دِينِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 95] ، وَقَوْلِهِ {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النِّسَاءِ: 35] ، لَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 57] غَيْرُ مُنَافٍ لِمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حُكْمِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ يَرْجِعُ بِهِ الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلُهُ مِمَّا فَعَلَهُ عَلِيٌّ. وَلَوْ نَظَرُوا إِلَى مَحْوِ الِاسْمِ مِنْ أَمْرٍ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُ لِضِدِّهِ؛ لَمَّا قَالُوا: إِنَّهُ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ، وَهَكَذَا الْمُشَبِّهَةُ لَوْ حَقَّقَتْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشُّورَى: 11] فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَفَهِمُوا بَوَاطِنَهَا، وَأَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ مَنْ زَاغَ وَمَالَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَبِمِقْدَارِ مَا فَاتَهُ مِنْ بَاطِنِ الْقُرْآنِ فَهْمًا وَعِلْمًا، وَكُلُّ مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ وَصَادَفَ الصَّوَابَ؛ فَعَلَى مِقْدَارِ مَا حصل له من فهم باطنه.   1 أي: في شأن ابن عباس حين أراد مناظرتهم وقد حجهم في المناظرة؛ فظفر منهم بألفين عادوا إلى حظيرة الإسلام. "ف". 2 الصواب إمرار آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا تكييف، ولا تأويل ولا تعطيل، وهذا مذهب السلف الصالح؛ كما تراه مبسوطًا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا سيما "الواسطية" و"الحموية" وكتب تلميذه ابن القيم وغيرهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: كَوْنُ الظَّاهِرِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ مُجَرَّدًا لَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَالِفَ وَالْمُخَالِفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشُّعَرَاءِ: 195] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْلِ: 103] . ثُمَّ رَدَّ الْحِكَايَةَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] . وَهَذَا الرَّدُّ عَلَى شَرْطِ الْجَوَابِ فِي الْجَدَلِ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بِلِسَانِهِمْ، وَالْبَشَرُ هُنَا حَبْرٌ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، أَوْ سَلْمَانُ1، وَقَدْ كَانَ فَارِسِيًّا فَأَسْلَمَ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَنْ كَانَ لِسَانُهُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ عَرَبِيٌّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَقَدَ كَانُوا فَهِمُوا مَعْنَى أَلْفَاظِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَرَبِيٌّ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي ظَاهِرِهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَرَيَانِ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. فَإِذًا كَلُّ مَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِ جَارٍ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَلَيْسَ2 مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، لَا مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْهُ، وَلَا مِمَا يُسْتَفَادُ بِهِ، وَمَنِ ادَّعَى فِيهِ   1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قوله؛ كما في "الدر المنثور" "5/ 168"، وهو مردود بأن الآية مكية، وسلمان أسلم في المدينة، وتجد أقوالًا أخرى عند ابن جماعة في "غرر التبيان في من لم يسم في القرآن" "ص305"، ولم يذكر سلمان من بينها. 2 سيأتي في الفصل التالي زيادة بيان لهذا وتقرير. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 ذَلِكَ؛ فَهُوَ فِي دَعْوَاهُ مُبْطِلٌ، وَقَدْ مَرَّ1 فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ مَا ادَّعَاهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ مِنْ أَنَّهُ مُسَمًّى فِي الْقُرْآنِ كَبَيَانِ بْنِ سَمْعَانَ2، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 138] ، وَهُوَ مِنَ التُّرَّهَاتِ بِمَكَانٍ مَكِينٍ، وَالسُّكُوتُ عَلَى الْجَهْلِ كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الِافْتِرَاءِ الْبَارِدِ، وَلَوْ جَرَى لَهُ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لَعَدَّهُ الْحَمْقَى مِنْ جُمْلَتِهِمْ3، وكنه كَشَفَ عَوَارَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، عَافَانَا اللَّهُ وَحَفِظَ عَلَيْنَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ بِمَنِّهِ. وَإِذَا كَانَ بَيَانٌ فِي الْآيَةِ عَلَمًا لَهُ؛ فَأَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِهِ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آلِ عِمْرَانَ: 138] ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا زَيْدٌ لِلنَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفُحْشِ مَنْ تَسَمَّى بِالْكِسْفِ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} الْآيَةَ [الطَّوْرِ: 44] ؛ فَأَيُّ مَعْنًى يَكُونُ لِلْآيَةِ عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ؟ كَمَا تَقُولُ: وَإِنْ يَرَوْا رجلًَا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا4: سَحَابٌ مَرْكُومٌ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كبيرًا.   1 في النوع الثاني في وضع الشريعة للأفهام. "2/ 127 وما بعدها". 2 انظر عن حيله وأباطيله وهتكها: "المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار" لعبد الرحيم الجوبري "ص173 وما بعدها"، ط دار الكتاب العربي، دمشق - القاهرة. 3 لعل الأصل: "من جملة أدلتهم"؛ أي: لكان أتباعه يعدون هذا دليلًا على صحة زعمهم في هذا الرجل، ولكنه فضح نفسه وكشف عواره كما قال، فلم يجعلوا قوله: "إن الله يشير إليه في كتابه ... إلخ"؛ لم يجعلوه من الأدلة على عقيدتهم فيه لنبوه ظاهرًا وباطنًا عن الجادة، وتقدم له في المقاصد أن هذا المثال مما فقدت فيه شروط صحة التأويل لفظًا ومعنى. "د". ونحوه عند "م". 4 في الأصل: "تقول". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 وبيان بن سمعان هذا هو الذي تنسبه إِلَيْهِ الْبَيَانِيَّةُ مِنَ الْفِرَقِ1، وَهُوَ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ2 أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَالْكِسْفُ هُوَ أَبُو مَنْصُورٍ3 الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَنْصُورِيَّةُ. وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ الشيعي المسمى بالمهدي4 حين ملك   1 من الرافضة، وقد قتله خالد القسري وأراح العباد من شره. "د". قلت: وفي قتل خالد القسري له نظر، والمشهور أنه قتل الجعد بن درهم، ولم يثبت ذلك على ما فصلناه في الجزء الثالث من كتابنا: "قصص لا تثبت"، وانظر عن البيانية: "الفصل" "4/ 185"، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الزمان" "ص43, ط المصرية"، و"لسان الميزان" "2/ 62"، و"الاعتصام" "1/ 215-216, ط ابن عفان". 2 في كتابه: "اختلاف الحديث" "1/ 218, بتحقيق أحمد الشقيرات"، وكذا في "عيون الأخبار" "2/ 148". 3 هو أبو منصور العجلي، والكسف لقبه، صلبه يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك، وكان أبو منصور يزعم أنه عرج به إلى السماء، وأن الله مسح بيده على رأسه، وقال له: يا بني! بلغ عني. وأباح المحرمات، وأسقط الفرائض، وكان أتباعه يؤمنون بنبوته، قال "ف" وتبعه "م": "في مزاعمه الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين، وأن الجنة رجل أمر بموالاته وهذا الإمام، والنار ضده، وكذا الفرائض والمحرمات" ا. هـ. قلت: انظر المزيد عنه وعن طائفته "المنصورية" في: "الفرق بين الفرق" "243-245"، و"اختلاف الحديث" "1/ 218-219"، و"عيون الأخبار" "2/ 147"، و"الفصل" "4/ 185"، و"الملل والنحل" "2/ 14، 15"، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" "ص43, ط المصرية". 4 انظر عن أخباره: "البداية والنهاية" "11/ 191"، و"صلة تاريخ الطبري" لعريب بن سعد "ص51-52"، و"تاريخ الإسلام" للذهبي "حوادث 321-330هـ" "ص22-24"، و"البيان المعرب" "1/ 206"، و"تاريخ ابن الوردي" "1/ 266"، و"الاعتصام" "1/ 216، 220, ط ابن عفان" للمصنف. وفي "ط": "المتسمي بالمهدي". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا؛ كَانَ لَهُ صَاحِبَانِ مِنْ كُتَامَةَ يَنْتَصِرُ بِهِمَا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى بِنَصْرِ اللَّهِ، وَالْآخُرُ بِالْفَتْحِ؛ فَكَانَ يَقُولُ لَهُمَا: أَنْتُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَكُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النَّصْرِ: 1] . قَالُوا: وَقَدْ كَانَ عَمِلَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَبَدَّلَ قَوْلَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] بِقَوْلِهِ كُتَامَةُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَمَنْ كَانَ فِي عَقْلِهِ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَسَمِّيَيْنِ1 بِنَصْرِ اللَّهِ وَالْفَتْحِ الْمَذْكُورَيْنِ إِنَّمَا وُجِدَا بَعْدَ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: إِذَا مُتَّ يَا مُحَمَّدُ ثُمَّ خُلِقَ هَذَانِ، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ} الْآيَةَ [النَّصْرِ: 2] ؛ فَأَيُّ تَنَاقُضٍ وَرَاءَ هَذَا الْإِفْكِ الَّذِي افْتَرَاهُ الشِّيعِيُّ قَاتَلَهُ اللَّهُ. وَمِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ مَنِ ادَّعَى جَوَازَ نِكَاحِ الرَّجُلِ مِنَّا تِسْعَ نِسْوَةٍ حَرَائِرَ2 مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النِّسَاءِ: 3] ، وَلَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا مَنْ فَهِمَ وَضْعَ الْعَرَبِ فِي مثنى وثلاث ورباع3.   1 في الأصل و"م": "المتسمين"، والضمير عائد إلى مثنى. 2 حكاه القرطبي في "تفسيره" "5/ 17" عن بعض أهل الظاهر وأهل الرفض؛ فقال: "اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نكح تسعًا، وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر ... "، وناقش هذا القول مناقشة قوية، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى قريبًا، والله الموفق. 3 خاطب الله -عز وجل- العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ حَلَالًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، فَلَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا غَيْرَ لَحْمِهِ، وَلَفْظُ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُ الشَّحْمَ وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ العكس1.   = وإنما الواو في هذا الموضع بدل أي: أنكحوا ثلاثًا بدلًا من مثنى، ورباع بدلًا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو, ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث, ولا لصاحب الثلاث رباع، وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم، وكذلك الآخرين بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا حصر للعدد، ومثنى وثلاث ورباع بخلافها؛ ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين؛ أي: جاءت مزدوجة، قال الجوهري: "وكذلك معدول العدد"، وقال غيره: إذا قلت: جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار؛ فإنما تريد أنهم جاءوك واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل؛ لأنك إذا قلت: جائني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة؛ فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة، فإذا قلت: جاءوني رباع وثناء، فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين، وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب؛ فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم. قاله القرطبي في "تفسيره" "5/ 17-18". وانظر: "الاعتصام" "2/ 525, ط ابن عفان"؛ ففيه بيان أن المستدل بالآية على جواز نكاح التسع "بدعة أجراها في هذه الأمة لا دليل عليها ولا مستند فيها". 1 قال القرطبي في "تفسيره" "2/ 222": "أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير"، وقال: "لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم؛ فقد دخل الشحم في اسم اللحم، ولا يدخل اللحم في اسم الشحم؛ وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير؛ فناب ذكر لحمه عن شحمه لأنه دخل تحت اسم اللحم". وقال ابن العربي في "أحكامه" "1/ 54": "اتفقت الأمة على أن لحم الخنزير حرام بجميع أجزائه، والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه"، قال: "وقد شغفت المبتدعة بأن تقول: فما بال شحمه، بأي شيء حرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحمًا فقد قال شحمًا، ومن قال شحمًا فلم يقل لحمًا؛ إذ كل شحم لحم، وليس كل لحم شحمًا من جهة اختصاص اللفظ، وهم لحم من جهة حقيقة اللحمية". وانظر: "الاعتصام" "1/ 302, ط ابن عفان". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْكُرْسِيَّ فِي قَوْلِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الْبَقَرَةِ: 255] بِالْعِلْمِ1، مُسْتَدِلِّينَ بِبَيْتٍ لَا يُعْرَفُ، وَهُوَ: .................................. ... وَلَا يُكَرْسِئُ2 عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقُ3 كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ: وَلَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ، وَيُكَرْسِئُ مَهْمُوزٌ، وَالْكُرْسِيُّ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ غَوَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طَهَ: 121] أَنَّهُ تَخِمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: "غَوِيَ الْفَصِيلُ يَغْوِي غَوًى"   1 ومثله تفسيره بالملك؛ كما في "الظلال" "1/ 290"، وهو مذهب المعتزلة والأشاعرة؛ كما تراه في "شرح الأصول الخمسة" "ص227"، و"أصول الدين" "113-114" و"التبصير في الدين" "15". وانظر لزامًا: "المورد الزلال" "ص36-37"، و"تفسير ابن جرير "24/ 37"، و"شرح الطحاوية" "311". 2 في النسخ المطبوعة كلها "بكرسي" بالباء الموحدة في أوله، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. 3 قال ابن قتيبة في "الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة" "ص35": "وطلبوا للكرسي غير ما نعلم، وجاءوا بشطر بيت لا يعرف ما هو، ولا يدرى من قائله: ولا يكرسئ علم الله مخلوق والكرسي غير مهموز بإجماع الناس جميعًا، و"يكرسئ" مهموز". قلت: أورد هذا البيت أبو حيان في "البحر المحيط" "2/ 280"، ولم ينسبه لأحد! وصدره: ما لي بأمرك كرسيّ أكاتمه ... ............................... وفسر الكرسي بالسر! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 إِذَا بَشِمَ1 مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ وَهُوَ فَاسِدٌ2؛ لِأَنَّ غَوِيَ الْفَصِيلُ [فِعْلٌ] 3، وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى [وَزْنِ] 4 فَعَلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الْأَعْرَافِ: 179] ؛ أَيْ: أَلْقَيْنَا فِيهَا، كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ: "ذَرَتْهُ الرِّيحُ"، وَذَرَأَ مَهْمُوزٌ، وَذَرَا غَيْرُ مَهْمُوزٍ5. وَفِي قَوْلِهِ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 125] ؛ أَيْ: فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِهِ، مِنَ الْخَلَّةِ بِفَتْحِ الْخَاءِ6، مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ7: وَإِنْ أَتَاهُ خليل يوم مسألة ... .............................   1 أي: أتخم. 2 حكاه السمين في "عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ" "ق 407"، والراغب في "المفردات" "369"، والفيروزآبادى في "بصائر ذوي التمييز" "4/ 156"، وسكتوا عنه وأخروه، وقال عنه الزمخشري في "الكشاف" "2/ 450": "تفسير خبيث"، ونقله عنه الآلوسي في "روح المعاني" "16/ 274"، وأقره، وكذا رده المصنف في "الاعتصام" "1/ 301, ط ابن عفان". 3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، قال "ف": "غوي؛ بفتح، فكسر، يقال: غوي الفصيل يغوى أغوى من باب فرح، وما في الآية بالفتح" ا. هـ. 4 سقط من "ط". 5 انظر في تفسير الآية: "روح المعاني" "9/ 118-119"، و"تفسير المنار" "9/ 418"، و"تأويل مشكل القرآن" "282"، ونحوه المذكور عند المصنف في "الاعتصام" "1/ 301-302, ط ابن عفان". 6 قاله أبو القاسم البلخي، ونقله عنه الراغب في "المفردات" "153"، والسمين في "عمدة الحفاظ" "ق 165"، والفيروزآبادي في "بصائر ذوي التمييز" "2/ 557"، وتعقبوه، وأجمع عبارة للفيروزآبادي قال: "وهذا القول منه تشه ليس بشيء، والصواب الذي لا محيد عنه إن شاء الله أنه من "الخلة"، وهي المحبة التي قد تخللت روح المحب وقلبه؛ حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه". 7 هو صدر بيت، وعجزه: "يقول لا غائب مالي ولا حرم"، وهو ضمن قصيدة له في "ديوانه" "ص82" يمدح فيها هرم بن سنان المري. وفي "ط": "بزهير في قوله". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيُّ فَضِيلَةٍ لِإِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟ أَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ فُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ؟ وَهَلْ إِبْرَاهِيمُ فِي لَفْظِ خَلِيلِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا قِيلَ: مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ؟ وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ" 1، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ هُمُ النَّابِذُونَ لِلْمَنْقُولَاتِ اتِّبَاعًا لِلرَّأْيِ، وَقَدْ أَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ بِمَا لَا يَشْهَدُ لِلَفْظِهِ عَرَبِيٌّ وَلَا لِمَعْنَاهُ بِرِهَانٌ كَمَا رَأَيْتَ، وَإِنَّمَا أَكْثَرْتُ2 مِنَ الْأَمْثِلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ مَقْصُودِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى مَا عَلِمْتَ لِتَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِمَّا هُوَ مِثْلُهَا أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا. فَصْلٌ: وَكَوْنُ الْبَاطِنِ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْخِطَابِ قَدْ ظَهَرَ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطَانِ:   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق، 4/ 1855/ رقم 2383" والترمذي في "الجامع" "كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق, رضي الله عنه، 5/ 606/ رقم 3655"، والنسائي في "فضائل الصحابة" "رقم 4"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله, صلى الله عليه وسلم 1/ 36/ رقم 93"، وأحمد في "المسند" "1/ 377، 389، 408، 409، 412، 433، 434، 437، 455"، و"الفضائل" "رقم 155، 156، 157، 158، 159، 160" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا، دون لفظة "غير ربي". وأخرجه بها البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "سدوا الأبواب ... "، 7/ 12/ رقم 3654"، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وهو في "صحيح مسلم" "رقم 2382" من حديثه دون اللفظة المذكورة. وقال الفيروزآبادي في "البصائر" "2/ 558" عقبه وعقب حديث آخر نصه: "إن الله تعالى اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا". قال: "والحديثان في "الصحيحين"، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد -عليه السلام- فإبراهيم خليله ومحمد حبيبه". 2 في "ط": "أكثر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِحَّ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْمُقَرَّرِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَيَجْرِي1 عَلَى الْمَقَاصِدِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ شَاهِدٌ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا فِي مَحَلٍّ آخَرَ يَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَظَاهِرٌ مِنْ قَاعِدَةٍ كون الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فَهْمٌ لَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْعَرَبِ؛ لَمْ يُوصَفْ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا بِإِطْلَاقٍ، وَلِأَنَّهُ مَفْهُومٌ يُلْصَقُ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ فِي أَلْفَاظِهِ وَلَا فِي مَعَانِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ أَصْلًا؛ إِذْ لَيْسَتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ2 مَدْلُولَهُ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ ضِدِّهِ إِلَيْهِ، وَلَا مُرَجِّحَ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ وَتَقَوُّلٌ عَلَى الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُ قَائِلُهُ تَحْتَ إِثْمِ مَنْ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ جَارِيَةٌ هُنَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ3 إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي مَحَلٍّ آخَرَ أَوْ كَانَ لَهُ مُعَارِضٌ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ الدَّعَاوَى الَّتِي تُدَّعَى عَلَى الْقُرْآنِ، وَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَبِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْبَاطِنُ؛ لِأَنَّهُمَا مُوَفَّرَانِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا فَسَّرَ بِهِ الْبَاطِنِيَّةُ4؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ الْبَاطِنِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ الظَّاهِرِ؛ فَقَدْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16] : إنه   1 أي: بحيث يجري ... إلخ. "د". 2 في الأصل و"ط": "أنه". 3 في "ط": "فإنه". 4 انظر عن أشهر تفاسيرهم وأمثلة كبيرة على ضلالاتهم ومناقشتهم في ذلك عند الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه "من بلاغة القرآن"، والدكتور عدنان زرزور في كتابه "متشابه القرآن"، والشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه "التفسير والمفسرون" "2/ 235 وما بعدها". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 الْإِمَامُ وَرِثَ النَّبِيَّ عِلْمَهُ، وَقَالُوا فِي "الْجَنَابَةِ": إِنَّ مَعْنَاهَا مُبَادَرَةُ الْمُسْتَجِيبِ بِإِفْشَاءِ السِّرِّ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنَالَ رُتْبَةَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَعْنَى "الْغُسْلِ" تَجْدِيدُ الْعَهْدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى "الطَّهُورِ" هُوَ التَّبَرِّي وَالتَّنَظُّفُ مِنِ اعْتِقَادِ كُلِّ مذهب سوى متابعة الإمام، و"التيمم" الْأَخْذُ مِنَ الْمَأْذُونِ إِلَى أَنْ يُشَاهَدَ1 الدَّاعِي أو الإمام، و"الصيام" الإمساك عن كشف السر، و"الكعبة" النبي، و"الباب" عليّ، و"الصفا" هو النبي، و"المروة" عليّ، و"التلبية" إجابة الداعي، و"الطواف سَبْعًا" هُوَ الطَّوَافُ بِمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إلى تمام الأئمة السبعة، و"الصلوات الْخَمْسُ" أَدِلَّةٌ عَلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَى الْإِمَامِ، و"نار إِبْرَاهِيمَ" هُوَ غَضَبُ نَمْرُودَ لَا النَّارُ الْحَقِيقِيَّةُ، وذبح "إسحاق"2 هو أخذ العهد عليه، و"عصا موسى" حجته التي تلقفت شبه السحرة، و"انفلاق الْبَحْرِ" افْتِرَاقُ عِلْمِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيهِمْ، و"البحر" هو العالم، و"تظليل الغمام" نصب موسى الإمام لإرشادهم، و"المن" علم نزل من السماء، و"السلوى" داع من الدعاة، و"الجراد وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ" سُؤَالَاتُ مُوسَى وَإِلْزَمَاتُهُ الَّتِي تَسَلَّطَتْ عليهم، و"تسبيح الجبال" رجال شداد في الدين، و"الجن الذين ملكهم سليمان" باطنية ذلك الزمان، و"الشياطين" هُمُ الظَّاهِرِيَّةُ الَّذِينَ كُلِّفُوا الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، إِلَى سَائِرِ مَا نُقِلَ مِنْ خُبَاطِهِمُ3 الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْخَبَالِ، وَضِحْكَةُ السَّامِعِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنِ الخذلان4.   1 في "الاعتصام" "1/ 322, ط ابن عفان": "إلى أن يسعد بمشاهد الداعي .... ". 2 كذا في الأصل وجميع النسخ المطبوعة، وهو رأي القرطبي في "تفسيره"!! والصواب: "إسماعيل"؛ إذ هو الذبيح، على ما فصله ابن القيم في "الزاد"، والسيوطي في "القول الفصيح في تعيين الذبيح"، مطبوع ضمن "الحاوي" له "1/ 318-322". 3 في الأصل: "خطابهم". 4 تجد هذه الأمثلة ونحوها في "قواعد عقائد آل محمد" "ص47" لمحمد بن الحسن الديلمي، ط إستانبول، مطبعة الدولة، سنة 1938م، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "5/ 550-551 و13/ 236-238، 359 وما بعدها"، وابن حزم في "الإحكام" "3/ 40" أمثلة كثيرة غير هذه من تفسيرات الباطنية وهي من جنسها؛ فانظرها فإنها مفيدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 قَالَ الْقُتْبِيُّ1: "وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ يَقُولُ: مَا أُشَبِّهُ تَفْسِيرَ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِلشِّعْرِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا سَمِعْتُ بِأَكْذَبَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: بَيْتٌ زُرَارَةُ مُحْتَبٍ بِفَنَائِهِ ... وَمُجَاشِعٌ وَأَبُو الْفَوَارِسِ نَهْشَلُ إِنَّهُ فِي رَجُلٍ2 مِنْهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهِ؟ قَالَ: الْبَيْتُ بَيْتُ اللَّهِ، وَزُرَارَةُ الْحِجْرُ3. قِيلَ: فَمُجَاشِعٌ؟ قَالَ: زَمْزَمُ جَشَعَتْ بِالْمَاءِ. قيل: فأبو الفوراس؟ قَالَ: أَبُو قُبَيْسٍ. قِيلَ: فَنَهْشَلٌ؟ قَالَ نَهْشَلٌ أَشَدُّهُ4، وَصَمَتَ5 سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، نَهْشَلٌ مِصْبَاحُ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُ طَوِيلٌ أَسْوَدُ، فَذَلِكَ نَهْشَلٌ"، انتهى ما حكاه.   1 هو ابن قتيبة، وكلامه الذي أورده المصنف موجود في كتابيه "اختلاف الحديث" "1/ 217-218"، و"عيون الأخبار" "2/ 146"، ونحوه في "العقد الفريد" "2/ 250 و7/ 186"، وأفاد أن القائل: "ما أشبه ... " هو الشعبي. 2 كذا في الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة، وفي "اختلاف الحديث": "رجال"، وهو أصوب. 3 في "د" و"ط": "الحج"، وقال "د": "صوابه "الحجر؛ بكسر الحاء"، كما هو الرواية عن ابن قتيبة". قلت: وكذا في "م"، وكتب في الهامش: "في المطبوعات الثلاث: "الحج"، وتصويبه عن ابن قتيبة". 4 الرواية "أشدها"؛ أي: أصعبها في بيان معناه. "د"، وكتب "م": "يريد أشد ما في البيت؛ أي: أعوصه وأصعبه تفسيرًا". قلت: وفي "ط" ونسخ "اختلاف الحديث" الخطية الخمسة، التي اعتمد عليها أخي الأستاذ أحمد الشقيرات "1/ 217, مضروبة على آلة كاتبة"؛ كما عن المصنف: "أشده". 5 في "اختلاف الحديث" و"ط": "وفكر ساعة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 فَصْلٌ: وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ تَفَاسِيرُ مُشْكِلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِنِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ لِأُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ مِنْهَا إِلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ. فَمِنْ ذَلِكَ فَوَاتِحُ السُّوَرِ1 نَحْوَ {الم} ، وَ {المص} , وَ {حم} ، وَنَحْوِهَا فُسِّرَتْ بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا مَا يَظْهَرُ جَرَيَانُهُ عَلَى مَفْهُومٍ صَحِيحٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيَنْقُلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ2 فِي {الم} أَنَّ "أَلِفٌ" اللَّهُ، و"لام" جبريل، و"ميم" مُحَمَّدٌ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا إِنْ صَحَّ فِي النَّقْلِ؛ فَمُشْكِلٌ لِأَنَّ هَذَا النَّمَطَ من التصرف لم يثبت   1 تجد كلامًا محققًا جيدًا حولها في "قانون التأويل" "208 وما بعدها"، و"معرفة قانون التأويل" "ق 27/ أ" -حيث أورد فيه اثني عشر قولًا لعلماء التفسير وسبعة أقوال للصوفية- كلاهما لابن العربي، و"تفسير الطبري" "1/ 67-74"، و"تأويل مشكل القرآن" "299" لابن قتيبة، و"العقل وفهم القرآن" "329" للمحاسبي، و"بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم" "1/ 259-264"، و"بدائع الفوائد" "3/ 45-47"، و"الكشاف" "1/ 12-19"، و"البحر المحيط" "1/ 34" لابن حيان، و"تفسير الرازي" "2/ 3-13"، و"تفسير القرطبي" "1/ 154"، و"البرهان" "1/ 214-216، و"معترك الأقران" "1/ 156"، و"الإتقان" "2/ 11 وما بعدها"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 398"، و"الإعجاز البياني للقرآن" "136" لبنت الشاطئ، و"براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور" "ص99-302"، وفيه جمع واسع لما قيل في معاني الحروف المذكورة في أوائل السور. 2 حكاه أبو الليث في "بحر العلوم" "1/ 89"، وغيره ولم ينسبوه لابن عباس، وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/ 126": "هذا لا يعرف عن ابن عباس ولا غيره من السلف"، وتابعه ابن همات في "تحفة الراوي" "ق 8/ ب"، وورد عنه أقوال كثيرة كما تراه في "الدر المنثور" "1/ 55-59". وفي "ط": "في "الم"، وفي غيره: "أن الم"، قال "ف": "إن "الم": لعله في "الم". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هَكَذَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَتَى مِثْلُهُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ أَوِ الْحَالِيُّ؛ كَمَا قَالَ: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قاف1 وقال:   1 هذا أول رجز للوليد بن عقبة، وسبب قوله أنه لما شهد عليه عند عثمان بن عفان بشرب الخمر؛ كتب إليه يأمره بالشخوص، فخرج وخرج معه قوم يعذرونه، فيهم عدي بن حاتم، فنزل الوليد يومًا يسوق بهم؛ فقال يرتجز: قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف والنشوات من عتيق أوصاف ... وعزف قينات علينا غراف فقال له: "إلى أين تذهب بنا؟ أقم". كذا في "الأغاني" "5/ 181"، و"شرح شواهد الشافية" "ص271"، وفي "تأويل مشكل القرآن" "309": "وأنشد الفراء وذكره"، وهو في "الصاحبي" "94"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 212, تحقيق شاكر"، و"الوسيط" "1/ 76" للواحدي، و"المحرر الوجيز" "1/ 82-83"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 39"، و"مجمع البيان" "1/ 34"، و"البحر المحيط" "1/ 35"، و"العمدة" "1/ 280"، و"بحر العلوم" "1/ 87"، و"قانون التأويل" "216، و"البرهان" "3/ 117" للزركشي، و"الإتقان" "2/ 12"، و"براعة الاستهلال" "197"، وفي بعضها غير منسوب. وأورده ابن جني في "الخصائص" "1/ 31، 81، 247"، ونقل عنه ابن منظور في "اللسان" "9/ 359، مادة وقف" قوله: "ولو نقل هذا الشاعر إلينا شيئًا من جملة الحال؛ فقال مع قوله: "قالت: قاف": وأمسكت زمام بعيرها أو عاجته إلينا؛ لكان أبين لما كانوا عليه وأدل، على أنها أرادت قفي لنا قفي لنا، أي: تقول لي قفي لنا متعجبة منه، وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم من قولها قاف إجابة له لا رد لقوله، وتعجب منه في قوله: "قفي لنا"". قال: "ف": "أي: ذكرت حرفًا في حروف قفي وهو القاف، والظاهر أن القصد بذكره امتثال الأمر بقرينة سابقة، وكذا قوله "فا" بمعنى فأنا أقول لك، وقول "تا"؛ أي: تفعل فإن فعلته أقابل الشر بمثله ويشبه أن يكون ذلك من النحت". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ بِلَافَا1 وَقَالَ: وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا2 وَالْقَوْلُ فِي {الم} لَيْسَ3 هَكَذَا، وَأَيْضًا، فَلَا دَلِيلَ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ دَلِيلٌ لَاقْتَضَتِ4 الْعَادَةُ نَقْلَهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لَوْ صَحَّ أَنَّهُ مِمَّا يُفَسَّرُ وَيُقْصَدُ تَفْهِيمُ مَعْنَاهُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَإِنْ ثَبْتَ لَهُ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيرَ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِشَارَةُ إِلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ بِجِنْسِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ هَذِهِ الْفَوَاتِحَ أَسْرَارٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ فَهِيَ من قبيل   1 في "م": "بلى؛ فلا"، وأورده السيوطي في "الإتقان" "2/ 12"، وأوله: "ناداهم ألا الحموا ألا نا ... قالوا جميعًا كلهم ألا فا" وقال: "أراد: ألا تركبون ألا فاركبوا". 2 الراجز هو لقيم بن أوس، وأوله: "بالخير خيرات وإن شرًّا فا"؛ كما في "الكامل" "236"، و"شرح شواهد الشافية" "262"، و"الهمع" "2/ 210، 236"، و"اللسان" "مادة تا"، و"المحرر الوجيز" "1/ 83"، وعزاه إلى زهير بن أبي سلمى، و"تفسير ابن كثير" "1/ 39"، و"الكتاب" "3/ 321"، لسيبويه، و"الإتقان" "2/ 12"، و"شرح أبيات سيبويه" "2/ 277" لابن السيرافي، و"تفسير ابن جرير" "1/ 70"، و"براعة الاستهلال" "197"، قال سيبويه في "الكتاب" "3/ 321": "يريد: إن شرًّا فشر، ولا يريد الشر إلا أن تشاء". 3 الأمثلة الثلاثة أدلتها من اللفظ، وليس في "الم" ما يدل على هذا التفسير من اللفظ، وقوله: "وأيضًا"؛ أي: ولا قرينة خارجة عن اللفظ أيضًا، وهو ما سماه بالدليل الحالي أي: غير المقالي، وقوله: "لو صح ... إلخ" تأكيد لأضعاف هذا المعنى؛ فإن الراجح أن أوائل السور من المتشابه الذي اختص الله بعلمه. "د". 4 في "ط": "لاقتضاء". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 الْمُتَشَابِهَاتِ، وَأَشَارَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَعْدَادُهَا تَنْبِيهًا عَلَى مُدَّةِ هَذِهِ الْمِلَّةِ1، وَفِي السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْهَدُ فِي اسْتِعْمَالِهَا الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ أَنْ تَدُلَّ بِهَا عَلَى أَعْدَادِهَا، وَرُبَّمَا لَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا لَهَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ فِي الْيَهُودِ حسبما ذكره أصحاب السير2.   1 قال ابن كثير في "تفسيره" "1/ 76" عن هذه الحروف المقطعة: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم؛ فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره". 2 يشير المصنف إلى ما عند ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 545, تهذيب ابن هشام"، وأخرجه أيضًا البخاري في "التاريخ الكبير" "2/ 208"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 92-93/ رقم 246, ط شاكر"، والداني في "البيان في عد آي القرآن" "330-331" من طريق ابن إسحاق: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رئاب؛ قال: "مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يتلو صدر سورة البقرة: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ؛ فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل عليه: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فقالوا: أنت سمعت؟ قال: نعم. فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالوا له: ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} . فقال: "بلى". قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما بين النبي فيهم مدة ملكه، وأجل أمته غيرك. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون. قال: يا محمد! هل مع هذا غيره؟ قال: "نعم، {المص} ". قالوا: هذه أطول وأثقل؛ الألف واحدة، واللام ثلاثة، والميم أربعون، والصاد ستون؛ فهذه إحدى وثلاثون ومائة، هل مع هذا غيره؟ قال: "نعم، {الر} ". قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، هذه إحدى ومائتا سنة، هل مع هذا غيره؟ قال: "نعم، {المر} ". قال: هذا أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان؛ فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لبس علينا أمرك حتى ما يدرى أقليلًا أعطيت أم كثيرًا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم لعله قد جمع لمحمد هذا كله إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتنان، وإحدى وسبعون ومائتان؛ فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 ..........................................................................   = تشابه علينا أمره". وإسناده ضعيف جدًّا، بل موضوع، آفته الكلبي، وهو محمد بن السائب، متهم بالكذب، وشيخه أبو صالح باذام، مولى أم هانئ، وهو ضعيف، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس؛ كما في "جامع التحصيل" "رقم 55". وحكم عليه ابن كثير بالضعف؛ فقال في "تفسيره" "1/ 39, ط الشيخ مقبل": "فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به"، وتابعه عليه الشوكاني في "فتح القدير" "1/ 31"، وقد تكلمت بإسهاب ولله الحمد على تفسير ابن عباس من طريق الكلبي في كتابي "كتب حذر منها العلماء" "2/ 259 وما بعدها، المجموعة الأولى"؛ فراجعه إن شئت، والله الهادي. وأورده البخاري من وجه آخر فيه محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول، وهذا مردود من جهة متنه، وهذا ما قرره ابن حجر؛ فقال رحمه الله تعالى: "وهذا باطل لا يعتمد عليه؛ فقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- الزجر عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصل له في الشريعة". نقله عنه السيوطي في "الإتقان" "2/ 11". قلت: أشار الحافظ إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 26/ رقم 19805", والبيهقي في "الكبرى" "8/ 139"، عن ابن عباس بسند صحيح، قال: "إن قومًا ما يحسبون أبا جاد وينظرون في النجوم، ولا أدري لمن فعل ذلك من خلاق". وقال الشوكاني عقبه: "فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الموضع؛ فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} من ذلك العدد موجبًا للتثبيط عن الإجابة له، والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم؛ لدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم". ولا داعي بعد بيان وضع هذه القصة إلى تحميلها ما لا تحتمل من مثل قول صاحب "التحرير والتنوير" "1/ 194-195": "وليس في جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزًا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 فَأَنْتَ تَرَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُشْكِلَةً إِذَا سَبَرْنَاهَا بِالْمِسْبَارِ الْمُتَقَدِّمِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَوَاتِحِ مِثْلُهَا فِي الْإِشْكَالِ وَأَعْظَمُ، وَمَعَ إِشْكَالِهَا؛ فقد   = فهموه بإبطال أن يكون مفيدًا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه -صلى الله عليه وسلم- فهو تعجيب من جهلهم"، ومن مثل قول الأمير الصنعاني في "رسالة شريفة فيما يتعلق بالأعداد للحروف والأوفاق" "ص15" قال بعد أن ساق القصة: "فهذا دليل أن ذلك كان من عرف اليهود واصطلاحهم، ومن المعلوم قطعًا أنه لم يكن ذلك من لغة العرب كما يعلم قطعًا أن العرب لم تعارض القرآن، فما هو إلا من علم اليهود ومن أوضاع أسحارهم، وقد ثبت عن ابن عباس النهي عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من السحر". ثم قال: "فإن قلت: فقد قرر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حيي بن أخطب على تفسير تلك الحروف بالأعداد. قلت: أما أولًا؛ فمعلوم أن تلك الحروف ليست موضوعة للأعداد في العربية، وقد علم أنه تعالى أنزل القرآن عربيًّا؛ فلا يفسر العربي إلا بالأوضاع العربية لا بالأوضاع العبرانية. وأما ثانيًا؛ فقد علم مخالفته -صلى الله عليه وآله وسلم- لليهود في أفعالهم وأقوالهم؛ فسكوته عن الإنكار هذا كسكوته عن الإنكار إذا مروا إلى كنائسهم. وأما ثالثًا؛ فلأنهم منكرون أنه كلام الله فهم فسروا على تسليم أنه كلام كاذب عندهم. وأما رابعًا؛ فلأنه يحتمل أن سكوته أراده لإغاظتهم وتحزينهم، فإنه يعلم أن بقاءه يومًا واحدًا مما يسوءهم ويحزنهم فضلًا عن أعوام. وأما خامسًا؛ فلأنه معلوم أن هذا ليس من لغته ولا لغة قومه، فكأنه يقول: إذا كان عرفًا لكم ولغة عندكم؛ فأنتم تعلمون أنه ليس لغة لنا ولا هو عرفنا، وإنما هو شيء جئتم به من تلقاء أنفسكم، فلا ينكر عليهم أن يتعارفوا بينهم بأي لفظ. فإن قلت: ومن أين علمنا أنه ليس من لغته ولا لغة قومه؟ قلت: عرفناه بأنه لم يأت حرف واحد عن صحابي ولا تابعي بهذا، مع أنه قد نقل إلينا تفاسيرهم لكلام الله، بل هذا معلوم يقينًا أنه من لغة العرب؛ فقد دونها أئمة اللغة وبذلوا فيها وسعهم وتتبعوها في البوادي وغيرها، ولا تجد كتابًا لغويًّا فيه شيء من هذا، وأن الحرف مسماه كذا من العدد هذا أمر مقطوع بعدم وقوعه لغة؛ فتعين أنه أمر اصطلاحي لا حجر فيه ولا ضير على متعاطيه، ونهى ابن عباس عنه، وأنه من السحر يدل أنه عرف أنه اصطلاح لليهود يستعملونه في الأسحار". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 اتَّخَذَهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ، بَلْ إِلَى الِاطِّلَاعِ وَالْكَشْفِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ، حُجَجًا فِي دعاوٍ ادَّعَوْهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَرُبَّمَا نَسَبُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ [إِلَى] 1 عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ2، وَزَعَمُوا أَنَّهَا أَصْلُ الْعُلُومِ وَمَنْبَعُ الْمُكَاشَفَاتِ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ الْعَرَبَ الْأُمِّيَّةَ الَّتِي لَا تَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ إِذَا سُلِّمَ أَنَّهُ مُرَادٌ فِي تِلْكَ الْفَوَاتِحِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ تَرْكِيبِهَا عَلَى وُجُوهٍ، وَضَرْبِ3 بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَنِسْبَتِهَا إِلَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَإِلَى أَنَّهَا الْفَاعِلَةُ فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّهَا مُجْمَلُ كُلِّ مُفَصَّلٍ، وَعُنْصُرُ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيُرَتِّبُونَ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبًا جَمِيعُهُ دعاوٍ مُحَالَةٌ عَلَى الْكَشْفِ وَالِاطِّلَاعِ، وَدَعْوَى الْكَشْفِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى حَالٍ4، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعَدُّ دَلِيلًا فِي غَيْرِهَا، كَمَا سَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ.   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبتناه من الأصل و"ف" و"م" و"ط". 2 انظر لزامًا بسط ذلك في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 248-249, المجموعة الأولى". 3 وأنها بهذا الحساب تبين تواريخ أمم سابقة ولاحقة، ومن ذلك أن محيي الدين بن عربي ذكر في "فتوحاته" عند تفسير قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29] : "إن الله أودع في القرآن من العلوم ما هي خارجة عن حصرنا لها، وقال: سألت بعض العلماء: هل يصح لأحد حصر أمهات هذه العلوم؟ فقال: إنها مائة ألف نوع وستمائة نوع، كل نوع منها يحتوي على علوم لا يعلمها إلا الله تعالى". "د". قلت: وكتابه هذا فيه طامات وأوابد، كما فصله جماعة من العلماء؛ منهم: ابن تيمية في "الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم" ضمن "مجموع الفتاوى" "2/ 362-451"، والبقاعي في "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي"، كلاهما مطبوع، والسخاوي في "القول المنبي في ترجمة ابن عربي"، وهو قيد التحقيق عندي، والفاسي في الأول من كتابه "العقد الثمين"، والأهدل في كتاب مفرد جامع مفيد، طبع قديمًا في تونس، وأتيت على ما قيل فيه في كتابي: "كتب حذر منها العلماء"، يسر الله إتمامه. 4 انظر في هدم الاحتجاج بالكشف: "القائد لتصحيح العقائد" "ص37 وما بعدها". للمعلمي اليماني، و"مجموع الفتاوى" "5/ 491 و11/ 77 و323 و13/ 73 و29-30"، و"الجواب الصحيح" "2/ 92"، و"مدارج السالكين" "1/ 494 و3/ 228"، و"شرح الطحاوية" "498"، و"تفسير القرطبي" "11/ 40 و7/ 39"، و"المقدمة السالمة" "ص20, بتحقيقي" لعلي القاري، و"مشتهى الخارف الجاني" "81"، و"شرح مراقي السعود" "288"، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 638 وما بعدها"، و"أضواء البيان" "4/ 159"، وسيأتي للمصنف "ص470 وما بعد" كلام مسهب في هذا الموضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ1 فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ بَاطِنِهِ؛ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [الْبَقَرَةِ: 22] ؛ أَيْ: أَضْدَادًا، قَالَ: "وَأَكْبَرُ الأنداد2 النفس الأمارة بالسوء، المتطلعة إِلَى حُظُوظِهَا وَمُنَاهَا3 بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ". وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْأَنْدَادِ، حَتَّى لَوْ فَصَّلَ لَكَانَ الْمَعْنَى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لَا صَنَمًا وَلَا شَيْطَانًا وَلَا النَّفْسَ وَلَا كَذَا، وَهَذَا مُشْكِلُ الظَّاهِرِ جِدًّا؛ إِذْ كَانَ مَسَاقُ الْآيَةِ وَمَحْصُولُ الْقَرَائِنِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْدَادَ الْأَصْنَامُ أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا كَانُّو يَعْبُدُونَ، وَلَمْ يكونوا يعبدون أنفسهم ولا   1 له تفسير بعنوان: "تفسير القرآن العظيم" مطبوع في مطبعة السعادة بالقاهرة، سنة 1326هـ-1908م، في "204 صفحات"، نشره النعساني، والمذكور عند المصنف فيه "ص14"، وقد رد تفسير الآية المذكور عند المصنف الشيخ محمد حسين الذهبي في "الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن" "52"، وانظر غير مأمور: "منهج ابن تيمية في تفسير القرآن الكريم" "ص60-61". 2 في "تفسير سهل" "ص14": "الأضداد". 3 في النسخ المطبوعة كلها و"ط": "الطواعة إلى حظوظها ومنهيها"، وما أثبتناه من "تفسير سهل" "ص14"، وكتب "ف" على "الطواعة": "أي: شديدة الطوع والانقياد إلى حظوظها وما نهيت عنه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 يَتَّخِذُونَهَا أَرْبَابًا، وَلَكِنْ لَهُ وَجْهٌ جارٍ عَلَى الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ1 إِنَّ هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَلَكِنْ أَتَى بِمَا هُوَ نِدٌّ2 فِي الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا3: أَنَّ النَّاظِرَ قَدْ يَأْخُذُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَعْنًى مِنْ بَابِ الاعتبار؛   1 أي: لم يقل: إن هذا المعنى داخل تحت عموم الآية بحيث يدل عليه نظمها حقيقة أو مجازًا بالدلالة الآلية المعروفة، بل قال: يفهم من الآية بنوع من الدلالة والفهم شبيه بالاستنباط الأصولي الذي يرجع فيه إلى اعتبار العقل وتصرفه وبالأخذ الصرفي الذي يعول فيه على اعتبار المعنى أو تنوعه، والدلالة على المعاني التي تنكشف لأرباب السلوك من هذا الطريق تسمى دلالة إشارية، ولا يعول عليها عندهم إلا إذا أمكن تطبيقها على الظواهر المسوق لها الكلام، بل لا مطمع في الوصول إليها إلا من طريقها؛ كالبيت لا يتوصل لداخله إلا بعد ولوج بابه، خلافًا للباطنية الملاحدة الذين ينفون ظواهر الآيات ويريدون بها معاني أخرى يزعمونها بواطن القرآن وليست منه في شيء. "ف". 2 أي: جاء بالمعنى في "الند"، وأجراه في الآية وإن لم تنزل فيه؛ لكونه يعتبر شرعًا كالند الذي نزلت فيه، ويشهد لاعتبار هذا الإجراء وجهان: أحدهما في نفس موضوع اتخاذ الأنداد والأرباب، والثاني أعم من ذلك، وهو حذر الصحابة وخوفهم من تطبيق الآيات التي أنزلت في الكفار عليهم؛ فاجتنبوا لذلك ما ورد خاصًّا بالكفار مما اقتضى اتصاف هؤلاء بالحرمان، ولو كان من أصل المباحات؛ كالتوسع في أخذ الحظوظ الدنيوية. "د". 3 في الأسلوب انحراف أدى إلى قلق المعنى؛ وذلك لأن "كون الناظر في معنى الآية، أخذ معنى ... " إلى قوله: "أو يقاربه"، هذا المقدار عام، وهو شرح لموضوع المعاني الاعتبارية التي يلتفت إليها الصوفية، وليس خاصًّا بالجهة الأولى، بل هو جار في الجهة الثانية وغيرها في كل ما روعي فيه معنى اعتباري؛ فكان المناسب أن يقدم هذا الشرح بعد قوله: "في الاعتبار الشرعي"، ثم يقول: وهذا الاعتبار الذي اعتبره سهل يشهد له وجهان: أحدهما خاص بالموضوع، وهو الآية الأولى؛ فحقيقة الند ... إلخ، والثاني عام، وهو الآية الثانية، ويقول في الثانية: إن لأهل الإسلام نظرًا واعتبارًا في الآية، فأخذوا من معناها معنى أجروها فيه، وإن لم تنزل فيه، ويشرحه كما شرح مسألة الند لو صنع ذلك لاتضح المقام واتسق الكلام. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 فَيُجْرِيهِ فِيمَا لَمْ تَنْزِلْ فِيهِ1 لِأَنَّهُ يُجَامِعُهُ فِي الْقَصْدِ أَوْ يُقَارِبُهُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّدِّ أَنَّهُ الْمُضَادُّ لِنِدِّهِ الْجَارِي عَلَى مُنَاقَضَتِهِ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ هَذَا شَأْنُهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْمُرُ صَاحِبَهَا بِمُرَاعَاةِ حُظُوظِهَا لَاهِيَةً أَوْ صَادَّةً عَنْ مُرَاعَاةِ حُقُوقِ خَالِقِهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْنِي بِهِ النِّدَّ فِي نِدِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ نَصَبُوهَا لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ، وَشَاهِدُ صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 31] ، وَهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمُ ائْتَمَرُوا بِأَوَامِرِهِمْ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَوْهُمْ عَنْهُ كيف كان؛ فما حرموا عليه حَرَّمُوهُ، وَمَا أَبَاحُوا لَهُمْ حَلَّلُوهُ2؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 31] ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُتَّبِعِ لِهَوَى نَفْسِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْأَصْنَامِ؛ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِيهَا نَظَرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] قَالَ3 لِبَعْضِ مَنْ تَوَسَّعَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ: "أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الْأَحْقَافِ: 20] ؟ "، وَكَانَ هُوَ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ بِهَا وإنما   1 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 376-377 و16/ 148-149". 2 أي: مع أن المحرم والمحلل هو الله، فلما أمرت النفس صاحبها بمقتضى هواها صادة عن أوامر الله كان فيه معنى اتخاذها لله ندًّا، كما أن في ائتمارهم وانتهائهم بأوامر الأحبار هذا الاتخاذ الذي قرره القرآن، ولذلك قال: "وهذا هو شأن المتبع لهوى نفسه". "د". قلت: وما ذكره المصنف في تفسير الآية وارد في حديث صحيح، مضى لفظه وتخريجه "3/ 299". 3 وتقدم أنه أخذه من حديث: "أَوَفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم" الحديث؛ فقد شهد القرآن باعتباره بناء على الحديث المتقدم في مبحث العموم والخصوص. "د". قلت: تقدم الأثر وتخريجه "ص34". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} الْآيَةَ [الْأَحْقَافِ: 20] ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَحَّ التَّنْزِيلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [الْبَقَرَةِ: 22] ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنَ الْمَنْقُولِ عَنْ سَهْلٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [الْبَقَرَةِ: 35] ؛ قَالَ1: "لَمْ يُرِدِ اللَّهُ مَعْنَى الْأَكْلِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَعْنَى مُسَاكَنَةِ الْهِمَّةِ لِشَيْءٍ هُوَ غَيْرُهُ، أَيْ: لَا تَهْتَمَّ بِشَيْءٍ هُوَ غَيْرِي"، قَالَ: "فَآدَمُ لَمْ يُعْصَمْ مِنَ الْهِمَّةِ وَالتَّدْبِيرِ فَلَحِقَهُ مَا لَحِقَهُ"، قَالَ: "وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَسَاكَنَ قَلْبَهُ نَاظِرًا إِلَى هَوَى نَفْسِهِ، لَحِقَهُ التَّرْكُ مِنَ اللَّهِ مَعَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيهِ2؛ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ فَيَعْصِمَهُ مِنْ تَدْبِيرِهِ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَلَيْهَا". قَالَ: "وَآدَمُ لَمْ يُعْصَمْ عَنْ مُسَاكَنَةِ قَلْبِهِ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ لِلْخُلُودِ لَمَّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الْبَلَاءَ فِي الْفَرْعِ3 دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ سكون القلب إلى ما وسوست   1 جعل كلامه في الآية تفسيرًا ومرادًا من كلام الله تعالى لاستيفائه الشرطين السابقين، بخلاف ما تضمنه الفصل السابق؛ فإنه جعله معنى إشاريًّا، وهو وجيه، وبخلاف ما يأتي في بقية هذا الفصل عن سهل أيضًا؛ فإنه لم يقبله ولا على المعنى الإشاري؛ إلا في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْت} [النساء: 51] ، على وجه لأنه لم يستوفِ الشرطين السابقين المصححين للتفسير، ولم ينطبق عليه المعنى الاعتباري الذي يتفجر لأهل البصائر من المعاني الشرعية كما سبق، وكما يأتي في المسألة التالية، وقوله: "مع ما جبلت ... إلخ" أي: يتركه ليتصرف بمقتضى جبلته، وهو هنا حبه للخلود الذي يقتضي أن يحصل أسبابه بتدبير من عنده. "د". قلت: والمنقول عن سهل في "تفسيره" "ص15-17". 2 في "د": "عليه"، وفي الأصل و"ف" و"م" و"ط": "فيه" كما أثبتناه. 3 أي: هذه الجزئية يعني أنه لم يبتل في أصل من أصول الدين يريد بذلك تهوين الأمر في هذه المخالفة بأنها من الصغائر لا من الكبائر. "د". قلت: وفيه إشارة أدبية من الرد على "ف" حيث قال: "لعله فرع الشجرة الذي أكل منه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 بِهِ نَفْسُهُ؛ فَغَلَبَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ بِسَابِقِ الْقَدَرِ .... " إِلَى آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ. وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ فِي الْآيَةِ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ نَفْسِ الْأَكْلِ لَا عَنْ سُكُونِ الْهِمَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَهُ وَجْهٌ يَجْرِي عَلَيْهِ لِمَنْ تَأَوَّلَ، فَإِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ1 الْقُرْبِ لَا غَيْرِهِ، وَلَمْ يَرِدِ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ2 تَصْرِيحًا؛ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَبَيْنَ مَا فُسِّرَ بِهِ. وَأَيْضًا؛ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْقُرْبِ مُجَرَّدًا إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ تَظْهَرُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ مَعْنًى فِي الْقُرْبِ، وَهُوَ إِمَّا التَّنَاوُلُ وَالْأَكْلُ، وَإِمَّا غَيْرُهُ وَهُوَ شَيْءٌ يَنْشَأُ الْأَكْلُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُسَاكَنَةُ الْهِمَّةِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ الْأَكْلِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ السُّكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ لِطَلَبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ فَهَذَا التَّفْسِيرُ لَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يَقَعِ النَّهْيُ عَنْ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ، بَلْ عَمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ الْأَكْلُ مِنَ السُّكُونِ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ إِذْ لَوِ انْتَهَى لَكَانَ سَاكِنًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ وَسَكَنَ إِلَى أَمْرٍ فِي الشَّجَرَةِ غَرَّهُ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَذَلِكَ الْخُلْدُ الْمُدَّعَى؛ أَضَافَ اللَّهُ إِلَيْهِ لَفْظَ الْعِصْيَانِ3، ثُمَّ تَابَ عليه، إنه هو التواب الرحيم.   1 في "ط": "على". 2 في النسخ المطبوعة: "الأول"، وما أثبتناه من الأصل و"ط". 3 والأحوط نظرًا إلى مقام آدم -عليه السلام- أن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوًا أو عن تأويل، وعلى فرض وقوعه بعد البعثة؛ فالحق أنه من الصغائر التي لا تنافي العصمة خصوصًا إذا وقع عن تأويل، وإنما عظم الأمر عليه وعظم لديه نظرًا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله عليه وإحسانه. وقد شاع: حسنات الأبرار سيئات المقربين. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 247 وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ1 فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 96] : "بَاطِنُ الْبَيْتِ قَلْبُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤْمِنُ بِهِ مَنْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ التَّوْحِيدَ وَاقْتَدَى بِهِدَايَتِهِ". وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَلَا فِيهِ مِنْ جِهَتِهَا وَضْعٌ مَجَازِيٌّ مُنَاسِبٌ، وَلَا يُلَائِمُهُ2 مَسَاقٌ بِحَالٍ؛ فَكَيْفَ هَذَا؟ وَالْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ3 لِلْقُرْآنِ؛ فَزَالَ الْإِشْكَالُ إِذًا، وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَا بُدَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ بَيَانِهَا4. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}   = ومما يدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن أبي عبد الله المغربي؛ قال: ففكر إبراهيم في شأن آدم -عليه السلام- فقال: يا رب! خلقته بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته! فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم! أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة؟ وبالجملة لا ينبغي لأحد أن ينسب إليه العصيان اليوم، ولا أن يخبر به؛ إلا أن يكون تاليًا أو راويًا له عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأما أن يكون مبتدأ من قبل نفسه فلا. وقد صرح القاضي أبو بكر بن العربي وارتضاه القرطبي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء إلينا المماثلين لنا؛ فكيف يجوز نسبته للآباء الأقدام، والنبي المقدم الأكبر، وقد قيل بمثل ذلك في نسبة المتشابهات إليه تعالى. "ف". قلت: وانظر "3/ 548" ما قدمناه عن "حسنات الأبرار ... ". 1 في تفسيره "تفسير القرآن العظيم" "ص41"، وفيه بدل "واقتدى بهدايته": "من النبي". 2 أي: فهو فاقد للشرطين المتقدمين في التفسير. "د". 3 أي: بل معنى إشاري. "د". 4 وسيأتي البيان في المسألة العاشرة، وأنه إذا كان الاعتبار من الأمر الوجودي الخارج عن القرآن كهذا؛ فإنه يلزم التوقف فيه متى لم تتحقق الشروط المتقدمة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 [النِّسَاءِ: 51] ، قَالَ1: "رَأْسُ الطَّوَاغِيتِ كُلِّهَا النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِذَا خَلَى الْعَبْدُ مَعَهَا لِلْمَعْصِيَةِ". وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ فَعَلَى مَا مَرَّ2 فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [الْبَقَرَةِ: 22] . وَقَالَ3 فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ [النساء: 36] : "وأما بَاطِنُهَا؛ فَهُوَ الْقَلْبُ، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النِّسَاءِ: 36] : النَّفْسُ الطَّبِيعِيُّ4، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النِّسَاءِ: 36] : الْعَقْلُ الْمُقْتَدِي بِعَمَلِ الشرع، {وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36] : الجوارح الْمُطِيعَةُ لِلَّهِ, عَزَّ وَجَلَّ". وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكِلَةِ فِي كَلَامِهِ، وَلِغَيْرِهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَارِيَ عَلَى مَفْهُومِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْخِطَابِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، لَا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَلَا مَنْ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ يُمَاثِلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا لَنُقِلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَى بِفَهْمِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَبَاطِنِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ5، وَلَا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، وَلَا هُمْ أَعْرَفُ بِالشَّرِيعَةِ مِنْهُمْ، ولا أيضًا   1 في "تفسيره" "ص46" عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} . 2 أي: يكون أخذه من معنى الآية وإن لم تنزل فيه من الاعتبار، لكنه فيما مر نفي أن يكون تفسيرًا، وكان هذا أهم شيء في الجواب عن كلامه في معنى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] . "د". 3 في "تفسيره" "ص45". 4 في "تفسير سهل": "والجار الجنب: هو الطبيعة". وفي "ط": "النفس الطبعي". 5 في "ط": "الأمة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ، لَا مِنْ مَسَاقِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّهُ يُنَافِيهِ1 وَلَا مِنْ خَارِجٍ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، بَلْ مِثْلُ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى مَا ثَبَتَ رَدُّهُ وَنَفْيُهُ عَنِ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. وَقَالَ2 فِي قَوْلِهِ: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] : "الصرح" نفس الطبع، و"الممرد" الْهَوَى إِذَا كَانَ غَالِبًا سَتَرَ أَنْوَارَ الْهُدَى، بِالتَّرْكِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعِصْمَةَ لِعَبْدِهِ. وَفِي قَوْلِهِ3: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النَّمْلِ: 52] ؛ أَيْ: قُلُوبُهُمْ عِنْدَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ، وَالْبُيُوتُ الْقُلُوبُ؛ فَمِنْهَا عَامِرَةٌ بِالذِّكْرِ، وَمِنْهَا خَرَابٌ بِالْغَفْلَةِ عَنِ الذِّكْرِ. وَفِي قَوْلِهِ: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الرُّومِ: 50] ؛ قَالَ: "حَيَاةُ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ"4، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الْآيَةَ [الرُّومِ: 41] : "مَثَّلَ اللَّهُ الْقَلْبَ بِالْبَحْرِ، وَالْجَوَارِحَ بِالْبَرِّ، وَمَثَّلَهُ أَيْضًا بِالْأَرْضِ الَّتِي تُزْهَى بِالنَّبَاتِ"، هَذَا بَاطِنُهُ5. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [الْبَقَرَةِ: 114] عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ الْقُلُوبُ تمنع بالمعاصي من ذكر الله6.   1 إذ كيف ينصب الأمر بالإحسان على هذه الأشياء؟ "د". 2 لا وجود لها في "تفسيره" المطبوع. 3 في "تفسيره" "ص107". 4 في "تفسيره" "ص112". 5 في "تفسيره" "ص112". 6 ذهب إلى نحو هذا القشيري في "لطائف الإشارات" "1/ 115"، وعبارته: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] ، إشارة إلى أن الظالم خرب أوطان العبادة بالشهوات، وأوطان العبادة نفوس العابدين"، ونقل نحوه الآلوسي في "روح المعاني" "1/ 364-365 في باب الإشارة في الآية"، وابن العربي في "قانون التأويل" "ص224-225". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 وَنُقِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] أَنَّ بَاطِنَ النَّعْلَيْنِ هُوَ الْكَوْنَانِ: الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ1؛ فَذُكِرَ عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّ مَعْنَى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] : اخْلَعِ الْكُلَّ مِنْكَ تَصِلْ إِلَيْنَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} عَنِ الْكَوْنِ؛ فَلَا تَنْظُرْ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الْخِطَابِ، وَقَالَ: النَّعْلُ النَّفْسُ، وَالْوَادِي الْمُقَدَّسُ دِينُ الْمَرْءِ، أَيْ: حَانَ وَقْتُ خُلُوِّكَ مِنْ نَفْسِكَ، وَالْقِيَامِ مَعَنَا بِدِينِكَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ. وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ خَارِجٌ2 عَمَّا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ، وَدَعْوَى3 مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي مُرَادِ اللَّهِ بِكَلَامِهِ، وَلَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ: "أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ "4.   1 ذكر نحوه القشيري في "لطائف الإشارات" "2/ 448"، والآلوسي في "روح المعاني" "16/ 169"، وقال: "ولا يخفى عليك أنه بعيد"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 238". "2 و3" فهو فاقد الشرطين السابقين. "د". قلت: وانظر لزامًا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 376 و13/ 237 وما بعدها"، و"مقدمة في أصول التفسير" "ص86-89, تحقيق زرزور"، و"الإحياء" "1/ 37"، والباب الخامس من كتاب "فضائح الباطنية" للغزالي. 4 له طرق كثيرة عن أبي بكر بألفاظ متعددة، سيأتي عند المصنف "ص276" لفظان فيها، وهي لا تخلو من كلام أو انقطاع، ولكنه بمجموعها يصل إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى، كما قال الحافظ ابن حجر وغيره، وهذا التفصيل: أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" "ق 135/ ب و3/ 300/ رقم 3527" المطبوعة من طريق عبد الله بن مرة، والطبري في "تفسيره" "1/ 78/ رقم 78، 79" من طريق إبراهيم النخعي، وعبد الله بن مرة، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 833-834/ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 .........................................................................   = رقم 1561, ط الجديدة" من طريق إبراهيم النخعي عن أبي معمر عن أبي بكر به. وإسناده منقطع، أبو معمر هو عبد الله بن سخبرة الأزدي، لم يسمع من أبي بكر, وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "6/ 317"، وابن حجر في "الفتح" "13/ 271" لعبد بن حميد من طريق النخعي عن أبي بكر من غير ذكر أبي معمر، قال ابن حجر: "وهذا منقطع بين النخعي والصديق". قال ابن عبد البر عقبه: "وذكر مثل هذا عن أبي بكر الصديق: ميمون بن مهران، وعامر الشعبي، وابن أبي مليكة". قلت: أخرجه من طريق ابن أبي مليكة: سعيد بن منصور في "سننه" "1/ 168/ رقم 39, ط الجديدة" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 792"- بإسناد صحيح إلى ابن أبي مليكة، وهو لم يسمع من أبي بكر الصديق, رضي الله عنه. وأخرجه من طريق الشعبي, ابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 512/ رقم 10152"، والخطيب في "الجامع" "2/ 193/ رقم 1585"، وروايته عن أبي بكر مرسلة، وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 824 وص227, ط غاوجي"، وأبي شيبة في "المصنف" "10/ 513/ رقم 65101", وعبد بن حميد في "تفسيره", ومن طريقه الثعلبي في "تفسيره"، قاله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 158" بإسناد صحيح إلى العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي به. والعوام ثقة ثبت؛ فإسناده صحيح إلا أنه منقطع بين التيمي وأبي بكر؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مقدمة أصول التفسير" "ص 108"، و"مجموع الفتاوى" "13/ 372"، والزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 158"، وابن كثير في "تفسيره" "1/ 5 و4/ 473"، وابن حجر في "الفتح" "13/ 271". وأخرجه البيهقي في "الشعب" "5/ 228/ رقم 2082" من طريق علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن محمد أن أبا بكر الصديق, رضي الله عنه ... وذكر نحوه. وإسناده ضعيف، فيه ابن جدعان وهو ضعيف، والقاسم بن محمد روايته عن جده مرسلة؛ كما قال العلائي في "جامع التحصيل" "ص310". والأثر بمجموع هذه الطرق لا ينزل عن مرتبة الحسن؛ فقد ساقه ابن حجر في "الفتح" من طرق التيمي والنخعي، وأعلهما بالانقطاع، وقال: "لكن أحدهما يقوي الآخر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وَفِي الْخَبَرِ: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ" 1. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ لِجَلَالَةِ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَرُبَّمَا أَلَمَّ الْغَزَالِيُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي "الْإِحْيَاءِ" وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَقَاصِدَ الْقَوْمِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ قَائِلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُصَدِّقُ بِهِ وَيَأْخُذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابِهِ، وَإِذَا عَارَضَهُ مَا يُنْقَلُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ؛ فَرُبَّمَا كَذَّبَ بِهِ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَرَى أَنَّهُ تَقَوُّلٌ وَبُهْتَانٌ، مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ، وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ فِيهِ مَيْلٌ عَنِ الْإِنْصَافِ، وَلَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي رفع الإشكال من تقدم أَصْلٍ مُسَلَّمٍ، يَتَبَيَّنُ بِهِ مَا جَاءَ مِنْ هذا القبيل، وهي:   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، 5/ 200/ رقم 2952"، وأبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم، 3/ 320/ رقم 3652"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 111"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 90/ رقم 1520"، و"المفاريد" "رقم 32"، وابن بطة في "الإبانة" "2/ 614/ رقم 798"، عن جندب بن عبد الله البجلي مرفوعًا. وإسناده ضعيف، فيه سهيل بن أبي حزم ليس بالقوي، قال الترمذي: "وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم"، وله شاهد لا يفرح به عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "من قال في القرآن بغير علم؛ فليتبوأ مقعده من النار". أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 4023"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 799"، وهو ضعيف أيضًا. وانظر: "الإيمان" "273" لابن تيمية، و"شرح العقيدة الطحاوية" "167"، و"رفع الأستار" "111". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فَنَقُولُ: الِاعْتِبَارَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقُلُوبِ الظَّاهِرَةُ لِلْبَصَائِرِ، إِذَا صَحَّتْ عَلَى كَمَالِ شُرُوطِهَا؛ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ أَصْلُ انْفِجَارِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَتْبَعُهُ سَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ الصَّحِيحَ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ الَّذِي يَخْرِقُ نُورُ الْبَصِيرَةِ فِيهِ حُجُبَ1 الْأَكْوَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، فَإِنْ تَوَقَّفَ؛ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرُ كَامِلٍ، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ بِالسُّلُوكِ2. وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ أَصْلُ انْفِجَارِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ جُزْئِيِّهَا أَوْ كُلِّيِّهَا، وَيَتْبَعُهُ الِاعْتِبَارُ فِي الْقُرْآنِ3. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَذَلِكَ الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ لِأَنَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ عَلَى وَفْقِ مَا نَزَلَ لَهُ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْهِدَايَةُ التَّامَّةُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَبِحَسَبِ4 التَّكَالِيفِ وَأَحْوَالِهَا، لَا بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ؛ فَالْمَشْيُ عَلَى طَرِيقِهَا مَشْيٌ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ الْقُرْآنِيَّ قَلَّمَا يَجِدُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ عَمَلًا بِهِ عَلَى تَقْلِيدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ؛ فَلَا يَخْرُجُونَ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ فِيهِ عَنْ حُدُودِهِ، كَمَا لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ عَنْ حُدُودِهِ، بَلْ تَنْفَتِحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْفَهْمِ فِيهِ عَلَى تَوَازِي أَحْكَامِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَدًّا بِهِ لِجَرَيَانِهِ عَلَى مَجَارِيهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى ذَلِكَ مَا نُقِلَ مِنْ فَهْمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ كُلَّهُ جارٍ على ما تقتضي بِهِ الْعَرَبِيَّةُ، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ قَبْلُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَالتَّوَقُّفُ عَنِ اعْتِبَارِهِ فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ لَازِمٌ، وأخذه   1 في "ط": "حجاب". 2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 377". 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 240-241". 4 في "ط": "بحسب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 عَلَى إِطْلَاقِهِ فِيهِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ؛ فَنَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ الْأَنْظَارَ الْبَاطِنَةَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ جَرَيَانُهَا عَلَى مُقْتَضَى الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ غَيْرِ الْقُرْآنِيِّ، وَهُوَ الْوُجُودِيُّ1، وَيَصِحُّ تَنْزِيلُهُ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ وُجُودِيٌ2 أَيْضًا؛ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ غَيْرُ خَاصٍّ؛ فَلَا يُطَالِبُ فِيهِ الْمُعْتَبِرُ بِشَاهِدٍ مُوَافِقٍ إِلَّا مَا يُطَالِبُهُ [بِهِ] الْمُرَبِّي، وَهُوَ أَمْرٌ خَاصٌّ، وَعِلْمٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَلِذَلِكَ يُوقَفُ عَلَى مَحَلِّهِ، فَكَوْنُ الْقَلْبِ جَارًا ذَا قُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ هُوَ النَّفَسُ الطَّبِيعِيَّ، إِلَى سَائِرِ مَا ذُكِرَ؛ يَصِحُّ تَنْزِيلُهُ اعْتِبَارِيًّا مُطْلَقًا، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْوُجُودِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي هَذَا النَّمَطِ صَحِيحٌ وَسَهْلٌ جِدًّا عِنْدَ أَرْبَابِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُغَرِّرٌ بِمَنْ لَيْسَ بِرَاسِخٍ أَوْ دَاخِلٍ تَحْتَ إِيَالَةِ رَاسِخٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ ذُكِرَ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ الْمُخَاطَبُ بِهِ الْخَلْقُ بَلْ أَجْرَاهُ مَجْرَاهُ وَسَكَتَ عَنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادَ، وَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَصَرَّحَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ؛ فَهُوَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الِاعْتِبَارِ الْقُرْآنِيِّ وَالْوُجُودِيِّ، وَأَكْثَرُ مَا يَطْرَأُ هَذَا لِمَنْ هُوَ بَعُدَ فِي السُّلُوكِ، سَائِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِمَطْلُوبِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يُثْبِتِ اعْتِبَارَ قوله من الباطنية وغيرهم.   1 مثال الاعتبار الخارجي ما يروونه عن بعضهم في معنى قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، قال: ألف شهر هي مدة الدولة الأموية؛ لأنها مكثت ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، وأن ذلك من الله تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث أطلعه على ملوك بني أمية واحدًا واحدًا؛ فسري عنه بهذه السورة، هذا المعنى لم يؤخذ من القرآن، بل أخذ من الخارج والواقع في ذاته بمصادفة مطابقة العدد، واللفظ لا ينبو عنه، لكنه لا دليل من الشرع على كونه هو المعنى المقصود. "د". وفي "ط": "الوجدي". 2 في "ط": "وجدي". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وَلِلْغَزَالِيِّ فِي "مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ" وَفِي كِتَابِ1 الشُّكْرِ مِنَ "الْإِحْيَاءِ" وَفِي كِتَابِ2 "جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ" [فِي الِاعْتِبَارِ الْقُرْآنِيِّ] 3 وَغَيْرِهِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ أَمْثِلَةٌ؛ فَتَأَمَّلْهَا هُنَاكَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ [لِلصَّوَابِ] . فَصْلٌ: وَلِلسُّنَّةِ فِي هَذَا النَّمَطِ مَدْخَلٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الْمُتَقَدِّمِ الصَّحِيحِ الشَّوَاهِدِ، وَقَابِلٌ أَيْضًا لِلِاعْتِبَارِ الْوُجُودِيِّ؛ فَقَدْ فَرَضُوا نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ" 4 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرَارِ إِذَا وَضَحَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلى الحق والصواب.   1 مما جاء فيه "4/ 86" أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ... } إلى قوله: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-33] إشارة إلى ضحك الجاهلين وتغامزهم على أهل السلوك، وقولهم: كيف يقولون: فني الشخص عن نفسه، وإنه ليأكل أرطالًا من الخبز في اليوم، وطوله كذا وعرضه كذا؟ قال: وكذلك أمة نوح كانوا يضحكون عليه عند صنعه للسفينة؛ فقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: 38] . "د". 2 منه "ص43" أن الفاتحة اشتملت من الأقسام العشرة التي هي علوم القرآن على ثمانية منها، وهي ما عدا محاجة الكفار وأحكام الفقهاء، ويتبين بهذا أنهما واقعان في الصنف الأخير من مراتب العلوم، وما قدمهما إلا حب المال والجاه فقط، ثم قال "ص43": "إن الفاتحة مفتاح الكتاب ومفتاح الجنة؛ فأبواب الجنة ثمانية، ومعاني الفاتحة ترجع إلى ثمانية ... "؛ فهذا من نوع الاعتبارات القرآنية، وقد أوضحه هناك بأن كل قسم بفتح باب بستان من بساتين المعرفة، وأن روح العارف لتفرح وتنشرح في رياض المعرفة بما لا يقل عن انشراح من يدخل الجنة التي يعرفها. "د". قلت: وناقش أبا حامد الغزالي في كلامه هذا ابن العربي المالكي في "قانون التأويل" "ص236 وما بعدها"؛ فانظره فإنه مفيد. 3 سقط من "ط". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب التصاوير، 10/ 380/ رقم 5949"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، 3/ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْمَدَنِيُّ مِنَ السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا فِي الْفَهْمِ عَلَى الْمَكِّيِّ، وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، وَالْمَدَنِيُّ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِ فِي التَّنْزِيلِ، وَإِلَّا لَمْ1 يَصِحَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْخِطَابِ الْمَدَنِيِّ فِي الْغَالِبِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَكِّيِّ، كَمَا أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى مُتَقَدِّمِهِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِبَيَانٍ مُجْمَلٍ، أَوْ تَخْصِيصِ عُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدِ مُطْلَقٍ، أَوْ تَفْصِيلِ مَا لَمْ يَفَصَّلْ، أَوْ تَكْمِيلِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَكْمِيلُهُ2. وَأَوَّلُ شَاهِدٍ عَلَى هَذَا أَصْلُ3 الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهَا جَاءَتْ مُتَمِّمَةً لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمُصْلِحَةً لِمَا أُفْسِدَ قَبْلُ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَيَلِيهِ تَنْزِيلُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً لِقَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ خَرَّجَ4   = 1665/ رقم 2106" عن أبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- مرفوعًا. ويشير المصنف في الاستدلال بهذا الحديث على ما قاله ابن القيم في "الكلام في مسألة السماع" "ص397-398": "فإذا منع الكلب والصورة دخول الملك إلى البيت؛ فكيف تدخل معرفة الرب ومحبته في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟! ". 1 ف "ط": "وإن لم". 2 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 159-160 و17/ 125-126". 3 أي: إن الشريعة جاءت مبنية على ما سبقها من شريعة إبراهيم، مصححة لما غيروه منها ومكملة لها؛ فليكن هذا نفسه في إجراء بعضها مع بعض يكون المتأخر منها مكملًا لسابقه ومبنيًّا عليه، ويلي هذا الشاهد شاهد نزول سورة الأنعام التي هي من أوائل السور المكية؛ فإنك تجدها معنية بالأصول والعقائد، ثم جاءت سورة البقرة مفصلة لتلك القواعد، مبينة أقسام أفعال المكلفين ... إلخ. "د". 4 انظر في ذلك: "تصور الألوهية كما تعرضه سورة الأنعام"، و"معركة النبوة مع المشركين أو قضية الرسالة كما تعرضها صورة الأنعام، كلاهما لأستاذنا الشيخ إبراهيم الكيلاني، طبع مكتبة الأقصى - عمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 الْعُلَمَاءُ مِنْهَا قَوَاعِدَ التَّوْحِيدِ الَّتِي صَنَّفَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَوَّلِ إِثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ إِلَى إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ، هَذَا مَا قَالُوا. وَإِذَا نَظَرْتَ1 بِالنَّظَرِ الْمَسُوقِ فِي هَذَا الْكِتَابِ؛ تَبَيَّنَ بِهِ مِنْ قُرْبٍ بَيَانُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ، الَّتِي إِذَا انْخَرَمَ مِنْهَا كُلِّيٌّ وَاحِدٌ انْخَرَمَ نِظَامُ الشَّرِيعَةِ، أَوْ نَقَصَ مِنْهَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ. ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي قَرَّرَتْ قَوَاعِدَ التَّقْوَى الْمَبْنِيَّةَ عَلَى قَوَاعِدِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ فَإِنَّهَا بَيَّنَتْ مِنْ أَقْسَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ جُمْلَتَهَا، وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي غَيْرِهَا تَفَاصِيلُ لَهَا كَالْعِبَادَاتِ2 الَّتِي هِيَ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ، وَالْعَادَاتِ مِنْ أَصْلِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْمُعَامَلَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ وَمَا دَارَ بِهَا، وَالْجِنَايَاتِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَمَا يَلِيهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حِفْظَ الدِّينِ فِيهَا، وَحِفْظَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسْلِ وَالْمَالِ مُضَمَّنٌ فِيهَا، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْمُقَرَّرِ فِيهَا؛ فَبِحُكْمِ التَّكْمِيلِ، فَغَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ غَيْرُ الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَكِّيِّ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهَا مَبْنِيًّا عَلَيْهَا، وَإِذَا تَنَزَّلْتَ إِلَى سَائِرِ السُّوَرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ فِي التَّرْتِيبِ؛ وجدتها   1 أي: إلى سورة الأنعام بالنظر الكلي الأصولي الذي يعني به كتاب "الموافقات" نبين لك بجلاء اشتمالها على الأصول والكليات في الشريعة بالوصف الذي قاله، وكأنه لم ير أن يأخذ على عهدته اشتمالها على جميع قواعد التوحيد التي ذكروها في علم التوحيد إلى مبحث الإمامة، وأيضًا؛ فقواعد الشريعة -بالوصف الذي ذكره من أنها "إذا انخرم منها كلي ... إلخ"- لا تخص قواعد التوحيد، بل تكون في العمليات أيضًا من بقية الضروريات والحاجيات ... إلخ، ولم يذكروا اشتمالها عليها؛ فهو يزيد على كلامهم ببيان أنها تشتمل عليها أيضًا؛ فلهذا وذاك قال: "هذا ما قالوه"، فقوله: "وإذا نظرت" كالاستدراك على كلامهم بالزيادة والنقص. "د". 2 هي وما بعدها أمثلة لما بينته سورة البقرة من أفعال المكلفين. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 كَذَلِكَ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ1؛ فَلَا يَغِيبَنَ عَنِ2 النَّاظِرِ فِي الْكِتَابِ هَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ عُلُومِ التَّفْسِيرِ، وَعَلَى حَسَبِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ تَحْصُلُ لَهُ الْمَعْرِفَةُ بِكَلَامِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ. فَصْلٌ: وَلِلسُّنَّةِ هُنَا مَدْخَلٌ؛ لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ؛ فَلَا تَقَعُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ، وَبِحَسَبِ الْمَعْرِفَةِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ يَحْصُلُ بَيَانُ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ فِي الْحَدِيثِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا، وَيَقَعُ فِي الْأَحَادِيثِ أَشْيَاءُ تَقَرَّرَتْ قَبْلَ تَقْرِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ؛ فَتَأْتِي فِيهَا إِطْلَاقَاتٌ أَوْ عُمُومَاتٌ رُبَّمَا أَوْهَمَتْ، فَفُهِمَ مِنْهَا, يُفْهَمُ مِنْهَا لَوْ وَرَدَتْ بَعْدَ تَقْرِيرِ تِلْكَ الْمَشْرُوعَاتِ؛ كَحَدِيثِ: " مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 3. أَوْ حَدِيثِ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ؛ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النار" 4.   1 القذة؛ بالضم: ريش السهام، وهو مثل يضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. "ف". وقال "ماء": "أي: الشيء الذي يقصص على الشيء كالنعل ونحوه". 2 هكذا في "د" وفي الأصل، و"ف" و"م" و"ط": "على". 3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 55/ رقم 26"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 1115"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 6، 7"، وأحمد في "المسند" "1/ 65، 69"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 32" عن عثمان بن عفان مرفوعًا. 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... } ، 6/ 474/ رقم 3435"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 57-58/ رقم 29" عن عبادة بن الصامت مرفوعًا. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَقَعَ مِنْ أَجْلِهَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيمَنْ عَصَى اللَّهَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَتَيْنِ؛ فَذَهَبَتِ الْمُرْجِئَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الظَّوَاهِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَانَ مَا عَارَضَهَا مؤولًا1 عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الظَّوَاهِرَ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ السَّلَفِ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُنْزَلَةٌ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الْفَرَائِضُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُصَلِّ أَوْ لَمْ يَصُمْ مَثَلًا، وَفَعَلَ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدُ، فَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْ أَمْرِ إِسْلَامِهِ شَيْئًا، كَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي جَوْفِهِ قَبْلَ أن تحرم؛ فلا حرج عليه   = قال "د": "فالتمثيل بمثله يحتاج إلى تحقق أنه كان قبل تقرير المشروعات من صلاة وصوم وحج وجهاد وغيرها، وذلك بعيد؛ فإن الحديث ورد في المدينة بعد فرضية الصلوات الخمس في مكة؛ فليراجع، نعم، إن حديث أبي ذر: "بشرني بأن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، يمكن أن يكون في أوائل التشريع لتقدم إسلام أبي ذر؛ إلا أن قوله فيه: "وإن زنى وإن سرق" يفيد أنه ورد بعد تقرر حرمة الزنى والسرقة، وأقوى شبهة ترد على ما يقرره المؤلف في هذا ما سبق من حديث أبي هريرة وأخذه نعلي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ومشيه في الطريق يبشر الناس بهذه البشرى نفسها، وقول عمر للرسول: هل أرسلت أبا هريرة بهذه البشرى؟ قال: "نعم". فقال له عمر: "دعهم لئلا يتكلوا"؛ فإن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة من الهجرة بعد تقرر غالب أحكام الشريعة". أما "ف"؛ فاختصر الكلام، فقال: "رده الإمام النووي في "شرح مسلم" بأن راوي بعض هذه الأحاديث أبو هريرة, رضي الله عنه -وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق- وكانت أحكام الشريعة كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها وكذا الحج على الراجح من فرضه سنة خمس أو ست متقررة، وذكر لهذه الأحاديث ونحوها تأويلات، حكاها عن القاضي عياض وغيره لا يتسع المجال لإيرادها؛ فلتراجع". 1 في الأصل: "مؤول". وفي "ط": "مأول". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 93] ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي صِلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 143] . وَإِلَى1 أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّرْتِيبِ فِي النُّزُولِ مُفِيدٌ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ والسنة.   1 في "ط": "إلى ... " بدون واو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: رُبَّمَا أُخِذَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، بَلْ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ، وَبِهِ كَانُوا أَفْقَهَ النَّاسِ فِيهِ، وَأَعْلَمَ الْعُلَمَاءِ بِمَقَاصِدِهِ وَبَوَاطِنِهِ. وَرُبَّمَا أُخِذَ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْخَارِجَيْنِ عَنِ الِاعْتِدَالِ: إِمَّا عَلَى الْإِفْرَاطِ، وَإِمَّا عَلَى التَّفْرِيطِ، وَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ. فَالَّذِينَ أَخَذُوهُ عَلَى التَّفْرِيطِ قَصَّرُوا فِي فَهْمِ1 اللِّسَانِ الَّذِي بِهِ جَاءَ، وَهُوَ الْعَرَبِيَّةُ، فَمَا قَامُوا فِي تَفَهُّمِ2 مَعَانِيهِ وَلَا قَعَدُوا، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي اطِّرَاحِ التَّعْوِيلِ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَالَّذِينَ أَخَذُوهُ عَلَى الْإِفْرَاطِ أَيْضًا قَصَّرُوا فِي فَهْمِ مَعَانِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ3 بَيَانُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ، وَأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا عِنْدَ الْعَرَبِ؛ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا، وَمَرَّ فِيهِ أَنَّهَا لَا تَقْصِدُ التَّدْقِيقَاتِ4 فِي كَلَامِهَا، وَلَا تُعْتَبَرُ أَلْفَاظُهَا كُلَّ الِاعْتِبَارِ5 إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا تُؤَدِّي المعاني المركبة، فما وراء ذلك إن   1 أي: قصروا في فهمه من جهة اللسان الذي جاء به، وحاولوا حمله على معان لا تعرفها العرب. "د". 2 في "ط": "تفهيم". 3 انظر ما مضى "2/ 109". 4 لكن هذا خلاف ما ذكروه من نقدهم للشعر من جهة لفظه، كما ورد في قصة الخنساء ونقدها المشهور لحسان في قوله: "لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... البيتين"، حيث لاحظت عليه في ثمانية مواضع كلها ترجع إلى نقد اللفظ، وأنه لو عبر بغيره كان أحسن؛ فقالت: هلا قلت: "الجفان"؛ لأن الجفنات عدد قلة، ولو قلت: "يجرين" بدل "يقطرن"، ولو قلت: "يشرقن" بدل "يلمعن" ... إلخ؛ إلا أن يقال: إنها ملاحظات ترجع إلى تحسين المعنى وتجويده، لا إلى اللفظ وتحسينه. "د". قلت: وتذكر القصة عن النابغة أيضًا، انظر: "شرح ديوان حسان" "ص425". 5 في "م": "الاعتبارات". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 كَانَ مَقْصُودًا لَهَا؛ فَبِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَمِنْ جِهَةِ ما هو معين على إدراك الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، كَالْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَرُبَّمَا لَا1 يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى فِكْرٍ، فَإِنِ احْتَاجَ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى فِكْرٍ؛ خَرَجَ عَنْ نَمَطِ الْحُسْنِ إِلَى نَمَطِ الْقُبْحِ وَالتَّكَلُّفِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ حَائِلٌ2 بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِطَابِ، مِنَ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ ثُمَّ التَّعَبُّدِ بِمُقْتَضَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِعْذَارٌ وَإِنْذَارٌ، وَتَبْشِيرٌ وَتَحْذِيرٌ، وَرَدٌّ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَكَمْ بَيْنَ مَنْ فَهِمَ مَعْنَاهُ وَرَأَى أَنَّهُ مَقْصُودُ الْعِبَارَةِ فَدَاخَلَهُ مِنْ خَوْفِ الْوَعِيدِ وَرَجَاءِ الْمَوْعُودِ مَا صَارَ بِهِ مُشَمِّرًا عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، بَاذِلًا غَايَةَ الطَّاقَةِ فِي الْمُوَافَقَاتِ، هَارِبًا بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ، وَبَيْنَ مَنْ أَخَذَ فِي تَحْسِينِ الْإِيرَادِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَآخِذِ الْعِبَارَةِ وَمَدَارِجِهَا، وَلِمَ اخْتَلَفَتْ مَعَ مُرَادِفَتِهَا مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَتَفْرِيعُ التَّجْنِيسِ وَمَحَاسِنُ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي الْخِطَابِ بِمَعْزِلٍ عَنِ النَّظَرِ فِيهِ؟! كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِطَابِ لَيْسَ هُوَ التَّفَقُّهَ فِي الْعِبَارَةِ، بَلِ التَّفَقُّهُ فِي الْمُعَبَّرِ عَنْهُ وَمَا الْمُرَادُ بِهِ، هَذَا لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّمَكُّنَ فِي التَّفَقُّهِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّفَقُّهِ فِي الْمَعَانِي بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ إِنْكَارُ مَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ؟ وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْوَسِيلَةِ وَالْقِيَامَ بِالْفَرْضِ الْوَاجِبِ فِيهَا دُونَ3 الِاشْتِغَالِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ لَا يُنْكَرُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَمُّ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بجميع أصنافه، وليس   1 في "ط": "كان ذلك قريبًا لا ... ". 2 لأنه شغل كبير بما لا يعني، مضيع للوقت فيما ليس مقصودًا؛ فيحول عن المقصود كما بينه بقوله: "فكم بين من فهم ... إلخ". "د". 3 أي: قبل الاشتغال. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. لِأَنَّا نَقُولُ: مَا ذَكَرْتَهُ فِي السُّؤَالِ لَا يُنْكَرُ بِإِطْلَاقٍ، كَيْفَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ فَهِمْنَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ مِنْ كِتَابِهِ؟ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ الْخُرُوجُ فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، الَّذِي يُشَكُّ فِي كَوْنِهِ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، أَوْ يَقْطَعُ بِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهَا قَصْدُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِهَا وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَمَا يُؤَمِّنُنَا مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مِنْ أَيْنَ فَهِمْتُمْ عَنِّي أَنِّي قَصَدْتُ1 التَّجْنِيسَ الْفُلَانِيَّ بِمَا أَنْزَلْتُ مِنْ قَوْلِي: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الْكَهْفِ: 104] ، أَوْ قَوْلِي: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 168] ؟ فَإِنَّ فِي دَعْوَى مِثْلِ هَذَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ خَطَرًا، بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى2 قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النُّورِ: 15] ، وَإِلَى أَنَّهُ قَوْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وقوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] .   1 لا يلزم من التعريف عن وجود الجناس في القرآن أن يدعى أنه مقصود لله، بل على تسليم أن هذا ليس مما يجري على مقاصد العرب في كلامهم، يكون وقوع الجناس مما اتفق، كما اتفق أن هناك فقرًا من الآيات موافقة لشطرات من بحور الشعر, كما في قوله: كسر الجرة عمدًا ... وملأ الأرض شرابا قلت لما غاب عقلي ... ليتني كنت ترابا فمن أين لنا أن من يستخرج الجناسات من القرآن يدعي أنها مقصودة لله في خطابه؟ حتى يكون فيه هذا الحظر. "د". قلت: انظر "إعجاز القرآن" للباقلاني "ص51, تحقيق السيد صقر". 2 وإنما قال: "إلى المعنى" لما هو ظاهر من أن الآيات في حادثة معينة، وهي حادثة الإفك؛ فيكون تنزيل الآية على ما نحن فيه من باب الاعتبارات ودلالة الإشارات. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مَفْهُومٌ مِنْ مَسَاقِ الْكَلَامِ، مَعْلُومٌ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ ضَرُورَةً، وَالتَّجْنِيسُ وَنَحْوُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا خِدْمَةُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَعَدَمُهُ؛ إِذْ لَيْسَ فِي التَّجْنِيسِ ذَلِكَ، وَالشَّاهِدُ عَلَى ذَلِكَ نُدُورُهُ مِنَ1 الْعَرَبِ الْأَجْلَافِ الْبَوَّالِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ -كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ- وَمَنْ كَانَ نَحْوَهُمْ، وَشُهْرَةُ الْكِنَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَكَادُ تَجِدُ مَا هُوَ نَحْوَ التَّجْنِيسِ إِلَّا فِي كَلَامِ الْمُوَلِّدِينَ وَمَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ لِكُلِّ عِلْمٍ عَدْلًا وَطَرَفًا إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ، والطرفان هما المذمومان، والوسط هو المحمود.   1 في "م": "عن". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَبْنِيَّةٌ1 عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْوَسَطِ؛ فَمَأْخَذُ الْوَسَطِ رُبَّمَا كَانَ مَجْهُولًا، وَالْإِحَالَةُ عَلَى مَجْهُولٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم.   1 محصول المسألة قبلها أن بعض الناس يفرط في تفهمه للقرآن؛ فيحمله على غير ما تقتضيه اللغة العربية كالباطنية وأشباههم، وبعضهم يفرط في جلب مباحث اللغة حوله؛ فيحمله زيادة عما يقصده العرب في مخاطباتهم بمثله مما لم ينظر بمثله السلف فيه كالمحسنات اللفظية وادعاء أنه ذكر لفظ كذا دون مرادفه بقصد كذا، وهذا تقول على الله؛ فلا بد من طريق وسط، أما هذه المسألة؛ فمحصلها إرشاد إلى طريقة فهم الكتاب من ناحية ربط بعض جمله المشتركة في قضية واحدة، وأنه بمعاضدة بعضها لبعض يتبين مقصود الخطاب، ويتبين فقه الكلام، وأنه لا يؤخذ جملة منقطعة عن سابقها ولاحقها، وأن السور النازلة في قضية واحدة أمرها في ذلك ظاهر كما مثل، أما السور المشتملة على قضايا كثيرة؛ فهل ينظر فيها إلى ترتيب السورة كلها ككلام واحد؟ قال: نعم، إن ذلك يفيد من وجهة الإعجاز، وإدراك انفراد الكتاب بمرتبة في البلاغة لا تنال، ثم ذكر في الفصل بعدها أنه هل يفيد النظر فيما بين السور بعضها مع بعض؟ هذه خلاصة المسألتين؛ فأين ابتناء هذه المسألة على ما قبلها وكل منهما في ناحية؟ نقول: نعم، إن النظر في الجملة الواحدة، والجمل المشتركة في القضية وفيما بين السورة كلها ولو كانت متعددة القضايا إنما يكون وسيلة اللغة العربية وقواعدها المعروفة في فنونها؛ فكأنه يقول: إن ما نحتاج إليه من ذلك ما يكون معينًا على فهم الجمل منفردة ومنضمة إلى أخواتها في قضية أو قضايا، وما زاد أو نقص عنه؛ فإفراط أو تفريط؛ فهذا هو الضابط الذي نأخذ به من مباحث اللغة، وكلامه لا ينافي أنه لا بد أيضًا من الوسائل الستة المتقدمة له، من أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، وعلم القراءات وعلم الأصول، وقد أشار إلى بعض ذلك بقوله: "وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل"، وعليك بالتأمل في المقام لتعرف هل لا بد للفهم الوسط من ملاحظة هذين الأمرين من الأمور الستة المشار إليها، وإذا تذكرت ما سبق له من بناء المدني بعضه على بعض والمكي كذلك وبناء المدني على المكي؛ لاح لك وجه الحاجة في هذا المقام أيضًا إلى معرفة المكي والمدني، فاستمد المعونة منه تعالى لتصل إلى علم نافع. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ -وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ- أَنَّ الْمُسَاقَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَالنَّوَازِلِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ؛ فَالَّذِي يَكُونُ عَلَى بال من المستمع والمتفهم و1الالتفات إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ، بِحَسَبِ2 الْقَضِيَّةِ وَمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ فِيهَا، لَا يَنْظُرُ فِي أَوَّلِهَا دُونَ آخِرِهَا، وَلَا فِي آخِرِهَا دُونَ أَوَّلِهَا، فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى جُمَلٍ؛ فَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْبَعْضِ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ نَازِلَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا مَحِيصَ لِلْمُتَفَهِّمِ عَنْ رَدِّ3 آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَأَوَّلِهِ عَلَى آخِرِهِ، وَإِذْ ذَاكَ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِي فَهْمِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنْ فَرَّقَ النَّظَرَ فِي أَجْزَائِهِ؛ فَلَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مُرَادِهِ، فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِصَارُ فِي النَّظَرِ عَلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ دُونَ بَعْضٍ، إِلَّا فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي فَهْمِ الظَّاهِرِ بِحَسَبِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَمَا يَقْتَضِيهِ، لَا بِحَسَبِ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا صَحَّ لَهُ الظَّاهِرُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ؛ رَجَعَ إِلَى نَفْسِ الْكَلَامِ، فَعَمَّا قَرِيبٍ يَبْدُو لَهُ مِنْهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ؛ فَعَلَيْهِ بِالتَّعَبُّدِ بِهِ، وَقَدْ يُعِينُهُ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ النَّظَرُ فِي أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ؛ فَإِنَّهَا تُبَيِّنُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَخْتَلِفُ مَغْزَاهَا عَلَى النَّاظِرِ. غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَنْظُورَ فِيهِ تَارَةً يَكُونُ وَاحِدًا بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ، وَتَارَةً يَكُونُ مُتَعَدِّدًا فِي الِاعْتِبَارِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ؛ كَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءِ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَأَشْبَاهِهَا وَلَا عَلَيْنَا أَنَزَلَتِ السُّورَةُ بِكَمَالِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَمْ نَزَلَتْ شَيْئًا بَعْدَ شيء.   1 هذه الواو زائدة وما بعدها خبر عن الذي، أي: إن الضابط الذي يلزم أن يكون على بال من يريد الفهم هو الالتفات ... إلخ. "د". قلت: هي في "ط": "المستمع المتفهم الالتفات". 2 لا بحسب السورة برمتها دائمًا؛ فقد تكون السورة نازلة في قضايا كثيرة؛ فكل قضية تعتبر وحدها طالت أو قصرت، كما يأتي بيانه في سورة البقرة وسورة المؤمنون. "د". 3 أي: بمعرفة أنها بيان لها، أو توكيد، أو تكميل، أو تفريع، أو تقرير، وهكذا مما يقتضيه النظر العربي. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 وَلَكِنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَهُ1 اعْتِبَارَانِ: اعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ تَعَدُّدِ الْقَضَايَا؛ فَتَكُونُ كُلُّ قَضِيَّةٍ مُخْتَصَّةً بِنَظَرِهَا، وَمِنْ هُنَالِكَ2 يُلْتَمَسُ الْفِقْهُ عَلَى وَجْهٍ ظَاهِرٍ لَا كَلَامَ فِيهِ، وَيَشْتَرِكُ مَعَ هَذَا الِاعْتِبَارِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْتِمَاسِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ. وَاعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ النَّظْمِ3 الَّذِي وَجَدْنَا عَلَيْهِ السُّورَةَ؛ إِذْ هُوَ تَرْتِيبٌ بِالْوَحْيِ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِآرَاءِ الرِّجَالِ، وَيَشْتَرِكُ مَعَهُ أَيْضًا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ نَظْمٌ أُلْقِيَ بِالْوَحْيِ، وَكِلَاهُمَا لَا يُلْتَمَسُ مِنْهُ فِقْهٌ عَلَى وَجْهٍ ظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا يُلْتَمَسُ مِنْهُ ظُهُورُ بَعْضِ أَوْجُهِ الْإِعْجَازِ، وَبَعْضِ مَسَائِلَ نُبِّهَ عَلَيْهَا فِي المسألة4 السابقة قبل،   1 في "د": "لها". 2 أي: من النظر في كل قضية على حدتها. "د". 3 أي: يوضع كل جزء منها في مكانه مع تعدد القضايا، وقوله: "ويشترك معه أيضًا القسم الأول"؛ أي: من جهة وضع كل جملة منه في مكانها، ولكن قوله: "وَكِلَاهُمَا لَا يُلْتَمَسُ مِنْهُ فِقْهٌ عَلَى وَجْهٍ ظاهر" غير ظاهر في القسم الأول؛ لأن هذا الوضع من القسم الأول يفيد الفقه المطلوب في القضية، بل قد يتوقف الفقه فيها على النظر فيما بين أجزائها من فصل ووصل يتبين بهما غرض التوكيد من غرض التكميل، وهكذا من الأغراض التي تفهم من نظم الجمل بعضها مع بعض في القضية الواحدة، أليس هذا هو الذي يقول فيه: إنه لا بد "من رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف ... " إلى أن قال: "فعليه بالتعبد به". "د". قلت: انظر إشارات قوية وبديعة في ضرورة ما ذكره المصنف عند الفراهي في "دلائل النظام"، وهو مطبوع بالهند. 4 الحادية عشرة من بناء المدني على المكي وبناء كل بعضه على بعض في الفهم، وهذا يؤكد ما قلناه من أن النظر فيما بين أجزاء القضية الواحدة يفيد فقهًا؛ إلا أنه يقال: لا يلزم من تقدم جملة على أخرى في النظم أن تكون متقدمة عليها في النزول كما في آيتي العدة في ربع: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْن} [البقرة: 233] ؛ فالآية السابقة في التلاوة والنظم متأخرة في النزول، وناسخة للمتأخرة، وكلاهما مدني أيضًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ بِحَسَبِ تِلْكَ الِاعْتِبَارَاتِ؛ فَاعْتِبَارُ جِهَةِ النَّظْمِ مَثَلًا فِي السُّورَةِ لَا تتم بِهِ فَائِدَةٌ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِهَا بِالنَّظَرِ؛ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا فِيهِ غَيْرُ مُفِيدٍ غَايَةَ الْمَقْصُودِ، كَمَا أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ الْآيَةِ فِي اسْتِفَادَةِ حُكْمٍ مَا لَا يُفِيدُ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِهَا. فَسُورَةُ الْبَقَرَةِ مَثَلًا كلامٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ النَّظْمِ1، وَاحْتَوَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مَا بُثَّ فِيهَا، مِنْهَا مَا هُوَ كَالْمُقَدِّمَاتِ وَالتَّمْهِيدَاتِ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَالْمُؤَكِّدِ وَالْمُتَمِّمِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْإِنْزَالِ، وَذَلِكَ2 تَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ عَلَى تَفَاصِيلِ الْأَبْوَابِ، وَمِنْهَا الْخَوَاتِمُ الْعَائِدَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالتَّأْكِيدِ وَالتَّثْبِيتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ؛ فَبِهِ يُبَيَّنُ مَا تَقَدَّمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 183-187] كَلَامٌ وَاحِدٌ وَإِنْ نَزَلَ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى، وَحَاصِلُهُ بَيَانُ الصِّيَامِ وَأَحْكَامِهِ، وَكَيْفِيَّةِ آدَائِهِ3، وَقَضَائِهِ، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْجَلَائِلِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا يَنْبَنِي إِلَّا عَلَيْهَا. ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 188] كلامًا4 آخر بين أحكامًا أخر.   1 انظر تفصيل ذلك في: "النبأ العظيم" "ص163 إلى آخر الكتاب"، و"النظم في سورة البقرة" لحسين الدراويش، أطروحة دكتوراه عن قسم الآداب في الجامعة الأردنية. 2 أي: المقصود الأول في الإنزال هو تقرير الأحكام في كل باب وقضية من القضايا المتعددة. "د". 3 في "د": "آدابه"، وهو خطأ، وما أثبتناه من الأصل و"ف" و"م" و"ط". 4 في "ط": "كلام". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [الْبَقَرَةِ: 189] . وَانْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ، وَعِنْدَ أُخْرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 189] مِنْ تَمَامِ1 مَسْأَلَةِ الْأَهِلَّةِ، وَإِنِ انْجَرَّ مَعَهُ2 شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا انْجَرَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا تَذْكِيرٌ وَتَقْدِيمٌ لِأَحْكَامِ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [الْبَقَرَةِ: 189] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الْكَوْثَرِ: 1] نَازِلَةٌ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ3. وَسُورَةُ {اقْرَأْ} نَازِلَةٌ فِي قَضِيَّتَيْنِ4. الْأُولَى إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَقِ: 5] . وَالْأُخْرَى ما بقي إلى آخر السورة. وسورة "المؤمنون"5 نَازِلَةٌ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَكِّيَّاتِ، وَغَالِبُ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، أَصْلُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى: أَحَدُهَا: تَقْرِيرُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْحَقِّ، غَيْرَ أَنَّهُ يأتي على وجوه؛ كنفي   1 فهو ضرب مثل لسؤالهم عن الهلال يبدو صغيرًا ... إلخ، ولبيان أن هذا السؤال خروج عما يهمهم في دينهم ودنياهم، وأنه مجرد تعسف كإتيان البيوت من ظهورها بدل أبوابها. "د". قلت: ومضى تخريج سؤالهم عن الهلال ... في "3/ 149". 2 في "ط": "معها". 3 انظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" "3/ 256" للبقاعي، وله أيضًا كلام بديع على هذه السورة -لا يوجد في كتاب- في آخر كتابه "الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة"، يسر الله نشره. 4 انظر: "مصاعد النظر" "3/ 213". 5 انظر: "مصاعد النظر" "2/ 303"، و"في ظلال القرآن" "4/ 2452". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 الشَّرِيكِ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ نَفْيِهِ بِقَيْدِ مَا ادَّعَاهُ الْكُفَّارُ فِي وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْ كَوْنِهِ مُقَرَّبًا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، أَوْ كَوْنِهِ وَلَدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ. وَالثَّانِي: تَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا، صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى وُجُوهٍ أَيْضًا؛ كَإِثْبَاتِ كَوْنِهِ رَسُولًا حَقًّا، وَنَفْيِ مَا ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ كَاذِبٌ، أَوْ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَالثَّالِثُ: إِثْبَاتُ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِكُلِّ وَجْهٍ يُمْكِنُ الْكَافِرُ إِنْكَارَهُ بِهِ؛ فَرَدَّ بِكُلِّ وَجْهٍ يُلْزِمُ الْحُجَّةَ، وَيُبَكِّتُ الْخَصْمَ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ. فَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْمُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ، وَمَا ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ خُرُوجُهُ عَنْهَا؛ فَرَاجِعٌ إِلَيْهَا فِي مَحْصُولِ الْأَمْرِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، وَالْأَمْثَالُ وَالْقَصَصُ، وَذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَوَصْفُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُدْنَا إِلَى النَّظَرِ فِي سورة "المؤمنون" مَثَلًا وَجَدْنَا فِيهَا الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ عَلَى أَوْضَحِ الْوُجُوهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى نَسَقِهَا ذِكْرُ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلنُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَدْخَلُ لِلْمَعْنَيَيْنِ1 الْبَاقِيَيْنِ, وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ تَرَفُّعًا مِنْهُمْ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ، أَوْ يَنَالَ هَذِهِ الرُّتْبَةَ غَيْرُهُمْ إِنْ كَانَتْ؛ فَجَاءَتِ2 السُّورَةُ تُبَيِّنُ وَصْفَ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْهَا، وَبِأَيِّ وَجْهٍ تَكُونُ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا حَتَّى تَسْتَحِقَّ الِاصْطِفَاءَ وَالِاجْتِبَاءَ مِنَ الله تعالى؛ فافتتحت السورة بثلاث جمل:   1 في "ط": "إلى المعنيين". 2 في نسخة "د": "جاءت فكانت". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 إِحْدَاهَا, وَهِيَ الْآكَدُ فِي الْمَقَامِ: بَيَانُ الْأَوْصَافِ الْمُكْتَسَبَةِ لِلْعَبْدِ الَّتِي إِذَا اتَّصَفَ بِهَا رَفَعَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ... } إِلَى قَوْلِهِ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 1-11] . وَالثَّانِيَةُ: بَيَانُ أَصْلِ التَّكْوِينِ لِلْإِنْسَانِ وَتَطْوِيرِهِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ جَارِيًا عَلَى مَجَارِي الِاعْتِبَارِ1 وَالِاخْتِيَارِ، بِحَيْثُ لَا يَجِدُ الطَّاعِنُ إِلَى الطَّعْنِ عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ سَبِيلًا. وَالثَّالِثَةُ: بَيَانُ وُجُوهِ الْإِمْدَادِ لَهُ مِنْ خَارِجٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فِي التَّرْبِيَةِ وَالرِّفْقِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ ذلك له بتسخير السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَكَفَى بِهَذَا تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا. ثُمَّ ذَكَرَتْ قَصَصَ مَنْ تَقَدَّمَ مَعَ2 أَنْبِيَائِهِمْ واستهزاءهم بِهِمْ بِأُمُورٍ مِنْهَا كَوْنُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ؛ فَفِي قصة نوح مع قومه قولهم: {قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 24] . ثُمَّ أَجْمَلَ ذِكْرَ قَوْمٍ آخَرِينَ أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ؛ أَيْ: مِنَ الْبَشَرِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَقَالُوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} الْآيَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: 33] . {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 34] . {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الْمُؤْمِنُونَ: 38] ؛ أَيْ: هُوَ مِنَ الْبَشَرِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [الْمُؤْمِنُونَ: 44] . فَقَوْلُهُ: {رَسُولُهَا} مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَسُولُهَا الذي تعرفه منها.   1 في "ط": "الاعتناء". 2 في "ط": "من". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُونَ وَرَدَّ فِرْعَوْنَ، وَمَلَئِهِ بِقَوْلِهِمْ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 47] إِلَخْ. هَذَا كُلُّهُ حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ غَضُّوا مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ، تَسْلِيَةً لِمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الْبَشَرِيَّةِ لِلْأَنْبِيَاءِ لَا غَضَّ فِيهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ إِنَّمَا كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَجَمِيعِ النَّاسِ، وَالِاخْتِصَاصُ أَمْرٌ آخَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَقَالَ بَعْدَ تَقْرِيرِ رِسَالَةِ مُوسَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: 50] ، وَكَانَا مَعَ ذَلِكَ يَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] ؛ أَيْ: هَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ شُكْرُ تِلْكَ النِّعَمِ، وَمُشَرِّفٌ لِلْعَامِلِ بِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ التَّخْصِيصَ لَا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: 52] ، إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا مُصْطَفَوْنَ مِنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوٍ مِمَّا بِهِ بَدَأَ؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 57-61] . وَإِذَا تُؤُمِّلُ هَذَا النَّمَطُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا؛ فُهِمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مُضَافًا إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ وَغَضُّوا مِنَ الرُّسُلِ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ؛ اسْتِكْبَارًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَعُتُوًّا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ تُشْعِرُ بِخِلَافِ الِاسْتِكْبَارِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِتِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْقُولٌ فِي أَطْوَارِ الْعَدَمِ وَغَايَةِ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّ التَّارَاتِ1 السَّبْعَ أَتَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ كُلُّهَا ضَعْفٌ إِلَى ضِعْفٍ، وَأَصْلُهُ الْعَدَمُ؛ فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ الِاسْتِكْبَارُ، وَالْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ مُشْعِرَةٌ بِالِاحْتِيَاجِ إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَلَوْلَا2 خَلْقُهَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ بَقَاءٌ بِحُكْمِ العادة   1 في "د": "النارات". 2 في "ط": "إذ لولا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 الْجَارِيَةِ؛ فَلَا يَلِيقُ بِالْفَقِيرِ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي النَّشْأَةِ وَالْخَلْقِ، فَهَذَا كُلُّهُ كَالتَّنْكِيتِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقَصَصَ فِي قَوْمِ نُوحٍ: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 24] ، وَالْمَلَأُ هُمُ الْأَشْرَافُ. وَكَذَلِكَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} الْآيَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: 33] . وَفِي قِصَّةِ مُوسَى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 47] . وَمِثْلُ هَذَا الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لِشَرَفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ قَالُوا هَذَا الْكَلَامَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 54-56] رُجُوعٌ إِلَى وَصْفِ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَشَرَّفُوا بِالْمَالِ وَالْبَنِينَ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ لَهُ الشَّرَفُ مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 57] . ثُمَّ رَجَعَتِ الْآيَاتُ1 إِلَى وَصْفِهِمْ فِي تَرَفِهِمْ وَحَالِ مَآلِهِمْ، وَذِكْرِ النِّعَمِ عليهم، والبراهين عل صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ مَا قَالَ عَنِ اللَّهِ حَقٌّ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَأُمُورِ الدَّارِ الْآخِرَةِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ، حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَالْوَصْفُ لِلْفَرِيقَيْنِ؛ فَهَذَا النَّظَرُ إِذَا اعْتُبِرَ كُلِّيًّا2 فِي السُّورَةِ وُجِدَ عَلَى أَتَمَّ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ، لَكِنْ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَطَرِيقِهِ، وَمَنْ أَرَادَ الاعتبار3 في   1 أي: من قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ... } إلخ. "د". 2 أي: إن بيانه لذلك إجمالي لا تفصيلي، ولو أنه اعتبر التفصيل الكلي لكان ظهور ارتباط أجزاء السور بعضها ببعض، وأنها لبيان الأمور الثلاثة التي ذكرها أولًا أوضح مما قال. "د". 3 في نسخة "د": "الاختيار". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ؛ فَالْبَابُ مَفْتُوحٌ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ الله؛ فسورة "المؤمنون" قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَحَيْثُ ذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَنُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، وَمُوسَى، وَهَارُونَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَثْبِيتٌ لِفُؤَادِهِ لِمَا كَانَ يَلْقَى مِنْ عِنَادِ الْكُفَّارِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَتُذْكَرُ الْقِصَّةُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَقَعُ لَهُ مِثْلُهُ، وَبِذَلِكَ اخْتَلَفَ1 مَسَاقُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْجَمِيعُ حَقٌّ وَاقِعٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَعَلَى حَذْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ يَحْتَذِي فِي النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ لِمَنْ أَرَادَ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَصْلٌ 2: وَهَلْ لِلْقُرْآنِ مَأْخَذٌ فِي النَّظَرِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ سُوَرِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ بِحَسَبِ خِطَابِ الْعِبَادِ، لَا بِحَسَبِهِ فِي نَفْسِهِ؟ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَلَا بِاعْتِبَارٍ، حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ3، وَإِنَّمَا مَوْرِدُ الْبَحْثِ هُنَا بِاعْتِبَارِ خِطَابِ الْعِبَادِ تَنَزُّلًا لِمَا هُوَ من معهودهم فيه، هذا محل احتمال   1 فتارة تذكر مفصلة مطولة، وتارة يقتصر على بعض آخر، بحسب ما يقع منهم له, صلى الله عليه وسلم. "د"، وفي "ط": "ويدلك اختلاف". 2 الكلام قبله في النظر إلى السورة الواحدة والكلام هنا في النظر إلى القرآن كله جملة واحدة. "د". 3 هذا قائم على أصل مخالف لعقيدة السلف، أعني: إنه قائم على أن كلام الله معنى قائم بالنفس، مجرد عن الألفاظ والحروف، وهذا مخالف للكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف، انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 522-523، 9/ 283 و12/ 49-50، 122، 166"، و"العقيدة السلفية في كلام رب البرية" "ص278-279 وص345 وما بعدها". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 وَتَفْصِيلٍ. فَيَصِحُّ فِي الِاعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، أَيْ: يَتَوَقَّفُ فَهْمُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ بِوَجْهٍ مَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُبَيِّنَ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِتَفْسِيرِ مَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ سُورَةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرُورِيَّاتِ مَثَلًا مُقَيَّدٌ بِالْحَاجِيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَبَعْضُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْفَهْمِ؛ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَكَلَامٌ وَاحِدٌ؛ فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ1. وَيَصِحُّ أَنْ لَا يَكُونَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَظْهَرُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ سُوَرًا مَفْصُولًا بَيْنَهَا مَعْنًى وَابْتِدَاءً؛ فَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ انْقِضَاءَ السُّورَةِ وَابْتِدَاءَ الْأُخْرَى بِنُزُولِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهَكَذَا نُزُولُ أَكْثَرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى وَقَائِعَ وَأَسْبَابٍ2 يُعْلَمُ مِنْ إِفْرَادِهَا بِالنُّزُولِ اسْتِقْلَالُ مَعْنَاهَا للأفهام، وذلك لا إشكال فيه.   1 هذا هو الظاهر الذي يصح التعويل عليه، وأدلته فيه لا تنقض، وأما كونه نزل سورًا مفصولًا بعضها من بعض ببسم الله ... إلخ؛ فلا يقتضي استقلال بعضها عن بعض بالمعنى المراد، وكيف يتأتى بناء المدني على المكي، وأن كل منهما يبنى بعضه على بعض إذا أخذت كل سورة على حدتها غير منظور فيها لما ورد في غيرها؛ وأين يكون البيان والنسخ؟ ومعلوم أنه لا يلزم في البيان ولا في النسخ أن يكون المنسوخ والناسخ والمبين والبيان في سورة واحدة؛ فقوله: "ولا إشكال فيه" غير ظاهر. "د". 2 في "ط": "ولأسباب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ ذَمُّهُ، وَجَاءَ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي إِعْمَالَهُ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنِ الصِّدِّيقِ؛ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ, وَقَدْ سُئِلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ: "أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ "1. وَرُبَّمَا رُوِيَ فِيهِ: "إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي"1. ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ: "أَقُولُ2 فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا؛ فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً؛ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، الْكَلَالَةُ كَذَا وَكَذَا"3. فَهَذَانِ قَوْلَانِ اقْتَضَيَا إِعْمَالَ الرَّأْيِ وَتَرَكَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُمَا لَا يجتمعان. والقول فيه أن الرأي ضربان4:   1 مضى تخريجه "ص250". 2 في "د": "لا أقول"، والصواب حذف "لا". 3 أورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 911/ رقم 1712" عن ابن مسعود، ولم يسنده". 4 قد حذر العلماء قديمًا عن التفسير بالرأي، ولكنهم لم يبينوا كل البيان ما هو المراد من التفسير بالرأي، وإذ كان المروي في ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قليلًا جدًّا، ولم يكثر فيه أيضًا ما روي عن الصحابة، فأضافوا به ما روي عن التابعي وتبعهم مع اختلاف الأقاويل بينهم، وعلى هذا صنف ابن جرير -رحمه الله- تفسيره وهو أحسن التفاسير حتى قيل: إنه لم يصنف مثله. والقرآن قد تضمن من الحكمة والمعارف ما لا يحيط به إلا الله تعالى، وقد حث القرآن نفسه على التفكير والتدبر فيه، وقد تبين لأصحاب العقول معارف غامضة قد تضمنها الآيات ولم يجدوها فيما روي عن السلف؛ فذكروها في تفاسيرهم، وأكبر التفاسير المتداولة التي كتبت على هذا الطريق ما ألفه الإمام الرازي, رحمه الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 أَحَدُهُمَا: جَارٍ عَلَى مُوَافَقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِهْمَالُ مِثْلِهِ لعالم بهما لأمور:   = وكلاهما متلقى بالقبول بين المسلمين عامة، مع اتفاق العلماء على أن كليهما يحتوي على الغث والسمين، ولا بد للناظر فيهما من النقد والإمعان؛ فنوجهك إلى هذين التفسيرين لتقيس عليهما غيرهما؛ فإنهما مثالان لسائر التفاسير، ثم نبين لك ما هو التفسير بالرأي الذي ذمه العلماء, وما هي الطريق المثلى التي تعصمك منه. فاعلم أن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- أجمعين قد اختلفوا كثيرًا في التأويل مع تقارب خطاهم، فلو أخذوا تأويلاتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اختلفوا، ولكنهم أخذوها عن علمهم باللسان، واقتصارهم على علمهم بنظائر الآيات وعلمهم بالسنة، وعن بصيرة يعطيها الله عباده، ولذلك ترى أنهم يتقاربون في المآل، وبالجملة؛ فإنهم لم يؤولوا القرآن بالرأي المذموم الذي لا مستند له في الكتاب والسنة ولسان العرب. إن السلف اختلفوا في تأويل القرآن كثيرًا؛ لكونه جامعًا لوجوه كثيرة، ولكونهم متفاوتين في مدارج العقول، وهذا كما اختلفوا في الفتاوى، ولكنهم مع ذلك اعتمدوا على أصول راسخة للتأويل، فلم يعتمدوا على الرأي المحض وهوى النفس؛ فكان غالب خلافهم خلاف تنوع لا خلاف تضاد. ومن قال: إن التفسير الذي لم يكن منقولًا عن السلف فهو التفسير بالرأي؛ فمحمول على أن من ترك المنقول أو شك أن يقع في أوهامه فيرى الباطل معقولًا كما قالوا في من لم يتقلد السلف في الفتاوى وركب رأسه؛ فلا يؤمن إبعاده عن جادة الشريعة كل الإبعاد، وكذلك محمول على أخذ ما يحتاج إليه في علم أسباب النزول ومواقعه؛ فلا بد أن يؤخذ من النقل مع التنقيد والاختيار بما صح وثبت، ولا يحمل ذلك على ترك النظر في دلالة القرآن، وحمل الآية على نظائرها، والجمود على المنقول المحض، وعدم الفرق بين صحيحه وسقيمه، وتسويته في الاعتماد، فإن المنقول جله الأحاديث الضعاف والمتناقض بعضها بعضًا، بل المتناقض لظاهر القرآن؛ فهل يعتمد عليها، أو يترك القرآن لا يتدبر فيه ولا يفهم معانيه؟ نعم، ينظر في ما نقل من السلف للتأكيد عند الموافقة، ورجع النظر عند المخالفة؛ حتى يطمئن القلب بما يفهم من الكلام، فإنه أوثق وأبعد عن الخطأ. وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 370-375"، و"قانون التأويل" "366" لابن العربي، و"التكميل في أصول التأويل" "ص7-9" للفراهي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 أَحَدُهَا: إِنَّ الْكِتَابَ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِبَيَانِ مَعْنًى، وَاسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ، وَتَفْسِيرِ لَفْظٍ، وَفَهْمِ مُرَادٍ، وَلَمْ يَأْتِ جَمِيعُ ذَلِكَ عَمَّنْ تَقَدَّمَ؛ فَإِمَّا أَنْ يُتَوَقَّفَ دُونَ ذَلِكَ فَتَتَعَطَّلُ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِمَا يَلِيقُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُبَيِّنًا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّوْقِيفِ؛ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ نَظَرٌ وَلَا قَوْلٌ، وَالْمَعْلُومُ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ1 فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بَلْ بَيَّنَ مِنْهُ مَا لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا بِهِ، وَتَرَكَ كَثِيرًا مِمَّا يُدْرِكُهُ أَرْبَابُ الِاجْتِهَادِ بِاجْتِهَادِهِمْ؛ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي جَمِيعِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ التَّوْقِيفُ2. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَوْلَى بِهَذَا الِاحْتِيَاطِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ عَلَى مَا فَهِمُوا، وَمِنْ جِهَتِهِمْ بَلَغَنَا تَفْسِيرُ مَعْنَاهُ، وَالتَّوْقِيفُ يُنَافِي هَذَا؛ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالتَّوْقِيفِ وَالْمَنْعِ مِنَ الرَّأْيِ لَا يَصِحُّ3.   1 أخرج ابن حبان في "الثقات" "7/ 396" بسند فيه ضعف عن عائشة قالت: "ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفسر شيئًا من القرآن إلا آيًا علمهن إياه جبريل". 2 قد ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلًا جدًّا، وهذا وحده يجعل كل منصف يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، إذ لو كان صلى الله عليه وسلم فسر للعرب بما يحتمله زمنهم وتطيقه أفهامهم؛ لجمد القرآن جمودًا تهدمه عليه الأزمنة والعصور بآلاتها ووسائلها؛ فإن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- نص قاطع، ولكنه ترك تاريخ الإنسانية يفسر كتاب الإنسانية؛ فتأمل حكمة ذلك السكوت؛ فهي إعجاز لا يكابر فيه إلا من قلع مخه من رأسه، قاله الرافعي في "إعجاز القرآن" "ص14, الهامش"، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة. 3 لما رأى أهل السنة أن أهل البدعة والباطل جعلوا يؤولون القرآن بالهوى ويحملون النصوص على غير مرادها؛ تحرجوا الاشتغال بالأقاويل في التفسير؛ إلا ما روي عن الصحابة والتابعين، ولا شك أنهم لم يريدوا بذلك إلا سدًّا لأبواب الفتنة، وكان ذلك هو الطريق، فإن التأويل إذا لم يؤسس على قواعده التي تكون فارقة بين الحق والباطل؛ لم يمنع عن القول بالرأي المحض. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْفَرْضَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَقَدْ يُسَلَّمُ الْقَوْلُ بِالتَّوْقِيفِ فِيهِ وَتَرْكِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ جَدَلًا. وَمِنْ جِهَةِ الْمَآخِذِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْقِيفُ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَاللَّازِمُ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ إِطْنَابٍ فِيهِ1. وَأَمَّا الرَّأْيُ غَيْرُ الْجَارِي عَلَى موافقة العربية أو الجاري2 على الأدلة   = وأما الصحابة والتابعون؛ فأولوا القرآن بالعلم والنظر الصحيح، فإن تصفحنا الأصول التي جروا عليها كانت لنا أسوة حسنة في تدبر كتاب الله، وقد جمع أهل التأويل نبذًا من أقوالهم، ولكنهم لم يجمعوا أصول تدبرهم، والحاجة إلى ذلك شديدة؛ فإن الله تعالى أوجب التفكر في كتابه بصريح القول في غير ما آية، وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وعلمهم النظر والاستنباط، وكان ذلك مما فرض الله عليه. وإذ غلب على أكثر الناس أن القول بما لم يرو عن السلف هو القول بالرأي؛ فصار ذلك مانعًا عن التفكر والتدبر، احتجنا إلى بيان الفرق بين القول بالرأي المنهي عنه وبين طريق السلف الذين تفكروا وتدبروا في القرآن، وإلى بيان الحاجة الشديدة إلى استعمال الفكر والتدبر في كتاب الله. من العجائب بل من المصائب أن يشتبه الحق بالباطل عند أهل الحق؛ فيتعصبون للباطل، ويعثرون في وضح النهار بعدما جاءتهم البينات ضمن ذلك حرموا الفكر والنظر في آيات الله المشهودة والمتلوة، وجعلوا السنة بدعة والبدعة سنة، وذلك بعد أن علموا أن القرآن قد حث على الفكر والتدبر في كليهما، وأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتدبرون القرآن، ويقولون بما فهموا منه وينقلون ذلك عنهم. انظر: "التكميل في أصول التأويل" "ص9" للفراهي. 1 كتب "م" في الهامش: "هكذا في المطبوعات الثلاث، ولعل الأصل الكلام: "فهو أوضح من أن يحتاج إلى إطناب فيه"". 2 لعل الصواب: "غير الجاري". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 الشَّرْعِيَّةِ؛ فَهَذَا هُوَ الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، كَمَا كَانَ مَذْمُومًا فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ1 الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَقَوُّلٌ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ؛ فَيَرْجِعُ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جَاءَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ فِي الْقُرْآنِ مَا جَاءَ؛ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"2. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَرَجُلٌ يُنَافِسُ الْمُلْكَ عَلَى أَخِيهِ"3. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا: "مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْهَاهُ إيمانه، ولا من   1 راجع المسألة الثانية في القياس من كتاب "الإحكام" للآمدي. "د". 2 أخرجه عبد الرزاق في "الجامع" "11/ 252/ رقم 20465"، والدارمي في "السنن" "1/ 54"، والطبراني في "الكبير" "9/ 189/ رقم 8845"، وابن وضاح في "البدع" "25"، والمروزي في "السنة" "24-25"، وابن حبان في "روضة العقلاء" "37"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 43"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 387"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1202/ رقم 2363"، كلهم من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن ابن مسعود به بألفاظ المذكور أحدها. وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 26"، ولذا قال البيهقي عقبه: "وهذا مرسل، وروي موصولًا من طريق الشاميين". قلت: أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 388" من طريق أبي إدريس الخولاني عن ابن مسعود، وذكره المصنف من قوله في "الاعتصام" "1/ 77". وأخرجه الآجري في "الشريعة" "48"، وابن وضاح في "البدع" "25-26" نحوه عن معاذ. 3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1202/ رقم 2364" بإسناد رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، عمرو بن دينار لم يسمع من عمر, رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 فَاسِقٍ بَيٍّنٍ فِسْقُهُ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْهَا رَجُلًا قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى أَذْلَقَهُ بِلِسَانِهِ، ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ"1. وَالَّذِي ذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] ؛ فَقَالَ: "أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي"2 الْحَدِيثَ. وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [الْمَعَارِجِ: 4] ؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ 3 سَنَةٍ} [السَّجْدَةِ: 5] ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَنِي. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا، نَكْرَهُ أَنْ نَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ"4. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شيء من القرآن؛ قال: "أنا   1 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2368" عن الأعرابي معلقًا، وذكره بسنده، وهو ضعيف، فيه سويد بن سعيد، صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وأبو حازم سلمة بن دينار لم يسمع من عمر. 2 مضى تخريجه من عدة طرق عن أبي بكر، يصل بمجموعها إلى الحسن، كما بيناه ولله الحمد في التعليق على "ص250". والأب: الكلأ والمرعى؛ فهو للدواب كالفاكهة للإنسان، وقيل: هو كل ما أخرجت الأرض من النبات. "خ". 3 في الأصول: " ... مقداره خمسين ألف"، وما أثبتناه هو الموجود في مصادر التخريج. "استدراك3". ومن "م" تكرار أول المسألة؛ إلا أنه جعل السؤال عن يوم بألف سنة. 4 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "227-228"، وعزاه له ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372-373"، وفي آخره عندهما: "يعلم" بدلًا من "نعلم"، وفي "تفسير القرطبي" "18/ 283": "لا أعلم"، وإسناده صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 لَا أَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا"1. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ آيَةٍ؛ فَقَالَ: "لَا تَسْأَلُنِي عَنِ الْقُرْآنِ، وَسَلْ عَنْهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ, يَعْنِي عِكْرِمَةَ"2، وَكَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْعِرٌ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدَادِ؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيما أُنْزِلَ الْقُرْآنَ"3. وَعَنْ مَسْرُوقٍ؛ قَالَ: "اتَّقُوا التَّفْسِيرَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ"4. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ"5. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ؛ قَالَ: "مَا سَمِعْتُ أَبِي6 تأول آية من كتاب الله"7،   1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص228"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 373"، والقرطبي في "تفسيره" "1/ 34". 2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص228"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 86"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 373"، والقرطبي في "تفسيره" "1/ 37". 3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "228"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 89"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374". 4 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "229"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374"، والقرطبي في "تفسيره" "1/ 34". قلت: وفي الأصل و"ط": "على الله". 5 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "229"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 222"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374". 6 كيف وقد تأول عروة آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] على غير وجهها، وقالت له أم المؤمنين خالته: بئسما قلت يابن أختي، إلا أن يقال: إنه نفي سماعه، أو = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 وَإِنَّمَا هَذَا كُلُّهُ تَوَقٍّ وَتَحَرُّزٌ أَنْ يَقَعَ النَّاظِرُ فِيهِ فِي الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَالْقَوْلِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ1، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ -وَجَلَالَتُهُ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْلُومَةٌ- أَنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْ قَطُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَإِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْ، انْظُرِ الْحِكَايَةَ عَنْهُ فِي "الْكَامِلِ"2 لِلْمُبَرِّدِ. فَصْلٌ: فَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ أَشْيَاءُ: - مِنْهَا: التَّحَفُّظُ مِنَ الْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى بَيِّنَةٍ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ بِالْأَدَوَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ:   1 قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374-375" بعد أن ساق جملة من هذه الآثار: "فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم له به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا؛ فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموا وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به؛ فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه". 2 يريد المصنف قول المبرد في "الكامل" "2/ 43": "وذاك أن الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسر ما كان فيه ذكر الأنواء لقول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا"؛ لأن الخبر في هذا بعينه " مطرنا بنوء كذا وكذا"، وكان لا يفسر ولا ينشد شعرًا فيه هجاء، وكان لا يفسر شعرًا يوافق تفسيره شيئًا من القرآن، هكذا يقول أصحابه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 إِحْدَاهَا: مَنْ بَلَغَ فِي ذَلِكَ مَبْلَغَ الرَّاسِخِينَ كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا مَعَ التَّوَقِّي وَالتَّحَفُّظِ، وَالْهَيْبَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْهُجُومِ؛ فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ إِنْ ظَنَنَّا بِأَنْفُسِنَا أَنَّا فِي الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مِثْلُهُمْ، وَهَيْهَاتَ! وَالثَّانِيَةُ: مَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبَالِغَهُمْ وَلَا دَانَاهُمْ؛ فَهَذَا طَرَفٌ لَا إِشْكَالَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثَةُ: مَنْ شَكَّ فِي بُلُوغِهِ مَبْلَغَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ عُلُومِهِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَهَذَا أَيْضًا دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ الْمَنْعِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ، فَعِنْدَمَا يَبْقَى لَهُ شَكٌّ أَوْ تَرَدُّدٌ فِي الدُّخُولِ مَدْخَلَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ؛ فَانْسِحَابُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ باقٍ بِلَا إِشْكَالٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَقِيهُ نَفْسِهِ فِي هَذَا الْمَجَالِ، وَرُبَّمَا تَعَدَّى بَعْضُ أَصْحَابِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ طَوْرَهُ؛ فَحَسُنَ ظَنُّهُ بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ مَعَ الرَّاسِخِينَ، وَمِنْ هُنَا افْتَرَقَتِ الْفِرَقُ، وَتَبَايَنَتِ النِّحَلُ، وَظَهَرَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْخَلَلُ. - وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ تَرَكَ النَّظَرَ فِي الْقُرْآنِ، وَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَوَكَّلَ إِلَيْهِ النَّظَرَ فِيهِ غَيْرُ مَلُومٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ سَعَةٌ إِلَّا فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَعَلَى حُكْمِ الضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهِ يُشْبِهُ النَّظَرَ فِي الْقِيَاسِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهُمْ فِي الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الْمَحْظُورَ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ خَوْفُ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ، بَلِ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَرْجِعُ إِلَى نَظَرِ النَّاظِرِ، وَالْقَوْلَ فِي الْقُرْآنِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ كَذَا، أَوْ عَنَى كَذَا بِكَلَامِهِ الْمُنَزَّلِ، وَهَذَا عَظِيمُ الْخَطَرِ. - وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ النَّاظِرِ وَالْمُفَسِّرِ وَالْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ تَقْصِيدٌ1 مِنْهُ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ؛ فَهُوَ يَقُولُ بلسان بيانه: هذا مراد الله   1 تقصيد؛ أي: نسبة قصد هذا المعنى لصاحب الكلام. "م". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 مِنْ هَذَا الْكَلَامِ؛ فَلْيَتَثَبَّتْ أَنْ يَسْأَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ عَنِّي هَذَا؟ فَلَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيَانِ الشَّوَاهِدِ، وَإِلَّا؛ فَمُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ يَكْفِي بِأَنْ يَقُولَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَذَا وَكَذَا، بِنَاءً أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي صُلْبِ الْعِلْمِ، وَإِلَّا؛ فَالِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قَوْلٍ يَجْزِمُ بِهِ أَوْ يُحَمِّلُ مِنْ شَاهِدٍ يَشْهَدُ لِأَصْلِهِ، وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا، وَدَخَلَ صَاحِبُهُ تَحْتَ أَهْلِ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 الدليل الثاني: السنة ... الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُطْلَقُ لَفْظُ "السُّنَّةِ" عَلَى مَا جَاءَ مَنْقُولًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْخُصُوصِ، مِمَّا لَمْ يُنَصَّ1 عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بَلْ إِنَّمَا نُصَّ عَلَيْهِ من جهته عليه الصلاة   1 قال في "المنهاج": "هي ما صدر منه -صلى الله عليه وسلم- من الأفعال والأقوال التي ليست للإعجاز، يعني ليست من القرآن، وقد تكون متضمنة لمعنى ورد فيه؛ فقوله: "مما لم ينص عليه في الكتاب" ليس معناه أنه يلزم في إطلاق السنة ألا تكون واردة في معنى قد تضمنه الكتاب العزيز، بل معناه مما لم يكن معتبرًا جزء من الكتاب بنفس ألفاظه، ويدل على هذا قوله: "كان بيانًا لما في الكتاب أو لا"؛ لأنه إنما يكون بيانًا له إذا كان الكتاب متضمنًا لأصل المعنى؛ فتجيء السنة شارحة ومبينة، وزاد بعضهم قيد: "مما ليس من الأعمال الطبيعية"، وتركه غيره لظهوره، وقوله: "كان ذلك مما نص عليه في الكتاب"؛ أي: وحده أو مع السنة أيضًا، وقوله: "أو لا" أي: بأن نص عليه في السنة فقط، وإنما حملناه على هذا ليصح كون هذا المعنى مغايرًا لما قبله وأعم منه، وقوله: "وإن كان العمل بمقتضى الكتاب"؛ أي: في بعض صور هذا الإطلاق، هذا وظاهر قوله أولًا: "بل إنما نص عليه من جهته" أن هذا الإطلاق خاص بالأقوال، ولا يشمل الأفعال، وقوله بعد: "عمل على وفق ما عمل عليه النبي -عليه السلام- مع ضميمة قوله، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة" يقتضي أن الإطلاق الثاني خاص بالأفعال، ولا يشمل الأقوال المتوجهة منه إلى غيره بالأوامر والنواهي فيما لا يتعلق به -عليه السلام- ويكون قول صاحب "المنهاج" وغيره: إن السنة ما صدر منه ... إلخ تعريفًا للإطلاق العام، ويكون كل من هذين الإطلاقين في كلام المؤلف خاصًّا، ويساعد على أن غرضه الخصوص في الإطلاقين قوله بعد: "وإذا جمع ما تقدم تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه"، وقد عد منها الإقرار وجهًا، وإن لم يصرح به في تفاصيل الإطلاقات؛ إلا أنه تقدم له عد الإقرار من الأفعال. "د". قلت: وانظر في معنى السنة: "شرح الكوكب المنير" "2/ 166، 194"، و"الإحكام" للآمدي "1/ 196"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 94"، و"نهاية السول" "2/ 238"، و"تيسير التحرير" "3/ 19"، و"فواتح الرحموت" "2/ 97"، و"أصول السرخسي" "1/ 113"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 2"، و"إرشاد الفحول" "33"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 306-309 و22/ 540 و28/ 18، 378"، و"حجية السنة" "ص68". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 وَالسَّلَامُ، كَانَ بَيَانًا لِمَا فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا. وَيُطْلَقُ أَيْضًا فِي مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ؛ فَيُقَالُ: "فُلَانٌ عَلَى سُنَّةٍ" إِذَا عَمِلَ عَلَى وَفْقِ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ ذَلِكَ مِمَّا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا، وَيُقَالُ: "فُلَانٌ عَلَى بِدْعَةٍ" إِذَا عَمِلَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ فِيهِ عَمَلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ؛ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ السُّنَّةِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ. وَيُطْلَقُ أَيْضًا لَفْظُ السُّنَّةِ عَلَى مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ1 أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِكَوْنِهِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةٍ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا، أَوِ اجْتِهَادًا2 مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ خُلَفَائِهِمْ؛ فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِجْمَاعٌ، وَعَمَلُ خُلَفَائِهِمْ رَاجِعٌ أَيْضًا إِلَى حَقِيقَةِ3 الْإِجْمَاعِ من جهة4 حمل الناس عليه حسبما   1 أي: عثرنا عليه في السنة أو لم نعثر عليه فيها؛ ليصح قوله بعد: "لِكَوْنِهِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةٍ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ تُنْقَلْ إلينا، وإذا حمل قوله: "لم يوجد" على ظاهره، وأنها لم تصدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلًا لم يظهر قوله: "لكونه اتباعًا لسنة ... إلخ"؛ فإنه وما بعده راجع إلى قوله: "أو لم توجد" بيانًا له، ولو كان هذا راجعًا إلى قوله "وجد"؛ لم يكن لتقييده بقوله "لم تنقل إلينا" معنى. "د". قلت: قد يحمل مراد المصنف في قوله: "لكونه اتباعًا لسنة"؛ أي: عملهم؛ فبمجرد ثبوت أمر ما أنه من عمل الصحابة؛ فهو من السنة لأن السنة قامت على اعتبار عمل الصحابة، فهذا الأمر وإن لم ينقل إلينا؛ فهو من السنة، ولهذا الاعتبار أدخلوا الموقوف في أقسام الحديث النبوي. وانظر: "قمر الأقمار" "2/ 2"، و"حجية السنة" "ص69". 2 لا يقال: إن الاجتهاد هو النظر في الأدلة من كتاب وسنة ... إلخ؛ فلا تظهر مقابلته بما قبله لأنا نقول: إن صورة اتباع السنة تفرض فيما كان الدليل هو السنة مباشرة، وما بعده بواسطة القياس ونحوه. "د". قلت: في "ط": "اجتهاد". 3 انظر لمَ لم يقل: "راجع إلى اتباع سنة لم تنقل إلينا" كما قال في سابقه؟ بل اقتصر فيه على شق الاجتهاد والإجماع، قد يقال: إن الأول في الحقيقة داخل في إطلاق السنة المشهور؛ فلا حاجة للنص عليه إلا لمجرد التنبيه على صورة يتوهم عدم دخولها، والمهم عنده هو إدخال ما يرجع لبقية الأدلة من الإجماع والاستحسان والمصالح؛ فلذا لم يكرره فيما يتعلق بخلفائهم، لكن كان عليه أن يذكر القياس أيضًا. "د". 4 أي: فلما حملوا الناس عليه، والتزمه الجميع، وساروا فيه بدون نكير؛ دل على إجماعهم عليه، وهو أولى بالقبول من الإجماع السكوتي؛ لأن هذا قد صاحبه عمل الجميع. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 اقْتَضَاهُ النَّظَرُ الْمَصْلَحِيُّ عِنْدَهُمْ؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْمَصَالِحُ1 الْمُرْسَلَةُ وَالِاسْتِحْسَانُ، كَمَا فَعَلُوا فِي حد الخمر2، وتضمين3 الصناع،   1 أي: ما كان منها في عهد الصحابة. "د". 2 حيث كان تعزير الشارب في عهده -صلى الله عليه وسلم- غير محدود، بل كانوا يضربون الشارب تارة نحو أربعين وتارة يبلغون ثمانين، وكذا في عهد أبي بكر، فلما كان في آخر إمرة عمر، ورأى شيوع الشرب في الناس، بعدما صاروا في سعة من العيش وكثرة الثمار والأعناب؛ استشار الصحابة في حد زاجر؛ فقال علي: "نرى أن تجلده ثمانين لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري جلد ثمانين"، وقال عبد الرحمن بن عوف: "أرى أن تجعلها كأخف الحدود "يعني ثمانين""، وعليه؛ فتحديد الثمانين هو السنة التي عمل عليها الصحابة باجتهاد منهم، وأجمعوا عليه. قال في "المرقاة": "أي: للسياسة". "د". قلت: وأثر علي "نرى أن تجلده ... " أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 842"، ومن طريقه الشافعي في "المسند" "2/ 90, ترتيب السندي"، وإسناده منقطع، ووصله النسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" "5/ 118"- وعبد الرزاق في "المصنف" "7/ 378/ رقم 13542"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 375"، وفي صحته نظر، كما قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 75"، وعلل ذلك من وجهين؛ فلينظرا في كلامه، وأما مقولة عبد الرحمن؛ ففي "الصحيحين". 3 قال في "منح الجليل" "7/ 513": "وقد أسقط النبي -صلى الله عليه وسلم- الضمان عن الأجراء، وخصص العلماء من ذلك الصناع؛ وضمنوهم نظرًا واجتهادًا". وقال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 616, ط ابن عفان": "إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع، وقال علي: "لا يصلح الناس إلا هذا"1، ووجه المصلحة أن الناس لهم حاجة إليهم، وهم يغيبون عن الأمتعة، ويغلب عليهم التفريط، فلو لم يضمنوا مع مسيس الحاجة إليهم؛ لأفضى إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا بدعواهم الهلاك؛ فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة؛ فكانت المصلحة التضمين" ا. هـ.   1 أخرجه ابن أبي شيبة "6/ 285"، وشريح في "القضاء" "ق 57/ ب"، وابن حزم "8/ 202"، والبيهقي "6/ 137". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وَجَمْعِ1 الْمُصْحَفِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ2 مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَتَدْوِينِ3 الدَّوَاوِينِ، وَمَا أشبه ذلك4.   1 أي: في زمن أبي بكر، حيث كان مفرقًا في الصحف والعسب والعظام، فجعله مجتمعًا كله في صحف ملتئمة خشية أن يضيع منه شيء مكتوب، وإن كان محفوظًا كله في صدور كثيرين من الصحابة، ثم في زمن عثمان لما اختلف الناس في وجوه القراءة حتى صار يكفر بعضهم بعضًا؛ لأن ما لم يكن يعرفه الواحد منهم من الوجوه ينكره على غيره وينسبه للكفر؛ فلذلك ندب عثمان طائفة من الصحابة موثوقًا بأمانتهم وعلمهم، ووكل إليهم كتابة خمسة مصاحف يقتصرون فيها على الوجوه التي نزل بها القرآن ابتداء، وكلها بلغة قريش؛ فلا يتجاوزونها إلى ما يتلى باللغات الأخرى "التي كان رخص لأهلها بالقراءة بها تيسيرًا عليهم بعد ما تلقوها عنه, صلى الله عليه وسلم"، فلما اتصلت القبائل، وامتزجت لغة قريش بلغات الآخرين؛ لم يبق داع لاستعمال هذه القراءات المؤدية إلى كثرة الاختلاف بين المسلمين فيما هو أصل الدين، ولما كانت المصاحف الخمسة عارية من النقط والشكل؛ وسعت وجوه القراءة المتفق عليها بلغة قريش، وأرسل عثمان المصاحف إلى الأمصار آمرًا بالاقتصار على ما وافقها وترك ما خالفها الذي صار في حكم المنسوخ؛ فهذان الجمعان لم يكونا في عهده -صلى الله عليه وسلم- بل حصلا باجتهاد الخليفتين وبعض الصحابة، وأقرهم الباقون على كون ذلك مصلحة. "د". قلت: انظر في ذلك: "المصاحف" لابن أبي داود، و"تاريخ القرآن" لأبي عبد الله الزنجاني. 2 يعني: الموافق لما في هذه المصاحف العثمانية أفاد في "الاعتصام" "2/ 613-614" أنه جمع الناس على قراءة لم يحصل فيها الاختلاف في الغالب؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات الأخرى، ولم يخالف في عدم القراءة بغير ما في المصاحف إلا ابن مسعود؛ فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءات المخالفة لها. قلت: انظر تفصيل مخالفة ابن مسعود في "تاريخ المدينة" لابن شبة "3/ 1004 وما بعدها". 3 أي: الذي حصل في عهد عمر لكتابة أسماء الجيوش، والعرفاء، وآلات الحرب، وأموال بيت المال ومصارفها، وغير ذلك مما يحتاج إليه الخليفة والولاة. "د". قلت: انظر تفصيل ذلك في "الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب" لفاروق مجدلاوي، ط دار النهضة العربية، سنة 1990م. 4 كولاية العهد من أبي بكر لعمر, وكترك الخلافة شورى بين ستة، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن لأرباب الجرائم في عهد عمر، وكهدم الأوقاف التي بإزاء مسجد الرسول، وتوسيع المسجد بها، وتجديد أذان للجمعة في السوق في عهد عثمان، ولم يكن في شيء من ذلك سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو النظر المصلحي الذي أقره الصحابة, رضي الله عنهم. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ1, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ" 2. وَإِذَا جُمِعَ مَا تَقَدَّمَ؛ تَحَصَّلَ مِنْهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: قَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَفِعْلُهُ، وَإِقْرَارُهُ -وَكُلُّ ذَلِكَ إِمَّا مُتَلَقَّى بِالْوَحْيِ أَوْ بِالِاجْتِهَادِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ- وَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ، وَالرَّابِعُ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوِ الْخُلَفَاءِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ، وَلَكِنْ عُدَّ وَجْهًا وَاحِدًا؛ إِذْ لَمْ يَتَفَصَّلِ الْأَمْرُ فِيمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ تَفْصِيلَ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   1 أي: فقد أضاف -صلى الله عليه وسلم- السنة إليهم كما أضافها إلى نفسه؛ فسنتهم هي ما عملوه استنادًا لسنته -صلى الله عليه وسلم- وإن لم تطلع عليها منقول عنه، وكذا ما استنبطوه بما اقتضاه نظرهم في المصلحة. "د". 2 مضى تخريجه "ص133"، والحديث صحيح. 3 ومجموع الثلاثة هو ما يطلق عليه السنة عند الأصوليين. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُتْبَةُ السُّنَّةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكِتَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ2، وَالسُّنَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْقَطْعُ فِيهَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَظْنُونِ؛ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ3.   1 أي: فإذا ورد ما ظاهره المعارضة أخذ بالكتاب وقدم عليها، هذا ما يقصده كما يدل عليه بقية المسألة، وإن كان الدليل الثاني باعتبار شقه الأول؛ لا ينتج هذا المعنى، وإنما ينتج مجرد التبعية كالفرع مع الأصل، بل جهة كونها بيانًا تقتضي تقديمها عليه إذا ظن التعارض؛ ولذلك استدل من قال بتقديم السنة على الكتاب بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] المفيد أنها قاضية على الكتاب؛ إلا أنه لاحظ في البيان معنى آخر يقتضي أن يكون مؤخر الرتبة عن المبين، لكنه معنى شعري لا تقوم على مثله الأدلة في هذا الفن. "د". قلت: ناقش الأدلة المذكورة وبين بطلانها الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص488 وما بعدها"، وسنعتني بكلامه وننقل مناقشته لكل شبهة، والله الموفق. 2 أي: من جهة الثبوت والنقل، بخلاف السنة؛ فإنها مظنونة من هذه الجهة، إلا في المتواتر منها وهو قليل، وأما من جهة الدلالة؛ فالكتاب والسنة سواء قطعًا وظنًّا. "ف". وفي نسخة "ماء": "أن الكتاب قطعي". 3 قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص489-491" في هذا الدليل، وعده شبهة؛ قال: "والجواب أنا إذا نظرنا إلى السنة من حيث ذاتها؛ وجدناها قطعية في جملتها وتفاصيلها أيضًا، وذلك حاصل بالنسبة للصحابي المشاهد له -صلى الله عليه وسلم- السامع له؛ فتنهار الشبهة من أساسها، ويجب على مقعد القاعدة أن يلاحظ فيها كل مجتهد, ولو كان لا وجود له الآن. وإذا نظرنا إليها من حيث طريقها وبالنسبة إلينا؛ قلنا: إن كان الخبر المعارض للآية متواترًا لم يصح فيه هذا الكلام أيضًا؛ فكيف يؤخر في الاعتبار مع أنه قد يكون قطعي الدلالة والآية ظنيتها، وقد يكون متأخرًا عنها ناسخًا لها، وهو في هاتين الحالتين واجب التقديم في الاعتبار, فضلًا عن المساواة؟ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 ..........................................................................   = وكون غيره من الأخبار غير قطعي لا يؤثر في قطعيته؛ لأن التعارض إنما حصل بين الآية وبينه وحده، فلا يهمنا مقارنته بين الكتاب والسنة في القطع من حيث الجملة والتفاصيل. وكون السنة المتواترة قليلة لا يفيده شيئًا في صحة دعواه العامة، بل لو فرضنا عدم وجودها بالكلية، وجب علينا أن نفرض وجودها، ونفصل في القاعدة على مقتضى هذا الفرض؛ لأنه ممكن الحصول. وإن كان خبر آحاد، فهو وإن كان ظني الثبوت، إلا أنه قد يكون خاصًّا فيكون قطعي الدلالة، والمعارض له من القرآن عامًّا فيكون ظنيها، فيكون لكل منهما قوة من وجه، فيتعادلان، فإهدار أحدهما ترجيح بلا مرجح، بل لا بد من الجمع بينهما بحمل أحدهما على ما يوافق الآخر، فنكون قد أعملناهما معًا. فإن قال: إن مذهبي أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها؛ فهو في العمل مقبول، وإلا فالتوقف لأنه حينئذ مخالف لأصول الشريعة، ومخالفها لا يصح، ولأنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط، والمستند إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني؛ فعند قبوله تكون المعارضة بين أصلين قرآنيين". كما صرح به فيما سيأتي "ص312"، وكذا بنحوه فيما مضى "3/ 186". قلنا له: أما قولك: إنه إذا لم يستند إلى قاعدة مقطوع بها مخالف لأصول الشريعة، وليس له ما يشهد بصحته؛ فممنوع، فإن أصول الشريعة تقتضي العمل بما يغلب على ظن المجتهد ثبوته وإن لم يستند إلى قاعدة قطعية، وقد أقمنا الأدلة على عموم ذلك في محله، وأن عدالة الراوي المعتبرة في نظر الشارع شاهدة على صحته، وإلا لما غلب على ظن المجتهد ثبوته. فإن أردت بالشهادة بصحته الاندراج تحت قاعدة قطعية، وقلنا: إنه لم تحصل هذه الشهادة؛ منعنا لك الكبرى القائلة: وما هو كذلك فساقط، بل هي عين الدعوى؛ فهي مصادرة. ثم نقول له: لم حصرت القاعدة القطعية في المعنى القرآني؟ ولم لا يكون في السنة المتواترة؟ ثم نقول: إذا كان مستندًا إلى المعنى القرآني كان مقبولًا عندك؛ فما المانع من أن يكون معارضًا بنفسه حينئذ، حيث تقوى في نظرك بالاستناد، ولم هذا التكلف والدوران مع أنه السبب في معارضة الآية للمعنى القرآني الذي استند إليه؟ فالذي يقوى على أن يجعل غيره معارضًا؛ ألا يقوى بنفسه على المعارضة؟! انتهى بتصريف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 وَالثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ إِمَّا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيَانًا؛ فَهُوَ ثَانٍ1 عَلَى الْمُبَيَّنِ فِي الِاعْتِبَارِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمُبَيَّنِ سُقُوطُ الْبَيَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْبَيَانِ سُقُوطُ الْمُبَيَّنِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا؛ فَهُوَ أَوْلَى فِي التَّقَدُّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا؛ فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تقدم [و] 2 اعتبار الكتاب3.   1 أي: معطوف عليه من ثنيت الشيء ثنيًا: عطفته، أو مردود إليه من ثنى الشيء ثنيًا: رد بعضه عن بعض؛ فكأن البيان والمبين شيء واحد رد بعضه عن بعض، وأما ثاني المدى يعني: من ثنى رجله عن دابة إذا ضمها إلى فخذه؛ فلا يناسب هنا فتدبر. "ف". وفي "ط": "ثان عن". 2 زيادة من الأصل، وسقطت من جميع النسخ المطبوعة و"ط. 3 رد الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص491-494" على هذا الدليل بقوله: "والجواب أن نقول له: ما المراد من سقوط المبين في قولك: يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ... إن كان مرادك نسخه بوحي آخر؟ قلنا: فهذا الوحي هو الذي أسقط البيان أيضًا مباشرة، لا بواسطة إسقاط المبين؛ فإنه لما نسخ المبين لم ينسخ ظاهره، وإنما نسخ المراد منه، والمراد منه هو معنى البيان. وإن أردت بسقوطه عدم وروده في القرآن؛ فلا نسلم أنه يلزم من ذلك سقوط البيان، وعدم اعتباره إذا ورد مشتملًا على الحكم وتفاصيله، كل ما في الأمر أنه لا يقال له: بيان، وهذا لا ضير فيه، فلو فرضنا أن الله تعالى لم يوجب الصلاة في الكتاب، وصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله للصلاة، وقوله:" صلوا كما رأيتموني أصلي"؛ علمنا من ذلك وجوبها وكيفيتها. وأما إذا ورد مشتملًا على التفاصيل فقط دون الحكم المفصل؛ فلا يفهم منه شيء لكونه فصل شيئًا لم يعلم ما هو، لا لعدم كونه حجة، على أن هذا لا يمكن صدوره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحالة. وأما قولك: ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين؛ فإن أردت بسقوط البيان نسخه قلنا: نسخه نسخ للمراد من المبين. وإن أردت عدم ورود البيان قلنا: فما المراد بعدم سقوط المبين؟ إن أردت إمكان العمل به؛ فممنوع، وإن أردت قيام دلالته على الحكم إجمالًا إلى أن يأتي البيان؛ فمسلم، ولكن ما الفائدة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 .........................................................................   = منه وحده ما دام العمل لم يمكن به؟ ولو سلمنا لك هذا كله، فلا نسلم لك قولك: وما شأنه هذا فهو أولى بالتقدم؛ لأن ما ذكرته من حكاية استلزام السقوط وعدمه، إنما ينتج مجرد التبعية كالفرع مع الأصل، لا تبعية الضعيف الذي لا يقوى على معارضة متبوعه القوي، بل جهة كونه بيانًا تقتضي تقديمه على المبين إذا ظن التعارض فيعمل بالبيان؛ ولذلك استدل من قال بتقديم السنة على الكتاب بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} المفيد أنها قاضية على الكتاب. وأما قوله فيما بعد "ص311": "إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب، فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، وليست السنة هي المثبتة للحكم دون الكتاب، كما إذا بين مالك معنى آية فعملنا بمقتضاه؛ فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقوله دون أن نقول: عملنا بقول الله تعالى" ا. هـ ملخصًا. ففيه أن خصمه لم يقل باطراح الكتاب، وإنما قال بالمساواة وإعمال الدليل والجمع بينهما. وأما قوله: بل إن ذلك المعبر في السنة ... إلخ؛ فهذا اعتراف بمذهب خصمه، وبما يتنافى مع تأخير السنة عن الكتاب في الاعتبار. وأما قوله: وليست السنة هي المثبتة للحكم ... إلخ؛ فمسلم ونحن نقول به، وينافي مذهبه، وإن أراد أن الكتاب وحده هو المثبت؛ فغير مسلم، وقياسه على تفسير مالك باطل، فإن قول مالك ليس بحجة، بخلاف قوله -صلى الله عليه وسلم- وتفسيره؛ فإنه وحي وحجة. ولو سلمنا له ذلك لم يكن خلافه إلا في تسمية السنة دليلًا حينئذ؛ فيكون الخلاف لفظيًّا لا نجد له باعثًا عليه، ما دام متفقًا معنا على أن السنة أثرت في الكتاب وحملته على خلاف ظاهره. ثم نرجع إلى أصل الشبهة؛ فنقول: إنا لو سلمنا اقتضاء ما ذكرت تقديم المبين على البيان؛ فلا نسلمه على إطلاقه، وإنما نسلمه عند عدم إمكان الجمع بينهما؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهدار أحدهما. ثم نقول: القرآن قد يكون بيانًا للقرآن وقد يكون بيانًا للسنة، وقد تكون السنة بيانًا للسنة؛ فهل تقول: إن رتبة البيان التأخير في جميع هذه الأحوال؟ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 وَالثَّالِثُ: مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ؛ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أجتهد رأيي1, الحديث.   = ثم نقول: هل يصح القول بالتعارض بين الدليلين فضلًَا عن القول بإهدار أحدهما بعد الاعتراف بأن أحدهما بيان والآخر مبين، وبعد التعبير عنهما بهذين العنوانين؟ وأما قولك فيما لم يكن بيانًا: إنه لا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب؛ فلا شك أن مرادك: أن لا يوجد في الكتاب ما يخالفه، فإن أردت ما يخالفه قطعًا؛ سلمنا لك ذلك، ولكن هذا لا يستلزم ضعف السنة عن الكتاب، بل هذا أمر لا بد منه في جميع أنواع الوحي، حتى بين الآيات بعضها مع بعض؛ لأنه لا يمكن المخالفة بين أحكام الله تعالى مطلقًا. وإن أردت ما يخالفه ظنًّا؛ لم نسلم لك اشتراط عدم وجوده في القرآن، بل قد يوجد كما توجد مثل هذه المخالفة بين الآيتين؛ ويجب تأويل أحد الدليلين حينئذ والجمع بينهما لئلا يهدر الآخر بلا مرجح. 1 أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 230، 236، 242" وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، 4/ 18-19/ رقم 3592"، والترمذي في "الجامع" "أبوب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، 3/ 616/ رقم 1327"، والدارمي في "السنن" "المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة، 1/ 60"، والطيالسي في "المسند" "1/ 286, منحة المعبود"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 347، 584"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "ص154-155، 188-189"، وابن عبد البر في "جامع البيان" "2/ 55-56"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 114" و"معرفة السنن والآثار" "1/ 173-174"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" "2/ 272"، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" "1/ 105-106/ رقم 101"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 215"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "124"، وابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" "6/ 26، 35 و7/ 111-112"، من طرق عن شعبة عن أبي عون الثقفي؛ قال: سمعت الحارث بن عمرو يحدث عن أصحاب معاذ من أهل حمص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له ... وذكره، وذكر بعضهم أن شعبة قال في الحارث: "ابن أخي المغيرة بن شعبة". ورجال إسناد الحديث ثقات إلى الحارث بن عمرو؛ فأبو عون اسمه محمد بن عبيد الله = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 .........................................................................   = الثقفي، الكوفي، الأعور، ثقة، من الرابعة، كما في "التقريب" "2/ 187"، و"التهذيب" "9/ 322". ومدار إسناد الحديث على الحارث بن عمرو، قال الترمذي عقبه: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه". فتحرير حاله وبيان أصحاب معاذ، وهل هم الذين رفعو الحديث أم رووه عن معاذ وهو الذي رفعه، هذه الأمور هي الفيصل في الحكم على الحديث. الكلام على الحارث بن عمرو: قال ابن عدي في "الكامل" "2/ 613": "سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أصحاب معاذ عن معاذ، روى عنه أبو عون، لا يصح ولا يعرف، والحارث بن عمرو وهو معروف بهذا الحديث الذي ذكره البخاري عن معاذ لما وجهه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فذكره" انتهى بحروفه. قلت: المتمعن في هذا النقل يتأكد له ما قاله الترمذي من أن حديث معاذ لا يعرف إلا من طريق الحارث هذا، ووجدت الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في "التاريخ الكبير" "2/ 1/ 177، 275"، يقول في الحارث وحديثه هذا: "لا يصح ولا يعرف إلا بهذا". ونقله عنه العقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 215"، وارتضاه بسكوته عنه، وكذلك فعل الحافظ ابن كثير القرشي في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" "ص152". وجهل الحارث بن عمرو جماعة من أهل العلم؛ منهم ابن الجوزي؛ فقال في "العلل المتناهية" "2/ 272": " ... ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول ... "، وقال الجورقاني في "الأباطيل" "1/ 106": "هذا حديث باطل، رواه جماعة عن شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة كما أوردناه، واعلم أنني تصفحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقًا غير هذا، والحارث بن عمرو هذا مجهول". قلت: وقال بنحو كلام الجورقاني هذا شيخه ابن طاهر القيسراني في تصنيف مفرد في طرق هذا الحديث، ونقل خلاصة كلامه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 183"؛ فقال: "اعلم أنني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 ...........................................................................   = العلم بالنقل؛ فلم أجد له غير طريقين: إحداهما طريق شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وكلاهما لا يصح". ثم أفاد الحافظ ابن حجر أن الخطيب البغدادي أخرجه في كتاب "الفقيه والمتفقه" من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا؛ لكان كافيًا في صحة الحديث. ا. هـ. ولا بد هنا من ضرورة التأكيد على صحة ما قدمناه عن جماعة من جهابذة الجرح والتعديل أن الحارث بن عمرو قد تفرد بالحديث عن أصحاب معاذ، ومجرد وجود طرق أخرى من غير طريق أصحاب معاذ، لا يعني أن الحارث لم يتفرد به. وهنا طريقان غير طريق الحارث: الأولى: التي ذكرها ابن طاهر: محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وهي غير صحيحة كما قال ابن طاهر؛ للإبهام الذي فيها، ولضعف رواتها. والثانية: طريق عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وتفرد بها عبادة بن نسي -بضم النون، وفتح السين، بعدها ياء مشددة- وهو من الرواة الأردنيين، يكنى أبا عمر، ثقة فاضل مات سنة ثماني عشرة ومائة؛ كما في "التهذيب" "5/ 113". وروى هذا الحديث عن عبادة بن نسي محمد بن سعيد بن حسان، وقد أبهم في رواية الإمام سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب "المغازي" له؛ كما في "النكت الظراف" "8/ 422" لابن حجر، و"تحفة الطالب" "ص153" لابن كثير؛ فوقع إسناد الحديث عنده هكذا: قال الإمام سعيد بن يحيى: حدثني أبي حدثني رجل عن عبادة بن نسي به. ولكن وقع التصريح به في "سنن ابن ماجه" "1/ 21/ رقم 55"، ومن طريقه الجورقاني في "الأباطيل" "1/ 108-109/ رقم 102"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ 310/ أ"؛ فرواه من طريق الحسن بن حماد سجادة -صدوق- ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن سعيد بن حسان عن عبادة به. قال الجورقاني عقبه: "هذا حديث غريب"، وذكره ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 213" وقال: "هذا أجود إسنادًا من الأول "أي: حديث معاذ المتكلم عليه"، ولا ذكر للرأي فيه" ا. هـ. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 ......................................................................   = قلت: ولفظ هذا الحديث: "لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، فإن أشكل عليك أمر, فقف حتى تبينه أو تكتب إليّ فيه". وذكره الجورقاني وحسنه مع غرابته كما تقدم ليبين بطلان لفظ حديث معاذ هذا، إذ أورده تحت عنوان "في خلاف ذلك". وما أصاب الجورقاني ولا ابن القيم في قولهم: إن إسناد هذا الحديث أجود من الحديث الذي فيه للرأي ذكر، إذ فيه "محمد بن سعيد بن حسان" وهو المصلوب، المتهم الكذاب. قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "ص155" بعد أن ذكر طريق الأموي في "مغازيه" بوجود المبهم فيه، ومن ثم طريق ابن ماجه المبينة أنه المذكور؛ فقال: "فتبينا بهذا أن الرجل الذي لم يسم في الرواية الأولى، هو محمد بن سعيد بن حسان، وهو المصلوب، وهو كذاب وضاع للحديث، اتفقوا على تركه". ولهذا قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "ورقة 5/ ب": "هذا إسناد ضعيف، محمد بن سعيد هو المصلوب، اتهم بوضع الحديث"، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 122": "لا يصلح حديثه لاستشهاد ولا متابعة". نعم، لم يتفرد به محمد بن سعيد المصلوب؛ فقد رواه آخر عن عبادة بن نسي، ولكن إسناده لا يفرح به؛ فقد أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ 310/ أ" من طريق سليمان الشاذكوني: نا الهيثم بن عبد الغفار عن سبرة بن معبد عن عبادة به ولكن الشاذكوني كذاب؛ فهذه الطريق كالماء، لا تشد شيئًا. فالخلاصة أن هذين الطريقين غير صحيحين، ولهذا قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي فيما نقله ابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص70"، وابن حجر في "التلخيص" "4/ 183": "لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح"، بل قال ابن الملقن في"البدر المنير" "5/ ق 214": "وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل فيما أعلم"، ونقل فيه عن ابن دحية في كتابه "إرشاد الباغية والرد على المعتدي مما وهم فيه الفقيه أبو بكر بن العربي": "هذا حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه، لا أصل له؛ فوجب اطراحه". عودة على الحارث بن عمرو: اضطرب الإمام الذهبي في الحكم على "الحارث بن عمرو"؛ فقال في ترجمته في = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 .......................................................................   = "الميزان" "1/ 439": "ما روى عن الحارث غير أبي عون؛ فهو مجهول"، وأورده في "مختصر العلل" "ص1046-1047"، وقال: "قال ابن الجوزي وغيره: الحارث مجهول، قلت "الذهبي": ما هو مجهول، بل روى عنه جماعة، وهو صدوق إن شاء الله". كذا قال هنا، مع أنه قال في "الميزان": "مجهول"؛ فانظر إلى هذا الاضطراب1. ولم يذكر لنا الجماعة الذين رووا عنه، أما إخراج بعضهم له من حيز الجهالة -كما فعل الكوثري في "مقالاته" "ص60-61"- بمجرد قول شعبة "ابن أخي المغيرة بن شعبة"؛ فلا شيء لأنه لم يقل أحد من علماء الحديث أن الراوي المجهول إذا عرف اسم جده أو بلده بله اسم أخي جده، خرج بذلك عن جهالة العين إلى جهالة الحال، قال الخطيب في "الكفاية": "المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء ولا يعرف حديثه إلا من جهة واحد ... "، ومن ثَمَّ؛ فإن قول "وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة" يحتمل أن تكون ممن هو دون شعبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط من الاستدلال. أصحاب معاذ: ضعف هذا الحديث كثير من المحدثين بجهالة أصحاب معاذ، قال ابن حزم: "هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق"، "قلت: أي طريق الحارث"، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا؛ فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وقال بعد نقل البخاري السابق فيه ما نصه: "وهذا حديث باطل لا أصل له"، وقال الجورقاني: "وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وبمثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة"، وكذا قال ابن الجوزي في "الواهيات". وأعله الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث البيضاوي" "ص87, بتحقيق العجمي" بجهالة أصحاب معاذ أيضًا، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. ورد العلامة ابن قيم الجوزية هذه العلة؛ فأجاب عنها بقوله في "إعلام الموقعين" "1/ =   1 وظفرت له في "السير" "18/ 72" في ترجمة "الجويني" باضطراب آخر؛ إذ قال: " .... بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة من أهل حمص عن معاذ؛ فإسناده صالح"؛ فجعل إسناده صالحًا هنا، مع تصريحه بجهالة الحارث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 ........................................................................   = 243": "وأصحاب معاذ وإن كانوا غير مسمين؛ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ... "1، وكذا قال ابن العربي في "العارضة" "6/ 72-73" وقبله الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 189". قلت: وكلامهم متين وقوي، ولكن علة الحديث غير محصورة في جهالة أصحاب معاذ؛ فالحديث يعل بالعلة الأولى والأخيرة، ولا يعل بهذه، ولبسط ذلك وتوضيحه أقول في كون هذه العلة قاصرة غير صالحة: أخرج البخاري -الذي شرط الصحة- حديث عروة البارقي: "سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات"، وقال مالك في القسامة: "أخبرني رجال من كبراء قومه"، وفي "الصحيح" عن الزهري: "حدثني رجال عن أبي هريرة: من صلى على جنازة؛ فله قيراط". فجهالة أصحاب معاذ جرح غير مؤثر، لا سيما أن مذهب جمع من المحدثين كابن رجب وابن كثير تحسين حديث المستور من التابعين، والجماعة خير من المستور كما لا يخفى، ولهذا لم يذكر ابن كثير في "تحفة الطالب" هذه العلة ألبتة، مع أن كلامه يفيد تضعيفه للحديث. تنبيه: وقال الذهبي في "مختصر العلل" "ص1046-1047" في رد هذه العلة: "وقال, أي ابن الجوزي: وأصحاب معاذ لا يعرفون، قلت "الذهبي": ما في أصحاب محمد بحمد الله ضعيف لا سيما وهم جماعة". كذا وقع فيه، والعبارة لا تخلو من أمرين؛ إما سليمة فهذا وهم من الذهبي -رحمه الله- فأصحاب معاذ ليسوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى يقال فيهم هذا الكلام، والسياق يدل على أنهم من التابعين، والتابعي يجوز أن يكون ضعيفًا، وإما خطأ من النساخ، والصواب "أصحاب معاذ"، وهذا الظاهر؛ فحينئذ يتوافق ما قلناه مع ما عنده، مع ملاحظة أن التابعي يجوز أن يكون ضعيفًا. الكلام على وصله وإرساله: وخير من تكلم وحرر هذا المبحث الدارقطني في "العلل" "م 2/ 48/ ب و9/ أ" =   1 قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" "4/ 559" بعد أن نقل رد ابن القيم لعلة جهالة أصحاب معاذ: "قلت: الكلام كما قال ابن القيم، لكن ما قال في تصحيح حديث الباب ففيه عندي كلام". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 .........................................................................   = "مخطوط"؛ فقال: "رواه شعبة عن أبي عون هكذا "أي: موصولًا"، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح، قال أبو داود "أي: الطيالسي": أكثر ما كان يحدثنا شعبة عن أصحاب معاذ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال مرة: عن معاذ" ا. هـ. وقال الترمذي في الحديث: "ليس إسناده عندي بمتصل"، قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 118": "وكأنه نفى الاتصال باعتبار الإبهام الذي في بعض رواته، وهو أحد القولين في حكم المبهم". وأعل العراقي الحديث في "تخريج أحاديث البيضاوي" بعلل ثلاث: الأولى الإرسال هذا، الثانية جهالة أصحاب معاذ، الثالثة جهالة الحارث بن عمرو. مسرد عام بأسماء من ضعف الحديث: ضعف حديث معاذ هذا جماعة من جهابذة الحديث، على رأسهم أميرهم الإمام البخاري، وتلميذه الترمذي، والدارقطني، والعقيلي، وابن طاهر القيسراني، والجورقاني -بالراء المهملة وليس بالمعجمة، ذاك الجوزجاني صاحب "أحوال الرجال"- وابن حزم، والعراقي، وابن الجوزي، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم من الأقدمين، واضطرب فيه الذهبي كما بينا. مسرد بأسماء من صحح الحديث: صحح حديث معاذ هذا أبو بكر الرازي، وابن العربي المالكي في "عارضة الأحوذي"، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وغيرهم من المتأخرين. ملحظ من صححه ومن ضعفه: نظر مصححوه إلى عدم كون جهالة أصحاب معاذ علة قادحة فيه، وتناسوا الإرسال وجهالة الحارث بن عمرو، أما من ضعفه؛ فبعضهم ذكر العلل القادحة -على ما بيناه- وهما علتا الإرسال وجهالة الحارث، كالحافظ ابن كثير في "تخريج أحاديث منتهى ابن الحاجب"، وبعضهم زاد علة غير قادحة -على ما حققناه- وهي جهالة أصحاب معاذ، ونحا بعضهم منحى آخر؛ فقال بعد أن اعترف بضعفه وأنه لا يوجد له إسناد قائم: "لكن اشتهاره بين الناس وتلقيهم له بالقبول مما يقوي أمره"؛ كما فعل عبد الله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه" "ص299"، وسبقه أبو العباس بن القاضي فيما نقله عنه الحافظ في "التلخيص" "4/ 183"، وقال الغزالي في "المستصفى" "2/ 254": "وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنًا وإنكارًا، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 ........................................................................   = وما كان كذلك؛ فلا يقدح فيه كونه مرسلًا، بل لا يجب البحث عن إسناده"، وأطلق صحة جماعة من الفقهاء أيضًا كالباقلاني وأبي الطيب الطبري لشهرته وتلقي العلماء لهم، وكأني بالجورقاني يرد عليهم عندما قال في "الأباطيل" "1/ 106": "فإن قيل لك: إن الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه, فقل: هذه طريقه، والخلف قلد فيه السلف، فإن أظهروا غير هذا مما ثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم ألبتة"، وكذلك ابن الجوزي عندما قال في "العلل المتناهية" "2/ 272": "وهذا حديث لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه". هل معنى حديث معاذ صحيح؟ اختلف العلماء: هل معنى هذا الحديث صحيح أم لا؟ فمن نفى صحة معناه فنفيه لصحة مبناه من باب أولى، ولكن كان سبب صحة معناه عند بعضهم صحة مبناه؛ فكأنه صححه لشواهده، واعتدل آخرون فنفوا صحته من حيث الثبوت، وأثبتوها من حيث الدلالة، وإن كان إطلاق ذلك لا يسلم من كلام كما سيتبين معك إن شاء الله تعالى. فممن صحح معنى الحديث وانبنى عليه تصحيحه لمبناه الإمام الذهبي؛ فقال في "مختصر العلل": "هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح؛ فإن الحاكم يضطر إلى الاجتهاد، وصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر". فتحسينه لإسناده غير صحيح؛ إذ لم يسلم من علة الإرسال وجهالة الحارث، ولكن تصحيح معناه فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص صحيح، لا مجال للقول بخلافه، لا سيما أن شواهد كثيرة من نصوص أخرى تؤكد هذا المعنى. وأطلق ابن الجوزي تصحيح معنى الحديث في "العلل المتناهية" "2/ 272" وإن كان يرى عدم ثبوته؛ فقال: " ... ولعمري إن كان معناه صحيحًا، إنما ثبوته لا يعرف". قلت: وإطلاق تصحيح معناه فيه نظر؛ فمتنه لا يخلو من نكارة؛ إذ فيه تصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة؛ فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا، وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم. أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ: "إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ؛ فَاقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ الله, صلى الله عليه وسلم ..... "1 إلخ.   = الضعيفة" "رقم 881". الخلاصة وتنبيهات: وخلاصة ما تقدم أن حديث معاذ هذا أعل بثلاث علل، لم تسلم واحدة منها، وهي جهالة أصحاب معاذ، وبقيت اثنتان، وهي جهالة الحارث والإرسال؛ فهو ضعيف من حيث الثبوت، وصحيح في بعض معناه، ومنكر في التفرقة بين الكتاب والسنة من حيث الحجية، وحصر حجية السنة عند فقد الكتاب؛ كما ذكرناه آنفًا. ونختم الكلام على هذا الحديث بملاحظتين: الأولى: أفاد ابن حزم في "ملخص إبطال القياس" "ص14" أن بعضهم موه وادعى فيه التواتر!! قال: "وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون، وما احتج به أحد من المتقدمين"، وأقره الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 183". والأخيرة: قال ابن طاهر القيسراني: "وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب "أصول الفقه": والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ! قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة". وتعقبه الحافظ في "التلخيص" "4/ 183"؛ فقال: "قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه؛ فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل، كذا قال, رحمه الله". اللهم ارزقنا الأدب مع علمائنا ومشايخنا، وتقبل منا، وارزقنا السداد والصواب، وجنبنا الخطأ والخلل والفحش. 1 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، 8/ 231"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" "رقم 133"، والدارمي في "سننه" "1/ 60"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "7/ 241, ط دار الفكر"، ومن طريقه ابن عاصم -كما في "مسند الفاروق" "2/ 548"- ومن طريقه الضياء في "المختارة" "رقم 134"، وسعيد بن منصور -ومن = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: "إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاقْضِ فِيهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ"1. وَقَدْ بَيَّنَ2 مَعْنَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: "انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"3. وَمِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ؛ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى به نبيه, صلى الله عليه وسلم"4   = طريقه البيهقي في "الكبري" "10/ 110", والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 99"، وابن عبد البر -المذكور لفظه- في "الجامع" "2/ 846/ رقم 1595"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 29-30"، والبيهقي "10/ 115" من طرق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر -رضي الله عنه- يسأله؛ فكتب إليه، وذكروه بألفاظ، منها المذكور هنا، ومنها ما سيأتي عند المصنف، وإسناده صحيح؛ وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 120"، وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 548" لأبي يعلى، وفي آخره قصة رؤيا عامل عمر على حمص اقتتال الشمس والقمر، وسبق ذكر إسناده مع بيان ضعفه "2/ 455". 1 هذا اللفظ أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1596"، وإسناده صحيح، ومضى تخريجه في الذي قبله، وفي "ط": "وما تلتفت". 2 احتاج لهذا الدفع ما يتوهم من قوله: "ولا تلتفت إلى غيره" شمول الغير للسنة، مع أنه إذا وجدت السنة مع الكتاب؛ فلا بد من الالتفات إليها كبيان للكتاب. "د". 3 أخرجه بهذا اللفظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 848/ رقم 1598"، وما قبله يشهد له. 4 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 59"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 848-849/ رقم 1599" -والمذكور لفظه- ورجاله ثقات، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 119". وأخرجه البيهقي في "الكبرى" "10/ 115" من طريق آخر عن ابن مسعود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 الْحَدِيثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عن سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ بِهِ1. وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ2 وَالْعُلَمَاءِ. وَمَا فَرَّقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ3 رَاجِعٌ إِلَى تَقَدُّمِ اعتبار الكتاب   1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 59"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 115"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 202-203"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 28-29"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 849-850/ رقم 1600، 1601، 1602" من طريق سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد؛ قال: سمعت ابن عباس: إذا سئل ... به. وإسناده صحيح، وصححه البيهقي، وانظر "نصب الراية" "4/ 64". 2 منه ما عند البيهقي في "السنن" "10/ 115" عن زيد بن ثابت أنه قال ذلك لمسلمة بن مخلد لما سأله عن القضاء، وإسناده حسن، قاله ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 120". وناقش الشيخ عبد الغني عبد الخالق هذا الدليل؛ فقال في "حجية السنة" "494": "والجواب أن الحديث ذكره بعضهم في الموضوعات، ولو صح؛ لوجب تأويله على أن المراد به الأسهل والأقرب تناولًا، ولا شك أن كتاب الله كذلك، وإنما وجب هذا التأويل لأن قطعي المتن والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب، وهو كثير بالنسبة لمعاذ المشاهد له -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان خبر آحاد؛ فقد يكون قطعي الدلالة والقرآن ظنيها، فيتعادلان؛ فلا يصح التقديم، بل يجب التأويل الجمع بالاجتهاد والنظر في أدلة الترجيح، وأما قول عمر: "انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحدًا"؛ فيجب حمله على ما كان نصًّا واضحًا لم يشكل بمعارضة شيء من السنة، لما ذكرنا، على أن قول عمر ليس بحجة". 3 انظر في بسط ذلك: "أصول السرخسي" "2/ 303"، و"كشف الأسرار" "2/ 203"، و"فواتح الرحموت" "1/ 58" و"التوضيح على التنقيح" "3/ 75"، و"البدخشي" "1/ 55".= الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 عَلَى اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَقَدْ لَا يُخَالِفُ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ كَالْكِتَابِ فِي مَرَاتِبِ الِاعْتِبَارِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ: أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بقاضٍ عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا؛ فَيُرْجَعُ إِلَى السُّنَّةِ، وَيُتْرَكُ مُقْتَضَى الْكِتَابِ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَمْرًا فَتَأْتِي السُّنَّةُ فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السُّنَّةِ1، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ، وَتَخُصُّ عُمُومَهُ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ؛ فَالْقُرْآنُ آتٍ بِقَطْعِ كُلِّ سَارِقٍ؛ فَخَصَّتِ السُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَارِقَ النِّصَّابِ الْمُحْرَزِ2، وَأَتَى بِأَخْذِ الزَّكَاةِ من   1 بعدها في "د" وحدها: "فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السنة، وحسبك ... ". 2 الدليل على ما ذكر المصنف جملة من الأحاديث، نقتصر على الآتي: ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، وفي كم يقطع؟ 12/ 96/ رقم 6789، 6790، 6791"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1312/ رقم 1684" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، وفي رواية لمسلم: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا"، وهذا في النصاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ظَاهِرًا؛ فَخَصَّتْهُ بِأَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ1، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النِّسَاءِ: 24] ؛ فَأَخْرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا2؛ فَكُلُّ هَذَا تَرْكٌ لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَتَقْدِيمُ السُّنَّةِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِذَا تَعَارَضَا فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ: هَلْ يُقَدَّمُ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ، أَمْ بِالْعَكْسِ، أَمْ هُمَا مُتَعَارِضَانِ3؟   = وما أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 1710، 4390"، والنسائي في "المجتبى" "8/ 85"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1289"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 2596"، والدارقطني في "السنن" "4/ 381"، وأحمد في "المسند" "2/ 180، 203، 207"، والبيهقي في "الكبرى" " 8/ 278"، وغيرهم من حديث عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مرفوعًا، وفيه: "من سرق منه شيئًا بعد أن يئويه الجرين، فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع"، وفي رواية: "وليس في شيء من الثمر قطع؛ إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن؛ ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن؛ فقيه غرامة مثليه وجلدات نكالًا"، وإسناده صحيح، والجرين: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر، وهذا في الحرز، وهو الموضع الذي يحرز فيه الشيء لحفظ المال؛ كالدار، والحانوت، والخيمة، والخزانة، والصندوق، وما شابهه. وانظر تفصيل المسألة مع أدلتها في "دلائل الأحكام" لابن شداد "4/ 112-115 و119-122"، و"الإرواء" "8/ 67-68، 69/ رقم 2408، 2413"، و"أحكام السرقة في الشريعة" "ص58 وما بعدها، وص151 وما بعدها" لأحمد الكبيسي. 1 من مثل الإبل والغنم والبقر والذهب والورق، وتجد الأدلة على ذلك في الأصناف المستثناة في "دلائل الأحكام" "2/ 567 وما بعدها"، وفي سائر كتب أحاديث الأحكام مثل "النيل"، و"سبل السلام"، و"العمدة" مع "شروحها". 2 لما ثبت في "الصحيحين" من تحريم لذلك، وسيأتي تخريجه "ص383". 3 أي: فإن علم المتأخر منهما نسخ المتقدم، وإلا رجح أحدهما بما يصلح مرجحًا أو جمع بينهما إن أمكن وإلا أخذ بغيرهما، وقولهم: "لا معارضة بين ظني وقطعي" إنما يكون في المعارضة الحقيقة؛ أي: في المعقولات، أما في الشرعيات؛ فلا مانع لأنها في الواقع صورة معارضة فقط، أما المعارضة بمعنى التناقض ذي الوحدات الثمانية؛ فلا أثر لها في الأدلة الشرعية. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَا يُقَدَّمُ1 عَلَى كُلِّ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَا تَضْعُفُ فِي الدَّلَالَةِ عَنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ، وَأَخْبَارَ الْآحَادِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ مَعَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ2، وَتَأَوَّلُوا التَّقْدِيمَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الْبِدَايَةِ بِالْأَسْهَلِ الْأَقْرَبِ3، وَهُوَ الْكِتَابُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا؛ فَلَا وَجْهَ لِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ، بَلِ الْمُتَّبَعُ الدَّلِيلُ4. فَالْجَوَابُ: إِنَّ قَضَاءَ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ لَيْسَ بِمَعْنَى تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَاطِّرَاحِ الْكِتَابِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُعَبَّرَ فِي5 السُّنَّةِ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْكِتَابِ؛ فَكَأَنَّ السُّنَّةَ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لِمَعَانِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] ، فَإِذَا حَصَلَ بَيَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] بِأَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّ الْمَسْرُوقَ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، لَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ دُونَ الْكِتَابِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ لنا مالك أو غيره من المفسرين   1 فإن قطعي السند والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب؛ فقول: "لا تضعف" أي: بل قد تقدم كما ذكرنا، وقد يحصل التعارض إذا تساويا في قطعية السند والدلالة، ولذلك قالوا: إنه لم يبق من صور التعارض بينهما ما يرجح فيه الكتاب لسنده؛ إلا ما كان ظني الدلالة منه مع قطعي الدلالة منها مع ظنية ضدها. "د". 2 أي: في تقديم الكتاب عليهما أو تقديمها عليه أو تعارضهما. "د". 3 أي: تناولًا. "د". 4 أي: ما يتعين للدلالة منهما بطريق من طرق الترجيح المذكورة في بابه. "د". 5 في "ط": "بل على إن ذلك المفسر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ؛ فَلَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّا عَمِلْنَا بِقَوْلِ الْمُفَسِّرِ الْفُلَانِيِّ دُونَ أَنْ نَقُولَ عَمِلْنَا بِقَوْلِ اللَّهِ أَوْ قَوْلِ رَسُولِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَكَذَا سَائِرُ مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَعْنَى كَوْنِ السُّنَّةِ قَاضِيَةً عَلَى الكتاب أنها مبينة له؛ فلا يتوقف مَعَ إِجْمَالِهِ وَاحْتِمَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَا أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ1. وَأَمَّا خِلَافُ2 الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعَارُضِ؛ فَقَدْ مَرَّ3 فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا اسْتَنَدَ4 إِلَى قَاعِدَةٍ مَقْطُوعٍ بِهَا فَهُوَ فِي الْعَمَلِ مَقْبُولٌ، وَإِلَّا؛ فَالتَّوَقُّفُ، وَكَوْنُهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ جُزْئِيٌّ تَحْتَ مَعْنًى قُرْآنِيٍّ   1 انظر مناقشة هذا الكلام فيما مضى في التعليق على "ص298". 2 شروع في الجواب عن الإشكال الثاني، وهو قول بعض الأصوليين بتعارضهما إذا كان ظني الدلالة ولم يعلم تاريخهما؛ فلا يرجح أحدهما على الآخر بكونه كتابًا ولا بكونه سنة، بل إن لم يمكن الجمع بينهما رجح أحدهما بما يسوغ ترجيحه به إن أمكن، وإلا تركا. "د". 3 حيث قال في المسألة الثانية: "وإن كان ظنيًّا؛ فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر، وإلا وجب التثبت فيه"، وقال: "إن هذا المعتبر يرجع إلى أصل قرآني يكون بيانًا له، وإن عامة أخبار الآحاد بيان للقرآن، وذلك معنى رجوعه لأصل قطعي"، ومثله هناك بالأحاديث التي بينت صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج, والأحاديث التي بينت جملة من الربا ... إلخ, وأنت إذا تأملت وجدت أحاديث الطهارة والصلاة مثلًا وإن كانت شارحة ومفصلة لهذين النوعين من العبادة لا يقال فيها: إنها جزئيات لكلي قرآني إلا باعتبار ضعيف؛ لأنه بدأ بميامنه في الوضوء مثلًا جزئيته لآية الطهارة لا يجعله متعين القصد في الآية؛ إذ الطهارة كما تتحقق على هذه الصفة تتحقق بالبدء بالمياسر، وكذا رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لا تستلزمه آية: {أَقِيمُوا الصَّلاة} ، حتى يكون الخبران الواردان في هذين الجزئيين لهما حكم الجزئي الحقيقي الذي تكون معارضته لغيره معارضة محققة يصح نسبتها لأصله وكليه، ويترتب على ذلك أنه من معارضة قطعيين؛ فهذا كلام خطابي. "د". 4 في "ط": "أسند". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 كُلِّيٍّ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ هُنَالِكَ، فَإِذَا عَرَضْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَجَدْنَا الْمُعَارَضَةَ فِي الْآيَةِ، وَالْخَبَرِ مُعَارَضَةَ أَصْلَيْنِ قُرْآنِيَّيْنِ؛ فَيَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ مُعَارَضَةِ كِتَابٍ مَعَ سُنَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وُقُوعُ هَذَا التَّعَارُضِ إِلَّا مِنْ تَعَارُضِ قَطْعِيَّيْنِ1، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَسْتَنِدِ الْخَبَرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَطْعِيَّةٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ عَلَى2 الْخَبَرِ بِإِطْلَاقٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ3 مَا ذُكِرَ مِنْ تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا غَالِبُهُ فَرْضُ أَمْرٍ جَائِزٍ، وَلَعَلَّكَ4 لَا تَجِدُ فِي الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَقْضِي بِتَوَاتُرِهِ إِلَى زَمَانِ الْوَاقِعَةِ؛ فَالْبَحْثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ أَوْ فِي نَادِرِ الْوُقُوعِ، وَلَا كَبِيرَ جَدْوَى فِيهِ، وَاللَّهُ أعلم.   1 أي: وسيأتي الكلام فيه بعد. "د". وفي "ط": "لأنه من تعارض ... ". 2 كما تقدم في رد عائشة حديث: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" بآية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . "د". 3 هذا جواب الإشكال الثالث، وهو أن السنة أيضًا فيها قطعي السند؛ فلا تقل عن الكتاب في الدلالة. "د". 4 كأنه سلم الإشكال بالمتواترة على مسألته من تقديم الكتاب مطلقًا على السنة، ولكنه جعل أمره هينًا؛ لأنه إما أنه لا توجد سنة متواترة على شرط التواتر، يعني: يرويها من يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل طبقة إلى زمنه -صلى الله عليه وسلم- وإما أن يكون نادرًا لا يستحق البحث والاستشكال. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ رَاجِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا إِلَى الْكِتَابِ؛ فَهِيَ تَفْصِيلُ1 مُجْمَلِهِ، وَبَيَانُ2 مُشْكِلِهِ، وَبَسْطُ3 مُخْتَصَرِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لَهُ4، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 5 [النحل: 44] .   1 كالأحاديث المفصلة لمجمل: {أَقِيمُوا الصَّلاة} مثلًَا. "د". 2 كالأحاديث التي أوضحت الغرض من الآيات التي فهم منها الصحابة خلاف مقصودها، مثلًا آية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... } إلخ [التوبة: 34] ، لما نزلت كبر ذلك على الصحابة، فسألوا عنها؛ فقال عليه, الصلاة والسلام: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم". فكبّر عمر، وكالحديث الذي رفع عن الصحابة إشكال آية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] ، وبيانه أن المراد بالظلم الشرك كما في آية لقمان. "د". قلت: استشكالهم آية لقمان ورد في خبر صحيح وقد مضى تخريجه "3/ 402" أما قوله, صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة ... " إلخ أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 1664"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 408-409"، وهو في "السلسلة الضعيفة" لشيخنا الألباني "رقم 1319". 3 كما في آية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ؛ فقد بسط قصتها الحديث الذي أخرجه الخمسة، وشرح ما حصل فيها من النهي عن كلامهم، ثم النهي عن قربان نسائهم ... إلى آخر القصة. "د". قلت: وقصة الذين تخلفوا ثابتة صحيحة مضى تخريجها "2/ 270". 4 قوله: "وذلك لأنها بيان"؛ فهو يقصد به أن جميعها بيان فقط، ولا شيء منها بمستقل، كما يدل عليه قوله: "فلا تجد في السنة ... " إلخ، ثم إن هذا عين دعواه كما اعترف به أخيرًا حيث قال: "وذلك معنى كونها راجعة إليه"؛ فيكون هذا التعليل منه مصادرة؛ فكان عليه أن يستدل على الدعوى بالآية مباشرة، قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص520". 5 اعترض الشيخ عبد الغني عبد الخالق على هذا الاستدلال بالآية؛ فقال في "حجية السنة" "ص520-522": "وأما قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ؛ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 ...........................................................................   = فلا دلالة فيه على حصر علة إنزال الذكر في التبيين. سلمنا أنه يدل على هذا الحصر -على حد قول من يقول: إن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر- وأن معنى الآية: وما أنزلنا إليك الذكر "الكتاب" إلا تبين للناس ما نزل إليهم فيه من الأحكام، لكنه لا ينتج مطلوبه من أن وظيفة سنته -صلى الله عليه وسلم- البيان لما في الكتاب فقط، وأنه لا شيء منها بمستقل؛ إذ كل ما فهم من هذا الحصر أنه إنما أنزل الكتاب ليبينه -صلى الله عليه وسلم- للناس، لا ليهمل بيانه، ويترك الناس جاهلين بما فيه من الأحكام، وهذا لا ينفي أنه قد يستقل بسن أحكام لا نص عليها في الكتاب. مثلًا: إذا أعطيت مدرسًا كتابين وقلت له: لم أعطك الكتاب الأول إلا لتبينه لتلاميذك وتشرحه لهم؛ فهل معنى هذا القول أنك لم تعطه الثاني إلا ليبين به الأول، وأنه ليس في الثاني زيادة عما في الأول من القواعد، وإنما الذي فيه مجرد بسط قواعد الأول وشرحها؟ كلا. فما نحن فيه كذلك، أنزل الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وحيين: أحدهما متلو والآخر غير متلو، وقال له: لم أنزل عليك المتلو إلا لتبين للناس ما فيه من الأحكام، فهذا لا يقتضي أن يكون غير المتلو بيانًا للمتلو فقط، وأنه ليس فيه ما لم ينص عليه الأول. ولئن سلمنا أن الآية تفيد أن غير المتلو للبيان؛ فليس فيها ما يدل على أنه بيان لمجمل الكتاب فقط، فإن البيان في الآية معناه إظهار الحكم للناس، وتعريفهم به، سواء أكان ابتداء لم يسبق أن ذكر إجمالًا في كتاب ولا في سنة، أم لم يكن كذلك، و {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في الآية شامل للكتاب وغيره من أنواع الوحي، والذكر الكتاب فقط على الرأي المشهور، ومعنى الآية حينئذ: "وما أنزلنا إليك الكتاب المعجز للبشر؛ إلا ليكون دليلًا على صحة رسالتك، مذكرًا لهم بما يستحقونه من العقاب على مخالفة أحكام الله، ومن الثواب على امتثالها؛ فيمكنك حينئذ أن تظهر للناس جميع ما أنزل إليهم من أنواع الوحي استقلالًا أو بيانًا، ويكون إظهارك هذا حجة عليهم، حيث أثبتنا صحة رسالتك بهذا الذكر، وبشرناهم وأنذرناهم فيه"، هذا إن أريد بالذكر الكتاب. فإن أريد به العلم كما قاله بعض المفسرين؛ فالأمر ظاهر، إذ لا يكون خاصًّا بالكتاب، فالمعنى عليه "وأنزلنا إليك جميع أنواع الوحي لتبين ما فيها من الأحكام للناس، وتظهرها لهم". والبيان قد ورد في القرآن بمعنى مطلق الإظهار، ووصف به الكتاب نفسه في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين} [القصص: 2] ، وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ أَمْرًا إِلَّا وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ دَلَالَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً، وَأَيْضًا؛ فَكُلُّ مَا دَلَّ1 عَلَى أَنَّ القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها2؛   = الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . فليس في الآية دلالة على ما ذهب إليه المستدل، ولو فرض جدلًَا أن في الآية احتمالًا آخر يفيد مذهبه، ولم نهتد إليه؛ فماذا يفيده هذا الاحتمال، سواء أكان راجحًا أم مرجوحًا، والمسألة قطعية لا ينفع فيها مثل ذلك؟ ". 1 لم يستدل عليه في موضعه من مباحث الكتاب العزيز، بل قال: إنه "لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة". "د". 2 قوله: "إن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها"، فإن أراد بذلك أنه ذكر فيه جميع القواعد الإسلامية الأصلية، وذكر فيه جميع الأدلة التي يعتمد عليها المجتهدون في فهم الأحكام الفرعية، سواء أكانت هذه الأدلة مستقلة بإفادة حكم لم ينص عليه الكتاب، أم مبينة لحكم أجمله؛ فنحن نقول وتؤمن به، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولكن ماذا في ذلك: أيستلزم دعواه؟ كلا، وكل ما دل على ذلك من قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} ، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على تسليم أن ليس المراد به اللوح المحفوظ؛ فهو لا يدل على دعواه كذلك. وإن أراد بذلك أنه ذكر فيه كل حكم على سبيل الإجمال ونص عليه؛ فهذا لا نسلمه إذ الواقع يكذبه، والآيات التي ذكرها يجب حملها على خلاف ذلك، وإلا كانت كاذبة، على أنا لو أخذنا بظاهرها وسلمنا صحة ذلك جدلًا؛ لكانت دليلًا على أن القرآن كلية الشريعة، بمعنى أنه احتوى على كل حكم إجمالًا وتفصيلًا، ونص على ذلك كله، ولم يكن لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيان، ولا استقلال، أتقول أنت بذلك؟ كلا، فما الذي تقوله في الخروج من هذا الإشكال؟ ألست ستقول: إن القرآن احتوى على التفاصيل بمعنى أنه بين بيانًا شافيًا أن السنة حجة فيها؟ فهذا الذي تقوله في التفاصيل هو ما قلناه نحن في غيرها. فإن قلت: إني أتخلص من ذلك بأن أقول: إن القرآن قد اشتمل على كليات هذه التفاصيل؛ قلنا: سلمنا لك جدلًا أنه اشتمل على هذه الكليات، وأن التفاصيل في الواقع مندرجة فيها، ولكن أيمكنك أنت وغيرك ممن هو أعلى منك عقلًا وفهمًا وإدراكًا لمعاني القرآن أن تستنبطوا جميع هذه التفاصيل من تلك الكليات؟ إن قلت نعم؛ فأنت مكابر، ولا يصح معك الكلام، وإن = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ1: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] .   = قلت لا؛ قلنا لك: أفيصح حينئذ أن يقال: إن القرآن تبيان لهذه التفاصيل التي لا يمكن لمجتهد من هذه الأمة أن يدركها منه، مع أن كلمة "تبيان" تدل على منتهى الإظهار والإيضاح؟ لا يصح ذلك، فدل على أن تأويلك هذا غير صحيح. على أنا لو سلمنا لك أنه يمكنك أو يمكن غيرك إدراك هذه التفاصيل؛ أفلا نجد أنفسنا قائلين حينئذ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مبين أيضًا، كما هو غير مستقل؟ فإنا على هذا الفرض نفهم جميع الأحكام إجمالًا وتفصيلًا؛ فلا داعي لتأسيس الرسول بالبيان، ولا بالاستقلال، ولكنا نقول بالاتفاق: إنه مبين ابتداء ومؤسس لهذه التفاصيل، لا مؤكد لها. فإن قلت: إني أقول: إننا لا يمكننا إدراكها، ولكن صح وصف القرآن بأنه تبيان لها بالنظر إلى الواقع، وصح وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه مبين لها ابتداء ومؤسس لهال بالنظر إلى عقولنا؛ قلنا: فكذلك نحن نقول: إن الأحكام التي استقلت بها السنة ولم يرد في القرآن نص عليها يمكننا أن ندركها منه، بوصف الرسول بأنه مؤسس لها ابتداء بالنظر إلى الظاهر، وإن كانت في الواقع مندرجة تحت كليات القرآن، ومحل النزاع هو النص بحيث يمكن الفهم منه للمجتهدين، لا الاندراج في الواقع ولو لم يمكن الفهم؛ إذ ما قيمة هذا الاندراج بالنسبة للمجتهد الذي يريد أن يستنبط. وبالجملة؛ فأفعال الصلاة، وميراث الجدة لم ينص عليهما القرآن نصًّا يمكن لعقولنا أن تفهمهما منه، ووصف القرآن بأنه تبيان لهما وكل منهما أسسه النبي -صلى الله عليه وسلم- في عقولنا ابتداء، كل ما في الأمر أن هذا التأسيس بالنظر لأفعال الصلاة نسميه بيانًا في الاصطلاح؛ لأن حكم الصلاة منصوص عليه في القرآن مجملًا، وبالنظر لميراث الجدة لا يسمى بيانًا؛ لأنه لم ينص عليه مطلقًا، بل نسميه استقلالًا. فإن جعلت قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} مبطلًا لتأسيس ميراث الجدة من ناحية الإجمال؛ وجب القول بأنه مبطل لتأسيس حكم أفعال الصلاة وتفاصيلها، ولا يصح أن يقال لفعله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه مؤكد فقط، بل لا يقال له مؤكد أيضًا؛ إذ التأكيد فرع الصلاحية للتأسيس، ولم يقل أحد من المسلمين عامة بشيء من ذلك. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص522-524". وفي "ط": "وينبوع الملة". 1 في نسختي "ف" و"م": " ... ذلك وقال"، وفي "ط": "ولأن الله قال". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ خُلُقَهُ1 الْقُرْآنُ2، وَاقْتَصَرَتْ فِي خُلُقِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَإِقْرَارَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْخُلُقَ مَحْصُورٌ3 فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ حَاصِلَةً فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوَّلُ4 مَا فِي الكتاب، ومثله قوله:   1 وخلق الشخص ما تنشأ عنه أفعاله بسهولة؛ فأفعاله -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وسائر شأنه صادر عن القرآن، والأفعال وما معها هي ما تطلق عليه السنة. "د". 2 الحديث صحيح، ومضى تخريجه "2/ 332"، ورد الشيخ عبد الغني عبد الخالق على المصنف بقوله: "وأما قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} ؛ فنعم الوصف ونعم الموصوف به -صلى الله عليه وسلم- وكرم وعظم، وهل من شك في ذلك، وأما تفسير عائشة -رضي الله عنها- فهو موقوف عليها فليس بحجة، سلمنا أنه حجة، وسلمنا أنه يفيد الحصر؛ فمفهومه أن خلقه وما يصدر عنه من الأفعال لا يخالف القرآن، هذا هو الذي يفيده الحصر، وليس فيه تعرض لما سكت عنه القرآن. سلمنا أنه تعرض له، لكنه تعرض له في المنطوق على وجه الإثبات، لا في المفهوم على وجه النفي، كما يقصده الخصم؛ فإن ما يصدر عنه وسكت القرآن عن النص على حكمه قد أمره الله تعالى بتبليغه واتباعه في القرآن نفسه؛ فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] , وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106] ، وهذا عام يشمل المتلو وغيره، المؤكد والمبين والمستقل؛ فدل ذلك على أن خلقه الذي نشأ عنه المحافظة على تبليغ غير المتلو إذا كان مستقلًَا وعلى اتباعه مطابق للقرآن وموافق له؛ فهو داخل في منطوق الحصر". انظر: "حجية السنة" "ص524-525". 3 أي: بمقتضى الجملة المعرفة الطرفين في كلامها، أو أثر الخلق مطلقًا لا يخرج عنها. "د". 4 يعني: أن القرآن وإن اشتمل على علوم خمسة كما تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابعة من الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل في العلوم المضافة للقرآن؛ فإن أول ما يعنى به هو الأمر والنهي، أي: التكاليف الشرعية اعتقادية وعملية، وأهم ما في السنة بيان التكاليف وتفاصيلها؛ فتكون السنة حاصلة في القرآن على وجه الإجمال، ولو قال بدله: "لأنها لا تخرج عن كونها بيانًا للأشياء الداخلة تحت قوله كل شيء"؛ لكان أوضح في غرضه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ 1 مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] . وَقَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] . وَهُوَ يُرِيدُ2 بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ فَالسُّنَّةُ إِذًا فِي مَحْصُولِ الْأَمْرِ بَيَانٌ لِمَا فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ. وَأَيْضًا؛ فَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ3 دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ4 بِحَوْلِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ السُّنَّةَ راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب   1 أي القرآن، على رأي، والرأي الآخر أنه اللوح المحفوظ. "د". 2 هذا من تمام الدليل؛ لأنه لو كان المراد أنه أكمل الدين بما نزل من القرآن وما ورد من السنة؛ لم يتم الدليل، ومعلوم أنه عاش عليه السلام بعد نزول هذه الآية نحو ثمانين يومًا لم تخل من سنة قولية وفعلية، وهو يعين هذا المراد. "د". قلت: معنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، كما قال البيضاوي وغيره أنه أكمل الدين بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو أكمله بالقرآن كما يقول المستدل، بواسطة التنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ومن ذلك التوقيف على أن السنة بجميع أنواعها حجة، ومنها المستقل في التشريع. وليس معنى الآية أنه أكمله بالقرآن بواسطة النص على كل حكم جاء في السنة؛ إذ لو كان كذلك لوجب أن يكون مشتملًا على التفاصيل لأن ذكر الأحكام مجملة لا يقال: إنه على وجه الكمال، حيث إن الكمال لا يتحقق كما يزعم الخصم إلا من النص على الحكم، وبالجملة، فالكلام ههنا كالكلام في قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} . انظر: "حجية السنة" "ص525". 3 بل الاستقراء المذكور غير تام، وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين، وكلام العلماء الأعلام في المسألة تدل على خلاف زعم المصنف، وانظر: "حجية السنة" "ص525-526". 4 أي: في المسألة الرابعة، وأما الاستقراء المذكور في الإشكال الثالث في هذه المسألة؛ فهو معارضة للاستقراء المستدل به هنا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 التَّوَقُّفُ1 عَنْ قَبُولِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ كَافٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ أَوْجُهٍ2: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 65] . وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلزُّبَيْرِ3 بِالسَّقْيِ قَبْلَ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ شِرَاجِ الْحَرَّةِ4 -الْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي "الْمُوَطَّأِ"5- وَذَلِكَ لَيْسَ فِي كتاب الله تعالى.   1 أي: إذا كانت لا تعارض أصلًا قطعيًّا في الكتاب، ولا يشهد لها منها أصل قطعي، أما إذا عارضها أصل قطعي؛ فمردودة. "د". قلت: بينا ما في استدلاله هذا من أمور فيما مضى؛ فارجع إليه إن شئت. 2 في "ط": "وجوه". 3 حيث خاصمه الأنصاري إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "اسق يا زبير، وأرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري، وقال: إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي -عليه السلام- وقال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر". فطلب -صلى الله عليه وسلم- من الزبير أولًا التسامح مع جاره بالاكتفاء بأقل درجة في السقي، فلما لم يفهم الأنصاري ذلك، وحمله محملًا سيئًا؛ استوفى -صلى الله عليه وسلم- للزبير حقه الشرعي، وهو أن للأعلى حبس الماء عن الأسفل حتى يسقي سقيًا تامًّا. "د". قلت: انظر تخريجه في الهامش بعد الآتي. 4 في "د": "الجرة" بالجيم، والصواب بالحاء. وكتب "ف" هنا: "الشراج: مجاري الماء من الحرار إلى السهل، واحدها شرج؛ بالفتح، والتسكين" ا. هـ مختصرًا. 5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار، 5/ 34/ رقم 2359، 2360، وكتاب التفسير، باب {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} ، 8/ 254/ رقم 4585"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه, صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357" عن عبد الله بن الزبير، ومضى تخريجه "2/ 285"، وتجد هناك كلامًا أوعب، والله الهادي. والحديث ليس في "الموطأ" برواياته الخمس المطبوعة بين أيدينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 ثُمَّ جَاءَ1 فِي عَدَمِ الرِّضَى بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ مَا جَاءَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النِّسَاءِ: 59] . وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى الْكِتَابِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ2 بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [الْمَائِدَةِ: 92] . وَسَائِرُ مَا قُرِنَ فِيهِ طَاعَةُ الرَّسُولِ بِطَاعَةِ اللَّهِ؛ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فِي كِتَابِهِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ3؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ لَكَانَ مِنْ طَاعَةِ الله4.   1 أي: في الآية السابقة، من عد ذلك خروجًا عن الإيمان، يعني: فالكتاب شهد للسنة بالاعتبار في موضوع ليس في القرآن. "د". 2 قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 49-50/ ط طه سعد": "أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد مماته". 3 هذا الحصر لا نقرك عليه، بل نقول: إن طاعة الرسول امتثاله في جميع ما أمر به ونهى عنه، مبينًا كان أو مؤكدًا أو مستقلًّا؛ فالآية شاملة لهذه الأنواع كلها، كل ما في الأمر أن امتثال المستقل في بادئ الرأي أظهر دخولًا في طاعة الرسول، حيث إنه يحقق الانفراد في ظاهر الأمر دون البيان؛ لأنه عين المراد من المبين، فامتثاله امتثال لذاك، ودون المؤكد كذلك، ولا يضرنا اشتراك الطاعتين في بعض الأنواع؛ إذ المهم لنا شمول طاعة الرسول للمستقل من سنته، على أنك إذا تأملت وجدت أن طاعة الرسول في جميع الأنواع مستلزمة لطاعته تعالى، ونمنع لك الحصر أيضًا في قولك: "وذلك السنة التي لم تأت في القرآن". قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص510-511". 4 أي: فإفراد الرسول بطاعة غير طاعة الله يدل على تباين المطاع فيه لكان منهما. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الْآيَةَ [النُّورِ: 63] . فَقَدِ اخْتُصَّ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِشَيْءٍ يُطَاعُ فِيهِ، وَذَلِكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 80] . وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] . وَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى؛ فَهُوَ لَاحِقٌ فِي الْحُكْمِ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ1. وَالثَّانِي: الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَمِّ2 تَرْكِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَا فِي السُّنَّةِ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ لَمَا كَانَتِ السُّنَّةُ مَتْرُوكَةٌ عَلَى حَالٍ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: "يُوشِكُ بِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ؛ أَلَا مَنْ بَلَغَهُ عَنِّي حَدِيثٌ فَكَذَّبَ بِهِ؛ فَقَدْ كَذَّبَ الله ورسوله والذي حدثه" 3.   1 إن أردت بالزيادة الاستقلال فقط؛ فلا نقول به نحن، وإن أردت ما يشمل الاستقلال والبيان؛ فهو حق. انظر: "حجية السنة" "ص511". 2 لو صاغ هذا الإشكال في صورة أخرى كأن يقول: الأحاديث الدالة على أن الشريعة تتكون من الأصلين معًا: الكتاب والسنة وأن في السنة ما ليس في الكتاب، وأنه يجب الأخذ بما في السنة من الأحكام كما يؤخذ بما في الكتاب, لو فعل ذلك؛ لكان مع كونه في ذاته وجيهًا موافقًا لقوله بعد: "وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا ليس في الكتاب"، ولكان مغايرًا تمام المغايرة للإشكال الرابع الذي لا يخرج في محصوله عن الثاني إلا بتكلف لا حاجة إليه. "د". 3 أخرجه آدم بن أبي إياس في "العلم" -ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" "ص73"- والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 90"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 183/ رقم 2340"، و"التمهيد" "1/ 152" من طريق بقية بن الوليد عن محفوظ بن مسور عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعًا به. وإسناده ضعيف جدًّا، بقية مدلس وقد عنعن، ولا ينفعه تصريحه بالسماع في رواية آدم؛ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ عَنِّي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حرمناه، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلُ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرَى مِمَّا أَمَرْتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ" 2. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ المرأة على عمتها أو [على] خالتها،   = لأن من بعده لم يصرح بالسماع، ومحفوظ ترجمه الذهبي في "الميزان" "3/ 444"، وقال: "عن ابن المنكدر بخبر منكر"، وقال: "لا يدرى من ذا؟ "، وعزاه الهيثمي في "المجمع" "1/ 149" للطبراني في "الأوسط"، وله طرق أخرى عن جابر لا تخلو من ضعف، فأخرجه أبو يعلى في "مسنده" "1813"، والخطيب في "الكفاية" "10"، والهروي في "ذم الكلام" "ص72" من طريق يزيد الرقاشي والخطيب في "الكفاية" "11" من طريق عباد بن كثير -وكلاهما ضعيف- عن أنس. ولعل الصواب ما عند الشافعي في "الرسالة" "90، 404", ومن طريقه الحميدي في "المسند" "1/ 255"، ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "1/ 108-109"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1184/ رقم 2341" عن ابن المنكدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وكذا ورد مرسلًا عن ابن المنكدر عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع مرسلًا، كما عند الآجري في "الشريعة" "ص50". ويغني عنه ما مضى "ص190". وهو صحيح بتعدد طرقه. 1 مضى تخريجه "ص191"، وهو لفظ حديث معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد. 2 مضى تخريجه مفصلًا "ص190"، وهذا لفظ حديث الحميدي، وهو من مرسل ابن المنكدر، وهو صحيح بتعدد طرقه وشواهده؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد. وفي "د": "بما أمرت ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ1، وَالْعَقْلِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَهُوَ2 الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ [حَيْثُ قَالَ فِيهِ: "مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ"3. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ] 4 أَنَّهُ خَطَبَ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ؛ فَقَالَ: "وَاللَّهِ؛ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. فَنَشَرَهَا؛ فَإِذَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ5، وَإِذَا فِيهَا: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرَ إِلَى كَذَا6، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا7. وَإِذَا فِيهَا: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أخفر مسلمًا8؛   1 تقدم تخريج الأحاديث في تحريم هذه المحرمات "3/ 372". 2 الضمير راجع إلى الأمثلة الثلاثة الأخيرة. "د". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب كتابة العلم، 1/ 204/ رقم 111" بسنده إلى أبي جحيفة؛ قال: "قلت لعلي: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا؛ إِلَّا كِتَابُ الله .... به"، وتتمته: "قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر". وأخرجه أيضًا بنحوه في "كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير، 6/ 167/ رقم 3047، وكتاب الديات، باب العاقلة، 12/ 246/ رقم 6903، وباب لا يقتل المسلم بالكافر، 12/ 260/ رقم 6915". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 5 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "فإذا فيها". 6 بفتح فسكون: جبل بالمدينة. "ف". 7 الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، وقيل: الصرف النافلة، والعدل الفريضة، وقيل: الصرف الحيلة، ومنه قيل: فلان يتصرف أي: يحتال، وقوله تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان: 19] معناه: لا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ولا أن ينصروا أنفسهم. "ف". 8 أي: نقض عهده وغدره، والخفارة, مثلثة: الذمة وانتهاكها إخفار، والهمزة فيه للإزالة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَإِذَا فِيهَا: مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا"1. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: تَرَكَ الْكِتَابُ مَوْضِعًا لِلسُّنَّةِ، وَتَرَكَتِ السُّنَّةُ مَوْضِعًا لِلْقُرْآنِ3. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الِاقْتِصَارَ4 عَلَى الْكِتَابِ رَأْيُ قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ، خَارِجِينَ عَنِ   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، 4/ 81/ رقم 1870 وكتاب الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة، 6/ 273/ رقم 3172، وكتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، 12/ 41-42/ رقم 6755، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 275-276/ رقم 7300" -والمذكور عند المصنف لفظ البخاري في هذا الموطن- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 994-998/ رقم 1370". قال "د": "ويبقى النظر في حصر ما عندهم في الأمور المذكورة مع سعة علمهم وكثرة استنباطهم، وقد ثبت عن علي -رضي الله عنه- كثير مما ليس في الصحيفة، والظاهر -كما قال في "فتح الباري"- أنه ليس المراد حصر ما علموه بل ما كتبوه، كما قال: "والله؛ ماعندنا كتاب نقرؤه"؛ فتحمل عليها الرواية الأولى، وهي قوله: "والله ما عندنا إلا كذا"، غير أن هذا الجواب يتوقف على ثبوت أن عليًّا -رضي الله عنه- كان يكتب ما يستنبطه هو من القرآن". 2 مضى تخريجه "ص298". 3 في "ط": "للرأي" ولعله الصواب. 4 ليس في الدعوى التي هي رأس المسألة هذا الاقتصار المذموم، إنما فيها أنك لا تجد في السنة أمرًا إلا والكتاب دل عليه إجمالًا أو تفصيلًا، ولا تلازم بين القول بهذا واطراح بعضهم للسنة، ولا يلزم من كون بنائهم فاسدًا أن يكون المبني عليه فاسدًا؛ فما أطال به في هذا الوجه وما رتبه عليه في قوله: "هذا مما يلزم القائل: إن السنة راجعة إلى الكتاب" هو كما ترى. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 السُّنَّةِ؛ إِذْ عَوَّلُوا عَلَى مَا بَنَيْتَ عَلَيْهِ من أن الكتاب فيه بيان كل شئ، فَاطَّرَحُوا أَحْكَامَ السُّنَّةِ فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِانْخِلَاعِ عَنِ الْجَمَاعَةِ1 وَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَانِ: الْقُرْآنُ، وَاللَّبَنُ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ؛ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ لِيُجَادِلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا اللَّبَنُ؛ فيتبعون الريف، يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات"2.   1 التاريخ يعيد نفسه، وفي مطلع هذا القرن هناك جهود كثيرة سلكت سبيل هدم السنة والتنكر لها؛ منها: "أضواء على السنة المحمدية" لمحمود أبو رية، و"الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها" للسيد صالح أبو بكر، وقامت جهود خطيرة في شبه القارة الهندية لإنكار السنة، من أفظعها وأخطرها ما قام به غلام أحمد برويز إذ أسس طائفة في الباكستان قائمة على هذه الفكرة الباطلة، وهنالك جهود كثيرة في الرد على هؤلاء وكشف فضائحهم وبواطيلهم، من أشهرها: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" لمصطفى السباعي، و"دراسات في الحديث النبوي" لمحمد الأعظمي، و"الأنوار الكاشفة" للمعلمي اليماني، و"حجية السنة" لعبد الغني عبد الخالق، و"دفاع عن السنة" لمحمد أبو شهبة، و"السنة المفترى عليها" للبهنساوي، و"موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي" لمحمد بن إسماعيل السلفي، و"زوابع في وجه السنة قديمًا وحديثًا" لصلاح مقبول. 2 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 156"، والطبراني في "الكبير" "17/ 296-297/ رقم 818"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1201/ رقم 2362" من طريق أبي السمح ثنا أبو قبيل عن عقبة بن عامر به مرفوعًا. وإسناده ضعيف، أبو السمح اسمه دراج بن سمعان، صدوق في حديثه؛ إلا أنه توبع؛ فقد تابعه جماعة منهم: أولًا: عبد الله بن لهيعة، أخرجه من طرق عنه، ومن بينها طريق عبد الله بن يزيد المقرئ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ؛ فَخُذُوهُمْ بِالْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ"1. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وجدال المنافق   = عن ابن لهيعة عن أبي قبيل به: أحمد في "المسند" "4/ 146، 155، 156"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 285/ رقم 1746"، والطبراني في "الكبير" "17/ 296/ رقم 816"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1199/ رقم 2359". ثانيًا: الليث بن سعد, أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "17/ 295-296/ رقم 815", وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1201/ رقم 2361". ثالثًا: مالك بن الخير الزبادي، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "17/ 296". ومدار هذه الطرق على أبي قبيل وهو حيي بن هانئ المعافري، وثقه أحمد وابن معين والفسوي وأبو زرعة وأحمد بن صالح والعجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "يخطئ"، وذكره الساجي في "الضعفاء"، فحديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن، ولم يسمع من عقبة إلا هذا الحديث كما في "مجمع الزوائد" "2/ 194". وقد توبع أبو قبيل؛ فأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 155" من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة، ورجاله ثقات؛ فصح الحديث إن شاء الله تعالى. 1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 49"، والآجري في "الشريعة" "ص48، 52، 74"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 83، 84، 790"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 123"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 7 و8"، والأصبهاني في "الحجة" "1/ 205، 312"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1010/ رقم 1927"، والهروي في "ذم الكلام" "ص68"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 180، 181، 182"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 119"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 213"، وابن النجار؛ كما في "كنز العمال" "1/ 375" من طرق بألفاظ متقاربة، وهو صحيح، وشبهات القرآن متشابهاته؛ إذ ليس في القرآن شبه. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 54، 55"، وذكر هذا الأثر وغيره في ذم الرأي عن عمر: "وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 بِالْقُرْآنِ"1. وَعَنْ عُمَرَ: "ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ"2. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"3. وَعَنْ عُمَرَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَرَجُلٌ يُنَافِسُ الْمُلْكَ عَلَى أَخِيهِ"4. وَهُنَا آثَارٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ مَعَ طَرْحِ5 السُّنَنِ وَعَلَيْهِ حَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا؛ فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ علم؛ فضلوا   1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1868" بسند رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي الدرداء -رضي الله عنه- وفي نسختي "ف" و"م": "وجدل" بدل "وجدال". 2 ورد من طرق عنه، وبعضها صحيح، وقد مضى تخريجه "ص89". وفي الأصل و"ط": "زيغة" بدل "زلة". 3 مضى تخريجه "ص280"، وهو صحيح. 4 مضى تخريجه "ص280". 5 بالتأمل في هذه الآثار لا تجدها تفيده في غرضه من الإشكال بوجود شيء في السنة ليس في الكتاب، بل ربما أنتجت العكس، وهو أن هذه السنة إنما تتكلم في موضوعات من الكتاب؛ فيجب أن يبين الكتاب بها، ولا تهمل وتطرح، ويعمد إلى فهم الكتاب بالرأي؛ فهذا الإشكال الرابع ضعيف من وجوه كثيرة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وَأَضَلُّوا" 1، وَمَا فِي مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ هَكَذَا فَعَلُوا، اطَّرَحُوا الْأَحَادِيثَ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ؛ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا. وَرُبَّمَا ذَكَرُوا حَدِيثًا يُعْطِي أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: "مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَإِنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ أَنَا، وَكَيْفَ أُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَبِهِ هَدَانِي الله؟ " 2.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص, رضي الله عنهما. 2 ورد من حديث جماعة، منهم: أبو هريرة وثوبان وابن عمر وعلي وجبير بن مطعم ومن مرسل الحسن. أما حديث ثوبان؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 97/ رقم 1429". وأما حديث ابن عمر؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 316/ رقم 13224"، وابن بطة في "الإبانة" "102"، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الوضين بن عطاء سيئ الحفظ، وفيه مجاهيل. وأما حديث أبي هريرة؛ فله ألفاظ تجدها في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1083، 1084، 1085، 1086", وسيأتي أحدها قريبًا "ص337". وأما حديث علي, فأخرجه الدارقطني في"السنن" "4/ 208-209", والهروي في "ذم الكلام" "ص170" من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم بن زر بن حبيش عن علي مرفوعًا، قال الدارقطني عقبه: "هذا وهم، والصواب عن عاصم بن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي, صلى الله عليه وسلم". وأما حديث جبير؛ فأخرجه الخطيب في "الكفاية" "430"، وفيه سليم بن مسلم المكي، قال ابن معين: "جهمي خبيث"، وتركه النسائي، وقال أحمد: "لا يساوي حديثه شيئًا". وأما مرسل الحسن؛ فأخرجه الهروي في "ذم الكلام" "ص170"، وفيه صالح المري، تركه النسائي وغيره. وجميع هذه الأحاديث ليست بصحيحة، ولا تخلو من كذاب أو متهم أو متروك أو مجهول؛ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 ...........................................................................   = كما تراه في "اللآلئ المصنوعة" "1/ 213 وما بعدها"، و"تنزيه الشريعة" "1/ 264 وما بعدها". وقد ظفرت بكلمات سمان فخام لجماعة من الأئمة الأعلام، فيها حكم على هذه الأحاديث، منها: - ما قاله عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث"، ذكره عنه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1191/ رقم 2347". - ما ساقه المصنف بعد قوله: "قالوا: وهذه الألفاظ ... إلخ". - الساجي، نقل عنه ابن بطة في "الإبانة" "1/ 266-267" قوله: "هذا حديث موضوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وبلغني عن علي بن المديني أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث". - ووافقهم ابن بطة بقوله: "وصدق ابن الساجي وابن المديني -رحمهما الله- لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح والسنة الماضية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترده، قال الله, عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، والذي أمرنا الله -عز وجل- أن نسمع ونطيع، ولا نضرب لمقالته -عليه السلام- المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية". - ولابن حزم كلام متين في رد هذه الأحاديث، وذلك في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" "2/ 76-82"، ومما قاله فيه: "إنه لا يقول هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق، إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء، وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل يجوز عليهم مثل هذه البلايا؛ لشدة غفلتهم، وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير". - الشافعي قال في "الرسالة" "ص225": "ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء، صغر ولا كبر". - البيهقي قال في "المدخل إلى دلائل النبوة" "1/ 27": "الحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح"، قال: "وهو ينعكس على نفسه بالبطلان؛ فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن". وانظر: "تذكرة المحتاج" "ص27-31" لابن الملقن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 قال عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ: "الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ". قَالُوا1: "وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تَصِحُّ2 عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِصَحِيحِ النَّقْلِ مِنْ سَقِيمِهِ، وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْمٌ3؛ فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُهُ4 عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَنَعْتَمِدُ5 عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فَلَمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ وَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لَا نَقْبَلَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ وَجَدْنَا كِتَابَ اللَّهِ يُطْلِقُ التَّأَسِّيَ بِهِ، وَالْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ، وَيُحَذِّرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ جُمْلَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ". هَذَا6 مِمَّا يُلْزِمُ الْقَائِلَ: إِنَّ السُّنَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَلَقَدْ ضَلَّتْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ؛ فَالْقَوْلُ بِهَا وَالْمَيْلُ إِلَيْهَا مَيْلٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى خلاف ما تقدم. أما الوجه الْأُوَلُ؛ فَلِأَنَّا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الْكِتَابِ احْتِمَالٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَتُبَيِّنُ السُّنَّةُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِذَا عَمِلَ الْمُكَلَّفُ عَلَى وَفْقِ الْبَيَانِ؛ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ، وَأَطَاعَ رَسُولَهُ فِي مُقْتَضَى بَيَانِهِ، وَلَوْ عَمِلَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَيَانِ؛ عَصَى اللَّهَ تعالى في   1 ما سبق نقله عن ابن مهدي وما يأتي بعد: "قالوا" من كلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1191". 2 لأنها سقيمة التركيب بعيدة عن أسلوبه البارع, صلى الله عليه وسلم. "د". 3 في مطبوع "الجامع" زيادة: "من أهل العلم". 4 في مطبوع "الجامع": "نعرض هذا الحديث". 5 فهي معارضة بالقلب، بنفس دليل الخصم. "د". 6 أي: ما ذكر في الإشكال الرابع من مضاهاة أقوال الخارجين عن السنة والأخذ بما وضعه الزنادقة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 عَمَلِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَيَانِ؛ إِذْ صَارَ عَمَلُهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ، وَعَصَى رَسُولَهُ فِي مُقْتَضَى بَيَانِهِ؛ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِفْرَادِ الطَّاعَتَيْنِ تَبَايُنُ الْمُطَاعِ فِيهِ بِإِطْلَاقٍ1، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي السُّنَّةِ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ2، بَلْ قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْمَعْنَى، وَيَقَعُ الْعِصْيَانَانِ وَالطَّاعَتَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا مُحَالَ فِيهِ.   1 ما مرادك بقولك: "إن السنة بيان للكتاب ... "، فإن أردت به أن جميع السنة بيان له، فهذا ما نتنازع فيه، ولا يمكنك بحال إثباته، وسنبطل شبهك، وسائر تكلفاتك في إرجاع المستقل إلى المبين؛ فالواقع أن بعض السنة بيان وبعضها مستقل، كما سنبينه في المسألة الثالثة، وإذا كان الواقع كذلك؛ كانت الآية شاملة لكل منهما، إلا إذا أخرج بعضه الدليل، ولا دليل، وعلى هذا لا يصح لك أن تبني ردك على خطأ مخالف للواقع، وإن أردت به أن بعض السنة بيان له، فهذا مسلم، ونعفيك أيضًا من محاولتك إدخال امتثال هذا النوع في طاعة الرسول، فإنا لم نقل بعدم شمولها له، بل أنت الذي فعلت ذلك في تقريرك لدليلنا؛ فلتوجه الاعتراض إلى نفسك لا إلينا، وحاول إقناع نفسك بما ذكرت. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص511". 2 إن أردت بقولك: ما في السنة جميعها, فنحن لم نقل: إن الآيات تدل على أن جميعها ليس في الكتاب, بل نقول: إن بعضها مستقل وبعضها مبين، والآيات شاملة للنوعين، وإنما أنت الذي قلت ذلك في التقرير الذي تبرعت به. وإن أردت بما في السنة بعض ما في السنة؛ منعنا لك الشرطية؛ إذ لا يلزم من عدم لزوم تباين المطاع فيه بإطلاق لإفراد الطاعتين خروج الطاعتين المتباينتين بإطلاق من الآية، وبعبارة أخرى: لا يلزم من إدخال امتثال السنة المبينة في طاعة الرسول خروج امتثال السنة المستقلة، مع أنها الأصل في الدخول على ما هو الظاهر، ومع وجودها في الواقع؛ فالآية لا زالت شاملة، وإذا أردت أن تخرجها؛ فعليك بالدليل. وإن كنت تريد أن تقول: إن هذه الآيات لا تدل على وجود النوع المستقل في الواقع؛ فهذا مسلم لك، ولكنا إنما نستدل بها على حجيته ولو على فرض وجوده، وأما هذا الوجود؛ فسنثبته في المسألة الثالثة بغير هذه الآيات، ويثبته أيضًا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} الآية. انظر: "حجية السنة" "ص511-512". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي وُجُودِ1 مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الْقُرْآنِ، يَأْتِي عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِي السُّؤَالِ: "فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ" مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الزَّائِدَ؛ هَلْ هُوَ زِيَادَةُ الشَّرْحِ عَلَى الْمَشْرُوحِ إِذْ كَانَ لِلشَّرْحِ2 بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْمَشْرُوحِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْحًا، أَمْ هُوَ زِيَادَةُ مَعْنًى آخَرَ لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ3؟ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَتَنَزَّلُ4 الْوَجْهُ الثَّانِي. وَأَيْضًا؛ فَإِذَا5 كَانَ الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ إِجْمَالِيًّا وَهُوَ فِي السُّنَّةِ تَفْصِيلِيٌّ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ إِيَّاهُ؛ فَقَوْلُهُ: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} أَجْمَلَ فِيهِ مَعْنَى الصَّلَاةِ، وَبَيَّنَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-, فَظَهَرَ مِنَ الْبَيَانِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُبَيَّنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْبَيَانِ هُوَ مَعْنَى الْمُبَيَّنِ6، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ يَخْتَلِفَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ فِي الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ التَّوَقُّفُ، وَفِي الْبَيَانِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَا حُكْمًا صَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا مَعْنًى؛ فاعتبرت7 السنة اعتبار المفرد عن الكتاب.   1 يعني: أين يوجد في القرآن ذلك الحكم الذي قضى به للزبير ولو إجمالًا أو احتمالًا؟ وقد أحال جوابه على المسألة الرابعة، كما أحال عليها الجواب عن الإشكال الثالث. "د". 2 في نسختي "ف" و"م": "في الشرح". 3 إنا لا نريد واحدًا بخصوصه كما علمت، بل يكفينا الشمول للاثنين، كما تدل عليه الآيات، فإن زعمت القصر على الشرح؛ فعليك بالدليل، ولا يصح أن يقال: إن شمول الدليل للمدعي محل النزاع، بل محل النزاع هو نفس المدعى. انظر: "حجية السنة" "ص512". 4 أي فيقال: قولكم "لما كانت السنة متروكة على حال" غير مسلّم، بل تكون متروكة لأنه لم يلتفت إلى ما فيها من البيان للمعنى الذي اشتمل عليه الكتاب. "د". 5 في الأصل: "وإذًا فإذا". 6 في "ط": "معنى المبين هو معنى البيان". 7 جواب عما يقال: إن ما أجيب به عن الأول لا يظهر في الثاني لا سيما الأحاديث الثلاثة الظاهرة في التغاير، وأنها فيما اشتملت عليه السنة مما لم يوجد أصله في القرآن، كما هو الظاهر من قوله, عليه السلام: "أوتيت القرآن ومثله معه"، وقوله: "وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله"؛ فهو يقول: لما اختلفا حكمًا اعتبرت السنة مفردة عن الكتاب؛ فصح فيها التعبير بالمماثلة ونحوها من العبارات الواردة في الأحاديث، وانظر هل هذا الجواب بالكأنية مصحح للتعبير بالعبارات المذكورة وكاف لدفع الإشكال في تأصيل قاعدة كلية كموضوعنا؟ "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَإِنَّمَا1 وَقَعَ الْخُرُوجُ عَنِ السُّنَّةِ فِي أُولَئِكَ لِمَكَانِ إِعْمَالِهِمُ الرَّأْيَ وَاطِّرَاحِهِمُ السُّنَنَ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى2، وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ كَمَا تَبَيَّنَ تُوَضِّحُ الْمُجْمَلَ، وَتُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ الْعُمُومَ؛ فَتُخْرِجُ كَثِيرًا3 مِنَ الصِّيَغِ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ ظَاهِرِ مَفْهُومِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَتَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ بَيَانَ السُّنَّةِ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الصِّيَغِ، فَإِذَا طُرِحَتْ وَاتُّبِعَ ظَاهِرُ الصِّيَغِ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى؛ صَارَ صَاحِبُ هَذَا النَّظَرِ ضَالًّا فِي نَظَرِهِ، جَاهِلًا بِالْكِتَابِ خَابِطًا فِي عَمْيَاءَ لَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ فِيهَا؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعُقُولِ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا النَّزْرِ الْيَسِيرِ، وَهِيَ الْأُخْرَوِيَّةُ4 أَبْعَدُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ. وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ5 مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي النَّقْلِ؛ فَلَا حجة به   1 في "ط": "فإنه". 2 وهي بناؤهم على ما بنيت عليه المسألة من أن القرآن تبيان لكل شيء؛ فإنه صحيح في ذاته، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم، وتقدم لك سقوط هذا الاعتراض من نفسه. "د". 3 في الأصل: "جميعًا". 4 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "في الأخروية". 5 أي: على الاقتصار على الكتاب وطرح السنة، وقوله: "لا يمكن فيه التناقض ... إلخ" أي: فلا معنى لطرحه، وسواء أفرعنا على القول بجواز الخطأ في اجتهاده -عليه السلام- وعدم إقراره على الخطأ من الله، وأنه لا بد أن يرده إلى الصواب قبل العمل باجتهاده، أم قلنا: إنه لا يخطئ في الاجتهاد رأسًا -وإن كان هذا أحسم للمادة وأولى في أنه لا يحكم حكمًا يعارض الكتاب- فلا معنى لاطراح السنة على أي تقدير. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ صَحَّ أَوْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ يُقْبَلُ مِثْلُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِمَّا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ صِرْفٌ، وَإِمَّا اجْتِهَادٌ مِنَ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُعْتَبَرٌ بِوَحْيٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّنَاقُضُ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وَإِذَا فُرِّعَ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ فِي حَقِّهِ؛ فَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الصَّوَابِ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْخَطَأِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ حُكْمًا يُعَارِضُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُخَالِفُهُ. نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ السُّنَّةُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ وَلَا مُوَافَقَةٌ، بَلْ بِمَا يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ؛ إِلَّا إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْمُوَافَقَةِ1 لِكِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ؛ فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ صَحَّ سَنَدُهُ أَوْ لَا. وَقَدْ خَرَّجَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي بَيَانِ "مُشْكِلِ الْحَدِيثِ" عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ؛ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحَدِيثٍ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنِدُّ 2 مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أنه منكر؛ فأنا أبعدكم منه" 3.   1 وصار الكتاب مشتملًا على السنة؛ فعاد الأمر إلى جعل الحديث معارضة بالقلب، وصار حجة لأصل المسألة لا عليها؛ كما هو الإشكال الرابع، هذا ما يريده. "د". 2 في "المشكل" و"ط": "وتنفر". 3 أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 497 و5/ 425"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "15/ 344/ رقم 6067"، والبزار في "المسند" "رقم 187, زوائده"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 63, الإحسان" من طريق أبي عامر العقدي -واسمه عبد الملك بن عمرو القيسي- وابن سعد = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ؛ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ1 كَعْبٍ كَانَ فِي مَجْلِسٍ، فَجَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمُرَخَّصِ وَالْمُشَدَّدِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغُوا؛ قَالَ: "أَيْ هَؤُلَاءِ! مَا حَدِيثٌ بَلَغَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِفُهُ الْقَلْبُ2، وَيَلِينُ لَهُ الْجِلْدُ، وَتَرْجُونَ عِنْدَهُ؛ فَصَدِّقُوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَا يَقُولُ إِلَّا الْخَيْرَ"3. وَبَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ4 أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 2] . وَقَالَ: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ [الزمر: 23] .   = في "الطبقات الكبرى" "1/ 387" من طريق عبد الله بن مسلمة بن قعنب، كلاهما عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد بن سويد به. وأخرجه ابن وهب في "المسند" "8/ ق 164/ 2": أخبرني القاسم بن عبد الله عن ربيعة به. ورواه عبد الغني المقدسي في "العلم" "2/ 43/ 2" من طريق أخرى عن سليمان بن بلال، أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 732". وإسناده صحيح على شرط مسلم. قال ابن كثير في "التفسير" "2/ 264, ط دار المعرفة": "رواه الإمام أحمد -رضي الله عنه- بإسناد جيد، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب"، وقال فيه أيضًا "2/ 473": إسناده صحيح، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك ... "، وصححه الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "6/ 523". 1 ضبطه "د": "بالمرخص والمشدد" بكسر الخاء والدال المشددتين، والصواب فتحهما. 2 في مطبوع "المشكل": "تعرفه القلوب". 3 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "15/ 345-346" بسند ضعيف، فيه عبد الله بن صالح سيئ الخفظ. 4 في كتابه "مشكل الآثار" "15/ 346". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 وَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 83] . فَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِهِ، وَكَانَ مَا يُحَدِّثُونَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَفِي كَوْنِهِمْ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ وَجَبَ التَّوَقُّفُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا سِوَاهُ1. وَمَا قَالَهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا2 لَا مُخَالِفًا فِي الْمَعْنَى؛ إِذْ لَوْ خَالَفَ لَمَا اقْشَعَرَّتِ الْجُلُودُ، وَلَا لَانَتِ الْقُلُوبُ؛ لِأَنَّ الضِّدَّ لَا يُلَائِمُ الضِّدَّ وَلَا يُوَافِقُهُ. وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ وَلَا تُنْكِرُونَهُ فَصَدِّقُوا بِهِ قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ؛ فَإِنِّي أقول   1 وذكر نحو ما هنا باختصار أيضًا كما فعل المصنف أبو المحاسن الحنفي في "المعتصر من المختصر من مشكل الآثار" "2/ 383". 2 إنما يلزم منه أن يكون موافقًا في تلك الصفات، أما في نفس المدلول، فلا، فقد يكون موافقًا في صفات لين القلوب ... إلخ عند ذكره، ويكون معناه لا موافقًا ولا مخالفًا، فالكلام خطابي، وقوله: "لأن الضد ... إلخ" غير متجه؛ إذ لا يلزم من كونه مشتملًا على معنى ليس في الكتاب أن يكون ضدًّا، ولا ألا تقشعر منه الجلود وتوجل القلوب. "د". قلت: قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "صحيح ابن حبان" "رقم 63": وهذا الحديث خطاب للصحابة، ثم لمن سار على قدمهم واهتدى بهديهم، واقتدى بإمامه وإمامهم -صلى الله عليه وسلم- فعرف سنته وهديه، وعرف شريعته وامتلأ بها قلبه، إيمانًا وإخلاصًا ورضى عن طيب نفس، وإعراضًا عن الهوى والزيغ؛ فهو الذي يعرف الصحيح من السنة، ويطمئن قلبه إليها، وينكر المردود غير الصحيح؛ فلا يسيغه في عقله ولا في قلبه، ولله در الحافظ ابن حبان إذ أشار إلى هذا أدق إشارة في العنوان الذي كتب تحته هذا الحديث: "الإخبار عما يستحب للمرء كثرة سماع العلم، ثم الاقتفاء والتسليم". وانظر: "مفتاح الجنة" "ص184" للسيوطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 مَا يُعْرَفُ وَلَا يُنْكَرُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ فَكَذِّبُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ" 1. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ2 الْمَرْوِيَّ إِذَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وسنة نبيه3 لوجود معناه في   1 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "15/ 347/ رقم 6068"، والدارقطني في "السنن" "4/ 208"، والمخلص في "الفوائد المنتقاة" "9/ 218/ 1"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 36"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "11/ 391"، والهروي في "ذم الكلام" "ص171" من طريق يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به، وعزاه في "الكنز" "10/ 134" للحكيم الترمذي، ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ إلا أن وهمًا وقع فيه ليحيى بن آدم، ولم ينتبه لهذا الهروي؛ فقال: "لا أعرف علة هذا الخبر؛ فإن رواته كلهم ثقات، والإسناد متصل"، وكشف عن هذا الوهم إمامان جليلان: أحدهما: أمير الدنيا في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، قال في "التاريخ الكبير" "3/ 434" في ترجمة "سعيد المقبري" ما نصه: "وقال ابن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث، قال: "وقال يحيى: عن أبي هريرة وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة". والآخر: الإمام الجهبذ الكبير أبو حاتم الرازي، قال ابنه في كتاب "العلل" "2/ 310/ رقم 3445": "سمعت أبي وحدثنا عن بسام بن خالد عن شعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وذكره" ثم قال: "قال أبي: هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه". ويريد بذلك والله أعلم أنهم لا يذكرون أبا هريرة فيه، وكذلك فعل ابن طهمان، ولا تنفع متابعة شعيب بن إسحاق لأن بسام بن خالد غير معروف. وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1085". وجاء في الأصل: "فأنا أقول ما يعرف ولا ينكر". 2 في "ط": "بأن". 3 أخذ السنة هنا لا يتفق مع غرضه من الاستدلال بهذا، على أن السنة لا تزيد على ما في الكتاب شيئًا جديدًا، وأنها لمجرد البيان، وأن ما وافق منها كتاب الله قبل وما لا فلا، وهذه هي النتيجة التي سيصل إليها بقوله: "والحاصل من الجميع ... إلخ"؛ فلا يتم الاستدلال إلا بالاقتصار على موافقة كتاب الله، وأتى له ذلك من هذا الحديث. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 ذَلِكَ؛ وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَالَهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ؛ فَقَدْ قَالَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ، إِذْ يَصِحُّ تَفْسِيرُ كَلَامِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِلْأَعْجَمِيِّ بِكَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مُخَالِفًا يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ؛ وَجَبَ أَنْ يُدْفَعَ، وَيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ مِنَ الْجَمِيعِ صِحَّةُ اعْتِبَارِ الْحَدِيثِ بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَعَدَمِ1 مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَصِحَّ؛ فَلَا عَلَيْنَا إِذِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ صَحِيحٌ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ؛ فَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْأَصْلِ فِي الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ؛ حَتَّى صَارَ مُتَضَمِّنًا لِكُلِّيَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيَانًا لَهُ فِي التَّفْصِيلِ، وَهِيَ:   1 هذه الزيادة تقتضي أن الموافقة لا تلزم، وأنه يكفي في اعتبار الحديث ألا يكون مخالفًا، وإلا، لما كان لذكرها فائدة مع الموافقة، فإذا كان هذا غرضه من الزيادة لم يبق في هذا البحث الطويل من مبدأ كلام الطحاوي إلى هنا ما يصلح أن يكون دليلًا على مقصده من كون السنة راجعة إلى الكتاب؛ فعليك بجمع أطراف الكلام في هذه المسألة وتتبع مقاصده فيها ووزنها بدقة يظهر لك غثها من سمينها. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَآخِذَ: -مِنْهَا: مَا هُوَ عَامٌّ جِدًّا، وَكَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى أَخْذِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ وَلُزُومِ الِاتِّبَاعِ لَهَا، وَهُوَ فِي مَعْنَى أَخْذِ الْإِجْمَاعِ مِنْ مَعْنَى1 قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 115] . وَمِمَّنْ أَخَذَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؛ فَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ لَهُ: "بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ ذَيْتَ وَذَيْتَ2 وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَإِنَّنِي قَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَلَمْ أَجِدِ الَّذِي تَقُولُ! فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ: أَمَا قَرَأْتِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الْحَشْرِ: 7] ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ"3. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ 4، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ". قَالَ: فَبَلَغَ ذلك   1 في نسختي "ف" و"م": "الإجماع منه في معنى"، وفي "ط": "الإجماع منه في نحوه". 2 هذه العبارة كناية مثل كيت وكيت. "ف" و"م", وبعدها في "ط": "والواشمات والمستوشمات". 3 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما. 4 النامصة هي التي تنقش الحاجب حتى تغير شكل خلقته، والمتنمصة هي التي يفعل بها ذلك. "د". قلت: النمص مطلق أخذ شعر الوجه، ومنهم من عمم، قال صاحب "القاموس" "ص817": "النمص: نتف الشعر، ولعنت النامصة وهي مزينة النساء بالنمص والمتنمصة وهي المزينة به". قال "ماء/ ص411": "النامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟! فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ! فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ1، قَالَ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] " الْحَدِيثَ2. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ لَهَا: "هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ"، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7] دُونَ قَوْلِهِ: {وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} [النِّسَاءِ: 119] ، أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ؛ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْزِعُ ثِيَابِي. فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْآيَةَ3 [الْحَشْرِ: 7] . وَرُوِيَ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اتْرُكْهُمَا. فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا أَنْ تُتَّخَذَا سُنَّةً. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ4؛ فَلَا أَدْرِي أَتُعَذَّبُ عَلَيْهَا أَمْ تُؤْجَرُ لِأَنَّ الله   1 الياء في "قرأتيه" و"وجدتيه" للإشباع. "ف". 2 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما. قال "ماء/ ص413": "قوله: "الواشمات": الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل، و"المستوشمة": هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك ... و"المتفلجة": هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: هي التي تتفلج في مشيتها؛ فكل ذلك منهي عنه. قاله الخازن" ا. هـ. 3 أخرجه الآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن بطة في "الإبانة" "82"، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "248"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1182-1183/ رقم 2338" بإسناد جيد. 4 مضى تخريجه "2/ 516". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 قَالَ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 36] "1. وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَةَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ؛ فَقَالَ: "هُنَّ أَحْرَارٌ. قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: بِالْقُرْآنِ. قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] ، وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ قَالَ: عَتَقَتْ وَلَوْ بِسَقْطٍ"2. وَهَذَا الْمَأْخَذُ يُشْبِهُ الِاسْتِدْلَالَ3 عَلَى إِعْمَالِ السُّنَّةِ أَوْ هُوَ هُوَ، وَلَكِنَّهُ أُدْخِلَ4 مُدْخَلَ الْمَعَانِي التَّفْصِيلِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الكتاب من السنة.   1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 433/ رقم 3975"، والشافعي في "الرسالة" "رقم 1220" و"المسند" "6/ 208, بهامش الأم، وص83"، والدارمي في "السنن" "440"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 110"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 453" و"المعرفة" "1/ 37"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 146"، والهروي في "ذم الكلام" "رقم 268"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1183"، وهو صحيح. وذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" "1/ 148, ط القديمة"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "5/ 201" لابن أبي حاتم وابن مردويه. 2 أخرجه الهروي في "ذم الكلام" "194"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1175/ رقم 2325"، وإسناده صحيح، وعتق أم الولد ثابت عن عمر في "الموطأ" "2/ 776"، و"غريب الحديث" "3/ 337" لأبي عبيد، و"طبقات ابن سعد" "158-160/ التتمة الأولى"، و"المعرفة والتاريخ" "1/ 628". وانظر: "مسند الفاروق" "1/ 373"، و"البداية والنهاية" "9/ 346" لابن كثير. 3 وهذا ممنوع، بل هو نفس الاستدلال؛ فيجب الاقتصار على قوله: "هو هو". انظر: "حجية السنة" "ص527". 4 أي: سلكوا به مسلك الدال على المعاني التفصيلية التي في السنة، وجعلوا دلالة السنة على تلك المعاني دلالة للكتاب عليها، كما رأيت في الآثار المتقدمة، وإلا؛ فليست بذاتها ولا بكليها مدلولًا عليها في الكتاب، وإنما المدلول عليه في الكتاب منها كلي الاعتداد بها ووجوب = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 - وَمِنْهَا: الْوَجْهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ فِي بَيَانِ مَا أُجْمِلَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ إِمَّا بِحَسَبِ كَيْفِيَّاتِ الْعَمَلِ أَوْ أَسْبَابِهِ أَوْ شُرُوطِهِ أَوْ مَوَانِعِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ كَبَيَانِهَا لِلصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي1 مَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَبَيَانِهَا لِلزَّكَاةِ فِي مَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَنُصُبِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ وَتَعْيِينِ مَا يُزَكَّى مِمَّا لَا يُزَكَّى، وَبَيَانِ أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَمَا فِيهِ مِمَّا لَمْ يَقَعِ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ الْحَدَثِيَّةُ وَالْخَبَثِيَّةُ، وَالْحَجُّ، وَالذَّبَائِحُ وَالصَّيْدُ وَمَا يُؤْكَلُ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، وَالْأَنْكِحَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ، وَالْبُيُوعُ وَأَحْكَامُهَا، وَالْجِنَايَاتُ مِنَ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا وَقَعَ مُجْمَلًا فِي الْقُرْآنِ2، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ دُخُولُهُ تَحْتَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: 44] .   = امتثالها. "د". قلت: وقوله: "ولكنه أدخل ... إلخ"؛ فلا يفيده في موضوع النزاع شيئًا، فإن النص الدال على حجية السنة لا يقال: إنه نص على الأحكام الفرعية التي ثبتت بالسنة، كما يقال: إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} نص على وجوبها. ثم نقول له: إن هذا المأخذ يعكس الأمر؛ فيكون القرآن هو المبين لما في السنة، فإن القرآن دال على حجية السنة، والمعقول أن الدال هو الذي يبين ما اشتمل عليه المدلول وما ثبت به، لا العكس. وإن أبيت إلا أن المدلول هو المبين للدال؛ قلنا لك: قد ورد في السنة أيضًا ما فيد وجوب العمل بالقرآن؛ فيكون القرآن أيضًا مبينًا لما في السنة على ما ذكرت، ولا يصح أن يكون مستقلًّا؛ أفتقول بذلك؟ قاله في "حجية السنة" "527". 1 في "ط": "اختلاف أنواعها في". 2 نقول: إن أردت أن تبين لنا بهذا المأخذ أن بعض السنة بيان لما في الكتاب من الأحكام المجملة التي نص عليها كوجوب الصلاة والزكاة؛ فهذا لا ننكره، وإن أردت أن جميعها كذلك، فهذا أمر لم توضحه لنا، وعلى ذلك يكون قولك: "كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن" إذا أردت به جميع السنة، ممنوعًا، ولما تحاول إثباته لنا. وقد تقدم لك أن لكل من المخصص والناسخ ناحية بيان للمراد من نص الكتاب، وناحية استقلال بإفادة الحكم فيما عدا هذا المراد، ومثلهما في ذلك سائر الشروط والقيود؛ فتأمل ذلك وتدبره يظهر لك ما في كلامه من الخلط والإبهام. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص529". وفي "ط": "مجملًا في الكتاب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: "إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ، أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ؟ ". ثُمَّ عَدَّدَ إِلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: "أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا، وَإِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ"1. وَقِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: "لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ. فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالْقُرْآنِ بَدَلًا، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ2 هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا"3. وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ؛ قَالَ: "كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ   1 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" -كما في "مفتاح الجنة" "241" للسيوطي- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 65، 66، 67"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1192/ رقم 2348". "استدراك 4". وأثر عمران هذا لا يفيد حصر السنة في المفسرة، وإنما تعرض للتفسير؛ لأنه الموجود في مثاله الذي أراد أن يقنع به الخصم، قاله في "حجية السنة" "ص529". 2 وهو الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- أي: فحديثه يبين القرآن فيتحدث بالسنة لذلك. "د". 3 أخرجه أبو خيثمة في "العلم" "97"، والهروي "246"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1193/ رقم 2349"، وقول مطرف هذا يفيد أن القرآن قد يشتمل على حكم لم ينص عليه نصًّا يستطيع المجتهدون أن يستنبطوه بحسب أوضاع اللغة؛ فيستقل -صلى الله عليه وسلم- بإفهامه لنا من حيث الإجمال والتفصيل، لعلمه بما في القرآن من أسرار لا يعلمها من البشر إلا هو، بتعليم الله تعالى إياه بواسطة جبريل أو الإلهام، وهذا يحقق ما ذهبنا إليه. قاله في "حجية السنة" "ص529". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ] 1 عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْضُرُهُ جِبْرِيلُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي تُفَسِّرُ ذَلِكَ"2. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "الْكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْكِتَابِ"3، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: "يُرِيدُ أَنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ"4. وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَى أَنَّ السُّنَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ؛ فَقَالَ: "مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: إِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ"5. فَهَذَا الْوَجْهُ فِي التَّفْصِيلِ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَأَشْهَرُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعُلَمَاءِ في هذا المعنى.   1 سقطت من نسخة "د". 2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 145"، وابن المبارك في "الزهد" "91, زيادات نعيم"، والمروزي في "السنة" "ص28"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 90"، والهروي في "ذم الكلام" "ص75"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 99"، والخطيب في "الكفاية" "44، 47" و"الفقيه" "1/ 91" من طرق عن الأوزاعي به. وإسناده صحيح، ونسبه ابن حجر في "الفتح" "13/ 291" للبيهقي وصحح إسناده. 3 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 145"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 88، 89"، والمروزي في "السنة" "ص28"، والهروي في "ذم الكلام" "ص74، 75"، وابن شاهين في "السنة" "48"، والخطيب في "الكفاية" "ص47" من طرق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير تارة، وعن مكحول أخرى، وهو صحيح. وأخرجه البيهقي -كما في "مفتاح الجنة" "ص199"- من قول الأوزاعي، وصححه ابن حجر في "الفتح" "13/ 291"، وهو في القسم الضائع من "المدخل إلى السنن". 4 "جامع بيان العلم" "2/ 1194". 5 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1194/ رقم 2354"، وابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص86, ط العسكري"، ونقل نحوه عن الإمام أحمد ابنه عبد الله في "مسائله" "رقم 1186"، وأبو داود في "مسائله" "276"، والخطيب في "الكفاية" "47" و"الفقيه" "1/ 73"، والهروي "رقم 213". وعبارات العلماء هذه لا تفيد مراد المصنف من إيرادها هنا في حصر السنة في البيان بحال، وهذا ظاهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 - وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السُّنَّةِ عَلَى الْكَمَالِ زِيَادَةً إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ وَالشَّرْحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ أَتَى بِالتَّعْرِيفِ بِمَصَالِحِ الدَّارَيْنِ جَلْبًا لَهَا، وَالتَّعْرِيفِ بِمَفَاسِدِهِمَا دَفْعًا لَهَا، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْمَصَالِحَ لَا تَعْدُو الثَّلَاثَةَ الْأَقْسَامِ، وَهِيَ: الضَّرُورِيَّاتُ، وَيُلْحَقُ بِهَا مُكَمِّلَاتُهَا. وَالْحَاجِيَّاتُ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا مُكَمِّلَاتُهَا. وَالتَّحْسِينِيَّاتُ، وَيَلِيهَا مُكَمِّلَاتُهَا. وَلَا زَائِدَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى السُّنَّةِ وَجَدْنَاهَا لَا تَزِيدُ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَالْكِتَابُ أَتَى بِهَا أُصُولًا يُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَالسُّنَّةُ أَتَتْ بِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الْكِتَابِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهِ مِنْهَا؛ فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ إِلَّا مَا هو راجع إلى تلك الأقسام1.   1 إن هذه المصالح والأمور العامة، قد تأصلت في السنة كما تأصلت في الكتاب، وتفصل بعضها في الكتاب كما تفصل بعضها في السنة، وكل منهما وحي من عند الله، مساوٍ للآخر في الحجية والمنزلة؛ فليس لك أن تعين أحدهما للتأصيل، والآخر للتفصيل، أفيجوز لك على هذا أن تقول: إن الكتاب لا يستقل بتشريع الحكم؛ لأن هذه المصالح قد تأصلت في السنة وتفصلت في الكتاب؟ ثم نقول: لو سلمنا أنها تأصلت في الكتاب فقط وتفصلت في السنة فقط؛ أفيمكننا أن نستقل بفهم الأحكام التي لم ينص عليها تفصيلًا ولا إجمالًا من هذه الأمور العامة؟ لو فرضنا أن الكتاب نص نصًّا صريحًا على هذه المصالح العامة، ولم ينص لا هو ولا السنة على تفاصيلها؛ أفيمكننا أن ندرك أن صوم رمضان واجب، وصوم يوم العيد حرام، وأن السارق يحد بخلاف الناهب والمختلس، وأن حد السارق قطع اليد اليمنى في أول مرة، وأن حد الزاني البكر جلد مائة وتغريب عام، وحد الثيب الرجم ... إلى غير ذلك. ألم تر أن المعتزلة لما ذهبوا إلى قريب مما ذهبت إليه -وهو قاعدة الحسن والقبح العقليين- اعترفوا صراحة أن العقل قد لا يهتدي إلى بعض الأحكام؟ فإذا كانت هذه المصالح والأمور العامة على فرض أن الكتاب نص عليها صراحة لا يمكن للمجتهد أن يستقل بفهم الأحكام منها؛ كانت لا تغنيك فتيلًا في محل النزاع. قاله في "حجية السنة" "ص530-531". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 فَالضَّرُورِيَّاتُ الْخَمْسُ كَمَا تَأَصَّلَتْ فِي الْكِتَابِ تَفَصَّلَتْ فِي السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ حِفْظَ الدِّينِ حَاصِلُهُ فِي ثَلَاثَةِ معانٍ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، فَأَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ، وَبَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ1، وَمُكَمِّلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وَهِيَ: الدُّعَاءُ إِلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَجِهَادُ مَنْ عَانَدَهُ أَوْ رَامَ إِفْسَادَهُ. وَتَلَافِي2 النُّقْصَانِ الطَّارِئِ فِي أَصْلِهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ فِي الْكِتَابِ وَبَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ عَلَى الْكَمَالِ. وَحِفْظُ النَّفْسِ حَاصِلُهُ فِي ثَلَاثَةِ معانٍ، وَهِيَ: إِقَامَةُ أَصْلِهِ بِشَرْعِيَّةِ التَّنَاسُلِ، وَحِفْظُ3 بَقَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ4 الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَذَلِكَ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ دَاخِلٍ، وَالْمَلْبَسُ وَالْمَسْكَنُ، وذلك ما يحفظه   1 ومنه ما أخرجه مسلم [برقم 1] عن عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان؛ فراجعه. "ف". 2 بمحافظة الإمام على إقامة أصول الدين بإقامة الحدود الشرعية كقتل المرتدين. "د". 3 لم يذكر الثالث ولو قال: "وحفظ النفس من جانب العدم، وهو ما يعود عليها بالإبطال وشرعت له أحكام الجنايات"؛ لوفى بالثالث إلا أنه سيدرج الحد والقصاص في المكمل ولم يجعلهما من الأصل كما صنع في كتاب المقاصد، وإن كان هذا اعتبارًا آخر كما سيقول لكن عليه، أين هو المعنى الثالث؟ وقد يقال: إنه جعل حفظ البقاء قسمين: أحدهما حفظه من الداخل والآخر من الخارج، فإذا ضما إلى الأول كملت ثلاثة، وقوله: "وإقامة ما لا تقوم ... إلخ" عائد إلى المكملين قبله. "د". 4 كأنه قال: حفظه باستعمال الأغذية واتخاذ الملابس والمساكن، وهذا غير ما يأتي في مكملات حفظ النفس من فحص الغذاء مثلًا ومعرفة أنه لا يضر أو يقتل ... إلخ. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 مِنْ خَارِجٍ. وَجَمِيعُ هَذَا مَذْكُورٌ أَصْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَمُبَيَّنٌ فِي السُّنَّةِ، وَمُكَمِّلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ؛ كَالطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَاللِّعَانِ، وَغَيْرِهَا، وَحِفْظُ مَا يُتَغَذَّى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَضُرُّ أَوْ يَقْتُلُ أَوْ يُفْسِدُ، وَإِقَامَةُ مَا لَا تَقُومُ هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَّا بِهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ، وَشَرْعِيَّةِ1 الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، وَمُرَاعَاةِ الْعَوَارِضِ اللَّاحِقَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَقَدْ دَخَلَ2 حِفْظُ النَّسْلِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَأُصُولُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا، وَحِفْظُ الْمَالِ رَاجِعٌ إِلَى مُرَاعَاةِ دُخُولِهِ فِي الْأَمْلَاكِ3 وَكَتَنْمِيَتِهِ أَنْ لَا يَفِيَ4، وَمُكَمِّلُهُ دَفْعُ5 الْعَوَارِضِ، وَتَلَافِي6 الأصل بالزجر والحد والضمان، وهو في   1 شرعية الحد والقصاص ومراعاة بقية العوارض -وما أكثرها- كل هذا مكمل لحفظه، وكلها من جانب العدم، وهذا هو المكمل الثالث، وإن كان اعتباره لهذا المكمل هنا غير اعتباره في كتاب المقاصد، ولا مانع من اختلاف الاعتبار متى كان كلٌّ صحيحًا في نفسه. "د". 2 أي: في قسم حفظ النفس، ويصح أن يكون مراده دخل في مكمله، والجميع كما قال أصله في القرآن. "د". 3 أي: بعوض وبغيره من أبواب نقل الملكية شرعًا. "د". 4 قد يقال: إن فيه تحريفًا، وإن صوابه: "ألا يفنى"؛ أي: تنميته إنما تعتبر من حفظه الضروري إذا كانت التنمية وسيلة إلى عدم فنائه بالإنفاق وغيره، أما التنمية التي يقصد منها مجرد الكثرة؛ فليست داخلة في ضروري حفظه، وقد يصحح الأصل بأن التنمية التي تعد من الحفظ الضروري تنمية المال القاصر عن درجة الوفاء بما يحفظ النفس وغيرها، أما ما زاد عن ذلك؛ فالتنمية لا تدخل في الضروريات؛ فكل من المعنيين وجيه بل مقصود في الواقع، وعلى الأول يكون المعنى "لأجل ألا يفنى"؛ فهو مفعول لأجله بدون تقرير، وعلى الثاني: "خشية ألا يفي". "د". 5 بالمحافظة عليه من الإسراف والسرقة والحرق وسائر متلفاته. "د". 6 وهو مراعاة صحة دخوله في الملكية يكون بالزجر في مثل الغصب الذي لم يحصل به تلف، والحد في السرقة، والضمان في المتلف؛ فهذه الثلاثة تحفظ صحة دخول الأموال في ملكية الناس، ومما فيه الزجر لعب الميسر، ولم يرد فيه حد مخصوص. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَحِفْظُ الْعَقْلِ يَتَنَاوَلُ1 مَا لَا يُفْسِدُهُ [وَالِامْتِنَاعَ مِمَّا يُفْسِدُهُ] ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَمُكَمِّلُهُ شَرْعِيَّةُ الْحَدِّ2 أَوِ الزَّجْرِ3، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَهُ أَصْلٌ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي السُّنَّةِ حُكْمٌ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْضًا؛ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ4 الْأُمَّةِ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالضَّرُورِيَّاتِ حِفْظُ الْعِرْضِ؛ فَلَهُ فِي الْكِتَابِ أَصْلٌ شَرَحَتْهُ السُّنَّةُ فِي اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ، هَذَا وَجْهٌ فِي الِاعْتِبَارِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَلَكَ أَنْ تَأْخُذَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ؛ فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ أَيْضًا. وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْحَاجِيَّاتِ اطَّرَدَ النَّظَرُ أَيْضًا فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَإِنَّ الْحَاجِيَّاتِ دَائِرَةٌ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ. وَكَذَلِكَ التَّحْسِينِيَّاتُ. وَقَدْ كَمُلَتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ؛ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا شيء،   1 لعل الأصل: "بتناول" بالباء الموحدة، وقوله: "في القرآن" أي: من الآيات الدالة على إباحة الأكل من الطيبات مع عدم الإسراف وعدم الاعتداء، ويحتمل أن يكون الأصل هكذا: "يتناول ما يفسده" بحذف "لا"؛ أي: يتناول حفظه عما يفسده، وهو في القرآن تحريم الخمر. "د". 2 أي: في الخمر. "د". 3 أي: في سائر المخدرات. "د". 4 قالوا: إنه يكون بحسب الجريمة في جنسها ووصفها بصغرها وكبرها، هذا في الزجر وحد الخمر كذلك، لم يرد أصله في القرآن ولم يحدد في السنة بحد مخصوص؛ فكانوا يضربونه بالنعال تارة وبالجريد تارة بدون عدد محدود، أما الثمانون؛ فإنها جاءت من القياس على القذف كما قال علي: "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى"؛ فأخذ عمر برأيه وحد في الخمر ثمانين. "د". قلت: وأثر علي فيه نظر، ومضى تخريجه في التعليق على "ص291". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 وَالِاسْتِقْرَاءُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَيَسْهُلُ عَلَى مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمَّا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ كَذَلِكَ قَالُوا بِهِ وَنَصُّوا عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ. وَمَنْ تَشَوَّفَ إِلَى مَزِيدٍ؛ فَإِنَّ دَوَرَانَ الْحَاجِيَّاتِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَالتَّيْسِيرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَالرِّفْقِ. فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الدِّينِ يَظْهَرُ فِي مَوَاضِعَ شَرْعِيَّةٍ الرُّخَصُ فِي الطَّهَارَةِ؛ كَالتَّيَمُّمِ، وَرَفْعِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ فِيمَا إِذَا عَسُرَ إِزَالَتُهَا، وَفِي الصَّلَاةِ بِالْقَصْرِ، وَرَفْعِ الْقَضَاءِ فِي الْإِغْمَاءِ، وَالْجَمْعِ، وَالصَّلَاةِ قَاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ، وَفِي الصَّوْمِ بِالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ؛ فَالْقُرْآنُ إِنْ نَصَّ عَلَى بَعْضِ التَّفَاصِيلِ كَالتَّيَمُّمِ وَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فَذَاكَ، وَإِلَّا؛ فَالنُّصُوصُ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِيهِ كَافِيَةٌ، وَلِلْمُجْتَهِدِ إِجْرَاءُ الْقَاعِدَةِ وَالتَّرَخُّصُ بِحَسَبِهَا، وَالسُّنَّةُ أَوَّلُ قَائِمٍ بِذَلِكَ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّفْسِ أَيْضًا يَظْهَرُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَوَاضِعُ الرُّخَصِ؛ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَشَرْعِيَّةِ الْمُوَاسَاةِ بِالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَإِبَاحَةِ1 الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ2 فِيهِ مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ3 مَا يَتَأَتَّى بِالذَّكَاةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفِي التَّنَاسُلِ مِنَ الْعَقْدِ عَلَى الْبُضْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ صَدَاقٍ، وَإِجَازَةِ بَعْضِ الْجَهَالَاتِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى تَرْكِ الْمُشَاحَّةِ كَمَا فِي الْبُيُوعِ، وَجَعْلِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا دُونَ مَا هُوَ أَكْثَرُ4، وَإِبَاحَةِ الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك.   1 فالإباحة هنا رخصة دعا إليها رفع الحرج، وإن كانت الذبائح والصيد عدهما فيما تقدم آنفًا من مكملات حفظ النفس. "د". 2 في "ط": "تأت". 3 لأن الدم الخبيث في الحيوان لا ينفصل جميعه عن الجسم حتى يطهر الجسم منه إلا إذا خرج من منفذ عام للدم كالودجين. "د". 4 ففي التقييد بالثلاث رفع الحرج وتيسير للمرأة بكونها بعد الثلاث صار لا شأن له معها تتزوج من تشاء، وهذا يساعد حفظ النسل فيه رفع حرج كبير يعرفه من أهل الملل من ليس عندهم طلاق، وإسراف الناس فيه في هذا الزمان ليس من أصل تشريعه، بل من عدم العمل بأوامر الشريعة ونواهيها المكملة له، الواردة في الكتاب والسنة، من بعث الحكمين وغيره. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِ أَيْضًا فِي التَّرْخِيصِ فِي الْغَرَرِ الْيَسِيرِ، وَالْجَهَالَةِ الَّتِي1 لَا انْفِكَاكَ عَنْهَا فِي الْغَالِبِ، وَرُخْصَةِ السَّلَمِ وَالْعَرَايَا وَالْقَرْضِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهُ التَّوْسِعَةُ فِي ادِّخَارِ الْأَمْوَالِ وَإِمْسَاكُ2 مَا هُوَ فَوْقَ الْحَاجَةِ مِنْهَا، وَالتَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ عَلَى جِهَةِ الْقَصْدِ3 مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكْرَهِ، وَعَنِ الْمُضْطَرِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ فِي الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ4 عِنْدَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَاعِدَةِ5 رَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ اجْتِهَادِيٌّ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مِنْهُ مَا يُحْتَذَى حَذْوُهُ؛ فَرَجَعَ إِلَى تَفْسِيرِ مَا أُجْمِلَ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا فُسِّرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ؛ فَالسُّنَّةُ لَا تَعْدُوهُ وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ. وَقِسْمُ التَّحْسِينِيَّاتِ جَارٍ أَيْضًا كجريان الحاجيات؛ فإنها راجعة إلى العمل   1 كما في أصول الجدران المغيبة في الأرض، وكما في بيع البطيخ، وكما في بيع الفجل والجزر ونحوها مما غيب بعضه في الأرض وإخراجه كله قيل: بيعه يفسده؛ فاغتفر لذلك. "د". 2 لا ينافي هذا عده التنمية من الضروريات فيما تقدم؛ لأن المعدود منها فيه ما كان مقيدًا بأحد القيدين أي بألا يفي، كما أهل أصل النسخة، أو بألا يفنى، كما هو الوجه الثاني، وسبق أن القيدين مطلوبان معًا. "د". 3 الأنسب به أن يكون من حاجيات النفس كإباحة الصيد والمواساة؛ لأنه توسيع على النفس بما يقوي حفظها، وإن كان اعتباره أيضًا صحيحًا من جهة بذلك المال في هذه الطيبات. "د". 4 أي: فالنفس حينئذ مقدمة على العقل؛ فيرخص فيما يدفع عنها الهلاك وإن كان يضر بالعقل، سواء أكان أكلًا أم شربًا. "د". 5 أي: والقاعدة مقررة في الكتاب صريحًا؛ فالقرآن يشمل جميع ما ذكر ويعتبر كليًّا له، وقد ورد بعضه فيه تفصيلًا، وقوله: "أكثره اجتهادي"؛ أي: فالمعقول فيه أن يناط بكليات تتفصل بالاجتهاد لا بالنص، وما فسرته السنة منه قليل فقط ليحتذى حذوه كما قاله. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَحْسُنُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَمَحَاسِنِ الْهَيْئَاتِ وَالطِّيبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَانْتِخَابِ الْأَطْيَبِ وَالْأَعْلَى فِي الزَّكَوَاتِ وَالْإِنْفَاقَاتِ، وَآدَابِ الرِّفْقِ فِي الصِّيَامِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّفُوسِ كَالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ، وَآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّسْلِ؛ كَالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ، مِنْ عَدَمِ التَّضْيِيقِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَبَسْطِ الرِّفْقِ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِ؛ كَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَافِ نَفْسٍ1 وَالتَّوَرُّعِ فِي كَسْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَالْبَذْلِ مِنْهُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ؛ كَمُبَاعَدَةِ الْخَمْرِ وَمُجَانَبَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ اسْتِعْمَالَهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يُرَادُ بِهِ الْمُجَانَبَةُ بِإِطْلَاقٍ. فَجَمِيعُ هَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ بَيَّنَهُ الْكِتَابُ عَلَى إِجْمَالٍ أَوْ تَفْصِيلٍ أَوْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ قَاضِيَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ فِي الْفَهْمِ وَأَشْفَى فِي الشَّرْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ، وَالْعَاقِلُ يَتَهَدَّى2 مِنْهُ لِمَا لَمْ يُذْكَرُ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. - وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَجَالِ الِاجْتِهَادِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَمَجَالِ الْقِيَاسِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَهُوَ المبين في دليل القياس. ولنبدأ بالأول:   1 أي: من غير حرص، وفي الحديث: "وما جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ له ولا سائل؛ فخذه، وما لا؛ فلا تتبعه نفسك". "ف". قلت: والحديث صحيح أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 309". 2 في الأصل: "يهتدي"، وقد تكرر مثلها؛ فلا يحتاج إلى تنبيه آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ النَّصُّ عَلَى طَرَفَيْنِ مُبَيَّنَيْنِ فِيهِ أَوْ فِي السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَأْخَذِ الثَّانِي، وَتَبْقَى الْوَاسِطَةُ عَلَى اجْتِهَادٍ، وَالتَّبَايُنُ1 لِمُجَاذَبَةِ الطَّرَفَيْنِ إِيَّاهَا؛ فَرُبَّمَا كَانَ وَجْهُ النَّظَرِ فِيهَا قَرِيبُ الْمَأْخَذِ، فَيُتْرَكُ إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَرُبَّمَا بَعُدَ عَلَى النَّاظِرِ أَوْ كَانَ مَحَلَّ تَعَبُّدٍ لَا يَجْرِي عَلَى مَسْلَكِ الْمُنَاسِبَةِ؛ فَيَأْتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه البيان2، وأنه   1 لعل الأصل: "والتشابه"، ويمكن تصحيح النسخة بأنه كلما روعي جذب أحد الطرفين لها باينت الآخر. "د". وفي "ط": "محل اجتهاد والتباس لمجاذبة .... ". 2 إنك اعترفت أن الواسطة بين الطرفين المنصوص عليهما في الكتاب قد يعجز المجتهد عن إدراك حكمها من الكتاب، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسنه ويشرعه لنا، غير أنك تسمي تشريعه حينئذ بيانًا، ونحن نسميه استقلالًا فقط، حيث إن الكتاب لم ينص عليه نصًّا يمكن المجتهد أن يفهم الحكم منه على وجه التفصيل، ولا على وجه الإجمال. ومثل ذلك يقال في مجال القياس؛ فقد يعجز المجتهد عن إدراك الحكم في الفرع على نحو ما قررته في مجال الاجتهاد. ولا يهمنا أن يكون هذا الحكم في الواسطة أو الفرع قد سنه -صلى الله عليه وسلم- بواسطة وحي أو اجتهاد قد وفقه الله إليه بما أوتي من الحكمة والعلم المفقودين في غيره، وإنما المهم أنه شرع ما لم ينص عليه في الكتاب، وكان تشريعه حجة؛ لأنه إما بوحي، وإما باجتهاد معصوم فيه أو مقر على حكمه؛ فاجتهاده من حيث هو ليس بحجة، وإنما حجيته ناشئة عن عصمته فيه، أو عن الإقرار على حكمه. وأما إذا كان حكم الواسطة أو الفرع قريب المأخذ؛ فإن كان قربه من ناحية أن الشارع قد نص على علة أحد الطرفين أو الأصل في الكتاب، ووجدنا هذه العلة شاملة للواسطة أو الفرع، فلو جرينا على أن النص على العلة نص على الحكم في جميع ما وجدت فيه؛ كان الحكم في الفرع أو الواسطة منصوصًا عليه في الكتاب، وكانت السنة حينئذ من قبيل المؤكد، ولكن هذا لا يفيدك؛ لأن الشارع لم ينص على علة كل حكم في الكتاب، بل ذلك نادر، أما إذا نص على العلة في السنة؛ كانت السنة مستقلة بإفادة الحكم في الواسطة أو الفرع. وإن كان قربه من ناحية إمكان استنباط العلة من غير النص كالمناسبة؛ كان الحكم في الواسطة أو الفرع ثابتًا بالقياس، وكذا إذا جرينا في الشق الأول على أن النص على العلة ليس نصًّا = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 لَاحِقٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ آخِذٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَجْهٍ احْتِيَاطِيٍّ1 أَوْ غَيْرِهِ2، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا3. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وبقي بين هذين   = على الحكم، وكأنك تريد أن تقول حينئذ: إن القياس قد استقل بالحكم؛ فلا استقلال للسنة، على ما يشعر به قولك "ص379": "وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- قال له بِالْقِيَاسِ أَوْ بِالْوَحْيِ؛ إِلَّا أَنَّهُ جَارٍ فِي أفهامنا مجرى القياس". فنقول لك: إن تشريع الله تعالى بأي نوع من أنواع الوحي غير مقيد بما يجري في أفهامنا ولو كان ما يجري في أفهامنا ظاهرًا كل الظهور؛ فله أن يخالفه، وله أن يوافقه، والقياس دليل ضرورة، لا يعمل به إلا عند العجز عن معرفة حكم الله، بواسطة أي نوع من أنواع الوحي؛ فهو بجانب السنة لا قيمة له، سواء أوافقها أم خالفها؛ حتى السنة التي تكون عن اجتهاد وقياس؛ فإنا لم نحتج بها حينئذ إلا من حيث العصمة عن الخطأ في الاجتهاد، أو تقرير الله له -صلى الله عليه وسلم- على الحكم. ثم نقول: إذا ساغ لك أن تثبت حكمًا "لم ينص عليه الكتاب" بالقياس استقلالًا؛ أفلا يسوغ لك أن تثبته بالسنة استقلالًا؟ قد يكون لك شيء من الشبهة في جعلك السنة أدنى مرتبة من الكتاب، أما أن تقول: إن السنة متأخرة عن القياس، وإنها إذا وافقته يكون هو المؤسس للحكم والسنة هي المؤكدة، وإن القياس يقوى على الاستقلال دونها؛ فهذا أمر ليس لك فيه أقل شبهة. قاله في "حجية السنة" "ص532-534". 1 كما يأتي في احتجاب سودة. "د". 2 إذا جعل بالجر عطفًا على ما قبله كانت القاعدة قاصرة عن شمول مثل الحكم في الجنين بالغرة في المثال الثامن، حيث قال فيه: "وإن له حكم نفسه"، وإذا جعل بالرفع عطفًا على قوله: "لاحق" يكون نوعًا ثالثًا غير اللحوق بأحد الطرفين أو بهما؛ فتكون القاعدة شاملة لمثل هذا الحكم. "د". 3 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 119 وما بعدها" للشيخ محمد الأشقر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 الْأَصْلَيْنِ أَشْيَاءُ يُمْكِنُ لَحَاقُهَا بِأَحَدِهِمَا؛ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ مَا اتَّضَحَ بِهِ الْأَمْرُ1؛ فَنَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ2، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَالَ: "إِنَّهَا رِكْسٌ"3. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ الْقُنْفُذِ؛ فقال: "كُلْ". وَتَلَا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 145] ، فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُ: "هُوَ خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ". فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "إِنْ قَالَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ كَمَا قَالَ"4.   1 في "ط": "بالأمر". 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530" عن أبي ثعلبة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة نحوه، وأخرجه برقم "1934" عن ابن عباس ولفظه: "نهى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير". 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، 9/ 653/ رقم 5528"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح/ رقم 1940" عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر مناديًا فنادى في الناس: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الأهلية". زاد مسلم: "فإنها رجس أو نجس". وكتب "ف" هنا ما نصه: الركس شبيه بالرجيع، والمراد هنا النجس، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بروث في الاستنجاء فقال: "إنه ركس" ا. هـ. قلت: وخرجت الحديث الذي أورده "ف" في "الخلافيات" "2/ رقم 375، 378"، وهو صحيح. 4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض، 3/ 354/ رقم 3799" -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 326"- وأحمد في "المسند" "2 / 381" من طريق عيسى بن نميلة عن أبيه؛ قال: كنت عند ابن عمر؛ فسئل ... وذكر نحوه. قال البيهقي عقبه: "هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف". قلت: آفته ابن نميلة وأبوه فهما مجهولان، والذي سمعه من أبي هريرة مبهم أيضًا، ولذا قال الخطابي: "ليس إسناده بذاك"، وأقره ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 156". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: "نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا"1، وَذَلِكَ لِمَا فِي لَحْمِهَا وَلِبَنِهَا مِنْ أَثَرِ الْجِلَّةِ وَهِيَ الْعَذِرَةُ2. فَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِلْحَاقِ بِأَصْلِ الخبائث، كما ألحق عليه   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، 3/ 351/ رقم 1785"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة، 4/ 270/ رقم 1824"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الذبائح، باب النهي عن لحوم الجلالة، 2/ 1064/ رقم 3189"، والبيهقي في "السن الكبرى" "9/ 332"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 252" من طريق ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر به. قال الترمذي: "حديث حسن غريب، وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا". قلت: الثوري أثبت بلا شك من ابن إسحاق؛ فراويته تقدم ولكن يشهد لرواية ابن إسحاق أحاديث عديدة، منها: حديث ابن عباس، ونصه: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبن الجلالة"، أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 1825"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3719"، والنسائي في "المجتبى" "7/ 240"، وأحمد في "المسند" "1/ 229، 241، 293، 321، 339"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 220-221/ رقم 3599, الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 34"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 887"، والطبراني في "الكبير" "رقم 11819، 11820، 11821"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 254 و9/ 333، 334"، وإسناده صحيح. قال ابن حبان عقبه: "الجلالة: ما كان الغالب على علفها القذارة، فإذا كان الغالب على علفها الأشياء الطاهرة الطيبة لم تكن بجلالة". 2 كذا في "ط" وهامش الأصل، ووقعت في جميع النسخ المطبوعة هكذا "العنهدة"، وكتب "ف": "لم نقف عليه"، وفي "اللسان": "الجلة: البعرة والعذرة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الضَّبَّ1 وَالْحُبَارَى2 وَالْأَرْنَبَ3 وَأَشْبَاهَهَا4 بِأَصْلِ الطيبات.   1 وذلك في إقراره من أكله وتعليل الامتناع عن أكله بقوله: "إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، كما هو في "صحيح البخاري" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، و"صحيح مسلم" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه. 2 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب في أكل لحم الحبارى، 3/ 354/ رقم 3797"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة باب ما جاء في أكل الحبارى، 3/ 77/ رقم 1828"، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "رقم 1021"، والمحاملي في "أماليه" "رقم 528, رواية ابن البيع"، والطبراني في "الكبير" "7/ 95"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "3/ 168"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 497"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 322"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 111" من طريق إبراهيم -ولقبه برية- بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده؛ قال: أكلت مع رسول الله لحم حبارى، قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن عمر بن سفينة روى عنه ابن أبي فديك، ويقال: برية بن عمر بن سفينة". قلت: إسناده ضعيف جدًّا، أورد العقيلي الحديث في "ضعفائه" "3/ 168" في ترجمة "عمر بن سفينة"، وقال: "حديث غير محفوظ ولا يعرف إلا به، ونقل عن البخاري قوله: "إسناده مجهول". قلت: عمر صدقه أبو زرعة كما في "الجرح والتعديل" "6/ 113"، وآفته ابنه، قال ابن حبان في ترجمة إبراهيم: "يخالف الثقات في الروايات، ويروي عن أبيه ما لا يتابع عليه من رواية الأثبات؛ فلا يحل الاحتجاج بخبره بحال"، وضعفه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 154" بقوله: "وإسناده ضعيف، ضعفه العقيلي وابن حبان". وانظر غير مأمور: "من روى عن أبيه عن جده" "ص77-78". و"الحبارى": طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة، الذكر والأنثى والجمع فيه سواء. انظر: "اللسان" "4/ 160"، و"المعجم الوسيط" "1/ 152"، و"حياة الحيوان الكبرى" "1/ 225-226"، وأكلها حلال. 3 ويدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب الأرنب، 9/ 661/ رقم 5535"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الأرنب، 3/ 1547/ رقم 1953" عن أنس -رضي الله عنه- قال: أنفجنا -أي: أثرنا- أرنبًا ونحن بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا -أي: تعبوا- فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فذبحها، فبعث بوركيها -أو قال: بفخذيها- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبلها. لفظ البخاري. 4 من مثل الجراد، وسيأتي الدليل على إباحته "ص372". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ مَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ؛ كَالْمَاءِ، وَاللَّبَنِ، وَالْعَسَلِ وَأَشْبَاهِهَا، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ إِزَالَةِ الْعَقْلِ الْمُوقِعِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ؛ فَوَقَعَ فِيمَا بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُسْكِرَ، وَهُوَ نَبِيذُ الدُّبَّاءِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَالنَّقِيرِ1 وَغَيْرِهَا؛ فَنَهَى عَنْهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِالْمُسْكِرَاتِ تَحْقِيقًا؛ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِي أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ وَالْعَسَلِ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "كُنْتُ 2 نَهَيْتُكُمْ عَنِ الِانْتِبَاذِ 3؛ فانتبذوا" 4، و "كل   1 أي: المنبوذ في هذه الأوعية، والدباء: ما يتخذ من القرع، واحدته دباءة، والمزفت: إناء يطلى بالزفت وهو القار، والنقير أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ فقد كان أهل اليمامة ينقرون أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وفي الحديث: "نهى -صلى الله عليه وسلم- عن الدباء والحنتم والنقير"، والحنتم: جرار مدهونة خضر أو حمر، ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم، واحده حنتمة، وخصت هذه الأواني بالنهي لإسراعها بتغير ما ينبذ فيها. "ف". 2 تحريم الانتباذ في هذه الأوعية سد للذريعة، وفطام لهم عن المسكر وأوعيته؛ إذ كانوا حديثي عهد بشربه, فلما استقر تحريمه عندهم, واطمأنت إليه نفوسهم, وشكوا من ضيق الأمر عليهم بمنع هذه الأواني التي لا مندوحة لهم عنها؛ أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكرًا؛ فقد رجح جانب التحريم حيث قام مقتضيه، فلما زال المقتضى رجح جانب الحل الذي هو الأصل، وسواء أقلنا: إن ذلك بوحي أم باجتهاد؛ فالكل بيانه صلى الله عليه وسلم. "د". 3 أي: في تلك الأواني، وفي بعض الروايات وقع التصريح بها. "ف". 4 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب الأشربة، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، 8/ 319، ص195"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 328"، والطيالسي = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 .........................................................................   = في "المسند" "ص195"، والدارقطني في "السنن" "4/ 259"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 298" من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن أبي بردة بن نيار الأنصاري مرفوعًا: "إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم، ولا تسكروا". وله عندهم ألفاظ منها للنسائي: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا ". ثم قال: "هذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، لا نعلم أن أحدًا تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب، وسماك ليس بالقوي، كان يقبل التلقين، قال أحمد بن حنبل: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده ولفظه، ثم رواه النسائي من طريق شريك عن سماك عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعًا: "نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت". وخالفه أبو عوانة؛ فرواه عن سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة؛ قالت: "اشربوا ولا تسكروا"، قال النسائي: وهذا أيضًا غير ثابت وقرصافة هذه لا ندري من هي، والمشهور عن عائشة خلاف ما روت عنها قرصافة". ثم خرجه بلفظ آخر بعيد عن هذا المعنى، وقال الدارقطني: "وهم فيه أبو الأحوص في إسناده ومتنه، وقال غيره: عن سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه: "ولا تشربوا مسكرًا"، ثم أخرجه كذلك من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري عن محمد بن جابر عن سماك، ثم قال: وهذا هو الصواب". وذكر ابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 24-25" أنه سأل أبا زرعة عن حديث أبي الأحوص هذا؛ فقال أبو زرعة: "وهم فيه أبو الأحوص قلب من الإسناد موضعًا وصحف في موضع، أما القلب؛ فقوله عن أبي بردة, أراد عن ابن بريدة ثم احتاج أن يقول ابن بريدة عن أبيه؛ فقلب الإسناد بأسره، وأفحش في الخطأ، وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفه في متنه: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا"، وقد روى هذا الحديث عن ابن بريدة عن أبيه أبو سنان ضرار بن مرة، وزبيد اليامي عن محارب بن دثار، وسماك بن حرب، والمغيرة بن سبيع، وعلقمة بن مرثد، والزبير بن عدي، وعطاء الخراساني، وسلمة بن كهيل عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء؛ فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مسكرًا". وفي حديث بعضهم: "واجتنبوا كل مسكر" ولم = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 مُسْكِرٍ حَرَامٌ" 1، وَبَقِيَ فِي قَلِيلِ الْمُسْكِرِ عَلَى الأصل من التحريم2؛ فبين أن   = يقل أحد منهم: ولا تسكروا؛ وقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء المسمين على ما ذكرنا من خلافه، قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي الأحوص خطأ في الإسناد والكلام، فأما الإسناد؛ فإن شريكًا وأيوب ومحمدًا ابني جابر رووه عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي -صلى الله علي وسلم- كما رواه الناس: "فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا". قال أبو زرعة: كذا أقول، وهذا خطأ، والصحيح حديث ابن بريدة عن أبيه. وأخرج ابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من ذلك، 2/ 1128/ رقم 3406"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 227-228" عن ابن مسعود مرفوعًا: " إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن وعاء لا يحرم شيئًا، كل مسكر حرام". وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير" "رقم 10304"، وابن حبان في "الصحيح" "12/ 229-230/ رقم 5409, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 311"، وإسناده حسن، وحسنه البوصيري في "مصباح الزجاجة" "3/ 108". ثم وقفت عليه باللفظ الذي ذكره المصنف، وهو قطعة من حديث فيه قصة عن أبي سعيد، أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 485 في كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الأضاحي" عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد، ولم يسمع ربيعة من أبي سعيد، ولكن أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 374، 375"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 311" من طريق ابن وهب عن أسامة بن زيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن واسع بن حبان عن أبي سعيد نحوه، وإسناده صحيح. وانظر: "صحيح البخاري" "كتاب الأشربة، باب الانتباذ في الأوعية والتور، 10/ 56-57"، و"صحيح مسلم" "كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرًا، 3/ 1557"، وقد مضى نحو هذا الحديث وشواهد كثيرة له وتخريجها في "2/ 79-80". 1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر, رضي الله عنه. وورد عن ابن عمر في "صحيح مسلم" "رقم 2003" بلفظ: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وعن عائشة في "الصحيحين" كما بينته في التعليق على "2/ 522". وانظر تخريج الحديث السابق. 2 لعله قد سقط من النسخة هنا كلمة "أو الإباحة" فالفرض أنه بقيت واسطة وهي القليل الذي لا يسكر، إلى أي الطرفي تنضم, فبين أن ما أسكر كثيره ... إلخ. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ؛ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ1، وَكَذَلِكَ نَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَهَى مِنْ أَجْلِهِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَغَيْرِهِمَا2؛ فَهَذَا وَنَحْوُهُ دَائِرٌ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ، فَكَانَ البيان مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَيِّنُ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا إِلَى أَيِّ جِهَةٍ يُضَافُ مِنَ الْأَصْلَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ مِنْ صَيْدِ الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَصَيْدُهُ حَرَامٌ، إِذْ لَمْ يُمْسِكْ إِلَّا على نفسه؛ فدار   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، 3/ 327/ رقم 3681"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأشربة، باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، 4/ 292/ رقم 1865"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، 2/ 1125/ رقم 3393"، وأحمد في "المسند" "3/ 343"، و"الأشربة" "148"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 860"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "4/ 351" من طريق داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر به مرفوعًا، وإسناده حسن من أجل داود، وقد تابعه موسى بن عقبة -وهو ثقة-، أخرجه من طريقه ابن حبان في "الصحيح" "12/ 202/ رقم 5382, الإحسان"، وسلمة بن صالح -وهو ضعيف- أخرجه من طريقه ابن عدي في "الكامل" "3/ 1177". والحديث صحيح بمجموع طريقيه، والله والموفق. قال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وعائشة وعبد الله بن عمر وابن عمرو وخوات بن جبير"، وقال عن حديث جابر: "هذا حديث حسن غريب من حديث جابر". وانظر: "نصب الراية" "4/ 301-305". 2 في "ط": "والجر وغيرها"، وفي نسختي "ف" و"م": "وغيرها"، ولذا كتب "ف" هنا: "لعله: "وغيرهما" أو يزاد قبله "والنقير"". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مَا كَانَ مُعَلَّمًا وَلَكِنَّهُ أَكَلَ مِنْ صَيْدِهِ؛ فَالتَّعْلِيمُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَيْكَ وَالْأَكْلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ اصْطَادَ لِنَفْسِهِ لَا لَكَ، فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ" 1. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ" 2. وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسم الله؛ فكل وإن   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الذبائح والصيد، باب التسمية على الصيد، 9/ 598/ رقم 5475"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529-1530/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم, رضي الله عنه. 2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271/ رقم 2851"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصيد، باب ما جاء في صيد البزاة، 4/ 66/ رقم 1467"، وأحمد في "المسند" "4/ 257/ 377، 379"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "9/ 238" من طريق مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به. قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي، والعمل على هذا عند أهل العلم". قلت: مجالد ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره؛ إلا أنه توبع، ولكن بلفظ آخر نحو المذكور. أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن بيان عن الشعبي عن عدي بن حاتم؛ قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب. قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله؛ فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن؛ إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها؛ فلا تأكل". لفظ البخاري. قلت: وكلام الترمذي السابق يقيد بما قاله البيهقي عقبه: "ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفاظ الذين رووه عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 أكل منه" 1 الحديث.   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271-272/ رقم 2852" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 237-238"، وابن عبد البر في "الاستذكار" "15/ 285/ رقم 21939"- من طريق داود بن عمرو الدمشقي عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة به، وقال البيهقي عقبه: "حديث أبي ثعلبة مخرج في "الصحيحين" من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة وليس فيه ذكر الأكل، وحديث الشعبي عن عدي أصح من حديث داود بن عمرو الدمشقي ومن حديث عمرو بن شعيب". قلت: وإسناده ضعيف، وفيه نكارة واضحة. وداود بن عمرو ضعف، وقال ابن حجر في "التقريب" "199": "صدوق يخطئ"، وأخطأ في هذا الحديث، ولفظ: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل". قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: "وإن أكل". فأخطأ في قوله: "وإن أكل"، والصواب قوله: "وإن قتل". ويقع مثل هذا كثيرًا للرواة، والأدلة على ما قلت كثيرة، هذا بعضها: - الثابت في حديث عدي السابق: "وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه"، ومن المحال أن يروي الثقات الأثبات هذا، ثم يروون حديث أبي ثعلبة، ولا يتعرضون لمثل هذه اللفظة؛ فالحاجة إليها ماسة، فانفراد من يخطئ بها دلالة على عدم ثبوتها. - مخالفتها لصريح القرآن، وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم} [المائدة: 4] . - قول الذهبي في ترجمة "داود بن عمرو" في "الميزان" "2/ 17-18": "تفرد بحديث: "وإذا أرسلت كلبك ... فكل وإن أكل منه""، قال: "وهو حديث منكر". - قول ابن حزم في "المحلى" "7/ 471": "هو حديث ساقط لا يصح، وداود بن عمرو ضعيف، ضعفه أحمد بن حنبل". وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه نحو ما في الحديث السابق؛ فأخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 110/ 2857"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 238"، و"المعرفة" "13/ 445/ رقم 18786" من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أعرابيًّا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله! إن لي كلابًا مكلبة؛ فأفتني في صيدها. فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لك كلاب مكلبة, فكل مما أمسكن عليك". قال: ذكيًّا أو غير ذكي؟ قال: "نعم"، قال: فإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه". وهو حديث معلول؛ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وَجَمِيعُ ذَلِكَ رُجُوعٌ لِلْأَصْلَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ1. وَالرَّابِعُ: أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الصَّيْدَ مُطْلَقًا، وَجَاءَ أَنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا الْجَزَاءَ، وَأُبِيحَ لِلْحَلَالِ مُطْلَقًا؛ فَمَنْ قَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ قَتْلُهُ خَطَّأً فِي مَحَلِّ النَّظَرِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ2 بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَمْدِ والخطأ،   = فقد رواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن شعيب، فقال عن رجل من هذيل: إنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكلب يصطاد، قال: "كل أكل أو لم يأكل". ذكره البيهقي، ثم قال: فصار حديث عمرو بن شعيب بهذا معلولًا. وحكم على ظاهر سنده ابن حجر في "الفتح" "9/ 602"؛ فقال: "سنده لا بأس به"، وحكمه في "التلخيص الحبير" "2/ 136" أدق، وذلك عند قوله: "أعله البيهقي"، وتعنت ابن حزم بتضعيفه إياه في "المحلى" "7/ 471" بأنه صحيفة. وقد ثبت عن ابن عمر وسعد نحو هذا؛ كما في "الموطأ" "2/ 492، 493"، وانظر في بسط المسألة وأقوال أئمة الفقه في: "الاستذكار" "15/ 281 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام" "4/ 239 وما بعدها". وإذا علم ضعف الحديث؛ فلا وجه لما كتبه "د" هنا، وهذا نصه: "فيكون الحديث الأول من الإلحاق بأحد الطرفين احتياطًا فقط". 1 أي: الطرفين الواضحين. "د". 2 كما أخرج مالك في "الموطأ" "267, رواية يحيى و1245, رواية أبي مصعب" عن عبد العزيز -قال أبو مصعب: عبد الملك- بن قرير عن محمد بن سيرين؛ أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: "إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين، نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان؛ فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلًا يحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا ... قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وهذا عبد الرحمن بن عوف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 قَالَ الزُّهْرِيُّ: "جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ، وَهُوَ فِي الْخَطَأِ سُنَّةٌ"1، وَالزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ الناس بالسنن.   = وأخرجه من طريق مالك: عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 408"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 203"، و"المعرفة" "7/ 450/ رقم 10652". قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "13/ 275-277": "أمر ابن وضاح بطرح عبد الملك اسم شيخ مالك في هذا الحديث، فقال: اجعله عن ابن قرير، وكذلك روايته عن يحيى عن مالك عن ابن قرير عن محمد بن سيرين في هذا الحديث، ورواية عبيد الله عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك عن عبد الملك بن قرير، وهو عند أكثر العلماء خطأ؛ لأن عبد الملك بن قرير لا يعرف. قال يحيى بن معين: "وهم مالك في اسمه، شك في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قريب وهو الأصمعي"، وقال آخرون: إنما وهم مالك في اسمه لا في اسم أبيه، وإنما هو عبد العزيز بن قرير، رجل بصري، يروي عن ابن سيرين أحاديث، هذا منها، وقال أحمد بن عبد الله بن بكير: لم يهم مالك في اسمه، ولا في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قرير كما قال مالك، أخو عبد العزيز بن قرير". ونقل البيهقي في "المعرفة" "7/ 451" أن الشافعي خطأ مالكًا أيضًا في هذا الاسم، وعلى أية حال؛ فالأمر كما قال ابن عبد البر: "الرجل مجهول، والحديث معروف محفوظ من رواية البصريين والكوفيين". قلت: وللطريق الأول علة أخرى، وهي الانقطاع بين ابن سيرين وعمر، كما نبه عليه ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 203"، قال ابن عبد البر: "رواه ابن جابر، ورواه عن قبيصة الشعبي، ومحمد بن عبد الملك بن قارب الثقفي، وعبد الملك بن عمير، وهو أحسنهم سياقة له، ورواه عن عبد الملك بن عمير جماعة من أهل الحديث، منهم سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الملك المسعودي، ومعمر بن راشد، ذكرها كلها علي بن المديني". ثم أسندها من جميع هذه الطرق ثم قال: "ظاهر حديث مالك من قوله: "أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيًا" يدل على أن قتل ذلك الظبي كان خطأ". 1 أخرجه بسنده إليه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 391/ رقم 8178"، وذكره عنه ابن عبد البر في "الاستذكار" "13/ 285". وفي "ط": "جاء في القرآن ... على العمد ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ قَدْ بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ، وَجَاءَتْ بَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُلْتَبِسَةٌ لِأَخْذِهَا بِطَرَفٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَبَيَّنَ صَاحِبُ السُّنَّةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ. فَالْأَوَّلُ1 قَوْلُهُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" 2 الْحَدِيثَ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ: "وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ" لِمَا رأى من شبهه بعتبة، الحديث3.   1 أي: ما كان على الجملة. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير, رضي الله عنه. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 292/ رقم 2053، وباب شراء المملوك من الحربي، 4/ 441/ رقم 2218، وكتاب الخصومات، باب دعوى الوصي للميت، 5/ 74/ رقم 2421، وكتاب العتق، باب أم الولد، 5/ 163/ رقم 2533، وكتاب الوصايا، باب قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي، 5/ 371/ رقم 2745، وكتاب المغازي، باب منه، 8/ 23/ رقم 4303، وكتاب الفرائض، باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة، 12/ 32/ رقم 6749، وباب من ادعى أخًا وابن أخ, 12/ 52/ رقم 6765، وكتاب الحدود، باب للعاهر الحجر، 12/ 127/ رقم 6817، وكتاب الأحكام، باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، 13/ 172/ رقم 7182"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، 2/ 1080/ رقم 1457" عن عائشة -رضي الله عنها- وقوله, صلى الله عليه وسلم: "احتجبي منه"، حمله بعضهم على جهة الاختيار والتنزه؛ فإن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، وقال بعضهم: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر؛ فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر، وهو"الولد للفراش"، وحكم باطن، وهو الاحتجاب من أجل الشبه، كأنه قال: ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله بالولد للفراش، فاحتجبي منه لما رأى شبهه لعتبة. أفاده ابن عبد البر في "التمهيد" "8/ 186". كتب "د" هنا ما نصه: "لما رأى شبهه بعتبة؛ فألحق بصاحب الفراش، وهو واضح، وألحقه بغير صاحب الفراش من جهة المحرمية، فلم يجعله من محارم سودة؛ لوضوح شبهه بغير أبيها احتياطًا". وفي "ط": "هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ: "فَإِذَا اخْتَلَطَ بِكِلَابِكَ كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَلَا تَأْكُلْ، لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ قَتَلَهُ الَّذِي لَيْسَ مِنْهَا" 1. وَقَالَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ2 وَقَدْ كَانَتْ تُطْرَحُ فِيهَا الْحِيَضُ3 وَالْعَذِرَاتُ: "خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" 4؛ فَحَكَمَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وهو الطهارة.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم, رضي الله عنه. 2 بضاعة -بضم الباء- هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر, قال المنذري: "بئر بضاعة: دار لبني ساعدة بالمدينة، وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة، قيل: بضاعة: اسم لصاحب البئر، وقيل: لموضعها. 3 جمع حيضة -بكسر فسكون- وهي الخرقة التي تستثفر بها المرأة؛ كالمحيضة، وجمعها محايض، وفي حديث عائشة: "ليتني كنت حيضة ملقاة"، وفي حديث بئر بضاعة: "تلقى فيها المحايض". "ف". قلت: في الأصل: "خرق الحيض بدل من الحيض". قلت: انظر أيضًا "الصحاح" "3/ 1073". 4 للحديث طرق كثيرة، أحسنها طريق أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب القرظي عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد به، كما عند أحمد في "المسند" "3/ 31"، وأبي داود في "السنن" "رقم 66"، والترمذي في "الجامع" "1/ 95"، والنسائي في "المجتبى" "1/ 174"، والدارقطني في "السنن" "1/ 30"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 47"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 141-142"، والبغوي في "شرح السنة" "2/ 60/ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 ........................................................................   = رقم 283"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 269". وقال الترمذي: "حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد"، وقال البغوي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" "1/ 45": "قلت: ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، غير عبيد الله بن عبد الله بن رافع"، وصححه لطرقه وشواهده. قلت: ومن أصح شواهده حديث سهل بن سعد، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 12"، والدارقطني في "السنن" "1/ 32"، والبيهقي في "السن الكبرى" "1/ 259"، وقاسم بن أصبغ في "مصنفه"، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" "1/ 155"، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في "مستخرجه على سنن أبي داود" كما في "التلخيص الحبير" "1/ 13". والحديث صححه أحمد بن حنبل. قال الخلال: "قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، وصححه أيضًا يحيى بن معين وابن حزم، وحسنه ابن القطان، وقال ابن أصبغ: أحسن شيء في بئر بضاعة، وقال العيني: إسناده صحيح، وصححه النووي". انظر: "التلخيص الحبير" "1/ 12"، و"تحفة المحتاج" "1/ 137"، و"المجموع" "1/ 82"، و"المغني" "1/ 25"، و"خلاصة البدر المنير" "1/ 7"، و"البناية في شرح الهداية" "1/ 320"، و"إرواء الغليل" "1/ 45-46"، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية" "1/ 266"، و"تحفة الطالب" لابن كثير "رقم 146"، و"تنقيح التحقيق" "1/ 205-207"، و"البدر المنير" "2/ 51-61". وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 145-146"، و"الخلافيات" المجلد الثالث مع تعليقي عليهما. وكتب "د" هنا ما نصه: "الحديث أخرجه أصحاب السنن، وفيه: إنا نستقي لك الماء من بئر بضاعة وتلقي فيها لحوم الكلاب وخرق المحايض وعذر الناس "جمع عذرة، وهي الفتيلة التي توضع داخل الحلق إذا أصابه وجع"، وإذا نظر إلى الروايات الأخرى التي فيها زيادة: "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه"، يكون الحكم بالطهارة لأن علامة التنجيس لم توجد فيه، وإن كانت هذه الروايات ضعيفة سندًا!! لكنها لا بد أن تكون بحيث يعتمد عليها، بدليل الإجماع على معناها، ولا إجماع بدون سند من الكتاب أو السنة؛ فلا يكون مما نحن فيه لأنه من باب تحقيق المناط فقط إذا كانت القاعدة مقررة من قبل، ويكون هذا كتذكير لهم بالحكم، أما إذا كان إنشاء للحكم، فهو من الباب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وَجَاءَ فِي الصَّيْدِ: "كُلْ مَا أَصْمَيْتَ1، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ"2. وَقَالَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الحارث فِي الرَّضَاعِ؛ إِذْ3 أَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ بِأَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ، وَالْمَرْأَةُ4 الَّتِي أَرَادَ تَزَوُّجَهَا، قَالَ فِيهِ: "كيف 5 بها وقد زعمت أنها   1 أي: ما أصابه السهم فأسرع بموته وأنت تراه، من "الإصماء" وهو أن تقتل الصيد مكانه، و"الإنماء" أن تصيبه إصابة غير قاتلة في الحال، ومعناه: أن ما أصبته، ثم غاب عنك فمات بعد ذلك فلا تأكله؛ فإنك لا تدي أمات بصيدك أم بعارض آخر. "ف". قلت: انظر في تفصيل هذا المعنى وأحكامه: "تفسير القرطبي" "6/ 71-72"، و"فتح الباري" "9/ 611"، و"معرفة السنن والآثار" "13/ 449-450". 2 أخرجه الطبراني في "الكبير" "12/ 27/ رقم 12370" بإسناد ضعيف، فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 136"، وأخرجه البيهقي في "الكبرى" "9/ 241"، و"المعرفة" "13/ 449/ رقم 18800، 18802" من طريقين عن ابن عباس موقوفًا، وهو أشبه، وصححه البيهقي موقوفًا، وضعف المرفوع، وانظر: "فتح الباري" "9/ 611"، و"مجمع الزوائد" "4/ 162"، و"تخريج العراقي لأحاديث الإحياء" "2/ 96". وللمرفوع شاهد من حديث عمرو بن تميم عن أبيه عن جده؛ كما عند أبي نعيم في "المعرفة"، وفيه محمد بن سليمان بن مشمول وقد ضعفوه، وانظر: "من روى عنه أبيه عن جده" "ص493"، و"لسان الميزان" "2/ 73". وكتب "د" هنا ما نصه: "وبالتأمل في الفرق بين مسألة الصيد ومسألة الماء، حيث أنه -صلى الله عليه وسلم- رجح في الصيد عدم الحل وفي الماء الطهارة، تجد أنه قد أخذ فيهما بالأصل إن كان اجتهادًا؛ فالأصل الذكاة الشرعية المعروفة، والصيد رخصة بقيود وشروط؛ فما لم نجزم بحصول الشروط رجعنا إلى الأصل، وهو عدم الحل؛ لأنه غير مذكى، وكذلك الماء رجح فيه الأصل، وهو الوصف الذي خلق عليه حتى يتبين ما يخالفه، ولما لم يتبين بقي على أصله". 3 في النسخ المطبوعة: "إذا"، والمثبت من الأصل و"ط". 4 أي: مع المرأة. "ف". 5 في "ط": "فكيف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ دَعْهَا عَنْكَ" 1. إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةٍ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَرَّمَ الزِّنَى، وَأَحَلَّ التَّزْوِيجَ وَمِلْكِ الْيَمِينَ، وَسَكَتَ عَنِ النِّكَاحِ الْمُخَالِفِ لِلْمَشْرُوعِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ مَحْضٍ وَلَا سِفَاحٍ مَحْضٍ؛ فَجَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَكُونَ2 مَحَلًّا لِاجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مُطْلَقًا3، أَوْ فِي4 بَعْضِ الْأَحْوَالِ،   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 291/ رقم 2052، وكتاب النكاح، باب شهادة المرضعة، 9/ 152/ رقم 5104"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النكاح، باب الشهادة في الرضاع، 6/ 109"، و"الكبرى" -كما في "التحفة" "7/ 300"- والترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، 3/ 457/ رقم 1151"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب الشهادة في الرضاع، 3/ 306-307/ رقم 3603"، وأحمد في "المسند" "4/ 7، 383-384"، والدارقطني في "السنن" "4/ 175-176"، والحميدي في "المسند" "رقم 579"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 463" عن عقبة بن الحارث, رضي الله عنه. وكتب "د" هنا ما نصه: "وفيه أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب بن عزيز؛ فأتته امرأة فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فركب إلى المدينة. فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "وكيف وقد قيل؟ ". ففارقها؛ إلا أنهم قالوا: إن هذا إرشاد إلى طريق الورع والتنزه عن الشبهات ولو ضعيفة، فإن الشارع جعل لسماع دعوى المرأة في الرضاع شروطًا لم تستوف ههنا؛ فكان مقتضاه ألا يلتفت إلى قول المرأة، ولا يقضي به في تحريم هذا النكاح، ومنه تعلم ما في قوله: "التي أراد أن يتزوج بها"". قلت: انظر في المسألة وفقهها: "شرح السنة" "9/ 87"، و"فتح الباري" "9/ 153 وما بعدها و5/ 269". 2 أي: المسكوت عنه، أي: باقيه الذي لم تبينه السنة. "د". 3 كما في مثال النكاح بغير ولي قبل الدخول؛ فليس له أثر يترتب عليه إن حصل الطلاق قبل الدخول، وبعد الدخول ألحق بكل من الأصلين في حالة وحكم وإن كانت هذه الأحكام التي ذكرناها أخذت من بيان الحديث لا من اجتهاد العلماء. "د". 4 في الأصل: "على". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 وَبِالْأَصْلِ الْآخَرِ فِي حَالٍ آخَرَ؛ فَجَاءَ فِي الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ, فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا؛ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا" 1، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا جَاءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مِنَ السُّنَّةِ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ صَيْدَ الْبَحْرِ فِيمَا أَحَلَّ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ فِيمَا حَرَّمَ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَدَارَتْ مَيْتَةُ الْبَحْرِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَأَشْكَلَ حُكْمُهَا؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 2.   1 الحديث صحيح بمجموع طرقه؛ كما بينته بتفصيل في تعليقي على "3/ 47". 2 أخرجه مالك في "الموطأ "كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء، 1/ 22/ رقم 12" -ومن طريقه الشافعي في "الأم" "1/ 16"، و"المسند" "8/ 335, مع الأم"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 231"، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" "رقم 46"- وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 131" و"المسند" كما في "نصب الراية" "1/ 96"، وأحمد في "المسند" "2/ 237 و361 و393"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 176، وكتاب الصيد والذبائح، باب ميتة البحر، 7/ 207"، و"السنن الكبرى" "رقم 67"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1/ 100-101/ رقم 69"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 64/ رقم 83"، والدارمي في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر، 1/ 186، وكتاب الصيد، باب في صيد البحر، 2/ 91"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 136/ رقم 386، وكتاب الصيد، باب الطافي من صيد البحر، 2/ 1081/ رقم 3246"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 478، ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 119, موارد الظمآن"، وابن خزيمة في "الصحيح" "1/ 59/ رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 43"، والدارقطني في "السنن" "1/ 36"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 140-141" و"معرفة علوم الحديث" "ص87"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 3" و"السنن الصغرى" "1/ 63/ رقم 155"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 247", والبغوي في "شرح السنة" "2/ 55-56/ رقم 281", والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" "1/ 346"، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، ونقل عنه البخاري تصحيحه = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: "أُحِلَّتْ [لَنَا] مَيْتَتَانِ: الحيتان، والجراد" 1.   = لهذا الحديث. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن منده وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وابن الأثير وابن الملقن والزيلعي وابن حجر والنووي والشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني. انظر: "نصب الراية" "1/ 95"، و"التلخيص الحبير" "1/ 9"، و"المجموع" "1/ 82"، و"خلاصة البدر المنبر" "رقم 1"، و"تحفة المحتاج" "رقم 3"، و"البناية شرح الهداية" "1/ 297"، وتعليق شاكر على "جامع الترمذي" "1/ 101"، و"نيل الأوطار" "1/ 17"، و"سبل السلام" "1/ 15"، و"إرواء الغليل" "1/ 42"، و"البدر المنير" "2-5". وقال الإمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا الحديث نصف علم الطهارة". انظر "المجموع" "1/ 84"، وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد "رقم 231-240" مع تعليقي عليه. 1 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 97"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، 2/ 1073/ رقم 3218، وكتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال، 2/ 1102/ رقم 3314"، والشافعي في "الأم" "2/ 223" و"المسند" "2/ 173/ رقم 607, ترتيب السندي"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "ص340 ورقم 820"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 331"، وابن عدي في "الكامل" "4/ 1582"، وابن حبان في "المجروحين" "2/ 58"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 254 و9/ 257"، والدارقطني في "السنن" "4/ 272"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 244"، وابن ثرثال في "سداسياته" -كما في "الصحيحة" "رقم 1118"- جميعهم من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر به مرفوعًا. وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" "1/ 200, مع الفيض" للحاكم، وتبعه شيخنا في "الصحيحة"، ولم أعثر عليه في "المستدرك"، ولعل منشأ هذا العزو ما حكاه ابن الملقن في "البدر المنير" "2/ 161" و"تحفة المحتاج" "1/ 216/ رقم 122": "رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، لأجل عبد الرحمن بن أسلم، وإن كان الحاكم قال في "مستدركه" في حديث هو في سنده: هذا حديث صحيح الإسناد"، وذكر الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" "8/ 81" أنه لم يجده في "المستدرك" بعد طول بحث. والإسناد المذكور ضعيف جدًّا، وقال الدارقطني والبيهقي: "رواه سليمان بن بلال عن زيد = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 ...........................................................................   = ابن أسلم عن عبد الله بن عمر، أنه قال: "أحلت لنا ... ". قالا: "وهو الأصح"، يعني أن الحديث موقوف وليس بمرفوع. وهذا الذي رجحه أبو زرعة الرازي، كما في "العلل" "2/ 17/ رقم 1524" لابن أبي حاتم، وقال الإمام أحمد في "العلل" "2/ 136 و3/ 271/ رقم 1795 و5204, رواية ابنه عبد الله"، "روى عبد الرحمن أيضًا حديثًا آخر منكر، حديث: "أحل لنا ميتتان ودمان"، وأشار إلى صحة وقفه، بروايته في "العلل" أيضًا "1/ 480/ رقم 1099, رواية عبد الله" عن ابن عمر من طريق آخر، وستأتي الإشارة إليه، مع أن ابن عدي في "كامله" "1/ 388" قال: "رواه يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال مرفوعًا"، وأسنده من طريقه "4/ 1503"، قال البيهقي: "وقد رفع هذا الحديث أولاد زيد عن أبيهم، وهم: عبد الله، وأسامة، وعبد الرحمن بنو زيد بن أسلم عن أبيهم عن ابن عمر" قال: "وأولاد زيد كلهم ضعفاء، جرحهم يحيى من معين، وكان أحمد بن حنبل وعلي بن المديني يوثقان عبد الله بن زيد؛ إلا أن الصحيح من هذا الحديث هو الأول"، يعني: الموقوف الذي ذكره. قلت: ومتابعة عبد الله وأسامة أخرجها أحمد في "العلل" "1/ 480/ رقم 1099, رواية ابنه عبد الله"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 331"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 388 و4/ 1503". وقال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح في "كلامه على الوسيط": "هذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث، غير أنه متماسك"، قال: "وأولاد زيد وإن كانوا قد ضعفوا ثلاثتهم؛ فعبد الله منهم، قد وثقه أحمد وعلي بن المديني". قال: "وفي اجتماعهم على رفعه ما يقويه تقوية صالحة". قلت: وجنح الشيخ ابن دقيق العيد في "الإمام" إلى تصحيح الرواية المرفوعة من طريق عبد الله بن زيد؛ فإنه قال, عقب قول البيهقي: إن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني كانا يوثقان عبد الله بن زيد إلى آخره: "إذا كان عبد الله على ما قالاه؛ فيدخل حديثه فيما رفعه الثقة، ووقفه غيره، وقد عرف ما فيه عند الأصوليين والفقهاء". يعني: والأصح تقديم ما رواه الرافع؛ لأنها زيادة، وهي من الثقة مقبولة. قال: "لا سيما وقد تابعه على ذلك أخواه، أي: فلا يسلم أن الصحيح الأول كما قال البيهقي؛ فتكون هذه الطريق حسنة، مع أن الرواية الأخرى يحسن الاستدلال بها، قال البيهقي: = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 وَأَكَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا قَذَفَهُ الْبَحْرُ لَمَّا أَتَى بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ1. وَالثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، [وَأَقَصَّ مِنَ الْأَطْرَافِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .... } [الْمَائِدَةِ: 45]] 2 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَذَا فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ؛ فَالدِّيَةُ لِقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .   = "هي في معنى المسند"، أي: في حكم المرفوع، كما فهم ابن حجر في "الفتح" "9/ 621". قلت: لأن قول الصحابي: "أمرنا بكذا"، و"نهينا عن كذا"، و"أحل كذا"، و"حرم كذا": مرفوع عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى المختار عند جمهور الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين. لا جرم أن الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، والشيخ محيي الدين النووي قالا: "يحصل الاستدلال بهذه الرواية لأنها في معنى المرفوع". ولهذا الحديث طريق ضعيفة جدًّا، غريبة، لا بأس بالتنبيه عليها، وهي: عن مسور بن الصلت عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا كما تقدم، أخرجه الدارقطني في "العلل" "3/ ق 112/ أ"، والخطيب في "تاريخه" "12/ 245"، وقال الدارقطني: "لا يصح لأن المسور كان ضعيفًا، وهو كما قال؛ فقد كذبه أحمد، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات، لا يجوز الاحتجاج به". وله طريق أخرى فيها أبو هاشم كثير بن عبد الله الأبلي، تركه النسائي، وقال البخاري: "منكر الحديث"، ولذا قال ابن حجر بعد كلامه على رواية أولاد زيد: "تابعهم شخص أضعف منهم، وهو ... ". وانظر: "التلخيص الحبير" "1/ 26"، و"نصب الراية" "4/ 202"، و"البدر المنير" "2/ 158-164"، و"تخريج الزيلعي على الكشاف" "1/ 100/ رقم 84". 1 أخرج ذلك البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيرًا لقريش وأميرهم أبو عبيدة، 8/ 78/ رقم 4362"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2308-2309/ رقم 3014" عن جابر -رضي الله عنه- وليس في رواية مسلم أكله -صلى الله عليه وسلم- منه. 2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وَبَيَّنَ1 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دِيَةَ الْأَطْرَافِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَأْتِي2 بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَجَاءَ طَرَفَانِ أُشْكِلَ بَيْنَهُمَا الْجَنِينُ إِذَا أَسْقَطَتْهُ أُمُّهُ بِالضَّرْبَةِ3 وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ جُزْءَ الْإِنْسَانِ كَسَائِرِ الْأَطْرَافِ، وَيُشْبِهُ الْإِنْسَانَ التَّامَّ لِخِلْقَتِهِ4؛ فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ5 فِيهِ أَنَّ دِيَتَهُ الْغُرَّةُ6، وَأَنَّ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ لِعَدَمِ تَمَحُّضِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَهُ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَأَبَاحَ الْمُذَكَّاةَ؛ فَدَارَ الْجَنِينُ الخارج من بطن   1 وأشهر أحاديث الموضوع ما رواه مالك والنسائي عن عبد الله بن حزم عن أبيه، وما رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب، وهذا المثال مما وقع في الكتاب النص على الطرفين، لكن بيان أحدهما به والآخر بالسنة، وبقيت الواسطة على اجتهاد يبعد على الناظر. "د". قلت: حديث عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قضى في الموضحة بخمس، وفي الأصابع بعشر، وفي لفظ: "في الموضحة خمس"، أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 695/ رقم 4566"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الديات، باب ما جاء في الموضحة، 4/ 13/ رقم 1390"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب المواضح، 8/ 57"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "9/ 142"، وعبد الرزاق في "المصنف" "9/ 306/ رقم 7324"، والدارمي في "السنن" "2/ 194"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 785"، وابن أبي عاصم في "الديات" "113"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 81"، والبغوي في "شرح السنة" "10/ 195"، وإسناده صحيح. قلت: وسيأتي تخريج الحديث الآخر. 2 في المثال الرابع مما يجري مجرى القياس. "د". 3 أي: من غيرها. "د". 4 في "ط": "الخلقة". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الديات، باب جنين المرأة، 12/ 246/ رقم 6904"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب القسامة، باب دية الجنين، 3/ 1309/ رقم 1681" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. 6 قال صاحب "التيسير" في شرح الحديث: "الغرة عند العرب العبد والأمة، وعند الفقهاء: ما بلغ ثمنه من العبيد نصف عشر الدية، وقوله: "حكم نفسه"؛ أي: لم يلحق بأحد الطرفين". "د". ونحوه عند "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 الْمُذَكَّاةِ مَيِّتًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَاحْتَمَلَهُمَا؛ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" 1 تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الجزئية على جانب الاستقلال.   1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 3/ 103/ رقم 2827"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 4/ 72/ رقم 1476"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الذبائح، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه، 2/ 1067/ رقم 3199"، وأحمد في "المسند" "3/ 31، 53"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 502/ رقم 8650"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 900"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 278/ رقم 992"، والدارقطني في "السنن" "4/ 272-273، 274"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 335"، والبغوي في "شرح السنة" "11/ 228"، جميعهم من طريق مجالد بن سعيد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رفعه. وإسناده ضعيف لضعف مجالد، ولكنه توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق، وهو متفق على ثقته، وأبو الوداك ثقة، احتج به مسلم. وقد ضعفه ابن حزم في "المحلى" "7/ 419" بقوله: "مجالد ضعيف، وأبو الوداك ضعيف". قلت: أبو الوداك وثقه ابن معين وابن حبان، وقال النسائي: "صالح"، ولذا قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 157": "أما أبو الوداك فلم أر من ضعفه". وأخرج متابعة يونس عن أبي الوداك أحمد في "المسند" "3/ 39"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1077, موارد"، والدارقطني في "السنن" "4/ 274"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 335"، والخطيب في "الموضح" "2/ 249". قال ابن حجر في "التلخيص" "4/ 157": "فهذه متابعة قوية لمجالد"، وقال المنذري في "مختصر السنن" "4/ 120": "وهذا إسناد حسن، ويونس -وإن تكلم فيه- فقد احتج به مسلم في "صحيحه"", وقال الذهبي في "الميزان" "4/ 483" وساق كلام الأئمة فيه وعنه: "قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة"، وترجمه في "من تكلم فيه وهو موثق" "رقم 389". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 45"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ رقم 1206"، والطبراني في "الصغير" "1/ 88، 168"، والخطيب في "تاريخ" "8/ 412"، وأبو نعيم في = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وَالْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النِّسَاءِ: 11] ؛ فَبَقِيَتِ الْبِنْتَانِ مسكوتًا عنهما؛ فنقل   = "مسانيد فراس بن يحيى المكتب" "رقم 39" من طريق عطية العوفي -وهو ضعيف مدلس ولم يصرح بالسماع- عن أبي سعيد به. وله شاهد من حديث جابر أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 84"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2828"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 343/ رقم 1808"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 660، 733 و6/ 2403"، والدارقطني في "السنن" "4/ 273"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 114"، وأبو نعيم في "الحلية" "7/ 92 و9/ 236"، و"أخبار أصبهان" "1/ 92 و2/ 82"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "رقم 288"، وابن الأعرابي في "المعجم" "رقم 200"، والسهمي في "تاريخ جرجان" "265" -موقوفًا- والخليلي في "الإرشاد" "1/ 438"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 334-335" من طرق عن أبي الزبير عن جابر، وليس من بينها طريق الليث بن سعد، ولم يصرح أبو الزبير في أي منها بالتحديث، فهو معلول من هذه الجهة، وبنحوه أعله ابن حزم في "المحلى" "7/ 419". وورد الحديث عن ابن عمر وأبي هريرة وكعب بن مالك وأبي ليلى وأبي أيوب الأنصاري وابن مسعود وابن عباس وعلي وأبي أمامة وأبي الدرداء وعمار بن ياسر والبراء بن عازب، ولا تخلو طرقه هذه من ضعف، وليس هذا موطن سردها، إلا أن الحديث صحيح ثابت من هذه الطرق، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 156": "قال عبد الحق: لا يحتج بأسانيده كلها، وخالف الغزالي في "الإحياء"؛ فقال: "هو حديث صحيح"، وتبع في ذلك إمامه". قلت: يريد إمام الحرمين الجويني، كما صرح به العراقي في "تخريج الإحياء" "2/ 116". قال ابن حجر: "فإنه -أي: إمام الحرمين- قال في "الأساليب": هو حديث صحيح، لا يتطرق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة، وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر". قلت: والعجب من "د"؛ فإنه نقل عن ابن حجر الكلام السابق، وفيه بدل من "تنتهض": "تنتقض"!! وقال بعد أن ذكر مخارجه عن "الجامع الصغير": "الكل معلول"، والأمر ليس كذلك كما اتضح لك، ولله الحمد، ولا داعي للإطالة بأكثر من هذا، والله الموفق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 فِي السُّنَّةِ1 حُكْمُهُمَا، وَهُوَ إِلْحَاقُهُمَا بِمَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ2. ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ. فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَرَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا؛ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِطَرَفٍ؛ فَلَا يَخْرُجْ عَنْهُمَا وَلَا يَعْدُوهُمَا3.   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات، 4/ 414/ رقم 2092"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب، 3/ 121/ رقم 2892"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب، 2/ 908-909/ رقم 2720"، وأحمد في "المسند" "3/ 352"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 524"، والدارقطني في "السنن" "4/ 79"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 333-334"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 229" من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر؛ قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال: "يقضي الله في ذلك". فنزلت آية الميراث؛ فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمهما، فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي؛ فهو لك". وإسناد حسن، من أجل عبد الله بن محمد بن عقيل، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل"، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 445" لابن أبي شيبة ومسدد والطيالسي وابن أبي عمر وابن منيع وابن أبي أسامة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان. وشذ بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد بن عقيل؛ فقال: "هاتان بنتا ثابت بن قيس"، أخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 2891"، والدارقطني والبيهقي، قال أبو داود والبيهقي: "أخطأ بشر فيه، إنما هما ابنتا سعد بن الربيع, وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة". وانظر: "فتح الباري" "8/ 244"، و"إرواء الغليل" "6/ 122"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 468". 2 في "ط": "الثنتين". 3 غير ظاهر في الغرة في الجنين؛ لأنه لم يأخذ حكم النفس ولا الأطراف، وهو يفيد عطف قوله: "أو غيره" فيما سبق على قوله "احتياطي". "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وَأَمَّا مَجَالُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أُصُولٌ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ نَحْوِهَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهَا، وَتُقَرِّبُ إِلَى الْفَهْمِ الْحَاصِلِ مِنْ إِطْلَاقِهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقَيِّدَاتِ مِثْلُهَا؛ فَيَجْتَزِي بِذَلِكَ الْأَصْلِ عَنْ تَفْرِيعِ الْفُرُوعِ اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ فِيهِ، وَهَذَا النَّحْوُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي حُكْمِ الْعَامِّ مَعْنًى، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ1 بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَوَجَدْنَا فِي الْكِتَابِ أَصْلًا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ مَا يَلْحَقُ بِهِ أو يشبهه أو يدانيه؛ فهو المعنى ههنا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ بِالْقِيَاسِ2 أَوْ بِالْوَحْيِ؛ إِلَّا أَنَّهُ جَارٍ فِي أَفْهَامِنَا مَجْرَى الْمَقِيسِ، وَالْأَصْلُ الْكِتَابُ شَامِلٌ لَهُ بِالْمَعْنَى الْمُفَسَّرِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ3، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ4: أَحَدُهَا5: أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَرَّمَ الرِّبَا6, وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي قالوا فيه:   1 في المسألة التاسعة، وإنه كان العموم هناك للأشخاص، وإن الشريعة ليست خاصة ببعضهم دون بعض، وهنا شمول يرجع للمعنى الذي فيه الحكم، كحرمة النبيذ بجعل الخمر شاملًا له معنى وإن لم يشمله صفة. "د". 2 بناء على أنه -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيقيس، وقيل: ليس له الاجتهاد. "د". قلت: انظر لزامًا ما علقناه على قوله هذا في "ص354". 3 في المسألة الثانية، حيث قال: "إن الظن الراجع إلى أصل قطعي يعول عليه، ومثال ذلك ما ورد مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ البيوع والربا. "د". 4 في "ط": "أمثلته". 5 في "د": "أحدهما". 6 أي: وظاهر أن المراد به ما يعقد في الإسلام؛ لأن هذا هو الذي بصدده التشريع، فألحق به ما عقد في الجاهلية، فقال: "وربا الجاهلية موضوع ... إلخ"، وهذا إما قياس منه -صلى الله عليه وسلم- أو بوحي يجري في أفهامنا مجرى القياس، ويصح أن يكون هذا المقدار إلى قوله: "وإذا كان كذلك" مثالًا لما تردد بين طرفين واضحين فألحقه بأحدهما، وذلك أن الله تعالى حرم الربا، وقال أيضًا: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ؛ فتردد ربا الجاهلية بين ما يغفر فينفذ عقده وما لا يغفر فيبطل عقده، أعني: إنه لا ينفذ ولا يترتب عليه أثره وإن كان مجرد = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [الْبَقَرَةِ: 275] هُوَ فَسْخُ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، يَقُولُ الطَّالِبُ: إِمَّا أَنْ تَقْتَضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 279] ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ" 1. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمَنْعُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ؛ أَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِهِ كُلَّ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ؛ فَقَدْ أَرْبَى، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كان يدًا بيد" 2.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب حجة النبي, صلى الله عليه وسلم 2/ 889/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- ضمن حديث طويل، فيه خطبة الوداع الجامعة. 2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، 3/ 1210/ رقم 1587"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الصرف, 3/ 248-249/ رقم 3349, 3350", والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع, باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل، 3/ 541/ رقم 1540"، وأحمد في "المسند" "5/ 320"، والدارقطني في "السنن" "3/ 24"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 277، 282، 284" عن عبادة بن الصامت, رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 ثُمَّ زَادَ1 عَلَى ذَلِكَ بَيْعُ النَّسَاءِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَصْنَافُ، وَعَدَّهُ مِنَ الرِّبَا2؛ لِأَنَّ النَّسَاءَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ3، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمَعْنَى4 السَّلَفُ يَجُرُّ نَفْعًا، وَذَلِكَ5 لِأَنَّ بَيْعَ هَذَا الْجِنْسِ بِمِثْلِهِ فِي الْجِنْسِ مِنْ بَابِ بَدَلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ؛ لِتُقَارُبِ الْمَنَافِعِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهَا؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِعْطَاءِ عَوَضٍ عَلَى غَيْرِ6 شَيْءٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَالْأَجَلُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَكُونُ عَادَةً   1 إلحاق ثان جاء في قوله, صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت ... " إلخ وثم للتأخر الرتبي، وإلا؛ فالإلحاقان في حديث واحد، إلا أن يعتبر الترتيب في نفس ألفاظ الحديث ترتيبًا في الإلحاق زمانًا أيضًا، وكان عليه أن يؤخر قوله: "فإذا اختلفت" بعد قوله: ثم زاد" ويبقى النظر في أن تحريم بيع النساء عند اختلاف الأصناف جاء بإلحاق السنة؛ لأن هذا يتوقف على أن أصل تحريم الربا في القرآن كان لخصوص النساء عند اتفاق الأصناف فقط، وأن تحريم النساء عند الاختلاف إنما جاء من هذا الحديث، كما جاء تحريم ربا الفضل به، وربما لا يساعده ما كان جاريًا عندهم ووقع عليه التحريم في القرآن؛ إذ كانوا يعطون شعيرًا في مقابلة شعير لأجل بأكثر، في مقابلة دراهم لأجل بأكثر، وهكذا؛ فليرجع إلى التاريخ المبسوط في مثله. "د". 2 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساء 4/ 381/ رقم 2178، 2179"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل، 3/ 1217/ رقم 1596" عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "لا ربا إلا في "النسيئة". قال ابن حبان في "صحيحه" "11/ 397-398" عقبه: "معنى هذا الخبر أن الأشياء إذا بيعت بجنسها من الستة المذكورة في الخبر، وبينها فضل؛ يكون ربًا، وإذا بيعت بغير أجناسها، وبينها فضل؛ كان ذلك جائزًا إذا كان يدًا بيد، وإذا كان ذلك نسيئة كان ربًا". 3 أي: غالبًا في العادة كما صرح به بعد. "د". 4 وإن كان لفظه لفظ السلف والقرض. "د". 5 تعليل التحريم في بيع هذه الأجناس بمثلها متفاضلًا، وقوله بعد: "والأجل.. إلخ" تعليل لتحريم النساء فيها حتى عند التساوي قدرًا؛ فهو تكميل لقوله: "لأن النساء في أحد العوضين ... إلخ". "د". 6 قد يقال: إن هذا لا يظهر فيما إذا دار الفضل من الجانبين، كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد؛ فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، فهناك عوض؛ لا أن يقال: إن هناك غررًا كبيرًا لا يعلم معه أيهما غبن وهو ممنوع، وتعليله غير ما حققه بعضهم من أن العلة سد الذريعة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 إِلَّا عِنْدَ مُقَارَنَةِ الزِّيَادَةِ بِهِ فِي الْقِيمَةِ؛ إِذْ لَا يُسَلَّمُ الْحَاضِرُ فِي الْغَائِبِ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنَ الْحَاضِرِ فِي الْقِيمَةِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ. وَيَبْقَى النَّظَرُ: لِمَ جَازَ مِثْلُ هَذَا1 فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَلَمْ يَجُزْ فِيهِمَا؟ مَحَلُّ نَظَرٍ يَخْفَى وَجْهُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ مِنْ أَخْفَى الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحْ مَعْنَاهَا2 إِلَى الْيَوْمِ؛ فَلِذَلِكَ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ3؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ بَيِّنَةً لَوُكِّلَ فِي الْغَالِبِ أَمْرُهَا إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ، كَمَا وُكِّلَ إِلَيْهِمُ النَّظَرُ في كثير من محال   1 أي: التفاضل والنسيئة. "د". 2 أي: علتها وسر الفرق بين النقود والأطعمة وبين غيرهما، حيث منعا فيهما أجيزا فيما عداهما، راجع الجزء الثاني من "إعلام الموقعين"؛ ففيه البيان الكافي في المطلوب، والذي أشكل الفرق عند المؤلف هو أنه أخذ علة المنع مجرد الزيادة بدون عوض، ولكنهم أضافوا لهذا في النقدين والمطعومات المقتاتة ما يصح أن يجعل جزء علة يكون محط الفرق الواضح. "د". 3 فمن ذلك أنه اشترى العبد بعبدين، وأنه لما نفدت الإبل في جهاز الجيش أمر -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ على قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وهذا فيه الأمران معًا. "د". قلت: يشير الشارح -رحمه الله تعالى- إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلًا، 3/ 1225/ رقم 1602"، والنسائي في "المجتبى" "7/ 150، 292"، والترمذي في "الجامع" "رقم 1239 و1596"، وأبو داود في "السنن" "رقم 3358"، وأحمد في "المسند" "3/ 349-350" عن جابر؛ قال: "جاء عبد فبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي, صلى الله عليه وسلم: "بعنيه". فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدًا بعد، حتى يسأله: أعبد هو؟ ". وأما حديث عبد الله بن عمرو؛ فأخرجه أبو داود في "السنن" "رقم 3357"، وأحمد في "المسند" "2/ 171، 216"، وهو ضعيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 الِاجْتِهَادِ؛ فَمِثْلُ هَذَا جَارٍ1 مَجْرَى الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْقِيَاسِ؛ فَتَأَمَّلْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْجَمْعَ2 بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا فِي النِّكَاحِ، وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ؛ فَجَاءَ نَهْيُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ذَمَّ الْجَمْعَ3 بَيْنَ أُولَئِكَ مَوْجُودٌ هُنَا، وَقَدْ يُرْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ" 4، وَالتَّعْلِيلُ يُشْعِرُ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمَاءَ الطَّهُورَ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِإِلْحَاقِ مَاءِ الْبَحْرِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ بِأَنَّهُ "الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" 5. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدِّيَةَ فِي النَّفْسِ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَاتِ الْأَطْرَافِ، وَهِيَ مِمَّا يُشْكِلُ قِيَاسُهَا عَلَى العقول؛ فبين6 الحديث من دياتها ما   1 لم يجزم بأنه منه؛ لما سبق له من أنه مِنْ أَخْفَى الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحْ مَعْنَاهَا، فربما كان تعبدًا ليس مبنيًّا على علة؛ فلا يتأتى إجراء القياس فيه، وأيضًا من أنه إما أن يكون بالوحي لا غير، بناء على أنه لا يجتهد، أو بعضه به وبعضه بالقياس إن جوز له -صلى الله عليه وسلم- الاجتهاد، وسيأتي قوله: "ولا علينا أقصد القياس على الخصوص ... إلخ". "د". 2 أي: في صورة ما إذا عقد على الأم ولم يدخل بها، وأما ما عدا هذه الصورة، كما إذا دخل بالأم أو عقد على البنت؛ فإن التحريم تأييد لا يخص مجرد الجمع. "د". 3 في "ط": "الذي من أجله حرم الجمع ... ". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. 5 مضى تخريجه "ص371"، وهو صحيح. 6 لكن أين في هذا إجراؤه مجرى القياس في أخذ الفرع حكم الأصل كالأمثلة السابقة واللاحقة؛ إلا أن يقال: الإلحاق في مجرد استحقاق المال في نظير التعدي خطأ على البدن، ولذلك قال هذه الكلمة المجملة، وهي أنه بين "ما وضح به السبيل" دون أن يقول: "ألحق الأطراف بالنفس"، وزاد أيضًا قوله: "وكأنه"، ولم يذكرها في تطبيق الأمثلة السابقة ولا اللاحقة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 وَضَّحَ بِهِ السَّبِيلَ1، وَكَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْقِيَاسِ الَّذِي يُشْكِلُ أَمْرُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَيُحْذَى حَذْوُهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ: مِنَ النِّصْفِ، وَالرُّبُعِ، وَالثُّمُنِ، وَالثُّلُثِ، وَالسُّدُسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِيرَاثَ الْعَصَبَةِ إِلَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْأَبَوَيْنِ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 11] . وَقَوْلُهُ فِي الْأَوْلَادِ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11] . وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] .   1 يشير المصنف إلى جملة من الأحاديث، أشهرها ما جاء في كتاب عمرو بن حزم: "وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشرة من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل". ولهذا الكتاب وجادات كثيرة، تجعل الباحث يجزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابًا لعمرو بن حزم؛ لأن التابعين ومن بعدهم وجدوا هذا الكتاب، وقرءوه وعملوا بما فيه، ولذا احتج به الإمام أحمد، كما في "مسائله" "رقم 38" للبغوي، وإسحاق في "مسائله لأحمد" "ص5"، وابن معين كما في "تاريخ الدوري" "رقم 647"، والشافعي في "الرسالة" "422-423". وخرجته وتكلمت عليه بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات" "1/ 501-508"، وانظر: "العواصم والقواصم" "1/ 333-335"، و"فتح الباري" "12/ 226"، و"الإرواء" "رقم 122"، و"تهذيب الكمال" "11/ 419"، و"تنقيح التحقيق" "1/ 412". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 176] . فَاقْتَضَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ الْمَذْكُورَةِ فَلِلْعَصَبَةِ، وَبَقِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْعَصَبَةِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ؛ كَالْجَدِّ، وَالْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمِّ، وَأَشْبَاهِهِمْ؛ فَقَالَ1 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا؛ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" 2، وَفِي رِوَايَةٍ: "فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" 3؛ فَأَتَى هَذَا عَلَى مَا بَقِيَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بَعْدَ مَا نَبَّهَ الْكِتَابُ عَلَى أَصْلِهِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ تَحْرِيمِ الرَّضَاعَةِ قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاءِ: 23] ؛ فَأَلْحَقُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَاتَيْنِ سَائِرَ الْقَرَابَاتِ4 مِنَ الرَّضَاعَةِ الَّتِي يَحْرُمْنَ مِنَ النَّسَبِ كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ الْأَخِ، وَبِنْتِ الْأُخْتِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق   1 محل الشاهد قوله: "فما بقي ... إلخ" المفيد للعموم في العصبة. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، 12/ 11/ رقم 6732، وباب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، 12/ 16/ رقم 6735، وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة، 12/ 18/ رقم 6737، وباب أبناء عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج، 12/ 27/ رقم 6746"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها، 3/ 1233/ رقم 1615" عن ابن عباس, رضي الله عنهما. 3 قال ابن الجوزي في "التحقيق" "2/ 248, ط دار الكتب العلمية": "ما نحفظ هذه اللفظة"، وأوردها الرافعي في "فتح العزيز"، وقال ابن حجر في تخريجه "التلخيص الحبير" "3/ 81": "وهذا اللفظ تبع فيه -أي: الرافعي- الغزالي، وهو تبع إمامه -أي: إمام الحرمين- وقد قال ابن الجوزي في "التحقيق": إن هذه اللفظة لا تحفظ، وكذا قال المنذري، وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلًا عن الرواية؛ فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد". ثم قال ابن حجر: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة حديث: "أيما امرئ ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا"؛ فشمل الواحد وغيره". 4 في "ط": "القرابة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 بِالْقِيَاسِ إِذْ ذَاكَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، نَصَّتْ1 عَلَيْهِ السُّنَّةُ -إِذْ كَانَ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ سِوَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَتَرَدُّدٌ بَيْنَ الْإِلْحَاقِ وَالْقَصْرِ عَلَى التَّعَبُّدِ- فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ" 2، وَسَائِرَ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ أَلْحَقَ3 بِالْإِنَاثِ الذُّكُورَ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ، وَمِنْ جهته در للمرأة4، فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِالرِّضَاعِ [أُمًّا] 5؛ فَالَّذِي لَهُ اللَّبَنُ أَبٌ بِلَا إِشْكَالٍ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ بِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ؛ فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] .   1 أي: وجهة الإلحاق نصت عليه السنة؛ فقال عليه الصلاة والسلام ... إلخ لأن المقام قابل لتردد المجتهدين، فلم يتركه صلوات الله عليه؛ فقوله: "نصت.. إلخ" خبر ثان. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، 5/ 253-254/ رقم 2646، وكتاب فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي, صلى الله عليه وسلم 6/ 211/ رقم 3105"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، 2/ 1068/ رقم 1444" عن عائشة، وفيه: "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"، لفظ مسلم، ولهما: "إن الرضاعة يحرم منها ما يحرم من الولادة" , وفي رواية لمسلم برقم "1445" بعد "9": "فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، 3/ 453/ رقم 1147" عن عائشة أيضًا، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". 3 كما في حديث عائشة في استئذان أفلح أخي أبي القعيس زوج المرأة التي أرضعتها؛ فقالت: يا رسول الله! إن أخاه ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته. فقال: "ائذني له فإنه عمك". "د". قلت: وهذه القصة هي التي أشرت إليها في تخريج الحديث السابق. 4 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "جهة در المرأة". 5 كذا في "ط"، وسقطت "أمًّا" من جميع النسخ، وفيها: "فالذي له اللبن أم"!! وكتب "د": "هنا سقط كلمة أما"، وقوله: "فالذي له اللبن أم" لعل الأصل: "فالذي له اللبن أب"، وهو الذي يلائم قوله -عليه السلام- في الحديث السابق: "فإنه عمك". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [الْعَنْكَبُوتِ: 67] . وَذَلِكَ حَرَمُ اللَّهِ مَكَّةُ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ1 مَعَهُ؛ فَأَجَابَهُ اللَّهُ وَحَرَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا2، فَقَالَ: "إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عَضَاهُهَا 3، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا" 4.   1 في رواية للشيخين أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أشرف على المدينة قال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة"، وقد دعا لأهلها بالبركة في صاعها ومدها، وقال في رواية مسلم "رقم 1378" والترمذي "رقم 3924": "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت شفيعًا له وشهيدًا يوم القيامة"، وورد أيضًا أنها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد؛ فلعل هذه المزايا وما ماثلها يفسر بها قوله: "ومثله معه". "د". 2 تثنية "لابة"، وهي الحرة العظيمة، قال ابن الأثير: "المدينة ما بين حرتين عظيمتين يكتنفانها، والحرة حجارة سود". "ف". قلت: كلام ابن الأثير في "النهاية" "4/ 274". 3 جمع عضاهة وعضيهة وعضة، وأصلها: عضهة، وهي: شجرة ذات شوك. وقيل: العضاه اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، فإن لم تكن طويلة؛ فليست من العضاه، والمراد هنا الشجر ذو الشوك مطلقًا. "ف". 4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 992/ رقم 1363"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "3/ 295"- وابن أبي شيبة في "المصنف" "14/ 198"، وأحمد في "المسند" "1/ 169، 181، 185"، والدورقي في "مسند سعد" "رقم 38"، والحربي في "الغريب" "3/ 924"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 153"، والجندي في "فضائل المدينة" "رقم 69"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 191"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 197" عن سعد مرفوعًا. وأخرجه مسلم "رقم 1362"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" "2/ 304"- والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 192"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 111/ رقم 2151"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 48/ رقم 2029"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 198" عن جابر بألفاظ نحوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بسوء إلا أذابه ال له1 فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ" 2. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا" 3. وَمِثْلُهُ فِي صَحِيفَةِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمَةِ4؛ فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِمَكَّةَ فِي الْحُرْمَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْحَجِّ: 25] . وَالْإِلْحَادُ شَامِلٌ لِكُلِّ عُدُولٍ عَنِ الصواب إلى الظلم، وارتكاب المنهيات   1 مثل هذا الوعيد وما بعده لا يقال فيه: إنه قياس وتفريع على تحريم مكة، وكل ما يقبل هنا أن يكون الرسول دعا للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة؛ فأجيب من الله وأبلغه إجابة دعوته وما معها من أنواع الوعيد لمن أحدث فيها حدثًا؛ فالمثال السابع على ما ترى من الضعف، وفي "تحريم الأصول" و"شرحه" -في مسألة أن حكم القياس ثبوت حكم الأصل في الفرع- قال: "ولذا لم يستند من قال بحرمة المدينة إلا إلى السمع، وإنما لم يثبت بالقياس لانتفاء الأصل والفرع" ا. هـ. وإذا انتفى الأصل والفرع وهما ركنان في القياس؛ فكيف يقال إنه ثبت عند الرسول -عليه السلام- بالقياس؟ "د". 2 هذه قطعة من حديث سعد السابق، وهي بهذا اللفظ في "صحيح مسلم" "2/ 992-993/ رقم 1363 بعد 460"، وأخرجها أيضًا الجندي في "فضائل المدينة" "رقم 28"، ونحوها عند أحمد والدورقي وأبي يعلى، وتقدم مواطن رواياتهم، والله الموفق. 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من آوى محدثًا، 13/ 281/ رقم 7306"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب فضل المدينة، 3/ 994/ رقم 1366" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- وانفرد مسلم بذكر " لا يقبل الله منه ... ". 4 انظر: "ص192، 208". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 عَلَى تَنَوُّعِهَا، حَسْبَمَا فَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ1؛ فَالْمَدِينَةُ لَاحِقَةٌ بِهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 282] ؛ فَحَكَمَ فِي الْأَمْوَالِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْضَمَّةً إِلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَظَهَرَ بِهِ ضَعْفُ شَهَادَتِهِنَّ، وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: "مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ" 2، وَفَسَّرَ نُقْصَانَ الْعَقْلِ بِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ. وَحِينَ3 ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ فِيهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [الْبَقَرَةِ: 282] ؛ دَلَّ عَلَى انْحِطَاطِهِنَّ عَنْ دَرَجَةِ الرَّجُلِ، فَأَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ؛ فَقَضَى4 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فِي اقْتِطَاعِ الْحُقُوقِ وَاقْتِضَائِهَا حُكْمًا قَضَى بِهِ قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ   1 انظر تفصيل ذلك في "تفسير ابن كثير" "3/ 224-225". 2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، 1/ 86-87/ رقم 79" عن ابن عمر, رضي الله عنهما. وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، 1/ 405/ رقم 304، وكتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، 3/ 325/ رقم 1462" عن أبي سعيد نحوه. 3 لعله: "وحيث ثبت". "ف". 4 أخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 3/ 1337/ رقم 1712"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 4/ 32/ رقم 3608"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 225" للمنذري-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، 2/ 793/ رقم 2370"، وأحمد في "المسند" "1/ 248، 315"، والشافعي في "المسند" "2/ 178/ رقم 627، 628, ترتيبه"، والدارقطني في "السنن" "4/ 214"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 167" عن ابن عباس؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 77] ؛ فَجَرَى الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ مَجْرَى الشَّاهِدَيْنِ أَوِ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي الْقِيَاسِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يَخْفَى؛ فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْبَيْعَ فِي الرِّقَابِ وَأَحَلَّهُ، وَذَكَرَ الْإِجَارَةَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ1؛ كَالْجُعْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يُوسُفَ: 72] . وَالْإِجَارَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَالِ الْيَتِيمِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاءِ: 6] . وَفِي الْعُمَّالِ عَلَى الصَّدَقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التَّوْبَةِ: 60] . وَفِي بَعْضِ مَنَافِعَ2 لَا تَأْتِي عَلَى سَائِرِهَا؛ فَأَطْلَقَتِ السُّنَّةُ فِيهَا الْقَوْلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ مَنَافِعِ الرِّقَابِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّورِ وَالْأَرَضِينَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا3، وَوَكَّلَ سَائِرَهَا إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَجَالُ الْقِيَاسِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا عَلَيْنَا أَقَصَدَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصلاة والسلام- القياس   1 ومنها إجارة شعيب لموسى -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-. "د". 2 وأصرحها الرضاع، بل قال بعضهم: لم تأت الإجارة الجائزة في القرآن إلا في الرضاع {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . "د". قلت: انظر في ذلك "الأم" للشافعي "3/ 250"، و"محاسن التأويل" "3/ 611" للقاسمي. 3 يضيق المقام عن سرد الأحاديث، ونحيل القارئ على الكتب التالية؛ فإنه يجد فيها ذكرًا جيدًا لما قاله المصنف: "سنن البيهقي الكبرى" "6/ 116 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام" لابن شداد "3/ 439 وما بعدها"، و"نصب الراية" "4/ 129 وما بعدها"، و"الفتح الرباني" "15/ 122 وما بعدها"، و"الإجارة الواردة على عمل الإنسان" "ص38 وما بعدها". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 عَلَى الْخُصُوصِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِهِ بَيَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. وَالْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي شَأْنِ الرُّؤْيَا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ1، وَعَنْ رُؤْيَا يُوسُفَ2، وَرُؤْيَا الْفَتَيَيْنِ3، وَكَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ كُلِّ رُؤْيَا؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْكَامَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ4 النُّبُوَّةِ5، وَأَنَّهَا مِنَ المبشرات6، وأنها على   1 انظر الآيات في سورة الصافات "رقم 102-107". 2 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 4-6". 3 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 36-41". 4 ورد "من ستة وأربعين جزءًا"، وقالوا في توجيهه: إن النبوة كانت ثلاثًا وعشرين سنة، ومدة الرؤيا الصالحة قبلها كانت ستة أشهر، ونسبتها إلى ثلاث وعشرين سنة هي ما قاله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا البيان وإن لم يرتضه بعضهم؛ فهو واضح، وأيضًا؛ فكثيرًا ما كان يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟ "، وكان يعبرها لهم، وهو يتضمن إلحاق غيرهم بهم. "د". قلت: انظر في نقض التوجيه المذكور: "فتح الباري" "12/ 364-365"، وما علقناه على "2/ 419". 5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين، 12/ 361/ رقم 6983، وباب من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، 12/ 383/ رقم 6994"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1774/ رقم 2264" عن أنس مرفوعًا: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". لفظ البخاري، ولهما: "رؤيا المؤمن جزء ... " به. 6 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب المبشرات، 12/ 375/ رقم 6990" عن أبي هريرة؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات". قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة". وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1773/ رقم 2263" ضمن حديث عن أبي هريرة مرفوعًا، فيه: "فرؤيا الصالحة بشرى من الله". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 أَقْسَامٍ1، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَتَضَمَّنَ إِلْحَاقَ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ بِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقِيَاسِ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. - وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا يَتَأَلَّفُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْ مَعَانٍ مُجْتَمِعَةٍ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ تَأْتِي فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَكِنْ يَشْمَلُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ؛ فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ؛ فَيُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبَيِّنَةً لِلْكِتَابِ، وَمِثَالُ هَذَا الْوَجْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ2 كِتَابِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي طَلَبِ مَعْنَى قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا   1 في رواية مسلم في الحديث السابق: "والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه". وأخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله، 12/ 368-369/ رقم 6984"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1771/ رقم 2261" عن أبي قتادة مرفوعًا: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان". وفي رواية للبخاري: "الرؤيا الصادقة"، ولمسلم: "الرؤيا الصالحة". 2 في المسألة الثانية: حيث جعله من باب الدليل الشرعي الظني الراجع إلى قطعي لأنه مبثوث في الشريعة في جزئيات وكليات؛ فالسنة قد نظمت هذه المواضع المتفرقة المبثوثة، وجعلتها في سلك واحد بقاعدة عامة، وكأن هذا الوجه جمع المتفرقات، وأخذ كلي من الجزئيات، وإجمال للتفصيلات؛ فهو عكس لبعض الوجوه المتقدمة، وبالتأمل فيه تجده نادرًا ومأخذًا لا تنبني عليه الدعوى في أصل المسألة إلا إذا ضم لغيره من الوجوه، فإن كان مراد المؤلف أن هذه الوجوه الخمسة كل واحد منها يكفي لإثبات المسألة؛ فإنما يظهر ذلك في الوجه الثالث تامًّا، وفي الثاني ببعض تكلف، وفي الأول على الطريق الذي قصد منه، أما ما عداها؛ فلا يظهر انفراده بإثبات المسألة ودفع إشكالاتها، وإذا كان قد اعترض على الوجه السادس بالقصور مع أنه ذكر له عشرة أمثلة، وقال: إن هذا النمط في السنة كثير؛ فكيف يكون حال هذا الوجه الخامس الذي لم يتيسر له فيه إلا مثال واحد، نعم، إن كان غرضه من وجوهه الخمسة أن تكون مضمومة بعضه إلى بعض كما يشير إليه = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 1 مِنَ الْكِتَابِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْأَحَادِيثِ2؛ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. - وَمِنْهَا3: النَّظَرُ إِلَى تَفَاصِيلِ الْأَحَادِيثِ فِي تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَّةِ بَيَانٌ زَائِدٌ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَأْخَذِ يَتَطَلَّبُ أَنْ يَجِدَ كُلَّ مَعْنًى فِي السُّنَّةِ مُشَارًا إِلَيْهِ -مِنْ حَيْثُ وَضْعِ اللُّغَةَ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى- أَوْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ4، وَلْنُمَثِّلْهُ ثُمَّ نَنْظُرْ فِي صِحَّتِهِ أَوْ عدم صحته.   1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح لشواهده. 2 هذه المعاني الكلية "التي استنبط النبي -صلى الله عليه وسلم- من جزئياتها الموجودة في الكتاب" قليلة بالنسبة لسائر السنة، وقد لا يمكن لغيره -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها من جزئياتها، وقد يكون علمها بطريق الوحي، لا بالاستنباط من الجزئيات، ثم إن المعقول أن الجزئيات هي المبينة للكليات؛ فالقرآن هو المبين لكليات السنة على هذا، ولو سلمنا العكس؛ ففي القرآن كليات لها جزئيات في السنة؛ فالقرآن مبين على ما تقول. قاله في "حجية السنة" "ص534-535". 3 هذا النظر السادس أخص من النظر الثاني المتقدم أنه المشهور عن العلماء؛ لأن ذلك بيان للحقيقة المطلوبة أو المنهي عنها مثلًا أو شروطها أو كيفياتها إلى آخر ما تقدم في بيان الأحاديث؛ كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} [الأنعام: 72] مثلًا، أما هذا؛ فمقصور على بيان لفظ مجمل ورد في الآية بما يوضح الغرض منه، كما قال: "من حيث وضع اللغة"، وقوله: "لا من جهة أخرى"؛ أي: من الجهات الخمسة السابقة. "د". 4 قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه البديع "حجية السنة" "ص535 وما بعدها": "نقول: هذا هو المأخذ الذي لو تم لكان مبطلًا لما ذهبنا إليه من وجود سنة جاءت بما لم ينص عليه الكتاب نصًّا يمكن للمجتهد أن يأخذه منه، بحسب أوضاع اللغة ومعانيها الحقيقية والمجازية، ولكنه لن يتم، ومحاولة تطبيقه على جميع ما ورد في السنة محاولة فاشلة، وقد اعترف الشاطبي نفسه = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 ........................................................................   = بذلك، حيث يقول تعليقًا على هذا المأخذ فيما سيأتي "ص401": "ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب، أو نحوها ... " إلخ قوله. ولعلك بعد اطلاعك على كلام المصنف في هذه المسألة ندرك أنه -رحمه الله- يخالف فيها مخالفة لفظية: حيث يذهب إلى أن جميع ما في السنة مبينة بمعنى من المعاني التي علمتها من مأخذ، ولا يقول: إنها مبينة، بمعنى أن القرآن قد نص على كل حكم جاءت به السنة ولو على سبيل الإجمال، وأنه ليس للسنة وظيفة إلا إيضاح أحكامه المجملة وشرحها، وعلى ذلك؛ فهو لا ينكر وجود سنة مستقلة بالمعنى الذي أردناه، وهو أن ترد بما لم ينص عليه الكتاب، وإنما نفى الاستقلال بمعنى يتنافى مع ما أراد من معاني البيان، ونحن لو سلمنا له مأخذه، لم يكن هذا التسليم منافيًا لمذهبنا بحال، ألا ترى أن الشافعي الذي يقول: إن من السنة ما هو مستقل، يقول في الوقت نفسه بالمأخذ الأول. غير الذي نأخذه على المصنف أنه لم يبين مقصده من أول الأمر، بل عبر عن مذهبه بعبارات موهمة للخلاف الحقيقي، وأقام الأدلة وطعن في أدلة أخرى بدون موجب لذلك كله. وللشافعي -رضي الله عنه- كلمتان رزينتان هادئتان، قاطعتان لألسنة الخصوم على أي مذهب كانوا، مستأصلتان جذور الشغب والنزاع على أي لون كان: 1- قال -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جزى به المجاهدين المخلصين- في "الرسالة" "ص88-89": "وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم؛ فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} ، وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سن؛ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجًا لما وصفت، وما قال رسول الله أسند عن أبي رافع". 2 وقال رضي الله عنه ونفعنا بعلمه بعد أن ذكر المذاهب في النوع المستقل "ص104-105": "وأي هذا كان؛ فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرًا بخلاف أمر عرفه من أمور رسول الله، وأن قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من تبيين رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه؛ ليعلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته -صلى الله عليه وسلم- إذا كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه نص كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب أخرى؛ فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله، يل هو لازم بكل حال، وكذلك قال رسول الله في حديث أبي رافع "الذي كتبنا قبل هذا"" ا. هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَطْلِيقِهِ زَوْجَهُ وَهِيَ حَائِضٌ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ 1 بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" 2 يَعْنِي: أَمَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} [الطَّلَاقِ: 1] . وَالثَّانِي: حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يجعل لها   1 في "ط": "أمسكها". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ، 9/ 345/ رقم 5251"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093/ رقم 4171"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب وقت الطلاق للعدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء، 6/ 138"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة، 2/ 321/ رقم 1185، 1186"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في طلاق السنة، 2/ 632-634/ رقم 2179"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب طلاق السنة، 1/ 651/ رقم 2019"، والشافعي في "المسند" "2/ 32-33/ رقم 102-104, ترتيب السندي"، ومالك في "الموطأ" "2/ 576, رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "2/ 6، 54، 63، 64، 102، 124"، والدارمي في "السنن" "2/ 160"، والطيالسي في "المسند" "رقم 68، 1853"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 53"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 4249, الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 734"، والدارقطني في "السنن" "4/ 7، 8، 9"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 323-324"، والبغوي في "شرح السنة" "9/ 202" من طرق عن نافع عن ابن عمر به، وله ألفاظ متقاربة عندهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً؛ إِذْ طَلَّقَهَا1 [زَوْجُهَا] أَلْبَتَّةَ -وَشَأْنُ الْمَبْتُوتَةِ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ- لِأَنَّهَا بَذَتْ عَلَى أَهْلِهَا بِلِسَانِهَا2؛ فَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة} [الطَّلَاقِ: 1] . وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ؛ إِذْ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ3، فَأَخْبَرَهَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ قَدْ حَلَّتْ4؛ فَبَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ قَوْلَهُ   1 في نسخة "م": "نفقة طلقها"، وكتب "د" هنا ما نصه: "يعني زوجها أبا عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة"، وما بين المعقوفتين من "ط" فقط. 2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، 2/ 1117/ رقم 1480"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب نفقة الحامل المبتوتة، 6/ 210"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة، 2/ 325/ رقم 1191"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في نفقة المبتوتة، 2/ 715/ رقم 2289"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة، 1/ 656/ رقم 2035، 2036"، وأحمد في "المسند" "6/ 411، 412"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 4240, الإحسان"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "3/ 64"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 671"، والدارقطني في "السنن" "4/ 22-25"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 472-474" عن فاطمة بنت قيس؛ قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة". وفي رواية لمسلم برقم "1480 بعد 46" وغيره فيها زيادة: "قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله, عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ". 3 ولفظ البخاري: "قريبًا من عشر ليالٍ". "د". 4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، 8/ 653/ رقم 4909، وكتاب الطلاق، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، 9/ 469"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها، 2/ 1122-1123/ رقم 1485"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَةِ: 234] مَخْصُوصٌ فِي غَيْرِ الْحَامِلِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطَّلَاقِ: 4] عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَغَيْرِهِنَّ. وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 59] ، [قَالَ] : قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ1، يَعْنِي: عِوَضَ قَوْلِهِ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَةِ: 58] .   = باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، 6/ 191-192"، والترمذي في "الجامع" "كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع، 2/ 332-333/ رقم 1208"، ومالك في "الموطأ" "2/ 590, رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "6/ 432" عن أم سلمة؛ أن امرأة من أسلم يقال لها: سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين, فمكثت قريبًا من عشر ليال ثم جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "انكحي". لفظ البخاري الثاني. وفي اللفظ الأول: "قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو السنابل فيمن خطبها، ولفظ مالك: "إن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر"، وفيه: "فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: قد حللت فانكحي من شئت". 1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير" 8/ 164/ رقم 4479"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب منه، 4/ 2312/ رقم 3015"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 171/ رقم 9، 10"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، 5/ 205/ رقم 2956"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ رقم 579، 591"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 240"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 318"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 76"، والخطيب في "التاريخ" "2/ 266" عن أبي هريرة مرفوعًا: "قيل لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . فدخلوا يزحفون على أستاههم؛ فبدلوا، وقالوا: حطة، حبة في شعرة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وَالْخَامِسُ: حَدِيثُ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا؛ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [الْبَقَرَةِ: 125] ؛ فَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ"، وَقَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} 1 [الْبَقَرَةِ: 158] . وَالسَّادِسُ: حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِرٍ: 60] ؛ قَالَ: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"، وَقَرَأَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {دَاخِرِينَ} 2 [غَافِرٍ: 60] . وَالسَّابِعُ: حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 3 [الْبَقَرَةِ: 187] ؛ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم:   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب حجة النبي, صلى الله عليه وسلم, 2/ 886-892/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وخرجته بالتفصيل في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "1/ رقم 270-272"؛ فانظره. 2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الدعاء، 1/ 76-77/ رقم 1479"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 211/ رقم 4969، وباب ومن سورة المؤمن، 5/ 374-375/ رقم 3247, وأبواب الدعوات, باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 456/ رقم 3372"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، 2/ 1258/ رقم 3828"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، باب سورة حم المؤمن، 2/ 253/ رقم 484"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 100"، والطيالسي في "المسند" "رقم 801"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 714"، وأحمد في "المسند" "4/ 267، 271، 276"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 2396, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 490-491"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7" و"المعجم الصغير" "1/ 97"، وابن جرير في "التفسير" "24/ 51" عن النعمان بن بشير من طرق، بعضها صحيح. 3 قوله: {مِنَ الْفَجْر} نزلت بعد ما اشتبه جملة من الصحابة في المعنى، وصار بعضهم يربط حبلين أسود وأبيض في رجله لينظر إليهما، وبعضهم وهو عدي جعلهما تحت الوسادة، ثم سأل = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 "إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ" 1. وَالثَّامِنُ: حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ" 2. وَقَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "اللَّهُمَّ امْلَأْ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ   = رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما: أهما خيطان؟ فقال له: "إن وسادك لعريض.." -كناية لطيفة منه, صلوات الله وسلامه عليه؛ ".. بل هما سواد الليل وبياض النهار"، قال الشيخان: "نزل بعد {مِنَ الْفَجْر} ؛ فعلموا إنما يعني الليل والنهار، ولو كان نزل قوله: {مِنَ الْفَجْر} بيانًا من أول الأمر؛ لما وضع عدي الخيطين تحت الوسادة ولا ساءل، فلو ترك المؤلف ذكرها كان أولى، راجع البخاري ومسلمًا. "د". قلت: وسبق تخريج ذلك "3/ 298". 1 مضى تخريجه "3/ 299"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما. 2 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، 1/ 340-341/ رقم 182، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 217/ رقم 2983"، وأحمد في "المسند" "5/ 7، 8، 12، 13، 22"، والطبراني في "الكبير" "رقم 6823، 6824، 6825، 6826"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 344"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 460"، والدمياطي في "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى" "رقم 31، 32، 33، 34، 35" من طرق عن الحسن عن سمرة به. والحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، وتابع الحسن سليمان بن سمرة؛ فرواه عن أبيه ضمن وصية جامعة كما عند ابن زبر في "وصايا العلماء" "88-89" -ومن طريقه الدمياطي في "كشف المغطى" "رقم 37"-، والطبراني في "الكبير" "رقم 7001، 7002، 7007، 7008، 7009، 7010" مفرقًا، وإسناده ضعيف، فيه خبيب بن سليمان من المجهولين، وجعفر بن سعد ليس بالقوي. والحديث صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 628"، والترمذي في "الجامع" "رقم 181 و2985"، والطيالسي في "المسند" "رقم 366"، وأحمد في "المسند" "1/ 392، 403، 404، 456"، وغيرهم عن ابن مسعود بلفظه مرفوعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ"1. وَالتَّاسِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ مَوْضِعَ 2 سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ لِخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} 3 [آلِ عِمْرَانَ: 185] " 4. وَالْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْكَبَائِرِ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام فيها:   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، 6/ 105/ رقم 2931، والمغازي، باب غزوة الخندق، 7/ 405/ رقم 4111، وكتاب التفسير، باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ، 8/ 195/ رقم 4533، وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 11/ 194/ رقم 6396"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، 1/ 436/ رقم 627" وغيرهما عن علي, رضي الله عنه. 2 ولا يظهر هذا المثال؛ لأنه ليس فيه تفسير للفظ في الكتاب من حيث وضع اللغة كما هو موضع هذا النظر، وكما هو الجاري فيما قبله وما بعده من الأمثلة، بل هو كأنه استنتاج لهذا المعنى من الآية، وربما كان أظهر منه في غرضه حديث "الصحيحين": "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" مصداق قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ؛ لأن ما في الحديث وإن كان لم يعين بشخصه؛ إلا أنه توضيح وتقريب لمعنى الآية، وهو أقصى ما يعبر به للدلالة على المراد فيها. "د". 3 {فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ساقطة من الأصل 4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 48/ رقم 3292"، والدارمي في "السنن" "2/ 239/ رقم 2833"، وأحمد في "المسند" "2/ 438"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 101"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 299"، وأبو نعيم في "صفة الجنة" "رقم 53"، والبغوي في "شرح السنة" "15/ 209-210/ رقم 4372" من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا. وإسناده حسن من أجل محمد بن عمرو. والحديث صحيح، روي من وجوه عن أبي هريرة، قال أبو نعيم عقبه: "ورواه همام بن منبه، وأبو صالح، وابن أبي عمرة، وأبو أيوب المراغي في آخرين عن أبي هريرة"، وتفصيل ذلك يطول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَوْلُ الزُّورِ" 1، وَثَمَّ أَحَادِيثُ أُخَرُ فِيهَا ذِكْرُ الْكَبَائِرِ2، وَجَمِيعُهَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 31] . وَهَذَا النَّمَطُ فِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ. وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفِي بِهَذَا الْمَقْصُودِ عَلَى [شَرْطِ] النَّصِّ وَالْإِشَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تَسْتَعْمِلُهَا الْعَرَبُ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَوَّلُ شَاهِدٍ فِي هَذَا الصَّلَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالْقِرَاضُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالدِّيَاتُ، وَالْقَسَامَاتُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ لَا تُحْصَى3؛ فَالْمُلْتَزِمُ لِهَذَا لَا يَفِي بِمَا ادَّعَاهُ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ فِي ذَلِكَ مَآخِذَ لَا يَقْبَلُهَا كَلَامُ الْعَرَبِ وَلَا يُوَافِقُ عَلَى مِثْلِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَلَا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَلَقَدْ رَامَ بَعْضُ النَّاسِ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ الَّذِي شَرَعَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يُوَفِّ بِهِ إِلَّا عَلَى التَّكَلُّفِ الْمَذْكُورِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْمَآخِذِ الْأُوَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إِشَارَةٌ إِلَى خُصُوصَاتِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ؛ فكان ذلك نازلًا بقصده4 الذي قصد.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 5/ 261/ رقم 2654"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 91/ رقم 87" عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. 2 انظرها في كتاب "الكبائر" للذهبي بتحقيقي، وهو غير "الكبائر" المليء بالقصص الباطلة، والحكايات الواهية، وانظر عنه: "كتب حذر منها العلماء" "2/ 201، 312-318" بقلمي. 3 وكلها ليس ما ورد فيها من السنة يجري هذا المجرى الذي يريده هذا القائل من البيان الخاص. "د". 4 أي: نازلًا بما قصده في هذه الدعوى إلى موضع الإهدار. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 وَهَذَا الرَّجُلُ1 الْمُشَارُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا لِاسْتِخْرَاجِ مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي خَرَّجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي كِتَابِهِ "الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ"، دُونَ مَا سِوَاهَا2 مِمَّا نَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ سِوَاهُ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الْمَعَانِي الْمُصَنَّفَةِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمَآخِذِ3 مُوَفِّيًا بِالْغَرَضِ فِي الْبَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَصْلٌ: وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَمَّا أَوْرَدُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا؛ فَقَوْلُهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ ... " 4 إِلَى آخِرِهِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ يَطْرَحُ السُّنَّةَ مُعْتَمِدًا عَلَى رَأْيِهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا لَمْ نَدَعْهُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ هُوَ رَأْيُ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَقَوْلُهُ: "أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"5 صَحِيحٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ؛ إِمَّا بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الدَّائِرِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَإِمَّا بغيرها من المآخذ المتقدمة. ومن الْجَوَابُ عَنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ كل   1 ليت المصنف أشار إلى اسم هذا المؤلف؛ ليمكن العثور على ما صنعه؛ إذ إنه مبحث جدير بالاهتمام. 2 أي: فإذا كان لم يتم له غرضه في مقدار محدود من الأحاديث وهي أحاديث مسلم؛ فكيف يتم له غرضه إذا نظر إلى دواوين الحديث الأخرى؟ "د". 3 الأنظار الخمسة السابقة على هذا الأخير. "د". 4 مضى تخريجه "323". 5 هو قطعة من الحديث السابق، وف "ط": "مثل الذي حرم الله". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَعَنِ الْعَقْلِ1. وَأَمَّا فِكَاكُ الْأَسِيرِ؛ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الْأَنْفَالِ: 72] ، وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَّا بِالِانْتِصَارِ بِغَيْرِهِ فَعَلَى الْغَيْرِ النَّصْرُ، وَالْأَسِيرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِالنَّصْرِ، فَهُوَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ. وَأَمَّا أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ؛ فَقَدِ انْتَزَعَهَا الْعُلَمَاءُ مِنَ الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 141] . وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الْحَشْرِ: 20] . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْعَدُ2، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ عَلَى التَّنْصِيصِ أَوْ نَحْوِهِ3 لَمْ يَجْعَلْهَا عَلِيٌّ خَارِجَةً عَنِ الْقُرْآنِ؛ حَيْثُ قَالَ: "مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ"4؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ لَعَدَّ الثِّنْتَيْنِ دُونَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ؛   1 في "ف" و"ط": "وعلى العقل"، وكتب "ف" في الهامش: "لعله "وعن العقل"، وهو المذكور في صحيفة علي, رضي الله عنه"، وفي "م" في الهامش: "العقل: الدية، سميت بذلك لأن الإبل المأخوذة كانت تعقل -أي: تربط- بفناء القتيل". قلت: وقد مضى تخريج المحرمات المذكورة في كلام المصنف "ص355". 2 لأن محل نفي الاستواء قد بين في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} [الحشر: 20] ؛ فليس المراد ما يشمل عدم استوائهما في القصاص إذا تعدى بعضهم على بعض في الدنيا. "د". 3 أي: كما يؤخذ من دعوى انتزاع الحكم من الآيتين. "د". 4 مضى تخريجه "ص192". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 فَلَمْ يُقِدْ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ، وَالْعُبُودِيَّةُ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ؛ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقَادَ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ. وَأَمَّا إِخْفَارُ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ1، وَأَقْرَبُ الْآيَاتِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرَّعْدِ: 25] . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [الْبَقَرَةِ: 27] . وَقَدْ مَرَّ تَحْرِيمُ الْمَدِينَةِ وَانْتِزَاعُهُ مِنَ الْقُرْآنِ2. وَأَمَّا مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ؛ فَدَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الِانْتِفَاءَ مِنْ وَلَاءِ3 صَاحِبِ الْوَلَاءِ الَّذِي هُوَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ ذَلِكَ الْوَلَاءِ، كَمَا هُوَ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النَّحْلِ: 72] . وَصِدْقُ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ قَوْلِهِ: "أَيُّمَا عَبْدٍ أبق من مواليه؛   1 يرد عليه مثل اعتراضه المتقدم آنفًا، وأنه لو كان موجودًا في الكتاب عَلَى التَّنْصِيصِ أَوْ نَحْوِهِ؛ لَمْ يَجْعَلْهَا عَلِيٌّ -رضي الله عنه- خارجة عن القرآن، والاعتراض هنا أوجه؛ لأنه يقول: إنه من باب نقض العهد، أي: جزئي منه، وهو في آية: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ ... } إلخ [الرعد: 25] ، وينظر أيضًا لهذا النظر في قوله بعد: "فَدَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ به أن يوصل"؛ إلا أن يقال: إن هذا على وجه القياس أو غيره من الوجوه الأخرى. "د". 2 انظر "ص387". 3 في "م" و"ط": "ولاه" بالهاء في آخره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ" 1. وَفِيهِ: "إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ" 2. وَحَدِيثُ مُعَاذٍ3 ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا حَصَلَ بَيَانُهُ فِيهِ؛ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي السُّنَّةِ، وَإِلَّا؛ فَالِاجْتِهَادُ يَقْضِي عليه، وليس فيه معارضة4 لما تقدم.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 68" عن جرير بن عبد الله, رضي الله عنه. 2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 70" عن جرير بن عبد الله, رضي الله عنه. وكتب "د" هنا ما نصه: "لم يتعرض للجواب عن أسنان الإبل الواردة في الصحيفة، وكذا لم يصرح بالجواب عن الاعتراض بالقضاء للزبير، وقد وعد به سابقًا؛ إلا أن يقال: إنه مندرج في النظر الرابع الراجع إلى القياس أو إلى الاجتهاد بإلحاق الواسطة المترددة بين الطرفين بأحدهما". 3 المتقدم "ص298". 4 لأن معاذًا لم ينف أصل كونه في القرآن عندما يلجأ للسنة، بل إنما يفيد كلامه أنه إذا لم يجد الحكم صريحًا مبينًا في الكتاب؛ يلجأ إلى السنة لتبينه، وإلا؛ فيبينه طريق الاجتهاد، هذا هو ظاهر كلامه، وهو جواب آخر الأسئلة في الاعتراض الثالث بالاستقراء. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ الْكِتَابَ دَالٌّ عَلَى السُّنَّةِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبَيِّنَةً لَهُ؛ فَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ1 إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِذْنِ أَوْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ2, وَأَمَّا مَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا كَانَ أَوْ مَا يَكُونُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا إِذْنٌ؛ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ فِي السُّنَّةِ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ لِلْقُرْآنِ؛ فَهَذَا لَا نَظَرَ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لَهُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَةِ: 58] ؛ قَالَ: "دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ" 3. وَفِي قَوْلِهِ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 59] ؛ قَالَ: "قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ"4. وَفِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 143] ؛ قَالَ: "يُدْعَى نُوحٌ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ. فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. قَالَ: فَيُؤْتَى بِكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ؛ فَذَلِكَ قَوْلُ الله: {وَكَذَلِكَ   1 أي: اطراده، وكليته إنما هي فيما كان راجعًا إلى التكليف، وأما ما عداه؛ فقد يكون كذلك، وقد لا يكون له أصل قريب في الكتاب؛ فلا يكون بيانًا له إلا على الوجه الأول من الوجوه السابقة، وستأتي الإشارة إليه في آخر المسألة. "د". 2 ويندرج فيه الأحكام الوضعية. "د". 3 مضى تخريجه "ص397". 4 مضى تخريجه قريبًا "ص397". وكتب "ف" هنا ما نصه: "بفتح العين، وروي في شعيرة، أمر بنو إسرائيل أن يقولوا حطة؛ فبدلوا وزادوا على ذلك مستهزئين، وقالوا: حبة في شعرة أو شعيرة، وروي أنهم قالوا: حنطة بدل حطة، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في كتاب تفسير القرآن". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] "1. وَفِي قَوْلَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] ، قَالَ: "إِنَّكُمْ تَتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وأكرمها على الله" 2.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ، 6/ 371/ رقم 3339، كتاب التفسير، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، 8/ 171-172/ رقم 4487، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، 13/ 316/ رقم 7349"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 207/ رقم 2961"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 195، 197/ رقم 26، 27"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد, صلى الله عليه وسلم 2/ 1432/ رقم 4284"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 454"، وأحمد في "المسند" "3/ 9, 12، 58"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش" "رقم 26"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 913"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 1173، 1207"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 5، 6"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1719, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 268"؛ والبيهقي في "الأسماء والصفات" "رقم 464" و"البعث"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 123"، من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري به، بألفاظ مختلفة، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي المطول. 2 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 130"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 409، 411"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 226/ رقم 3001"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد, صلى الله عليه وسلم 2/ 1433/ رقم 4287، 4288"، وعبد الله بن المبارك في "مسنده" "رقم 106"، وأحمد في "مسنده" "4/ 447 و5/ 3، 5"، ونعيم بن حماد في "زوائده على زهد ابن المبارك" "ص114"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" "رقم 1156"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 84"، والطبراني في "الكبير" "19/ 422"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 104/ رقم 7621، 7622, ط شاكر"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 5"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 405"، والواحدي في "الوسيط" "1/ 477 = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وَفِي قَوْلِهِ: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آلِ عِمْرَانَ: 169] ؛ "إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ .... " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ1.   = 478" من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده به بألفاظ متقاربة، وفي سائرها "تتمون"، وكذا في "م" و"ط" كما أثبتناه، وفي الأصل و"ف" و"ماء" و"د": "تتبعون"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "2/ 64" لابن المنذر وابن مردويه. وإسناده حسن، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم. وقال ابن حجر في "الفتح" "8/ 225": "وله شاهد مرسل عن قتادة عند الطبري، رجاله ثقات، وفي حديث علي عند أحمد بإسناد حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جعلت أمتي خير الأمم" ". قلت: وله شاهد عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا ضمن حديث فيه: "وإنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"، أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 61", وفيه علي بن زيد بن جدعان. 1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، 3/ 1502-1503/ رقم 1887"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 231/ رقم 3011"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 2/ 936-937/ رقم 2801"، وأبو عوانة في "المسند" "5/ 53، 54"، والحميدي في "المسند" "رقم 120"، وسعيد بن منصور في "السنن" "رقم 2559, ط القديمة"، وعبد الرزاق "5/ 263/ رقم 9554"، وابن أبي شيبة "5/ 308-309"، وكلاهما في "المصنف"، وابن منده في "الإيمان" "رقم 244"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 386"، والواحدي في "الوسيط" "1/ 520"، والطبراني في "الكبير" "9/ 237-238"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 163"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 579" و"شرح السنة" "10/ 364", وابن عساكر في "الأربعين في الحث على الجهاد" "رقم 39" من طرق عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق؛ قال: سألنا عبد الله -أي: ابن مسعود- عن هذه الآية وذكرها؛ فقال: أما أنا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 وَقَالَ: "ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 158] : الدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا" 1. وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: 172] ؛ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا 2 مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ 3! مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك" 4 الحديث.   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، 1/ 138/ رقم 158"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 264/ رقم 3072"، وأبو عوانة في "المسند" "1/ 107"، وأبو يعلى في "المسند" "11/ 31-32، 33/ رقم 6170، 6172"، وابن جرير في "التفسير" "8/ 103"، وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. 2 الوبيص: البريق واللمعان، وفي الحديث: "أخذ العهد على الذرية، وأعجب آدم وبيص ما بين عيني داود, عليه السلام". "ف". 3 في "ط": "ربي". 4 أخرجه النسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} ، 1/ 506/ رقم 211"، وأحمد في "المسند" "1/ 272"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 202"، وابن منده في "الرد على الجهمية" "رقم 29"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 27 و2/ 544"، وابن جرير في "التفسير" "9/ 75 و13/ 222, ط شاكر" و"التاريخ" "1/ 134"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "1/ 518/ رقم 441 و714" من طريق حسين المروذي عن جرير بن حازم عن أبيه عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا. وإسناده حسن، كلثوم من رجال مسلم، وثقه ابن معين وأحمد، وذكره ابن حبان في "الثقات" "7/ 356"، ومع هذا قال النسائي عقب الحديث: "وكلثوم هذا ليس بالقوي، وحديثه ليس بالمحفوظ".= الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 وَفِي قَوْلِهِ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هُودٍ: 80] ؛ قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ؛ فَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إلا في ذروة من قومه" 1.   = قلت: يريد مرفوعًا، وإلا، فقد روي من طرق عديدة موقوفًا، قال ابن منده: "هذا حديث تفرد به الحسين المروذي عن جرير بن حازم، وهو أحد الثقات، ورواه حماد بن زيد [كما عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"] ، وعبد الوارث [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"] ، وابن علية [كما عند ابن سعد في "الطبقات" "1/ 29"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"] وربيعة بن كلثوم [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 229"] ، كلهم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا، وكذلك رواه حبيب بن أبي ثابت [كما عند الآجري في "الشريعة" "211، 212"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 227" و"التاريخ" "1/ 67"] ، وعلي بن بذيمة [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 228، 229] ، وعطاء بن السائب [كما عند ابن جرير في "التفسير" "1/ 67، 68 و13/ 227 و228"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"] ، كلهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله" انتهى كلام ابن منده، وما بين المعقوفتين من إضافاتي. وذكر نحوه ابن كثير في "التفسير" "2/ 263 و3/ 501, ط الشعب"، وقال في آخره عن الموقوف: "فهذا أكثر وأثبت"، ونحوه في "البداية والنهاية" "1/ 90" له. والموقوف له حكم الرفع، ولا سيما أن له شواهد عديدة؛ كما تراه في "السلسلة الصحيحة" "رقم 47-50 و848". 1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ...... } ، 6/ 415/ رقم 3375، وباب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُف ... } ، 6/ 418/ رقم 3387، وكتاب التفسير، باب {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ .... } ، 8/ 366/ رقم 4694"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، 1/ 133/ رقم 151، وكتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل, عليه السلام 4/ 1839/ رقم 151" عن أبي هريرة، وأوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، وفيه: "ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد". واللفظ الذي عند المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ والسبع المثاني" 1.   = ومن سورة يوسف، 5/ 293/ رقم 3116" من طريق الفضل بن موسى، وعبدة، وعبد الرحيم بن سليمان، وأخرجه الطحاوي في "المشكل" "1/ 136, ط القديمة و1/ 300/ رقم 330, ط المحققة" -من طريق عبد الرحيم- وتصحف في الطبعة القديمة إلى عبد الرحمن بن سليمان، وأحمد في "المسند" "2/ 332" من طريق محمد بن بشر، وأحمد في "المسند" "2/ 384"، وابن جرير في "التفسير" "12/ 53"، وتمام في "الفوائد" "4/ 253-254/ رقم 1441, الروض البسام"، والحاكم في المستدرك" "2/ 561" من طريق حماد بن سلمة، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 605" من طريق عبدة، وتمام في "الفوائد" "رقم 1442, الروض" من طريق محمد بن خالد الوهبي، كلهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وانفرد الفضل بقوله: "ذروة"، وقال الآخرون: "ثروة"، وقال الترمذي عقبه عن اللفظ الثاني: "وهذا أصح من رواية الفضل بن موسى، وهذا حديث حسن"، والمصنف ينقل عنه كعادته، ولم يلتفت إلى تصححه هذا؛ فنقله بلفظ "ذروة"، قال الترمذي وغيره: "قال محمد بن عمرو: الثروة: الكثرة والمنعة". وإسناد الحديث حسن من أجل محمد بن عمرو. "استدراك 5". 1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 8/ 381/ رقم 4704" و"القراءة" "51"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3124 -والمذكور لفظه- والطيالسي في "المسند" "305"، والدارمي في "السنن" "2/ 446"، وأحمد في "المسند" "2/ 448"، وعلي بن الجعد في "المسند" "1016"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 47 و14/ 58، 59"، والدارقطني في "السنن" "1/ 312"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 78, ط قديمة"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 45" عن أبي هريرة مرفوعًا. وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، 8/ 156-157/ رقم 4474، وباب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّه .... } ، 8/ 307-308/ رقم 4647، وباب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 8/ 381/ رقم 4703"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 2/ 139" و"فضائل القرآن" من "الكبرى" "رقم 73"، وغيرهم عن أبي سعيد بن المعلى مرفوعًا بنحوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 وَفِي رِوَايَةٍ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي" 1. وَسَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الْإِسْرَاءِ: 101] ؛ فَفَسَّرَهَا لهم2.   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3125"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 2/ 139"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "37"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" "5/ 114"، والدارمي في "السنن" "2/ 446"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص116-117, ط وهبي"، وابن الضريس في "فضائل القرآن" "رقم 146"، وابن جرير في "التفسير" "14/ 58، 59"، والواحدي في "أسباب النزول" "12"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 444/ 446"، والخطيب في "تاريخه" "4/ 364"، وابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 252"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 467 و2/ 78"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 553"، والبيهقي في "السنن" "2/ 375" و"القراءة" "19، 52، 53، 54"، وابن النجار في "تاريخه" "1/ 169" من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به، وبعضهم يزيد عن أبي. وإسناده حسن، وله طرق أخرى يصل بها إلى درجة الصحة. 2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب الاستئذان، باب ما جاء في تقبيل اليد والرجل، 5/ 77/ رقم 2733، وأبواب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، 5/ 305/ رقم 3144"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب تحريم الدم، باب السحر، 7/ 111-112"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأدب، باب الرجل يقبل يد الرجل، 2/ 1221/ رقم 3705, مختصرًا"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 562 و14/ 289"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "4/ 414-415" و"الجهاد" "2/ 649/ رقم 275"، والطيالسي في "المسند" "رقم 1164"، وأحمد في "المسند" "4/ 239-240"، وإسحاق بن راهوية وأبو يعلى في "تخريج الزيلعي للكشاف" "2/ 293"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 4-5"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 172-173"، والطبراني في "الكبير" "8/ 83/ رقم 7396"، والحاكم في= الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 ...........................................................................   = "المستدرك" "1/ 9"، والبيهقي في دلائل النبوة" "6/ 268"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 97-98"، والخطيب في "الموضح" "1/ 330-331، 332"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 187"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 130-131" من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال صاحبه: لا تقل: نبي، إنه لو سمعك كان له أربع أعين، فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه عن تسع آيات بينات؛ فقال لهم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت". قال: فقبلوا يده ورجله. فقالا: نشهد أنك نبي، قال: "فما يمنعكم أن تتبعوني؟ " قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود. لفظ الترمذي. وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. قلت: وظاهر إسناده الصحة ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الله بن سلمة اختلط، ورواية عمرو بن مرة عنه حال اختلاطه، وقد فصلت ذلك ولله الحمد في تعليقي على "الخلافيات" "2/ 17-20". ولذا؛ فالحديث ضعيف، ولا طريق له إلا المذكور، قال العقيلي: "ولا يحفظ هذا الحديث من حديث صفوان بن عسال؛ إلا من هذا الطريق". وقد تفطن الإمام الحافظ ابن كثير إلى علة تقدح في هذا الحديث، وبين وهمًا وقع لعبد الله بن سلمة هذا فيه؛ فقال: "فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في "تفسيره" من طرق عن شعبة بن الحجاج به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث مشكل، عبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعل اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم". وقد أورد الزيلعي في "تخريج الكشاف" "2/ 293" إشكالين على الحديث؛ فقال: "والحديث فيه إشكالان: أحدهما: أنهم سألوا عن تسعة وأجاب في الحديث بعشرة، وهذا لا يرد على رواية أبي نعيم والطبراني؛ لأنهما لم يذكرا فيه السحر، ولا على رواية أحمد أيضًا؛ لأنه لم يذكر القذف مرة، وشك = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وَحَدِيثُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ ثَابِتٌ صَحِيحٌ1. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيم} [الصَّافَّاتِ: 89] ؛ قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا في ثلاث: قوله إني سقيم" الحديث2.   = في أخرى؛ فيبقى المعنى في رواية غيرهم، أي: خذوا ما سألتموني عنه وأزيدكم ما يختص بكم لتعلموا وقوفي على ما يشتمل عليه كتابكم. الإشكال الثاني: أن هذه وصايا في التوراة ليس فيها حجج على فرعون وقومه، فأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون، وما جاء هذا إلا من عبد الله بن سلمة؛ فإن في حفظه شيئًا، وتكلموا فيه وأن له مناكير، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات؛ فاشتبه عليه بالتسع الآيات، فوهم في ذلك، والله أعلم". ثم قال: "ورواه ابن مردويه في "تفسيره" كذلك بلفظ "السنن"". 1 مضى تخريجه مسهبًا في "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره، وانظر كتابنا: "من قصص الماضين في حديث سيد المرسلين" "ص21-45". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 388/ رقم 3357، 3358، وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/ رقم 5084"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل, عليه السلام 4/ 1840/ رقم2371" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. وكتب "ف" هنا ما نصه: "وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في زوجه سارة: هي أختي، وهذا من معاريض الكلام وإن في المعاريض لمندوحة كقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟ قال: "من ماء"؛ حيث أراد عليه الصلاة والسلام ذكر مبدأ خلقه، ففهم السائل أنه بيان قبيلة، فسيدنا إبراهيم -عليه السلام- نظر نظرة في النجوم أوهمهم أنه ينظر فيها من حيث الأوضاع الفلكية التي يستدل بها على ما سيقع من الحوادث الكونية؛ فقال لهم: إني سقيم، وأراد أنه مستعد للسقم أو أنه سقيم القلب لكفرهم، والقوم توهموا أنه أراد قرب سقمه حيث لا يستطيع معهم الخروج إلى معبدهم، ولا يعد ذلك كذبًا في الحقيقة، وتسميته في بعض الأحاديث بالكذب بالنظر لما فهمه الغير منه لا بالنسبة لما قصده المتكلم". قلت: وسيأتي في "ص442" تخريج قوله, صلى الله عليه وسلم: "من ماء". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 وقال: "إنكم محشورون إلى الله [عراة] 1 غُرْلًا" 2. ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاءِ: 104] 3. وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الْحَجِّ: 1] ؛ قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ" الْحَدِيثَ4.   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 الغرلة, بالضم: القلفة. "ف". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 386-387/ رقم 3349، وباب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} ، 6/ 478/ رقم 3447، وكتاب التفسير، باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِم} ، 8/ 286/ رقم 4625، وباب {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك} ، 8/ 286/ رقم 4626، وباب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} ، 8/ 437-438/ رقم 4740، وكتاب الرقاق، باب الحشر، 11/ 377/ رقم 6524، 6525، 6526"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، 4/ 2194-2195/ رقم 2860"، والترمذي في "جامعه" "أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحشر، 4/ 615-616/ رقم 2423، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء, عليهم السلام، 5/ 321-322/ رقم 3167"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجنائز، باب البعث، 4/ 114، وباب ذكر ذكر أول من يكسى، 4/ 117" و"السنن الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 462-463/ رقم 180 و2/ 78/ رقم 357" عن ابن عباس مرفوعًا. 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب التفسير، باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} ، 8/ 441/ رقم 4741، وكتاب الرقاق، باب قوله, عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، 11/ 388/ رقم 6530، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ .... } ، 13/ 453/ رقم 7483"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار، 1/ 201-202/ رقم 222"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 80-81/ رقم 359"، وأحمد في "المسند" "3/ 32-33"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 وَقَالَ: "إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يظهر عليه جبار" 1.   = 917"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 87"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش" "رقم 27" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا. وفي الباب عن عمران بن حصين، أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 323-324/ رقم 3169" -والمذكور لفظه- والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 82/ رقم 360"، وأحمد في "المسند" "4/ 432، 435"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 111"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 28 و2/ 233، 385 و4/ 567" من طرق عن الحسن عن عمران به، قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأكثر أئمة البصرة على أن الحسن قد سمع من عمران، غير أن الشيخين لم يخرجاه". قلت: الحسن مدلس، وقد عنعن، ولم يصرح بالسماع؛ إلا أن ما قبله يشهد له، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي الدرداء وأنس وغيرهم. وعزاه السيوطي في "الدر" "4/ 343" لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن عن عمران به. 1 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 324/ رقم 3170"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 201"، والبزار في "مسنده" "2/ 45/ رقم 1165, زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 389"، والطبراني في "الكبير" "رقم 262, قطعة من الجزء 13"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 125"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 151-152"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 268-269" من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير مرفوعًا به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن الزهري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا"، ثم أخرجه؛ فقال: ثنا قتيبة ثنا الليث عن عقيل عن الزهري به. وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "17/ 152" من طريق حجاج عن ابن جريج عن الزهري مرسلًا. وإسناد المرفوع ضعيف، قال البزار عقبه: "لا نعلمه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بهذا الإسناد". قلت: فيه عبد الله بن صالح، كاتب الليث، قيل: ثقة مأمون، ضعفه الأئمة أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، كذا في "مجمع الزوائد" "3/ 296". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 وأمثلة هذا الضرب كثيرة. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقَعَ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ، وَلَا فِيهِ مَعْنَى تَكْلِيفٍ اعْتِقَادِيٍّ أَوْ عَمَلِيٍّ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ لأنه أمر زائد على مواقع التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِذَلِكَ1؛ فَالسُّنَّةُ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ نَمَطٌ صَالِحٌ فِي "الصَّحِيحِ"2 كَحَدِيثِ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى3، وَحَدِيثِ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ4، وَوَفَاةِ مُوسَى5، وَجُمَلٌ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- والأمم   = وقال ابن أبي حاتم في "العلل" "1/ 274-275/ رقم 810": "سألت أبي عن حديث رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة ... "، وذكره مرفوعًا، ثم قال: "قال أبي: هذا خطأ، رواه معمر عن الزهري عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير موقوفًا، ورواه الليث ... "، وساقه من الطريق التي ذكرناها، ثم قال: "قال أبي: حديث معمر عندي أشبه؛ لأنه لا يحتمل أن يكون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرفوع". 1 أي: أن هذا هو المقصود الأول من الكتاب، كما سبق بيانه في المسألة السابعة من الطرف الثاني. "د". 2 في "البخاري" من هذا النوع طائفة صالحة، تجدها في كتاب التفسير منه، وكتاب بدء الخلق، وكتاب أحاديث الأنبياء. "د". 3 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، 6/ 500-501/ رقم 3464، وكتاب الأيمان والنذور، باب لا يقول ما شاء الله وشئت وهل يقول: أنا بالله ثم بك، 11/ 540/ رقم 6653"، و"صحيح مسلم" "كتاب الزهد والرقائق، باب منه، 4/ 2275-2277/ رقم 2964" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. 4 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب 48، 6/ 476/ رقم 3436، وباب 54، 6/ 511/ رقم 3466"، و"صحيح مسلم" "كتاب البر والصلة، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، 4/ 1976/ رقم 2550"، و"مسند أحمد" "2/ 307 و308 و358 و395 و433"، و"مجابي الدعوة" "رقم 1"، و"الآداب" "رقم 1079" للبيهقي، و"مسند أبي يعلى" "11/ 178-179/ رقم 6289" عن أبي هريرة به. 5 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 قَبْلَنَا1، مِمَّا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ نَحْوٌ مِمَّا فِي الْقَصَصِ الْقُرْآنِيِّ، وَهُوَ نَمَطٌ رُبَّمَا رَجَعَ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ فَهُوَ خَادِمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَعْدُودٌ فِي الْمُكَمِّلَاتِ لِضَرُورَةِ التَّشْرِيعِ؛ فَلَمْ يَخْرُجْ بِالْكُلِّيَّةِ عن القسم الأول2، والله أعلم.   = أو نحوها، 3/ 206/ رقم 1339، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى, عليه السلام، 6/ 440/ رقم 3407"، و"صحيح مسلم" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى, عليه السلام 4/ 1842/ رقم 2372"، و"المجتبى" للنسائي "4/ 118 و119"، و"مسند أحمد" "2/ 269 و533"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 274-275/ رقم 20530 و20531"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 599، 600"، و"صحيح ابن حبان" "8/ 38/ رقم 6190, الإحسان"، و"شرح السنة" "5/ 265-266/ رقم 1451"، و"صحيفة همام بن منبه" "رقم 60". 1 تجد هذه الأحاديث -ومنها ما أشار إليه المصنف آنفًا- مع تخريجها وبيان غريبها والفوائد المستنبطة منها في كتابي "من قصص الماضين"، وهو مطبوع، ولله الحمد. 2 وهو ما كان مبينًا للكتاب؛ لأنه خادم لمقصود الكتاب. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: السُّنَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ: قَوْلٌ، وَفِعْلٌ1، وَإِقْرَارٌ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْكَارِ لَوْ كَانَ مُنْكَرًا. فَأَمَّا الْقَوْلُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا تَفْصِيلَ. وَأَمَّا الْفِعْلُ؛ فَيَدْخُلُ تحته الكف عن الفعل2؛ لأنه فعل عند جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْكَفَّ غَيْرُ فِعْلٍ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الكلام على كل واحد منهما3.   1 مما فرق به بين القول والفعل, أن الفعل لا يعارض فعلًا آخر؛ فلا ينسخه ولا يخصصه؛ لأنه لا عموم للأفعال، فلا يعقل التعارض بينها، وإنما يعقل بين الفعل والقول كما يعقل بين الأقوال. "د". 2 أي: ترك الفعل مطلقًا أو ترك الفعل المنهي عنه لأنه الذي اختلف في كونه فعلًا أو غير فعل؛ فالجمهور على أنه فعل، وهو الكف أي الانصراف عن المنهي عنه، مع سبق الداعية إليه أو يدونها؛ فيشمل نهي المعصوم أو هو فعل الضد للمنهي عنه، وقال قوم منهم أبو هاشم المعتزلي: مقتضى النهي الترك، أي عدم الفعل، وهو انتفاء المنهي عنه هذا هو المشهور عند الأصوليين وإن كان تركه -صلى الله عليه وسلم- لا يتقيد بكونه تركًا لخصوص المنهي عنه كما سيأتي. "ف". قلت: انظر في تحقيق أن الترك المقصود فعل: "جمع الجوامع" "1/ 214, مع شروحه"، و"شرح مختصر ابن الحاجب" "2/ 13، 14"، و"المستصفى" "1/ 90"، و"الإحكام" "1/ 112"، و"إرشاد الفحول" "ص91"، و"أصول السرخسي" "1/ 79-80"، وانظر في عدم الالتفات إلى الترك غير المقصود: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "21/ 313-314"، وانظر في الترك وأقسامه وأحكامه: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 45-70" للشيخ محمد الأشقر، و"أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودلالتها على الأحكام" "ص207-227" للدكتور محمد العروسي عبد القادر, ط دار المجتمع، جدة، سنة 1404هـ, ط الأولى. 3 أي: الفعل والكف. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 فَالْفِعْلُ مِنْهُ1 -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَلِيلٌ عَلَى مُطْلَقِ الْإِذْنِ فِيهِ2 مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِهِ3؛ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَالْكَلَامُ هَنَا مَذْكُورٌ4 فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَخُصُّ هَذَا الْمَوْضِعَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ أَبْلَغُ فِي بَابِ التَّأَسِّي وَالِامْتِثَالِ مِنَ5 الْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ؛ فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ وَكِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَوِ الْقَرِينَةُ عَلَى خِلَافِ مُطْلَقِ الْإِذْنِ؛ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْوَاعِهِ، فَمُطْلَقُ الْإِذْنِ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ؛ فَفِعْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالٍ أَمْ كَانَ مُطْلَقًا؛ فَالْمُطْلَقُ كَسَائِرِ الْمَفْعُولَاتِ6 لَهُ، وَالَّذِي فِي حَالٍ كَتَقْرِيرِهِ لِلزَّانِي إِذْ أَقَرَّ عِنْدَهُ؛ فَبَالَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ عليه7 حتى صرح له بلفظ الوطء   1 أراد به ما قابل الكف واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا؛ كما يدل عليه بيانه بعد "ف". 2 أي: غير مقيد بكونه واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، واتخاذ ذلك يفهم من دليل آخر كما قال، وليس مراده أن فعله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك يكون غير مأذون فيه كما بينه بعد. "ف". 3 أي: على غير الإطلاق، بأن دل على تعيين نوع الإذن من وجوب أو ندب أو إباحة، كما يشير إليه بعد. "د". 4 واختلفوا فيه على أربعة أقوال، والآمدي اختار أنه إن لم يظهر فيه قصد القربة؛ فهو دليل على القدر المشترك بين الثلاثة، وإن ظهر؛ فهو دليل على المشترك بين الواجب والمندوب، وابن الحاجب قال: "إن ظهر قصد القربة؛ فالمختار أنه للندب، وإلا؛ فللإباحة". "د". 5 في "م": "عن". 6 أي: غير الطبيعة الجبلية؛ فإنه لا نزاع في كونها للإباحة لا غير. "د". 7 حيث ردد الكلام معه وشدد عليه فيه حتى صرح ... إلخ؛ ففعل هذا مأذون فيه في حال دون حال. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 الصَّرِيحِ1، وَمِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ فَإِنَّمَا جَازَ لِمَحَلِّ الضَّرُورَةِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِدَلِيلِ النَّهْيِ عَنِ التَّفَحُّشِ مُطْلَقًا2، وَالْقَوْلُ هُنَا فِعْلٌ3؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى تَكْلِيفِيٌّ4 لَا تَعْرِيفِيٌّ؛ فَالتَّعْرِيفِيُّ هُوَ الْمَعْدُودُ فِي الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ إِخْبَارًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالتَّكْلِيفِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يُعَرِّفُ بِالْحُكْمِ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ، كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا التَّرْكُ5؛ فَمَحَلُّهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ الْمَكْرُوهُ وَالْمَمْنُوعُ؛ فَتَرْكُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- دَالٌّ عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا فِي حَالٍ؛ فَالْمَتْرُوكُ مُطْلَقًا ظَاهِرٌ، وَالْمَتْرُوكُ فِي حَالٍ كَتَرْكِهِ الشَّهَادَةَ6 لمن   1 وذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم: "أنكتها"، كما في "صحيح البخاري" "رقم 6824"، وقد مضى تخريجه "ص117". 2 أورد البخاري في "صحيح" "كتاب الأدب، باب لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452" عدة أحاديث فيها النهي عن الفحش، أصرحها برقم "6030" من حديث عائشة -رضي الله عنها- فيه: "وإياك والعنف والفحش". 3 أي: فالفعل في هذا المقام أم مما تعورف عليه في مقابلة القول بالفعل؛ فلذا عد تقريره للزاني فعلًا. "د". 4 التكليف متعلق بالشرع، ومسألة الفرق بين "القول" و"الفعل" لغوية محضة، والاختلاف المذكور بين جهتي القول واقع في كل قول، سواء صدر من المنتسبين إلى الشرع أم غيرهم؛ فلو عبر بقوله: "الوجه الفعلي للقول"؛ لكان أوضح، أفاده الشيخ محمد الأشقر في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 36"، وله كلام جيد في التفريق بين الوجه العباري والوجه الفعلي للقول، وانظر: "إحكام الأحكام" "1/ 10"، و"تيسير التحرير" "1/ 249"، و"المعتمد" "1/ 387 و2/ 1006"، و"الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" "ص75". 5 أي: المعبر عنه بالكف سابقًا، وإن كان بينهما اختلاف في المعنى عندهم. "د". 6 أي: تحملها؛ لأن تحمل الشهادة فيما ليس بمباح مكروه، وليس المراد أداء الشهادة؛ لأن كتمان الشهادة لا يجوز مطلقًا، وفي رواية قال: "لا رجعة"، وعليها يكون قد أبطل الهبة رأسًا، فترك الشهادة لعدم وجود محلها إما على رواية "أشهد غيري"؛ فإن محل الشهادة موجود، ولكنه مرجوح ومكروه، فلم يشهد عليه، مع بقائه نافذًا فيكون مما نحن فيه، وبعد؛ فإنما صح له التمثيل بهذا للمتروك في حال؛ لأنه أخذ الشهادة مطلقة، لكنه لو أخذ نوعًا منها وهو الشهادة على نحلة بعض الأولاد دون بعض؛ لكان من قبيل المتروك مطلقًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 نَحَلَ بَعْضَ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ1؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأَشْهِدْ غَيْرِي؛ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جور"2، وهذا ظاهر3.   1 أي: وهبه دون الآخر، والنحل, بالضم: إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة، والاسم: النحلة, بالكسر. "ف". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور، 5/ 258/ رقم 2650"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1243/ رقم 1623" وغيرهما عن النعمان بن بشير بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الهبة، باب الهبة للولد، 5/ 211/ رقم 2586"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1241/ رقم 1623"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب الرجل يفضل بعض ولده في النحل، 3/ 811/ رقم 3542"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأحكام، باب في النحل والتسوية بين الولد، 3/ 649/ رقم 1367"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب النحل، باب اختلاف الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل، 6/ 258-259، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الهبات، باب الرجل ينحل ولده، 2/ 795/ رقم 2375"، ومالك في "الموطأ" "2/ 751"، وأحمد في "المسند" "4/ 268" عن النعمان بألفاظ، منها: "فارتجعه"، ومنها: "فاردده". 3 أي: أن تطبيق قاعدة الترك على غير المأذون سواء أكان من المتروك مطلقًا الذي لا يحتاج إلى جلب أمثلة له، أم من المتروك في حال كمثال النحلة ظاهر؛ لأن الأصل فيما تركه أنه غير مأذون فيه، إلا أن هناك أمورًا وقع تركها مع كونها مأذونًا فيها، وهي في ظاهرها تخرج عن هذه القاعدة؛ فذكر هذه الأمور التي تركها -صلى الله عليه وسلم- وهي مأذون فيها، وذكر أسباب الترك، ثم عاد فحللها ورجعها إلى القاعدة، وبين أنها لتلك الأغراض صارت غير مأذون فيها سوى أولها؛ فليس فيه ترك أصلًا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 وَقَدْ يَقَعُ التَّرْكُ لِوُجُوهٍ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ: - مِنْهَا: الْكَرَاهِيَةُ طَبْعًا؛ كَمَا قَالَ فِي الضَّبِّ وَقَدِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ: "إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ" 1؛ فَهَذَا تَرْكٌ لِلْمُبَاحِ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ2، وَلَا حَرَجَ فِيهِ. - وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِحَقِّ الْغَيْرِ؛ كَمَا فِي تَرْكِهِ أَكْلَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ لِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ3، وَهُوَ تَرْكُ مُبَاحٍ لِمُعَارَضَةِ حَقِّ الْغَيْرِ. - وَمِنْهَا: التَّرْكُ خَوْفَ الِافْتِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ [وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ] 4 بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، كَمَا تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رمضان5.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه. 2 انظر تفصيلًا في الفعل الجبلي الصادر منه -صلى الله عليه وسلم- ومتى يكون مندوبًا في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 219-236" للأستاذ محمد الأشقر. 3 روي في "التيسير" عن الخمسة أنه -صلى الله عليه وسلم- أتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحًا، فسأل عنها، فأخبر بما فيها من البقول، فأشار إليهم أن يقدموها إلى بعض أصحابه، فلما رآه أكلها؛ قال له: "كل فإني أناجي من لا تناجي"، وهذا أوضح في التمثيل للمسألة السابعة من مثال العسل الآتي له. "د". قلت: وقد مضى تخريجه "ص115"، وذكرت جملة من الأحاديث في هذا الباب مع تخريجها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن الدخان" "ص107-113". 4 سقط من "ط". 5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة مرفوعًا، وفيه: "فإنه لم يخف علي شأنكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 وقال: "لولا أن أشق 1 على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ" 2، وَقَالَ لَمَّا أَعْتَمَ بِالْعَشَاءِ حتى رقد النساء والصبيان: "لولا أن أشق 3 على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ" 4. - وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِمَا لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْكُلِّ؛ كَإِعْرَاضِهِ عَنْ سَمَاعِ غِنَاءِ الْجَارِيَتَيْنِ في بيته5، وفي   1 و3 جعل هذين مما تركه خشية الافتراض فيه نظر؛ لأنه لم يصرح فيه إلا بمجرد خوف المشقة إذا أمرهم به، ولو بتأكد الطلب على جهة الفضيلة، ولا يلزم أن تكون المشقة متوقفة على الطلب المحتم، نعم، فسر بعضهم قوله: "لأمرتهم"؛ فقال: أي أمر إيجاب؛ فهو جارٍ على مقتضى هذا التفسير. 2 ورد عن جمع من الصحابة، وعد متواترًا، انظر: "صحيح البخاري" "كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، 2/ 374/ رقم 887"، و"صحيح مسلم" "كتاب الطهارة، باب السواك، 1/ 220"، وقد خرجت غير حديث باللفظ المذكور في تحقيقي لرسالة الشيخ علي القاري "معرفة النساك في معرفة السواك" "رقم 1-8". 4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب النوم قبل العشاء لمن غلب، 2/ 50/ رقم 571، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 224/ رقم 7239"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، 1/ 444/ رقم 642" عن ابن عباس, رضي الله عنهما. 5 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 949، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام، 2/ 445/ رقم 952، وباب إذا فاتته العيد يصلي ركعتين، 2/ 474/ رقم 987، وكتاب الجهاد، باب الدرق، 6/ 94/ رقم 2906، وكتاب المناقب، باب قصة الحبشة، 6/ 553/ رقم 3529، وكتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب المدينة، 7/ 264/ رقم 3931"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، 2/ 607-608/ رقم 892" عن عائشة؛ قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني, وقال: مزمارة الشيطان عند النبي, صلى الله عليه وسلم. فأقبل عليه = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 الْحَدِيثِ: "لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي"1، وَالدَّدُ: اللَّهْوُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي كتاب الأحكام.   = رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "دعهما"، فلما غفل غمزتهما فخرجتا. لفظ البخاري. وانظر في شرح الحديث بما يوافق استدلال المصنف به في "مجموعة الرسائل" "3/ 201"، ومجموع الفتاوى" "11/ 565، 569"، و"تلبيس إبليس" "237-238"، و"غاية المرام" "226-227" لشيخنا الألباني، و"المدخل" "3/ 109" لابن الحاج، و"الإعلام بأن العزف حرام" "ص40" لأبي بكر الجزائري. 1 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 785"، والبزار في "مسنده" "3/ 129/ رقم 2402, زوائده"، والطبراني في "الأوسط" "1/ 262/ رقم 415"، والدولابي في "الكني" "1/ 179"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 217"، و"الآداب" "رقم 925, ط عطا ورقم 904, ط عبد القدوس"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2698" من طريق يحيى بن محمد بن قيس أبي زكير عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعًا، وفي آخره: "قال يحيى بن قيس بن عقبة: يعني: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال البيهقي عقبه: "قال علي بن المديني: سألت أبا عبيدة -صاحب العربية- عن هذا؛ فقال: يقول: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال: "وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الدد هو اللعب واللهو". قال البزار: "لا نعلمه يروى إلا عن أنس، ولا نعلم رواه عن عمرو إلا يحيى بن محمد بن قيس". قلت: وكلامه متعقب بما يأتي. وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو إلا أبو زكير". قلت: وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن محمد بن قيس، وقد وثق، ولكن ذكر هذا الحديث من منكراته، والله أعلم، وقال الذهبي: "قد تابعه عليه غيره"، قاله الهيثمي في "المجمع" "8/ 225". وأعله ابن عدي بيحيى أيضًا، وقال: "عامة رواياته مستقيمة إلا هذا الحديث، وهو يعرف به"، وأورده العقيلي في "الضعفاء الكبير" "4/ 427" في ترجمة يحيى المذكور، وقال: "وقد تابعه عليه من هو دونه". = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 - وَمِنْهَا: تَرْكُ الْمُبَاحِ الصِّرْفِ1 إِلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ؛ فَإِنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِأَزْوَاجِهِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 51] عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ2 الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَتَرَكَ مَا أُبِيحَ لَهُ إِلَى الْقَسْمِ الَّذِي هُوَ أَخْلَقُ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ، وَتَرَكَ3 الِانْتِصَارَ مِمَّنْ قَالَ4 لَهُ: اعْدِلْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَنَهَى مَنْ   = وأخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ 343-344/ رقم 794" من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن معاوية رفعه. قال الهيثمي في "المجمع" "8/ 226": "رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن نصر الترمذي عن محمد بن عبد الوهاب الأزهري، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات". قلت: محمد بن أحمد بن نصر الترمذي ترجمه الخطيب في "التاريخ" "1/ 365"، والسبكي في "طبقاته" "2/ 187-188"، وابن حجر في "لسان العرب" "5/ 49"، وهو ثقة، إلا أنه اختلط. وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري، رواه عن الدراوردي، قال أبو حاتم: "منكر الحديث، يتكلمون فيه"، وقال أبو نعيم: "متروك، والراوي عنه محمد بن عبد الوهاب الذي جهله الهيثمي، ولم أظفر له بترجمة"، قال ابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 266/ رقم 2295" بعد أن ذكر حديث أنس ومعاوية: "قلت لأبي زرعة: أيهما عندك أشبه؟ قال: الله أعلم، ثم تفكر ساعة، فقال: حديث الدراوردي أشبه، وسألت أبي؛ فقال: حديث معاوية أشبه". وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "2/ 366". 1 أي: الخالص. "ماء". 2 وحمله بعضهم على الطلاق والإمساك، أعني: تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وحمله بعضهم على الأمرين جميعًا. "د". 3 في "ف" و"م": "وتركه". 4 هو ذو الخويصرة، وكان من المنافقين، قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي, رضي الله عنه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 أَرَادَ قَتْلَهُ1، وَتَرَكَ قَتْلَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَمَّتْ له الشاة2، ولم يعاقب عروة بْنَ الْحَارِثِ إِذْ أَرَادَ الْفَتْكَ بِهِ، وَقَالَ: من يمنعك مني؟ الحديث3.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 617-618/ رقم 3610"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744-745/ رقم 1064" عن أبي سعيد الخدري, رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سمت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، 7/ 497/ رقم 4249، وكتاب الطب، باب ما يذكر في سم النبي, صلى الله عليه وسلم 10/ 244-245/ رقم 5777" عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، 5/ 230/ رقم 2617"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب السلام، باب السم، 4/ 1720/ رقم 2190" عن أنس -رضي الله عنه- وفيه: "ألا نقتلها؟ ". قال: لا. وفي رواية للبيهقي: "أنه أمر بقتلها". قال "د": "ويجمع من الروايات بأنه عفا عنها لحق نفسه، فلما مات من أكلها بشر بن البراء -وهو ابن معرور- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتلها قصاصًا". وقد مضى عند المصنف "2/ 461"، وتخريجه هناك أيضًا. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجرة في السفر عند القائلة، 6/ 96/ رقم 2910، وباب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر، 6/ 97/ رقم 2913، وكتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، 7/ 426/ رقم 4134"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب منه، 4/ 1787/ رقم 843" عن جابر بن عبد الله, رضي الله عنه. ووقع اسم الأعرابي أو الرجل الذي أراد أن يفتك به -صلى الله عليه وسلم- في "ف" و"م" و"د" و"ماء": "عروة" وهو خطأ، والصواب ما ذكرناه، ووقع في الأصل و"ط" على الجادة، ودليله ما ذكره البخاري في "صحيحه" "7/ 426/ رقم 4136" عقب حديث جابر: "وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل: غورث بن الحارث"، ووقع مسمى هكذا في "مسند أحمد" "3/ 364-365"، و"سنن سعيد بن منصور" "2/ 238/ رقم 2504, ط الأعظمي"، و"غريب الحديث" للحربي "1/ 307-308"، و"دلائل النبوة" "3/ 373، 375، 376" للبيهقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 - وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِلْمَطْلُوبِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ" 1، وَفِي رِوَايَةٍ: "لَأَسَّسْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ" 2، وَمَنَعَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَقَالَ: "لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" 3. وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ تَرْجِعُ إِلَى الأصل المتقدم4.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، 3/ 439/ رقم 1584" -والمذكور لفظه- ومسلم في "الصحيح" "كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 2/ 968-969/ رقم 1333" عن عائشة, رضي الله عنها. 2 ورد نحوه في "الصحيحين" -كما في المواطن السابقة- وفي "مسند إسحاق بن راهويه" "رقم 7": "ووضعته على أساس إبراهيم"، و"رقم 8": "لبنيت البيت على قواعد إبراهيم"، و"رقم 671": "وبنيته على أساس إبراهيم"، وكذا في "المجتبى" للنسائي "5/ 215" من طريقه، وفي رواية أخرى له: "فبلغتُ به أساس إبراهيم, عليه السلام"، ونحو هذه الألفاظ في "مسند أحمد" "6/ 57، 239". والحديث عند علي بن الجعد في "المسند" "رقم 2525"، و"جامع الترمذي" "رقم 875"، وغيرهما. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، 6/ 546/ رقم 3518، وكتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} ، 8/ 653/ رقم 4907" عن جابر, رضي الله عنه. 4 وهو أن الترك محله غير المأذون فيه، والمؤلف في رده هذه الأمور إلى القاعدة تارة يلاحظ الفعل فيجعله منهيًّا عنه، وتارة يلاحظ الترك فيجعله مطلوبًا، وهما متلازمان، وإنما هو التنويع في التعبير. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَرْكٍ بِإِطْلَاقٍ1، كَيْفَ وَقَدْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَقَدْ صَارَ فِي حَقِّهِ التَّنَاوُلُ مَمْنُوعًا أَوْ مَكْرُوهًا لِحَقِّ2 ذَلِكَ الْغَيْرِ، هَذَا فِي غَيْرِ مُقَارَبَةِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مَعَ مُقَارَبَتِهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا؛ فَهُوَ عَامٌّ3 فِيهِ وَفِي الْأُمَّةِ؛ فَلِذَلِكَ نَهَى آكِلَهَا عَنْ مُقَارَبَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهَا لِمَنْ أَرَادَ مُقَارَبَتَهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَهُوَ مِنَ الرِّفْقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ؛ فَالتَّرْكُ هُنَالِكَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الذَّرَائِعِ إِذَا كَانَ تَرْكًا لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ خَوْفًا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ خَوْفًا مِنْ مَآلٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ؛ صَارَ التَّرْكُ هُنَا مَطْلُوبًا. وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ4 فِيهِ رُجُوعُهُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَأَمَّا الْخَامِسُ؛ فَوَجْهُ النَّهْيِ الْمُتَوَجَّهِ عَلَى الْفِعْلِ حَتَّى حَصَلَ التَّرْكُ أن   1 أي: لا يعد تركًا رأسًا؛ لأن إقراره كفعله سواء، وقد أقر أكله على مائدته، وأيضًا؛ فهو جبلي لا يدخل في الباب رأسًا كما تقدمت الإشارة إليه. "د". 2 أي: وهو أمر مستمر ومطلق لا يخص حالًا دون حال. "د". 3 كما ورد في الحديث: "من أكل ثومًا أو بصلًا؛ فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا"، أخرجه في "التيسير" عن الخمسة. "د". قلت: أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 567" عن عمر، ورقم "563" عن أبي هريرة، ورقم "565-566" عن أبي سعيد، والبخاري في "صحيحه" "2/ 339/ رقم 853"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 561" عن ابن عمر، والبخاري "2/ 339/ رقم 856 و9/ 575/ رقم 5451"، ومسلم "رقم 562" عن أنس, رضي الله عنه. 4 أي: في مبحث المباح، وأن مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بالكل؛ فلذلك قال: "تبين رجوعه"، ولم يقل: إنه منهي عنه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 الرَّفِيعَ الْمَنْصِبِ مُطَالَبٌ بِمَا يَقْتَضِي مَنْصِبُهُ، بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَغَيْرَ لَائِقٍ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، حَسْبَمَا جَرَتْ بِهِ الْعِبَارَةُ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: "حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ"1، إِنَّمَا يُرِيدُونَ فِي اعْتِبَارِهِمْ لَا فِي حَقِيقَةِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ، وَلَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ بَعْدَ الْقَسْمِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ يَعْتَذِرُ إِلَى رَبِّهِ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ! هَذَا عَمَلِي فِيمَا أَمْلِكُ؛ فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ"2، يُرِيدُ بِذَلِكَ مَيْلَ الْقَلْبِ   1 انظر ما قدمناه "3/ 548". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، 3/ 446/ رقم 1140"، وأبو داود في "السنن" "كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242/ رقم 2134"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، 7/ 64"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، 1/ 633/ رقم 1971"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 386-387"، وأحمد في "المسند" "6/ 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 1370, مسند عائشة"، وابن أبي حاتم في "العلل" "1/ 425"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 5/ رقم 4205, الإحسان"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 88"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 187"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 298" من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة به. ورجاله ثقات، واختلف في رفعه ووصله، وانفرد حماد بن سلمة في وصله، وأرسله غيره. قال النسائي بإثره: "أرسله حماد بن زيد"، وقال الترمذي عقبه: "ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة". وقال ابن أبي حاتم: "فسمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا"، وقال: "قلت: روى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بين نسائه ... " الحديث مرسل". وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "4/ 386" من طريق ابن علية التي ذكرها ابن أبي حاتم. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 إِلَى بَعْضِ الزَّوْجَاتِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُمْلَكُ، كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا أَنْفُسِهَا. وَالَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْمَوْضِعَ -وَأَنَّ الْمَنَاصِبَ تَقْتَضِي فِي الِاعْتِبَارِ الْكَمَالِيِّ الْعَتْبَ عَلَى مَا دُونَ اللَّائِقِ بِهَا- قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ1، وَفِي اعْتِذَارِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا، بِخَطِيئَتِهِ وَهِيَ دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ, وَدُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، قَالُوا2: وَبَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] وَهَذَا يَقْضِي3 بِأَنَّهُ دُعَاءٌ مُبَاحٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَقْصَرَ نَفْسَهُ لِرَفِيعِ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مِثْلِهِ مِثْلُ هَذَا؛ إِذْ كَانَ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ اعْتَذَرَ بِخَطِيئَتِهِ، وَهِيَ الثَّلَاثُ الْمَحْكِيَّاتُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ"4؛ فَعَدَّهَا كِذْبَاتٍ وإن   = ويشهد لما ذكره المصنف أولًا ما أخرجه أبو داود في "السنن" كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242-243/ رقم 2135"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 186"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 74" عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس؛ حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها". وإسناده حسن. 1 انظره بطوله في "صحيح البخاري" "كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417-418/ رقم 6565"، و"صحيح مسلم" "كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، 1/ 180-181/ رقم 193". 2 كأنه يحتاج عنده إلى تثبت، وسيأتي له أن قوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك} [نوح: 27] ، إنما كان بوحي، وأنه هو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوح ... } إلخ [هود: 36] ؛ أي: يستلزمه، إلا أن كل هذا وإن أفاد أن دعاءه اقترن بما هو في معنى: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك ... } إلخ [هود: 36] ؛ فهو لا يعتبر أنه ما دعا إلا بعد ما نزل عليه ذلك صريحًا، بل هذا القدر محتاج للإثبات. "د". 3 في "ط": "يقتضي". 4 مضى تخريجه قريبًا "ص414" وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 كَانَتْ تَعْرِيضًا اعْتِبَارًا بِمَا ذُكِرَ. وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ1 فِي دَلِيلِ الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ لَمْ تُرَدَّ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ أَوْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَى مَا فِيهَا؛ فَهِيَ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ، فَإِذَا عَرَضْنَا مَسْأَلَتَنَا عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ دُعَاءَهُ عَلَى قَوْمِهِ؛ فَقَالَ: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نُوحٍ: 26] . وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَتْبٍ وَلَا لَوْمٍ، وَلَا خُرُوجٍ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ حَكَى أَنَّهُ قَالَ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} الآية [نوح: 27] . ومعلوم أنه -عليه السلام- لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّاتِ: 88، 89] . وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ مَا يُشِيرُ إِلَى لَوْمٍ وَلَا عَتْبٍ، وَلَا مُخَالَفَةِ أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 63] ؛ فَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الْمَسَاقِ ذِكْرٌ لِمُخَالَفَةٍ وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى عَتْبٍ، بَلْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصَّافَّاتِ: 84] ، وَهُوَ غَايَةٌ فِي الْمَدْحِ بِالْمُوَافَقَةِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَاقِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ... } [الْأَنْبِيَاءِ: 51] إِلَى آخِرِهَا؛ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ مَدْحَهُ وَمُنَاضَلَتَهُ عَنِ   1 في "ص160". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا نَاضَلَ بِهِ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ" 1، وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْقِيَامَةِ يَسْتَقْصِرُ نَفْسَهُ عَنْ رُتْبَةِ الشَّفَاعَةِ بِمَا يَذْكُرُهُ2، وَكَذَلِكَ نُوحٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ هُنَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِ3 مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا تَطْلُبُهُ بِهِ الْمَرْتَبَةُ؛ فَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي مَسْأَلَةِ الْقَسْمِ4. وَقَدْ مَدَدْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْضَ النَّفَسِ لِشَرَفِهِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ؛ لِبُيِّنَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَى بَيَانِهِ النَّفْسُ، مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَفِي آخِرِ5 فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي أَيْضًا مِمَّا يَتَمَهَّدُ بِهِ هَذَا الْأَصْلُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَنَّ التَّرْكَ هُنَا6 رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ، لَكِنِ النَّهْيُ الِاعْتِبَارِيُّ. وَأَمَّا السَّادِسُ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْكِ الَّذِي يقتضيه النهي لأنه من باب   1 مضى تخريجه "ص414"، وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة. 2 وهو قوله: "وإني كنت كذبت ... إلخ"، وكذلك نوح إذ يقول: "إني كانت لي دعوة دعوت بها على قومي". "د". قلت: ورد ذلك في حديث الشفاعة المشار إليه آنفًا، وهو في "الصحيحين". 3 في "م": "قبيل". 4 والحديث مرسل وليس بصحيح، كما بيناه قريبًا "ص430". 5 في المسألة الثامنة عشرة، وفيها أنه إذا رجع الأمر إلى الأصل والنهي إلى المآل يكون من باب سد الذرائع، وقوله: "هذا الأصل"؛ أي: وهو أن الترك محله في الأصل غير المأذون فيه، وتمهيده للوجه الثالث منه ظاهر، ولو ذكر هذا هناك؛ لكان أوضح. "د". 6 أي: في الوجه الخامس. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 تَعَارُضِ مَفْسَدَتَيْنِ؛ إِذْ يَطْلُبُ الذَّهَابَ إِلَى الرَّاجِحِ، وَيَنْهَى عَنِ الْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ، وَالتَّرْكُ هُنَا هُوَ الرَّاجِحُ؛ فَعَمِلَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْإِقْرَارُ1 فَمَحْمَلُهُ2 عَلَى أَنْ لَا حَرَجَ فِي الْفِعْلِ الَّذِي رَآهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَأَقَرَّهُ، أَوْ سَمِعَ بِهِ فَأَقَرَّهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي3 الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الذي   1 أي: تثبيته لأحد على شيء. "ماء". 2 في "ماء": "فمحله". 3 وحاصله أنه إذا علم بفعل وإن لم يره، فسكت قادرًا على إنكاره، فإن كان معتقد كافر يعلم إنكاره له -صلى الله عليه وسلم- فلا أثر لسكوته لأنه يعلم أن لا ينتفع بالإنكار في الحال، وإن لم يكن معتقد كافر، فإن سبق تحريمه بعام يكون الفعل الذي أقره نسخًا للتحريم أو تخصيصًا له به، على الخلاف بين الحنفية والشافعية في ذلك، وإلا بأن لم يسبق التحريم؛ فدليل الجواز حتى لا يكون فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير واقع في الشريعة، فإذا استبشر بالفعل؛ فأولى أن يدل على الجواز، إلا أن يدل دليل على أن هذا الاستبشار لأمر آخر اقترن بالفعل لا لنفس الفعل؛ فعند ذلك يختلف القول في اعتبار سكوته واستبشاره تقريرًا لأصل المسألة وأحقيتها، أو يجعل السكوت والاستبشار غير إقرار ولا موجب لأحقية أصل المسألة، كما في مسألة المدلجي لما دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا أسامة بن زيد وزيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما، وقد بدت أقدامهما؛ فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، وكان أسامة مثل الليل، وزيد مثل القطن؛ فأثبت الشافعي صحة النسب بالقيافة ومنعها الحنفية، ولكل منهما حجته ورده على الآخر، وإنما نقلنا هذه النبذة لتساعد على فهم المقام. "د". قلت: وتجد كلامًا عن القيافة في "الطرق الحكمية" لابن القيم، وتعليقنا عليه، ومضى تخريج حديث: "إن هذه الأقدام ... " في "ص75"، وهو صحيح، وانظر بسط موضوع "الإقرار" في: "التمهيد" "1/ 11 وما بعدها" للكلوذاني، و"شرح الكوكب المنير" "2/ 166، 194"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 94"، و"الإحكام" "1/ 169" للآمدي، و"تيسير التحرير" "3/ 19"، و"أصول السرخسي" "1/ 113"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 2"، و"نهاية السول" "2/ 238"، و"فواتح الرحموت" "2/ 97"، و"التفتازاني على ابن الحاجب" "2/ 22"، و"إرشاد الفحول" "33"، و"إعلام الموقعين" "2/ 387 وما بعدها". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 يَخُصُّ الْمَوْضِعَ هُنَا أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ جِنْسٌ لِأَنْوَاعٍ: الْوَاجِبُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمُبَاحُ بِمَعْنَى الْمَأْذُونِ فِيهِ1 وَبِمَعْنَى أَنْ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ؛ فَغَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَهُ2 عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَلَيْهِ يُؤْذِنُ إِطْلَاقَهُ بِمُسَاوَاةِ3 الْفِعْلِ لِلتَّرْكِ، وَالْمَكْرُوهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَكْرُوهَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ السُّكُوتُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحَلَّ تَشْرِيعٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَكْرُوهُ بِحُكْمِ إِطْلَاقِ السُّكُوتِ عَلَيْهِ دُونَ زِيَادَةٍ4 تَقْتَرِنُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ وَلَا تَعْرِيفٌ5 أَوْهَمَ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ، وَهُوَ الْإِذْنُ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَكْرُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. لَا يُقَالُ: فَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ؛ إِذْ لَا يُفْهَمُ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ فِيهِ غَيْرُ مُطْلَقِ الْإِذْنِ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ، وَلَيْسَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَرْكِهِ وَمَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ, وَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ زَائِدٌ6 عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَلَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ مُقْتَضَى الْإِقْرَارِ، وقد زعمت أنه7 داخل، هذا خلف.   1 مرتبط بالمباح إشارة إلى إرادة معنييه السابقين في مبحث المباح. "ف". 2 أي: تحت ما لا حرج فيه الذي هو محمل الإقرار الشامل للأنواع الثلاثة. "ف". 3 أي: على الأقل، حتى يدخل الواجب والمندوب، ثم يقال: وهل هذه العبارة تسع دخول المباح, بمعنى ما لا حرج فيه على تفسيره له سابقًا؟ "د". 4 أي: زيادة من شأنها أن تصرف السكوت إلى غير معنى الإقرار. "د". 5 أي: ولا قول يفيد غير الإذن. "د". 6 أي: ينافي مطلق رفع الحرج، يرشدك إلى ذلك قوله: "للموافقة بينهما" المقتضي أن أصل الاعتراض بالتنافي بين عدم الحرج, وبين مفهوم الواجب والمندوب. "د". 7 الأنسب: "أنهما داخلان". "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُمَا دَاخِلَانِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَرَجِ مَعَ فِعْلِ الْوَاجِبِ1 لَازِمٌ لِلْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي الِاقْتِضَاءِ قَصْدًا مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ صَارَا لَا حَرَجَ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِ، لا من جهة الفعل، و"أن لَا حَرَجَ"2 رَاجِعٌ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَلَا يَتَوَافَقَانِ، وَإِلَّا؛ فَكَيْفَ يَتَوَافَقَانِ وَالنَّهْيُ يُصَادِمُ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ؟ فَإِنْ قِيلَ: مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَعْفُوًّا عَنْهُ هُوَ مَعْنَى عَدَمِ الْحَرَجِ فِيهِ، وَأَنْتَ تُثْبِتُ هُنَا الْحَرَجَ بِهَذَا الْكَلَامِ. قِيلَ: كَلَّا، بَلِ الْمُرَادُ هُنَا غَيْرُ الْمُرَادِ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَالِكَ فِيمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ الْمَكْرُوهِ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ بَحْتًا3 كَمَا هُوَ مُصَادِمٌ فِي الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَلَكِنَّ خِفَّةَ شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعدما وَقَعَ فِي حُكْمِ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ اسْتِدْرَاكًا لَهُ مِنْ رِفْقِ الشَّارِعِ بِالْمُكَلَّفِ، وَمِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ، وَالصَّلَوَاتِ، وَالْجُمُعَاتِ، وَرَمَضَانَ، وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَسَائِرِ مَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالصَّغِيرَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْمَكْرُوهِ؛ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ مُصَادَمَةِ النَّهْيِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَنَظَرٌ إِلَى مَا قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؛ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَدْخُلَ المكروه تحت   1 الأنسب: "مع فعل الواجب أو المندوب". "ف". 2 أي: الذي يدل عليه الإقرار إنما هو في الفعل، وهذا موجود في الواجب والمندوب لا في المكروه. "د". 3 صوابه: "بحتًا" -بالتاء- أي: خالصًا لا شبهة فيه. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ؛ كَقِيَافَةِ الْمُدْلِجِيِّ فِي أُسَامَةَ وَأَبِيهِ زَيْدٍ1، وَأَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَتِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ2. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ؛ قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: فَالْتَزَمْتُهُ فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شيئًا، قال: فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبتسمًا3. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى طَهَارَةِ دَمِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَى من شرب دم حجامته4.   1 مضى تخريجه "ص75". 2 مضى تخريجه "ص357، 423"، وهو في "الصحيحين" عن خالد, رضي الله عنه. 3 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772 بعد 72"، وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 8/ 481/ رقم 4214"، ومسلم أيضًا "رقم 1772 بعد 73" عن عبد الله بن مغفل بلفظ آخر. 4 أخرج البزار في "مسنده" "3/ 145/ رقم 2436, زوائده"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 554"، والطبراني في "الكبير" -كما في التلخيص الحبير" "1/ 30"، و"المجمع" "8/ 270"، و"مناهل الصفا" "رقم 72"، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 329-230"، وهو ساقط حتى من القطعة التي طبعت ملحقًا بالمعجم- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 67" من طريق موسى بن إسماعيل عن هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه؛ قال: احتجم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني الدم، فقال: "اذهب فغيبه". فذهبت فشربته، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما صنعت؟ ". قلت: غيبته. قال: "لعلك شربته؟ ". قلت: شربته. زاد الطبراني؛ فقال: "من أمرك أن تشرب الدم، ويل لك من الناس، وويل للناس منك". قال البزار: "قد روي عن ابن الزبير من وجه آخر". قلت: كما عند الدارقطني في "السنن" "1/ 228"، وأبي نعيم في "الحلية" "1/ 230"، والطريق المذكور آنفًا فيه هنيد -أو جنيد- بن القاسم، لا بأس به، ولكنه ليس بالمشهور في العلم، قاله ابن حجر في "التلخيص" "1/ 30"، وقال الهيثمي في "المجمع" "8/ 270": "رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح؛ غير جنيد بن القاسم، وهو ثقة". ولذا أطلق السيوطي في "مناهل الصفا" "رقم 72" على إسناده بأنه جيد. وفي الباب عن جماعة والمذكور أقواها، انظرها في "البدر المنير" "2/ 206-219". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْقَوْلُ مِنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَارَنَهُ الْفِعْلُ؛ فَذَلِكَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي التَّأَسِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ فِعْلَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَاقِعٌ عَلَى أَزْكَى1 مَا يُمْكِنُ فِي وَضْعِ التَّكَالِيفِ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُطَابِقْهُ الْفِعْلُ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ؛ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ2 عَلَى أَفْضَلِيَّةٍ وَلَا مَفْضُولِيَّةٍ. وَمِثَالُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ لَهُ: أَأَكْذِبُ لِامْرَأَتِي؟ قَالَ: "لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ". قَالَ: أَفَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا؟ قَالَ: "لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ" 3. ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ مَا أَجَازَهُ، بَلْ لَمَّا وَعَدَ عَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَذَلِكَ حِينَ شَرِبَ عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ4 عَسَلًا؛ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أزواجه: إني أجد منك   1 أي: أكمله في شرع التكاليف وإنشائها؛ ففعله في أعلى طبقات التشريع للأحكام، أي فإذا انضم إلى القول؛ كان ذلك أعلى مراتب الصحة في الاقتداء. "د". 2 كيف هذا؟ وسيأتي له في التعقيب على الأمثلة يقول: "وذلك يدل على مرجوحيته"، أي: إن مخالفة فعله لقوله يدل على مرجوحية مضمون القول، فإن قيل: إن ذلك بالنظر للقول وحده بدون نظر إلى أن تركه قصدًا؛ قيل: إن القول إذا كان بصيغة الأمر ففيه أقوال في كونه مشتركًا أو للوجوب والندب كما سبق له؛ فلا يتأتى إطلاق القول بعدم الدلالة على راجحية ومرجوحية. "د". 3 الحديث صحيح بشواهده، وقد مضى تخريجه "1/ 491"، وانظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 498، 545". 4 وهي السيدة حفصة -رضي الله عنها- كما جاء في حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب عند حفصة عسلًا، فتواخينا أن نقول له: أكلت مغافير، وهي صمغ العرفط، وله ريح كريهة. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 رِيحَ مَغَافِيرَ -كَأَنَّهُ مِمَّا يُتَأَذَّى مِنْ رِيحِهِ- فَحَلِفَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ، أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -وَيُرْجَعُ1 إِلَى الْأَوَّلِ- فَقَالَ اللَّهُ2 لَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التَّحْرِيمِ: 1] ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَعِدَ وَيَقُولَ، وَلَكِنَّهُ عَزَمَ بِيَمِينٍ عَلَّقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ تَحْرِيمٍ عَقَدَهُ؛ حَتَّى رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ. وَأَيْضًا؛ فَلَمَّا قَالَ لِلرَّجُلِ الْوَاهِبِ لِابْنِهِ: "أَشْهِدْ غَيْرِي"3 كَانَ ظَاهِرًا فِي الْإِجَازَةِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ4 هُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ دَلَّ على مرجوحية مقتضى القول.   1 فقد قارن فعله -وهو الكف عن شربه- قوله: إنه لن يشربه، ثم التمثيل به إنما يظهر لو أنه كف عنه وفاء بوعده للزوجة فيما لا يلزم الوفاء به، بل لمجرد إرضائها، ولكنه قرن الوعد بالحلف والتحريم؛ فليس له قبل نزول آية التحليل أن يخالف؛ فجعل المثال مما نحن فيه ليس واضحًا، وتقدم لنا أن التمثيل لهذا الوضع بقدر البقول الذي امتنع عن التناول منها مع أمره بتقريبها لبعض من حضر من أصحابه أوضح من هذا المثال. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، رقم 4912، وكتاب الطلاق، باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، رقم 5267، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حرم طعامًا/ رقم 6691"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، رقم 1474"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأشربة، باب في شراب العسل، 3/ 335/ رقم 3714"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 450/ رقم 628، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، رقم 20"، و"المجتبى" "كتاب الطلاق، تأويل هذه الآية من وجه آخر 6/ 151، وكتاب الأيمان والنذور، باب تحريم ما أحل الله, عز وجل، 7/ 13، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، 7/ 71" عن عائشة, رضي الله عنها. 3 مضى تخريجه "ص422"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما. 4 وأيضًا قوله: "لا أشهد على جور"، بل هذا محتاج إلى تأويل في الجور بالتغليظ على الرجل بتسميته جورًا حتى يبقى الأصل جائزًا. "د". قلت: مضى تخريجه "ص422". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَسَّانَ وَغَيْرَهُ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ1 وَأَذِنَ2 لَهُمْ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ مُنِعَهُ3 -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلَمْ يُعَلَّمْهُ، وَذَلِكَ يدل على   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، 6/ 553/ رقم 3531، وكتاب المغازي، باب حديث الإفك، 7/ 436/ رقم 4145، وكتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6150"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1934/ رقم 2489" عن عائشة؛ قالت: استأذن حسان بن ثابت النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجاء المشركين؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "فكيف بنسبي؟ ". فقال حسان: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6153"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1933" عن البراء بن عازب؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان بن ثابت: "اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك". وانظر سائر الأحاديث في "جزء أحاديث الشعر" للحافظ عبد الغني المقدسي "ت 600هـ"، وهو مطبوع. وانظر "الاعتصام" "1/ 345 وما بعده ط ابن عفان و270 ط رضا". 2 فقد دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة ينشد بين يديه: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله البيتين. فلما أنكر عمر على ابن رواحة وقال له: بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟ قال له: "خل عنه يا عمر؛ فلهي أسرع فيهم من نضح النبل"، أخرجه الترمذي وصححه النسائي. "د". قلت: أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب إنشاد الشعر في الحرم، 5/ 202، وباب استقبال الحج، 5/ 211-212"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر، رقم 2847" و"الشمائل" "245"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 3394، 3440"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 5758, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 292"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3404" عن أنس بإسناد صحيح. 3 قد يقال: حيث لم يكن في قدرته الشعر، ولم يكن تركه اختيارًا؛ فلا يكون مما نحن فيه إلا أن يقال: إن هذ يكون أبلغ في الدلالة على مرجوحيته، ويقويه قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69] . "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 مَرْجُوحِيَّتِهِ، وَلِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69] ، وَقَالَ لِحَسَّانَ1: "اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ"؛ فَهَذَا إِذْنٌ فِي الْهِجَاءِ، وَلَمْ يَذُمَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَدًا بِعَيْبٍ فِيهِ، خِلَافَ عَيْبِ الدِّينِ، وَلَا هَجَا أَحَدًا بِمَنْثُورٍ، كَمَا لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ الْمَنْظُومُ أَيْضًا. وَمِنْ أَوْصَافِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَيَّابًا وَلَا فَحَّاشًا2، وَأَذِنَ لِأَقْوَامٍ فِي أَنْ يَقُولُوا3 لِمَنَافِعَ كَانَتْ لَهُمْ فِي القول أو نضال4 عن الإسلام، ولم   1 يوم قريظة، حيث قال له: "اهج المشركين؛ فإن جبريل معك"، أخرجه الشيخان. "د". 2 يدل على ذلك أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452/ رقم 6031، وباب ما ينهى عن السباب واللعن، 10/ 464/ رقم 6046" عن أنس بن مالك, رضي الله عنه؛ قال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه". وأخرج مسلم في "الصحيح" "كتاب الفضائل، باب كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، 4/ 1804-1805" عن أنس؛ قال: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب عليّ شيئًا قط". قلت: مضى تخريجه قريبًا. 3 يكذبون الكذب المباح المستثنى في الأحاديث؛ كحديث الخمسة إلا النسائي: "ليس بالكذاب الذي يصلح بين اثنين؛ فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا"، وحديث الترمذي الذي استثنى فيه الكذب على المرأة، وفي الحر وفي إصلاح ذات البين من حرمة الكذب. "د". 4 كما في قصة نعيم بن مسعود الذي قال له, عليه الصلاة والسلام: "خذل عنا إن استطعت". فقال لقريش وغطفان وقريظة ما قال؛ حتى أوقع الفرقة بينهم، وتخاذلوا في واقعة الأحزاب. "د". قلت: وقصته في "سيرة ابن هشام" "3/ 264, مع الروض الأنف" -وذكرها ابن حجر في "الفتح" "7/ 402" وسكت عنها- و"مغازي الواقدي" "2/ 480-493"، و"مغازي الزهري" "ص80-81"، وقصته في "ضعيف الجامع" "رقم 2818"، وأفاد أنها عند الشيرازي في "الألقاب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 يَفْعَلْ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهُ التَّوْرِيَةُ؛ كَقَوْلِهِ: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ"1، وَفِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْغَزْوِ؛ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً2 وَرَّى بِغَيْرِهَا3، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِالْقَوْلِ4 الَّذِي مَفْهُومُهُ الْإِذْنُ إِذَا تَرَكَهُ قَصْدًا مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَحْسَنُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَالتَّوْسِعَةُ عَلَى وَفْقِ الْقَوْلِ مَبْذُولَةٌ، وَبَابُ التَّيْسِيرِ مَفْتُوحٌ، والحمد لله.   1 لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه؛ فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال لهم: "نحن من ماء". فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياء اليمن كثير, فلعلهم منهم. والمعنى الآخر أنهم مخلوقون من ماء. "د". قلت: القصة المذكورة أخرجها ابن إسحاق, كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 194-195": حدثني محمد بن يحيى بن حبان به، وهي معضلة، وعنه ابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 263"، وابن الجوزي في "الأذكياء" "140-141"، وذكرها ابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص41". 2 إلا في غزوة تبوك، كما ورد في حديث كعب من مالك عن تخلفه عنها، وقد أخرجه في "التيسير عن الخمسة. "د". قلت: ومضى تخريج تخلف كعب "2/ 270". 3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، 6/ 112-113/ رقم 2947، 2948" بسنده إلى كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورى بغيرها". 4 يريد أن يجمل حكم هذا القسم الثاني المعبر عنه سابقًا بقوله: "بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل"؛ أي: ففعل ما أذن فيه الرسول قولًا، ولكنه تركه قصدًا يعد مما لا حرج فيه, وتركه بقصد الاقتداء بالرسول في تركه له أحسن وأفضل لمن قدر ولم يتضرر بالترك، وقوله: "تركه قصدًا" مفهومه أنه إذا كان تركه -صلى الله عليه وسلم- له اتفاقًا ومصادفة، أو لأنه تعافه نفسه كأكل الضب، أو لأنه منع منه سجية كالشعر لا يكون مما نحن فيه، وتقدم الكلام عن الإشكال في الشعر والجواب عنه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْإِقْرَارُ مِنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِذَا وَافَقَ الْفِعْلَ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي التَّأَسِّي لَا شَوْبَ فِيهِ، وَلَا انْحِطَاطَ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّأَسِّي؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصَّوَابِ، فَإِذَا وَافَقَهُ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ كَمُجَرَّدِ1 الِاقْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ؛ فَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ زَائِدٌ مُثْبِتٌ. بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنِ اقْتَضَى الصِّحَّةَ فَالتَّرْكُ كَالْمُعَارِضِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ؛ فَقَدْ رَمَى فِيهِ شَوْبَ التَّوَقُّفِ لِتَوَقُّفِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الْفِعْلِ. وَمِثَالُهُ إِعْرَاضُهُ عَنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ2 وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، وَبُعْدُهُ3 عَنِ التَّلَهِّي بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْرِجْ4 فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِحَضْرَتِهِ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ5 وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا دعت إليه حاجة   1 لا يصح أن يكون الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- في مجموع فعله وإقراره كمجرد الاقتداء به في الفعل؛ لأن كلًّا منهما دليل مستقل؛ فاجتماعهما أقوى وأقطع للاحتمالات، ألا ترى أن الفعل وحده لا زال يحتمل الخصوصية مثلًا؟ وأيضًا؛ فإنه لا يتفق مع قوله: "وَلَا انْحِطَاطَ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّأَسِّي" لِأَنَّ الفعل وحده ليس كذلك ففي العبارة ضعف، وكأنه يريد أن يقول: إن الفعل القائم من المكلف على الاقتداء بفعله صحيح، ويزيد على ذلك الإقرار لأنه دليل مثبت أيضًا. "د". قلت: انظر في اختلاف التقرير والفعل واختلافه والقول في: "جمع الجوامع" "2/ 365"، و"أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 226-227". 2 يشير المصنف إلى قوله, صلى الله عليه وسلم: "لست من دد، ولا دد مني"، ومضى تخريجه "ص425"، 3 كما تقدم في حديث غناء الجاريتين بغناء بعاث. "د". قلت: وهو في "الصحيحين" كما مضى "ص424". 4 في "ماء": "يخرج بالخاء". 5 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، 1/ 463/ رقم 670" بسنده إلى سماك بن حرب؛ قال: قلت = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَمَّا جَاءَتْهُ الْمَرْأَةُ تَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ طَهَارَةِ الْحَيْضَةِ؛ قَالَ لَهَا: "خُذِي فِرْصَةً 1 مُمَسَّكَةً 2 فَتَطَهَّرِي بِهَا" 3. فقالت: وكيف أتطهر بها؟ فأعاد عليها واستحيا حَتَّى غَطَّى وَجْهَهُ4. فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ مَا أَرَادَ، ففهمتها بما هو   = لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم. وأخرجه مسلم أيضًا في "كتاب الفضائل، باب تبسمه -صلى الله عليه وسلم- وحسن عشرته، 4/ 1810/ رقم 2322"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب السهو، باب قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم، 3/ 80-81" و"عمل اليوم والليلة" "170"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الصلاة، باب صلاة الضحى، 2/ 29/ رقم 1294"، وأحمد في "المسند" "5/ 91، 105"، وعلي بن الجعد في "المسند" "رقم 2755"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 52"، وفي رواية للترمذي في "الجامع" "رقم 2850"، والطيالسي في "المسند" "771"، وأحمد في "المسند" "5/ 105"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 712-713"، والبيهقي في "السنن" "7/ 52 و10/ 240" عنه، قال: "وكان الصحابة يذكرون عنده -صلى الله عليه وسلم- الشعر وأشياء من أمورهم". 1 الفرصة, بكسر الفاء: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة تتمسح بها الحائض. "ف" و"م". 2 الممسكة: المطيبة بالمسك، يتبع بها أثر الدم، فيحصل منه الطيب والتنشيف. "ف" و"م". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، 1/ 414/ رقم 314، وباب غسل المحيض، 1/ 416-417/ رقم 315، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، 13/ 330/ رقم 7357"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، 1/ 260-261/ رقم 332" عن عائشة, رضي الله عنها. 4 المعروف أنه أعرض بوجهه؛ فانظر أين وردت التغطية؟ "د". قلت: ورد في "صحيح مسلم" "1/ 261": "واستتر"، وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه، وعند النسائي في "المجتبى" "1/ 136": "فاستتر كذا"، وفي "مسند أبي يعلى" "8/ 179 / رقم 4733": "فستر وجهه بطرف ثوبه"، ورواية الإعراض في "صحيح البخاري" و"مسند أحمد" "6/ 122"، و"المجتبى" "1/ 207-208" للنسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 أَصْرَحُ وَأَشْرَحُ؛ فَأَقَرَّ عَائِشَةَ عَلَى الشَّرْحِ الْأَبْلَغِ، وَسَكَتَ هُوَ عَنْهُ حَيَاءً؛ فَمِثْلُ هَذَا مُرَاعًى إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَيَانُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ1 مِنْ بَابِ الْجَائِزِ، أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْإِفْهَامُ كَيْفَ كَانَ؛ فَإِنَّهُ مَحَلُّ مَقْطَعِ الْحُقُوقِ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ2. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ3، بَلْ فِيهِ مَا يَكُونُ كَذَلِكَ نَحْوَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْمَطْلُوبَاتِ4 وَالْمُبَاحَاتِ الصِّرْفَةِ وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالْأَمْثِلَةِ. فَإِنْ قَارَنَهُ قَوْلٌ5، فَالْأَمْرُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ6، فَيَنْظُرُ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَيَقْضِي بِمُطْلَقِ الصِّحَّةِ فِيهِ مَعَ الْمُطَابَقَةِ دُونَ المخالفة.   1 أي: العمل بالفرصة من باب الجائز فلا يتعين فيه الإفهام، أو أن نفس التفهيم لما وجد من يقوم به عنه وهو عائشة صار غير متعين عليه، وعد جائزًا. "د". 2 تقدم منها تقريره لمن اعترف بالزنى، وتصريحه باللفظ الذي يعد في غير هذا المقام فحشًا مبالغة في الاحتياط في الحد. "د". 3 أي: وضم دليل آخر يعين خصوص الحكم. "د". 4 انظر ما وجه زيادة المطلوبات، مع أن أصل الكلام في مطلق الجواز، ولو قال بدله مطلق الإذن لشمل المطلوبات والمباح بنوعيه، وكان موافقًا لما تقرر آنفًا فيما يفيده الإقرار من أنه لا حرج فيه، ولكن لا يناسب قوله: "ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة المذكورة" التي هي من النوع الثاني من المباح، أعني: ما لا حرج فيه. "د". 5 مقابل أصل المسألة تكميل للصور التي يقتضيها المقام، وهي هنا ضم القول إلى الإقرار. "د". 6 أي: في صورة انضمام الفعل للإقرار، وقد قرر ما يقتضيه التشبيه؛ فقال: "فينظر إلى الفعل ... إلخ"، أي: ينظر إلى الفعل الذي أقره الرسول: هل جاء القول على وفق الإقرار له، أم جاء على عكسه؟ أقول: أما فرض مطابقة القول للإقرار؛ فظاهر، والحكم ظاهر أيضًا، وهو مطلق = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: سُنَّةُ1 الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- سُنَّةٌ يُعْمَلُ عَلَيْهَا وَيُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَمِنَ الدَّلِيلِ على ذلك أمور:   = الصحة أو مطلق الإذن، ولكن كيف يتصور مخالف الإقرار للقول؟ وكيف يتصور بقاؤهما دليلين مع هذه المعارضة بحيث يجوز الأخذ بأيهما بلا حرج، قياسًا على ما سبق في مخالفة الفعل للإقرار؟ اللهم إلا إذا كان القول المخالف للإقرار خاصًّا بالرسول وليس فيه تصريح بأمر ولا نهي للمكلف ولا إباحة له، كما إذا فرض في مسألة الضب أنه مع الإقرار للآكل قال: "لا آكل" فقط دون أن يبين أن العلة أنه تعافه نفسه الشريفة. "د". قلت: وعدم أكله -صلى الله عليه وسلم- للضب وتعليله ذلك بالمذكور آنفًا مضى تخريجه "ص423". 1 مفاد الدليل الأول والثاني أن المراد السنة العملية، أي: إذا عمل الصحابة عملًا لم ينقل لنا فيه سنة عن الرسول لا موافقة ولا مخالفة، فإنا نعد هذا كسنة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونقتدي بهم فيه، وعلى هذا يكون قوله بعد: "فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به" المراد بالقول؛ القول التكليفي لا التعريفي، وذلك كما إذا رأينا الصحابي في الحج مثلًا يكبر أو يلبي في مكان مخصوص، وليس المراد القول بمعنى الرأي والاجتهاد، وإلا؛ فمجرد المدح بالعدالة في الدليل الأول، والأمر باتباع سنتهم في الدليل الثاني لا يفيدان ذلك في الاجتهاد والآراء، أما الدليل الثالث الذي جعله معتمده؛ فمفاده الأخذ بآرائهم ومذاهبهم، وأنها تكون كالسنة، والظاهر أن مراد المؤلف ما هو أعم من آرائهم والاقتداء بهم في أعمالهم، وأنه يؤيد رأي القائلين: "مذهب الصحابة حجة"، تراجع المسألة بأدلة الطرفين في إحكام الآمدي، وقد أوضح ابن قيم الجوزية هذا المقام وحرره تحريرًا شافيًا، وأقام ستة وأربعين دليلًا على ما قصد إليه المؤلف هنا، وجعل محل الكلام فيما إذا قال بعضهم ولم يخالفه غيره، سواء اشتهر فيما بينهم أم لم يشتهر، وأنه إذا اشتهر ولم يخالفه أحد؛ هل يكون حجة فقط أم يعتبر إجماعًا؟ خلاف، فإن لم يشتهر كان حجة فقط، وهذا كله فيما ليس فيه نص من كتاب ولا سنة كما قلنا. "د". قلت: انظر كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 128 وما بعدها"، وانظر مبحث حجية قول الصحابي والأقوال فيه في "مختصر المنتهى" "2/ 287, مع شرح العضد"، و"الإحكام" "3/ 195" للآمدي، و"سلم الوصول على نهاية السول" "4/ 408"، و"كشف الأسرار" "3/ = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 أَحَدُهَا: ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ1، وَمَدْحُهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] . وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] . فَفِي الْأُولَى إِثْبَاتُ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ يَقْضِي بِاسْتِقَامَتِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، وَجَرَيَانِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِثْبَاتُ الْعَدَالَةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُولَى. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ فِي الْأُمَّةِ؛ فَلَا يَخْتَصُّ2 بِالصَّحَابَةِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّا نَقُولُ: "أَوَّلًا" لَيْسَ كَذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَا يَدْخُلُ3 مَعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا بِقِيَاسٍ وَبِدَلِيلٍ آخر.   1 مثنوية -بفتح، فسكون- أي: من غير استثناء، وأصله قولهم: حلف فلان يمينًا ليس فيها [ثنيا -بضم- أو: ولا ثنية ولا] مثنوية ولا استثناء، بمعنى واحد، ومأخذه من الثني والكلف والرد؛ لأن الحالف إذا قال: ""إلا أن يشاء الله" [مستثنيًا في يمينه] ؛ فقد رد ما قاله بمشيئة الله غير". "ف" و"م". 2 في "ماء": "يخص". 3 كما هو المذهب المنصور أن الخطاب الشفاهي كـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ليس خطابًا لمن بعدهم، وإنما يثبت لمن بعدهم بدليل خارج من نص أو إجماع أو قياس، خلافًا للجنابلة؛ فقوله: "بدليل آخر" عطف على "قياس" عطف عام على خاص، وهذا الجواب ضعيف؛ لأنه لا يلزم في تعديته لمن بعدهم وجود الدليل المذكور في كل جزئية، بل الدليل الكلي كاف، وهو موجود، والثاني لا يفيد، والثالث يحتاج إلى بينة تثبت أن التابعين مثلًا لم يتصفوا على الكمال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان الصحابة. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 "وَثَانِيًا" عَلَى تَسْلِيمِ التَّعْمِيمِ أَنَّهُمْ أَوَّلُ دَاخِلٍ فِي شُمُولِ الْخِطَابِ؛ فَإِنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِلْوَحْيِ. "وَثَالِثًا" أَنَّهُمْ أَوْلَى بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ إِذِ الْأَوْصَافُ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا عَلَى الْكَمَالِ إِلَّا هُمْ؛ فَمُطَابَقَةُ الْوَصْفِ لِلِاتِّصَافِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْمَدْحِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَدَلُوا الصَّحَابَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ؛ فَأَخَذُوا عَنْهُمْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَلَا مُحَاشَاةٍ، بِخِلَافِ1 غَيْرِهِمْ؛ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ وَثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ، وَذَلِكَ مُصَدِّقٌ لِكَوْنِهِمْ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَدْحِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ خير   1 يفيد أنهم كانوا لا ينقبون عن عدالة الصحابي في الأخذ عنه، بخلاف غيره، مع أنهم لما اشترطوا العدالة قالوا: فلا يؤخذ عن مجهول الحال؛ لأن الفسق مانع من القبول؛ فلا بد من تحقق عدمه، أي: تحقق ظن عدم الفسق، ولا يكون ذلك مع الجهالة، ومقتضى هذا أنه لا فرق بين الصحابي وغيره، على أن المسألة خلافية، والمؤلف جار على مذهب الأكثر القائل: إن الصحابة عدول، لا يسأل عن عدالتهم، بل تؤخذ مسلمة بدون تنقيب ولا بحث في رواية ولا شهادة؛ لأنا إذا قبلنا تعديل بعضنا بتزكية واحد منا؛ فكيف لا تقبل فيهم تزكية رب العالمين، ورسوله الصادق الأمين؟ وعليه لا يعتبر الصحابي من المجهول الحال، وقيل: هم كغيرهم؛ فلا بد من التعديل، وقيل بالتفصيل بين ما بعد فتنة عثمان وما قبلها؛ فيحتاج إلى التعديل في الأول دون الثاني، والذي يتجه أن يبنى هذا المبحث على مبحث تعريف الصحابي؛ فقد يقوى النظر الأول، وقد يقوى الثاني. "د". قلت: الصواب قبول رواية مجهول الحال من الصحابة؛ كما تراه في "علوم الحديث" "ص147"، و"فتح المغيث" "3/ 103"، و"شرح الألفية" "3/ 13-14"، و"الأجوبة العراقية" "ص10" للآلوسي، و"شرح الكوكب المنير" "2/ 475"، و"الكفاية" "96" للخطيب البغدادي، و"شرح مختصر المنتهى" "2/ 67"، و"تيسير التحرير" "3/ 65"، و"إرشاد الفحول" "ص70"، و"صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب والسنة" "ص271-301". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 أُمَّةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّهُمْ وَسَطٌ -أَيْ: عُدُولٌ- بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُهُمْ مُعْتَبَرٌ، وَعَمَلُهُمْ مُقْتَدًى بِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِمَدْحِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ... } إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَْ} الْآيَةَ [الْحَشْرِ: 8-9] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَأَنَّ سُنَّتَهُمْ فِي طَلَبِ الِاتِّبَاعِ كَسُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَقَوْلِهِ: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" 1. وَقَوْلِهِ: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً". قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "ما أنا عليه وأصحابي" 2.   1 مضى تخريجه "ص133"، وهو صحيح. 2 ورد عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 25/ رقم 2640"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197-198/ رقم 4596"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 1321/ رقم 3991"، وأحمد في "المسند" "2/ 332"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 140/ رقم 6247, الإحسان و15/ 125/ رقم 6731, الإحسان"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 6716"، والمروزي في "السنة" "رقم 58"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 5910، 5978، 6117"، والآجري في "الشريعة" "25"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 374-375/ رقم 273"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 6، 47، 128"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 208"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق" "5"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "18" من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به، من غير ذكر: "ما أنا عليه وأصحابي"، وإسناده حسن. وأخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2641"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "85"، والآجري في "الشريعة" "15-16" و"الأربعين" "رقم 13"، والمروزي في "السنة" "59"، = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "أَصْحَابِي مِثْلَ الْمِلْحِ، لَا يصلح الطعام إلا به"1.   = والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 262"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128-129"، واللالكائي في "شرح أصول أهل السنة" "رقم 147"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 368-369/ رقم 264"، وقوام السنة في "الحجة" "1/ 106"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق" "5-6"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "7" من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رفعه مع ذكر: "ما أنا عليه وأصحابي". قال الترمذي: "هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه". قلت: إسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، ضعيف في حفظه؛ إلا أن الحديث صحيح لطرقه وشواهده، وقد صححه ابن القيم في "مختصر الصواعق المرسلة، "2/ 410"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 252"، وحسنه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 199"، وشيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204"، وانظر للحديث: "حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة" للصنعاني، و"نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة" لأخينا الشيخ سليم الهلالي. 1 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" "رقم 572" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "14/ 72-73/ رقم 3863"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 275/ رقم 1347"- وأبو يعلى في "المسند" "5/ 151/ رقم 2762"، والبزار في "المسند" "3/ 291-292/ رقم 2771, زوائده"، والديلمي في "الفردوس" "4/ 129/ رقم 6400"، وأبو القاسم الحلبي في "حديثه" "3/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1762"- جميعهم من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن البصري عن أنس به. قال البزار عقبه: "لا نعلم رواه عن الحسن إلا إسماعيل، ولا عنه إلا أبو معاوية، وإسماعيل روى عنه الأعمش والثوري، وجماعة كثيرة، على أنه ليس بالحافظ، وقد احتمل الناس حديثه، تفرد بهذا الحديث أنس". قلت: أما تفرد أبي معاوية؛ فغير صحيح، فقد رواه ابن المبارك عن إسماعيل، والحديث ضعيف، آفة حديث أنس إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وفيه عنعنة الحسن. وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 276/ رقم 1348" من طريق آخر عن أنس، وفيه أبو هدبة إبراهيم بن هدبة وهو كذاب، وفيه مجاهيل أيضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 وَعَنْهُ أَيْضًا: "إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَارَ لِي مِنْهُمْ أَرْبَعَةً: أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا؛ فَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أَصْحَابِي، وَفِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ" 1.   = وأخطأ بعض الرواة، فجعله من مرسل الحسن من طريق ابن المبارك، انظر تفصيل ذلك في "العلل" لابن أبي حاتم "2/ 354-355/ رقم 2582"، وهي رواية ابن بطة في "الإبانة" "رقم 964". وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "11/ 221"، ومن طريقه أحمد في "فضائل الصحابة" "رقم 16، 1730" عن معمر عمن سمع الحسن به، وأخرجه أحمد أيضًا "رقم 17 و1740" من طريق آخر عن الحسن مرسلًا. وله شاهد من حديث سمرة بن جندب عند البزار والطبراني، قاله البوصيري في هامش "المطالب العالية" "4/ 150/ رقم 4207"، ونقله عنه صاحب "بذل النصح والشفقة للتعريف بصحبة السيد ورقة" "ق 11/ 1"، وزاد الهيثمي في "المجمع" "10/ 18": "وإسناد الطبراني حسن". قلت: حديث سمرة أخرجه الطبراني في "الكبير"، والبزار في "المسند" "3/ 291/ رقم 2770, زوائده"، ولفظه: "إنكم توشكون أن تكونوا في الناس كالملح في الطعام، ولا يصلح الطعام إلا بالملح". وفي إسناده جعفر بن سعد، وهو ضعيف، عن خبيب بن سليمان وهو مجهول، عن سليمان بن سمرة وهو مجهول الحال، قاله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 1762". 1 أخرجه البزار في "المسند" "3/ 288/ رقم 2763, زوائده"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 191", وابن جرير في "صريح السنة" "رقم 23", والخطيب في "الموضح" "2/ 280" و"التاريخ" "3/ 162", وابن حبان في "المجروحين" "2/ 41", واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1243/ رقم 2334"، كلهم من طريق عبد الله بن صالح ثنا نافع بن زيد عن زهرة بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله به مرفوعًا. قال البزار: "لا نعلمه يروى عن جابر إلا بهذا الإسناد، ولم يشارك عبد الله بن صالح في روايته هذه عن نافع بن يزيد أحد نعلمه". قال الهيثمي في "المجمع" "10/ 16": "رواه البزار، ورجاله ثقات، وفي بعضهم = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وَيُرْوَى فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ" 1 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي معناه.   = خلاف"، وصححه القرطبي في "تفسيره" "13/ 305". قلت: كلا والله؛ فالحديث موضوع، وأدخل على عبد الله بن صالح، وحكم عليه بالوضع النسائي؛ كما في "تهذيب الكمال" "15/ 104"، وأسند الحاكم -كما نقل المزي- إلى أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال: سألت أبا زرعة الرازي عن حديث زهرة، وساقه، فقال: هذا حديث باطل، كان خالد بن نجيح المصري وضعه ودلسه في كتاب الليث، وكان خالد بن نجيح هذا يضع في كتب الشيوخ ما لم يسمعوا ويدلس لهم، وله غير هذا. قلت لأبي زرعة: فمن رواه عن ابن أبي مريم؟ قال: هذا كذاب. قال التستري: وقد كان محمد بن الحارث العسكري حدثني به عن كاتب الليث وابن أبي مريم. قال الحاكم أبو عبد الله: "فأقول: رضي الله عن أبي زرعة، لقد شفى في علة هذا الحديث وبين ما خفي علينا؛ فكل ما أتي أبو صالح كان من أجل هذا الحديث، فإذا وضعه غيره وكتبه في كتاب الليث؛ كان المذنب فيه غير أبي صالح"، وبنحوه قال البردعي، وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" "5/ رقم 398": "الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره فأنكروها عليه، أرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان أبو صالح سليم الناحة، وكان خالد بن نجيح يفتعل الكذب، ويضعه في كتب الناس". وانظر: أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة المشرقة" "3/ 891"، و"تهذيب الكمال" "15/ 105/ 106"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 757- 758"، و"التهذيب" "5/ 259"، و"الميزان" "2/ 442". 1 ورد بألفاظ متقاربة عن جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- هم: - ابن عباس، أخرجه أبو العباس الأصم في "حديثه" "رقم 142" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" "رقم 152"- والخطيب في "الكفاية" "48"، والديلمي في "الفردوس" "4/ 75" من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك به. وإسناده ضيف جدًّا، آفته ابن أبي كريمة ضعيف، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، ولذا قال الزركشي في "المعتبر" "ص83": "وهذا الإسناد فيه ضعفاء"، وأخرجه البيهقي من حديث أبي زرعة ثنا إبراهيم بن موسى ثنا يزيد بن هارون عن جويبر عن جواب بن عبيد الله رفعه. = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 ...........................................................................   = ثم قال البيهقي: "هذا حديث مشهور، وأسانيده كلها ضعيفة، لم يثبت منها شيء". وأخرجه أبو ذر الهروي في كتاب "السنة" من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعًا، وهو في غاية الضعف، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 191". ورواه ابن بطة في "الإبانة" "رقم 702" من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه حمزة بن أبي حمزة، وهو كذاب. - جابر، أخرجه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" "4/ 1778"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 925/ رقم 1760"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 82" من طريق سلام بن سليمان عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان به. قال ابن عبد البر عقبه: "هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول"، وقال ابن حزم: "هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك". قلت: أبو سفيان أخرج له مسلم في "صحيحه"، وهو صدوق. وقال ابن طاهر: "هذه الرواية معلولة بسلام المدائني، فإنه ضعيف، نقله عنه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 230"، وبه أعله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" "رقم 58". وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق آخر عن جابر، ثم قال: "هذا لا يثبت عن مالك، ورواته عن مالك مجهولون"، أفاده الزيلعي وابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 190". - أبو هريرة، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 275/ رقم 1346"، وهو معلول بجعفر بن عبد الواحد، وقد كذبوه. - حديث ابن عمر، أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 783"، والدارقطني في "فضائل الصحابة" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 231"، وابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص68"- وابن بطة في "الإبانة" "رقم 701"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 785-786" وأبو ذر في "السنة" -كما في "المعتبر" "ص81"- من طريق حمزة الجزري عن نافع به، لكنه قال بدل "اقتديتم" بأيهم أخذتم بقوله "اهتديتم"، وهو هو، وذكره ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1759" عن ابن عمر معلقًا من طريق حمزة، وقال: "هذا إسناد لا يصح، ولا يرويه= الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 ...........................................................................   = عن نافع من يحتج به". وعنه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 83" وقال: "فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلًا، بل لا شك أنها مكذوبة، وأسهب في بيان بطلان هذا الحديث دراية بكلام متين حسن، وكان قد بين قبل "5/ 64" تحت باب "ذم الاختلاف" بطلان هذا الحديث، وقال عنه: "وهذا الحديث باطل مكذوب، من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية"، وساق ثلاثة منها. وقال ابن عدي في ترجمة "حمزة" وساق له أحاديث: "وكل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، والبلاء منه"، وقال ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 146"، وعزاه لعبد: "فيه ضعف جدًّا"، وقال ابن طاهر: "حمزة النصيبي كذاب"، قال: "ورواه بشر بن الحسين الأصبهاني عن الزبير بن عدي عن أنس، وبشر هذا يروي عن الزبير الموضوعات"، أفاده الزيلعي. - حديث أنس، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 146/ رقم 4193" لابن أبي عمر في "مسنده" عن أنس، وقال: "إسناده ضعيف"، وأسنده -أي: ابن حجر- في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 147" من طريق ابن أبي عمر، وقال: "وفي إسناده ثلاثة ضعفاء في نسق سلام وزيد ويزيد، وأشدهم ضعفًا سلام"، وكان قد ذكر أن سلامًا خالف عبد الرحيم بن زيد؛ فقال: "عن أنس"، وقال عبد الرحيم: "عن عمر"، وروايته هي الآتية. - حديث عمر بن الخطاب،1 أخرجه ابن بطة في "الإبانة" "رقم 700"، والخطيب في "الكفاية" "48" و"الفقيه والمتفقه" "1/ 177"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 151"، ونظام الملك في "الأمالي" "رقم 21, بتحقيقي"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1057"، والديلمي في "مسنده" "2/ 190"، والضياء في "المنتقى من مسموعاته بمرو" "116/ 2"، وكذا ابن عساكر "6/ 303/ 1"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 146-147" من طريق نعيم بن حماد ثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب به. وإسناده هالك، قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 700-701": "هذا حديث ضعيف من هذا الوجه؛ فإن عبد الرحيم بن زيد هذا كذبه ابن معين، وضعفه غير واحد من الأئمة". ثم قال: "إلا أن هذا الحديث مشهور في ألسنة الأصوليين وغيرهم من الفقهاء، يلهجون به كثيرًا محتجين به وليس بحجة، والله أعلم". =   1 وورد من حديث معاذ عند النسفي في "القند" "ص537" وإسناده واه جدًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 ...........................................................................   = وأعله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 232"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 924" بالعمي، وقال الأول: "وفيه أيضًا شائبة الانقطاع بين سعيد وعمر"، وقال الثاني: "والكلام أيضًا منكر عن النبي, صلى الله عليه وسلم"، وعزاه الزركشي في "المعتبر" "ص80" للدارمي في "مسنده"، ولم أظفر به في "سننه" المطبوعة، وضعفه بالعمي والانقطاع، ورده بقوله: "لكن ذكرت في باب الوتر من "الذهب الإبريز" ما يصحح سماعه منه"، وحكم عليه شيخنا في "الضعيفة" "رقم 60" بالوضع، وعلى كل حال الحديث ليس بصحيح، ومتنه منكر، ولا يجوز الاحتجاج به. ولا التفات إلى تصحيح الشعراني له في "الميزان الكبرى" "1/ 30" بالكشف؛ فهي دعوى فارغة سبق الإلماع إلى بطلانها. وبهذا حكم عليه الحفاظ، وهذا بعض من كلامهم: - قال البزار, وقد سئل عن هذا الحديث: "منكر، ولا يصح عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم". نقله ابن عبد البر وابن الملقن في "تذكرة المحتاج" "ص68"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 147"، والزركشي في "المعتبر" "83". - قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" "1/ 283": "هذا لا يصح". - قال ابن حزم في رسالته الكبرى "في الكلام على إبطال القياس والتقليد وغيرهما": "هذا حديث مكذوب موضوع باطل، لم يصح قط"، وبنحوه قال في "الإحكام" "5/ 64". - وأشار ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "ص67-68" إلى بعض طرقه، وقال: "وكلها معلولة". - وقال البيهقي في "الاعتقاد" "ص319" بعد أن ذكر حديث أبي موسى المرفوع: "النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أتى أمتي ما يوعدون"، وقال: "رواه مسلم [في صحيحه" "رقم 2531"] بمعناه، وروي عنه في حديث بإسناد غير قوي، وفي حديث منقطع، أنه قال: "مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء، من أخذ بنجم منهم اهتدى"، قال: "والذي روينا ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه"، وتعقبه الزركشي في "المعتبر" "ص84" بقوله: "ولا يخلو عن نظر"، وبين ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 191" وجهه؛ فقال: "هو -أي: حديث أبي موسى- يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتدء؛ فلا يظهر من حديث أبي موسى". بقي بيان وجه من قال بنكرته، وهو أنه لو كان صحيحًا ما خطأ بعضهم بعضًا ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع أحد إلى قول صاحبه، وإنما لقال كل لصاحبه: بأينا اقتدى الآخر في قوله؛ فقد اهتدى، ولكن كل منهم طلب البينة والبرهان على قوله؛ فثبتت نكارته، أفاده المزني، ونقله عنه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 110, ط القديمة" وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 وَالثَّالِثُ: أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَدَّمُوا الصَّحَابَةَ عِنْدَ تَرْجِيحِ الْأَقَاوِيلِ؛ فَقَدْ جَعَلَ طَائِفَةٌ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَبَعْضُهُمْ عَدَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ دَلِيلًا، وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هذه الأقوال متعلق من السنة1.   1 تعلق القائلون بحجية قول أبي بكر وعمر دون غيرهم بأدلة كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، 1/ 472-473/ رقم 681" عن أبي قتادة، وذكر حديثًا طويلًا فيه قصة، وفيه من المرفوع: "فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا". وبما أخرجه الترمذي في "جامعه" "4/ 310"، وابن ماجه في "السنن" "1/ 37/ رقم 97"، والحميدي في "المسند" "رقم 449", وابن أبي شيبة في "المصنف" "12/ 11", وأحمد في "المسند" "5/ 382، 385، 402" و"فضائل الصحابة" "رقم 478"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 83، 84"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 75"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 334"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 480"، والخلال في "السنة" "رقم 336"، والبزار في "المسند" "7/ 248-251/ رقم 2827، 2828, 2829"، والقطيعي في "جزء الألف دينار" "رقم 162"، وابن أبي عاصم في "السنة" "2/ 545-546/ رقم 1148، 1149"، وأبو نعيم في "الحلية" "9/ 109"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 223، 224"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 177" و"التاريخ" "12/ 20" عن حذيفة مرفوعًا: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر"، وإسناده صحيح. واحتج هؤلاء بأثر لابن عباس، انظره في "إعلام الموقعين" "4/ 143"، أما القائلون بحجية قول الخلفاء الأربعة؛ فقد استدلوا بحديث العرباض: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقد مضى تخريجه "ص133" وهو صحيح، وانظر توجيه الحديث على قول هؤلاء في "كشف الأسرار" "3/ 221"، و"منهاج الأصول" "4/ 410, مع شرحه نهاية السول" و"جمع الجوامع" "2/ 297 مع حاشية العطار"، و"إعلام الموقعين" "4/ 139-140". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 وَهَذِهِ الْآرَاءُ -وَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ خِلَافُهَا- فَفِيهَا تَقْوِيَةٌ تُضَافُ إِلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَهَابُونَ مُخَالَفَةَ الصَّحَابَةِ، وَيَتَكَثَّرُونَ بِمُوَافَقَتِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي عُلُومِ الْخِلَافِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ؛ فَتَجِدُهُمْ إِذَا عَيَّنُوا مَذَاهِبَهُمْ قَوَّوْهَا بِذِكْرِ1 مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي مُخَالِفِيهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ، وَقُوَّةِ مَآخِذِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكِبَرِ شَأْنِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ مِمَّا يَجِبُ2 مُتَابَعَتُهُمْ وَتَقْلِيدُهُمْ فَضْلًا عَنِ النَّظَرِ مَعَهُمْ فِيمَا نَظَرُوا فِيهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَبْلَ أن يجتهد لا يمنع3 من تقليد   1 كما ترى ذلك كثيرًا عقب تراجم البخاري. "د". 2 هذا هو المطلوب، ولكنه لا يسلم لزومه لما قبله، ويعارضه أيضًا أنهم طالما خالفوهم في الأمور الاجتهادية التي هي موضوع الكلام، ولذلك؛ فالمعول عليه أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غير الصحابة، كما أنه لس بحجة على الصحابة باتفاق، فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنتهم التي اتفقوا عليها؛ فذلك ما لا نزاع فيه لأنه أهم أنواع الإجماع؛ فليس من باب السنة وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم وإن لم يتفقوا عليه؛ فهذا ليس بدليل شرعي يتقيد به المجتهد، وقد يقال: إنه عند اختلافهم لا تخرج سنتهم عن كونها حجة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة، ويكون العمل بها متوقفًا على الترجيح، ومع عدم الوقوف على المرجح؛ فالواجب الوقف أو التخيير كما هو الشأن عند التعارض، فتحرر المسألة بأن الغرض سنة الصحابي قولًا أو فعلًا في غير موضع الإجماع منهم تعد سنة كخبر الآحاد؛ فيعول عليها ويرجع إليها كحجة ظنية، وهذا المعنى مأخوذ من كلام الآمدي في مذهب الصحابي. "د". 3 اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له التقليد بعد حصول اجتهاده ووصوله إلى الحكم في نظره، أما قبل الاجتهاد؛ فاختلفوا على سبعة أقوال: منها ما أشار إليه هنا، وهو المنقول عن الشافعي أنه يجوز له تقليد الصحابي لا غيره بشرط أن يكون أرجح في نظره ممن خالفه منهم، وإلا تخير، وقال أحمد: "يجوز مطلقًا"، وقال العراقيون: يجوز فيما يخصه لا فيما يفتى به، واختار الآمدي = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 الصَّحَابَةِ، وَيُمْنَعُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي الصَّحَابِيِّ: "كَيْفَ أَتْرُكُ الْحَدِيثَ لِقَوْلِ مَنْ لَوْ عَاصَرْتُهُ لَحَجَجْتُهُ"1 وَلَكِنَّهُ2 مَعَ ذَلِكَ يَعْرِفُ لَهُمْ قَدْرَهُمْ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ وَصَفَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَوَصَفَ مُتَابَعَتَهُمْ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِهِ. فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: "مَا لَمْ يَعْرِفْهُ3 الْبَدْرِيُّونَ؛ فَلَيْسَ [مِنَ] الدِّينِ"4.   = المنع مطلقًا. "د". قلت: انظر مسلك الشافعي في حجية قول الصحابي في "الأم" "7/ 246"، و"الرسالة" "ص597-598"، وكذا كتاب أبو زهرة "الإمام الشافعي" "308-309"، و"الإمام الشافعي وأثره في أصول الفقه" "2/ 763 وما بعدها"، ومنه يستفاد أن قول الصحابي عنده حجة في مذهبيه القديم والجديد، وهذا ما نصره ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 122"؛ فقال بعد أن نقل كلام البيهقي في "المعرفة" "1/ 106, ط صقر" و"المدخل" "ص109-110": "فهذا كلام الشافعي -رحمه الله ورضي عنه- بنصه، ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له". 1 نقله عنه جماعة، منهم ابن همام في "التحرير" "3/ 71, مع التيسير". 2 أي: فهو وإن لم يترك ما صح عنده من الحديث لقولهم، لكنه إذا لم يجد الحديث ووجد سنتهم أخذ بها، ومما يضاف إلى هذا فيقويه ما نقله في "إعلام الموقعين" عن الشافعي في "رسالته البغدادية" وما رواه عن الربيع من جعله البدعة ما خالف كتابًا أو سنة أو أثرًا عن بعض الصحابة. "د". قلت: انظر ما قدمناه في الهامش السابق. 3 أي: إذا أنكروا شيئًا فقالوا: إنه ليس من الدين؛ كان الأمر كذلك. "د". 4 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 771/ رقم 1425 و2/ 945/ رقم 1805" بإسناد لا بأس به، وما بين المعقوفتين فيه في الموطنين، وسقط من "د" وأثبته من الأصل و"ف" و"م" و"ط". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 وَعَنِ الْحَسَنِ -وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ"1. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: "لَمْ يُدَّخَرْ لَكُمْ شَيْءٌ خُبِّئَ عَنِ الْقَوْمِ لِفَضْلٍ عِنْدَكُمْ"2. وَعَنْ حُذَيْفَةَ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا طَرِيقَ من قبلكم؛ فلعمري لئن اتبعتموه لقد سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا"3. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا؛ فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وأقومها هديًا،   1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 946/ رقم 1807". 2 أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 232"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 946/ رقم 1808" بإسناد صحيح، وانظر في شرحه: "الباعث" "ص89, بتحقيقي" لأبي شامة المقدسي. 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله, صلى الله عليه وسلم 13/ 250/ رقم 7282"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 379"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 47"، وأبو داود في "الزهد" "رقم 273"، وعبد الله بن أحمد في "السنة" "18"، وابن وضاح في "البدع" "ص10، 11"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 196، 197"، والمروزي في "السنة" "25"، والبزار في "المسند" "7/ 359/ رقم 2956"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 280"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 90/ رقم 119"، والهروي في "ذم الكلام" "ص123"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص519, ترجمة أبي مسلم الخولاني"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 947/ رقم 1809" بألفاظ منها المذكور، وسيورد المصنف قريبًا لفظًا آخر له، وعزاه أبو شامة في "الباعث" "ص70" لأبي داود في "السنن"، وانفرد بذلك، وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "4/ 121" للطبراني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ؛ فَاعْرَفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ"1. وَقَالَ عَلِيٌّ: "إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ". ثُمَّ قَالَ: "فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ؛ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ"2، وَهُوَ نَهْيٌ لِلْعُلَمَاءِ لَا لِلْعَوَامِّ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ قَالَ: "سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ "وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ": "لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تبديلها، ولا النظر في3 رأي   1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 947/ رقم 1810"، والهروي في "ذم الكلام" "ص188"، ورزين كما في "مشكاة المصابيح" "1/ 67-68" عن قتادة به؛ فهو منقطع. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" "1/ 305-306" نحوه عن ابن عمر، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف. وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 121" للإمام أحمد. 2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 987/ رقم 1881"، وخشيش في "الاستقامة" كما في "كنز العمال" "1/ 360/ رقم 1594". وإسناد ابن عبد البر ضعيف؛ إذ هو من طريق خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن علي. قال شعبة: "ما حدثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري؛ فلا تكتبه". وخالد بن عبد الله سمع من عطاء بعد اختلاطه، انظر: "الكواكب النيرات" "ص322، 327، 330"، وانظر هذا الأثر وكلامًا جيدًا للمصنف حوله في "الاعتصام" "2/ 689, ط ابن عفان". 3 ظاهر فيما أجمعوا عليه. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 خَالَفَهَا، مَنِ اهْتَدَى بِهَا مُهْتَدٍ .... "1 الْحَدِيثَ، وَكَانَ مَالِكٌ يُعْجِبُهُ كَلَامَهُ2 جِدًّا. وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "اتَّبِعُوا آثَارَنَا؛ فَإِنْ أَصَبْتُمْ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَيِّنًا، وَإِنْ أَخْطَأْتُمْ فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا"3. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ؛ فَقَالَ: "اتَّبِعُوا آثَارَنَا وَلَا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ"4. وَعَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ وَيَقُولُ5: سَبِّحُوا عَشْرًا وَهَلِّلُوا عَشْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "إِنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَضَلُّ! بَلْ هَذِهِ، بل هذه   1 أخرجه الآجري في "الشريعة" "ص48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 386" ومن طريقه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 94/ رقم 134"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 73"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 352-353/ رقم 230، 231"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1176/ رقم 2326"، والهروي في "ذم الكلام" "ص107، 199"، والمروزي في "السنة" "31"، وابن الجوزي في "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز" "84"، وهو صحيح. 2 أي: هذا الكلام المذكور ويتحدث به كثيرًا هو وغيره من الأئمة كما ذكره في "أعلام الموقعين" "4/ 132"، وشرحه المصنف في "الاعتصام" "1/ 116-117, ط ابن عفان" شرحًا وافيًا وعلق عليه بكلام متين، وفيه: "ومن كلامه -أي: عمر بن عبد العزيز- الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكًا جدًّا ... " وساقه، وانظر التعليق على "3/ 130". 3 مضى تخريجه قريبًا، ولفظ "ماء/ ص424" مختلف عن هذا. 4 أخرجه وكيع في "الزهد" "2/ 590/ رقم 315" -ومن طريقه أحمد في "الزهد" "162"- وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "10"، والدارمي في "السنن" "1/ 69"، وأبو خيثمة في "العلم" "رقم 54"، ومحمد بن نصر في "السنة" "ص23"، والطبراني في "المعجم الكبير" "9/ 168"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" "ق 51/ 2 ورقم 460 من المطبوع"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 86/ رقم 104"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 204"، وإسناده صحيح. 5 في "ط": "وهو يقول". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 "يَعْنِي أَضَلُّ""1. وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَكْثُرُ إِيرَادُهَا، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَهُوَ: الرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ إِيجَابِ مَحَبَّتِهِمْ وَذَمِّ مَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-2، وَمَا ذَاكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ رَأَوْهُ أَوْ جَاوَرُوهُ أَوْ حَاوَرُوهُ فَقَطْ؛ إِذْ لَا مزية   1 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 68 و69" بسند جيد، وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "ص8-10، 11، 12، 13، 23"، وبحشل في "تاريخ واسط" "ص198-199"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "ص16-17" من طرق عن ابن مسعود، والأثر صحيح بمجموع طرقه. 2 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب منه، 5/ 696/ رقم 3863"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3860" -ومن طريقه القاضي عياض في "الشفا" "2/ 266"، والسبكي في "الفتاوى" "2/ 574"- وأحمد في "المسند" "5/ 54، 57" و"فضائل الصحابة" "رقم 321"، وابنه عبد الله في "زوائد المسند" "4/ 85، 87 و5/ 55" و"زوائد الفضائل" "رقم 2"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 1/ 131"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 7212, الإحسان" و"موارد الظمآن" "رقم 2284, موارد"، وقوام السنة في "الحجة في بيان المحجة" "رقم 366"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" و"تثبيت الإمامة" -أو: "الرد على الرافضة"- "رقم 220"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 123"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" "رقم 3, بتحقيقي"، والبيهقي في "الاعتقاد" "321" من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني رفعه: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي؛ فمن أحبهم بحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه". لفظ أحمد. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد، وقال البخاري: "فيه نظر"، وللحديث شواهد كثيرة، خرجت قسمًا منها في أول كتاب الشوكاني "در السحابة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِشِدَّةِ مُتَابَعَتِهِمْ لَهُ، وَأَخْذِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَلِ عَلَى سُنَّتِهِ مَعَ حِمَايَتِهِ1 وَنُصْرَتِهِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ حَقِيقٌ أَنْ يُتَّخَذَ قُدْوَةً، وَتُجْعَلَ سِيرَتُهُ قِبْلَةً. وَلَمَّا بَالَغَ مَالِكٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ أَوْ مَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِمْ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ كَانَ الْمُعَاصِرُونَ لِمَالِكٍ يَتَّبِعُونَ آثَارَهُ وَيَقْتَدُونَ بِأَفْعَالِهِ، بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ لِمَنْ أَثْنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ قُدْوَةً أَوْ مَنِ اتَّبَعَهُمْ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة: 22] .   1 وهذا وإن كان أقوى البواعث على حبهم وبغض من أبغضهم، التابعين لحبه -صلى الله عليه وسلم- وبغض من أبغضه؛ إلا أن محل الاستدلال هو ما قبله، وهذا الدليل الرابع كالأول ظاهر في الاقتداء بأفعالهم وأقوالهم التكليفية، لا الآراء والمذاهب. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ خَبَرٍ فَهُوَ كَمَا أَخْبَرَ، وَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، مُعْتَمَدٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَعَنْهُ1، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَنْبَنَى عَلَيْهِ فِي التَّكْلِيفِ حُكْمٌ أَمْ لَا2، كَمَا أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ حُكْمًا أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى؛ فَهُوَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَا يُفَرَّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ، وَبَيْنَ مَا نُفِثَ3 فِي رُوعِهِ وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ رَآهُ رُؤْيَةَ كَشْفٍ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مُغَيَّبٍ عَلَى وَجْهٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، أَوْ كَيْفَ مَا كَانَ؛ فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ يُحْتَجُّ بِهِ وَيُبْنَى عَلَيْهِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤَيَّدٌ بِالْعِصْمَةِ، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.   1 فإذا قال: إن الملك ألقى في روعي كذا؛ فهو صادق في أنه ألقى الملك إليه كذا، وصادق في مضمون الخبر. "د". 2 ولا ينافي هذا ما ورد في حديث مسلم في مسألة تأبير النخل، وقوله لهم: "لعلكم لو لم تضعوه؛ لكان خيرًا"؛ فتركوه فنقصت، فذكر ذلك له؛ فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم؛ فخذوا به، وإذا أمرتكم بشي من رأيي؛ فإنما أنا بشر"، فإن هذا ليس في الواقع خبرًا، وإنما هو من باب الشك في عادة عندهم اعتقدوها سببًا عاديًّا، وكأنه قال لهم: جربوها، وهذا هو ما يفهم من قول: "لعلكم لو لم تضعوه ... " إلخ؛ فهو لم يذكره خبرًا جازمًا، بل هو من باب المشورة عليهم في الأخذ بالتجربة في سبب عادي ليس من الأمور الشرعية، ولا مما قصد به الإخبار عن أمر يعلمه. "د". 3 وهو الإشارة المفهمة من غير بيان بالكلام، وقوله: "وألقي في نفسه" هو الإلهام الذي يكون بدون عبارة الملك وإشارته، ويكون الإلقاء مقرونًا بخلق علم ضروري أنه منه تعالى، وهذا القدر مشترك بين الثلاثة؛ إذ في المشافهة والإشارة لا بد أيضًا من خلق علم ضروري أنه مخاطبة الملك، ولذا كانت الثلاثة حجة قطعية عليه وعلى غيره، والثلاثة وحي ظاهر، يلزمه انتظار واحد منها عند الحاجة للحكم، وإن لم تحصل اجتهد، واجتهاده إنما يكون بالقياس، لا بالترجيح عند التعارض بين الدليلين لعدم علم المتأخر، ولا بغيره مما يكون فيه الاجتهاد عند غيره -صلى الله عليه وسلم- والاجتهاد وحي باطني. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ؛ فَلَا نُطَوِّلُ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا نُمَثِّلُهُ ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ مَا أَرَدْنَا بِحَوْلِ اللَّهِ. فَمِثَالُهُ قَوْلُهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقَوُا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ" 1؛ فَهَذَا بِنَاءُ حُكْمٍ عَلَى مَا أُلْقِيَ فِي النَّفْسِ.   1 أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" "1/ 298" - ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "14/ 304/ رقم 4112"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 185/ رقم 1151"- ثنا هشيم بن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي عمن أخبره عن ابن مسعود به. وإسناده صحيح لولا الرجل الذي لم يسم. وأخرجه البغوي في "شرح السنة" "14/ 304-305/ رقم 4113" من طريق أبي أسامة عن إسماعيل عن زبيد وعبد الملك بن عمير عن ابن مسعود به، ورجاله ثقات، وهو مرسل. وأخرجه أيضًا "14/ 303-304/ رقم 4111" من طريق أبي حمزة عن إسماعيل عن رجلين أحدهما زبيد عن ابن مسعود به، وهو كسابقه، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 4" من طريق آخر عن ابن مسعود، وفيه سعيد بن أبي أمية الثقفي، وهو مجهول، وبقية رجاله ثقات. وللحديث شواهد كثيرة، بها يصل إلى درجة الصحة، منها: - حديث جابر بن عبد الله، أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم 2144"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 420"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 4"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "5/ 265" من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر. وابن جريج وأبو الزبير مدلسان، ولم يصرحا بالتحديث. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" "3/ 156-157 و7/ 158" من طريق حبيش بن مبشر ثنا وهب بن جرير ثنا شعبة عن محمد بن المنكدر به. وإسناده صحيح، وقال أبو نعيم عقبه: "غريب من حديث شعبة، تفرد به حبيش عن وهب". وأخرجه ابن حبان في "الصحيح" "رقم 3239، 3241"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 4"، وأبو الفضل الرازي في "المشيخة" "رقم 43"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 264" و"الشعب" "رقم 10505" من طريق عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنَسِيتُهَا؛ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ" 1. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ" 2؛ فَهَذَا بِنَاءٌ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رؤيا   = محمد بن المنكدر به. وإسناده حسن. ولفظ حديث جابر: "لا تستبطئوا الرزق؛ فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام". وكتب "د" هنا: "والإجمال في الطلب مباشرة الأسباب المشروعة مع ترك المبالغة والزيادة في الحرص لئلا يؤدي إلى الوقوع في محظور". وفي الباب عن أبي أمامة، أخرجه الطبراني في "الكبير" "رقم 7694"، وأبو نعيم في "الحلية" "10/ 26-27"، وفي إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. وعن حذيفة، أخرجه البزار في "البحر الزخار" "7/ 314-315/ رقم 2914"، وأوله: "هلموا إليّ، فأقبلوا إليه؛ فجلسوا، فقال: هذا رسول رب العالمين جبريل -عليه السلام- نفث في روعي". وقال عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد". قلت: وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة، قال الهيثمي في "المجمع" "4/ 71": "لم أجد من ترجمه"، ووافقه ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" "رقم 874". وفي الباب عن المطلب، أخرجه البغوي في "شرح السنة" "14/ 302-303/ رقم 4110"، ورجاله ثقات، وهو مرسل، والخلاصة الحديث صحيح بشواهده، والله أعلم. 1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1166"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 2197"، وأحمد في "المسند" "2/ 291"، والدارمي في "السنن" "2/ 28" وغيرهم عن أبي هريرة, رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، رقم 2015، وكتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلي، رقم 1158، وكتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا، رقم 6991"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1165" عن ابن عمر, رضي الله عنهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 النَّوْمِ1. وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَعَ2 فِي بَدْءِ الْأَذَانِ -وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَسْأَلَةِ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ الرُّؤْيَا؛ فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا حَقٌّ" الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ؛ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلله الحمد؛ فذاك أثبت" 3.   1 أي: رؤياه -صلى الله عليه وسلم- وهو ظاهر في الرواية الأولى، وأما الثاني؛ فتحتاج إلى تعريف صدقها عن الله بطريق من الطرق المشار إليها. "د". 2 في "ط": "واقع". 3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، 1/ 358-359/ رقم 189" -وهذا لفظه- وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، 1/ 135-136/ رقم 499"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأذان، باب بدء الأذان، 1/ 232-233/ رقم 706"، وأحمد في "المسند" "4/ 43"، والبخاري في "خلق أفعال العباد" "رقم 180"، والدارمي في "السنن" "1/ 268-269"، وابن الجاورد في "المنتقى" "رقم 158"، وابن المنذر في "الأوسط" "3/ 12-13/ رقم 1162"، والدارقطني في "السنن" "1/ 341"، وابن خزيمة في "الصحيح" "1/ 189/ رقم 371"، وابن حبان في "الصحيح" "4/ 572-573/ رقم 1679, الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 390-391"، وابن الجوزي في "التحقيق" "1/ 231-232, ط الفقي"، كلهم من طريق ابن إسحاق؛ قال: ثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد ثنا أبو عبد الله بن زيد به، وإسناده جيد، وابن إسحاق صرح بالتحديث؛ فانتفت شبهة تدليسه، والخبر في "سيرة ابن هشام" "2/ 154-155". ولهذا الحديث طرق أخرى، المذكور آنفًا أقواها، قال ابن المنذر في "الأوسط" "3/ 13": "وليس في أسانيد أخبار عبد الله بن زيد إسناد أصح من هذا الإسناد، وسائر الأسانيد فيها مقال"، وقال ابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 193": "سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر أصح من هذا؛ لأن محمد بن عبد الله بن زيد سمعه من أبيه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعه من عبد الله بن زيد". قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 203"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم = الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 فَحَكَمَ1 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الرُّؤْيَا بِأَنَّهَا حَقٌّ وَبَنَى عَلَيْهَا الْحُكْمَ فِي أَلْفَاظِ الْأَذَانِ. وَفِي "الصَّحِيحِ": صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ؛ فَقَالَ: "يَا فُلَانُ! أَلَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ، أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى كَيْفَ يُصَلِّي؛ فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ؟ إِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ مِنْ وَرَائِي 2 كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ" 3. فَهَذَا حُكْمٌ أَمْرِيٌّ بِنَاءً4 عَلَى الْكَشْفِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ وَجَدَ أَكْثَرَ من هذا.   = 1788"، وابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 197/ رقم 380"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 131، 132، 134"، والدارقطني في "السنن" "1/ 241"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 476، 477/ رقم 1938، 1939"، والبيهقي في "السنن" "1/ 420" من طريق ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد، وبعضهم يقول: "عن ابن أبي ليلي؛ قال: ثنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عبد الله بن زيد". قال الدارقطني: "ابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد"، ثم ساق الاختلاف فيه، وأخرجه أحمد في "المسند" "4/ 42"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 1787"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 475/ رقم 1937"، والبيهقي في "الكبرى" "1/ 414، 415" من طريق سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد. والحديث صحيح، وأصح طرقه المذكورة أولًا كما سبق بيانه، وصححه غير واحد من الأئمة كالبخاري، والنووي، والذهبي، وانظر: "نصب الراية" "1/ 259-260". 1 أي: بطريق من الطرق المتقدمة، لا بمجرد رؤياهما. "د". 2 هذه حالة رؤيا الكشف التي تحصل بإزالة الموانع العادية كما حصل في صبيحة الإسراء، حيث كشف له عن بيت المقدس وصار يصفه لقريش وصف عيان. "د". 3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، 1/ 319/ رقم 423" عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد مضى تخريجه "2/ 472". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "امرئ بنى"، وكتب "د": "لعله "أمري" نسبة إلى الأمر؛ فإنه في معنى: أحسن صلاتك". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ مَرَّ قَبْلَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ1 قَاعِدَةٌ بَيَّنَتْ أَنَّ مَا يَخُصُّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا، فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى ذَلِكَ؛ فَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ وَالِاطِّلَاعِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَى اطِّلَاعِهِ وَكَشْفِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَعَ بِنْتِهِ عَائِشَةَ فِيمَا نَحَلَهَا إِيَّاهُ2 ثُمَّ مَرِضَ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَهُ3، قَالَ فِيهِ: "وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ؛ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ". قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ! وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ؛ فَمَنِ الْأُخْرَى؟ قَالَ: ذُو بَطْنٍ بِنْتُ خَارِجَةَ أَرَاهَا جَارِيَةً"4، وَقَضِيَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي نِدَائِهِ سَارِيَةَ5 وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ فَبَنَوْا -كَمَا تَرَى- عَلَى الْكَشْفِ وَالِاطِّلَاعِ الْمَعْدُودِ مِنَ الْغَيْبِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وكتب العلماء   1 انظر: "2/ 263 وما بعدها". 2 وهو عشرون وسقًا. "د". 3 فأبطلها بحكم الشرع. "د". 4 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 483-484, رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 4681, رواية يحيى الليثي وص236, رواية سويد بن سعيد"، وإسناده صحيح. وانظر: "الاستذكار" "22/ 293-295" لابن عبد البر، و"أنساب الأشراف" "63-64, الشيخان". 5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل" "رقم 525-528"؛ وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص286, ترجمة عمر و7/ ق 10-13, ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 2537"، و"كرامات الأولياء" "رقم 67"، والسلمي في "أربعي الصوفية" "رقم 5", وابن الأعرابي في "كرامات الأولياء", والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة" "4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية" "ص44-46" بأسانيد بعضها حسن، كما قال ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق: "فهذه طرق يشد بعضها بعضًا"، وألف القطب الحلبي في صحته جزءًا، قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة" "رقم 461". وانظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن أولياء الشيطان" "ص123-124" لابن تيمية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 مَشْحُونَةٌ بِأَخْبَارِهِمْ فِيهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ جَرَيَانَ الْحُكْمِ وِرَاثَةً عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ هُوَ فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِسَبَبِهِ جَلَبْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ كَافِيًا، وَلَكِنْ نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ هَذَا تَقْرِيرُهَا. فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مُؤَيَّدٌ1 بِالْعِصْمَةِ مَعْضُودٌ بِالْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ وَصِحَّةِ مَا بَيَّنَ، وَأَنْتَ تَرَى الِاجْتِهَادَ الصَّادِرَ مِنْهُ مَعْصُومًا2 بِلَا خِلَافٍ؛ إِمَّا بِأَنَّهُ لَا يُخْطِئُ أَلْبَتَّةَ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى خَطَأٍ إِنْ فُرِضَ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَكُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَا نَوْمٍ أَوْ رُؤْيَةِ كَشْفٍ مِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ مِمَّا أَلْقَى إِلَيْهِ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَمَّا أُمَّتُهُ3؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ حُلْمًا4، وَكَشْفُهُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي الْوُجُودِ صِدْقُهُ5، وَاعْتِيدَ ذَلِكَ فِيهِ وَاطُّرِدَ؛ فَإِمْكَانُ الْخَطَأِ وَالْوَهْمِ بَاقٍ، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقْطَعَ به حكم6.   1 فلا يصدر عنه في ذاته إلا الصدق، وتعضيده بالمعجزة يجعلنا لا نعتقد إلا ذلك. "د". 2 في "ماء": "معصوم". 3 تقدم الكلام بأوسع من هذا وأتم، في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد. "د". 4 أي: والحلم من الشيطان كما تقدم في الحديث. "د". 5 أي في غير هذه الجزئية التي يفرض الكلام فيها؛ فإمكان الخطأ والوهم باق في هذه الجزئية حتى ينكشف الأمر؛ إما بتحققها، أو عدمه، وبعد تحققها وحصولها؛ فالمرجع الوجود، لا الكشف ولا الرؤيا. "د". وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 636 وما بعدها"، و"بدائع التفسير" "1/ 152 وما بعدها" لابن القيم. 6 في "ط": "حكمًا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 وَأَيْضًا؛ فَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا1 مَعْدُودًا فِي الِاطِّلَاعِ الْغَيْبِيِّ؛ فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلَا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} 2 [لُقْمَانَ: 34] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ3. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الْأَنْعَامِ: 59] . وَاسْتَثْنَى الْمُرْسَلِينَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِقَوْلِهِ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الْآيَةَ [الْجِنِّ: 26، 27] . فَبَقِيَ مَنْ عَدَاهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ امْتِنَاعُ عِلْمِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 179] . وَقَالَ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النَّمْلِ: 65] . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: "وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا فِي غدٍ؛ فَقَدْ أَعْظَمَ الفرية على الله" 4.   1 {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} سقطت من الأصل 2 يراجع ما يشير إليه من تحقيق معنى الغيب في قصد الشارع في كتب الحديث والتفسير. "د". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، 1/ 114/ رقم 50، وكتاب التفسير، باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة} ، 8/ 513/ رقم 4777"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإحسان، 1/ 39/ رقم 9" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ضمن حديث طويل. 4 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب معنى قول الله, عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، وهل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم 177" عن عائشة ضمن حديث، ولفظه: "ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية". والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 262-263/ رقم 3068" عن عائشة -رضي الله عنها- وأخرجه أيضًا بنحوه في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النجم، 5/ 394-395/ رقم 3278". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَتَكَرَّرَتْ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ [الْغَيْبَ إِلَّا] 1 اللَّهُ، وَهُوَ يُفِيدُ صِحَّةَ الْعُمُومِ مِنْ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ، حَسْبَمَا مَرَّ فِي بَابِ2 الْعُمُومِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ خَرَجَ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَشْتَرِكُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فِي الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ. وَمَا ذُكِرَ قَبْلُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَا يُذْكَرُ عَنْهُمْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ؛ فَمِمَّا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ، إِذْ لَمْ يَشْهَدْ3 لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوُقُوعُهُ عَلَى حَسَبِ مَا أَخْبَرُوهُ هُوَ مِمَّا يُظَنُّ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُعَامِلُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ4 لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ جَوَازُ الْخَطَأِ، لِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَرَاهَا جَارِيَةً"5؛ فَأَتَى بِعِبَارَةِ الظَّنِّ الَّتِي لَا تُفِيدُ حُكْمًا، وَعِبَارَةُ "يَا سَارِيَةُ! الْجَبَلَ" -مَعَ أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ لَا تُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا6- هِيَ أَيْضًا لَا تُفِيدُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهَا مِثْلُهَا، وَإِنَّ سُلِّمَ؛ فَلِخَاصِّيَّةٍ7 أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَفِرُّ مِنْهُ8؛ فَلَا يَطُورُ9 حَوْلَ حِمَى أَحْوَالِهِ الَّتِي أكرمه الله بها،   1 سقطت من "د" كاملة، ومن "ف" و"م" سقطت كلمة "الغيب". 2 في المسألة السادسة منه، وهو أن العموم لا يلزم أن يكون آتيًا من جهة الصيغ، بل له طريق ثان وهو الآتي من جهة استقراء مواقع المعنى. "د". 3 كشهادته لرؤيا عبد الله بن زيد السالفة. "د". 4 في "ماء": "بجميع". 5 في قصته السابقة، وهي صحيحة، ومضى تخريجها. 6 بل نصيحة ومشورة. "د". قلت: وقد صحت، كما بيناه، ولله الحمد. 7 في "ماء": "كخاصية". 8 كما ثبت في "صحيح البخاري" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، 7/ 4/ رقم 3683"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر, رضي الله تعالى عنه، 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد مرفوعًا: "والذي نفسي بيده؛ ما لقيك -والخطاب لعمر- سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجك". 9 أي: لا يقرب حول حماه، يقال: فلان لا يطورني، أي: لا يقرب طورتي، والطورة: فناء الدار وما حولها، وفلان يطور بفلان أي: كأنه يحوم حوله ويدنو منه، وفي حديث علي, رضي الله عنه: "وأن لا أطور به ما سمر سمير"؛ أي: لا أقربه أبدًا. "ف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَإِذَا لَاحَ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ1؛ فَلَا يَكُونُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهَا مُحَقَّقٍ لَا شَكَّ فِيهِ، بَلْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا: "أَرَى" وَ"أَظُنُّ"2، فَإِذَا وَقَعَ مُطَابِقًا فِي الْوُجُودِ وَفُرِضَ تَحَقُّقُهُ بِجِهَةِ الْمُطَابَقَةِ أَوَّلًا، وَالِاطِّرَادِ ثَانِيًا؛ فَلَا يَبْقَى لِلْإِخْبَارِ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمٌ لأنه [قد] صَارَ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعِ3؛ فَاسْتَوَتِ الْخَارِقَةُ وَغَيْرُهَا، نَعَمْ4 تُفِيدُ الْكَرَامَاتُ وَالْخَوَارِقُ5 لِأَصْحَابِهَا يَقِينًا وَعِلْمًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقُوَّةً فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الظَّنَّ أَيْضًا مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ إِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا مَعَ الِاطِّرَادِ وَالْمُطَابَقَةِ؛ فَإِنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا، فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا. لِأَنَّا نَقُولُ: مَا كَانَ مِنَ الظُّنُونِ مُعْتَبَرًا شَرْعًا؛ فَلِاسْتِنَادِهِ إِلَى أصل شرعي   1 كذا في الأصل و"ماء" و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "الغير". 2 في "د": "أو أظن". 3 أي: لأنه يبقى على عدم العلم، بل على مجرد ظن أو شك حتى يقع، فبعد وقوعه مطابقًا لا يبقى للإخبار به فائدة في بناء حكم عليه، ويكون الحكم -إن كان هناك حكم- مبنيًّا على الواقع نفسه. "د". 4 استدراك على ما قبله الموهم أنه حينئذ لا فائدة في الخوارق والكرامات لأنه لا ينبني عليها حكم أصلًا، يقول: بل لها فائدة أهم من هذا، وهي زيادة اليقين، وشرح الصدر بتضاعف نور الإيمان، واتساع البصيرة والعلم بالرب واهبها. "د". 5 في "ط": "الكرامات الخوارق" بدون "واو" عطف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ1 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا ظَنِّيٍّ، هَذَا وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَبَتَ ذَلِكَ2 بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ فَلَا يَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعِصْمَةُ، وَإِذَا امْتَنَعَ الشَّرْطُ امْتَنَعَ الْمَشْرُوطُ باتفاق العقلاء.   1 المسألة الثانية من الأدلة. "د". 2 لا يصح رجوع اسم الإشارة إلى ما لم يستند إلى أصل قطعي أو ظني؛ لأن ما علم له -صلى الله عليه وسلم- بطريق الكشف أو بطريق الرؤيا كله حق معصوم كما تقدم أول المسألة، بل هو راجع لأصل الموضوع -وهو العمل بمقتضى الكشف والاطلاع الغيبي- أي: لا يقال: إن عمله -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الكشف يصلح مستندًا لنا ولو ظنيًّا؛ فنقيس أنفسنا عليه لأنا نقول: إنه قياس مع الفارق، وهو العصمة في حقه وعدمها في حقنا. "د". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 الاستدراكات : استدراك 1: [ومثال ضم العبادة إلى العبادة: ضم الدعاء لختم القرآن في رمضان، أو ضمه لأدبار الصلوات، أو ضم القراءة للطواف] . استدراك 2: وأخرجه من طرق أخرى عن علي: ابن المنذر في "الأوسط" "1/ 387-388"، وأبو عبيد "322-323"، وابن أبي شيبة "1/ 39"، والدارقطني "1/ 87-88"، والبيهقي "1/ 87". وصح عن ابن مسعود قوله أيضًا، أخرجه أحمد في "الأسامي والكنى" "رقم 261"، وأبو عبيد في "الطهور" "325-326, بتحقيقي"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 39"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 388، 422"، والدارقطني في "السنن" "1/ 89" -وصححه- والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 87"، والخطيب في "الموضح" "2/ 320". استدراك 3: وفي "ط": "عن "يوم كان مقداره ألف سنة"؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا "يَوْمٌ كَانَ مقداره خمسين ألف سنة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 استدراك 4: وأخرجه عبد الرزاق "20474"، وابن المبارك في "المسند" "233" و"الزهد" "92, زيادات نعيم"، وأبو داود "1561, مختصرًا"، والطبراني "18/ رقم 547"، والخطيب في "الكفاية" "48" و"الفقيه" "1/ 76"، والهروي في "ذم الكلام" "242-244"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 25" من طرق لا تخلو من ضعف، ولكن يشد بعضها بعضًا. استدراك 5: وفي "ط": "فرحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد؛ إذ قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ، فما ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 الموضوعات والمحتويات : الموضوع الصفحة تابع الطرف الأول في أحكام الأدلة عامة 5 الفصل الرابع: في العموم والخصوص 7 مقدمة في الموضوع 7 الأدلة المستعملة في الإطلاق بالعموم والخصوص 7 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا ثَبَتَتْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا مُعَارَضَةُ قَضَايَا الْأَعْيَانِ ولا حكايات الأحوال 8 دليل ذلك الأول: أن القاعدة مقطوع بها وقضايا الأعيان مظنونة 8 الثاني: أَنَّ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى الْأَدِلَّةِ القطعية وقضايا الأعيان محتملة 8 الثالث: أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ جُزْئِيَّةٌ، وَالْقَوَاعِدُ الْمُطَّرِدَةُ كُلِّيَّاتٌ 8-9 الرابع: أَنَّهَا لَوْ عَارَضَتْهَا، فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَا مَعًا أَوْ يُهْمَلَا، أَوْ يُعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ 9 إشكال على الدليل الرابع بأن تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بأخبار الآحاد وغيرها من المظنونات 9 الجواب من وجهين: 9 أن الإشكال ليس بمحل لمسألتنا 9-10 التوضيح بالأمثلة: صفات الله والتنزيه 10-11 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 قضايا الأعيان 10 أمثلة على قضايا الأعيان 10 استضعاف جواب المصنف 10 قضايا العقائد عامة 11 عصمة الأنبياء 11 عند معارضة الجزئيات للكليات 11 فصل: فائدة هذه المسألة 12 اتباع المتشابهات أصل الزيغ والضلال 12 لبس الحرير للحكة أو لغيره 12 التمثيل بقصة عن عصمة الأنبياء 12-13 قصة سيدنا موسى -عليه السلام- والعصمة 13 المسألة الثانية: وضع الشريعة على مقتضى ما قصد الشارع من ضبط الخلق بالقواعد العامة، وقد كانت العوائد جَرَتْ بِهَا سُنَّةُ اللَّهِ أَكْثَرِيَّةً لَا عَامَّةً 14 عموم وضع التكاليف 14 السفر والمشقة في القصر والفطر 14 النصاب والغنى في الزكاة 14 الرخص 14 إعمال أخبار الآحاد والقياس "الظنيات" 15 ما يتوجه على القياس من الاعتراضات 15 الشهادات والإشكال فيها 15 إِجْرَاءِ الْعُمُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ من حيث هي منضبطة بدون معارض قوي مساوٍ له 15 مثال للتوضيح القصر والفطر في السفر للملك 15 الربا، وما هي علة التحريم؟ 15-16 الثمنية، والوزن والقوت 16 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 ربا الفضل والنسيئة 16 الفرق بين العلل والأوصاف المنضبطة 16 الخمر والزنى والحد عليهما 17 المسألة الثالثة: 18 العموم له صيغ وضعية، والنظر في هذا مخصوص بأهل اللغة العربية 18 للعموم بحسب الوضع نظران: 18 أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ فِي أصل وضعها على الإطلاق 18 التخصيص بالمنفصل وأمثلة عليه 18 الثاني: بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ الِاسْتِعْمَالِيَّةِ الَّتِي تَقْضِي الْعَوَائِدُ بِالْقَصْدِ إليها 19 القاعدة فِي الْأُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ الِاسْتِعْمَالِيَّ إِذَا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي 19 التخصيص بالمنفصل في العقل والحس والدليل السمعي 19 الحلف بالطلاق والعتاق ليضربن جميع من في الدار ولم يضرب نفسه 20 العموم يُعْتَبَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَوُجُوهُ الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ ضَابِطَهَا مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان 21 الاستثناء في القرآن 21 الدباغة واختلاف العلماء في جلد الكلب 22 التنبيه على وهم في عزو حديث "إذا دبغ الإهاب .... " 22 هجرة المؤمنات ضمن معاهدات المسلمين للكفار 22 اللفظ العام إذا ثبت ينطلق على جميع ما وضع له من الأصل حالة الإفراد 23 الْعَرَبَ حَمَلَتِ اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كَثِيرٍ من أدلة الشريعة 23 ذكر بعض أمثلة على ذلك 24 قضية لبس الإيمان بالظلم 24 عذاب الكفار وآلهتهم 24 اللفظ العربي له أصالتان: أصالة قياسية وأصالة استعمالية 25 الْفَهْمَ فِي عُمُومِ الِاسْتِعْمَالِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ الْمَقَاصِدِ فِيهِ، وَلِلشَّرِيعَةِ بِهَذَا النَّظَرِ مَقْصِدَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 أَحَدُهُمَا: الْمَقْصِدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ القرآن بحسبه 25 الثاني: المقصد في الاستعمال الشرعي 25 الحقائق الشرعية والعرفية واللغوية 25 الدعاء والصلاة 26 تبيان التفاوت الحاصل في النظر الثاني 26-28 فصل: مناقشة الأمثلة المعترض بها على أصل المسألة 27 تفسير آية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 27-29 بعض أنواع الظلم 27-27 النفي والنكران 28 تعذيب الكفار وآلهتهم 30 التنبه على ضعف شديد في قصة ابن الزبعرى في تفسير الآية بها 30 كتم العلم والفرح به 32 الأدب مع السابقين 32 تبيان أن ذلك بيان لعمومات النصوص كيف وقعت في الشريعة33 السلف مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنِهِمْ عَرَبًا قَدْ أَخَذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ الِاسْتِعْمَالِ يدل على خلاف ذلك 34 ذكر مجموعة من الأمثلة وتخريجها 34-40 العموم الإفرادي 33 التخصيص بالمنفصل أسلوب حياة عمر في الخشونة والتنعم مع فهمه -رضي الله عنه- لقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 34-35 حديث الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ 35-36 تكثير سواد المشركين 36 قصة نزول قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} 36-37 الخواطر والتكليف بها 37 قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} 38 حجة الإجماع من الآية 38 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْه} 38 استحياء الصحابة في الخلاء 38 تفسير: يتخلوا 38 الحكم بغير ما أنزل الله كفران 39 عموم اللفظ وخصوص السبب, النزول أو الحادثة 40 ذكر حال الكافر في النار وحال المؤمن في الجنة, أسباب ذلك 40 تبيان فقه السلف في فقه الصيغ العمومية وخصوص الأسباب والجمع بين الخوف والرجاء في هذا الباب 40-41 هل يصح خصوص السبب أن يكون قرينة مخصصة؟ 41 العموم الإفرادي والاستعمالي 41 الفصل بين الشاطبي والأصوليين في التخصيص 43 فصل: التخصيص يكون بالمتصل وبالمنفصل 43 أسماء العدد ليست من العموم 43 التخصيص بالمتصل 43-44 التخصيص بالمنفصل 44 إشكالات من الأصوليين والجواب عنها 44-46 فصل: فيما ينبني على المسألة من أحكام 46 منها: من المسائل الخطيرة في الدين؛ الْعَامِّ إِذَا خُصَّ هَلْ يَبْقَى حُجَّةً أَمْ لا؟ 46 التخصيص بالمتصل والمنفصل 47 عمومات القرآن 47-48 بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بجوامع الكلام 48 صيغ العموم في الأصل الاستعمالي 49 المسألة الرابعة: 50 العزائم تبقى على عمومها، وإن ظهر أن الرخص تخصصها 50 إشكالات من أوجه على المسألة: الأول: أن العزيمة مع الرخصة من باب الكفارة 51 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 الثاني: أن الْجَمْعَ بَيْنَ بَقَاءِ حُكْمِ الْعَزِيمَةِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ جمع بين متنافيين 51 الثالث: أَنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العزيمة 51 الجواب عن كل واحد منها الجواب الأول 51 الجواب عن الثاني والثالث 52 رفع الإثم عن المخالف لعذر 52 المسألة الخامسة 53 إطلاق أن الأعذار خصصت عمومات العزائم على المجاز لا على الحقيقة 53 مواقع المسألة 53 أدلة صحتها ومناقشتها 53 شروط التكليف 53 العزائم 53 الإثم والخطأ 53 فرضية المسألة في موضعين على التمثيل: 53 الأول: فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَتَنَاوَلَ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ 53 ظَهَرَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ بِنَصٍّ أو إجماع أو غيرهما 53-54 أمثلة ذلك 53-54 الثاني: إذا أخطأ الحاكم في الحكم ... وإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل 55 مسائل في القضاء والحكم بغير ما أنزل الله 55- 56 المسألة السادسة: طريقا ثبوت العموم: 57 الأول: ورود الصيغ 57 الثاني: اسْتِقْرَاءُ مَوَاقِعِ الْمَعْنَى حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ فِي الذهن أمر كلي عام 57 أدلة ذلك: 57 الأول: الاستقراء 57 الثاني: التواتر المعنوي 57 الثالث: قاعدة سد الذرائع وعمل السلف بها وبعض الأمثلة من عملهم 59 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 ما ورد من أدلة شرعية على قاعدة سد الذرائع 60 فإن قيل: إن اقْتِنَاصُ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ بَيِّنٍ مِنْ أَوْجُهٍ 60 أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يمكن في العقليات لا في الشرعيات 60 المعاني العقلية وخواصها 60 الثاني: أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ تَسْتَلْزِمُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ مَعْنًى زائدًا 61 الثالث: كثرة ورود التخصيصات في الشريعة 61-62 سرد مجموعة من الأمثلة التي تخرج تخصيصات من عمومات 62 التزام الرجال والنساء بالتكاليف ذاتها وتبيان ما يخص النساء لذات الخلقة 63 الأجوبة عن هذه الإشكالات 63-64 فصل: فوائد المسألة 64 إذا تقررت المسألة عند المجتهد ثم استقرأ مَعْنًى عَامًّا مِنْ أَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ وَاطَّرَدَ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يَفْتَقِرْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى دليل خاص على خصوص نازلة تعن 64-65 فهم الاستشكال على سد الذرائع من القرافي 65-68 الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةُ: الْعُمُومَاتُ إِذَا اتَّحَدَ مَعْنَاهَا وَانْتَشَرَتْ فِي أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ أَوْ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاطِنَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ فَهِيَ مُجْرَاةٌ عَلَى عُمُومِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ قُلْنَا بجواز التخصيص بالمنفصل 69-71 فصل: العمل بالعموم من غير بحث عن مخصص 71 تبيان موقع الإجماع فيه وموضع التفصيل 71 الفصل الخامس: في البيان والإجمال 73 توضيح معنى الإجمال 73 المسألة الأولى: سبعة أسباب لوقوع الإجمال 73 بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل والإقرار وترتيبها 73 ضرب مجموعة من الأمثلة على بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لإجمال الآيات وتوضيح ذلك 73-75 علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ 75 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 المسألة الثانية: 76 العالم يقوم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبيان: 76 الدليل الأول: مَا ثَبَتَ مِنْ كَوْنِ الْعُلَمَاءِ وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ 76-77 الدليل الثاني: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى العلماء 77 أنواع البيان الواجب على العلماء 78 المسألة الثالثة: بيان العالم مثل بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل 79 المسألة الرابعة: الغاية في البيان أن يطابق القول الفعل 79 أهمية الفعل مع القول في توضيح الأحكام 81 تبيان الأقوى في البيان الفعل أم القول؟ 81 فصل: الترجيح بين الفعل والقول في البيان 83 المسألة الخامسة: 85 عند وقوع الْقَوْلُ بَيَانًا فَالْفِعْلُ شَاهِدٌ لَهُ وَمُصَدِّقٌ أَوْ مخصص أو مقيد، وبالجملة عاضد للقول 85 مطابقة أقوال الأنبياء -عليهم السلام- مع أفعالهم 86 قوة الدعوة وصدقها في مطابقة الفعل القول 86-87 العلماء ورثة الأنبياء في الدعوة ووظائفها 87 حال الصحابة مع أقوال النبي وأفعاله 87-88 التحذير من زلة العالم والآثار الواردة في ذلك 88-90 قوة الأفعال في التأسي 91 اعتبارات أفعال المتبوعين: 91 الأول: من جهة أنه واحد من المكلفين 91 الثاني: مِنْ حَيْثُ صَارَ فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَحْوَالُهُ بَيَانًا وتقريرًا لما شرع الله إذا انتصب في هذا المقام 91 تبيان أن بيان العالم واجب 91-92 أين يتعين البيان؟ 92 أمثلة من أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتروكاته التي كانت لبيان الأحكام 93 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 الأمثلة السادسة: المندوب لا يسوى بينه وبين الواجب في القول والفعل والاعتقاد 97 بيان ذلك بأمور: الأول: أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق 97 الثاني: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- هاديًا ومبينًا للناس ما نزل إليهم 97 أمثلة من السنة على ذلك فقد فرق بين الواجب والمحرم والمندوب 97-98 تخريج أحاديث "لا حرج" 98-100 مسلك آخر في توضيح المسألة: ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- للعمل وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يعمل به الناس 101 مثل قيام رمضان وهل خاف أن يفرض بالوحي أو خوف أن تظن الأمة أنه فرض؟ 101 ذكر أمثلة على هذا المسلك لتوضيحه 101-102 معنى ما ورد عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هذا 102 الثالث: عمل الصحابة على الاحتياط في الدين 102 أمثلة عن الصحابة في ذلك 102-105 الرابع: استمرار عمل أئمة السلف بهذا الوجه 105 اعتباره أصل سد الذرائع عند مالك 107 فصل: الأمور التي يفرق بها بين الواجب والمندوب 107 فصل: ومن اسْتِقْرَارِ الْمَنْدُوبِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فِي التَّرْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ بيان 108 سرد أمثلة عن السلف -الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب- جميعًا في هذا الفصل 108-113 تواطؤ أهل بلد على ترك شيء من الدين 111 أصل سد الذرائع والفصل هنا 111 إرجاعه إلى أصل سد الذرائع 111 المسألة السابعة: 114 وكذلك المباحات لا يسوى بينها وبين المندوب والمكروه 114-116 الإجابة على أدلة المسألة السابعة 116 المسألة الثامنة: 117 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 وكذلك المكروهات لا يسوى بينها وبين المحرمات والمباحات 117-118 أدلتها مثل أدلة المسألة التي قبلها 117 ويضاف إليها وجهان الأول: أنها قد تظهر محرمات ويصير الترك واجبًا 117 توضيح أن تبيان الحكم أهم من ارتكاب المكروه 117 ثانيها: أن العمل بها دائمًا يصيرها عند الناس مباحات 118 فصل فوائد للمسائل السابقة وما قبل 118 مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنِ الْتَزَمَ عِبَادَةً من العبادات البدنية أَنْ يُوَاظِبَ عَلَيْهَا مُوَاظَبَةً يَفْهَمُ الْجَاهِلُ مِنْهَا الوجوب 119 منها: ونحوه في الكيفيات والتزامه كيفية لا تفهم منها في كيفيات أخر 119 ذكر أمثلة على ذلك 119-121 ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة 120-121 التفريق بين ما يفعل بحضرة الناس وما لا يفعل 121 التزامات الصوفية 122-123 المسألة التاسعة: 124 وكذلك الواجبات لا يسوى بينها وبين غيرها ولا يسامح في تركها ألبتة 124 وكذلك المحرمات 124 فائدة هذه المسألة في قيام وارث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقيام بالأفعال على ما يقوم به النبي -صلى الله عليه وسلم- في أنفسها ولواحقها وسوابقها.125 المسألة العاشرة: لزوم هذا البيان في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع أيضًا 126 المسألة الحادية عشرة: بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحيح لا إشكال فيه 127 وكذلك بيان الصحابة المجمع عليه 127 وأما ما لم يجمعوا فهو صحيح أيضًا وهو عند المصنف من وجهين: الأول: معرفتهم باللسان العربي 128 الثاني: مُبَاشَرَتُهُمْ لِلْوَقَائِعِ وَالنَّوَازِلِ وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ 128 أمثلة توضيحية 129-131 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 منها تعجيل الفطر 129 والصوم لرؤية الهلال 130 مالك والصحابة في الموطأ 131 وتوضيح كلامهم للغة 131 القول في تقليد الصحابي وحجية قوله 132 كلمة جامعة في الصحابة وعلمهم بالدين وضرورة الالتزام بفهمهم 132-133 الاجتهاد بين الصحابة وغيرهم 134 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْإِجْمَالُ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ، وَإِمَّا غَيْرُ وَاقِعٍ في الشريعة 135 يان ذلك: الأول: النصوص الدالة على ذلك 135 التكليف بالمجمل ومعنى المجمل في كلام الأئمة 137 المتشابه في القرآن والمشتبهات 138-139 أحاديث الصفات 139 الوجه الثاني: مقصود الشارع مِنَ الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ تَفْهِيمُ مَا لهم وما عليهم 140 الوجه الثالث: أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وقت الحاجة 140 الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل 141 اقتصار الكلام على الكتاب والسنة دون الإجماع والرأي 143 مسائل الكتاب: 143 المسألة الأولى: 144 اعتماد أن القرآن طريق الهداية ولأنه كلية الشريعة وعمدة الملة 144 إعجاز القرآن, وفهمه 144-145 المسألة الثانية: 146 معرفة أسباب النزول وأهميته من جهة أمرين: الأول: أن علم المعاني والبيان مداره على مقتضيات الأحوال 146 الثاني: الجهل بأسباب النزول موقع في الإشكالات والشبه 146 فوائد معرفة أسباب النزول 147 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 توضيح ذلك بالأمثلة: قصة عمر مع ابن عباس 148-153 قصة مروان مع ابن عباس في معنى الفرح بالحمد من الناس مع ربط ذلك بميثاق الذين أوتوا الكتاب 149-150 القنوت ومعانيه 150 من شرب الخمر قبل نزول التحريم، ومن احتج بسقوط الإثم عنه مثلهم 150 مجيء الدخان 152 فصل: علم معرفة أسباب النزول 152-153 أهمية معرفته بمزاولة علم التفسير عمومًا 153 فصل: أهمية مَعْرِفَةُ عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَمَجَارِي أحوالها حالة التنزيل 154 الأول: إتمام الحج والعمرة 154 الثاني: الخطأ والنسيان 154 الثالث: العلو 155 الرابع: عبادة العرب للكواكب 155 ذكر أربعة أمثلة على أهمية هذا الأمر 154-155 فصل: أهمية أسباب ورود الحديث أيضًا 155 سرد مجموعة من الأمثلة: منها: الأضاحي والتخلف عن الجماعة والهجرة 155-157 المسألة الثالثة: 158 في سرد قصص القرآن، إذا ورد ما هو باطل فلا بد من رده 158-161 فصل: هل الكفار مخاطبون بالفروع؟ 161 صفات الله والأصابع 164 فصل: النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يسكت على باطل ولا يؤخر البيان عن وقت حاجته 166 المسألة الرابعة: 167 مقارنة الترغيب للترهيب والترهيب للترغيب في القرآن مع الأمثلة من القرآن نفسه 167 فصل: تغليب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال من القرآن مع الأمثلة 170 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 وقد لا يذكر إلا طرف واحد 175 توضيح سبب ذلك 175 التنبيه على أن أصل المسألة هو القانون الشائع 175 وأن ما ذكر من تغليب أحدهما على الآخر قضايا أعيان 175-178 فصل: دوران العبد بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ دَائِرَةٌ بينهما 178-179 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: 180 تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَكْثَرُهُ كُلِّيٌّ لَا جُزْئِيٌّ، وَحَيْثُ جَاءَ جُزْئِيًّا فَمَأْخَذُهُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ إِمَّا بِالِاعْتِبَارِ أَوْ بِمَعْنَى الْأَصْلِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِثْلَ خَصَائِصِ النَّبِيِّ, صلى الله عليه وسلم 180 معجزات الأنبياء 181 توضيح أهمية السنة في تفسير القرآن وربط ذلك بالإعجاز 181 تضمن الشرع؛ القرآن والسنة للقواعد الثلاثة: 182 من فضائل عبد الله بن مسعود 182-183 فصل: الاستنباط من القرآن ينبغي أن يكون مع النظر في شرحه وبيان السنة والدليل العقلي على ذلك 183 المسألة السادسة: 184 بناء على ما تقدم، وبالترتيب المتقدم، فإن القرآن فيه بيان كل شيء 184 دليل ذلك: النصوص القرآنية 184 وما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك 184 سرد مجموعة منها وتخريجها 184-189 وَمِنْهَا: التَّجْرِبَةُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَجَأَ إِلَى الْقُرْآنِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا وجد لها فيه أصلًا 189 الكلام عن الظاهرية في هذا الباب 189 الإجارة في الدين والقراض 189 وجود قواعد في السنة ليست في القرآن وتكميلها له 190 تبيان السنة للقرآن 192 من نوادر الاستدلال القرآني 193-196 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 استدلالات غريبة -بعضها للصوفية- في القرآن 195-197 رؤية النساء وكلامهن لله رب العالمين 196 فصل: كُلِّ مَسْأَلَةٍ يُرَادُ تَحْصِيلُ عِلْمِهَا عَلَى أَكْمَلِ الوجوه لا بد أن يلتفت إلى أصلها في القرآن 197 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: 198 الْعُلُومُ الْمُضَافَةُ إِلَى الْقُرْآنِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَقْسَامٍ: 198 قِسْمٌ هُوَ كَالْأَدَاةِ لِفَهْمِهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَالْمُعِينِ عَلَى مَعْرِفَةِ مراد الله منه؛ كعلوم اللغة العربية 198 التنبيه على علوم ليست كذلك وعدها من بعض العلماء أنها معينة وتبيان خطئهم في ذلك 198 قسم هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جُمْلَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ خِطَابٌ بِأَمْرٍ أو نهي أو غيرهما مثل دلالة البنوة، وَهُوَ كَوْنُهُ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم 199 قسم مأخوذ من عادة الله فِي إِنْزَالِهِ، وَخِطَابِ الْخَلْقِ بِهِ, وَمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْحُسْنَى مِنْ جَعْلِهِ عَرَبِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَ نيل أفهامهم 200 اشتمال القرآن عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَوَائِدِ الْفَرْعِيَّةِ والمحاسن الأدبية 200 ذكر الأمثلة على ذلك، وهي مهمة في بابها 200- 204 من ذلك: عدم المؤاخذة قبل الإنذار 200 والبلاغ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَا خَاطَبَ بِهِ الخلق 200 وترك الْأَخْذِ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِالذَّنْبِ، وَالْحِلْمُ عَنْ تعجيل المعاندين بالعذاب 200-201 وتحسين الْعِبَارَةِ بِالْكِنَايَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى ذِكْرِ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ ذِكْرِهِ 201 والتأني في الأمور والجري على مجرى التثبت 201 والتأدب من العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالدعاء 202 آداب الدعاء القرآنية مِنْهَا: إِسْقَاطُ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمُشِيرِ إِلَى قُرْبِ المنادى 202 منها: كَثْرَةُ مَجِيءِ النِّدَاءِ بِاسْمِ الرَّبِّ الْمُقْتَضِي لِلْقِيَامِ بأمور العباد وإصلاحها 203 ومنها تقديم الوسيلة بين يدي الطلب 203 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 قسم هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَعَرَفُوهُ مَأْخُوذًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ اللِّسَانُ العربي 204 أجناس ثلاث من العلوم احتواها القرآن هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ: 204 أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ؛ وهو الله المعبود سبحانه 204 الثاني: معرفة كيفية التوجه إليه 204 الثالث: مَعْرِفَةُ مَآلِ الْعَبْدِ لِيَخَافَ اللَّهَ بِهِ وَيَرْجُوَهُ 204 الأول: يدخل تحته من علم التوحيد توحيد الأسماء والصفات 205 الثاني: يدخل تحته علم العبادات والمعاملات 205 الثالث: يدخل تحته عذاب القبر والموت ويوم القيامة 205 تعريف الناس بالله 206 تعريف أحوال المستجيبين لدعوة الله 206-207 الحاصلة في علوم القرآن عند الغزالي سوابق ومتممات 206-207 المسألة الثامنة: 208 الظاهر والباطن في تفسير القرآن 208 التفسيرات الورادة في هذا واستدلال كل من أخذ بتفسير للظاهر والباطن 208-214 تدبر القرآن 209-210 نفي الفقه والفهم عن الناس في القرآن 214 فصل: كل الْمَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَا يَنْبَنِي فَهْمُ الْقُرْآنِ إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر 214 مثل المسائل الْبَيَانِيَّةُ وَالْمَنَازِعُ الْبَلَاغِيَّةُ لَا مَعْدِلَ بِهَا عَنْ ظاهر القرآن 214 سرد مجموعة من الأمثلة المهمة على ذلك 215 وهو محصل إعجاز القرآن 217 كل مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْمُخَاطَبِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَذَلِكَ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لأجله 218 تخريج حديث سبب نزول {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} وهو قول اليهود لعنهم الله 218-220 حصول الباطن على التمام في المكلف 220 المنافق وتدبر الآيات 220-221 مسائل الحيل والإضرار وفهم باطن القرآن 221 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 مسائل الابتداع كذلك 221-223 جملة القول في تحقيق المسألة 223 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: 224 كَوْنُ الظَّاهِرِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ مجردًا لا إشكال فيه 224 كَلُّ مَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِ جَارٍ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَلَيْسَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، لَا مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْهُ، وَلَا به 224-225 أمثلة ذلك وردها بالأدلة العقلية والنقلية ما أمكن 225-231 فصل: الباطن هو المراد من الخطاب ويشترط فِيهِ شَرْطَانِ: 231 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِحَّ عَلَى مُقْتَضَى الظاهر المقرر في لسان العرب وتوضيح ذلك 232 الثاني: أَنْ يَكُونَ لَهُ شَاهِدٌ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا في محل آخر من غير معارض 232 توضيح ذلك 232-233 بعض أمثلة من تفسيرات الباطنية وقبح ذلك 233 وكذلك الرافضة، وذكر مثل عن عربي أساء الفهم كالباطنية 234 فصل: ما وقع في القرآن من التفاسير المشكلة، مما يمكن أن يعد من الباطن الصحيح أو الفاسد 235 فواتح السور, أي: الحروف المقطعة، وما ورد في تفسيرها وتخريج هذه النقول الشعرية والحديثية 235 الأعداد الجملية 238 كلمة جامعة حول تفسيرات الحروف المقطعة، خصوصًا ما ادعي في معناها في السحر، وهو مفصل في كلمات نافعة, إن شاء الله 240-241 فصل: بعض ما نقل عن سهل بن عبد الله التستري من تفسيرات غريبة ومشكلة ومحاولة توجيهها ومناقشة ذلك 242 فصل آخر في ذلك 245 التنبيه على عظم الأمر وسبب ذكر ما نقل عن التستري وتوضيحه، والتنبيه على ما وقع من الغزالي والباطنية 252 المسألة العاشرة: الِاعْتِبَارَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقُلُوبِ الظَّاهِرَةُ لِلْبَصَائِرِ ضربان: 253 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ أَصْلُ انْفِجَارِهِ مِنَ الْقُرْآنِ 253 الثاني: مَا يَكُونُ أَصْلُ انْفِجَارِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ جُزْئِيِّهَا أو كليها 253 فصل: مدخل السنة في هذا النمط أيضًا 255 المسألة الحادية عشرة: 256 ينبغي تنزيل السور المكية على بعضها البعض في الفهم وكذلك المدني، وتنزيل المدني على المكي كل حسب ترتيبه في النزول 256 التأكيد على رجوع المدني إلى مكي وأن فهمه من أسرار علوم التفسير 257-258 فصل: وكذلك مدخل السنة في هذا النمط أيضًا 258-260 المسألة الثانية عشرة: وهي مسألة مفيدة 261 أخذ تفسير القرآن على التوسط؛ والاعتدال هو فهم أكثر السلف261 ذم من أخذه بالتفريط كالباطنية أو بالتشديد بعيدًا عن أساليب اللغة العربية أو بالتنطع في أساليبها غافلًا عن التفقه في المعبر عنه في الكلام 261-264 المسألة الثالثة عشرة: 265 وهي مبنية على ما قبلها وهو معرفة الضابط المعول عليه في مأخذ الفهم في التفسير على الاعتدال والتوسط 265 وفي الحاشية نوع تلخيص أو إعادة للمسألة السابقة 265 تبيان الموضوع وتوضيحه واعتماده على جمع الآيات وفهمها بحسب مساقها وحسب نزولها وسبب نزولها 266 النزول القرآني له اعتباران من جهة تعدد القضايا ومن جهة النظم 267 فهم اعتبار النظم القرآني في ترتيب القرآن مع تفرق نزول السور والسورة الواحدة 268 السور المكية مقررة لثلاثة معانٍ: 269 أولًا: التوحيد ويأتي على وجوه 269 ثانيًا: تقرير النبوة 270 ثالثًا: إثبات أمر البعث والدار الآخرة 270 بيان ما افتتحت به سورة المؤمنون: 270 أولًا: بَيَانُ الْأَوْصَافِ الْمُكْتَسَبَةِ لِلْعَبْدِ الَّتِي إِذَا اتَّصَفَ بها رفعه الله وأكرمه 271 ثانيًا: بيان أصل التكوين للإنسان 271 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 ثالثًا: بيان وجوه الإمداد مِنْ خَارِجٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فِي التَّرْبِيَةِ والرفق 271 سرد القصص الواردة في سورة المؤمنون 271-274 سبب ذكر قصص الأنبياء في القرآن 274 فصل: مآخذ القرآن فِي النَّظَرِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ سُوَرِهِ كَلَامٌ واحد 274 مناقشة المصنف في ادعاء أن كلام الله -كله- كَلَامٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَلَا باعتبار وسياق المسألة 274 المسألة الرابعة عشرة: القرآن ذم إعمال الرأي 276 التحذير من تفسير القرآن بالرأي 276-277 أقسام الرأي: أَحَدُهُمَا: جَارٍ عَلَى مُوَافَقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمُوَافَقَةِ الكتاب والسنة 277 سبب عدم جواز إهمال هذا القسم من الرأي 277-279 عدم قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- من تفسير كثير من الآيات 278 حمل أهل البدع تفسير القرآن بأهوائهم 278-279 الرأي غير الجاري على موافقة العرب أو غير الجاري على الأدلة الشرعية 279-280 سرد أدلة على ذم هذا الرأي 280-282 فصل: فوائد ما سبق وتلخيص له من المصنف: 283 مِنْهَا: التَّحَفُّظُ مِنَ الْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلا على بينة 283 تبيان طبقات النَّاسَ فِي الْعِلْمِ بِالْأَدَوَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي التفسير: 283 إِحْدَاهَا: مَنْ بَلَغَ فِي ذَلِكَ مَبْلَغَ الرَّاسِخِينَ كالصحابة والتابعين 284 الثانية: من علم في نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبَالِغَهُمْ وَلَا دَانَاهُمْ 284 الثالثة: مَنْ شَكَّ فِي بُلُوغِهِ مَبْلَغَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ 284 ومن الفوائد، مَنْ تَرَكَ النَّظَرَ فِي الْقُرْآنِ وَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ وَوَكَّلَ إِلَيْهِ النَّظَرَ فِيهِ غَيْرُ مَلُومٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ سَعَةٌ إِلَّا فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَعَلَى حكم الضرورة 284 وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ النَّاظِرِ وَالْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ تَقْصِيدٌ مِنْهُ للمتكلم، والقرآن كلام الله 284-285 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 الدليل الثاني: السنة 287 المسألة الأولى: تعريف السنة وإطلاقاتها الأربع 289 هل فعل الصحابي يطلق عليه ذلك؟ 290 تعزير شارب الخمر وحده 291 تضمين الصناع 291 الاستحسان والسنة 291-292 جمع القرآن وسنة الصحابة 292 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُتْبَةُ السُّنَّةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْكِتَابِ في الاعتبار 294 الدليل الأول: قطعية الكتاب وظنية السنة 294 مناقشة المصنف في ادعائه أن السنة ظنية 294-295 الدليل الثاني: بيان السنة للقرآن أو زيادة على ذلك 296 مناقشة أخرى للمصنف في دليله الثاني 296-297 الدليل الثالث: ما ورد من الأحاديث والأخبار في ذلك 298 حديث معاذ وتخريجه تخريجًا موسعًا شاملًا لفقهه 298-307 سرد مجموعة أخرى من الأحاديث والآثار وتخريجها 307-308 الواجب والفرض عند الحنفية بالنسبة للكتاب والسنة 308-309 مناقشة الحنفية في ذلك السنة قاضية على الكتاب 309 التقديم عند التعارض واختلاف العلماء في ذلك 310 توضيح معنى قضاء السنة على الكتاب 311 تبيان اختلاف الأصوليين عند التعارض 312-313 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ رَاجِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا إِلَى الكتاب 314 حصر المصنف السنة في بيان القرآن، ومناقشته في ذلك 314-316 القواعد دل القرآن عليها، وهل السنة كذلك؟ 316 تبيان استقلال السنة وأنها ليست بيانًا فقط 320 سرد الأدلة من القرآن والسنة والاستقراء العام 320-325 أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِتَابِ رَأْيُ قَوْمٍ لَا خلاق لهم 325-326 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 سرد مجموعة من الأدلة على ذم من أخذ بالقرآن دون السنة وعمل بالقرآن برأيه 326-330 توضيح بعض أوجه ما تقدم وإرجاع وظيفة البيان للسنة دون ما غيرها 331-339 المسألة الرابعة: 340 الأدلة القرآنية التي تأمر باتباع السنة 340 منها: ما هو عام وَكَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى أَخْذِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ وَلُزُومِ الِاتِّبَاعِ لَهَا 340 ذكر أمثلة من فعل السلف على تطبيق هذا المعنى وتخريجها 340-342 ومنها: الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث فِي بَيَانِ مَا أُجْمِلَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ 343-345 وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السُّنَّةِ عَلَى الْكَمَالِ زِيَادَةً إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ والشرح 346 أقسام المصالح الثلاث 346 أولها: الضروريات الخمس 347 حفظ الدين، والإسلام، والإيمان, والإحسان 347 وحفظ النفس ومعانيه الثلاثة 347-348 وحفظ النسل 348 وحفظ العقل 349 الحاجيات والتحسينيات 349 عودة إلى الضروريات الخمس مع التوسعة ورفع الحرج 350-351 ومنها: النظر في مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع 352 توضيح النظر في مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين353 أمثلة على ذلك: الطيبات والخبائث 354-357 والمشروبات حلالها وحرامها 358-361 الصيد من الجارح المعلم 361-364 صيد المحرم بالحج 364 الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ قَدْ بَيَّنَهُ القرآن، وجاءت بينهما أمور ملتبسة بينتها السنة 366-370 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 النكاح والزنى ونكاح التحليل 370 ميتة البحر بين الصيد والأطعمة 371 القصاص وقتل الخطأ 374 ذكاة الجنين 375-376 إرث البنات 377 مجال القياس: أمثلة 379 الربا 379-382 النكاح: الجمع بين الأم وابنتها والأختين 383 الماء: الطهورية 383 الديات 383 الفرائض المقدرة 384 الرضاعة 385 تحريم مكة والمدينة 386-388 الشهادات، شهادة النساء 389 البيوع والإجارات 390 الرؤى الصالحة 391 وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا يَتَأَلَّفُ مِنْ أَدِلَّةِ القرآن المتفرقة من معانٍ مجتمعة 392 وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى تَفَاصِيلِ الْأَحَادِيثِ فِي تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَّةِ بَيَانٌ زَائِدٌ 393 مناقشة حول هذه النقطة 393-394 مناقشة الأدلة في ذلك 395 حديث تطليق الحائض 395 وحديث سكنى المطلقة ثلاثًا ونفقتها 395 عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 396 تحريف كلام الله من اليهود 397 اتخاذ مقام إبراهيم مصلى 398 الدعاء 398 الصيام والفجر 398 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 الصلاة الوسطى 399 الجنة والنار 400 الكبائر 401 اكتمال فهم القرآن بالسنة 401-402 فصل: تبيان أن القرآن يحوي أصل الدين وأن السنة بيان لها فقط 402 المسألة الخامسة: بيان السنة للقرآن فيما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف 406 أما ما يتعلق بالإخبار عَمَّا كَانَ أَوْ مَا يَكُونُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا إِذْنٌ فعلى ضربين: 406 الضرب الأول: أَنْ يَقَعَ فِي السُّنَّةِ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ لِلْقُرْآنِ 406 ذكر أمثلة على ذلك وتخريجها 406-416 الضرب الثاني: أَنْ لَا يَقَعَ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ، وَلَا فِيهِ معنى تكليف اعتقادي أو عملي 417 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: 419 السُّنَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ: قول وفعل وإقرار 419 الفعل والترك والكف 419 أوجه وقوع الترك: 423 الترك لأجل الكراهية طبعًا 423 الترك لحق الغير 423 الترك خوف فهم الافتراض من الناس 423 الترك لما لا حرج في فعله 424 تَرْكُ الْمُبَاحِ الصِّرْفِ إِلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ 426 التَّرْكُ لِلْمَطْلُوبِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ من مصلحة ذلك المطلوب 428 مناقشة الأوجه السابقة 429-434 فصل: الإقرار معناه: لا حرج في الفعل الذي أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- بسماعه أو برؤيته 434 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 المسألة السابعة: 438 مقارنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للفعل أعلى درجات التأسي 438 وأقل منه إذنه مع عدم فعله 440 المسألة الثامنة: 443 الإقرار وموافقة الفعل في مرتبة القول مع الفعل 443 المسألة التاسعة: سنة الصحابة سنة يعمل بها ويرجع إليها: 446 الدليل الأول: ثناء الله عليهم وتوضيح الدليل 447-448 الدليل الثاني: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ وتخريج ذلك 449-456 الدليل الثالث: أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَدَّمُوا الصَّحَابَةَ عِنْدَ تَرْجِيحِ الأقاويل 456 الدليل الرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ إِيجَابِ محبتهم وذمّ من أبغضهم 462-463 المسألة العاشرة: 464 صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر انبنى عليه تكليف، أو لم ينبنِ 464 خصائص النبي, صلى الله عليه وسلم 469 عصمة النبي, صلى الله عليه وسلم 470 علم الغيب 471 الاستدراكات 475 الموضوعات والمحتويات 477 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 المجلد الخامس كتاب الاجتهاد مدخل ... [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ] 1 كِتَابُ الِاجْتِهَادِ: وَلِلنَّظَرِ فِيهِ [ثَلَاثَةُ] 2 أَطْرَافٍ. أ- طَرَفٌ يتعلق بالمجتهد3 من جهة4 الاجتهاد. ب- طرف5 يَتَعَلَّقُ بِفَتْوَاهُ. ج- وَطَرَفٌ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِيهِ بإعمال قوله والاقتداء به.   1 ما بين المعقوفتين زيادة من "د". 2 زيادة في نسخة "ماء." 3 في "ط": "بالمجتهدين". 4 أي من جهة تنوعه إلى عام وخاص، ومن جهة ما يتحقق به الخاص من الوسائل، وما يصح فيه الاجتهاد وما لا يصح، وأسباب خطأ المجتهد، إلى غير ذلك "د". 5 هذه المرتبة متفرعة على ما قبلها، والطرف الثالث لا يبعد في مقصوده عن هذا الثاني. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 الطرف الأول: في الاجتهاد ... الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاجْتِهَادُ1 عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَتَّى يَنْقَطِعَ أَصْلُ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَالثَّانِي: يُمْكِنُ أَنْ ينقطع قبل فناء الدنيا.   1 الاجتهاد هو استفراغ الجهد وبذل غاية الوسع، إما في درك الأحكام الشرعية، وإما في تطبيقها، فالاجتهاد في تطبيق الأحكام هو الضرب الأول الذي لا يخص طائفة من الأمة دون طائفة، وهو لا ينقطع باتفاق، والاجتهاد في درك الأحكام هو الضرب الثاني الذي يخص من هو أهل له، وقد اختلفوا في إمكان انقطاعه، فقال الحنابلة: لا يخلو عصر من مجتهد، وقال الجمهور: يجوز أن يخلو، وهو مذهب المنصور؛ لأنه لا يلزم عنه محال لذاته، وللأدلة السمعية الكثيرة كقوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ... " الحديث "د". قلت: مضى تخريج الحديث "1/ 97"، وهو صحيح. وانظر في تعريف الاجتهاد ومباحثه عند الأصوليين: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111، 254، 255 و20/ 202 و22/ 299، 230 و29/ 153"، و"مختصر الطوفي" "173"، و"مختصر البعلي "163"، و"شرح الكوكب المنير/ 4 458"، و"روضة الناظر" "2/ 401 - مع شرح ابن بدران"، و"الإحكام" "4/ 62" للآمدي، و"المستصفى" "2/ 350"، و"التلويح على التوضيح" "3/ 62"، و"كشف الأسرار" "4/ 14"، و"الإحكام" "1/ 41 و2/ 155" لابن حزم، و"شرح تنقيح الفصول" "429"، و"نهاية السول" "3/ 233"، و"الحدود" "64" للباجي، و"فواتح الرحموت" "2/ 362" و"إرشاد الفحول" "250". وانظر في إمكان انقطاعه: "جمع الجوامع"2/ 416"، و"التقرير والتحبير" "3/ 339"، و"تيسير التحرير" "4/ 240-241"، و"مسلم الثبوت" "2/ 399"، وشرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 308"، و"البحر المحيط" "6/ 209 وما بعدها" للزركشي، و"الإحكام" "4/ 233" للآمدي، و"إرشاد الفحول" "253"، و"المسودة" "472"، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" "191"، و"صفة الفتوى" "17" لابن حمدان، "والإمام أحمد بن حنبل" "ص395" لأبي زهرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ الِاجْتِهَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِتَحْقِيقِ1 الْمَنَاطِ، وَهُوَ الَّذِي لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي قَبُولِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِمُدْرَكِهِ الشَّرْعِيِّ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ2 مَحَلِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ إِذَا قَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاقِ: 2] وَثَبَتَ عِنْدَنَا مَعْنَى الْعَدَالَةِ3 [شَرْعًا افترقنا إلى تعيين من حصلت   1 قال في "المنهاج": "تحقيق المناط هو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، أي إقامة الدليل على وجودها فيه، كما إذا اتفقا على أن العلة في الربا هي القوت، ثم يختلفان في وجودها في التين حتى يكون ربويًا" ا. هـ. وهذا لا يلزمه أن تكون العلة فيه ثبتت بالنص أو الإجماع، بل بأي طريق من الطرق التسعة تثبت، كما أنه لا يندرج فيما يسمى قياسًا، بل هو مجرد تطبيق الكلي على جزئياته. "د". وكتب "ف" و"م" هنا ما نصه: "تحقيق المناط عند الأصوليين أن يقع الاتفاق على كلية وصف بنص أو إجماع؛ فيجتهد الناظر في وجوده في صورة النزاع التي خفي فيها وجود العلة، كتحقيق أن النباش سارق؛ فالوصف -وهو السرقة- علم أنه مناط الحكم، وبقي النظر في تحقيق وجوده في هذه الصورة، قال الغزالي: "وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة"، والمصنف توسع فيه إلى [وفي "م": على] ما ترى". قلت: انظر في ذلك: "الإحكام" "3/ 435" للآمدي، و"البحر المحيط" "3/ 268"، و"تيسير التحرير" "4/ 42-43"، و"المحلي على جمع الجوامع" "3/ 293"، "3/ 293"، "والإبهاج" "3/ 57"، و"نشر البنود" "2/ 207"، و"إرشاد الفحول" "222"، و"شرح اللمع" "2/ 815"، و"مباحث العلة في القياس" "517"، و"مجموع فتاوي ابن تيمية" "13/ 111، 254، 255 و22/ 329/ 330". 2 أي: في تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية، سواء أكان نفس الحكم ثابتًا بنص أم إجماع أم قياس. "د". 3 وهي ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، وملازمة التقوى تكون باجتناب الكبائر، والمروءة صون النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس، والشرط في الرواية والشهادة أدناها، وهو ترك الكبائر، وترك الإصرار على صغيرة، وترك الإصرار على ما يخل بالمروءة، هكذا عرفها الأصوليون، وعليه لا يدخل: "الطرف الآخر" الذي ذكره في جزئياتها، وهو ظاهر، وإن أوهم قوله: "وطرف آخر" غير ذلك؛ إلا أنه قوله: "في الخروج عن مقتضى الوصف" يكشف عن قصده، وهو أن = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 فِيهِ هَذِهِ الصِّفَةُ وَلَيْسَ النَّاسُ فِي وَصْفِ الْعَدَالَةِ] 1 عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا؛ فَإِنَّا إِذَا تَأَمَّلْنَا الْعُدُولَ وَجَدْنَا لِاتِّصَافِهِمْ بِهَا طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةً: "طَرَفٌ أَعْلَى" فِي الْعَدَالَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، و"طرف آخَرُ" وَهُوَ أَوَّلُ دَرَجَةٍ فِي الْخُرُوجِ عَنْ مُقْتَضَى الْوَصْفِ؛ كَالْمُجَاوِزِ لِمَرْتَبَةِ الْكُفْرِ إِلَى الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، فَضْلًا عَنْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ الْمَحْدُودِينَ فيها، و"بينهما" مَرَاتِبُ لَا تَنْحَصِرُ، وَهَذَا الْوَسَطُ غَامِضٌ، لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ بُلُوغِ حَدِّ الْوُسْعِ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ. فَهَذَا مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَاهِدٍ، كَمَا2 إِذَا أَوْصَى بِمَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ اسْمُ الْفَقْرِ3؛ فَهُوَ   = من ثبت له مجرد كونه مسلمًا ولم ينقض وقت ما تحقق فيه بعد من اتصافه بالعدالة المحتاج إلى مدة يعرف فيها تجاه نفسه للخير أو الشر، مثل هذا ليس بعدل؛ إلا أنه أقل درجة في الخروج عن العدالة، ويزيد عنه في الخروج عنها من حد في كبيرة.. إلخ، ولو جعل الطرف الآخر أقل من تحقق فيه العدالة، ثم جعل بينه وبين عدالة أبي بكر مراتب كثيرة؛ لكان أوضح من هذا الصنيع الموهم، فإن أحد الطرفين من العدالة، والآخر خارج، وليس هذا مألوفا في التعبير عن الوسط والطرفين؛ فقوله: "وطرف آخر"؛ أي: خارج عنها، وقوله: "غامض"؛ أي: لا سيما في تطبيق الجزء الثاني من حد العدالة وهو المروءة. "د". قلت: وقد ناقش الصنعاني التعريف الذي ذكره الشارح لـ"العدالة"-وهو ما درج عليه الأصوليون وأصحاب المصطلح- نقاشًا قويًا في كتابه "ثمرات النظر"، انظره بتعليقنا، أما المروءة وحدها وخوارمها، فينظر "المروءة وخوارمها" بقلمي، وينظر أيضًا: "توضيح الأفكار" "2/ 119، 149"، و"الاختيارات العلمية" لابن تيمية "356-357"، و"الإضافة، دراسات حديثية" "ص11-86". 1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبته من "ط" والنسخ المطبوعة. 2 ولعله: "وكما". "ف". وأثبتها "م" بالواو. 3 إنما يتمشى كلامه في هذا المقام على رأي المالكية، من أن الفقير هو من يملك قوت عامه، والمسكين من لا يملك شيئًا، وهذا إذا ذكرا معًا، فإذا افترقا -كما هنا- اجتمعا؛ فالفقير هنا يشملها معًا، فالصورة الأولى وهي من لا شيء له من كسب ولا مال يتحقق فيها الوصف العام؛ = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا حَاجَةَ بِهِ وَلَا فَقْرَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا، وَبَيْنَهُمَا وَسَائِطُ؛ كَالرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الشَّيْءُ وَلَا سَعَةَ لَهُ؛ فَيَنْظُرُ فِيهِ: هَلِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْفَقْرِ أَوْ حُكْمُ الْغِنَى؟ وَكَذَلِكَ فِي فَرْضِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْقَرَابَاتِ؛ إِذْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى النَّظَرِ فِي حَالِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُنْفِقِ1، وَحَالِ الْوَقْتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ بِحَصْرٍ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقَوْلِ فِي آحَادِهَا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَغْنَى ههنا بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ الْمُقَلَّدِ فِيهِ، وَالْمَنَاطُ هُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ؛ لِأَنَّ كُلَّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ النَّازِلَةِ نَازِلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فِي نَفْسِهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا نَظِيرٌ، وَإِنْ تَقَدَّمَ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ إِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ في كونها مثلها أولا، وَهُوَ نَظَرٌ اجْتِهَادِيٌّ2 أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَا فِيهِ حُكُومَةٌ مِنْ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَنُصَّ3 عَلَى حُكْمِ كُلِّ جُزْئِيَّةٍ عَلَى حِدَتِهَا، وَإِنَّمَا أَتَتْ بِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ تَتَنَاوَلُ أَعْدَادًا لَا تَنْحَصِرُ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلِكُلِّ مُعَيَّنٍ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ وَلَوْ فِي نَفْسِ التَّعْيِينِ، وليس ما به   = فدخولها في الوصية ظاهر، والصورة الثانية من عنده كسب أو مال يكفيه حاجاته طول العام، وإن لم يبلغ المال نصابًا، وخروجه عن الوصية ظاهر، والصورة الثالثة من له كسب أو مال ولو كان زائدًا عن النصاب لكنه يضيق عن حاجاته؛ فهذا محل نظر؛ لأن الحاجات تختلف، فقد يعد بعض الناس فقد شيء من المعيشة ضيقًا وحرجًا، وقد لا يعده الآخر شيئًا مطلقًا ولا يخطر بباله فقده، وما جرى عليه كلامه غير ما عليه الحنفية من اعتبار النصاب وعدمه في الفقر والغنى، وهم لا يعتبرون الكسب أيضًا، والشافعية كالمالكية في اعتبار الكسب، ولكنهم ينظرون في ضابط الغنى بالمال إلى ما يكفيه عمره الغالب من تلزمه نفقته. "د". 1 النظر إلى حالهما معًا هو مذهب مالك، وقوله: "وحال الوقت" يرجع إلى ما قبله؛ لأن النظر في حالهما معتبر فيه الوقت، فليس زائدًا على ما تقرر في الفروع. "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "اجتهاد". 3 في "ماء": "تقضي". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 الِامْتِيَازُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ طَرْدِيٌّ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ ذَلِكَ مُنْقَسِمٌ إِلَى الضَّرْبَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا قِسْمٌ ثَالِثٌ يَأْخُذُ بِجِهَةٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَلَا يَبْقَى صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ الْوُجُودِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ إِلَّا وَلِلْعَالِمِ فِيهَا نَظَرٌ سَهْلٌ أَوْ صَعْبٌ، حَتَّى يُحَقِّقَ تَحْتَ أَيِّ دَلِيلٍ تَدْخُلُ، فَإِنْ أُخِذَتْ بِشُبَهٍ1 مِنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَالْأَمْرُ أَصْعَبُ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ لِمَنْ شَدَا2 فِي الْعِلْمِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ3 الْقَضَائِيَّةِ "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"4؛ فَالْقَاضِي لَا يُمْكِنُهُ الْحُكْمُ فِي واقعة -بل لا يمكنه توجيه   1 في الأصل: "بشبهة". 2 أي: أحسن منه طرفًا، والشدو: كل شيء قليل من كثير، والشادي: الذي يتعلم شيئًا من العلم والأدب والفتيا ونحو ذلك. "ف". ومن الخطأ "الشادِّين" بتشديد الدال. 3 في "ماء": "الفوائد". 4 ويروى على أنه حديث نبوي، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى" "10/ 252" من طريق أبي القاسم الطبراني عن الفريابي ثنا سفيان عن نافع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعي رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة به"، وقال: "قال أبو القاسم: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي". قلت: وأخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة ... ، رقم 2514، وكتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، رقم 2668، وكتاب التفسير، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} ، رقم 4552"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، رقم 1711" بلفظ: "واليمين على المدعى عليه" دون "البينة على المدعي"، وذكرها من أخطاء سفيان أو الفريابي؛ فإن الجماهير رووه عن نافع دونها، انظر: "إرواء الغليل" "8/ 264-265/ رقم 2641"، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "35/ 391" في هذا الحديث بهذا اللفظ: "ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة". وبسط ذلك تلميذه ابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص87-88"، "110-111" ط العسكري" بكلام ماتع نافع؛ فقف عليه غير مأمور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 الحجاج ولا الطلب1 الْخُصُومِ بِمَا عَلَيْهِمْ- إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصْلُ2 الْقَضَاءِ، وَلَا يتعين ذلك بِنَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَرَدِّ الدَّعَاوَى إِلَى الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ بِعَيْنِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نَاظِرٍ وَحَاكِمٍ ومُفْتٍ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا سَمِعَ فِي الْفِقْهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْفِعْلِيَّةَ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَوْ مِنْ جِنْسِهَا إِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً فَمُغْتَفَرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَلَا، فَوَقَعَتْ لَهُ فِي صَلَاتِهِ زِيَادَةٌ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا حَتَّى يَرُدَّهَا إِلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ، فإذا تعين له قسمها   1 تفسير لما قبله؛ فإن معناه أنه لا يمكنه إدارة المحاجة بين الطرفين بدون ما ذكر. "د". وي "ط": "توجيه الحجج". 2 قال في "تبصرة الحكام" في القسم الثاني من الركن السادس في كيفية القضاء "1/ 98: "إن علم القضاء يدور على معرفة المعي من المدعى عليه؛ لأنه أصل مشكل، وأنهم لم يختلفوا في حكم كل منهما، ولكن الكلام في تمايزهما، ولهم في تحديدهما عبارات كثيرة: منها أن الأول من إذا ترك الخصومة ترك، أو من لا يستند قوله إلى مصدق، أو من لا يكون قوله على وفق أصل أو عرف، والثاني ما ليس كذلك؛ غير أن الأنظار تضطرب لتعارض الأحوال من عرف أو غالب أو أصل وهكذا، مثاله يتيم بلغ رشيدًا طلب من الوصي تسليمه ماله الذي تحت يده؛ فاليتيم طالب، وإذا ترك ترك، والأصل أمانة الوصي على مال اليتيم؛ فهذا كله يفهم منه أن اليتيم هو المدعي، والوصي مدعى عليه، ولكن الوصي أيضًا مدعٍ أنه سلم المال، واليتيم مدعى عليه التسلم، ومعلوم اختلاف الحكم باختلاف الاعتبارين، وما حل الإشكال إلا الرجوع لآية: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] التي يؤخذ منها أن الوصي لا يؤتمن في التسليم إلا بالإشهاد، وإن كان مؤتمنًا في نفس الإنفاق، وبذلك كان مجرد قوله: "سلمت" دعوى على اليتيم بلا بينة، واليتيم هو المدعى عليه؛ فيحلف اليمين ويستحق المال، قال القاضي شريح: "وَلِيت القضاء وعندي أني لا أعجز عن معرفة ما يتخاصم فيه إليَّ، فأول ما ارتفع إلى خصمان أشكل على من أمرهما من المدعي ومن المدعى عليه؟ " ا. هـ. ملخصًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 تَحَقَّقَ لَهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ؛ فَأَجْرَاهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَكْلِيفَاتِهِ، وَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ تَتَنَزَّلِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَّا فِي الذِّهْنِ؛ لِأَنَّهَا مُطْلَقَاتٌ وَعُمُومَاتٌ وَمَا يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، مُنْزَلَاتٌ عَلَى أَفْعَالٍ مُطْلَقَاتٍ كَذَلِكَ، وَالْأَفْعَالُ لَا تَقَعُ فِي الْوُجُودِ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا تَقَعُ مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً؛ فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ وَاقِعًا عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ أَوْ ذَلِكَ الْعَامُّ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَهْلًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَكُلُّهُ اجْتِهَادٌ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا يَصِحُّ فِيهِ التَّقْلِيدُ، وَذَلِكَ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ إِذَا كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى الْأَنْوَاعِ لَا عَلَى الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنَةِ؛ كَالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَإِنَّ الَّذِي جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [الْمَائِدَةِ: 95] . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اعْتِبَارِ الْمِثْلِ؛ إِلَّا أَنَّ الْمِثْلَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ نَوْعِهِ، وَكَوْنِهِ مَثَلًا لِهَذَا النَّوْعِ الْمَقْتُولِ؛ كَكَوْنِ الْكَبْشِ مَثَلًا لِلضَّبْعِ، وَالْعَنْزِ مَثَلًا لِلْغَزَالِ، وَالْعَنَاقِ1 مَثَلًا لِلْأَرْنَبِ، وَالْبَقَرَةِ مَثَلًا لِلْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ، وَالشَّاةِ مَثَلًا لِلشَّاةِ مِنَ الظِّبَاءِ، وَكَذَلِكَ الرَّقَبَةُ الْوَاجِبَةُ2 فِي عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ، وَالْبُلُوغُ3 فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا الِاجْتِهَادَ فِي الْأَنْوَاعِ لَا يُغْنِي عَنِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ4 فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ   1 بفتح أوله: دابة فوق الكلب الصيني، يصيد كما يصيد الفهد، ويأكل اللحم، وهو من السباع. "ف". 2 فقد ضبطها الأولون بأن تكون سليمة من مثل الشلل والعور والبكم. "د". 3 كما ضبطوا بلوغ الأنثى بالحيض وما معه، وبلوغ الذكر بالإنزال وما معه. "د". 4 قال في "المنهاج" بصدد اعتراضه على بعض حدود الاجتهاد: "ويدخل فيه ما ليس باجتهاد في عرف الفقهاء؛ كالاجتهاد في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وجهة القبلة، وطهارة الأواني والثياب" ا. هـ. فقد أخرج هذه الأمثلة وكلها من باب تحقيق المناط عن أن تكون اجتهادًا = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 حُصُولُ التَّكْلِيفِ1 إِلَّا بِهِ، فَلَوْ فُرِضَ التَّكْلِيفُ مَعَ إِمْكَانِ ارْتِفَاعِ هَذَا الِاجْتِهَادِ؛ لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا، كَمَا أَنَّهُ غير ممكن عقلا، وهو   = خلافًا لصنيع المؤلف، وفي "إحكام الآمدي" ما يوافق طريقة المؤلف؛ فقد جعل تعرُّف شخص القبلة، وتعرف عدالة الشخص الفلاني من باب الاجتهاد وتحقيق المناط بعد ما عرفه بأنه النظر في معرفة وجود علة الحكم ومناطه في آحاد الصور، بعد معرفتها في نفسها، ومثل له أيضًا بالنظر في وجود علة شرب الخمر وهي الشدة المطربة في نوع النبيذ؛ فأنت ترى الآمدى قد أدخل هذه الصور في تحقيق المناط وجعله عامًا في الأشخاص والأنواع كما صنع المؤلف حيث يقول: "وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد إذا كان متوجهًا على الانواع". "د". 1 أي: لا يمكن توجه الخطاب إلا به، وتكون هذه دعوى دليلها ما بعدها، أو تجعل دليلًا للملازمة بعدها، ويكون المراد بحصوله حصول المكلف به مع قصده ونيته، أي: لا يتأتى امتثال التكليف إلا بمعرفة المكلف به وهي لا تكون إلا بهذا الاجتهاد، وهذا شرط لإمكان الامتثال وفقده رافع لهذا الإمكان؛ فيكون التكليف مع عدم إمكان الامتثال تكليفا بالمحال، والتكليف بالمحال غير واقع شرعًا، كما أنه غير ممكن عقلًا، وإنما يتم هذا بناء على أنه من باب تكليف المحال الراجع إلى المأمور لا إلى المأمور به، فهو نظير ما قيل في تكليف الغافل وأنه محال؛ لأن التكليف يعتمد العلم بالأمر وبالفعل المأتي به، وما نحن فيه -ما لم يحصل الاجتهاد المذكور- لا يحصل العلم بالمأتي به، أما التكليف بالمحال الذي يرجع المحال فيه إلى المأمور به وهو تكليف ما لا يطاق؛ فقد جعلوه خمسة أقسام: محال لذاته، ومحال للعادة، ومحال لطروء مانع كأمر المقيد بالمشي، وصححوا جواز التكليف بهذه الثلاثة وإن لم تقع، والرابع انتفاء القدرة عليه حالة التكليف مع وجودها حالة الامتثال، كما هو شأن جميع التكاليف عند الأشعري؛ لأن القدة عليه مقارنة للفعل، والخامس أن يكون عدم القدرة لتعلق علم الله بعدم حصوله كإيمان أبي جهل، وهذان واقعان، وبهذا اتضح كلام المؤلف. "د". قلت: انظر بسط ذلك في "المسوَّدة" "80"، و"مختصر الطوفي" "11"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 484"، و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"المستصفى" "1/ 86"، و"العضد على ابن الحاجب" "2/ 9"، و"المحلى على جمع الجوامع" "1/ 206 - مع حاشية البناني"، و"تيسير التحرير" "2/ 135"، و"روضة الناظر" "1/ 18 - مع شرح ابن بدران"، و"القواعد والفوائد الأصولية" "57"، و"فواتح الرحموت" "1/ 123، 132"، و"إرشاد الفحول "9". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 أَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ؛ فَثَلَاثَةُ1 أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْمُسَمَّى بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ2، وَذَلِكَ أَنْ يكون الوصف المعتبر في   1 الاجتهاد يكون في كل ما دليله ظني من الشرعيات؛ فيكون في دلالات الألفاظ كالبحث عن مخصص العام، والمراد من المشترك وباقي الأقسام التي في دلالتها عى المراد خفاء، من المشكل والمجمل .... إلخ، كما يكون في الترجيح عند التعارض، إلى غير ذلك، وسيأتي للمؤلف كلام في مجال الاجتهاد؛ فقارنه بما هنا، وتأمل وجه حصره هنا فيما ذكره من تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه، وما بناه على ذلك من حصر ما يمكن انقطاعه فيما ذكره في الضرب الثاني. "د". 2 تنقيح المناط عندهم أن يدل نص ظاهر عل التعليل بوصف، أو يكون أوصاف في محل الحكم دل عليها ظاهر النص؛ فيجتهد الناظر في حذف خصوص الوصف أو بعضها، وينيط الحكم بالأعم أو بالباقي، وحاصله الاجتهاد في الحذف والتعيين، ويمثل له بحديث الأعرابي الذي قال: واقعت أهلي في نهار رمضان. فقال له صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة"؛ فإن أبا حنيفة ومالكًا رضي الله عنهما حذفا خصوص المواقعة، وأنا الكفارة بمطلق الإفطار، كما حذف الشافعي رضي الله عنه غيرها من أوصاف المحل؛ ككون الواطئ أعرابيًا، وكون الموطوءة زوجة، وكون الوطء في القبل من الاعتبار وأناط الكفارة بها. "ف". قال "ماء": "التنقيح مأخوذ من تنقيح النخل، وهو إزالة ما يستغنى عنه وإبقاء ما يحتاج إليه، وكلام منقح لا حشو باطنًا، ولا في الظواهر" ا. هـ. قلت: وحديث الأعرابي المذكور أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 1937/ 2600، 5368، 6087، 6164، 6710، 6709، 6711، 6821"، ومسلم في "الصحيح" "2/ 871-783/ رقم 1111"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2390، 2393"، والترمذي في "الجامع" "رقم 724"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 1671"، والنسائي في "الكبرى"؛ كما في "التحفة" "9/ 327"، وأحمد في "المسند" "2/ 241، 516" عن أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر الهامش الآتي. وانظر: تنقيح المناط في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 478، 19/ 14-17، 22/ = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 الْحُكْمِ مَذْكُورًا مَعَ غَيْرِهِ فِي النَّصِّ؛ فَيُنَقَّحُ بِالِاجْتِهَادِ، حَتَّى يُمَيَّزَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مِمَّا هُوَ مُلْغًى، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَاءَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَضْرِبُ صَدْرَهُ1. وَقَدْ قَسَّمَهُ2 الْغَزَالِيُّ إِلَى أَقْسَامٍ ذَكَرَهَا فِي "شِفَاءِ الغليل"3، وهو مبسوط   330، 21/ 326-329، 547، 34/ 122"، - ويبن أن الصواب أنه ليس من باب القياس-، و"المسودة" "387 "، و"مختصر الطوفي" "146"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 203"، و"روضة الناظر" "277"، و"المستصفى" "2/ 231"، و"شفاء الغليل" "412"، و"الإحكام" "3/ 436" للآمدي، و"نهاية السول" "3/ 74"، و"الإبهاج" "3/ 56"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 292"، و"تيسير التحرير" "4/ 42"، والمحصول" "2/ 2/ 315"، والتلويح على التوضيح "2/ 580"، ومفتاح الوصول" "147"، و" المحصول" "2/ 315"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 580"، و"مفتاح الوصول" "147"، و"نشر البنود" "2/ 204"، و"إرشاد الفحول" "221"، و"مباحث العلة في القياس" "507" وما بعدها". 1 حديث الأعرابي مضي تخريجه في الهامش السابق، ولفظه -كما عند أحمد في الموطن الثاني: عن أني هريرة؛ أن أعرابيًا جاء يلطم وجهه، وينتف شعره، ويقول: ما أراني إلا قد هلكت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أهلكك؟ ". قال: أصبت أهلي في رمضان. قال: "أتستطيع أن تعتق رقبة؟ ". قال: لا. قال: "أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ ". قال: لا. قال: "أتستطيع أن تطعم ستين مسكنًا؟ ". قال: لا. وذكر الحاجة، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزنبيل -وهو المكتل فيه خمسة عشر صاعًا- أحسبه تمرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الرجل؟ ". قال: "أطعم هذا". قال: يا رسول الله! ما بين لابتيها أحد أحوج منا أهل بيت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، قال: "أطعم أهلك". 2 قسموه باعتبار طرق الحذف إلى أربعة أنواع: أ- ما بين إلغاء بعض الاوصاف بثبوت الحكم بالباقي في محل آخر؛ فيلزم استقلال المستبقي وعدم جزئيه المغلى. ب- وبكونه مما علم إلغاؤه مطلقًا في أحكام الشارع، كالاختلاف بالطول والقصر والسواد والبياض؛ فلا يعلل بها حكم أصلًا. ج- أو علم إلغاؤه في هذا الحكم المبحوث عنهه؛ كالذكورة والأنوثة في أحكام العتق. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، قَالُوا: وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ بَابِ الْقِيَاسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ إِنْكَارِهِ1 الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ راجع إلى نوع من تأويل الظاهر. وَالثَّانِي: الْمُسَمَّى بِتَخْرِيجِ2 الْمَنَاطِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أن النص الدال على   = د- أو ألا يظهر للوصف المنظور في حذفه مناسبة بينه وبين الحكم بعد البحث عنها؛ قال في "المنهاج" "2/ 705 - مع شرح الأصفهاني": "قال في" "المحصول" "5/ 230": إن هذا- أعني المسمى بتنقيح المناط الذي يبين به إلغاء الفارق -طرق جيد؛ إلا أنه بعينه طريق السبر والتقسيم من غير تفاوت، هذا وفي أصول الحنفية أنهم لم يقبلوا الطريق الرابع منه، وما قيل إنه هو السبر والتقسيم بعينه هو قول الفخر الرازي، ورد بالفرق الظاهر؛ فالسبر لتعيين العلة استقلالًا أو اعتبارًا، والتنقيح لتعيين الفارق وإبطاله لا لتعيين العلة، قال الصفي الهندي: الحق أنه قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس؛ فالقياس إما بذكر الجامع، أو بإلغاء الفارق، بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا، وكذا لا مدخل له في العلية كما في إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق، يقال: لا فرق إلا الذكورة، وهي ملغاة اتفاقًا، ولما قال الغزالي: لا نعرف خلافًا في جواز تنقيح المناط؛ رد عليه العبدري بأن الخلاف ثابت بين مثبتي القياس ومنكريه لرجوعه للقياس، وهذا ولما قسموا القياس إلى قياس علة وقياس دلالة وقياس في معنى الأصل؛ قالوا: إن هذا هو القياس بنفي الفارق". "د". 3 انظر منه: "ص428 وما بعدها". 1 قال الآمدي: "وهذا الضرب وإن أقر به أكثر منكري القياس؛ فهو دون الأول، أعني تحقيق المناط. "د". وكتب "ف" هنا ما نصه: "وسماه استدلالًا وفرق بينه وبين القياس بأن القياس ما كان الإلحاق فيه بجامع يفيد غلبة الظن، والاستدلال ما كان بجامع يفيد القطع". 2 وذلك كالاجتهاد في إثبات أن الشدة المطربة هي علة حرمة الخمر مثلًا بمسلك من مسالك العلة المعتبرة، وككون القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص حتى يقاس على ذلك كل ما سواه؛ فهو نظر واجتهاد في معرفة علة حكم دل النص أو إجماع عليه دون علته، وهذا في الرتبة دون سابقيه، ولذا أنكره أهل الظاهر والشيعة وطائفة من البغداديين المعتزلة. قال"ماء": "المناط؛ بفتح الميم: من الإناطة، وهي تعليق الشيء على الشيء وإلصاقه به، قال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 الْحُكْمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنَاطِ؛ فَكَأَنَّهُ أُخْرِجَ بِالْبَحْثِ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ1 الْقِيَاسِيُّ، وَهُوَ مَعْلُومٌ. وَالثَّالِثُ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ2 ضربان:   = وقال أبو تمام: بلاد بها نيطت علي تمايمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمًا أن تصوب سحابها وسمي به؛ لأن العلة ربط بها الحكم وعلق عليها. قاله [في] "نشر البنود" [2/ 204] ". وكتب "ف" هنا ما نصه: "تخريج المناط هو إبداء ما نيط به الحكم، أي استنباطه وتعيينه بإبداء مناسبة بينه وبين الحكم مع الاقتران بينهما، والسلامة من القوادح؛ كاستنباط الإسكار في حديث مسلم: "كل مسكر حرام" بالنظر في الأصل, وحكمه ووصفه، فإن مجرد النظر في ذلك يعلم منه أن الإسكار لإزالته العقل حفظه، مناسب للحرمة، وقد اقترن بها، وسلم من القوادح" انتهى. قلت: مضى تخريج حديث "كل مسكر حرام" في "4/ 34"، وهو صحيح. وانظر في تخريج المناط: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 17-18 و22/ 337". و"روضة الناظر" "278"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 200-202"، و"مختصر الطوفي" "146"، و"الإحكام" "3/ 436" للآمدي، و"المستصفى" "2/ 233"، و"الإبهاج" "3/ 58"، و"تيسير التحرير" "4/ 43"، و"شرح تنقيح الفصول" "389"، و"شرح العضد" "2/ 239"، و"مباحث العلة في القياس" "516-517". 1 هو بعضه، وإلا، ففي نوع القياس ذي العلة المنصوصة أو المجمع عليها لا يزال الاجتهاد القياسي موجودًا، وإن لم يدخل في مسمى تخريج المناط. "د". 2 لعل الأصل: "إلا أنه"؛ أي: إن هذا القسم من تحقيق المناط ضربان: ما يرجع للأنواع، وما يرجع للجزئيات، لكن بالمعنى الخاص الذي سيفيض الكلام فيه، وهذان حكمهما حكم القسمين الأولين، يجوز انقطاعهما ولا يؤدي إلى ممنوع، وأما ما يرجع للجزئيات لكن بالمعنى العام الذي يستوي فيه المكلفون وينظر إليهم بنظر واحد، فهذا لا يجوز انقطاعه كما تقدم له هذا تخليص كلامه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَنْوَاعِ لَا إِلَى الْأَشْخَاصِ، كَتَعْيِينِ1 نَوْعِ الْمَثَلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَنَوْعِ الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَمَا أشبه ذلك، وقد تقدم التنبيه عليه. الضرب الثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ مَنَاطٍ فِيمَا تَحَقَّقَ مَنَاطُ حُكْمِهِ، فَكَأَنَّ تَحْقِيقَ2 الْمَنَاطِ عَلَى قِسْمَيْنِ: - تَحْقِيقٌ عَامٌّ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ. - وَتَحْقِيقٌ خَاصٌّ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوَّلَ نَظَرٌ فِي تَعْيِينِ الْمَنَاطِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لِمُكَلَّفٍ مَا، فَإِذَا نَظَرَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَدَالَةِ مَثَلًا، وَوَجَدَ هَذَا الشَّخْصَ مُتَّصِفًا بِهَا عَلَى حَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ، أَوْقَعَ3 عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِيهِ النَّصُّ مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَنُوطَةِ بِالْعُدُولِ، مِنَ الشَّهَادَاتِ وَالِانْتِصَابِ لِلْوِلَايَاتِ4 الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ وَهَكَذَا إِذَا نَظَرَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي النَّدْبِيَّةِ، وَالْأُمُورِ الْإِبَاحِيَّةِ، وَوَجَدَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ، أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ تِلْكَ النُّصُوصِ، كَمَا يُوَقِّعُ عَلَيْهِمْ نُصُوصَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى شَيْءٍ5 غَيْرِ الْقَبُولِ الْمَشْرُوطِ بِالتَّهْيِئَةِ الظَّاهِرَةِ، فَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ فِي أَحْكَامِ تِلْكَ النُّصُوصِ عَلَى سَوَاءٍ فِي هَذَا النَّظَرِ. أَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ النَّظَرُ الْخَاصُّ، فَأَعْلَى مِنْ هَذَا وَأَدَقُّ، وَهُوَ فِي الحقيقة   1 في "د" و"ف" و"م": "كتعين"، والمثبت من الأصل و"ماء" و"ط". 2 أي: في الجزئيات كما أشرنا إليه. "د". 3 في "م": "أو وقع". 4 في "ط": "للولاية". 5 أي: مما سيشير إليه بقوله: "يعرف به النفوس ومراميها.. إلخ"، أي التي هي المعارف المتعلقة بطب النفوسن وهي وظيفة مشايخ الطريق في الزمن السابق، ويظهر أنه تحقق ما يريد المؤلف الاستدلال على إمكانه، وهو خلو الزمن عن أصحاب هذا الاجتهاد. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 ناشىء عَنْ نَتِيجَةِ التَّقْوَى الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 1. [الْأَنْفَالِ: 29] . وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [الْبَقَرَةِ: 269] . قَالَ مالك: "من شأن ابن آدم أن لا يَعْلَمَ ثُمَّ يَعْلَمَ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الْأَنْفَالِ: 29] 2. وَقَالَ أَيْضًا: "إِنَّ الْحِكْمَةَ مَسْحَةُ مَلَكٍ على قلب العبد"3. وقال أيضًا: "الْحِكْمَةُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ"4. وَقَالَ: "أَيْضًا يَقَعُ بِقَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَمْرٌ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْقُلُوبَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ"5. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ كِتَابَةَ الْعِلْمِ -يُرِيدُ مَا كَانَ نَحْوَ الْفَتَاوَى؛ فَسُئِلَ: مَا الَّذِي نَصْنَعُ؟ فَقَالَ: تَحْفَظُونَ وَتَفْهَمُونَ حَتَّى تَسْتَنِيرَ قُلُوبُكُمْ، ثُمَّ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَى الْكِتَابِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ نَظَرٌ فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ التَّكْلِيفِيَّةِ، بِحَيْثُ يَتَعَرَّفُ مِنْهُ مَدَاخِلَ الشيطان، ومداخل   1 أي: هداية ونورًا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل. "ماء". 2 أورد نحوه عن مالك القرطبي في "التفسير" "7/ 396"، وذكره القاضي عياض في "ترتيب المدراك" "1/ 186 - ط بيروت". 3 أورده القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 186". 4 أورده القاضي عياض في "المدارك" "1/ 186"، وذكر المصنف عن مالك نحوه "1/ 105"، وخرجناه هناك، وفاتنا عزوه للدوري فيما رواه الأكابر "ص62" ولأبي نعيم "6/ 319". 5 أورد القاضي عياض في "المدارك" "1/ 186". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الْهَوَى وَالْحُظُوظَ الْعَاجِلَةَ، حَتَّى يُلْقِيَهَا1 هَذَا الْمُجْتَهِدُ عَلَى ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ التَّحَرُّزِ مِنْ تِلْكَ الْمَدَاخِلِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّكْلِيفِ الْمُنْحَتِمِ وَغَيْرِهِ2. وَيَخْتَصُّ غَيْرُ الْمُنْحَتِمِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا يَصْلُحُ بِكُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ، بِحَسَبِ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَشَخْصٍ، دُونَ شَخْصٍ إِذِ النُّفُوسُ لَيْسَتْ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّهَا فِي الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ كَذَلِكَ، فَرُبَّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَدْخُلُ بِسَبَبِهِ عَلَى رَجُلٍ ضَرَرٌ أَوْ فَتْرَةٌ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخَرَ، وَرُبَّ عَمَلٍ يَكُونُ حَظُّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِلِ أَقْوَى مِنْهُ فِي عَمَلٍ آخَرَ، وَيَكُونُ بَرِيئًا مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَصَاحِبُ هَذَا التَّحْقِيقِ الْخَاصِّ هُوَ الَّذِي رُزِقَ نُورًا يَعْرِفُ بِهِ النُّفُوسَ وَمَرَامِيَهَا وَتَفَاوُتَ إِدْرَاكِهَا، وَقُوَّةَ تَحَمُّلِهَا لِلتَّكَالِيفِ، وَصَبْرَهَا عَلَى حَمْلِ أَعْبَائِهَا أَوْ ضَعْفَهَا، وَيَعْرِفُ الْتِفَاتَهَا إِلَى الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ أَوْ عَدَمَ الْتِفَاتِهَا، فَهُوَ يَحْمِلُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنْ أَحْكَامِ النُّصُوصِ مَا يَلِيقُ بِهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ فِي تَلَقِّي التَّكَالِيفِ، فَكَأَنَّهُ يَخُصُّ عُمُومَ الْمُكَلَّفِينَ وَالتَّكَالِيفِ بِهَذَا التَّحْقِيقِ، لَكِنْ مِمَّا ثَبَتَ عُمُومُهُ3 فِي التَّحْقِيقِ الْأَوَّلِ الْعَامِّ، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أَوْ يَضُمُّ قَيْدًا أَوْ قُيُودًا لِمَا ثَبَتَ له في الأول بعض القيود.   1 في "ماء": "يلتقيها". 2 فكل منها لا يدخله العجب به، والرياء، والسمعة، والاعتماد على العمل، وهكذا من تحميل النفس فيهما ما لا قدرة لها عليه؛ فيدخل بذلك في الضرر أو الحرج، فهذه القيود تخلص له العمل من تلك الشوائب. "د". وفي "ط": "المنحتم من غيره". 3 فتحقيق المناط العام المتقدم يلاحظ في هذا الخاص أيضًا؛ فمرتبة هذا الخاص تأتي بعد تحقيق العام في الشخص الذي ينظر فيه بالنظر الخاص، فلو لم يكن ممن ينطبق عليهم تعلق التكليف من الوجهة العامة بهذا النوع من العمل، لا يكون هناك محل للنظر الخاص في أنه يناسبه أو لا يناسبه.. إلخ "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 هَذَا مَعْنَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ هُنَا. وَبَقِيَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ قَدْ تَكَفَّلَ الْأُصُولِيُّونَ بِبَيَانِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ مُطْلَقِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ تَشَوَّفَ أَحَدٌ إِلَى خُصُوصِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؛ فَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَخَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَعَرَّفَ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، فَأَجَابَ بِأَجْوِبَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَوْ حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْ عُمُومِهِ لَاقْتَضَى مَعَ غَيْرِهِ التَّضَادَّ فِي التفضيل1، فَفِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ بِاللَّهِ". قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ" 2. وَسُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا". قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سبيل الله" 3.   1 في "ماء" "التفصيل" بالصاد المهملة. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، 1/ 77/ رقم 26، وكتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، 3/ 381/ رقم 1519"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 88/ رقم 83" عن أبي هريرة رضي الله عنه، والمذكورة لفظ مسلم، وزاد البخاري: "إيمان بالله ورسوله"، ولذ قال مسلم عقبه: "وفي رواية محمد بن جعفر قال: "إيمان بالله ورسوله". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، 6/ 3 رقم 2782"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 89/ رقم 85" عن ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ. قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ" 1. وَفِي التِّرْمِذِيِّ: [سُئِلَ] أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ"2. وَفِي "الصَّحِيحِ" فِي قَوْلِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ" .... إِلَخْ، قَالَ: "وَلَمْ يَأْتِ أحد بأفضل مما جاء به" الحديث3.   1 أخرجه النسائي في "المجتبى" كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب.. 4/ 165-166"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 5" وأحمد في "المسند" "5/ 248-249، 255، 258"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 7899"، والطبراني في "الكبير" "رقم 7463، 7464، 7465"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 1893"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 211، 212، 213/ رقم 3425، 2426 - الإحسان ورقم 929، 930 - موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 421"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" "رقم 1723" عن أبن أمامة، وإسناده صحيح. وفي "ماء": "لا مثيل له". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعاء، باب منه، 5/ 458/ رقم 3376"، وأحمد في "المسند" "3/ 75"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 981"، والبغوي في "شرحة السنة" "5/ 17/ رقم 1246، 1247" من طريق ابن ليهعة عن دراج أبي السمخ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، ولفظه: "أي العباد"، وليس: "أي الأعمال". قال الترمذي: "وهذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث دراج". قلت: في رواية دراج عن أبي الهيثم ضعف، ولذا الحديث ضعيف، وهو في "ضعيف سنن الترمذي" "رقم 670". ويغني عنه ما في "صحيح مسلم" "رقم 2676" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبق المفردون". قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذكرات". ولا يوجد فيه السؤال عن أفضل الأعمال ونحوه. 3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، 11/ 201/ = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 وَفِي النَّسَائِيِّ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ" 1. وَفِي الْبَزَّارِ: أَيُّ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ؟ قال: "دعاء المرء لنفسه"2.   = رقم 6403" عن أبي هريرة مرفوعًا: "من قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، له الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسن، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه". وفي "صحيح مسلم" "17/ 17-18 - بشرح النووي" عنه مرفوعًا: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مئة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه". وفي رواية لأبي داود في "سننه" "رقم 5091": "سبحان الله العظيم وبحمده". وانظر: "سلاح المؤمن" "ص271" لابن الإمام، و"الأذكار" للنووي: "1/ 220" تحقيق الأخ سليم الهلالي. 1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء، رقم 3370"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، رقم 3829" والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 712"، والطيالسي في "المسند" "1/ 253 - منحة"، وأحمد "2/ 362"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 490"، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 151-152/ رقم 870 - الإحسان"، والطبراني في "الأوسط" "3/ 252-253/ رقم 2544"، وفي "الدعاء" "رقم 28" من طريق عمران القطان عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عمران". قلت: إسناده حسن من أجل عمران القطان، وباقي رجاله ثقات، وفي عزو المصنف للنسائي نظر، بل هو خطأ، إذ لم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" "9/ 466/ رقم 12938"، ولا ابن الإمام في "سلاح المؤمن" "رقم 10"، ولا النووي في "الأذكار" "رقم 1166". 2 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 715"، والحاكم في المستدرك "1/ 543"، والبزار في "المسند" "4/ 51/ رقم 3173، 3174 - زوائده" من طريق مبارك بن حسان عن عطاء عن عائشة به. وإسناده ضعيف؛ لضعف المبارك بن حسان، انظر: "تهذيب التهذيب" "10/ 26" و"الكامل في "الضعفاء" "6/ 2324". وفي "ماء": "أي العبادات أفضل؟! ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وَفِي التِّرْمِذِيُّ: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْضَلَ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ" 1. وَفِي الْبَزَّارِ: "يَا أَبَا ذَرٍّ! أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى خَصْلَتَيْنِ هُمَا خَفِيفَتَانِ عَلَى الظَّهْرِ وَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ غَيْرِهِمَا؟ عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَطُولِ الصَّمْتِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا عمل الخلائق بمثلهما"2.   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، رقم 2003"، والطبراني في "من اسمه عطاء من رواة الحديث "رقم 13" من طريق طريف بن مطرف، وأحمد في "المسند" "6/ 442"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 468"-ولم يسق لفظه، وأبو نعيم "في الحلية" "7/ 107" من طريق الحسن بن مسلم، كلاهما عن عطاء الطيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء به، وإسناده صحيح. ورواه عن عطاء بنحوه: القاسم بن أبي بزة، وأخرجه من طريقه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، رقم 4799"، وابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 516"، وأحمد في "المسند" "6/ 446/ 448"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 270"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "ص9"، وابن أبي الدنيا في "التواضع" "رقم 173"، وتابع عطاء: يعلى بن مملك كما عند عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20157"، وا لترمذي في "الجامع" "رقم 2002"، وأحمد في "المسند" "6/ 451"، والبزار في "المسند" "رقم 1975 - زوائده" والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3496"، وابن أبي الدنيا في "التواضع" "رقم 172"، والحديث صحيح. 2 أخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 2"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 53/ رقم 3298"، والبزار في "المسند" "4/ 220/ رقم 3573 - زوائده"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 554"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 191"، والطبراني في "الأوسط" "رقم 7099" من طريق بشار بن الحكم عن ثابت البناني عن أنس مرفوعًا. إسناده ضعيف، بشار بن الحكم، قال أبو زرعة: "شيخ بصري منكر الحديث"، وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدًّا، ينفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه كأنه ثابت آخر، لا يكتب حديثه إلا على جهة التعجب" ومنه تعلم ما في قول الهيثمي في "المجمع" "8/ 22": "ورجال أبي يعلى ثقات"! وكذا قول البوصيري -كما في هامش "المطالب العالية" "رقم 2540": "ورواته ثقات". وأخرج نحوه هناد في "الزهد" "رقم 1129"، وابن أبي الدنيا في "المصنف" "رقم 646" تعن الشعبي مرسلًا، وإسناده ضعيف، فيه مبهم وضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 وفي مسلم: أي المسملين خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" 1. وَفِيهِ: سُئِلَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ" 2. وَفِي "الصَّحِيحِ": "وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ" 3.   1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 65/ رقم 40 بعد 64" عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، 1/ 54/ رقم 11"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 66" عن أبي موسى بلفظ: "أي الإسلام أفضل؟ ". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام، 1/ 55/ رقم 12، وباب إفشاء السلام من الإسلام، 1/ 82/ رقم 28"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 65/ رقم 39 بعد 63" عن عبد الله بن عمرو بن العاص. 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1469"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، 2/ 729/ رقم 1053" عن أبي سعيد مرفوعًا، وهو جزء في آخر الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 وَفِي التِّرْمِذِيِّ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" 1. وَفِيهِ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ"2. إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ، وَيُشْعِرُ إِشْعَارًا ظَاهِرًا بِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ3 إِلَى الْوَقْتِ أَوْ إلى حال السائل.   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، 9/ 74/ رقم 5027، 5028"، والترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في تعليم القرآن، 5/ 173/ رقم 2907"، وأبو داود في "كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم 1452"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 61"، وغيرهم عن عثمان رضي الله عنه. 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك، 5/ 565/ رقم 3571"، وابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" "رقم 2" و"القناعة والتعفف" رقم 79، والطبراني في الكبير "10/ 124" رقم 188، والدعاء "رقم 22"، والأوسط "2/ ق15/ أ" من طريق حماد بن واقد عن إسرائيل عن إبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رفعه: "سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحب أن يُسأَل وأفضل ... ". قال الطبراني: "ولم يَرْوِ هذا الحديث عن أبي إسحاق إلا إسرائيل، تفرد به حماد بن واقد، ولا يروى عن ابن مسعود إلا بهذا الإسناد"، وقال الترمذي عقبه: "هكذا روى حماد بن واقد في هذا الحديث، وقد خولف في روايته، وحماد بن واقد هذا هو الصفار ليس بالحافظ، وهو عندنا شيخ بصرى، وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل"، قال: "وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح". قلت: وحكيم بن جبير متهم، وإن كان الأصح في حديثه الإرسال: فالحديث ضعيف جدًا. وورد عن ابن عمر وابن عباس وأنس وعلي بلفظ: "انتظار الفرج بالصبر عبادة"، وطرقه كلها معلولة، ومدارها على كذابين ووضاعين؛ إلا حديث علي فهو ضعيف جدًا، انظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1572، 1573". 3 فهو من تحقيق المناط وتعيين الصورة التي توجد فيها الأفضلية بالنسبة للوقت أو السائل. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وَقَدْ دَعَا1 عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ فَبُورِكَ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ لِثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ حِينَ سَأَلَهُ2 الدُّعَاءَ لَهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ: "قَلِيلٌ تُؤَدِي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ"3. وَقَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي؛ لَا تَأَمَّرنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ" 4. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كِلَا الْعَمَلَيْنِ5 مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ لِمَنْ قَامَ فِيهِ بِحَقِّ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ فِي الْإِمَارَةِ وَالْحُكْمِ: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يمين الرحمن" الحديث6.   1 بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته" أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات، باب قول الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِم} 11/ 136/ رقم 6334، وباب الدعاء بكثرة المال والوالد مع البركة، 11/ 182/ رقم 6378، 6379، وباب الدعاء بكثرة الولد مع البركة، 11/ 183/ رقم 6380، 6381"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في الناقلة .... 1/ 458/ رقم 660، وكتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس رضي الله عنه 4/ 1928/ رقم 2480" عن أم سليم رضي الله عنهما. 2 أي: ولم يقبل الإرشاد لما يناسب نفسه، ونزل فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75] ؛ فكان هذا من معجزات علم الغيب. "د". قلت: لم يثبت ذلك كما قال المحققون من علماء الحديث. 3 مضي تخريجه "2/ 448"، وهو ضعيف. 4 مضى تخريجه في "2/ 448"، وفي الأصل: "ولا تَلِيَنَّ مال يتيم". "5" في "ط": "كلًّا من العملين". "6" تتمة الحديث: "وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل 3/ 1458/ رقم 1827 والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب فضل الحاكم العادل في حكمه، 8/ 221"، والحميدي في "المسند" "2/ 268/ رقم 588"، وأحمد في "المسند" "2/ 160"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 1484"، والآجري في "الشريعة" "ص322"، وابن زنجويه في "الأموال" "1/ 66" ومن طريقه البغوي في "التفسير" "2/ 93، "وشرح السنة" "10/ 63"، والبيهقي في "السنن الكبرى "10/ 87" والهروي في "الأربعين في دلائل التوحيد" رقم "16"، وأبو نعيم في "فضيلة العادلين" "رقم 13 بتحقيقي" عن عبد الله بن عمرو بن العاص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وَقَالَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ"، ثُمَّ نَهَاهُ عَنْهُمَا لَمَّا عَلِمَ لَهُ خُصُوصًا فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاحِ. وَفِي "أَحْكَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ" عَنِ ابْنِ سِيرِينَ؛ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُخَافِتُ، وَكَانَ عُمَرُ يَجْهَرُ -يَعْنِي: فِي الصَّلَاةِ؛ فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تَفْعَلُ؟ قَالَ: أُنَاجِي رَبِّي وَأَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ لِعُمَرَ: كيف تفعل؟ قال: أوقظ الوسنان، وأخسأ الشَّيْطَانَ، وَأُرْضِي الرَّحْمَنَ. فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: "ارْفَعْ شَيْئًا" وَقِيلَ لِعُمَرَ: "اخْفِضْ شَيْئًا"2 وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَصَدَ3 إِخْرَاجَ كُلِّ وَاحِدٍ منهما   1 مضى تخريجه "3/ 294". 2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، رقم 447"، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "4/ 30-31/ رقم 919" والتفسير" "4/ 190"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، رقم 1329"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 1161" ومن طريقه ابن حبان في "الصحيح" "3/ 6-7/ رقم 733 - الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 310" من طريق يحيى بن إسحاق السليحينى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة مرفوعًا بنحوه، وإسناده صحيح على شرط مسلم. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة، وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبد الله بن رباح مرسلًا". قلت: يحيى ثقة، وقد وصل الحديث؛ فوصله من باب زيادة الثقة إن شاء الله تعالى؛ فهذه علة لا تضر، ولا سيما أن له شاهدًا عن أبي هريرة، عند أبي داود في "السنن" "رقم 1330" بإسناد حسن، وعن علي عند أحمد في "المسند" "1/ 109"، ورجاله ثقات، وانظر: "التهجد" لعبد الحق الإشبيلي "ص 166". وفي "د": "وقيل لعمرو"، والصواب: "لعمر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 عَنِ اخْتِيَارِهِ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ صَحِيحًا. وَفِي "الصَّحِيحِ": أَنَّ نَاسًا جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: "وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ" 1. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "مَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ"2. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِهِ؛ قَالَ: "إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الْحَدِيدِ: 3] 3. فَأَجَابَ4 النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَجْوِبَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَجَابَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِأَمْرٍ آخَرَ وَالْعَارِضُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَفِي "الصَّحِيحِ": "إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ الله في النار" 5.   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها 1/ 119/ رقم 132" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في رد السنة 4/ 329/ رقم 5110"، واللالكائي -مختصرا- في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "5/ 920/ رقم 1663"، وإسناده حسن: انظر: "صحيح سنن أبي داود" "3/ 962/ رقم 4262". 4 أقول: وأجاب من سأله عن المباشرة للصائم بالمنع، وأجاب آخر بالجواز، ثم ظهر أن الأول شاب والثاني شيخ. "د". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل 1/ 79/ رقم 27، وكتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: {لَا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3/ 340-341/ رقم 1478"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان: باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه 1/ 132/ رقم 150" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وَآثَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَعْضِ الْغَنَائِمِ قَوْمًا، وَوَكَلَ قَوْمًا إِلَى إِيمَانِهِمْ1 لِعِلْمِهِ بِالْفَرِيقَيْنِ، وَقَبِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ2، وَنَدَبَ غَيْرَهُ إِلَى اسْتِبْقَاءِ بَعْضِهِ وَقَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" 3، وَجَاءَ آخَرُ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنَ الذَّهَبِ؛ فردها في وجهه4.   1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم" يعطي المؤلفة قلوبهم 6/ 251/ رقم 3150" عن عبد الله بن مسعود؛ قال: "لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في القسمة؛ فأعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب، فآثرهم يومئذ في القسمة". وما أخرجه البخاري أيضًا في الكتاب والباب نفسه "رقم 3147" عن أنس أن ناسًا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء: "فطفق يعطي قريشًا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم". قال أنس: فحدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما كان حديث بلغنى عنكم؟ ". فقال له فقهاؤهم: "أما ذوو آرائنا يا رسول الله؛ فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم؛ فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به؟ ". 2 مضى تخريجه "3/ 70". 3 مضى تخريجه "3/ 70"، وقوله صلى الله عليه وسلم هذا لكعب بن مالك حيث أراد أن ينخلع عن ماله بعد قبول توبته. 4 يشير إلى ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله، 2 = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وَقَالَ عَلِيٌّ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يكذَّب اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! "1، فَجَعَلَ إِلْقَاءَ الْعِلْمِ مُقَيَّدًا، فَرُبَّ مَسْأَلَةٍ تَصْلُحُ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ2، وَقَدْ قَالُوا فِي الرَّبَّانِيِّ: إِنَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ3 بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ4، فَهَذَا التَّرْتِيبُ مِنْ ذلك.   = / 128/ رقم 1673 عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله! أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته، أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى". وأخرجه الدارمي في "سننه" "1/ 391"، وابن خزيمة في "صحيحه" "4/ 98/ رقم 2441"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 2084"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 165-166/ رقم 3372، الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 413"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 181". قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. قلت: فيه ابن إسحاق: أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، وهو مدلس، وقد عنعن، ولم يصرح بالتحديث، فالإسناد ضعيف. نعم، صح قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، لوروده من طريق آخر عند أحمد في "المسند" "3/ 346"، ولوجود شاهد له عن أبي هريرة عند البخاري في "الصحيح" "رقم 1428" وغيره. 1 مضى تخريجه "1/ 124"، وانظر عنه: "مجموع فتاوى ابن تيمية "13/ 260، 261". 2 في "د": "لقوم". 3 في "ط": "الذي يربي". 4 ذكره البخاري في "صحيحه" كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/ 160 - فتح" عقب قول ابن عباس: "كونوا ربانيين: حلماء فقهاء"، ثم قال: "ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 وَرُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: "الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ فَقِهَ فِي الْقُرْآنِ، وَعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَانِ"1، فَقَوْلُهُ: "وَعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَانِ" هُوَ النُّكْتَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، قال: "قلت للزبير بن العوام: ما لي أَرَاكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَخَفِّ النَّاسِ صَلَاةً؟ قَالَ: نُبَادِرُ الْوَسْوَاسَ"2. هَذَا مَعَ أَنَّ التَّطْوِيلَ مُسْتَحَبٌّ، وَلَكِنْ جَاءَ مَا يُعَارِضُهُ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ: "أفتَّان أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ " 3. وَلَوْ تُتُبِّعَ هَذَا النَّوْعُ لَكَثُرَ جِدًّا، وَمِنْهُ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ كَثِيرٌ. وَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فِي الْأَنْوَاعِ وَاتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ4 كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ فَرَّعَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} الآية [المائدة: 33]   1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 817/ رقم 1528" بسنده إليه. 2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 366-367، 367/ رقم 3727، 3730"، وابن عساكر وابن النجار، كما في "كنز العمال" "1/ 398/ رقم 1706"، وإسناده صحيح. 3 أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"" ومضى تخريجه "1/ 528، 2/ 248". وكتب "د": "وكان معاذ يطوِّل بهم في الصلاة؛ فيقرأ بالبقرة، وفيهم أصحاب الحاجات فشكوه، أي: مع أن التطويل مطلوب في الأصل". قلت: انظر في شرح الحديث: تهذيب سنن أبي داود" "1/ 415-417"، و"زاد المعاد" "1/ 212"، كلاهما لابن القيم. 4 أي: يشهد للنظر الشخصي الخاص، ويفريعهم على مناط الأنواع كما في الأمثلة لا يتم إلا بالنظر الشخصي الخاص، فلذلك كان النوعي شاهدًا للشخصي الخاص الذي هو بصدد إثباته. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 إِنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّخْيِيرِ، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَالْقَتْلُ فِي مَوْضِعٍ وَالصَّلْبُ فِي مَوْضِعٍ، وَالْقَطْعُ فِي مَوْضِعٍ وَالنَّفْيُ فِي مَوْضِعٍ، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ فِي الْأُسَارَى مِنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ الْأَمْرُ بِالنِّكَاحِ وَعَدُّوهُ مِنَ السُّنَنِ، وَلَكِنْ قَسَّمُوهُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ وَإِنْ كَانَ نَظَرًا نَوْعِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّظَرِ الشَّخْصِيِّ، فَالْجَمِيعُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ قَدْ يستبعد ببادىء الرَّأْيِ وَبِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَغْزَاهُ وَمَوْرِدُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ وَأَمْثَالُهُ كافٍ مُفِيدٌ لِلْقَطْعِ بِصِحَّةِ هَذَا الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قلَّما نَبَّهُوا عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذَا1 الِاجْتِهَادِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ2 وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ، مَعَ أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ؟ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ فَغَيْرُهُ كَذَلِكَ، إِذْ لَا يَخْلُو أَنْ يُرَادَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ارْتِفَاعُهُ [بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ صَحَّ إِيقَاعُ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ، أَوْ يراد أنه لا يصح ارتفاعه] وَلَا بِالْجُزْئِيَّةِ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَسَائِرُ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ كَذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْوَقَائِعَ فِي الْوُجُودِ لَا تَنْحَصِرُ؛ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُهَا تَحْتَ الْأَدِلَّةِ الْمُنْحَصِرَةِ، وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى فَتْحِ بَابِ الاجتهاد من القياس وغيره، فلا   1 وهو تحقيق المناط بالمعنى الأول. "د". "2: أي: على أنه لا يرتفع من الدنيا ما دام التكليف موجودًا. "د". 3 لعل الأصل: "بالكلية أو بالجزئية"، أي: لا يخلو أن يكون هناك بالانقطاع الممنوع هو الارتفاع كليًا بحيث لا يكون له وجود أصلًا، أي: وأما ارتفاعه في بعض الجزئيات مع بقائه في البعض الآخر؛ فليس بممنوع، أو يكون غرضك أنه لا يرتفع أصلًا ولا في جزئية، وقد فرع على الأول ما يفيد استواءهما في عدم الارتفاع كليًا، وعلى الثاني ما يفيد استواءهما في أنه لا ضرر في تعطل بعض الجزئيات في كل من النوعين. "د". وما بين المعقوفتين من "ط" فقط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 بُدَّ مِنْ حُدُوثِ وَقَائِعَ لَا تَكُونُ مَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهَا، وَلَا يُوجَدُ لِلْأَوَّلِينَ فِيهَا اجْتِهَادٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ؛ فَإِمَّا أَنْ يُتْرَكَ النَّاسُ فِيهَا مَعَ أَهْوَائِهِمْ، أَوْ يُنْظَرَ فِيهَا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ أَيْضًا اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، وَذَلِكَ كُلُّهُ فَسَادٌ؛ فَلَا يَكُونُ بُدٌّ مِنَ التَّوَقُّفِ لَا إِلَى غَايَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى تَعْطِيلِ التَّكْلِيفِ لُزُومًا، وَهُوَ مؤدٍّ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ1؛ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ لِأَنَّ الْوَقَائِعَ الْمَفْرُوضَةَ لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَاطِلٌ؛ إِذْ لَا يَتَعَطَّلُ مُطْلَقُ التَّكْلِيفِ بِتَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ وَفِي غَيْرِهِ2، فَلَمْ يَظْهَرْ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ فَرْقٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَاصَّ كُلِّيٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ أَوْ أَكْثَرِهَا، فَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُهُ لَارْتَفَعَ مُعْظَمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ جَمِيعُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ فِي زَمَانٍ مَا ارْتَفَعَتِ الشَّرِيعَةُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ3 بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْوَقَائِعَ الْمُتَجَدِّدَةَ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، لِاتِّسَاعِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ من المتقدمين فيمكن تقليده فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَتَعَطَّلُ الشَّرِيعَةُ بتعطل   1 أي: فدليلك بعينه يجري في الأنواع الثلاثة أيضًا؛ فرفع الاجتهاد فيها يؤدي إلى تكليف المحال؛ فلا وجه لهذه التفرفة، بقي أن يقال: إن هذا غير ما أجراه في الدليل هناك قال: "لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا، كما أنه غير ممكن عقلًا"، والتزمنا هناك تصحيح كلامه، بجعله من التكليف المحال، ورجعه إلى تكليف الغافل، ولكنه هنا جعله من تكليف ما لا يطاق، وهو التكليف بالمحال، وهو جائز عقلًا، غايته أنه غير واقع في الشرع، والظاهر أن غرضه هنا عين ما تقدم له. "د". 2 لعله: وفي غيره كذلك"؛ أي: في غير الاجتهاد المستدل عليه من أنواع الاجتهاد. "ف". 3 في "ط": "لازم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 بعض الجزئيات، كما لو فرض العجز في تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ السَّائِرِ؛ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ؛ فوضح أنهما ليسا سواء2، والله أعلم   1 في "ط": "اجتهاد تحقيق". 2 إذ إنه إذا تعطلت الأنواع الثلاثة؛ فإنما يتعطل قليل من فروع الشريعة، بخلاف تحقيق المناط المستدل على عدم ارتفاعه، فإن تعطله يقتضي تعطل جميع فروع الشريعة، أو على الأقل معظمها. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا تَحْصُلُ1 دَرَجَةُ الِاجْتِهَادِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَهْمُ2 مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ عَلَى كمالها.   1 سيأتي في المسألة الخامسة والسادسة ما يفيد أن هذا الحصر ليس تحقيقًا، وأنه بالنسبة لبعض أنواع الاجتهاد فقط، وأن بعضها يحتاج لأكثر من الوصفين، وبعضها لا يتوقف عليهما. "د". 2 لم نر من الأصوليين من ذَكَر هذا الشرط الذي جعله الأول، بل جعله السبب، أما التمكن من الاستنباط؛ فهو الذي اقتصرت عليه كتب الأصول المشتهرة، وجعلوه يتحقق بمعرفة الكتاب والسنة، أي ما يتعلق منهما بالأحكام، ثم بمعرفة مواقع الإجماع، وشرائط القياس، وكيفية النظر، وعلم العربية، والناسخ والمنسوخ، وحال الرواة، وهذه هي المعارف التي أشار إليها المؤلف، ثم رأيت في "إرشاد الفحول" "ص258" للشوكاني نقل الغزالي [في "المنخول" "ص366-367" وهو مأخوذ -كما هو معلوم- عن إمام الحرمين الجويني، والمذكور في كتابه "البرهان" "2/ 927، 338"] عن الشافعي -بعد بيان مفيد ينبغي للمجتهد أن يعمله؛ قال: "ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزيئات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الاسم، فإن عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع" ا. هـ. وهذا بعينه ما يشير إليه المؤلف هنا، وأوضحه إيضاحًا كافيًا في المسألة الأولى من كتاب الأدلة؛ إلا أنه يبقى الكلام فيما نقله في "التبصرة" "1/ 56 - لابن فرحون" عن القرافي في نقض حكم الحاكم إذا خالف القياس والنص والقواعد، حيث قال: "ما لم يكن هناك معارض لها؛ فلا ينقض الحكم إجماعًا، كما في صحة عقد القراض، والمساقاة والسلم والحوالة ونحوها؛ فإنها على خلاف قواعد الشرع والنصوص والقياس، ولكن الأدلة الخاصة مقدمة على القواعد والنصوص والأقيسة"، ولا يخفى مخالفة هذا لما قرره المؤلف هنا، وما سبطه سابقًا، وما نقله الغزالي عن الشافعي، اللهم إلا إن يقال: معنى تقديم الدليل الخاص على القواعد في كلام القرافي تخصيصه لها، والأخذ به في موضع المعارضة إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلي فيه؛ كالعرايا وسائر المستثنيات، كما تقدم للمؤلف هناك. "د". قلت: ذكر ابن السبكي في "جمع الجوامع" "2/ 383" نقلًا عن والده في تعريف "المجتهد": "هو مَن هذه العلوم ملكة له، وأحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوة = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 والثاني: الممكن مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِ فِيهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَأَنَّ الْمَصَالِحَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ وَضَعَهَا الشَّارِعُ كَذَلِكَ، لَا مِنْ حَيْثُ إِدْرَاكِ1 المكلَّف؛ إِذِ الْمَصَالِحُ تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات2،   = يفهم بها مقصود الشارع". وذكر فيه "2/ 401" في شروط المجتهد "معرفة القواعد الكلية"، ثم ذكر عن الشافعي نحو ما عند الشوكاني، وبين البناني في "حاشيته" عليه أن هذا الاشتراط لا يخرج عن معرفة الآيات والأحاديث المتعلقة بالأحكام، فمن لم يذكر هذا الشرط -وكذا شرط معرفة المقاصد؛ فقد اعتبره مفهومًا من معرفة القرآن والسنة، فلا بد للمجتهد من أن يعرف جزئياتهما وكلياتهما، ويدرك أيضًا العلل والمصالح المنوطة بالأحكام، ومن الأصوليين من أشار إلى ذلك؛ كابن قدامة، فإنه قال في "روضة الناظر" "2/ 406 - مع شرح مختصر الروضة": "ولا بد من إدراك دقائق المقاصد في الكتاب والسنة". وذكر ذلك علي بن عبد الكافي في السبكي في مقدمة "شرح المنهاج" "1/ 8"؛ حيث علق كمال رتبة الاجتهاد على ثلاثة أشياء، آخرها: "أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة، ما يكسبه قوة يفهم منها موارد الشرع من ذلك، ومن يناسب أن يكون حكمًا لها في ذلك المحل". وقال ابنه في "الابتهاج بشرح المنهاج" "3/ 206" أن العالم إذا تحققت له رتبة الاجتهاد جاز تقليده، وذكر من شروط ذلك "الاطلاع على مقاصد الشريعة، والخوض في بحارها". وانظر: "الاجتهاد" "ص192" للسيد محمد موسى، و"الاجتهاد" "ص96-101" لنادية العمري، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "287-290". 1 أي: الإدراك البحث الذي لم يراع فيه الحيثية المذكورة. "د". 2 كما تقدم له أنها تكون منافع أو مضار في حال دون حال، ووقت دون وقت، ولشخص دون شخص، وأن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض تضرر آخر لمخالفة غرضه؛ فوضع الشريعة لا يصح أن يكون تبعًا لما يراه المكلف مصلحة؛ لأنه لا يستتب الأمر مع ذلك، بل بحسب ما رسمه الشرع من إقامة الحياة الدينا للحياة الآخرة، ولو نافت الأهواء والأغراض {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71] ، وتقدم الدليل على ذلك، وأن العقلاء في الفترات كانوا يحافظون على اعتبار المصالح بحسب عقولهم، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى النصفة والعدل، بل مع الهرج، وكانت المصلحة تفوت مصلحة أخرى، وتهدم قاعدة أو قواعد؛ فجاء الشرع بالميزان الذي يجمع بين المصالح في كل وقت. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وَاسْتَقَرَّ بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ أَنْ الْمَصَالِحَ عَلَى ثَلَاثِ1 مَرَاتِبَ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِنْسَانُ مَبْلَغًا، فَهِمَ عَنِ الشَّارِعِ فِيهِ قَصْدَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ2 مِنْ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ، وَفِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ وَصْفٌ هُوَ السَّبَبُ3 فِي تَنَزُّلِهِ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعْلِيمِ وَالْفُتْيَا وَالْحُكْمِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ كَالْخَادِمِ لِلْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ مَعَارِفَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ أَوَّلًا، وَمِنْ هنا كان خادما4 للأول، وفي   1 أي: لا تعدوها وإن حصل اختلاف في بعض جزئياتها أنها من الضروريات أو من الحاجيات أو مكملات إحداهما مثلًا. "د". 2 هذا على القول المرجوح من عدم القول المرجوح من عدم جواز تجزؤ الاجتهاد، فأما على جواز ذلك وهو الراجح المختار للغزالي، وقال ابن السبكي: "إنه الصحيح؛ فلا يشترط الفهم المذكور لغير المسألة التي يتعلق بها اجتهاده". قال في "المحصول" "6/ 25": "والحق [أنه يجوز] أن [تحصل] صفة الاجتهاد تحصل في فن، بل في مسألة دون مسألة". "د". قلت: انظر في مسألة تجزئ الاجتهاد: المستصفى" "2/ 353-354"، و"الأحكام" "4/ 164" للآمدي، و"المرآة" "2/ 469" مع "حاشية الإزميري"، و"البحر المحيط" "4/ 473 و6/ 209" للزركشي، و"شرح تنقيح الفصول" "430"، و"المعتمد" "2/ 929"، و"التقرير والتحبير" "3/ 294"، و"مقدمة المجموع" "1/ 71"، و"إرشاد الفحول" "254-255"، وإعلام الوقعين "216-217"، و"جمع الجوامع" "2/ 405-406 - مع حاشية البناني"، و"شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 290-291"، "وفواتح الرحموت" "2/ 364"، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص164-173" لنادية العمري. 3 لا ينافي أنه لا بد من الوصف الآخر وهو التمكن؛ لأنه جعله شرطًا، وسمى هذا سببًا. "د". 4 لأنه لا يفهم مقاصد الشريعة إلا بواسطة هذه المعارف، وقد تقدم أنه لا بد من الكليات = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ ثَانِيًا، لَكِنْ لَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْفَهْمِ إِلَّا فِي الِاسْتِنْبَاطِ؛ فَلِذَلِكَ جُعِلَ شَرْطًا ثَانِيًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ السَّبَبَ فِي بُلُوغِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالثَّانِي وَسِيلَةٌ. لَكِنَّ1 هَذِهِ الْمَعَارِفَ تَارَةً يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِهَا مُجْتَهِدًا فِيهَا، وَتَارَةً يَكُونُ حَافِظًا لَهَا مُتَمَكِّنًا مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَقَاصِدِهَا غَيْرَ بَالِغٍ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَتَارَةً يَكُونُ غَيْرَ حَافِظٍ وَلَا عَارِفٍ؛ إِلَّا أَنَّهُ عَالِمٌ بِغَايَتِهَا وَأَنَّ لَهُ افْتِقَارًا2 إِلَيْهَا فِي مَسْأَلَتِهِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا؛ فَهُوَ بِحَيْثُ إِذَا عَنَّتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ يَنْظُرُ فِيهَا زَاوَلَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِتِلْكَ الْمَعَارِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْأَلَتِهِ؛ فَلَا يَقْضِي فِيهَا إِلَّا بِمَشُورَتِهِمْ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ مَرْتَبَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا فِي نَيْلِ الْمَعَارِفِ الْمَذْكُورَةِ. فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهَا كَمَا كَانَ مَالِكٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَقَاصِدِهَا كَمَا قَالُوا فِي الشَّافِعِيِّ3 وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ؛ فَإِنْ تَهَيَّأَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مَعَ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِ فِي تِلْكَ الْمَعَارِفِ كَذَلِكَ4؛ فَكَالثَّانِي وإلا؛ فكالعدم.   = التي هي ضوابط المصالح والمفاسد مضمومة إلى الجزئيات التي هي الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وما يتعلق بها من المباحث المفصلة في كتب الأصول، وأنه لا يستغنى بالكليات عن الجزئيات، ولا بهذه عن تلك؛ فالجزئيات يفهم بها مقاصد الشريعة أولًا، فهي تخدمها من هذه الجهة، وعند الاستباط لا بد من ضمها معًا، كما تقدم بسطه في أول مسألة فهي تخدمها من هذه الجهة، وعند الاستباط لا بد من ضمها معًا، كما تقدم بسطه في أول مسألة في الأدلة؛ فلذا قال: "وفي استبناط الأحكام ثانيًا" وقد جعل التمكن شرطًا ثانويًا للحصول على درجة الاجتهاد، وفهم المقاصد شرطًا أوليًا، حتى عبر عنه بالسبب الذي هو أقوى من الشرط وعلله بأنه المقصود، ولو جرى على ما سبق له لعلله بأن الكليات هي أهم الجزأين؛ إذ لا بد من اعتبار الجزئيات بها دائمًا، بحيث لا يمكن أن يخرم الجزئي الكلي بخلاف الجزئيات، فإنها وإن كانت تعتبر في الاستنباط؛ إلا أنه لا بد من ردها إلى الكليات. "د". 1 في "ط": "لكون". 2 في "ماء": "افتقار". 3 هذا متعقب، انظر: "ص46". 4 سيأتي له أن يصح أن يسلم المجتهد من القارئ، ومن المحدث، ومن اللغوي، ومن المؤرخ العالم بالناسخ والمنسوخ، ولم يشترط في هؤلاء أن يكونوا متهيئين لاستنباط الأحكام؛ حتى يأخذ عنهم المجتهد ويبني حكمه؛ فما معنى قوله: "كذلك؟ " الذي يفيد أن ذلك التهيؤ له قيد لصحة أخذ المجتهد عنه ما يبني عليه استنباطه؟ نعم، في "شرح العضد" "2/ 290-291" لابن الحاجب في مسألة تجزؤ الاجتهاد: "المفروض حصول جميع ما هو أمارة في [تلك] المسألة في ظنه نفيًا أو إثباتًا؛ إما بأخذه من مجتهد، وأما بعد تقرير الأئمة الأمارات". ولكنه يحتمل أخذها من مجتهد في ذلك العلم الذي أخذ عنه فيه، وإن لم يكن مجتهدًا في الأحكام بأن لم يكن مستوفيًا كل الشرائط له؛ فتأمل. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 فَصْلٌ: وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ1 الْمُجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ عِلْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاجْتِهَادُ عَلَى الْجُمْلَةِ، بَلِ الْأَمْرُ يَنْقَسِمُ: فَإِنْ كَانَ ثَمَّ عِلْمٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَصَّلَ وَصْفُ الِاجْتِهَادِ بِكُنْهِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ؛ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ مُعَيَّنًا فِيهِ وَلَكِنْ لَا يُخِلُّ التقليد فيه بحقيقة   1 هذه قضية توجه النفي فيه إلى الكلية؛ فتنحل إلى موجبة وسالبة جزئيتين، وهما ما أشار إليهما بقوله: "بل الأمر ينقسم"؛ فقوله: "فإن كان ثم علم" الجزئية الموجبة، وقوله: "وما سوى ذلك" الجزئية السالبة، ويكن جعلهما كليتين هكذا: "كل علم لا يمكن أن يحصل.. إلخ". و"وكل علم يحصل وصل الاجتهاد من غير طريقه لا يلزم أن يكون مجتهدًا فيه"؛ فالمطلبان الأخيران ليسا أمرًا زائدا على المطلب الأول، بل هما تفصيله ومآله، كما تقتضيه قوله: "بل الأمر ينقسم"، ولذلك ترى الدليل على الأول يخرج عن كونه استدلالًا على الثالث خاصة، وعندما أراد الاستدلال على الثالث؛ لم يجد شيئًا غير ما ذكره على الأول، والتزم أن يقول: "فقد مر ما يدل عليه"، وحينئذ؛ فهما مطلبان لا ثلاثة عند التحقيق. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 الِاجْتِهَادِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَطَالِبَ1 لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا: أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ عِلْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاجْتِهَادُ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ مِمَّنْ سِوَى2 الصَّحَابَةِ، وَنَحْنُ نُمَثِّلُ بِالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَالشَّافِعِيُّ عِنْدَهُمْ مقلِّد فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فِي انْتِقَادِهِ وَمَعْرِفَتِهِ3، وَأَبُو حَنِيفَةَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَدُّوا مِنْ أَهْلِهِ مَالِكًا وَحْدَهُ، وَتَرَاهُ فِي الْأَحْكَامِ يُحِيلُ عَلَى غَيْرِهِ كَأَهْلِ التَّجَارِبِ وَالطِّبِّ وَالْحَيْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ وَالْحُكْمُ4 لا يستقل دون ذلك   1 مأخذ الأول قوله: "لا يلزم.. إلخ"، ومأخذ الثاني قوله: "فإن كان ثم علم.. إلخ" ومأخذ الثالث قوله: "وما سوى ذلك ... إلخ" "ف". 2 ولماذا نستثني الصحابة وهم كغيرهم لا يتأتى لأحدهم أن يكون عالمًا لكل ما يتوقف عليه الاجتهاد؛ من تجارب، وطب، وغير ذلك، ولا بد من الرجوع إلى غيرهم في كثير مما يتوقف عليه الاجتهاد كما هو الواقع. "د". وفي"ط": "مما سوى". 3 انظر رد ذلك في مسألة الاحتجاج بالشافعي" "ص38 وما بعدها" للخطيب، و"مناقب الشافعي" "2/ 324-325" للبيهقي، "تهذيب الأسماء واللغات" "1/ ق1/ 50". 4 أي: والحكم الذي بناه لا يستغني عن ذلك الاجتهاد الذي رجع فيه لغيره من هؤلاء، فلو كان لا بد في المجتهد، أن يكون مجتهدًا في كل ما يتعلق به الاجتهاد؛ لكان هؤلاء الأئمة غير مقبول منهم الاجتهاد، وهو باطل، وقوله: "ولو كان مشترطًا .... إلخ" هذا دليل ثانٍ، محصله: لو كان هذا منهم شرطًا لزم ألا يجلس للقضاء بين الناس إلا مجتهد في كل ما يتوقف عليه حكمه على أحد الخصمين للآخر، وليس كذلك بإجماع؛ فأنت تراه يقيس الاجتهاد على القضاء، مع أن القضاء رتبة أخرى يدور أمرها على تحقيق المناط في الجزئيات غالبًا، ولذلك أجمعوا على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في القضاء، مع اختلافهم في كون الاجتهاد في استباط الأحكام في رتبته صلى الله عليه وسلم، فلا يسلم قياس الاجتهاد على القضاء في عدم لزوم العلم بكل ما يتوقف عليه الحكم. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 الِاجْتِهَادِ. وَلَوْ كَانَ مُشْتَرَطًا فِي الْمُجْتَهِدِ الِاجْتِهَادُ فِي كُلِّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ؛ لَمْ يَصِحَّ لِحَاكِمٍ أَنْ يَنْتَصِبَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ حَتَّى يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ الَّذِي يُوَجِّهُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ1، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي 2: أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عِلْمٌ مُسْتَقِلٌّ3 بِنَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ عِلْمٍ أَنْ تُبَرْهَنَ مُقَدِّمَاتُهُ فِيهِ بِحَالٍ، بَلْ يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مَن فَعَل ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَدْخَلَ فِي عِلْمِهِ عِلْمًا آخَرَ يُنْظَرُ فِيهِ بِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ، فَكَمَا يَصِحُّ لِلطَّبِيبِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنَ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ أَنَّ الأُسطقصات4 أَرْبَعَةٌ، وَأَنَّ مِزَاجَ الْإِنْسَانِ أَعْدَلُ الْأَمْزِجَةِ فِيمَا يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مزاج الإنسان، وغير ذلك من المقدمات، وكذلك يَصِحُّ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُجْتَهِدُ مِنَ الْقَارِئِ أَنَّ قوله تعالى:   1 في "د" وحدها، وفي الأصل و"ف" و"م": "الطالب". 2 هو في الحقيقة دليل ثالث. "د". 3 ليس هناك علم يقال له "علم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية" له موضوع يميزه عما سواه؛ حتى يعد كل ما خرج عنه نظرًا في عرضي العلم لا في ذاتي له، فإن كان مراده المعارف التي ينبني عليها التمكن في الاجتهاد؛ فذلك ما نحن بسبيل معرفته، وتمييز ما يتوقف عليه مما لا يتوقف عليه؛ فبعد أن يمتاز ما يتوقف عليه يقال: إن ما زاد عنه يكون البحث فيه أشبه شيء فيه بإدخال علم في آخر، وهو في اصطلاحهم غير محمود وبالجملة فهذا الدليل أشبه بالشعريات ما لم يمحص الأمر ويحصر ما يتوقف عليه الاجتهاد توقفًا أصليًا كما أشرنا إليه. "د". قلت: كلمة "علم" لا وجود لها في الأصل. 4 كلمة يونانية يراد بها العناصر: الماء، والتراب، والهواء، والنار. "ف". قلت: الضبط الذي رسمناه هو الذي صوبه دوزي في "تكملة المعاجم العربية" "1/ 130". وقال "ماء": يقال لها: "الاستقصاءات"، ويقال لها: "الأركان". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] ، بِالْخَفْضِ مَرْوِيٌّ1 عَلَى الصِّحَّةِ، وَمِنَ الْمُحَدِّثِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْفُلَانِيَّ صَحِيحٌ أَوْ سَقِيمٌ، وَمِنْ عَالِمِ2 النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة} مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَمِنَ اللُّغَوِيِّ أَنَّ الْقُرْءَ يُطْلَقُ3 عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، بَلْ بَرَاهِينُ الْهَنْدَسَةِ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ4 مَسَلَّمَةٍ فِي عِلْمٍ آخَرَ، مَأْخُوذَةٍ فِي عِلْمِ الْهَنْدَسَةِ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي حُصُولِ الْيَقِينِ لِلْمُهَنْدِسِ أَوِ الْحَاسِبِ فِي مَطَالِبِ عِلْمِهِ، وَقَدْ أَجَازَ5 النُّظَّارُ وُقُوعَ الِاجْتِهَادِ في الشريعة من الكافر المنكر   1 ليس في هذا اجتهاد حتى يقال: إنه أخذ من المجتهد كما تقدم له في مثال الطبيب، إنما هو مجرد الراوية والتلقي، ويشترك المجتهد في ذلك مع المروي عنه بمجرد الرواية، إلا أن يقال: إنه لا يلزمه في الرواية حينئذ أن يعرف طرقها وطبقات الرواة لها بخلاف عالم القرءات الذي يعد فنيًا أو نسميه خصيصاً، وهذه إذا اشترطنا في الأخذ عنه أن يكون بالغًا هذه المرتبة وإن كانت عبارة هنا لا تفيد ذلك؛ لأنه اكتفي بقوله: "مروي على وجه الصحة", ولا يخفى أن هذا يكفي فيه مجرد تلقي الرواية. "د". 2 في "ط": "علم". 3 ينافي ما سيأتي له أنه لا بد أن يكون مجتهدًا في اللغة، بحيث يساوي العرب في فهمها مفردات وتراكيب، ومن ينقص عن ذلك لا يعد بقوله في فهم الكتاب والسنة كما سيأتي له في الحاصل آخر والمسألة. "د". 4 كوجود الدائرة الذي سيمثل به، وكوجود الزاوية؛ فإنهما يرجعان إلى علم وجود الكم المتصل المبرهن عليه في غير الهندسة، وكذا العدد بالنسبة للكم المنفصل. "د". "5" في "التحرير": و"شرحه" "3/ 291، 343 - مع التقرير والتحبير" و"منهاج البيضاوي"* "ص268" شرطية الإيمان، ثم ما هي ثمرة هذا التجويز؟ هل يقلده المسلمون فيما استنبطه من الأحكام الشرعية، وهو غير معقول، أم يعمل هو بها؟ وهذا لا يعنينا ولا يعد اجتهادًا =   * لم يصرحا في مبحث "الاجتهاد" بشرطية الإيمان، وإنما أفاده كلامهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 لِوُجُودِ الصَّانِعِ وَالرِّسَالَةِ وَالشَّرِيعَةِ، إِذْ كَانَ الِاجْتِهَادُ إِنَّمَا يَنْبَنِي1 عَلَى مُقَدِّمَاتٍ تُفْرَضُ صِحَّتُهَا، كَانَتْ كذلك في نفس الأمر أولا وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ إِطْنَابٍ فِيهِ. فَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ اجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى فَرْضِ2 صِحَّةِ تلك المقدمات، وبرهان الخلف3 مبني على   = في الشريعة، وقوله: "تفرض صحتها" هذا غير كاف، بل لا بد من تأكده صحتها حتى يكون معتقدًا أو ظانًا صحة الحكم، أما مجرد الفرض، فلا يؤدي إلى حكم مظنون فضلًا عن معتقد، وهذا يقر أيضًا على اجتهاد الكافر؛ لأنه لا يعتقد صحة المقدمات التي ينبني عليها اجتهاده في الشريعة؛ لأنها الكتاب والسنة وما يرجع إليهما، قال في "التحرير" و"شرحه": "وأما العدالة، فشرط قبول فتواه، فإنه لا يقبل قول الفاسق في الديانات، لا شرط صحة الاجتهاد، لجواز أن يكون للفاسق قوة الاجتهاد، فله أن يأخذ باجتهاد نفسه" ا. هـ. فليس الكلام في الكافر على ما رأيت، وقال الآمدي: "شرطه أن يعلم وجوب الرب وما يجب له من الصفات مصدقًا بالرسول وما جاء به". "د". قلت: "وانظر المستصفى" "2/ 350"، "روضة الناظر" "3/ 960"، "إعلام الموقعين" "1/ 11"، و"جمع الجوامع" "2/ 385". 1 في "ماء" "ط": "يُبنى". 2 وهل فرض الصحة يحصل الظن أو العلم بصحة النتيجة، أو أنه يؤول الأمر إلى أن يكون عنده ليس بعلم ولا ظن، بل إن صحت المقدمات وهو لا يعلم بصحتها تكون نتيجة صحيحة؟ فتأمل. "د". 3 المتقدمون من المناطقة على تركبه من قياسين: اقتراني شرطي، ثم استثنائي، هكذا: لو لم يكن المطلوب حقًّا لكان نقيضه حقًا، ولو كان نقيضه حقًا لكان المحال ثابتًا، ونيتجة هذا لو ثم يكن المطلوب حقًا لكان المحال ثابتًا توضع في الاستثنائي، ويستثنى نقيض تاليها، هكذا لكن المحال غير ثابت، فالمطلوب حق، وبعض المتأخرين على أنه قياس استثنائي فقط مركب من متصلة مقدمها نقيض المطلوب، وتاليها أمر محال يستثنى فيه نقيضه، وعلى كل حال، فالصدق والكذب في الاقتراني الشرطي وكذا في الاستثنائي المتصل إنما يرجع إلى وجود الارتباط والتلازم وعدمهما، وإنتاجها يتوقف على كون ذلك كليًا ودائمًا؛ فأين تكون المقدمات الباطلة في نفس الأمر التي يبني عليها فتقيد العلم بالمطلوب؟ فكلامه غير واضح. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، تُفْرَضُ صَحِيحَةً فيينى عليها، فيفيد النباء عَلَيْهَا الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ؛ فَمَسْأَلَتُنَا كَذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ أَنْ يَعْرِفَهُ، فَضْلًا أَنْ يكون مجتهدًا فيه، وهو الاجتهاد في تفتيح2 الْمَنَاطِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ 3 إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ خَاصَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ نَوْعٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ دُونَ الِاجْتِهَادِ4 فِي تِلْكَ الْمَعَارِفِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الِاجْتِهَادِ بِدُونِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مقلِّدا فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ تَصْفُ لَهُ مَسْأَلَةٌ مَعْلُومَةٌ: لِأَنَّ مَسْأَلَةً يُقَلِّدُ فِي بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهَا لَا تكون مُجْتَهِدًا فِيهَا بِإِطْلَاقٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُوصَفَ صَاحِبُهَا بِصِفَةِ الِاجْتِهَادِ بِإِطْلَاقٍ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ   1 في الأصل: "ينبني". 2 كيف وهو لا يكون إلا في أوصاف تضمنها نص الشارع، وهو عربي يحتاج فهمه إلى الرتبة العربية المشترطة. "د". 3 قال فيما تقدم: إن التمكن من الاستنباط على معارف وعلوم كثيرة، وإنه خادم للأول وهو فهم مقاصد الشريعة؛ فقوله: "وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ خاصة دون شيء من تلك العلوم" لا يتأتى مع سابق الكلام؛ لأنه على ما تقدم لا بد له من هذه المعارف كوسيلة إلى فهم مقاصد الشريعة على الأقل، وإن لم يحتج إليها عند التخريج، وإنما يصح ذلك إذا صح أن يأخذ مقاصد الشريعة تقليدًا؛ فتأمل. "د". 4 بل دليله ينتج أكثر من ذلك؛ فيقال: وإن ثبت نوع من الاجتهاد دون هذه العلوم، رأسًا فضلًا عن الاجتهاد فيها؛ ثبت مطلق الاجتهاد بدون تلك المعارف وبدون الاجتهاد فيها، ثم لا يخفى أن هذا غير ما أصله أولًا من جعله شرطًا للحصول على صفة الاجتهاد، وهذا يزيد ما أشرنا إليه في الكلام على الحصر في الوصفين بيانًا ووضوحًا. "د". قلت: كتب "ف" هنا ما نصه: "اسلأولى: "بدون الاجتهاد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 فِي مُجْتَهِدٍ يَعْتَمِدُ عَلَى اجْتِهَادِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ تَقْلِيدِهِ فِي بَعْضِ الْمَعَارِفِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي العلم بالمسألة1 المجتهد فيها بإطلاق لا شرطًا فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَارِفَ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ يُتَوَصَّلُ إليها بِهَا، فَإِذَا كَانَتْ مُحَصَّلَةً بِتَقْلِيدٍ أَوْ بِاجْتِهَادٍ أَوْ بِفَرْضِ2 مُحَالٍ، بِحَيْثُ يُفْرَضُ تَسْلِيمُ صَاحِبِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا مَا حُصِّلَ هَذَا ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ؛ كَانَ بِنَاؤُهُ صَحِيحًا لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ قَدْ وَقَعَ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ3 الَّذِينَ بَلَغُوا دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ؛ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ كَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ أَخَذُوا عَنْهُمْ وَانْتَفَعُوا بِهِمْ، وَصَارُوا فِي عِدَادِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، مَعَ أَنَّهُمْ عِنْدَ النَّاسِ مُقَلِّدُونَ فِي الْأُصُولِ لِأَئِمَّتِهِمْ، ثُمَّ اجْتَهَدُوا بِنَاءً عَلَى مُقَدِّمَاتٍ مُقَلَّدٍ فِيهَا، وَاعْتُبِرَتْ أَقْوَالُهُمْ وَاتُّبِعَتْ آرَاؤُهُمْ، وَعُمِلَ عَلَى وَفْقِهَا، مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَئِمَّتِهِمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ، فَصَارَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ قَوْلُ أشهب أو   1 في الأصل وجميع النسخ المطبوعة: "بمسألة" وما أثبتناه من "ط" وهو الذي صوبه "د"، فقال: "لعل الأصل: "المجتهد فيها مجتهد بإطلاق"". 2 مبني على ما سبق له، وقد علمت أن هذه توسعة في الكلام لا محل لها؛ لأنه لا يعد من بذل الوسع الكافي في الاجتهاد أن يفرض المجتهد المحتاج إلى أمارة أن المجتهد في علم هذه الأمارة يسلم بما حصل عليه منها، ثم يبني على هذا الفرض استنباطه حكمًا شرعيًا يجب عليه العمل به ويقلد فيه، بمجرد هذا الفرض الذي ليس من نوع التقليد، ولا نوع الاجتهاد في هذه الأمارة، وما سلم له في الوجه الثاني كان من باب التقليد للعالم المحدث ومن معه، وسيقول بعد: "ثم اجتهدوا على مقدمات مقلد فيها"، ولم يأت بمثال للمقدمات المفروضة التي كرر الكلام فيها. "د". 3 هذا المثال أظهر من الأمثلة التي ذكرها في الدليل الثاني من التسليم للقارئ واللغوي ... إلخ؛ لأنه لم يقدم دليلًا على صحة هذا التسليم، بل أرسلها دعوى مجردة، أما هذا المثال، فواضح؛ لأنه لا ينازع أحد في التسليم لمثل ابن القاسم وأبي يوسف في الاجتهاد، والمخالفة في بعض الفروع لمالك وأبي حنيفة، واعتبار اجتهادهما صحيحًا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 غَيْرِهِمَا مُعْتَبَرًا فِي الْخِلَافِ عَلَى إِمَامِهِمْ، كَمَا كَانَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيِّ وَالْبُوَيْطِيِّ مَعَ الشَّافِعِيِّ1، فَإِذًا لَا ضَرَرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ2 مَعَ التَّقْلِيدِ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا. وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْمَطَالِبِ: وَهُوَ فَرْضُ عِلْمٍ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ عِلْمٌ لَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ فيه، فهو لا بُدٍّ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فُرِضَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ فِي الْعَادَةِ الْوُصُولُ إِلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ دُونَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهِ عَلَى تَمَامِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مُبْهَمٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِهِ. وَالْأَقْرَبُ فِي الْعُلُومِ إِلَى أَنْ يَكُونَ هَكَذَا عِلْمُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا أَعْنِي بِذَلِكَ النَّحْوَ وَحْدَهُ، وَلَا التَّصْرِيفَ وَحْدَهُ، وَلَا اللُّغَةَ، وَلَا عِلْمَ الْمَعَانِي، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ، بَلِ الْمُرَادُ جُمْلَةُ عِلْمِ اللِّسَانِ ألفاظ أو معاني كيف تصورت، ما عدا الْغَرِيبِ3، وَالتَّصْرِيفَ الْمُسَمَّى بِالْفِعْلِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشِّعْرِ من حيث هو الشعر كَالْعَرُوضِ وَالْقَافِيَةِ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُفْتَقَرٍ إِلَيْهِ هنا، وإن   1 انظر طبقات أصحاب الأئمة الأربعة بتفصيل حسن أوعب مما عند المصنف عند ابن القيم في "الفروسية" "ص283-285 - بتحقيقي". 2 الأنسب "على المجتهد". "ف". قلت: وهكذا "المجتهد" عند "م". 3 أي: علم غريب اللغة، وقد اعتنى به العلماء بحثًا وتدوينًا، لا سيما غريب القرآن والحديث. "ف". قلت: وكتب "د" ما نصه: "لعله لا يريد الغرابة بالمعنى الأعم الذي يشمل ما لا يخل بالفصاحة وما يخل بها، بل يريد الثاني حتى يكون للاستثناء وجه في عدم الحاجة إليه؛ لأنه لا يوجد في القرآن أصلًا، أما المعنى الأول، فهو موجود قطعًا والاجتهاد يتوقف عليه؛ لأنه تعريف بمعنى المفردات". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 كَانَ الْعِلْمُ بِهِ كَمَالًا فِي الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبَيَانُ تَعَيُّنِ1 هَذَا الْعِلْمِ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ عَرَبِيَّةً؛ فَلَا يَفْهَمُهَا حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةِ حَقَّ الْفَهْمِ؛ لِأَنَّهُمَا سِيَّانِ2 فِي النَّمَطِ مَا عَدَا وُجُوهَ الْإِعْجَازِ، فَإِذَا فَرَضْنَا مُبْتَدِئًا فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ مُبْتَدِئٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ مُتَوَسِّطًا؛ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَوَسِّطُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النِّهَايَةِ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الْغَايَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَكَانَ فَهْمُهُ فِيهَا3 حُجَّةً كَمَا كَانَ فَهْمُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُصَحَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا الْقُرْآنَ حُجَّةً، فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ شَأْوَهُمْ؛ فَقَدْ نَقَصَهُ مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ بِمِقْدَارِ التَّقْصِيرِ عَنْهُمْ، وَكُلُّ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ لَمْ يُعَدَّ حُجَّةً، وَلَا كَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَبْلَغَ الْأَئِمَّةِ فِيهَا؛ كَالْخَلِيلِ، وَسِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشِ، وَالْجَرْمِيِّ، وَالْمَازِنِيِّ وَمَنْ سِوَاهُمْ، وَقَدْ قَالَ الْجَرْمِيُّ4: "أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أُفْتِي الناس [في الفقه] من كتاب سيبويه"5.   1 في "ط": "تعلم". 2 أي أن ما ورد في الشريعة من الكتاب والسنة وما ورد من كلام العرب من نمط واحد وطريق واحد، سوى ما اختص به من المزايا التي ترتفع بها درجة الكلام في الحسن والقبول، فالقرآن انفرد عن سائر كلام العرب بمزايا جعلته معجزًا للبشر عن الإتيان بسورة منه، والحديث امتاز بما جعله يفوق غيره من كلامهم وإن لم يبلغ درجة الإعجاز. "د". 3 يعني: فهمه من حيث ما يفيده الكلام العربي، وليس المراد أنه بمجرد ذلك يكون مجتهدًا في الشريعة ويؤخذ بقوله فيها، بل لا بد من ضم الصفات الأخرى من معرفة مقاصد الشريعة وغير ذلك. "د". 4 هو أبو عمر صالح بن إسحاق البجلي مولى لهم، نزل في جرم، فنسب إليهم، إمام العربية، وكان صادقًا ورعًا خيرًا، إليه انتهى علم النحو في زمنه، توفي سنة خمس وعشرين ومئتين، له ترجمة في "السير" "10/ 561-563". 5 أسنده عنه الزبيدي في "طبقات النحويين واللغويين" "ص75"، وقول المصنف الآتي: "وفسروا ذلك ... " أورده الزبيدي من مقالة محمد بن يزيد، وهو ممن روى عن الجرمي، وكذا في صدر "كتاب سيبويه" "1/ 5-6" كما سيأتي عند المصنف قريبًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 وَفَسَّرُوا ذَلِكَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ بِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ حَدِيثٍ، وَكِتَابُ سِيبَوَيْهِ يُتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّظَرُ وَالتَّفْتِيشُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي النَّحْوِ، فَقَدْ نَبَّهَ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَقَاصِدِ الْعَرَبِ، وَأَنْحَاءِ تَصَرُّفَاتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَمْ يَقْتَصِرْ فِيهِ عَلَى بَيَانِ أَنَّ الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ وَالْمَفْعُولَ مَنْصُوبٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، حَتَّى إِنَّهُ احْتَوَى عَلَى عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَوُجُوهِ تَصَرُّفَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ الْجَرْمِيُّ عَلَى مَا قَالَ، وَهُوَ كَلَامٌ يُرْوَى عَنْهُ فِي صَدْرِ1 "كِتَابِ سِيبَوَيْهِ" مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْأُصُولِيِّينَ قَدْ نَفَوْا هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ؛ فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَى الْأُصُولِيِّ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ، الْبَاحِثِينَ عَنْ دَقَائِقِ الْإِعْرَابِ وَمُشْكِلَاتِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيهِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهَا مَا تَتَيَسَّرُ بِهِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ بِالْكِتَابِ2 وَالسُّنَّةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ3 تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ4 فِي هَذَا الشَّرْطِ: "إِنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ خِطَابُ الْعَرَبِ وَعَادَتَهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ، حَتَّى يُمَيَّزَ5 بَيْنَ صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ6، وَحَقِيقَتِهِ ومجازه، وعامه وخاصه،   1 في "م": "صدد" بالدال في آخره، وكتب في الهامش: "في المطبوعات: "في صدر". 2 لعل الأصل من الكتاب. "د". 3 من أن من لم يبلغ شأو العرب والصحابة في فهم اللغة لم يكن قوله حجة. "د". 4 في "المستصفى" "2/ 352". 5 في "المستصفى": "إلى حد يميز ... ". 6 تفردت "م" بزيادة بعد "مجمله": "ومبينه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه، ونصه وفحواه ولحنه ومفهمومه". وَهَذَا الَّذِي اشْتَرَطَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ بَلَغَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ قَالَ: "وَالتَّخْفِيفُ1 فِيهِ [أَنَّهُ] 2 لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ3 الْخَلِيلِ وَالْمُبَرِّدِ، وَأَنْ يَعْلَمَ4 جَمِيعَ اللُّغَةِ وَيَتَعَمَّقَ فِي النَّحْوِ". وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ، فَالَّذِي نُفِيَ اللُّزُومُ فِيهِ5 لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ فِي الِاشْتِرَاطِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْرِيرُ الْفَهْمِ حَتَّى يضاهي6 العربي في ذلك   1 هكذا في الأصل و"د"، أما "ف" و"م"، ففيهما "التحقيق لذلك"، وعلق "ف"، فقال: "صوابه التخفيف بالفاء ضد التثقيل، كما يفهم من عبارة الغزالي، حيث جعل لكل علم من العلوم المشروطة في الاجتهاد مرتبتين ثقيلة وخفيفة. راجع "المستصفى" "2/ 352". 2 سقطت من الأصل و"ف" و"د"، وأثبتها من "م" و"ط"، وهي في المستصفى" "2/ 352". 3 بدلها في مطبوع "المستصفى": "درجة". 4 بدلها في مطبوع "المستصفى": "يعرف". 5 أي: وهو علم جميع اللغة لم نشترطه؛ لأننا إنما اشترطنا أن يساوي العربي في فهم اللغة، ولم نشترط أن يعرف الجميع؛ لأن العربي لا يعرف جميع اللغة، ولا يدقق تدقيقات متعمقة مثل ما للخليل مثلًا، وهذا لا يمنع أن يشترط الاجتهاد في اللغة بناء على الكلام الغزالي نفسه، حيث قال: "القدر الذي يفهم به خطاب العرب ... إلخ"؛ لأن هذا لا يكون إلا لمن بلغ درجة الاجتهاد. "د". قلت: انظر كلام الأصوليين حول الدرجة التي ينبغي للمجتهد أن يصل إليه في معرفة العربية: "الرسالة" "ص51-52" للشافعي، و"الإحكام" "3/ 205" للآمدي، و"جمع الجوامع" "2/ 400 - مع حاشية البناني"، و"البحر المحيط" "6/ 202-203"، و"الإجتهاد" "ص168-172" لسيد موسى، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص84-90" لنادية العمري. 6 انظر إذا ما اشتهر عن أبي حنيفة من عدم إجادته اللغة، فهذا يدل على عدم صحة ما اشتهر. "د". قلت: تجد ذلك مفصلًا في "تأنيب الخطيب" "ص44-58"، و"فقه أهل العراق وحديثهم "ص59"، كلاهما للكوثري، و"الروض الباسم" "1/ 160" لابن الوزير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 الْمِقْدَارِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ اللُّغَةِ وَلَا أَنْ يَسْتَعْمِلَ الدَّقَائِقَ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَرُبَّمَا يَفْهَمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَيَبْنِي فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى التَّقْلِيدِ المحض، فيأتي في الكلام على مسائل الشرعية بِمَا السُّكُوتُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ1 تُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ جَلَالَةً فِي الدِّينِ، وَعِلْمًا فِي الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ. وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي "رِسَالَتِهِ"2 إِلَى هَذَا الْمَعْنَى3، وَأَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِكِتَابِهِ بِلِسَانِهَا عَلَى مَا تَعْرِفُ مِنْ مَعَانِيهَا4، ثُمَّ ذَكَرَ5 مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِيهَا اتِّسَاعَ لِسَانِهَا وَأَنْ تَخَاطَبَ بِالْعَامِّ مُرَادًا بِهِ ظَاهِرُهُ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا يُدْخِلُهُ فِي الْكَلَامِ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَيُعْرَفُ بِالسِّيَاقِ، وَبِالْكَلَامِ يُنْبِئُ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ، وَآخِرُهُ عَنْ أَوَّلِهِ، وَأَنْ تَتَكَلَّمَ بِالشَّيْءِ تُعَرِّفُهُ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَمَا تُعَرِّفُ بِالْإِشَارَةِ وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَعَانِي الْكَثِيرَةَ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "مما"، وكتب "ف": "الأولى "ممن"؛ أي: "وإن كان ذلك المتكلم ممن تعقد عليه الخناصر .... إلخ". 2 انظر منها "الفقرات 173-178". 3 بعد أن ذكر في "الاعتصام" مهم ما قاله الشافعي في هذا المعنى وأمثلته؛ قال "2/ 808 - ط ابن عفان": "وإنما أتى الشافعي بـ[النوع] الأغمض من طرائق العرب؛ لأن سائر تصرفاتها بسطها أهل فنون اللغة من نحو وبيان.. إلخ وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال". "د". وفي "ط": "خاطب بكتابه العرب ... ". 4 أي: معاني العرب التي تنساق إليها أفهامهم. "ف". 5 أي: الشافعي في "الرسالة" "الفقرات 77-78". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 ثُمَّ قَالَ1: "فَمَنْ جَهِلَ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا- وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِي عِلْمِهَا تَكَلُّفَ مَا يَجْهَلُ بَعْضَهُ، وَمَنْ تَكَلَّفَ مَا جَهِلَ وَمَا لَمْ تُثْبِتْهُ معرفته2؛ كانت موافقته للصواب3 وإن وافقه من حيث لا يعرف غَيْرَ مَحْمُودَةٍ، وَكَانَ بِخَطَئِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، إِذَا نَطَقَ 4 فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِيهِ". هَذَا قَوْلُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَغَالِبُ مَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنَ الْفُنُونِ إِنَّمَا هُوَ الْمَطَالِبِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تَكَفَّلَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا بِالْجَوَابِ عَنْهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ؛ فَقَدْ يَكْفِي فِيهِ التَّقْلِيدُ، كَالْكَلَامِ فِي الْأَحْكَامِ تَصَوُّرًا وَتَصْدِيقًا؛ كَأَحْكَامِ النَّسْخِ، وَأَحْكَامِ الْحَدِيثِ، وَمَا أَشْبَهَ5 ذَلِكَ. فالحصل أَنَّهُ لَا غِنَى لِلْمُجْتَهِدِ6 فِي الشَّرِيعَةِ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ فَهْمُ خِطَابِهَا لَهُ وَصْفًا غَيْرَ مُتَكَلَّفٍ ولا متوقف فيه في الغلب إِلَّا بِمِقْدَارِ تَوَقُّفِ الْفَطِنِ لِكَلَامِ اللَّبِيبِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنَ الْمَطَالِبِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا بِهَا؛ فَقَدْ مَرَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا بَنَى اجْتِهَادَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ فِي بَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ؛ فَذَلِكَ في كونه مجتهدًا في عين مسألته،   1 أي: الشافعي في "الرسالة" "الفقرات 177-178". 2 في النسخ المطبوعة، و"ط": "يثبته معرفة"، وما أثبتناه من "الرسالة". 3 في النسخ المطبوعة، و"ط": "موافقة الصواب"، وما أثبتناه من "الرسالة". 4 كذا في جميع النسخ، وفي مطبوع "الرسالة": "إذا ما نطق ... ". 5 كأسباب النزول ومواقع الإجماع. "د". 6 كذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "بالمجتهد"، وكتب "ف": "المناسب للمجتهد باللام؛ أي: لا بد له من ذلك: يقال: ما لك عنى عنه ولا مغني، أي: ما لك عنه بد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 كَالْمُهَنْدِسِ إِذَا بَنَى بَعْضَ بَرَاهِينِهِ عَلَى صِحَّةِ وجود الدئراة مثلًا: فلا يضره في صحة برهان تَقْلِيدُهُ لِصَاحِبِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ الْمُبَرْهِنُ عَلَى وُجُودِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُهَنْدِسُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ بِالْبُرْهَانِ، وَكَمَا قَالُوا فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ في علم الحديث ولم يقدح ذلك من صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ، بَلْ كَمَا يَبْنِي الْقَاضِي فِي تَغْرِيمِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ عَلَى اجْتِهَادِ الْمُقَوِّمِ لِلسِّلَعِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ هُوَ ذَلِكَ، وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَكَمَا بَنَى مَالِكٌ أَحْكَامَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عَلَى مَا يَعْرِفُهُ النِّسَاءُ مِنْ عَادَاتِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ غَيْرَ عَارِفٍ به، وما أشبه ذلك.   1 في "ط": "لم" بغير واو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ1 إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي فُرُوعِهَا وَإِنْ كَثُرَ الْخِلَافُ، كَمَا أَنَّهَا فِي أُصُولِهَا كَذَلِكَ؛ وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا 2 كَثِيرًا} [النِّسَاءِ: 82] ؛ فَنَفَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ البتة،   1 أي: فليس من مقاصد الشرع وضع حكمين متخالفين في موضوع واحد، بل لا يريد إلا طريقًا واحدا في الواقع، ولا ينافي هذا حصول اختلاف من المجتهدين من الطريق الذي يريده الشارع. "د". قلت: وكتب "ف" ما نصه: "أي: ليس فيها ما يفهم قولين مختلفين يتضاربان في حكم بحيث يفيد أحدهما الوجوب والآخر الحرمة في نفس الأمر، بل أدلتها سالمة من التعارض في ذاتها، بريئة من الاختلاف الواقعي، وهذا لا ينفي وجود التعارض والاختلاف في فهم الناظر وظنه". 2 مبني على أن المراد الاختلاف في الأحكام الشرعية، ومنعه بعضهم بوقوع هذا الاختلاف فعلًا، وقال: المراد به التناقض في المعنى والقصور عن البلاغة؛ فالأول بأن يطابق بعضه الواقع، وبعضه لا يكون كذلك، ويكون العقل موافقًا لبعض أحكامه دون بعض، والثاني بتفاوته في النظم ركَّة وفصاحة، وبلوغًا لحد الإعجاز في البعض دون البعض، وكل ذلك يكون سببه نقصان القوة البشرية وتخاذلها عن الوفاء بمواجب الصحة الكاملة والإعجاز التام، على أن الآية في وصف القرآن، وهو أخص من مطلق الشريعة؛ فإنها كما تشمله تشمل السنة والإجماع والقياس وسنة الصحابة كما تقدم؛ فالدليل أخص من المدعى، ولكن المانع لا يتأتى له إثبات الاختلاف في الأحكام الشرعية أيضًا بالمعنى الذي يريده المؤلف وهو تعارض أدلتها في نفس الأمر؛ فيرجع إلى المعنى الذي يقرره المؤلف. "د". قلت: قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 19" أن الاختلاف في القرآن يراد به التضاد والتعارض، ولا يراد به مجرد عدم التماثل، وانظر في الاختلاف ومعناه المنفي عن القرآن: "تأويل مشكل القرآن" "24، 33"، و"بصائر ذوي التمييز" "2/ 561-562"، و"الاعتصام" "2/ 232-233 - ط رضا، و2/ 818 - ط ابن عفان"، و"المنهاج في ترتيب الحجاج" للباجي- وهو مصنف حول الاختلاف في الاصطلاح، و"الحقيقة الشرعية" "ص33-40". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى حَالٍ. وَفِي الْقُرْآنِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 59] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي رَفْعِ1 التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ؛ فَإِنَّهُ رَدَّ الْمُتَنَازِعِينَ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِيَرْتَفِعَ الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ لَمْ يَكُنْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ رَفْعُ تَنَازُعٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ2. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} 3 ... الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 105] ، وَالْبَيِّنَاتُ هِيَ الشَّرِيعَةُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ وَلَا تَقْبَلُهُ الْبَتَّةَ لَمَا قِيلَ لَهُمْ: مِنْ بَعْدِ كَذَا، وَلَكَانَ لَهُمْ فِيهَا أَبْلَغُ الْعُذْرِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَالشَّرِيعَةُ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الْأَنْعَامِ: 153] فَبَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ عَامٌّ في   1 أي: عن الشريعة وإثبات أنها لا اختلاف فيها، والاستدلال بهذه الآية تام يشمل القرآن والسنة وغيرهما مما يبني عليهما. "د". 2 أي: عبث لا يطلبه الله تعالى، أي: وقد طلب منهم الرجوع إليهما لرفع التنازع، والرجوع إلى ما يقتضي الاختلاف لا يمكن أن يحقق المطلوب فيكون عبثًا؛ إلا أنه مع قوة هذا الدليل على المدعى تبقى شبهة في المقام، وهي أن الأئمة المجتهدين مع رجوعهم للكتاب والسنة قد لا يرتفع النزاع بينهم، وقد يجاب عنها بأنه لم يقل: إن رددتموه ارتفع قطعًا وبطريقة كلية. "د". 3 وقد يقال: إن التفرق المنهي عنه التفرق بالعداوة، والاختلاف في أصول الدين، وتكفير بعضهم بعضًا؛ كما هو الواقع في شأن هؤلاء اليهود والنصارى، الذين نعى عليهم هذا التفرق والاختلاف، ولو كان كما يقول؛ لكان المسلمون وأولهم الصحابة قد وقعوا فيما نهوا عنه، ولكان يترتب عليه الجزاء الذي ترتب على تفرق اليهود والنصارى، معاذ الله؛ فقوله: "والبينات هي الشريعة"، نقول: بل أخص، فلا ينتج المطلوب. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ وَتَفَاصِيلِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [الْبَقَرَةِ: 213] ، وَلَا يَكُونُ حَاكِمًا بَيْنَهُمْ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَوْلًا وَاحِدًا فَصْلًا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ. وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشُّورَى: 13] ، ثُمَّ ذَكَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحَذَّرَ الْأُمَّةَ أَنْ يَأْخُذُوا بِسُنَّتِهِمْ؛ فَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشُّورَى: 14] . وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الْبَقَرَةِ: 176] . وَالْآيَاتُ فِي ذم الاختلاف والأمر بالرحوع إِلَى الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ كُلُّهُ، قَاطِعٌ فِي أَنَّهَا لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى مَأْخَذٍ وَاحِدٍ وَقَوْلٍ وَاحِدٍ، قَالَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: "ذَمَّ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ وَأَمَرَ عِنْدَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ". [فَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مِنْ دِينِهِ مَا ذَمَّهُ، وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ حُكْمِهِ مَا أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ عِنْدَهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ"] . وَالثَّانِي: أَنَّ عَامَّةَ 2 أَهْلِ الشَّرِيعَةِ أُثبتوا فِي القرآن والسنة الناسخ   1 أورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 910 - ط المحققة". 2 لم يخالف إلا أبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في وقوعه في شريعة واحدة، والصحيح أن خلافه لفظي؛ لأنه يسميه تخصيصًا، ولم يخالف فيه من الملل الأخرى سوى الشمعونية من اليهود، ذهبوا إلى امتناعه عقلًا وسمعًا، والعنانية منهم إلى امتناعه سمعًا، أما العيسوية منهم أصحاب عيسى* الأصفهاني؛ فيجيزونه عقلًا وسمعًا، واعترفوا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قالوا للعرب خاصة. "د". قلت: انظر في مذهب أبي مسلم الأصفهاني: "نهاية السول" "2/ 149"، و"نظرية النسخ في الشرائع السماوية" "ص23" لشعبان محمد إسماعيل، مطابع الدجوي، مصر، سنة 1977، و"لا نسخ في القرآن" لأحمد السقا "ص17-18"، ط دار الفكر العربي، سنة 1978م.   * كذا في الشرح، والصواب: "أبو عيسى"، انظر: "الملل والنحل" "1/ 215"، وانظر عنهم وعن "العنانية" و"الشمعونية": "اعتقادات فرق المسلمين" "82-83"، و"الحور العين" "144"، و"أديان العرب في الجاهلية" "199-202". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 والمنسوخ على الجملة، وحذروا من الجهل وَالْخَطَأِ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ دَلِيلَيْنِ يَتَعَارَضَانِ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا بِحَالٍ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا، وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ؛ فَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مِنَ الدِّينِ لَمَا كَانَ لِإِثْبَاتِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ -مِنْ غَيْرِ نَصٍّ قَاطِعٍ فِيهِ- فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ كَلَامًا فِيمَا لَا يَجْنِي ثَمَرَةً؛ إِذْ كَانَ يَصِحُّ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً وَدَوَامًا، اسْتِنَادًا إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ دَلِيلٍ مَعَ مُعَارِضِهِ؛ كَالْعُمُومِ2 وَالْخُصُوصِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَمَا أَشْبَهَ3 ذَلِكَ؛ فَكَانَتْ تَنْخَرِمُ هَذِهِ الْأُصُولُ كُلُّهَا، وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الشَّرِيعَةِ مَسَاغٌ لِلْخِلَافِ لَأَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إِذَا فَرَضْنَا تَعَارُضَهُمَا وَفَرَضْنَاهُمَا مَقْصُودَيْنِ مَعًا لِلشَّارِعِ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ مَطْلُوبٌ بِمُقْتَضَاهُمَا، أَوْ لَا، أَوْ مَطْلُوبٌ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْجَمِيعُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي "افْعَلْ"، "لَا تَفْعَلْ" لِمُكَلَّفٍ وَاحِدٍ.   1 أي: لما كان هناك مقتض للبحث والاجتهاد عن الناسخ والمنسوخ، بل كان يجب الوقوف في ذلك عند ما ثبت بنص قاطع فقط. "د". 2 أي: فكان لا يلزم البحث عن المخصصات للعام مع أنه يمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن مخصص إجماعًا. "د". 3 أي: كالترجيح بين الأدلة المتعارضة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عَيْنُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ1 الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ؛ إِذْ كَانَ الْفَرْضُ2 تَوَجُّهَ الطَّلَبِ بِهِمَا؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الدَّلِيلَيْنِ بِحَسَبِ شخصين أو حالتين؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْفَرْضِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْصَرَفَ كُلُّ دَلِيلٍ إِلَى جِهَةٍ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ اخْتِلَافٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِ التَّرْجِيحِ3 بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِعْمَالُ أَحَدِ دَلِيلَيْنِ متعارضين جزافًا4 من غير   1 لأن محصل الثاني أنه غير مطلوب بمقتضى الدليلين، والفرض توجه الطلب، ولم يقل: أنه يكلف بما لا يطاق لأنه لا يكون كذلك إلا لو كان الحاصل أنه مطلوب بمقتضى الدليلين ومطلوب بضد ذلك مثلًا، وقوله: "وكذا الثالث"؛ أي: يلزمه خلاف الفرض؛ لأن الفرض أنهما مقصودان معًا للشارع، فلا يعقل معه أن يكون التكليف بأحدهما دون الآخر، وقوله: "فلم يبق إلا الأول"؛ أي: لم يبقَ غير مخالف لأصل المفروض إلا الأول، وقد بطل بكونه تكليف ما لا يطاق. "د". قلت: انظر تفصيل ذلك في "الإبهاج" "3/ 200"، و"حاشية البناني على المحلي" "2/ 358"، و"المستصفى" "2/ 379 وما بعدها"، و"نهاية السول" "3/ 161-169 - بحاشية التقرير والتحبير". 2 لعله: "إذ كان علة" لقوله: "وكذلك الثالث". "ف". 3 في "المسودة في أصول الفقه" "ص306": "لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به، ذكره الخلال، وهذا قول القاضي". 4 لأنه إنما يصح أن يعمد إلى أحد الدليلين المتعارضين جزافًا إذا كان الاختلاف أصلًا في الدين، والحاجة إلى الترجيح لا تكون إلا؛ لأن الحق واحد علينا تعرفه، ولعله لهذه المزية التي انفرد بها الترجيح عن العموم والنسخ وما معهما، أفرده بهذا الدليل الرابع مع إمكان دخوله في قوله: "وما أشبه ذلك"، كما أشرنا إليه، وإن كان بيانه في قوله: "إذ لا فائدة فيه" هو البيان السابق بعينه = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 نَظَرٍ فِي تَرْجِيحِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي الشَّرِيعَةِ يَرْفَعُ بَابَ التَّرْجِيحِ جُمْلَةً؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ عَلَى فَرْضِ ثُبُوتِ الْخِلَافِ أَصْلًا شَرْعِيًّا لِصِحَّةِ وُقُوعِ التَّعَارُضِ فِي الشَّرِيعَةِ لَكِنَّ1 ذَلِكَ فَاسِدٌ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ إِذَا قَصَدَهُمَا الشَّارِعُ مَثَلًا لَمْ يَتَحَصَّلْ مَقْصُودُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ2 فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ: "افْعَلْ" "لَا تَفْعَلْ"؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ طَلَبَ الْفِعْلِ لِقَوْلِهِ: "لَا تَفْعَلْ"، وَلَا طَلَبَ تَرْكِهِ لِقَوْلِهِ: "افْعَلْ"، فَلَا يَتَحَصَّلُ لِلْمُكَلَّفِ فَهْمُ التَّكْلِيفِ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُهُ عَلَى حَالٍ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى التَّطْوِيلِ؛ لفساد الاختلاف في الشريعة.   = ولو صور الدليل هكذا: اتفقوا على إثبات الترجيح، وأنه لا يصح إعمال أحد الدليلين متعارضين جزافًا بدون نظر في طرق ترجيحه، والقول بثبوت الخلاف يرفع لزوم النظر في الترجيح، ويصحح أخذ أحد الدليلين جزافًا؛ لكان لإفراد الترجيح بدليل رابع وجه؛ لأن ما تقدم في الثاني مأخذه أن البحث في العموم وما معه لا يجني له ثمرة، والمأخذ في هذا الدليل أن قولهم بلزوم الترجيح يتنافى مع كون الاختلاف أصلًا في الدين، ولا يخفى أن مثله يقال في العموم والإطلاق كما أشرنا إليه. "د". قلت: انظر كلامًا حسنًا وجمعًا مستطابًا في تقديم الجمع على الترجيح في "التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية" "1/ 264-301". 1 في "ط": "لكان". 2 هذا ليس بعيدًا عن الاحتمال الأول في الدليل الثالث الذي قرره بأنه تكليف بما لا يطاق؛ غايته أنه قرره هنا من جهة فهم المكلف، وأنه لا يتأتى له أن يفهم المكلف به، ويكون حينئذ خللًا في المأمور، وتقدم أن ذلك من التكليف المحال الراجع إلى تكليف الغافل، فعلى فرض أنه يقصد ذلك لا يكون الفرق إلا من جهة التصوير والتقرير لا غير؛ لأنه يمكن تصوير الاحتمال المذكور به؛ فلا تكون هناك حاجة إلى هذا رأسًا، إلا أن يقال: إن نظره هنا من جهة أنه لا يحصل المقصد من التكليف، يعني: فيكون عبثًا، وهذه جهة أخرى لإبطاله غير جهة تكليف ما لا يطلق في الدليل الثالث، وهذا ما يفيده قوله: "لم يتحصل مقصوده"، وإن كان في استدلاله بعد ذلك نحا نحو لزوم التكليف المحال كما أشرنا إليه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الِاخْتِلَافِ فَثَمَّ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ وَقَعَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أُمُورٌ: - مِنْهَا: إِنْزَالُ الْمُتَشَابِهَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَجَالٌ لِلِاخْتِلَافِ لِتَبَايُنِ الْأَنْظَارِ وَاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَالْمَدَارِكِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ التَّوَقُّفُ فِيهَا هُوَ الْمَحْمُودَ؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهَا قَدْ وَقَعَ، وَوَضْعُ الشَّارِعِ لَهَا مَقْصُودٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ مَقْصُودًا لَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَآلَاتِ؛ فَقَدْ جُعِلَ سَبِيلًا إِلَى الِاخْتِلَافِ2، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُنْفَى عَنِ الشَّارِعِ رَفْعُ3 مَجَالِ الِاخْتِلَافِ جُمْلَةً. - وَمِنْهَا: الْأُمُورُ الِاجْتِهَادِيَّةُ الَّتِي جَعَلَ الشَّارِعُ فيها للاختلاف مجالًا؛ فكثيرًا ما تتوارد عل الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ أَدِلَّةٌ قِيَاسِيَّةٌ4 وَغَيْرُ قِيَاسِيَّةٍ، بِحَيْثُ يظهر بينهما التَّعَارُضُ، وَمَجَالُ5 الِاجْتِهَادِ مِمَّا6 قَصَدَهُ الشَّارِعُ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ حِينَ شَرَعَ الْقِيَاسَ وَوَضَعَ الظَّوَاهِرَ التي تختلف فِي أَمْثَالِهَا النُّظَّارُ لِيَجْتَهِدُوا فَيُثَابُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ بقوله عليه الصلاة والسلام:   1 المراد بها المتشابهات الحقيقية، وقوله: "ومنها الأمور الاجتهادية" هي المتشابهات الإضافية. "د". 2 أي: وذلك يدل على أن الاختلاف له أصل في الشريعة، وأنها لا ترجع إلى قول واحد, في فروعها ما دام الاختلاف مستندًا إلى وضع من الشارع. "ف". 3 لعل الصواب: "وضع" بالواو والضاد كما يدل عليه السياق والسباق. "د". 4 كما ذكروه في معارضات القياس؛ كقول الحنفي: "مسح الرأس مسح؛ فلا يكرر كمسح الخف"؛ فيقول الشافعي: "مسح الرأس ركن؛ فيكرر كالغسل". "د". 5 أي: فوضعه للشريعة مراعيًا فيها شرعية القياس، ومجيئه بالظواهر التي من شأنها أن تختلف فيها الأنظار، هذا الوضع مقصود ليتأتى الاجتهاد وإثابة المجتهدين، فلما وضع مثار الاختلاف لهذا القصد؛ كان الاختلاف مقصودًا له، فلا يصح نفيه عن الشريعة، ومن هذا البيان يعلم أن جواب لما محذوف، وقد ذكر دليل الجواب بقوله بعد: "فهذا موضع آخر.. إلخ". "د". 6 كذا في "ط" وحده، وفي غيره: "لما"، وكتب "ف": "لعله: "مما قصده الشارع". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 "إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ؛ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ" 1 فَهَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ مِنْ موضع الخلاف بسبب وضح محاله. -ومنها: أن العلماء الراسخين [و] 2 الأئمة الْمُتَّقِينَ اخْتَلَفُوا3: هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَمِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ؟ وَالْجَمِيعُ سَوَّغُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ مَسَاغًا فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا؛ فَالْقَائِلُونَ بِالتَّصْوِيبِ مَعْنَى كَلَامِهِمْ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ صَوَابٌ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ حَقٌّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكَرٍ وَلَا مَحْظُورٍ فِي الشَّرِيعَةِ.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، فأصاب أو أخطأ، 3/ 318/ رقم 7352"، ومسلم في "الصحيح"كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، 3/ 342/ رقم 716" عن عمرو بن العاص. 2 زيادة من الأصل و"ط". 3 رأي الغزالي والقاضي والمزني والمعتزلة أن الحق يصح تعدده بتعدد اختلاف المجتهدين في المسائل التي لا نص فيها ولا إجماع، وهي محلات الاجتهاد، والمختار أن الحق واحد؛ من أصابه أصاب، ومن أخطأه أخطأ، وهو مأجور أيضًا، وهو رأي الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر الفقهاء. "د". قلت: انظر في هذه المسألة: "المحصول" "6/ 29 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "6/ 236 وما بعدها"، و"التبصرة" "ص498"، و"المنخول" "ص455"، و"شرح اللمع" "2/ 1044"، و"الإبهاج "3/ 178"، والبرهان" "2/ 316"، و"المستصفى" "2/ 357"، و"الأنجم الزاهرات" "252"، و"شرح الأسنوي" "2/ 202-203 - مع البدخشي"، و"شرح العضد عل ابن الحاجب" "2/ 294"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص486"، و"عقد الجيد" "ص34" للدهلوي، و"التمهيد" "4/ 307"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 489"، و" الإحكام" "4/ 183" للآمدي، و"تيسير التحرير" "4/ 202"، و"فواتح الرحموت" "2/ 380"، و"كشف الأسرار" "4/ 16"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 9-39"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص495"، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" "ص186". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 وَأَيْضًا؛ فَطَائِفَةٌ1 مِنَ الْعُلَمَاءِ جَوَّزُوا أَنْ يَأْتِيَ في الشريعة دليلان متعارضان، ويجويز ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ فِي الِاخْتِلَافِ. وَطَائِفَةٌ أَيْضًا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ2؛ فَكُلُّ قَوْلِ صَحَابِيٍّ وَإِنْ عَارَضَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ آخَرَ؛ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ، وَلِلْمُكَلَّفِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَسَّكٌ، وَقَدْ نُقِلَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ" 3، فَأَجَازَ جَمَاعَةٌ الْأَخْذَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: "لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعلم الْعَامِلُ بِعَمَلِ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ، وَرَأَى أَنَّ خَيْرًا مِنْهُ قَدْ عَمِلَهُ"4. وَعَنْهُ أَيْضًا: "أَيَّ ذَلِكَ أَخَذْتَ بِهِ لم يكن في نفسك منه شيء"5.   1 قال في "التحرير" "3/ 2-3 مع التقرير والتحبير": "والحق أن التعارض في الأدلة الشرعية إنما هو في الظاهر فقط، لا في نفس الأمر، ولذلك يصح أن يقع بين القطعين، وبهذا يرد على من قال: إنه يشترط فيه الوحدات الثمانية؛ لأن ذلك يصح إذا كان التعارض حقيقيًّا وفي نفس الأمر". قال الشافعي: "لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر، من غير جهة الخصوص والعموم، والإجمال والتفسير؛ إلا على وجه النسخ، وحكى الماوردي والروياني عن كثيرين أن التعارض على جهة التكافؤ جائز وواقع"، وقال القاضي أبو بكر وجماعة: "إن الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على القول بأن المصيب في الفروع واحد". "د". 2 انظر ما علقناه على "4/ 456 وما بعد". 3 الحديث منكر، وقد خرجناه فيما مضى "4/ 452". 4 أجرجه بسنده إلى القاسم: ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 900-901/ رقم 1787"، وإسناده صحيح. "5" أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 901/ رقم 1687". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وَمِثْلُ مَعْنَاهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: "مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرَ النَّعَمِ"، قَالَ الْقَاسِمُ: "لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا كَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، وإنما أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ؛ فَلَوْ أَخَذَ أَحَدٌ بِقَوْلِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَ فِي سَعَةٍ"1. وَقَالَ بِمِثْلِ ذلك جماعة من العلماء. وأيضًا؛ فَإِنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ [إِلَى الْعَامَّةِ كَالْأَدِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى] 2 الْمُجْتَهِدِينَ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ أَنْ يُقَلِّدَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ شَاءَ3، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ فِي سَعَةٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ فِي الْأَدِلَّةِ إِذَا تَعَارَضَتْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَاقْتَضَى كُلُّ وَاحِدٍ ضِدَّ حُكْمِ الْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ4 ثَمَّ تَرْجِيحٌ؛ فَلَهُ   1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 901، 902/ رقم 1688، 1689"، وإسناده حسن. وفي "ط": "فلو أخذ رجل بقول أحد ... ". 2 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط، وبدله في "ف": "كأقوال"، وقال "ف": "لعل في العبارة سقطًا والأصل؛ فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى المقلدين كأقوال المجتهدين". وتابعه "د" و"م"؛ فأثبتوها في المتن، ولم ينبهوا على ذلك. 3 أي: ولا يلزم البحث عن مرجح، ولا التعرف عن الأفضل، ومقابله أن تعدد أقوالهم يعتبر للعامي كتعدد الأدلة وتعرضها عند المجتهد، وسيأتي له المبحث مستوفى، يعني: وهذا يؤيد إشكاله على المسألة لأنه إنما يصح إذا سلم تعارض الأدلة، وكان ما يترتب عليه من الخلاف مفيدًا في الشريعة. "د". 4 بهذا القيد لا ينافي ما تقدم له في الدليل الرابع من الاتفاق على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة؛ فهنا موضوع الخلاف وجود التعارض مع عجز المجتهد عن الترجيح بين الإمارتين، وفيه تسعة مذاهب: أحدها هذا التخيير، ونسب أيضًا إلى أبي علي وابنه أبي هاشم والقاضي أبي بكر، وقيل: يتساقطان فيطلب الحكم من موضع آخر. "د". قلت انظر في هذه المسألة: "شرح العبادي على الورقات" "ص150-153"، و"البحر المحيط" و"أدلة التشريع المتعارضة" ص183" لبدران أبو العينين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 الْخِيَرَةُ فِي الْعَمَلِ بِأَيِّهَا شَاءَ، لِأَنَّهُمَا صَارَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَالِاخْتِلَافُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لا يشاء إِلَّا مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ إِذًا فِي الشَّرِيعَةِ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ؛ إِلَّا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَنْعِ الِاخْتِلَافِ يُحْمَلُ على الاختلاف في أصول الدِّينِ لَا فِي فُرُوعِهِ، بِدَلِيلِ وُقُوعِهِ فِي الْفُرُوعِ مِنْ لَدُنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَانِنَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الْمُعْتَرَضَ بِهَا يَجِبُ أَنْ يُحَقَّقَ النَّظَرُ فِيهَا بِحَسَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُخَيَّلَةِ1. أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُتَشَابِهَاتِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُدَعَى فِيهَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ قَصْدَ الِاخْتِلَافِ شَرْعًا2؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، وَكَوْنِهَا3 قَدْ وُضِعَتْ؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الْأَنْفَالِ: 42] لَا نَظَرَ فِيهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ   1 بضم فكسر؛ أي: المشكلة من أخال الشيء اشتبه، أو بفتح فكسر، أي: التي هي موضع الخيل، وهو الظن، وفي "ط": "فإنها في المواضع..". 2 الأنسب بقصد الاختلاف: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} ؛ أي: ليموت من يموت عن حجة عاينها، و {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} ، أي: يعيش عن حجة شاهدها، فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار لا نظر فيه؛ أي: لا إشكال فيه؛ لأنه يستلزم إرادة الاختلاف كما أشار إليه بقوله: فقد قال ... " إلخ. وقال "د": "أي من حيث التشريع والإرادة الأمرية" ا. هـ. قلت: وقارن مع حاشية "رقم 3" بعدها. 3 أي: وكونه قد ترتب على وضع الشريعة هلاك البعض ونجاة البعض ليس محل البحث ومجال النظر، بل هو مقام آخر تشير آية: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} ... إلخ لأن هذا وضع قدري ليس تابعًا للأمر والنهي، ولا رابطة بينه وبين التكليف الذي هو محل البحث هنا؛ فلم يطلب منهم أن يختلفوا وإن كان طبق ما جرت به الإرادة القدرية. "د". وكتب "ف": "أي: بقصد الابتلاء كما سيأتي، لا بقصد الاختلاف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1 [هُودٍ: 118] ؛ فَفَرْقٌ بَيْنَ الْوَضْعِ الْقَدَرِيِّ2 الَّذِي لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْعَبْدِ -وَهُوَ الْمَوْضُوعُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا مَرَدَّ لَهَا- وَبَيْنَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ وَفْقَ الْإِرَادَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 3 [الْبَقَرَةِ: 2] . وَقَالَ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [الْبَقَرَةِ: 26] . وَمَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَوَامِرِ؛ فمسألة المتشابهات من الثاني4 لا من   1 صدر الآية: {ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر، لكنه لم يشأ سبحانه ذلك: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في العقائد التي هى أصول الدين بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ؛ أي: ولثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم؛ فالإشارة للاختلاف كما روي عن الحسن وعطاء، وقيل: للرحمة والاختلاف، أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم بعضًا كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} "ف". قلت: انظر شرح المصنف للآية: "الاعتصام" "2/ 675-677 - ط ابن عفان". 2 أي: الراجع إلى إرادة التكوين الذي تشير إليه الآيتان وليس للعبد أن يتعلل به، والوضع الشرعي هو الراجع إلى التشريع للذي يلزمه الأمر فيما يطلب شرعًا والنهي فيما ينهى عنه شرعًا، بخلاف الأول؛ فلا تلازم فيه بين الإرادة وبين الأمر والنهي، كما تقدم له بسطه في المسألة الأولى من الأمر والنهي. "د". قلت: مضى هناك الإحالة على مواطن بحث ابن تيمية وابن القيم لهذا الموضوع. 3 اجتمع في هذه الآية الوضعان القدري والشرعي معًا، وصدر الآية بعدهما فيه الوضع القدري لا غير؛ لأن المقصود الشرعي من القرآن أن يكون هداية وهو سبب للهداية قطعًا، ولكن الفاسقين لم يتنفعوا به لإعراضهم عنه؛ فكان بطعنهم فيه جهلًا وعنادًا سببًا في زيادة ضلالهم، ولا أنهم كانوا مهديين فأضلهم. "د". 4 أي: الوضع القدري الذي أشار إليه بقوله: "وقد قال تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِين} .... إلخ، وقوله: "لا من الأول"؛ أي: الشرعي الذي هو موضوع البحث والجدل. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَدُلَّ عَلَى وَضْعِ الِاخْتِلَافِ شَرْعًا1، بَلْ وَضْعُهَا لِلِابْتِلَاءِ؛ فَيَعْمَلُ الرَّاسِخُونَ عَلَى وَفْقِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَقَعُ الزَّائِغُونَ فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الراسخون هُمُ الْمُصِيبُونَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ فِي الْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ عَلِمُوهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا، وَأَنَّ الزَّائِغِينَ هُمُ الْمُخْطِئُونَ؛ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا أَمْرٌ2 وَاحِدٌ، لَا أَمْرَانِ وَلَا ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ [إِنْزَالُ] 3 الْمُتَشَابِهِ عَلَمًا لِلِاخْتِلَافِ وَلَا أَصْلًا فِيهِ, وَأَيْضًا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْقَسِمِ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ إِلَى مُصِيبٍ وَمُخْطِئٍ4، بَلْ كَانَ يَكُونُ الْجَمِيعُ مُصِيبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ قَصْدِ الْوَاضِعِ لِلشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِصَابَةَ إِنَّمَا هِيَ بِمُوَافَقَةِ [قَصْدِ] 3 الشَّارِعِ، وَأَنَّ الْخَطَأَ بِمُخَالَفَتِهِ، فَلَمَّا كَانُوا مُنْقَسِمِينَ إِلَى مُصِيبٍ وَمُخْطِئٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ اخْتِلَافٍ شَرْعًا. وَأَمَّا مَوَاضِعُ الِاجْتِهَادِ5؛ فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى نَمَطِ التَّشَابُهِ لأنها دائرة بين   1 أي: حتى يكون دليلًا على قصده الاختلاف من حيث التشريع. "د". وقال "ف": "أي إن الشارع لم يقصد بإنزال المتشابهات وضع أصل للاختلاف، بحيث يكون حجة دالة عليه بل قصد بإنزالها وضع أصل للابتلاء كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} والواجب على الكل هو ذلك الأحسن، وهو هنا عمل المصيبين دون المخطئين؛ فهي لشيء واحد، والتعدد والاختلاف إنما جاء في الزيغ واتباع الهوى؛ فلا مدخل لوضع المتشابه فيه". 2 وهو طلب الإيمان به من الجميع. "د". 3 سقط في "ط". 4 أي: راسخ في العلم وزائغ، يعني: وقد قسمهم الله إلى القسمين، وإنما عبر بالإصابة والخطأ ليجري الدليل مرتبًا على سابقه من قوله: "ومعلوم أن الراسخين ... إلخ"، وعليه؛ فلا يقال: إن هذا الجواب ضعيف؛ لأنه يؤول إلى أن الاعتراض بنى على مذهب المصوبة، والجواب بني على مذهب المخطئة، ومثله لا يعتد به جوابًا حاسمًا للإشكال؛ فقوله: "فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ... إلخ"؛ أي: كما تقتضيه الآية الكريمة. "د". 5 وهي المسائل الفقهية التي لا قاطع فيها؛ إذ هي وقع الخلاف في أن المصيب فيها واحد أو متعدد، أما العقليات والشرعيات القطعية؛ فالمصيب فيها واحد، وإنما في إثم المخطئ فيها وتكفيره وفيه تفصيل يرجع إليه في كتب الأصول. "ف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ شَرْعِيَّيْنِ؛ فَقَدْ يَخْفَى هُنَالِكَ وَجْهُ الصَّوَابِ مِنْ وَجْهِ الْخَطَأِ. وَعَلَى كُلِّ تقدير إن قيل بأن المصيب واحدًا1؛ فَقَدْ شَهِدَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَوْضِعَ لَيْسَ مَجَالَ الِاخْتِلَافِ، وَلَا هُوَ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الِاخْتِلَافِ، بَلْ هُوَ مَجَالُ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، وَإِبْلَاغِ الْجُهْدِ؛ فِي طَلَبِ مَقْصِدِ الشَّارِعِ الْمُتَّحِدِ، فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى وَفْقِ الْأَدِلَّةِ الْمُقَرَّرَةِ أَوَّلًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْكُلَّ مُصِيبُونَ2؛ فَلَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَوْ مَنْ قَلَّدَهُ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَا الْفَتْوَى إِلَّا بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ   1 كما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وكثير من الفقهاء القائلون بأن لله في الواقعة حكمًا واحدًا معينًا موجودًا قبل الاجتهاد، نصب عليه دليلًا وأوجد على المجتهد أصابته بالنظر فيما يوصل عليه، كما أوجب على المكلف معرفته بالنظر والاستدلال، فإذا اجتهد ووضع النظر موضعه؛ فقد أصابه، وإن قصر؛ فقد أخطأه ولو بذل وسعه في تحصيله. "ف". 2 كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء القائلون بأنه ليس لله قبل الاجتهاد معين في الواقعة، بل حكم الله تابع لظن المجتهد، فما ظنه فيها من الحكم، فهو حكم اله تعالى في حقه، وحق مقلده وإن كان الله يعلم غير ما يظنه المجتهد أزلا، ولكن العلم غير الحكم؛ فالحكم لم يشرع إلا على وجه الإبهام، وهو ما يظنه المجتهد، والكلام في الحكم باعتبار التعلق التنجيزي؛ لأنه المتأخر التابع لظن المجتهد ومعناه أن الشارع عند هذا الفريق اعتبر ظن المجتهد المتعلق بمأخذ الحكم ودليله بمثابة الشرع، أي الكلام اللفظي الذي يظهر الحكم، أي الخطاب النفسي في صورته؛ فنظر المجتهد وظنه المسائل الاجتهادية منضم إلى المأخذ الشرعي في ظهور الحكم وتعلقه بأفعال المكلفين تعلقًا تنجيزيًا وقبل نظره وبيانه لا يوجد الحكم في النازلة شاغلًا لذمة المكلف؛ فهو بمثابة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم في مجملات الشريعة، فكما أن حكم المجمل لا يتبين ولا يتعلق بالمكلف إلا بعد بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك الحكم المستنبط في المآخذ الاجتهادية لا يتبين ولا يتعلق بالمجتهد ومن يقلده إلا بعد اجتهاده وبيانه. "ف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 عِنْدَهُمْ إِضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ1، فَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ سَائِغًا عَلَى الْإِطْلَاقِ2؛ لَكَانَ فِيهِ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُسَوَّغُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّهُ إِضَافِيٌّ؛ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ اخْتِلَافٌ مُقَرَّرٌ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا الْجَمِيعُ مُحَوِّمُونَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ هُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، لَا قَوْلَانِ مُقَرَّرَانِ؛ فَلَمْ يَظْهَرْ إِذًا مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ وَضْعُ أَصْلٍ لِلِاخْتِلَافِ، بَلْ وَضْعُ مَوْضِعٍ لِلِاجْتِهَادِ فِي التَّحْوِيمِ عَلَى إِصَابَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، وَمِنْ هُنَاكَ لَا تَجِدُ مُجْتَهِدًا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ قَوْلَيْنِ مَعًا3 أَصْلًا، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ قَوْلًا وَاحِدًا وَيَنْفِي مَا عَدَاهُ. وَقَدْ مَرَّ4 جَوَابُ مَسْأَلَةِ التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ أَنْ يَأْتِيَ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ، فَإِنْ أَرَادَ الذَّاهِبُونَ إِلَى ذَلِكَ التَّعَارُضَ فِي الظَّاهِرِ وَفِي أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ جَائِزٌ، وَلَكِنْ لَا يَقْضِي ذَلِكَ بِجَوَازِ التَّعَارُضِ في أدلة الشريعة، وإن أرادوا تجويز   1 أي: ولو كانت حقيقة لم يكن هناك مانع من ترك المجتهد رأي نفسه إلى رأي غيره. "د". 2 أي: بحيث يجوز لكل واحد من المجتهدين أن يأخذ برأي غيره منهم. "د". 3 كما قرره الأصوليون في مسألة "لا يجوز أن يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد"؛ لأنه إن حصل تعارض جمع أو رجح، وإلا وقف. "د". 4 جواب عن قوله: "وأيضًا؛ فالقائلون بالتصويب ... إلخ"، وجوابه هو الجواب المذكور آنفًا عن الاعتراض باختلافهم في أن كل مجتهد مصيب، وهو أن الإصابة إضافية لا حقيقة، بدليل أنه ليس للمجتهد أن يترك ما وصل إليه اجتهاده إلى قول غيره. "د". قلت: وانظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 124، 20/ 22"، و"فتح الباري" "7/ 409-410"، و"إرشاد الفحول" "ص261-262"، و"الاختلاف وما إليه" "73-78". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَهَذَا لَا يَنْتَحِلُهُ مَنْ يَفْهَمُ الشَّرِيعَةَ لِوُرُودِ1 مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأدلة عليه، ولا أظن [أن] 2 أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهُ3. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ؛ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الظَّنِّيَّاتِ إِنْ سَلِمَ صِحَّةُ الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّهُ مَطْعُونٌ فِي سَنَدِهِ، وَمَسْأَلَتُنَا قَطْعِيَّةٌ وَلَا يُعَارِضُ الظَّنُّ الْقَطْعَ4. وَالثَّانِي: عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ5 حُجَّةٌ عَلَى انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَيْ أَنَّ مَنِ اسْتَنَدَ6 إِلَى قَوْلِ أَحَدِهِمْ؛ فَمُصِيبٌ7 مِنْ حَيْثُ قَلَّدَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ، لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ8 واحد؛   1 في "م": "لو ورد". 2 سقط في "ط". 3 نقل الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص275" أن الماوردي والروياني حكيا عن الأكثرين أن التعارض على جهة التكافؤ في نفس الأمر، بحيث لا يكون أحدهما أرجح من الأخر جائز وواقع، وعليه يحمل قول المصنف: "التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين"، وذهب جماعة من الشافعية، منهم البيضاوي والشيرازي إلى جواز التعارض بين الأمارات، وعدم جواز ذلك بين الأدلة القاطعة. وانظر: "المحلي على جمع الجوامع" "2/ 59"، و"شرح نهاية السول" "3/ 256"، و"مشكاة الأنوار" "2/ 109، 417"، و"التلويح شرح التوضيح" "2/ 103"، و"الإبهاج بشرح المنهاج" "3/ 132، 133، 137، 146، 147" و"شرح تنقيح الفصول" "417، 418" و"كشف الأسرار" "3/ 706"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 138"، و"حاشيتا التفتازاني والجرجاني على شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 99"، و"إعلام الموقعين" "1/ 367"، و"زاد المعاد" "3/ 150"، و"أدلة التشريع المتعارضة "ص26-35" لبدران أبو العينين بدران، و"التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية: "1/ 59 وما بعدها" لعبد اللطيف البرزنجي. 4 في الأصل: "القطعي". 5 في "ط": "منهم". 6 في "ف": "أسند". 7 في "م": "مصيب". 8 أي: بل بالنسبة لنفسه ولمن قلده كما سبق في المجتهدين. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 فَإِنَّ هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ اخْتِلَافَهُمْ رَحْمَةٌ وَسِعَةٌ؛ فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعَةٌ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، قِيلَ لَهُ: فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؟ فَقَالَ: هَذَا لَا يَكُونُ [هَكَذَا، لَا يَكُونُ] قَوْلَانِ مُخْتَلِفَيْنِ1 صَوَابَيْنِ". وَلَوْ سَلِمَ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ فَتْحِ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا سَعَةً بِتَوْسِعَةِ مَجَالِ الِاجْتِهَادِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ2: "إِنَّمَا التَّوْسِعَةُ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْسِعَةٌ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْسِعَةً أَنْ3 يَقُولَ الْإِنْسَانُ4 بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِيهِ فَلَا، وَلَكِنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا، فَاخْتَلَفُوا". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ5: "كَلَامُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا حَسَنٌ جِدًّا". وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: "إِنَّ اخْتِلَافَهُمْ رَحْمَةٌ" يُوَافِقُ مَا تقدم6، وذلك   1 في "م": "مختلفان"، وينقل المصنف -بتصرف- عن "جامع بيان العلم" "2/ 906، 907"، وفيه: "قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا، وما الحق والصواب إلا واحد"، وليس عنده: "إن كل مجتهد مصيب"، وهي في "ترتيب المدارك" "1/ 192، 193"، و"إعلام الموقعين" "4/ 211"، و"صفة الفتوى" "41" لابن حمدان، و"آداب المفتي والمستفتي" "125". 2 نقل مقولته ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 906-907". 3 في مطبوع "الجامع": "لأن". 4 في مطبوع "الجامع": "الناس". 5 في "الجامع" "2/ 907". 6 أي: من أن ذلك بسبب فتحهم باب الاجتهاد. "د". قلت: هذا ما صرح به المصنف في "الاعتصام" "2/ 676-676 - ط ابن عفان". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ حَاكِمَةً بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ [وَقَدْ ذَمَّتِ الْمُخْتَلِفِينَ] فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الدِّينِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَامًّا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الظَّوَاهِرُ الْمُتَضَافِرَةُ وَالْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ، فما جَاءَتْهُمْ1 مَوَاضِعُ الِاشْتِبَاهِ وَكَلُوا مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عَمَلٌ إِلَى عَالِمِهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ النَّظَرِ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ، فَلَا يُمْكِنُ خُلُوُّ الْوَقَائِعِ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ فَتَحَرَّوْا أَقْرَبَ الْوُجُوهِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ، وَالْفِطَرُ وَالْأَنْظَارُ تَخْتَلِفُ؛ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ مِنْ هُنَا لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي هَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتِ الْفَرْعِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهَا -وَهُمُ الْقُدْوَةُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى مَقَاصِدِهَا- لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ ذَلِكَ الْبَابَ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ الِاخْتِلَافِ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَمَوَاضِعُ الِاشْتِبَاهِ مظانٌّ الِاخْتِلَافِ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ فِيهَا؛ فَكَانَ الْمَجَالُ يَضِيقُ عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا اجْتَهَدُوا وَنَشَأَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ فِي تَحَرِّي الصَّوَابِ الِاخْتِلَافُ؛ سَهُلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ سُلُوكُ الطَّرِيقِ، فَلِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز: "مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرَ النَّعَمِ"2. وَقَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا"3. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَلِّدِينَ؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لَا فَرْقَ بَيْنَ مُصَادَفَةِ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ، وَمُصَادَفَةِ الْعَامِّيِّ الْمُفْتِيَ؛ فَتَعَارُضُ الْفَتْوَيَيْنِ عَلَيْهِ كَتَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ4 عَلَى الْمُجْتَهِدِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ اتِّبَاعُ الدَّلِيلَيْنِ مَعًا، وَلَا اتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَرْجِيحٍ، كَذَلِكَ لا يجوز   1 في "ط": "جاءت". "2 و3" مضى تخريجهما قريبًا. 4 أي: في نظر المجتهد، وأما في نفس الأمر؛ فلا تعارض على الصحيح. "ف". قلت: وما عند المصنف في "المستصفى" "2/ 391" للغزالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 لِلْعَامِّيِّ اتِّبَاعُ الْمُفْتِيَيْنِ مَعًا وَلَا أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَرْجِيحٍ1. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ2: "إِذَا تَعَارَضَا عَلَيْهِ تَخَيَّرَ" غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا قَوْلٌ بِجَوَازِ تَعَارُضِ الدليلين في نفس الأمر وقد مر فِيهِ آنِفًا. وَالثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ أَنَّ فَائِدَةَ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، وَتَخْيِيرُهُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ نَقْضٌ لِذَلِكَ الْأَصْلِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَعَلَى مَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا الْجُزْئِيَّةُ، فَمَا يُعْرِبُ عَنْهَا دليل كل حكم وحكمته،   1 هذا إذا وسعه الترجيح، وإلا؛ فيخير بين أيهما شاء؛ لأن كلا القولين موجود بالفعل، معمول به عند قائله؛ فهو في سعة من الأخذ بأيهما أراد، بخلاف المجتهد إذا تعارض في نظره دليلان ولم يسعه الترجيح؛ فليس هناك قول موجود بالفعل حتى يكون في سعة من العمل به؛ فيلزمه التردد والتوقف كما نقل عن الشافعي في بضعة مسائل، وقد يستأنس لهذا بما قيل من جواز تقليد العامي المفضول من المجتهدين، مع وجود الفاضل، مع أنه لا يجوز للمجتهد الأخذ بالمرجوح من الأدلة مع وجود الراجح. "ف". قلت: انظر: التقرير والتحبير" "3/ 351"، و"القسطاس المستقيم" "ص76" للغزالي، تحقيق محمد السمان ط دار الثقافة 1381هـ والمدخل للفقه الإسلامي لمحمد سلام مدكور "ص325"، و"عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" للباني. 2 التخيير في حق العامي هو الذي صححه الرافعي والشيرازي في "اللمع"، واختاره ابن الصباغ فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه، واختاره الآمدي مستدلًا بحادثة بني قريظة، وفي هذا الاستدلال نظر، كما قدمناه في التعليق على "3/ 407-409"، وقال الغزالي في "المحصول" "6/ 82": "منهم في خيره، ومنهم من أوجب الأخذ بقول الإعلم"، قال: "وهو الأقرب لمزيته"، وانظر: "البحر المحيط" "6/ 313"، وفيه: "وأغرب الروياني فقال: إنه غلط". قلت: ودليل المصنف على التغليط قوي، وهو موافق للروياني، ونصره الفاسي في "تحفة الأكابر" كما في "رفع العتاب" "ص95". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ؛ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ دَاخِلًا تَحْتَ قَانُونٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ؛ اعْتِقَادًا، وَقَوْلًا، وَعَمَلًا؛ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ كَالْبَهِيمَةِ الْمُسَيَّبَةِ حَتَّى يَرْتَاضَ بِلِجَامِ الشَّرْعِ، وَمَتَّى خَيَّرْنَا الْمُقَلِّدِينَ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ؛ لِيَنْتَقُوا مِنْهَا أَطْيَبَهَا عِنْدَهُمْ لَمْ يبقَ لَهُمْ مَرْجِعٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ فِي الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِمَقْصِدِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ؛ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ عَلَى حَالٍ، وَانْظُرْ فِي الْكِتَابِ "الْمُسْتَظْهِرِيِّ" لِلْغَزَالِيِّ؛ فَثَبَتَ2 أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى [كَوْنِ] 3 وُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ مَقْصُودًا مِنَ الشَّارِعِ، بَلْ ذَلِكَ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إِلَى أَنْظَارِ الْمُكَلَّفِينَ وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنَ الِابْتِلَاءِ، وَصَحَّ أَنَّ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّرِيعَةِ وَذَمَّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا؛ إِذْ لَوْ صَحَّ فِيهَا وَضْعُ فَرْعٍ وَاحِدٍ عَلَى قَصْدِ الِاخْتِلَافِ لَصَحَّ فِيهَا4 وُجُودُ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ اخْتِلَافٌ مَا صَحَّ كُلُّ الِاخْتِلَافِ وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ؛ فَمَا أَدَّى إليه مثله.   1 انظر منه آخر "الباب التاسع، في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا .... ص120"، وفي النسخ المطبوعة و"ماء": "المستظهر" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، كما في "الأصل"، وفي "طبقات السبكي" "4/ 116": "المستظهري في الرد على الباطنية"، وانظر: "مؤلفات الغزالي" "رقم 22". وقول المصنف السابق: "فإن الشريعة قد ثبتت أنها تشتمل على مصلحة .... إلخ" منه "ص59" مع تصرف وتغيير. 2 هذا واقع في مقابلة قوله في آخر الاعتراض على أصل القاعدة "يُحْمَلُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الدِّينِ لَا في فروعه الذي جعله نتيجة للأدلة لأدلة المسألة، فلما أبطل أدلة المسألة واحدًا واحدًا؛ رتب عليه قوله؛ فثبت أنه لا اختلاف، وصح أن نفي الاختلاف جارٍ على الإطلاق في الأصول والفروع، كما هو أصل المسألة، وكما نبه إليه قوله آنفًا: "فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَامًّا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ حسبما اقتضته الظواهر ... إلخ". "د". 3 ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط". 4 في "ط" و"م": "فيه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 فَصْلٌ: وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي قَوَاعِدُ، مِنْهَا1 أنه ليس للمقلد2 أن تتخير3 في   1 أي: متى ثبت الأصل المتقدم، وهو أن الشريعة ترجع إلى قول واحد، لزم أنه ليس للمقلد أن يتخير؛ لأنه لا يكون ذلك إلا إذا كانت الشريعة موضوعة على تعدد الحكم واختلاف الرأي في الشيء الواحد، إلا أن هذا الموضع نفسه تقدم له في معارضة المسألة، ثم رده وأقام الدليل على غرضه من عدم تخير المقلد، لكنه بسط الكلام عليه في هذا الفصل؛ فلهذا أعاده. وقد ذكر الأصوليون في تخيير المقلد مسألة خلافية، وهي أنه هل للعامي أن يسأل من يشاء من المفتين، أم أنه لا بد من ترجيحه في سؤاله وأخذه عن الراجح منهم في نظره ويكفيه الشهرة؟ وهذا هو رأي أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين، مخالفين لرأي القاضي أبي بكر وجماعة من الفقهاء والأصوليين القائلين بالتخيير، سواء أتساووا أم تفاضلوا، واستدلوا بأن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول، وكان فيهم العوام، ولم ينقل عن أحد من الصحابة تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولو كان التخيير غير جائز؛ لما تطابق الصحابة على عدم إنكاره، قال الآمدي "في "الإحكام" "4/ 318" في نهاية المسألة: "ولولا إجماع الصحابة على ذلك؛ لكان القول بمذهب الخصوم أولى" ا. هـ. والظاهر أن هذا الدليل لا ينهض بإزاء موضوع المؤلف؛ فإن غاية ما أفاده الدليل تخيير العامي في استثناء أي صحابي شاء، أما إذا ذهب إلى صحابيين، فأفتياه بمختلف الأقوال؛ فليس في هذا الدليل ما يدل على التخيير فيه، وهو الذي يتكلم فيه المؤلف ويبرهن على عدم جوازه، وهو غير أصل المسألة المختلف فيها على ما نقلناه؛ فلا يأتي فيه دليل القاضي ومن معه، وليس محل إجماع الصحابة، وحينئذ فيتم فيه قول الآمدي: "إن مذهب الخصوم أولى"، ويتم للمؤلف مطلوبه. "د". قلت: انظر في المسألة: "المحصول" "6/ 81"، و"البحر المحيط" "6/ 311"، و"التمهيد" "4/ 403"، و"المستصفى" "2/ 390"، و"البرهان" "2/ 1342-1344"، و"المنخول" "479"، و"الإحكام" "4/ 317" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "432"، و"تيسير التحرير" "4/ 351"، "فواتح الرحموت" "2/ 404"، و"إحكام الفصول" "ص729"، و"إرشاد الفحول" "271"، و"المسودة في أصول الفقه" "462، 518"، و"جمع الجوامع" "2/ 395 مع شرح المحلي"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 262 و20/ 202"، = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 ....................................................................   = 204، 209، 213 و35/ 233"، و"آدب المفتي والمستفتي" لابن الصلاح "ص164-165"، و"روضة الطالبين" "11/ 117". 2 التقليد قبول رأي من ليس رأيه حجة دون أن تعرف حجته، فيخرج عنه العمل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وبالإجماع ورجوع القاضي إلى الشهود؛ لأن هذه الثلاثة أدلة شرعية يؤخذ بها في الأحكام جماعًا؛ فهي حجة شرعية، فلا يعد الرجوع إليها تقليدًا، والمفتي في اصطلاحهم هو المجتهد، وقد يطلق على من يعرف الأحكام الشرعية ويتصدى لإجابة السائلين عنها وإن لم يكن مجتهدًا. "د". 3 في المسألة ثمانية أقوال، والتخيير لأكثر أصحاب الشافعي والشيرازي والخطيب والبغدادي والقاضي، والاجتهاد في الترجيح الذي اختاره المؤلف وبالغ في إثباته وشدد النكير على خلافه هو لابن السمعاني، كما يؤخذ من "إرشاد الفحول" "ص271" للشوكاني، وعليك بمراجعة الركن الثاني من أركان القضاء في "التبصرة" "1/ 45 وما بعدها"؛ فإن به فصولًا ممتعة جدًا في هذا الموضوع، وهي على الجملة تؤيد ما ذهب إليه المؤلف هنا، وفي "فتاوى الشيخ عليش" "1/ 57 وما بعدها" في باب مسائل أصول الفقه إفاضة واستقصاء في هذا الموضوع. "د". وكتب "ف" ما نصه: "علمت أن الظاهر تخييره، ومن كان حكمه كذلك؛ فلا يلزم أن يكون أخذه بأحدهما متبعًا هواه، خصوصًا إذا تساويا بالنسبة إلى فرضه". قلت: انظر ما قدمناه قريبًا في التعليق على "ص79"، و"إحكام الفصول" "ص729-730"، و"البرهان في أصول الفقه" "2/ 1350-1351".   1 نقل عنه هذا الزركشي في "البحر" "6/ 313" وغيره، وفي هذا نظر؛ فإنه قال في "الفقيه والمتفقه" "2/ 204": "فإن قال قائل: فكيف تقول في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا؛ فهل له التقليد؟ قيل: له إن شاء الله، هذا على وجهين: أحدهما: إن كان العامي يتسع عقله ويكمل فهمه، إذا عقل أن يعقل، وإذا فهم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم، وعن حججهم؛ فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان عقله يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له؛ وَسِعَهُ التقليد لأفضلهما عنده". قلت: وهذا تفصيل حسن، وليس فيه التخيير؛ فتأمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 الْخِلَافِ؛ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ فَوَرَدَتْ كَذَلِكَ عَلَى الْمُقَلِّدِ؛ فَقَدْ يَعُدُّ بَعْضُ النَّاسِ الْقَوْلَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُخَيَّرًا فِيهِمَا كَمَا يُخَيَّرُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ فَيَتَّبِعُ هَوَاهُ وَمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ، وَرُبَّمَا اسْتَظْهَرَ عَلَى ذَلِكَ بِكَلَامِ بَعْضِ الْمُفْتِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَوَّاهُ بِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ" 1، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ؛ فَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ فِيمَا إِذَا ذَهَبَ الْمُقَلِّدُ عَفْوًا فَاسْتَفْتَى صَحَابِيًّا أَوْ غَيْرَهُ فَقَلَّدَهُ فِيمَا أَفْتَاهُ بِهِ فِيمَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ قَوْلَا مُفْتِيَيْنِ؛ فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّبِعٌ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُ يَقْتَضِي ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيلُ صَاحِبِهِ؛ فَهُمَا صَاحِبَا دَلِيلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَاتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا بِالْهَوَى اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ؛ فَلَيْسَ إِلَّا التَّرْجِيحُ بِالْأَعْلَمِيَّةِ وَغَيْرِهَا2. وَأَيْضًا فَالْمُجْتَهِدَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّيِّ كَالدَّلِيلَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، التَّرْجِيحُ أَوِ التَّوَقُّفُ كَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ، وَلَوْ جَازَ تَحْكِيمُ3 التَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ فِي مِثْلِ هَذَا؛ لَجَازَ لِلْحَاكِمِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ضَابِطًا قُرْآنِيًّا يَنْفِي اتباع الهوى جملة.   1 مضى تخريجه "4/ 452"، وهو حديث غير صحيح، وانظر تفصيلًا حول الجواب عن الاستدلال بهذا الحديث بما يؤيد قول المصنف في "رفع العتاب" "ص90-93". 2 مثل الأورعية أو كثرة الأدلة؛ كما تراه في "المحصول" "6/ 81"، و"جمع الجوامع" "2/ 436"، و"رفع العتاب" "ص65-66". 3 أي: فلا فرق بين أن يمنع المكلف من الحكم بين الناس بمحض اختياره قولًا من الأقوال المنسوبة للمجتهدين، وبين أن يأخذ لنفسه بمحض هذا الاختيار، فلما كان ممنوعًا من الأول إجماعًا كان ممنوعًا من الثاني، ومن يدعي الفرق عليه البيان، على أن القرافي نقل الإجماع على حرمة اتباع الهوى في الفتيا أيضًا كما نقله عنه ابن فرحون في "التبصرة" "1/ 51" في الركن الثاني من أركان القضاء، ونقل عنه فيه أيضًا أن الحكم والفتيا بالمرجوح خلاف الإجماع. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} [النِّسَاءِ: 59] ، وَهَذَا الْمُقَلِّدُ قَدْ تَنَازَعَ فِي مَسْأَلَتِهِ مُجْتَهِدَانِ؛ فَوَجَبَ رَدُّهَا إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَدِلَّةِ1 الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ؛ فَاخْتِيَارُهُ أَحَدَ الْمَذْهَبَيْنِ بِالْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مُضَادٌّ لِلرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ2 نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ فِيمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهَا بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك} [النساء: 60] . وهذا4 يَظْهَرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ"5. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَتَبُّعِ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ6 الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ لَا يحل.   1 وهي الترجيح هنا. "د". 2، 3 الآتيان نزلت كل منهما على سبب خاص غير سبب نزول الأخرى؛ إلا أنهما مشتركان في نوع السبب، فعليك بالرجوع لكتب التفسير. "د". قلت: انظر "لباب النقول" "72"، و"الصحيح المسند من أسباب النزول" "ص45". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "وهذا". 5 مضى تخريجه "4/ 452"، وهو حديث منكر. 6 قال في كتابه "مراتب الإجماع" "ص58": "واتفقوا على أنه لا يحل لمفتٍ ولا لقاضٍ أن يحكم بما يشتهي مما ذكرنا في قصة، وبما اشتهى مما يخالف الحكم في أخرى مثلها، وإن كان كلا القولين مما قال به جماعة من العلماء ما لم يكن ذلك الرجوع عن خطأ لاح له إلى صواب؛ بان له، ونقله عنه المحلي في "شرح جمع الجوامع" "2/ 442". ونقل الإجماع ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 91، 92 - ط القديمة", والباجي كما سيأتي عنه، وابن الصلاح في "آداب المفتي" "ص125"، وحكاه عنهما ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى الفقهية" "4/ 204"، وانظر: "رفع العتاب" "ص76". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مؤدٍّ إِلَى إِسْقَاطِ التَّكْلِيفِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَفْعَلَ إِنْ شَاءَ، وَيَتْرُكَ إِنْ شَاءَ وَهُوَ عَيْنُ إِسْقَاطِ التَّكْلِيفِ1، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَقَيَّدَ بِالتَّرْجِيحِ2 فَإِنَّهُ مُتْبِعٌ لِلدَّلِيلِ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِلْهَوَى وَلَا مُسْقِطًا لِلتَّكْلِيفِ. لَا يُقَالُ: إِذَا اخْتَلَفَا، فَقَلَّدَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ لِقَاءِ الْآخَرِ جَازَ3؛ فَكَذَلِكَ بَعْدَ لِقَائِهِ، وَالِاجْتِمَاعُ طَرْدِيٌّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَلَّا، بَلْ لِلِاجْتِمَاعِ أَثَرٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الِافْتِرَاقِ طَرِيقٌ مُوَصِّلٌ4 كَمَا لَوْ وَجَدَ دَلِيلًا وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مُعَارِضِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ. أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَا وَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ؛ فَهُمَا كَدَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمَا الْمُجْتَهِدُ، وَلَقَدْ أُشْكِلَ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى الْقَاضِي ابْنِ الطَّيِّبِ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مقيَّد لَا مُطْلَقٌ؛ فَلَا يُخَيَّرُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي تَخْيِيرِهِ [فِي] 5 الْعَمَلِ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ قَاصِدًا لِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ، لَا قَاصِدًا لِاتِّبَاعِ هَوَاهُ فِيهِ، وَلَا لِمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الإباحة مفقود ههنا، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى مَمْنُوعٌ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْقَصْدِ. وَفِي هَذَا الِاعْتِذَارِ مَا فِيهِ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ مُحَالٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ لَهُ مَعَ فَرْضِ التَّعَارُضِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ؛ فَلَا يَكُونُ هنالك متبعا إلا هواه.   انظر: "استدراك1". 2 في "ط" و"ف": "للترجيح" وصوب "ف" المثبت في الهامش، وكتب "م": "في "م" و"ت": فالترجيح". 3 أي: بدون حاجة إلى طلب أفضلية المجتهد على غيره، كما هو مذهب القاضي أبي بكر ومن معه للدليل السابق. "د". 4 في "ط": "متصل". 5 ما بين المعقوفتين سقط من "ف" و"ط"، وصوب "ف" وجوده في الهامش، وعند "م": "أن يكون التخيير في العمل..". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 فَصْلٌ: وَقَدْ أَدَّى إِغْفَالُ هَذَا الْأَصْلِ إِلَى أَنْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ يُفْتِي قَرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ؛ اتِّبَاعًا لِغَرَضِهِ1 وَشَهْوَتِهِ، أَوْ لِغَرَضِ ذَلِكَ الْقَرِيبِ وَذَلِكَ الصَّدِيقِ. وَلَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا كَمَا وُجِدَ فِيهِ تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ اتِّبَاعًا لِلْغَرَضِ وَالشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَصْلُ قَضِيَّةٍ وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَصْلُ قَضِيَّةٍ، بَلْ هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ عَادَتِهِ؛ فَفِيهِ مِنَ الْمَعَايِبِ مَا تَقَدَّمَ وَحَكَى عِيَاضٌ فِي "الْمَدَارِكِ"2: "قَالَ مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ: كُنْتُ عِنْدَ الْبُهْلُولِ بْنِ رَاشِدٍ إِذْ أَتَاهُ ابْنُ فُلَانٍ3؛ فَقَالَ لَهُ بُهْلُولٌ: مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: نَازِلَةٌ، رَجُلٌ ظَلَمَهُ السُّلْطَانُ فأخفيته وحلفت بالطلاق   بل أخرجوا الأمر عن كونه قانونًا شرعيًا، وجعلوه متجرًا، حتى بعض المؤلفين في فقه الشافعية ما نصه: "نحن مع الدراهم كثرة وقلة". "د". قلت: ومن الطرائف ما حكاه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 167" عن بعض الفقهاء في زمانه، قال: "قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قومًا فساقًا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم، وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافًا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأوراح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى، وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا منه عيانًا، وعليه جمهور أهل بلدنا، إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها؛ لأننا لم نشاهدها" انتهى. 2 "1/ 330 - ط بيروت". 3 أبهمه المصنف، وهو عبد الرحيم بن أشرس، على ما حكى القاضي عياض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 ثَلَاثًا مَا أَخْفَيْتُهُ. قَالَ لَهُ الْبُهْلُولُ: مالكٌ يَقُولُ: إِنَّهُ يَحْنَثُ1 فِي زَوْجَتِهِ. فَقَالَ السَّائِلُ: وَأَنَا قَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ2: وَإِنَّمَا أَرَدْتُ غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ: مَا عِنْدِي غَيْرُ مَا تَسْمَعُ. قَالَ: فَتَرَدَّدَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْبُهْلُولُ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثالثة أو الرابعة؛ قال: يابن فُلَانٍ! مَا أَنْصَفْتُمُ النَّاسَ، إِذَا أَتَوْكُمْ فِي نَوَازِلِهِمْ قُلْتُمْ: "قَالَ مَالِكٌ"، "قَالَ مَالِكٌ"، فَإِنْ نَزَلَتْ بِكُمُ النَّوَازِلُ طَلَبْتُمْ لَهَا الرُّخَصَ، الْحَسَنُ يَقُولُ: لَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ، فَقَالَ السَّائِلُ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُلِّدَهَا3 الْحَسَنُ؟! " أَوْ كَمَا قَالَ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَصْلُ قَضِيَّةٍ بَيْنَ خَصْمَيْنِ؛ فَالْأَمْرُ أَشَدُّ، وَفِي "الموازيَّة"4 كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "لَا تقضِ بِقِضَاءَيْنِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فَيَخْتَلِفُ عَلَيْكَ أَمْرُكَ". قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: "لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ لِأَحَدٍ5، وَذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَقْضِيَ بِقَضَاءِ بعض6 من   لأن الخوف على النفس أو المال إنما يعد إكراهًا يرفع أثر الإيمان إذا كان الضرر عائدًا على الشخص الحالف نفسه أو ولده؛ حتى إن الأب والأخ مثلًا لا يعد الخوف عليهما إكراهًا يرفع أثر الإيمان، ولو تحقق الحالف حصول ما ينزل بغير نفسه وولده من الضرر؛ فلا يعد إكراهًا، وإن كان يطل منه اليمين شرعًا -ندبًا أو وجوبًا على الخلاف- لأجل سلامة ذلك الغير، ومحل الحنث إذا يَكُنْ: "ابن فلان"، هذا حلف اليمين خوفًا على نفسه هو من عقوبته على إخفائه، أما إذا كان كذلك؛ فهو داخل في الإكراه، ولا حنث في اليمين، وهذا رأي مالك وأصحابه جميعًا في الإكراه لا ينعقد به يمين ولا بيع ولا غيرهما من سائر العقود والالتزامات. "د". 2 في "م" و"ط": يقوله. 3 معناه أخذها في عنقه كالقلادة، أي أنه هو المسئول عنها ولست مسئولا؛ فأعمل بقوله والعهدة عليه، وتكبيره سرور منه بانفراج أزمته وحل مشكلته. "د". قلت: وهو رد على "ف"، وتبعه "م" حيث قال: "أي: قلد الفتيا، وهو استغراب منه". 4 انظر عنها "دراسات في مصادر الفقه المالكي" "ص149-153 - ط دار الغريب". 5 انظر: "الذخيرة" "10/ 133"، 6 في "ط": "في بعض". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 مَضَى، ثُمَّ يَقْضِي فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ بِعَيْنِهِ عَلَى آخَرَ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ مَنْ مَضَى، وَهُوَ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى هَذَا بِفُتْيَا قَوْمٍ وَيَقْضِيَ فِي مِثْلِهِ بِعَيْنِهِ عَلَى قَوْمٍ بِخِلَافِهِ بِفُتْيَا قَوْمٍ آخَرِينَ إِلَّا فَعَلَ؛ فَهَذَا مَا قَدْ عَابَهُ مَنْ مَضَى وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَلَمْ يَرَهُ صَوَابًا". وَمَا قَالَهُ صَوَابٌ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْ نَصْبِ الْحُكَّامِ رَفْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخِصَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ضَرَرٌ، مَعَ عَدَمِ تَطَرُّقِ التُّهْمَةِ لِلْحَاكِمِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي الْأَقْوَالِ مُضَادٌّ لِهَذَا كُلِّهِ. وَحَكَى أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ1 "أَنَّ قَاضِيًا مِنْ قُضَاةِ قُرْطُبَةَ2 كَانَ كَثِيرَ الِاتِّبَاعِ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، لَا يَعْدِلُ عَنْ رَأْيِهِ إِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، فَوَقَعَتْ قَضِيَّةٌ تَفَرَّدَ فِيهَا يَحْيَى وَخَالَفَ جَمِيعَ أَهْلِ الشُّورَى؛ فَأَرْجَأَ الْقَاضِي الْقَضَاءَ فِيهَا حَيَاءً مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، وَرَدَفَتْهُ قَضِيَّةٌ أُخْرَى كَتَبَ بِهَا إِلَى يَحْيَى، فَصَرَفَ يَحْيَى رَسُولَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَا أُشِيرُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ إِذْ تَوَقَّفَ عَلَى الْقَضَاءِ لِفُلَانٍ بِمَا أَشَرْتُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَيْهِ رَسُولُهُ وَعَرَّفَهُ بِقَوْلِهِ قَلِقَ مِنْهُ، وَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى يَحْيَى وَقَالَ لَهُ: لَمْ أَظُنَّ أَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ مِنْكَ هَذَا الْمَوْقِعَ، وَسَوْفَ أَقْضِي لَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: وَتَفْعَلُ ذَلِكَ صِدْقًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: فَالْآنَ هَيَّجْتَ غَيْظِي؛ فَإِنِّي ظَنَنْتُ إِذْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي أَنَّكَ تَوَقَّفْتَ مُسْتَخِيرًا لِلَّهِ [مُتَخَيِّرًا] 3 فِي الْأَقْوَالِ، فَأَمَّا إِذْ صِرْتَ تَتْبَعُ الْهَوَى وَتَقْضِي بِرِضَى مَخْلُوقٍ ضَعِيفٍ؛ فَلَا خَيْرَ فِيمَا تَجِيءُ بِهِ، وَلَا فيَّ إِنْ رَضِيتُهُ مِنْكَ، فاستعفِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ أَسْتَرُ لَكَ، وَإِلَّا رَفَعْتُ فِي عَزْلِكَ". فَرَفَعَ يَسْتَعْفِي فعُزِل. وقصة محمد بن يحيى ابن لبابة أخو الشيخ ابن لبابة مشهورة، ذكرها.   1 وعنه القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 539 - ط بيروت". 2 سماه أحمد بن عبد البر: "جميل المذهب". 3 سقط من "ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 عِيَاضٌ1، وَكَانَتْ مِمَّا غَضَّ مِنْ مَنْصِبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عُزِلَ عَنْ قَضَاءِ الْبِيرَةِ لِرَفْعِ أَهْلِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الشُّورَى لِأَشْيَاءَ نُقِمَتْ عَلَيْهِ، وَسَجَّلَ بِسَخْطَتِهِ الْقَاضِي حَبِيبُ بْنُ زِيَادٍ وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه2 بيته وأن لا يُفْتِيَ أَحَدًا فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ وَقْتًا، ثُمَّ إِنَّ النَّاصِرَ احْتَاجَ إِلَى شِرَاءِ مِجْشَرٍ3 مِنْ أَحْبَاسِ الْمَرْضَى بِقُرْطُبَةَ بِعَدْوَةِ النَّهْرِ، فَشَكَا إِلَى الْقَاضِي ابْنِ بَقِيٍّ أَمْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَيْهِ لِمُقَابَلَتِهِ مُتَنَزَّهَهُ4 وَتَأَذِّيهِ بِرُؤْيَتِهِمْ أَوَانَ تَطَلُّعِهِ مِنْ عَلَالِيِّهِ؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ بَقِيٍّ: لَا حِيلَةَ عِنْدِي فِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُحَاطَ بِحُرْمَةِ الْحُبْسِ. فَقَالَ لَهُ: فَتَكَلَّمْ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَعَرِّفْهُمْ رَغْبَتِي وَمَا أَجْزُلُهُ مِنْ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ فِيهِ؛ فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجِدُوا لِي فِي ذَلِكَ رُخْصَةً. فَتَكَلَّمَ ابْنُ بَقِيٍّ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَجْعَلُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ فَغَضِبَ النَّاصِرُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ الْوُزَرَاءَ بِالتَّوَجُّهِ فِيهِمْ إِلَى الْقَصْرِ وَتَوْبِيخِهِمْ؛ فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوُزَرَاءِ5 مُكَالَمَةٌ وَلَمْ يَصِلِ النَّاصِرُ مَعَهُمْ إِلَى مَقْصُودِهِ، وَبَلَغَ ابْنَ لُبَابَةَ هَذَا الْخَبَرُ؛ فَرَفَعَ إِلَى النَّاصِرِ يَغُضُّ مِنْ أَصْحَابِهِ الْفُقَهَاءِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ حَجَرُوا عَلَيْهِ وَاسِعًا، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا لَأَفْتَاهُ بِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَقَلُّدِهَا وَنَاظَرَ أَصْحَابَهُ فِيهَا، فَوَقَعَ الْأَمْرُ بِنَفْسِ النَّاصِرِ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ مُحَمَّدِ بْنِ لُبَابَةَ إِلَى الشُّورَى عَلَى حَالَتِهِ الْأُولَى، ثُمَّ أَمَرَ الْقَاضِيَ بِإِعَادَةِ الْمَشُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَاجْتَمَعَ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ، وَجَاءَ ابْنُ لُبَابَةَ آخِرَهُمْ، وَعَرَّفَهُمُ الْقَاضِي ابْنُ بَقِيٍّ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَمَعَهُمْ لأجلها وغبطة6 المعاوضة فيها،   1 في "ترتيب المدارك" "2/ 399 - ط بيروت"، وذكرها المصنف في "الاعتصام" "2/ 684-685 - ط ابن عفان". 2 ف "ط": وألزمه". 3 كمنبر حوض لا يسقى فيه، وبالفتح: اسم مكان من الجشر -بالسكون-، وهو أن يخرجوا بخيلهم فيرعوها أمام بيوتهم، والمراد به مرتفق المرضى كالمستشفى. "ف" وتبعه "م". 4 في الأصل و"ف" و"م": "منزهة"، وكذا في "الاعتصام" "2/ 684"، وفي "ترتيب المدارك" "2/ 399": "منتزهه وباديته فيهم، وأن مطلعه من علاليه..". 5 في "ط": "بعض الوزراء". 6 كذا في الأصل و"ف" و"د" و"الترتيب" و"الاعتصام"، وفي "م": "ورغبه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 فَقَالَ جَمِيعُهُمْ بِقَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحُبْسِ عَنْ وَجْهِهِ، وَابْنُ لُبَابَةَ سَاكِتٌ؛ فقال له القاضي: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَّا قَوْلُ إِمَامِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؛ فَالَّذِي قَالَهُ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ1 الْحُبْسَ أَصْلًا، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَعْلَامٌ يَهْتَدِي بِهِمْ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ، وَإِذْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ2 الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْمِجْشَرِ مَا بِهِ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ عَنْهُ، وَلَهُ فِي السُّنَّةِ فُسْحَةٌ، وَأَنَا أَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَتَقَلَّدُ ذَلِكَ رَأْيًا، فَقَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَتْرُكُ قَوْلَ مَالِكٍ الَّذِي أَفْتَى بِهِ أَسْلَافُنَا وَمَضَوْا عَلَيْهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ بَعْدَهُمْ وَأَفْتَيْنَا بِهِ لَا نَحِيدُ عَنْهُ بِوَجْهٍ، وَهُوَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأْيُ الْأَئِمَّةِ آبَائِهِ؟ فَقَالَ لَهُ3 مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: نَاشَدْتُكُمُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَلَمْ تَنْزِلْ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ مُلِمَّةٌ بَلَغَتْ بِكُمْ أن أخذتهم4 فِيهَا بِقَوْلِ غَيْرِ مَالِكٍ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِكُمْ وَأَرْخَصْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ؟ 5 قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَوْلَى بِذَلِكَ فَخُذُوا بِهِ مَآخِذَكُمْ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ فَكُلُّهُمْ قُدْوَةٌ. فَسَكَتُوا، فقال للقاضي: أنه6 إلى أمير   1 في كتاب "البدائع" "6/ 218" في مذهب الخنفية: إنه ينبني على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبه في جواز الوقف وعدمه، أنه لو بنى رباطًا أو خاناص للمجتازين أو سقاية للمسلمين لا تزول رقبة العين عن ملكه عند أبي حنيفة، إلا إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري مثلًا وقفا على كذا، ومثله إذا حكم به حاكم، أما عند صاحبيه، فيزول الملك بدون توقف على الإضافة إلى ما بعد الموت وبدون حكم الحاكم. "د". قلت: انظر في تفصيل المسألة: "المدونة الكبرى" "4/ 342"، و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "4/ 91"، و"التاج والإكليل" "6/ 42"، و"رسالة الحطاب في بيع الأحباس" "مخطوطة في دار الكتب المصرية، ق4، 5"، و"أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية" "2/ 32 وما بعدها". 2 في "ف": "في"، وفي "م": "وإذا كان بأمير المؤمنين في ... ". 3 في "ط": "فقال لهم". 4 في "د": "أخذتهم". 5 بعدها في "ط": "في ذلك". 6 أي: أبلغ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 الْمُؤْمِنِينَ فُتْيَايَ. فَكَتَبَ الْقَاضِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِصُورَةِ الْمَجْلِسِ، وَبَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَكَانِهِمْ إِلَى أَنْ أَتَى الْجَوَابُ بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِفُتْيَا مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ لُبَابَةَ، وَيُنْفِذَ ذَلِكَ وَيُعَوِّضَ الْمَرْضَى مِنْ هَذَا الْمِجْشَرِ بِأَمْلَاكِهِ بِمِنْيَةِ عَجَبٍ1، وَكَانَتْ عَظِيمَةَ الْقَدْرِ جِدًّا تَزِيدُ أَضْعَافًا عَلَى الْمِجْشَرِ، ثُمَّ جِيءَ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِكِتَابٍ مِنْهُ إِلَى ابْنِ لُبَابَةَ هَذَا بِوِلَايَتِهِ خُطَّةَ الْوَثَائِقِ؛ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِعَقْدِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ؛ فَهَنِئَ بِالْوِلَايَةِ، وَأَمْضَى الْقَاضِي الْحُكْمَ بِفَتْوَاهُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ وَانْصَرَفُوا؛ فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ لُبَابَةَ يَتَقَلَّدُ خُطَّةَ الْوَثَائِقِ وَالشُّورَى إِلَى أَنْ مات سنة ست وثلاثين وثلاث مائة. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ2: "ذَاكَرْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا مَرَّةً بِهَذَا الْخَبَرِ؛ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَلَّ سِجِلَّ السَّخْطَةِ إِلَى سِجِلِّ السَّخْطَةِ؛ فَهُوَ أَوْلَى وَأَشَدُّ فِي السَّخْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ3 فِي كِتَابِ "التَّبْيِينِ لِسُنَنِ الْمُهْتَدِينَ" حِكَايَةً أُخْرَى فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ قَالَ: "وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال   1 في زيادات "شرح القاموس" في مادة منية ما نصه: "والمنية بالكسر اسم لعدة قرى ... " إلى أن قال: "مِنية عجب بالأندلس منها خلف بن سعيد المتوفي بالأندلس سنة 305"؛ فقوله في "الاعتصام" "2/ 686 - ط ابن عفان" في فصل أسباب الخلاف: "ويعوض من هذا المجشر بأملاك ثمنية عجيبة" لا يقتضي أن يكون هنا تحريف، بل قوله: "وكانت عظيمة القدر .... إلخ" يقتضي أنها كانت معروفة بأعيانها كما هو مقتضى كونها اسمًا لهذه البلدة بالأندلس. "د". قلت: وهو رد على "ف" -وتبعه "م"- حيث قال: "لعله بأملاك ثمنية كما في "الاعتصام"" ا. هـ. قلت: الصواب "بمنية عجب" كما في "ترتيب المدارك" "1/ 402". 2 في "ترتيب المدارك" "1/ 204". 3 نقل عنه المزبور عند المصنف: ابن الصلاح في "آداب المفتي والمستفتي" "ص125"، وابن حمدان في "صفة الفتوى" "40-41". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 الْأَخْذُ مِنْ أَقَاوِيلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ بِأَيِّهَا شَاءَ، دُونَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهَا وَلَا يَمِيلَ1 إِلَى مَا مَالَ مِنْهَا لِوَجْهٍ يُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ، فَيَقْضِي فِي قَضِيَّةٍ بِقَوْلِ مَالِكٍ، وَإِذَا2 تَكَرَّرَتْ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِيهَا بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مُخَالِفًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لَا لِرَأْيٍ تَجَدَّدَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِ". قَالَ: "وَلَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُهُ3 أَنَّهُ اكْتَرَى جُزْءًا مِنْ أَرْضٍ عَلَى الْإِشَاعَةِ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا آخَرَ اكْتَرَى بَاقِيَ الْأَرْضِ، فَأَرَادَ الْمُكْتَرِي الْأَوَّلُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ وَغَابَ عَنِ الْبَلَدِ، فَأَفْتَى الْمُكْتَرِي الثَّانِي بِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ أن لا شُفْعَةَ فِي الْإِجَارَاتِ، قَالَ لِي: فَوَرَدْتُ مِنْ سَفَرِي، فَسَأَلْتُ أُولَئِكَ الْفُقَهَاءَ -وَهُمْ أَهْلُ حِفْظٍ فِي الْمَسَائِلِ وَصَلَاحٍ فِي الدِّينِ- عَنْ مَسْأَلَتِي؛ فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا أَنَّهَا لَكَ؛ إِذْ كَانَتْ لَكَ الْمَسْأَلَةُ أَخَذْنَا لَكَ بِرِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ بِالشُّفْعَةِ فِيهَا. فَأَفْتَانِي جَمِيعُهُمْ بِالشُّفْعَةِ، فَقُضِيَ لِي بِهَا". قَالَ: وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ عَنْ كَبِيرٍ من فقهاء هذا المصنف مَشْهُورٍ بِالْحِفْظِ وَالتَّقَدُّمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مُعْلِنًا غَيْرَ مُسْتَتِرٍ: إِنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إِذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ". قَالَ الْبَاجِيُّ: "وَلَوِ اعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا اسْتَجَازَهُ، وَلَوِ اسْتَجَازَهُ لَمْ يُعْلِنْ بِهِ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ". قَالَ: "وَكَثِيرًا مَا يَسْأَلُنِي مَنْ تَقَعُ لَهُ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْأَيْمَانِ ونحوها: لعل فيها رواية؟ أم لَعَلَّ فِيهَا رُخْصَةً؟ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو   1 أي: ولا يلزم أن يكون ميله إلى أحد هذه الأقوال بمقتضى وجه ومرجح؛ إلا أنه يبقى الكلام في معنى كون هذا نظرًا واستدلالًا، وأي شبهة ولو ضعيفة لهذا الزعم مع قوله: "لا يميل .... إلخ"؟ "د". 2 في "ط": "فإذا". 3 في "د": "أوثقه"، وما أثبتناه من الأصل و"ف" و"م" و"ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 كَانَ تَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ إِنْكَارُ الْفُقَهَاءِ لِمِثْلِ هَذَا لَمَا طُولِبُوا بِهِ وَلَا طَلَبُوهُ مِنِّي وَلَا مِنْ سِوَايَ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسُوغُ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ، رَضِيَ بِذَلِكَ مَنْ رَضِيَهُ، وَسَخِطَهُ مَنْ سَخِطَهُ، وَإِنَّمَا الْمُفْتِي مُخْبِرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ؛ فَكَيْفَ يُخْبِرُ عَنْهُ إِلَّا بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ وَأَوْجَبَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم} ... الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 49] ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِهَذَا الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا يَشْتَهِي، أَوْ يُفْتِي زَيْدًا بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ عَمْرًا لِصَدَاقَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ؟ وَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْحَقِّ، فَيَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهِ، وَنَهَاهُ أَنْ يُخَالِفَهُ وَيَنْحَرِفَ عَنْهُ، وَكَيْفَ لَهُ بِالْخَلَاصِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَعِصْمَتِهِ؟! ". هَذَا مَا ذَكَرَهُ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفَقِيهَ1 لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَعْضَ الْأَقْوَالِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَلَا أَنْ يفتي به أحدًا2.   1 المراد به غير المجتهد ممن يعرف أقوال المجتهدين؛ لأنه الذي تقدم الكلام عن الباجي في الإنكار عليه؛ فالمجتهد من باب أولى. "د". 2 قال ابن فرحون في "تبصرة الحكام" "1/ 51-52، 55-56" والقرافي في "الإحكام" "ص250" والنص له: "ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد، والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق! نعوذ بالله تعالى من صفات الغافلين". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر "إعلام الموقعين" "4/ 222" في الفصل الذي عقده لفوائد تتعلق بالفتوى: "الفائدة التاسعة والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه، فإن حسن قصده = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وَالْمُقَلِّدُ فِي اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا المفتي الذي ذكره؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ مُجْتَهِدٍ بِالْهَوَى، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ؛ فَهُوَ أَحْرَى بِهَذَا الْأَمْرِ. فَصْلٌ: وَقَدْ زَادَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ؛ حَتَّى صَارَ الخلاف في المسائل   = في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا، فيضرب به المرأة ضربة واحدة. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر، فيتخلص من الربا. فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله وسوله من الحق اللازم، والله الموفق للصواب" انتهى. ومن لطيف ما يذكر في جنب الترخص: ما قاله الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن نفسه، في كتابه "صيد الخاطر" "2/ 304"، وقد ترخص في بعض الأمور. "ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت. فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! جوابك من وجهين. أحدهما: أنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استفتيت لم تفتي بما فعلت. قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته. قلت: إلا أن اعتقادك هو ما ترضينه لغيرك في الفتوى. والثاني: أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نور في قلبك ما أثر مثل هذا عندك: قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدري ما تركت جائزًا بالإجماع، وعدي هجره ورعًا، وقد سلمت". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 مَعْدُودًا فِي حُجَجِ الْإِبَاحَةِ، وَوَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الزَّمَانِ الِاعْتِمَادُ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ عَلَى كَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا بِمَعْنَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ؛ فَإِنَّ لَهُ نَظَرًا آخَرَ1، بَلْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ الْإِفْتَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْمَنْعِ؛ فَيُقَالُ: لَمْ تُمْنَعْ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَيُجْعَلُ الْخِلَافُ حُجَّةً فِي الْجَوَازِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا مُخْتَلَفًا فِيهَا، لَا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْجَوَازِ، وَلَا لِتَقْلِيدِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنَ الْقَائِلِ بِالْمَنْعِ، وَهُوَ عَيْنُ الْخَطَأِ عَلَى الشَّرِيعَةِ حَيْثُ جَعَلَ ما ليس بمعتمد متعمدا2 وَمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ حُجَّةً. حَكَى الْخَطَّابِيُّ3 فِي مَسْأَلَةِ الْبِتْعِ4 الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ؛ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ النَّاسَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي الْأَشْرِبَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ خَمْرِ الْعِنَبِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُ؛ حَرَّمْنَا مَا اجْتَمَعُوا5 عَلَى تَحْرِيمِهِ وَأَبَحْنَا مَا سِوَاهُ". قَالَ: "وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ يردُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ". قَالَ: "وَلَوْ لَزَمَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَائِلُ لَلَزَمَ مِثْلُهُ فِي الرِّبَا وَالصَّرْفِ وَنِكَاحِ المتعة؛ لأن الأمة قد اختلف فِيهَا". قَالَ: "وَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ حُجَّةً وَبَيَانُ السُّنَّةِ حجة6 على المختلفين من   1: يأتي في الفصل الثامن وهو أنه يراعي الخلاف بعد الوقوع والنزول؛ لأنه حينئذ يتجدد نظرا واجتهادا آخر. "د". 2 في "د": "متعمدًا". 3 في "إعلام الحديث" "3/ 2091-2092". 4 بكسر فسكون: نبيذ يتخذ من عسل كأنه الخمر صلابة. "ف" وتبعه" "م". 5 عند الخطابي: لزمنا ما أجمعوا..". 6 أي: وقد بينت فيما اختلفوا فيه من مسكر غير العنب، وأنواع الربا ونكاح المتعة، والصرف، وغيرها؛ فلا يمكن الاحتجاج بالخلاف. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِين} . هَذَا مُخْتَصَرُ مَا قَالَ1. وَالْقَائِلُ بِهَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَنْ يَتْبَعَ مَا يَشْتَهِيهِ، وَيَجْعَلَ الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ حُجَّةً لَهُ وَيَدْرَأَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَهُوَ قَدْ أَخَذَ الْقَوْلَ وَسِيلَةً إِلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ، لَا وَسِيلَةً إِلَى تَقْوَاهُ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ [لَهُ] 2 مِنْ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ الشَّارِعِ، وَأَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. وَمِنْ هَذَا أَيْضًا جَعْلُ بَعْضِ النَّاسِ الِاخْتِلَافَ رَحْمَةً لِلتَّوَسُّعِ3 فِي الْأَقْوَالِ، وَعَدَمِ التَّحْجِيرِ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ4، وَيَقُولُ: إِنَّ الِاخْتِلَافَ رَحْمَةٌ، وَرُبَّمَا صَرَّحَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ بِالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ لَازَمَ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ أَوِ الْمُوَافِقَ لِلدَّلِيلِ أَوِ الرَّاجِحَ عند أهل النظر والذي5 عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُ لَهُ: لَقَدْ حَجَرْتَ وَاسِعًا، وَمِلْتَ بِالنَّاسِ إِلَى الْحَرَجِ، وَمَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ كُلُّهُ، وَجَهْلٌ بِمَا وُضِعَتْ لَهُ الشَّرِيعَةُ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ. وَقَدْ مَرَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ مَا فِيهِ كفاية، والحمد لله ولكن تقرر منه ههنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله، ذلك أَنَّ الْمُتَخَيِّرَ بِالْقَوْلَيْنِ مَثَلًا بِمُجَرَّدِ مُوَافَقَةِ الْغَرَضِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا بِهِ، أَوْ مُفْتِيًا، أَوْ مُقَلِّدًا عَامِلًا بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ الْمُفْتِي.   1 ذكر المصنف في "الاعتصام" "2/ 870-871 - ط ابن عفان" نحو المذكور تحت هذا الفصل، وأورد مقولة الخطابي مختصرة، وقال: "وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب "الموافقات"، والحمد لله". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "ماء". وفي "ط": "أبعد له عن". 3 في "ماء": "المتوسع". 4 في "ص67، 68". 5 في "د": "والذي". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَخَيِّرًا بِلَا دَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِالْحُكْمِ لَهُ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، إِذْ لَا مُرَجِّحَ عِنْدَهُ بِالْفَرْضِ إِلَّا التَّشَهِّيَ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِنْفَاذُ حُكْمٍ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا مَعَ الْحَيْفِ عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ إِنْ وَقَعَتْ لَهُ تِلْكَ النَّازِلَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَصْمَيْنِ آخَرَيْنِ؛ فَكَذَلِكَ، [أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ؛ فَكَذَلِكَ] 1، أَوْ يَحْكُمُ لِهَذَا مَرَّةً وَلِهَذَا مَرَّةً، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ومؤدٍّ إِلَى مَفَاسِدَ لَا تَنْضَبِطُ بِحَصْرٍ، ومن ههنا شَرَطُوا فِي الْحَاكِمِ بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَحِينَ فُقِدَ؛ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الِانْضِبَاطِ إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ كَمَا فَعَلَ وُلَاةُ قُرْطُبَةَ حِينَ شرطوا على الحاكم أن لا يَحْكُمَ [إِلَّا بِمَذْهَبِ فُلَانٍ2 مَا وَجَدَهُ3، ثُمَّ بِمَذْهَبِ فُلَانٍ؛ فَانْضَبَطَتِ الْأَحْكَامُ بِذَلِكَ، وَارْتَفَعَتِ الْمَفَاسِدُ الْمُتَوَقَّعَةُ] 4 مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الِارْتِبَاطِ، وَهَذَا مَعْنًى أَوْضَحُ مِنْ إِطْنَابٍ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِنَّهُ إِذَا أَفْتَى بِالْقَوْلَيْنِ مَعًا عَلَى التَّخْيِيرِ فَقَدْ أَفْتَى فِي النَّازِلَةِ بِالْإِبَاحَةِ وَإِطْلَاقِ الْعِنَانِ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ5 خَارِجٌ عَنِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا لَا يجوز له   1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 هو ابن القاسم؛ كما قاله الباجي. "د". 3 في "ط": "وجدوه". 4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 5 فإن تخييره للسائل في الأخذ بأي القولين شاء إباحة له أن يعمل بأحدهما، وهو غير نفس القولين الدائرين بين النفي من قائل والإثبات من القائل الآخر، وإنشاء حكم شرعي كهذه الإباحة لا يصح قطعًا إلا من مجتهد بدليل، والفرض خلافه، وهذا أولى من قوله: "وإن بلغها ... إلخ"؛ لأنه سلم أن الإباحة قول ثالث غير النفي والإثبات، وعليه لا يكون مانع يمنع المجتهد -إذا وقع له الدليل على الإباحة ومخالفة القولين- من إثباتها وتقريرها حكمًا شرعيًا، فليس الموضوع حينئذ موضوع قولين لمجتهد حتى يتأتى فيه الرد بما بسطه الأصوليون في مسألة أنه لا يصح أن يكون لمجتهد قولان في مسألة واحدة، بل هو حينئذ قول واحد بالإباحة، على أن الإباحة هنا ليست مقعولة؛ لأن الإباحة تخيير بين فعل شيء وتركه، والذي هنا ترديد بين الامتناع من فعل الشيء؛ لأنه حرام، وبين فعله؛ لأنه مباح، فليست تخييرًا بين الفعل والترك. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 إِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ بَلَغَهَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْقَوْلَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَنَازِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا حَسْبَمَا بَسَطَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ أَقَامَهُ الْمُسْتَفْتِي مَقَامَ الْحَاكِمِ عَلَى نَفْسِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُلْزِمُهُ الْمُفْتِي مَا أَفْتَاهُ بِهِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ التَّخْيِيرُ؛ كَذَلِكَ هَذَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا؛ فَهُوَ قَدِ اسْتَنَدَ فِي فَتْوَاهُ إِلَى شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى عَيْنُ مُخَالَفَةِ الشرع؛ ولأن العامي إنما حكم العلم عَلَى نَفْسِهِ لِيَخْرُجَ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ، وَلِهَذَا بُعِثَتِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِي تَقَلُّبَاتِهِ دَائِرٌ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ: لَمَّةِ مَلَكٍ، وَلَمَّةِ شَيْطَانٍ1؛ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بِحُكْمِ الِابْتِلَاءِ2 فِي الْمَيْلِ مَعَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشَّمْسِ: 7-8]   1 اللمة؛ بفتح اللام: المهمة والخطرة تقع في القلب، وفي حديث ابن مسعود؛ قال: "لابن آدم لمتان: لمة من الملك، ولمة من الشيطان، فأما لمة الملك، فاتعاد بالخير، وتصديق بالحق، وتطييب بالنفس، وأما لمة الشيطان؛ فاتعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وتخبيث بالنفس"، قال ابن الأثير: "أراد إلمام الملك أو الشيطان به والقرب منه؛ فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان". "ف". قلت: أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، رقم 2991"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 279/ رقم 71"، وأبو يعلى في "المسند" "8/ 418/ رقم 4999"، وعنه ابن حبان في "صحيحه" "40 - موارد و997 - الإحسان"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 88" من طريق أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن للشيطان لمة، وللملك لمة ..... " وإسناده ضعيف؛ عطاء اختلط، وسماع أبي الأحوص -واسمه سلام بن سليم- بعد الاختلاط، وباقي رجاله ثقات. وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 109"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 88، 89" من طريق أخرى بإسناد صحيح عن ابن مسعود قوله، وله حكم الرفع؛ إذ لا مجال للاجتهاد فيه، والله أعلم. وفي "ط": "لمة الملك ولمة الشيطان". 2 أي: لا بحكم التشريع، وإلا؛ فهو مطالب بمقتضى الأولى لا غير. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الْإِنْسَانِ: 3] . {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن} [الْبَلَدِ: 10] . وَعَامَّةُ الْأَقْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ إِنَّمَا تَدُورُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ1، وَالْهَوَى لَا يَعْدُوهُمَا، فَإِذَا عَرَضَ الْعَامِّيُّ نَازِلَتَهُ عَلَى الْمُفْتِي؛ فَهُوَ قَائِلٌ لَهُ: "أَخْرِجْنِي عَنْ هَوَايَ وَدُلَّنِي عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ"؛ فَلَا يُمْكِنُ -وَالْحَالُ هَذِهِ- أَنْ يَقُولَ لَهُ: "فِي مَسْأَلَتِكَ قَوْلَانِ؛ فَاخْتَرْ لِشَهْوَتِكَ أَيَّهُمَا شِئْتَ؟ ". فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا تَحْكِيمُ الْهَوَى دُونَ الشَّرْعِ2، وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ: مَا فَعَلْتُ إِلَّا بِقَوْلِ عَالِمٍ؛ لِأَنَّهُ حِيلَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْحِيَلِ الَّتِي تَنْصِبُهَا النَّفْسُ، وِقَايَةً عَنِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، وَشَبَكَةٌ لِنَيْلِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَسْلِيطُ الْمُفْتِي الْعَامِّيَّ عَلَى تَحْكِيمِ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُ إِخْرَاجَهُ عَنْ هَوَاهُ رَمْيٌ فِي عِمَايَةٍ، وَجَهْلٌ بِالشَّرِيعَةِ، وَغِشٌّ فِي النَّصِيحَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى جارٍ فِي الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى. فَصْلٌ: وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى مَنْ مَنَعَ مِنْ تَتَبُّعِ3 رُخَصِ الْمَذَاهِبِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إِلَى مَذْهَبٍ بِكَمَالِهِ؛ فَقَالَ: إِنْ أراد المانع ما هو على خلاف   1 أي: طلب الفعل أو الترك. "د". 2 نقله عن المصنف بتصرف محمد بن القاسم القادري "ت1331هـ" في كتابه "رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام" "ص64-65"، وهو مطبوع. وانظر: في المسألة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 472-473". 3 اختلفوا: هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة؟ فقال به جماعة، وقال الأكثرون: لا يلزمه، وبه قال أحمد، أما إذا التزم مذهبًا معينًا؛ فلهم في ذلك خلاف آخر، وهو: هل يجوز له أن يخالف إمامه ويأخذ بقول آخر في بعض المسائل؟ فمنعه بعضهم مطلقًا، وأجازه بعضهم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يُنْقَضُ فِيهَا قَضَاءُ الْقَاضِي1؛ فَمُسَلَّم، وَإِنْ أَرَادَ مَا فِيهِ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ فَمَمْنُوعٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى خِلَافِ ذلك، بل قوله عليه الصلاة   = كذلك، وفصل بعضهم بين أن يكون بعد العمل أو الحكم أو قبلهما، أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأخف والأسهل؛ فقال أحمد والمروزي: "يفسق"، وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام"، وتقدم نقل المؤلف عن ابن حزم الإجماع على تفسيق متتبع الرخص، وبهذا تعلم أنه لا تلازم بين منع تتبع الرخص وعدم الانتقال إلى مذهب إلا بكماله؛ فتتبع الرخص فسق، والأخذ بقول غير إمامه في بعض المسائل عرفت ما فيه من الخلاف، وعلى كل حال متى لم يكن تلاعبًا ولا تتبعًا للرخص لا حجر فيه على الصحيح ما لم يترتب عليه التلفيق، وإلا منع؛ فلا يصح جعل قوله: "وأنه إنما يجوز الانتقال ... إلخ" عطف تفسير "من منع"؛ إلا على قول ضعيف، وسيأتي في الفصل بعده ما يقتضي أن تتبع الرخص أعم من الأخذ بغير مذهب إمامه ومن الأخذ بقول مرجوح في المذهب، وعليه؛ فلا يصح جعل قوله: "وإنه إنما يجوز .... إلخ" تفسيرًا؛ لأنه يكون تفسيرًا للشيء بما هو أخص منه. "د". قلت: ومن الجدير بالذكر هنا ما أورده الذهبي في "السير" "8/ 90" متعقبًا مقولة من قال: "إن الإمام لمن التزم بتقليده: كالنبي مع أمته، لا تحل مخالفته"! قال: "قلت: قوله: "لا تحل مخالفته"! مجرد دعوى، واجتهاد بلا معرفة، بل له مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، لا بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه، عمل به من أي مذهب كان، ومن تتبع رخص العلماء، وزلات المجتهدين؛ فقد رق دينه، كما قال الأوزاعي أو غيره". ثم قال: "8/ 93-94". "ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقها، وسعة علم، وحسن قصد فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله؛ لأنه قد تبرهن له مذهب الغير في مسائل، ولاح له الدليل، وقامت عليه الحجة، فلا يقلد فيها إمامه، بل يعمل بما تبرهن، ويقلد الإمام الآخر بالبرهان، لا بالتشهي والغرض". 1 أي: إذا وقع على خلافها وهي النص الجلي والإجماع والقياس الجلي وقواعد للشرع، راجع "التبصرة" "1/ 56" لابن فرحون. "ف" ونحوه عند "م". قلت: انظر أيضًا "الذخيرة" "10/ 134"، و"رفع العتاب" "ص58". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 وَالسَّلَامُ: "بُعِْثتُ بالحَنيفِيَِّة السَّمْحة" 1 يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ اللُّطْفِ بِالْعَبْدِ وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تَرِدْ بِقَصْدِ مشاقِّ الْعِبَادِ، بَلْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ بِمَا تَقَدَّمَ [مَا] 2 فِي هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ إِنَّمَا أَتَى فِيهَا السَّمَاحُ مُقَيَّدًا بِمَا هُوَ جَارٍ عَلَى أُصُولِهَا، وَلَيْسَ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وَلَا اخْتِيَارُ الْأَقْوَالِ بِالتَّشَهِّي بِثَابِتٍ مِنْ أُصُولِهَا؛ فَمَا قَالَهُ عَيْنُ الدَّعْوَى. ثُمَّ نَقُولُ: تَتَبُّعُ الرُّخَصِ مَيْلٌ مَعَ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَالشَّرْعُ جَاءَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى؛ فَهَذَا مُضَادٌّ لِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَمُضَادٌّ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ: 59] ، وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ مَوْضِعُ تَنَازُعٍ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ تُبَيِّنُ الرَّاجِحَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ لَا الْمُوَافِقِ لِلْغَرَضِ. فَصْلٌ: وَرُبَّمَا اسْتَجَازَ هَذَا بَعْضُهُمْ فِي مُوَاطِنَ يَدَّعِي فِيهَا الضَّرُورَةَ وَإِلْجَاءَ الْحَاجَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ؛ فَيَأْخُذُ عِنْدَ ذَلِكَ بِمَا يُوَافِقُ الْغَرَضَ حَتَّى إِذَا نَزَلَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالَةٍ لَا ضَرُورَةَ فِيهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَخْذِ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ أَوِ الْخَارِجِ3 عَنِ الْمَذْهَبِ، أَخَذَ فِيهَا بِالْقَوْلِ الْمَذْهَبِيِّ أَوِ الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الطِّرَازِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ الْأَخْذُ بِمَا يُوَافِقُ الْهَوَى الْحَاضِرَ، وَمَحَالُّ الضَّرُورَاتِ مَعْلُومَةٌ مِنَ الشريعة، فإن كانت هذه المسألة   1 مضى تخريجه "2/ 211". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "ف"، وقال: الأولى: "ما في هذا الكلام"". 3 بناء على ما تقدم له من جعله من باب تتبع الرخص، وهو مبني على وجوب التزام مذهب معين في كل واقعة، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إِلَى مَذْهَبٍ بِكَمَالِهِ، وقد عرفت ما فيه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 مِنْهَا، فَصَاحِبُ الْمَذْهَبِ قَدْ تَكَفَّلَ بِبَيَانِهَا أَخْذًا عَنْ1 صَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ2 مِنْهَا، فَزَعْمُ الزَّاعِمِ أَنَّهَا مِنْهَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، وَدَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي "نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ"3 مِنْ هَذَا مَسْأَلَةُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَيُذْكَرُ عَنِ الْإِمَامِ الْمَازِرِيِّ4 أَنَّهُ سُئِلَ: مَا تَقُولُ فِيمَا اضْطَرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ -وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ- مِنْ مُعَامَلَةِ فُقَرَاءِ أَهْلِ الْبَدْوِ فِي سِنِي الْجَدْبِ؛ إِذْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الطَّعَامِ فَيَشْتَرُونَهُ بِالدَّيْنِ إِلَى الْحَصَادِ أَوِ الْجِذَاذِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالُوا لِغُرَمَائِهِمْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا الطَّعَامُ، فَرُبَّمَا صَدَقُوا فِي ذَلِكَ؛ فَيَضْطَرُّ أَرْبَابُ الدُّيُونِ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُمْ، خَوْفًا أَنْ يَذْهَبَ حَقُّهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ5 لِفَقْرِهِمْ، وَلِاضْطِرَارِ مَنْ كَانَ مِنْ أَرْبَابِ الدُّيُونِ حَضَرِيًّا إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى حَاضِرَتِهِ، وَلَا حُكَّامَ بِالْبَادِيَةِ أَيْضًا، مَعَ مَا فِي الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ مِنَ الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَرْطٌ وَلَا عَادَةٌ، وَإِبَاحَةُ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ بُيُوعِ الْآجَالِ خِلَافًا لِلْقَوْلِ بِالذَّرَائِعِ.   1 في "م": "من". 2 في "م": "يكن". 3 انظر: "فتاويه" المطبوعة "3/ 1537"، وهي النوازل على ما ذكر المحقق في أولها "1/ 39". 4 نقله عنه صاحب "المعيار المعرب" وعنه المسناوي في تآليفه في "الاستنابة"، وعنه صاحب "رفع العتاب والملام" "ص64". 5 هذه المسألة تنتهي في التفريع إلى أربع وخمسين مسألة، على ما فصله ابن رشد في "المقدمات" "2/ 526-536"، و"النوازل" أو "الفتاوى" "1/ 384-401"، وعنه التاودي في "حلي المعاصم" "2/ 322 وما بعدها"، وميارة في "شرح التحفة" "2/ 204"، والمواق في "التاج والإكليل" "5/ 59 وما بعدها"، وغيرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 فَأَجَابَ: إِنْ أَرَدْتَ بِمَا أَشَرْتَ إِلَيْهِ إِبَاحَةَ أَخْذِ طَعَامٍ عَنْ ثَمَنِ طَعَامٍ هُوَ جِنْسٌ مُخَالِفٌ لِمَا اقْتَضَى، فَهَذَا مَمْنُوعٌ1 فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا رُخْصَةَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ كَمَا تَوَهَّمْتَ. قَالَ: وَلَسْتُ مِمَّنْ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَعَ قَلَّ، بَلْ كَادَ يُعْدَمُ، وَالتَّحَفُّظُ عَلَى الدِّيَانَاتِ كَذَلِكَ، وَكَثُرَتِ الشَّهَوَاتُ، وَكَثُرَ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ وَيَتَجَاسَرُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِ، فَلَوْ فُتِحَ لَهُمْ بَابٌ فِي مُخَالَفَةِ الْمَذْهَبِ؛ لَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَهَتَكُوا حِجَابَ هَيْبَةِ الْمَذْهَبِ2، وَهَذَا مِنَ الْمُفْسِدَاتِ3 الَّتِي لَا خَفَاءَ بِهَا، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا؛ فَلْيَأْخُذْهُ مِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهُ عَلَى مِلْكِ مُنْفِذِهِ4 إِلَى الْحَاضِرَةِ، وَيَقْبِضُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِإِشْهَادٍ مِنْ غَيْرِ تَحَيُّلٍ عَلَى إِظْهَارِ مَا يَجُوزُ. فَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَسْتَجِزْ -وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى إِمَامَتِهِ- الْفَتْوَى بِغَيْرِ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَلَا بِغَيْرِ مَا يُعْرَفُ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ مَصْلَحِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ؛ إِذْ قَلَّ الْوَرَعُ وَالدِّيَانَةُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَصِبُ لُبْثَ الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ؟ فَلَوْ فُتِحَ5 لَهُمْ هَذَا الْبَابُ لَانْحَلَّتْ عُرَى الْمَذْهَبِ، بَلْ جَمِيعُ الْمَذَاهِبِ6؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ، وَظَهَرَ أَنَّ تِلْكَ الضَّرُورَةَ الَّتِي ادعيت في السؤال ليست بضرورة.   1 لأنه يؤول الأمر إلا بيع طعام بطعام نسيئة والثمن النقدي المتوسط ملغي، وهذا بناء على التزام يسد الذرائع كما هو المذهب. "د". 2 الأصوب أن يقول: "هيبة الشرع". 3 لأنه يكون تحكيمًا للهوى؛ فلا يسير إلا حيث يكون غرضه وشهوته، ولا يكون داخلًا تحت قانون شرعي يضبط به تصرفاته. "د". 4 في "م": "منقده" بالقاف، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط" بالفاء. 5 في "م": "صح"، وهو خطأ. 6 جمع أبو عبد الله محمد بن قاسم القادري الفاسي "ت1331هـ" كتابًا فيه نقل عن علماء المذاهب من الفتوى بغير المشهو في المذهب، وسماه "رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام"، واعتنى بذكر كلام المصنف "الشاطبي"، انظر منه: "ص35، 37، 57، 58، 65، 66، 80 وغيرها"، إذ هذا رأيه كما رأيت، وهو مطبوع عن دار الكتاب العربي بتحقيق محمد القاسم بالله البغدادي سنة 1406هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 فَصْلٌ: وَقَدْ أَذْكُرُ هَذَا الْمَعْنَى جُمْلَةً مِمَّا فِي اتِّبَاعِ1 رُخَصِ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْمَسْأَلَةِ؛ كَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ2 إِلَى اتِّبَاعِ الْخِلَافِ، وَكَالِاسْتِهَانَةِ بِالدِّينِ إِذْ يَصِيرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارُ سَيَّالًا لَا يَنْضَبِطُ3، وَكَتَرْكِ4 مَا هُوَ مَعْلُومٌ إلى ما ليس بمعلوم؛ لأن المذاهب   1 راجع "التحرير" لابن الكمال* في الأصول في باب التقليد؛ فقد أجاز تتبع رخص المذاهب، وقال شارحه: "لكن ما نقل عن ابن عبد البر: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا" إن صح احتاج إلى جواب، ويمكن أن يقال: لا نسلم صحة الإجماع، فقد روي عن أحمد عدم تفسيق متتبع الرخص في رواية أخرى وعن أبي هريرة أنه لا يفسق. "د". قلت: انظر رسالة: "زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء"؛ ففيها جمع مستطاب في المنع من تتبع رخص المذاهب، والمفاسد المترتبة على ذلك. 2 كما يقول الله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} الآية [النساء: 59] "د". 3 فلا يحجر النفوس عن هواها ولا يقفها عند حد. "د". 4 هذه المفسدة قاصرة على حالة ما إذا لم تعلم المسألة المقلد فيها بتفاصليها في المذهب الآخر، كما كان الحال في ذلك الزمان، أما الآن؛ فقد ترتفع هذه المفسدة. "د".   * كذا في الأصل ولعل صوابه: "لابن الهمام. الكلام .... ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 الْخَارِجَةَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ مَجْهُولَةٌ، وَكَانْخِرَامِ قَانُونِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ1، بِتَرْكِ الِانْضِبَاطِ إِلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، وَكَإِفْضَائِهِ إِلَى الْقَوْلِ بِتَلْفِيقِ الْمَذَاهِبِ عَلَى وَجْهٍ يَخْرِقُ2 إِجْمَاعَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْغَرَضِ لَبَسَطْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كافٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.   1 وهي الطرق العادلة التي تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرًا من المظالم، وإهمالها يضيع الحقوق، ويعطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد، ويندرج فيها كل ما شرع لسياسة الناس وزجر المتعدين، وسواء منها ما كان لصيانة النفوس كالقصاص، أو صيانة الأنساب كحد الزنا، أو الأعراض كحد القذف، والتعزيز على السب، أو لصيانة الأموال كحد السرقة والحرابة، أو لحفظ العقل كحد الخمر، أو ما كان من الأحكام للردع والتعزيز؛ كجزاء الصيد للمحرم، وكفارة الظهار واليمين، وهجر المرأة وضربها في النشوز، وقصة الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، وما يتصل بذلك من الكشف عن أصحاب الجرائم بالتغليظ عليهم بالإرهاب، والضرب، والسجن، وتحليف الشهود، وسؤالهم قبل مرتبة السؤال، وتفريق الشهود عند أداء الشهادة، وتفريق المتهمين، وإيهام البعض بأن غيره أقر ليقر، وهكذا من الأمور التي توصل إلى معرفة الحقيقة بدون اقتصار على سماع البينات وتوجيه الأيمان، ولا يخفى أن القسم الأخير الذي قلنا فيه: "وما يتصل بذلك ... إلخ" مختلف فيه، وإنما سبيله المصالح المرسلة أو شبيه بها، ففيه الخلاف باعتباره -وهو الذي ينبغي التعويل عليه- وعدم اعتباره، فإذا ورد هذان القولان فيه أو في شيء من الأنواع السابقة عليه، وحكمنا أو أفتينا كل واحد بما تشتهي، انخرم قانون السياسة الشرعية، ولم يكن هناك ضابط للعدالة بين الناس، وهذا مفسدة أي مفسدة تؤدي إلى الفوضى والمظالم؛ فتضيع الحقوق وتعطل الحدود، ويجترئ أهل الفساد. "د". 2 كما إذا قلد مالكًا في عدم نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وأبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر، وصلى؛ فهذه صلاة مجمع منهما على فسادها، , وكما إذا قلد مالكًا في عدم النقض بلمس المرأة خاليًا عن قصد الشهوة ووجودها، والشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس؛ فوضوءه باطل، وصلاته كذلك، وكمن تزوج بلا صدق ولا ولي ولا شهود. "د". قلت: انظر في المسألة الأخيرة وبيان سوء التلفيق فيها: "فتاوى رشيد رضا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 فصل: وقد بنوا أيضً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَسْأَلَةً أُخْرَى، وَهِيَ: هَلْ يَجِبُ الْأَخْذُ بِأَخَفِّ الْقَوْلَيْنِ، أَمْ1 بِأَثْقَلِهِمَا2؟ وَاسْتُدِلَّ لِمَنْ قَالَ بِالْأَخَفِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} الْآيَةَ: [الْبَقَرَةِ: 185] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الْحَجِّ: 78] . وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 3. وقوله: "بعُثِْتُ بالحنيفيَّةِ السَّمحة" 4. كل ذَلِكَ يُنَافِي شَرْعَ الشَّاقِّ5 الثَّقِيلِ، وَمِنْ جِهَةِ القياس أن الله غني   1 في "ف" و"م": "أو". 2 حكاه أبو منصور عن أهل الظاهر، وهذا القول ومقابله لا يصحان؛ لأن الواجب -كما قال المؤلف- الرجوع للدليل الشرعي لا غير، وسواء أقضى بالأخف أم بالأثقل، ثم في القول بالأخذ بالأخف مطلقًا ما تقدم من المفاسد التي أشيير إليها في الفصل السابق. "د". قلت: والقائلون بالأخذ بأثقل القولين ذهبوا إليه للاحتياط!! ويرد عليهم بأن الاحتياط هو "الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير غلو ومجاوزة، ولا تقصير، ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله" قاله ابن القيم في كتابه "الروح" "ص346". انظر في المسألة: "البحر المحيط" "6/ 322-323، 325-326"، و"البرهان" "2/ 1344"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 581"، و"المستصفى" "2/ 391"، و"روضة الناظر" "3/ 1026"، و"المسودة" "463-464"، و"تسير التحرير" "4/ 255"، و"إرشاد الفحول" "271"، و"جمع الجوامع" "2/ 392 - مع شرح المحلي"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 162-163"، و"الاختلاف وما إليه" "103-104". 3 مضى تخريجه "2/ 72". 4 مضى تخريجه "2/ 211". "5" في "ماء": "المشاق". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 كَرِيمٌ، وَالْعَبْدَ مُحْتَاجٌ فَقِيرٌ، وَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى جَانِبِ الْغَنِيِّ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مَا تَقَدَّمَ1، وَهُوَ أَيْضًا مؤدٍ إِلَى إِيجَابِ إِسْقَاطِ التَّكْلِيفِ جُمْلَةً؛ فَإِنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا شَاقَّةٌ ثَقِيلَةٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ تَكْلِيفًا مِنَ الْكُلْفَةِ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ حَيْثُ لَحِقَتْ فِي التَّكْلِيفِ تَقْتَضِي الرَّفْعَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ؛ لَزِمَ2 ذَلِكَ فِي الطَّهَارَاتِ وَالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ إِلَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَى الْعَبْدِ تَكْلِيفٌ، وَهَذَا مُحَالٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ؛ فَإِنَّ رَفْعَ الشَّرِيعَةِ مَعَ فَرْضِ وَضْعِهَا مُحَالٌ، ثُمَّ قَالَ الْمُنْتَصِرُ لِهَذَا الرَّأْيِ3: إِنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَلَاذِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، وَهُوَ أَصْلٌ قَرَّرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ4. وَإِذَا حَكَّمْنَا ذَلِكَ الْأَصْلَ هُنَا؛ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ رَفْعُ التَّكْلِيفِ بَعْدَ وَضْعِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا جَرَّهُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا تقدم.   1 وهو أن سماحة الشريعة إنما جاءت مقيدة بما هو جار على أصولها، واتباع هوى النفوس وعدم الرجوع إلى الدليل ينافي أصولها. "د". 2 في الأصل: "فليزم". 3 المصنف ينقل عن "المحصول" "6/ 159-160" والعبارات السابقة مع الأدلة منه، ومراده بكلامه هذا صاحبه الرازي، ويؤكده بقوله: "وهو أصل قرره في موضوع آخر". وتجد ذلك في "المحصول" "6/ 107-108" أيضًا، وسيأتي كلام المصنف في المسألة الرابعة من الطرف الثاني من كتاب الاجتهاد أن الذي ينبغي للمفتي اختيار التوسط. 4 وتقدم في المسألة الثالثة عشر من كتاب الأدلة حيث قال هناك: "إنه تحكيم للهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تابعة لا متبوعة". "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ1: فَمَا مَعْنَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ2 الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ؟ فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا أَنَّهَا اعْتِبَارٌ لِلْخِلَافِ؛ فَلِذَلِكَ نَجِدُ الْمَسَائِلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا لَا يُرَاعَى فِيهَا غَيْرُ دَلِيلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا؛ رُوعِي فِيهَا قَوْلُ الْمُخَالِفِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيِّ، فَلَمْ يُعَامِلِ الْمَسَائِلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا مُعَامَلَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: كُلُّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ اخْتُلِفَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ3 الْمِيرَاثُ، وَيَفْتَقِرُ فِي فَسْخِهِ إِلَى الطَّلَاقِ، وَإِذَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ وَكَبَّرَ لِلرُّكُوعِ نَاسِيًا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَادَى مَعَ الْإِمَامِ مُرَاعَاةً4 لقول   1 رجوع إلى معارضة أصل المسألة، ولكن بشيء لم يتقدم له في أدلة المعارضة السابقة، وأفرده هنا لاحتياجه إلى مزيد بيان وتحقيق. "د". 2 انظر حوله: "تهذيب السنن" "1/ 60"، و"بدائع الفوائد" "3/ 257-259"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 129-130 - ط الفقي" كلها لابن القيم، و"المعلم بفوائد مسلم" "1/ 71-72"، و"إيضاح السالك" "160" للونشريسي، و"ملء العيبة" "3/ 248" لابن رشيد و"المنثور في القواعد" للزركشي "2/ 127-134"، و"الأشباه والنظائر" "ص94-95" للسيوطي، وبهامشه "المواهب السنية على الفوائد البهية" "ص206-212" للجوهري، و"فتح الباري" "1/ 127"، و"الدين الخالص" "4/ 176، 182" لصديق حسن خان، و"الفواكه العديدة" "2/ 136"، و"تمام المنة" "159"، وما مضى عند المصنف "1/ 161 وما بعدها"، و"الاعتصام" "1/ 214 و2/ 146 - ط رضا، و2/ 647 - ط ابن عفان"، و"الاختلاف وما إليه" "ص79"، وما سيأتي "ص188-189". 3 لأنه بعد الوقوع تعلق به حق كل من الزوجين والأولاد ويتعلق به من المصلحة وأدلتها ما يرجع قول المخالف. "د". قلت: انظر: الذخيرة" "4/ 446-447 - ط دار الغرب" للقرافي. 4 بعد الوقوع تعلق به دليل عدم جواز إبطال الأعمال، وهو يرجع دليل المخالف ويقويه في هذه الحالة. "د". قلت: انظر في المسألة: "قواعد ابن رجب" "ق18 - بتحقيقي"، و"الذخيرة" = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 مَنْ قَالَ: إِنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ تُجْزِئُ عَنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ فِي النَّافِلَةِ وَعَقَدَهَا يُضِيفُ إِلَيْهَا رَابِعَةً مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مَنْ يُجِيزُ1 التَّنَفُّلَ بِأَرْبَعٍ بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُرَاعِي فِيهَا غَيْرَ دَلَائِلِهَا، وَمِثْلُهُ جَارٍ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهَا؛ فَلَا يُعَامِلُونَ الْفَاسِدَ الْمُخْتَلَفَ فِي فَسَادِهِ مُعَامَلَةَ2 الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ، وَيُعَلِّلُونَ التَّفْرِقَةَ بِالْخِلَافِ؛ فَأَنْتَ تَرَاهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْخِلَافَ، وَهُوَ مُضَادٌّ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ أُشْكِلَتْ عَلَى طَائِفَةٍ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "الْخِلَافُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الشَّرِيعَةِ"3، وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ دَلِيلَيِ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُتَعَارِضَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ4 الْآخَرُ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ أَوْ بَعْضَ مَا يَقْتَضِيهِ هُوَ مَعْنَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ5. وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا جَمَاعَةً مِنَ الشُّيُوخِ6 الَّذِينَ أَدْرَكْتُهُمْ؛ فَمِنْهُمْ من تأول   = "2/ 169 - ط دار الغرب" و"فتح الباري" "2/ 217-218"، وكتابنا "القول المبين" "ص266 - ط الأولى". 1 في "ط": "قال: يجيز". 2 البيع بيعًا فاسدًا مجمعًا على فساده يجب رده إن لم يفت؛ فإن فات مضى بقيمته إن كان مقومًا ومثله إن كان مثليًا، أما المختلف في فساده، فيجب رده إن لم يفت أيضًا بفسخ الحاكم أو من يقوم مقامه، فإن فات مضى بالثمن؛ فمحل الفرق بينهما عند الفوات؛ لأنه إذ ذاك يتعلق به حق لكل من المتبايعين، وهو يقوي النظر في اعتبار دليل مصحح البيع المختلف فيه والبناء عليه، فيمضي بالثمن نفسه. "د". 3 جامع بيان العلم" "2/ 922 - ط دار ابن الجوزي". 4 في "د": "يقضيه"!! 5 أي: في أدلة أصل المسألة. "د". 6 انظر عنهم ما قدمناه في التعليق على "1/ 159-160". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 الْعِبَارَةَ وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، بَلْ أَنْكَرَ مُقْتَضَاهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ ابْتِدَاءً، وَيَكُونُ هُوَ الرَّاجِحَ، ثُمَّ بَعْدَ الْوُقُوعِ يَصِيرُ الرَّاجِحُ مَرْجُوحًا لِمُعَارَضَةِ دَلِيلٍ آخَرَ يَقْتَضِي رُجْحَانَ دَلِيلِ الْمُخَالِفِ؛ فَيَكُونُ الْقَوْلُ بِأَحَدِهِمَا فِي غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ؛ فَالْأَوَّلُ1 فِيمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَالْآخَرُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ2؛ فَلَيْسَ جَمْعًا بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ وَلَا قَوْلًا بِهِمَا مَعًا، هَذَا حَاصِلُ مَا أَجَابَ بِهِ مَنْ سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَهْلِ فَاسَ وَتُونُسَ، وَحَكَى لِي بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ مَنْ لَقِيَ مِنَ الْأَشْيَاخِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ سُؤَالُ اعْتِبَارِ الْخِلَافِ، وَسَيَأْتِي3 لِلْمَسْأَلَةِ تَقْرِيرٌ آخر بعد، إن شاء الله.   1 لعل مراده بالأول تأويلها وحملها على غير ظاهرها، وبالآخر إنكار مقتضاها، وإلا؛ فحق العبارة العكس. "د". قلت: وهو كلام مبني على كلام "ف"؛ حيث قال: "لعل صحته، فالأول فيما قبل الوقوع، والآخر فيما بعده، ولا يخفى ما في هذا التأويل من الضعف، وأنه ليس عامًا لصور مراعاة الخلاف المذكورة في كتب الفروع". 2 فحالة ما بعد الوقوع ليست كحالة ما قبله؛ لأنه بعده تنشأ أمور جددة تستدعي نظرًا جديدًا، وتجد إشكالات لا يتفصى عنها إلا بالبناء على الأمر الواقع بالفعل، واعتباره شرعيًا بالنظر لقول المخالف وإن كان ضعيفًا في أصل النظر، لكن لما وقع الأمر على مقتضاه، روعيت المصحلة، وتجدد الاجتهاد في المسألة من جديد بنظر وأدلة أخرى، وعليه؛ فبعد الوقوع تكون مسألة أخرى غيرها باعتباره ما قبله، وهو تأويل قوي جدًا كما ترى، وعليك باختيار مسائله، ولعلك لا تجد صورة يصعب فيها التطبيق كما أشرنا إليه في المسائل التي ذكرها؛ إلا في الشاذ؛ كما في ندب التسمية للمالكي في قراءة الفاتحة خروجًا من خلاف الشافعي، وسيأتي في هذا توقف المؤلف واعتراضه في تقريره الآتي، نعم، يوجد في مذهب مالك عبارة "هذا مشهور مبني على ضعيف"، ولكنه ليس من موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع، الذي هو موضوع الكلام، بل هذا طريق آخر، يرشدك إلى هذا أنه ليس كل مشهور قويًا ومعتمدًا، فكثيرًا ما يقابل المشهور بالراجح. "د". 3 في فصل المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد، والواقع أن ما هنا يجب ألا يؤخذ على إجماله كما فعل المؤلف؛ لأنه لا يتوجه ويكون مقبولًا إلا إذا قرر على الطريقة الآتية، كما قررنا به أمثلته هنا، وعليه؛ فلا يظهر جعله ما يأتي تقريرًا يغاير هذا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 عَلَى أَنَّ الْبَاجِيَّ1 حَكَى خِلَافًا2 فِي اعْتِبَارِ الْخِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ3، وَذَكَرَ اعْتِبَارَهُ عَنِ الشِّيرَازِيِّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ "مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِالنُّطْقِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ4: إِنَّ كُلَّ مَا لَمْ تَجْتَمِعْ5 أُمَّتِي عَلَى تَحْرِيمِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ أَكْلِهِ فَإِنَّ جِلْدَهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، لَكَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ إِذَا6 عُلِّقَ هَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِنْبَاطِ". وَمَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ، وَمُنْقَلِبٌ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ7 بِهِ؛ إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يُسَلِّمَ أَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِالنُّطْقِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِالِاسْتِنْبَاطِ ثُمَّ يَقُولُ: لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: إِنَّ كُلَّ مَا لَمْ تَجْتَمِعْ أُمَّتِي عَلَى تَحْلِيلِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ أَكْلِهِ، فَإِنَّ جِلْدَهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، لَكَانَ ذلك صحيحًا، فكذلك إذا علق   1 في كتابه "أحكام الفصول" "ص645-646/ رقم 6871". 2 أي: وهذا الخلاف يضعف من شأن المعارضة في أصل المسألة بمراعاة الحلاف. "د". 3 أي: بحيث يستند إليه [أي الخلاف] الحكم كما يستند إلى الدليل". "ف". قلت: وسقط من "م": "في الإحكام". 4 في "الأحكام": "صاحب الشرع". وكتب "ف" ما نصه: "بأن قيل الحمار أو البغل مثلًا يطهر جلده بالدباغ، أي: لكونه مما اختلف في جواز أكله". 5 في "الأحكام": "تجمع". 6 إشارة لمثال تكون فيه العلة في هذا الموضوع بالاستنباط وما قبله مثال لما تكون العلة فيه بالنص لو فرض حصوله من الشارع. "د". 7 فالاستناد إليه كما ينتج مدعاه نقيضه، وما كان كذلك لا يصلح دليلًا. "ف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 الْحُكْمَ [عَلَيْهِ] بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَلْبُ أَرْجَحَ؛ لِأَنَّهُ مَائِلٌ إِلَى جَانِبِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَكَذَا كُلُّ1 مَسْأَلَةٍ تُفْرَضُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَالثَّانِي2: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ وَاقِعًا، بَلِ الْوُقُوعُ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى أَنَّ مَسَّ الْحَائِطِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ السُّخْنِ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَأَنَّ الْمَشْيَ مِنْ غَيْرِ نَعْلٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا التَّجْوِيزُ سَبَبًا فِي وَضْعِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ عِلَلًا شَرْعِيَّةً بِالِاسْتِنْبَاطِ؛ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ التَّجْوِيزِ لَيْسَ بِمُسَوِّغٍ لِمَا قَالَ. فَإِنْ قَالَ: إِنَّمَا أَعْنِي مَا3 يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ شَبَهٍ، وَالْأَمْثِلَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا مَعْنًى فِيهَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي التَّعْلِيلِ. قِيلَ: لَمْ تُفَصِّلْ أَنْتَ هَذَا التَّفْصِيلَ، وَأَيْضًا؛ فَمِنْ طُرُقِ4 الِاسْتِنْبَاطِ مَا لَا يَلْزَمُ فِيهِ ظُهُورُ مَعْنًى يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ؛ كَالِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ وَنَحْوِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يكون   1 أي: سواء أكانت فيما فرضه هو من الطهارة بالدباغ أم في غيرها. "د". 2 منع للتقريب، أي: مع تسليم أَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِالنُّطْقِ جاز أن يكون علة بالاستنباط؛ فمجرد الجواز المذكور لا يفيد اعتبار الخلاف علة في الحكم، وإنما يفيده لو وقع كذلك، ألا ترى الأمثلة المذكورة؟ "ف". 3 بيان لتقريب الدليل بتقييد قوله: "ما جاز أن يكون علة .... إلخ"؛ أي: مما اشتمل على معنى فيه مناسبة أو شبه، والأمثلة المذكورة ليست كذلك. "ف". 4 أي: من مسالك العلة الطرد والعكس، وهو المسمى بالدوران، وقوله: "ونحوه"؛ أي: كالطرد الذي هو عبارة عن وجود الحكم في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، والفرق بينهما أن الدوران يكون في صورة واحدة يوجد الحكم عند الوصف ويرتفع عند ارتفاعه، كالحرمة مع السكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرًا حل، فلما حدث السكر حرم، فلما زال بالخلية حل، ولا تظهر فيهما المناسبة، أي المعنى الذي يتلقاه العقلاء بالقبول في ترتيب الحكم عليه، فما فرقت به غير تام. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 الْبَاجِيُّ أَشَارَ فِي الْجَوَازِ إِلَى مَا فِي الْخِلَافِ مِنَ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ1، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ خِلَافٌ فِي الْمَعْنَى. وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ الخلاف2 متأخر عن تقرير3، وَالْحُكْمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى عِلَّتِهِ قَالَ الْبَاجِيُّ4: "ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِهِ وَإِنْ حَدَثَ فِي عَصْرِنَا".   1 وهو التأويل السابق الذي أجاب به من لقيه من علماء فاس وتونس، وإذا كان كذلك لا يكون بين القولين خلاف؛ فإن المانع يمنعه باعتبار ما قبل الوقوع، والمصحح يراعيه باعتباره ما بعد الوقوع؛ لأنه بعد الوقوع صالح للعلية بخلاف قبل الوقوع لما ذكرناه قبل هذا، وحمل كلامه على هذا أولى مما حمله عليه بعضهم من التقييد السابق بقوله: "لمعنى فيه"؛ لأنه لم يرض هذا الفرق ونقضه بالطرد ونحوه، أما الجواب السابق، فإنه سلمه، وقلنا: إنه سيقرره في المسألة العاشرة مع شرحه وتوجيهه، وضرب أمثلة كثيرة له هناك. "د". قلت: يرد "د" في كلامه هذا على "ف"، حيث قال: "وهو التقييد المشار إليه بقوله لمعنى فيه .... إلخ، وحينئذ لا يكون بين القول باعتبار الخلاف علة والقول بعدم اعتباره خلاف في المعنى؛ لأن اعتباره إذا كان صالحًا للعلية وعدم اعتباره إذا لم يكن كذلك". 2 أي: الذي جعل علة للحكم. "د". 3 أي: بمتقتضى الأدلة المتلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. "د". 4 في كتابه "إحكام الفصول" "ص646/ رقم 688"، والمذكور فيه تصرف من المصنف، ومنه تظهر مقدرته رحمه الله على تلخيص كلام العلماء بعبارات مختصرة ليس فيها حشو ولا زيادة، قارن ما ذكره بنص الباجي، وهذا لفظه: "أما هم -المانعون-؛ فاحتج من نص قولهم بأن الاختلاف حدث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكم ثبت في زمانه، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته. والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون الاختلاف متأخرًا عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وثبتت به الأحكام، ألا ترى أن الإجماع حدث بعده صلى الله عليه وسلم، ويصح أن يحدث في عصرنا ويثبت به الحكم؟ وجواب آخر: وهو أن معنى قولنا "إنه مختلف فيه" .... حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ثبت له هذا الحكم، فلم يتقدم على علته". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وَأَيْضًا: "فَمَعْنَى قَوْلِنَا: "إِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ"1 أَنَّهُ يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَهَذَا كَانَ حَالُهُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَى عِلَّتِهِ". وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِ الْبَاجِيِّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلْحُكْمِ، بَلْ هُوَ أَصْلُ2 الْحُكْمِ، وَقَوْلُهُ: "إِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَذَا" هِيَ عَيْنُ3 الدَّعْوَى. فَصْلٌ: وَمِنَ الْقَوَاعِدِ4 الْمَبْنِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: هَلْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ، حَتَّى يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا أَوْ تَرْكًا5 كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي التُّرُوكِ6، أَمْ لَا؟ أَمَّا فى ترك العمل7 بهما   1 أي: فإذا وقع التعليل بكون الشيء مختلفًا فيه؛ فمعناه ما ذكر، وحينئذ لا يكون متأخرًا عن الحكم. "ف". 2 أي أن الحكم الذي استند إلى الإجماع هو عين الحكم الذي تقرر من كل مجتهد أخذًا من الأدلة؛ فليس هناك علة ومعلول، بخلاف الحكم المستند إلى الخلاف، فإنه غير الحكم المتقدم، والخلاف علة في هذا الحكم الطارئ، فمثلًا التكبير للركوع ناسيًا تكبيرة الإحرام اختلف فيه بالإجزاء وعدمه؛ فبعد الوقوع يقول الثاني بالتمادي مراعاة للقول بالإجزاء؛ فالحكم المترتب على الخلاف مغاير للحكم المختلف فيه. "د". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 138-139". 3 لعل صوابه: "غير الدعوى"؛ لأن الدعوى أن الحكم الذي نقرره إنما جاء بسبب الخلاف، وقد بني عليه، وهذا غير المعنى الذي يدعيه من أنه لم يراع فيه إلا مجرد كونه محلًا للاجتهاد. "د". 4 في "ماء": "الفوائد". 5 بأن يصرف أحدهما إلى الآخر؛ فيرجع مقتضاهما إما إلى الفعل، أو إلى الترك، وقد يحمل أحدهما على الفعل في حال والآخر على الترك في حال. "ف". 6 أي عند ترجيح دليل الجواز على دليل المنع، فيراعون القول بالتحريم تنزهًا عن الشبهات، كما قال ابن العربي؛ القضاء بالراجح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجيب* العطف على المرجوح بحسب مرتبته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "واحتجبي منه يا سودة"، وهذا مستند مالك فيما كره أكله؛ فإنه حكم بالحل عند ظهور الدليل، وأعطى المعارض شيئًا من أثره؛ فحكم بالكراهة. "د". 7 محل البيان قوله: "وأما في العمل ... إلخ"، وهذا زائد على المبين. "ف".   * كذا في الأصل، ولعلها: "يجب". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 مَعًا مُجْتَمِعَيْنِ أَوْ مُتَفَرِّقَيْنِ1؛ فَهُوَ التَّوَقُّفُ عَنِ الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْوَاجِبُ إِذَا لَمْ يَقَعْ تَرْجِيحٌ. وَأَمَّا فِي الْعَمَلِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِدَلِيلِهِ؛ فَلَا تَعَارُضَ، وَإِنْ فُرِضَ التَّعَارُضُ2؛ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَرُجُوعٌ إِلَى إِثْبَاتِ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ مَرَّ إِبْطَالُهُ، وَهَكَذَا يَجْرِي الْحُكْمُ فِي الْمُقَلِّدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَارُضِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا الْفَصْلِ تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ   1 في "ط": "أو متفردين". 2 في "م": "التعاون"!! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَحَالُّ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرِ هِيَ مَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَضَحَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصْدُ الشَّارِعِ فِي الْإِثْبَاتِ فِي أَحَدِهِمَا وَالنَّفْيِ فِي الْآخَرِ؛ فَلَمْ تَنْصَرِفِ الْبَتَّةَ إِلَى طَرَفِ النَّفْيِ وَلَا إِلَى طَرَفِ الْإِثْبَاتِ. وَبَيَانُهُ أَنْ نَقُولَ: لَا تَخْلُو أَفْعَالُ1 الْمُكَلَّفِ أَوْ تُرُوكُهُ؛ إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا خِطَابٌ2 مِنَ الشَّارِعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِيهَا خِطَابٌ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ يَكُونُ فَرْضًا غَيْرَ مَوْجُودٍ، وَالْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ فى الحقيقة راجعة3.   1 سواء أكانت أفعال القلوب أم الجوارح ليشمل المعتقدات؛ فصح ذكره بعد للمشابهات الحقيقية التي لم يظهر للشارع فيها قصد ألبتة؛ فإنها إنما تظهر في المعتقدات. "د". 2 بأحد الأدلة الشرعية من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو غيرها من الأدلة المختلف فيها كلاستدلال؛ فليس بلازم أن يكون الخطاب في نص، بدليل أنه جعل ما لم يرد فيه خطاب، إما فرضًا صرفًا لا وجود له، وإما أن يكون من مرتبة العفو، وهذا وذاك لا يكون إلا عند عدم الأدلة رأسًا منصوصة وغير منصوصة؛ فلا ينافي ما يجيء في المسألة الخامسة من التفصيل بين الاستنباط من النصوص والاستتنباط من غيرها؛ فالتردد بين الطرفين عام في مسائل الاجتهاد. "د". 3 قال في "التحرير" و"شرحه": "نفي كل مدرك خاص للدليل الخاص حكمه الإباحة الأصلية؛ فلا تخلو وقائع عن حكم الشرع". وقال في "المنهاج" [ص246 - مع تخريجه الابتهاج] : "من الأدلة المقبولة فقد الدليل بعد التفحص البليغ، فيغلب ظن عدمه، وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل"، وقال العضد شارح ابن الحاجب: "ولا نسلم بطلان خلو وقائع من حكم وإن التزم فالأقيسة والعمومات تأخذه؛ أي: فتكفي في جميع ما يحتاج فيه إلى المصالح المرسلة، وإن سلم أنها لا تكفي، فالحكم عند انتفاء المدرك هو نفي الوجوب والحرمة، وهو معنى التخيير، وتقدم للمؤلف إدراجه في مرتبة العفو التي أشير إليها في حديث سلمان الفارسي في الترمذي وابن ماجه: "وما سكت عنه؛ فهو مما عفا عنه" [مضى تخريجه "1/ 255"] ، وبالجملة؛ فكل ما لم يرد فيه دليل شرعي يخصه أو يخص نوعه فيه الخلاف بالإباحة أو المنع أو الوقف، ولكل دليله وحجته، تراجع مسألة العفو السابقة في كتاب الأحكام وينزل على الخلاف ترديد المؤلف هنا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ بِالْعَفْوِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَتَى فِيهَا خِطَابٌ؛ فَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي النَّفْيِ أَوْ فِي الْإِثْبَاتِ، أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ قَصْدٌ الْبَتَّةَ؛ فَهُوَ قِسْمُ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَإِنْ ظَهَرَ؛ فَتَارَةً يَكُونُ قَطْعِيًّا، وَتَارَةً يَكُونُ غَيْرَ قَطْعِيٍّ، فَأَمَّا الْقَطْعِيُّ؛ فَلَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِيهِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ فِي النَّفْيِ أَوْ فِي الْإِثْبَاتِ، وَلَيْسَ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ، وَهُوَ قِسْمُ الْوَاضِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ وَاضِحُ الْحُكْمِ حَقِيقَةً، وَالْخَارِجُ عَنْهُ مُخْطِئٌ قَطْعًا، وَأَمَّا غَيْرُ الْقَطْعِيِّ؛ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ1 إِلَّا مَعَ دُخُولِ احْتِمَالٍ فِيهِ أَنْ2 يَقْصِدَ الشَّارِعُ مُعَارِضَهُ أَوْ لَا؛ فَلَيْسَ مِنَ الْوَاضِحَاتِ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ، كَمَا أَنَّهُ يُعَدُّ غَيْرَ وَاضِحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الظُّنُونِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ تَخْتَلِفُ بِالْأَشَدِّ وَالْأَضْعَفِ حَتَّى تَنْتَهِيَ3؛ إِمَّا إِلَى الْعِلْمِ، وَإِمَّا إِلَى الشَّكِّ إِلَّا أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ تَارَةً يَقْوَى فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ، وَتَارَةً لَا يَقْوَى فَإِنْ لَمْ يَقْوَ4 رجع إلى قسم المتشابهات، والمقدم   1 أي: لا يكون غير قطعي إلا إذا دخل فيه احتمال أن الشارع قصد معارضة أو لم يقصده؛ فقوله أن يقصد معمول احتمال ولو حذف قوله أولًا لكان أولى. "ف". 2 هذه العبارة بدل من لفظ: "احتمال"، والاحتمال بمعنى التردد حينئذ لا بمعنى أحد الأمرين؛ فإذا جعل معمولا لاحتمال كان بمعنى أحد الأمرين تعين حذف كلمة "أولًا". "د". 3 أي: إلى المرتبة التي يليها العلم أو إلى المرتبة الضعيفة التي يليها الشك مباشرة، وليس المراد أن العلم أو الشك يكون من المراتب الظنون، وهو واضح ما دامت في انتهائها لم تخرج عن الموضوع، وأنها من الظنون، فإذا كان معنى انتهائها خروجها عنه؛ صح إجراء كلامه على ظاهره، ولكنه بعيد عن الفرض. "د". 4 قد فرض أنه واضح نسبي، وأنه من مراتب الظنون، وأن قصد الشارع فيه ظاهر؛ إلا أنه غير قطعي، فلا يظهر بعد ذلك فرض أنه لا يقوى في إحدى الجهتين، الذي معناه أن النفي والإثبات على حد سواء ليس قصد الشارع لأحدهما أظهر من قصده لمعارضة حتى يعد من المتشابهات، وما الفرق بينه حينئذ وبين الفرض الذي قال فيه: "فإن لم يظهر له قصد البتة في النفي والإثبات؛ فهو قسم المتشابهات"، لا فارق؛ لأن القطع بأنه لم يظهر قصده في النفي والإثبات يساوي قوله هنا: "لم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 عَلَيْهِ حَائِمٌ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَإِنْ قَوِيَ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ؛ فَهُوَ قِسْمُ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَهُوَ الْوَاضِحُ الْإِضَافِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنْ كَانَ الْمُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ؛ فَوَاضِحٌ فِي حَقِّهِ فِي النَّفْيِ أَوْ [فِي] 1 الْإِثْبَاتِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُخَطِّئَةِ؛ فَالْمُقْدِمُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُصِيبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَوَاضِحٌ، وَإِلَّا فَمَعْذُورٌ. وَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ قِسْمَ الْمُتَشَابِهَاتِ مُرَكَّبٌ مِنْ تَعَارُضِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَتَعَارَضَا لَكَانَ مِنْ قِسْمِ الْوَاضِحَاتِ، وَأَنَّ الْوَاضِحَ بِإِطْلَاقٍ لَمْ يَتَعَارَضْ فِيهِ نَفْيٌ مَعَ إِثْبَاتٍ، بَلْ هُوَ إِمَّا منفيٌّ قَطْعًا وَإِمَّا مُثْبَتٌ قَطْعًا، وَأَنَّ الْإِضَافِيَّ إِنَّمَا صَارَ إِضَافِيًّا؛ لِأَنَّهُ مُذَبْذَبٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ؛ فَيَقْرُبُ عِنْدَ بَعْضٍ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَعِنْدَ بَعْضٍ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَرُبَّمَا جَعَلَهُ بَعْضُ2 النَّاسِ مِنْ قِسْمِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي نَفْسِهِ؛ فَلِذَلِكَ صَارَ إِضَافِيًّا لِتَفَاوُتِ3 مَرَاتِبِ الظُّنُونِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَيَجْرِي مَجْرَى النَّفْيِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إِثْبَاتُ ضِدِّ الْآخَرِ فِيهِ؛ فَثُبُوتُ الْعِلْمِ مَعَ نَفْيِهِ نَقِيضَانِ؛ كَوُقُوعِ التَّكْلِيفِ وَعَدَمِهِ،   = يقو في إحدى الجهتين"؛ أي: فهما سواء في عدم ظهور قصد أحدهما، وقد يقال: الفرق أن الأول هو المتشابه الحقيقي الذي لم يجعل سبيل إلى فهم معناه، ومهما نظر المجتهد في الشريعة لا يجد ما يدل له على مقصوده، والثاني الإضافي، وهو ما كان التشابه فيه ليس من جهة الدليل، بل من جهة المناط، ويساعد عليه قوله في مقابله: "هو الواضح الإضافي في نفسه، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين"، الذي يفيد أن هذا المتشابه عدم وضوحه بالنسبة إلى نظر المجتهدين فقط؛ فينزل الكلام على ما قلنا حتى يندفع التنافي. "د". 1 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 2 أي: وهو من لم يظهر له قربه من أحد الطرفي. "د". 3 تعليل كونه واضحًا إضافيًا بتفاوت مراتب الظنون تعليل واضح، وكذا بناء التشابه عليه؛ لأنه إذا كانت الظنون مختلفة؛ فمنها ما يقف عند حد أنه لا فرق بين الطرفين في نظره؛ فيجيء التشابه. "د". وفي "ط": "ولتفاوت" بزيادة واو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 وَكَالْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَثُبُوتُ الْعِلْمِ مَعَ ثُبُوتِ الظَّنِّ أَوِ الشَّكِّ ضِدَّانِ؛ كَالْوُجُوبِ مَعَ النَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ، أَوِ التَّحْرِيمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ1. وَهَذَا الْأَصْلُ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى إِثْبَاتِهِ بِدَلِيلٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْنِيسِ فِيهِ بِأَمْثِلَةٍ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى فَهْمِهِ وَتَنْزِيلِهِ وَالتَّمَرُّنِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ"2، وَرَأَيْنَا الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْأَجِنَّةِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ3، وَعَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْجُبَّةِ الَّتِي حَشْوُهَا مُغَيَّبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَلَوْ بِيعَ حَشْوُهَا بِانْفِرَادِهِ لَامْتُنِعَ، وَعَلَى جَوَازِ كِرَاءِ الدَّارِ مُشَاهَرَةً مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى دُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ اخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَطُولِ اللُّبْثِ، وَعَلَى شُرْبِ الْمَاءِ مِنَ السِّقَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي مِقْدَارِ الرِّيِّ؛ فَهَذَانِ طَرَفَانِ فِي اعْتِبَارِ الْغَرَرِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ لِكَثْرَتِهِ4 فِي الْأَوَّلِ وَقِلَّتِهِ مَعَ عدم5 الانفكاك عنه في   1 كالأمر والنهي، والصحة والفساد، والشرط والمانع، وهكذا من المتقابلات المتضادة، يجري التقابل بينها كما يجري بين المتناقضات في طرفي النفي والإثبات. "د". 2 مضى تخريجه "2/ 522". 3 في حكاية الإجماع نظر؛ فذهب ابن حزم في "المحلى" "8/ 388" إلى جواز بيع الطير في الهواء إذا صحَّ الملك عليه قبل ذلك، وذهب عمر بن عبد العزيز -كما في "الخراج" "87" لأبي يوسف- وابن أبي ليلى -كما في "المبسوط" "13/ 11، 12"- إلى جواز بيع السمك في بِرْكة عظيمة، وإن احتيج في أخذه إلى مؤنة كثيرة. وانظر في المسألة: "المغني" "4/ 152"، و"العناية شرح الهداية" "5/ 192"، و"البحر الرائق" "6/ 80"، و"المجموع" "9/ 311"، و"كشاف القناع" "3/ 162"، و"الفواكه الدواني" "2/ 137"، و"المعاملات" "259" لأحمد إبراهيم، و"نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية" "1/ 438-447" لأستاذنا ياسين درادكة. 4 أي: مع إمكان الانفكاك عنه. "د". 5 أي: أنه لا يتأتى التحرز عنه؛ فهو ضرورة عمت بها البلوى، مع تفاهة التضرر من أحد المتعاملين في ذلك فيما لو ظهر على خلاف مصلحته، والأول جمع وصفين: الكثرة وإمكان التحرز منه، وما بينهما ما فقد أحد الوصفين؛ فأشبه بذلك كلًّا من الطرفين في وصف فجاء الاختلاف. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 الثَّانِي؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا فِي بَابِ الْغَرَرِ فَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، آخِذَةٌ بِشَبَهٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَمَنْ أَجَازَ مَالَ إِلَى جَانِبِ الْيَسَارَةِ1، وَمَنْ مَنَعَ مالَ إلى جانب الْآخَرِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ وَعَلَى الزَّكَاةِ فِي النَّقْدَيْنِ2، فَصَارَ الْحُلِيُّ الْمُبَاحُ الاستعمال دائرًا بين الطرفين؛ فذلك3 وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الْعَدْلِ وَشَهَادَتِهِ، وَعَلَى عَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ مِنَ الْفَاسِقِ، وَصَارَ الْمَجْهُولُ الْحَالِ دَائِرًا بَيْنَهُمَا؛ فَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ وَأَنَّ الْبَهِيمَةَ لَا تَمْلِكُ، وَلَمَّا أَخَذَ الْعَبْدُ بِطَرَفٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ يَمْلِكُ، أَمْ لَا؟ بِنَاءً عَلَى تَغْلِيبِ حُكْمِ أحد الطرفين.   1 ولم يقل: "عدم الانفكاك"؛ لأن اليسارة هي التي يتأتى فيها اختلاف الانظار بخلاف الانفكاك وعدمه، فإنه إلى الوضوح أقرب. "د". 2 لأنهما اجتمع فيهما كونهما معدين للتعامل والثمنية بخلقتهما، والعروض فقدت المعنيين؛ فاتفق على حكم كلٍّ، أما الحلي؛ فأخذ وصفًا واحدًا من النقدين، وهو أنه من الذهب والفضة، وباستعماله للزينة لا للثمنية فقد الوصف الآخر وشارك العروض في عدم قصده بالثمنية؛ فجاء فيه الخلاف. "د". 3 مع أسباب أخرى مذكورة في مظانها، والراجح وجوب الزكاة فيها، انظر في المسألة: "أحكام القرآن" "3/ 106، 107" للجصاص، و"المحلي" "6/ 76، 77"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 16-17"، و"إعلام الموقعين" "2/ 100، 110" -ولم ير ابن تيمية وتلميذه وجوب الزكاة في الحلي- و"فقه زكاة الحلي"، و"أقوى القولين في زكاة الحلي من النقدين"، و"القول الجلي في زكاة الحلي". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ وَلَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ، وَبَعْدَ إِتْمَامِهَا وَخُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ وَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ1 دَائِرٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ إِذَا لَمْ تَظْهَرْ تَابِعَةً لِلْأَصْلِ فِي الْبَيْعِ، وَعَلَى أَنَّهَا غَيْرُ تَابِعَةٍ لَهَا إِذَا جُذَّتْ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً، وَإِذَا أَفْتَى وَاحِدٌ وَعَرَفَهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ، وَأَقَرُّوا بِالْقَبُولِ فَإِجْمَاعٌ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ فَغَيْرُ إِجْمَاعٍ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنْ سَكَتُوا2 مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ إِنْكَارٍ؛ فَدَائِرٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْمُبْتَدِعُ بِمَا يَتَضَمَّنُ3 كُفْرًا مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ بِالْكُفْرِ دَائِرٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ4 كُفْرًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَبِمَا اقْتَضَى كُفْرًا مُصَرِّحًا به5 ليس   1 أي: من صلى بالتيمم صلاة صحيحة ثم بعد تمامها وقبل خروج الوقت؛ وجد الماء. "د". قلت: وتدخل في عبارة المصنف "وما بين ذلك" أيضًا رؤية الماء في الصلاة بتيمم، هل يبطلها بإبطال التيمم أم لا؟ قال أبو حنيفة: "يبطله"، وهذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: "لا يبطله"، وهذا مذهب مالك، انظر بسط المسألة مع الأدلة في "الخلافيات" "2/ 449، 459/ رقم 26 مع تعليقي عليه"، والله الموفق. ومنه تعلم دقة المصنف في عباراته. 2 أي: وكان ذلك قبل استقرار المذاهب، أي كان في العصر الذي فيه البحث عن المذاهب، أما إن كان بعد استقرارها؛ فالسكوت لا يدل على الموافقة قطعًا؛ إذ لا عادة بإنكاره حينئذ، فلم يكن إجماعًا ولا حجة قطعًا، أما قبل ذلك؛ فالعادة الإنكار عند عدم الموافقة، فجاء الخلاف، فالشافعي يقول: "لا هو إجماع ولا هو حجة"، والجمهور إجماع أو حجة وليس بإجماع قطعي، والجبائي إجماع انقراض العصر. "د". 3 في "د" و"ط": "بما لا يتضمن"!! والصواب حذف "لا". 4 كالابتداع في الفروع التي ليست قطعية ولا معلومة من الدين بالضرورة؛ فهذا باتفاق ليس بكفر. "د". 5 كغلاة الخوارج والروافض؛ كالخطابية من هؤلاء الذين يقولون: إن عليًا الإله الأكبر، والحسنان ابنا الله، وجعفر إله، لكن أبو الخطاب رئيسهم أفضل منه ومن عليٍّ؛ فهذا كفر باتفاق "د". قلت: انظر عن الخطابية: "الفرق بين الفرق" "215"، و"الحور العين" "169"، و"البرهان" "38" للسكسكي، و"الغلو والفرق الغالية" "99". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 مِنَ الْأُمَّةِ؛ فَالْوَسَطُ1 مُخْتَلَفٌ فِيهِ: هَلْ هُوَ مِنَ الْأُمَّةِ، أَمْ لَا؟ وَأَرْبَابُ النِّحَل والمِلَل اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ بِإِطْلَاقٍ، وَعَلَى أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ بِإِطْلَاقٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِضَافَةِ أُمُورٍ2 إِلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَمَالٌ، وَعَدَمِ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نَقَائِصُ، وَفِي عَدَمِ إِضَافَةِ أُمُورٍ إِلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْإِضَافَةِ كَمَالٌ، أَوْ إِضَافَتُهَا بِنَاءً [عَلَى] 3 أَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَيْهِ هِيَ الْكَمَالُ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهَا. فَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَاضِحَيْنِ؛ فَحَصَلَ الْإِشْكَالُ وَالتَّرَدُّدُ، وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ خِلَافًا وَاقِعًا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ مُعْتَدًّا4 بِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَوْ فِي النَّقْلِيَّاتِ، لَا مَبْنِيًّا عَلَى الظَّنِّ وَلَا عَلَى الْقَطْعِ؛ إِلَّا دائر بين طرفين [و] لا يَخْتَلِفُ فِيهِمَا أَصْحَابُ الِاخْتِلَافِ [فِي الْوَاسِطَةِ الْمُتَرَدِّدَةِ بينهما، فاعتَبِرْه تجده كذلك -إن شاء الله] .   1 وهو المبتدع بما يتضمن كفرًا بغير تصريح؛ كالمجسمة، ومنكري الشفاعة، فهذا يختلف فيه بالتكفير وعدمه. "د". 2 أي من الصفات؛ كالقدرة والعلم.. إلخ على أنها صفات زائدة على الذات، وقوله: "وفي عدم إضافة أمور ... إلخ"؛ أي: كالأفعال التي تعتبر شرورًا؛ فبعضهم يضيفها إليه؛ لأنه لا فاعل إلا هو، ولا تعتبر شرورًا إلا بنسبتها للعبد، والبعض لا يضيفها ويرى أن الكمال في ذلك؛ فلا تكرار في العبارة، ولا يمكن الاستغناء عن الثانية مع إفادة المعنى المقصود. "د". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 4 في نسخة "م": "معتمدًا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 فَصْلٌ: وَبِإِحْكَامِ النَّظَرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَتَرَشَّحُ لِلنَّاظِرِ1 أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَصِيرًا بِمَوَاضِعِ الِاخْتِلَافِ، جَدِيرًا بِأَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا عَبْدَ الله ابن مَسْعُودٍ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "أَتَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ ". قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وإن كان يزحف في استِه"2؛ فهذا تنبيه3 على   1 المناسب: يترشح الناظر أن يبلغ؛ أي: يستعد لبلاغ درجة الاجتهاد. "ف". 2 أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 402-403" - ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 807/ رقم 1500" - والطيالسي في "المسند" "25"، وابن جرير في "التفسير "27/ 138-139"وابن أبي عاصم في "السنة" "70"، والمروزي في "السنة" "ص16"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 480"، والطبراني في "الصغير" "1/ 223-224" و"الأوسط" "رقم 11، 21 - مجمع البحرين" و"الكبير" "رقم 10531"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 60-61"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1502، 1503" من طرق عن الصعق بن حزن عن عُقيل الجَعْديّ عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود. قال الطبراني: "ولم يروه عن أبي إسحاق إلا عقيل، تفرد به الصعق"، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عقيل الجعدي، منكر الحديث، وانظر: "مجمع الزوائد" "1/ 90، 163". وأخرجه الطبراني في "الكبير" "10/ 211/ رقم 10357"، وابن أبي حاتم -كما في "تفسير ابن كثير" "4/ 315"-، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 71"-، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1501"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 61" من طريق آخر عن ابن مسعود بنحوه. وإسناده ضعيف، وفيه انقطاع؛ فالحديث ضعيف، وساقه المصنف في "الاعتصام" "2/ 745-746" بأطول من هذا، وفي "د": "في استه"، والصواب ما أثبتناه. 3 لأن هذه الدرجة الفضلى إنما تتحقق عند وجود الاختلاف ومعرفة الحق فيه، ولا يكون إلا بمعرفة مواقع الاختلاف؛ فصح أنه تحريض على هذه المعرفة. "د". قلت: انظر في ضرورة معروفة الخلاف: "شرح تنقيح الفصول" "ص194"، و"أسباب اختلاف الفقهاء" "ص3-9، 104" لعلي الخفيف، وكثير من الأصوليين لم يذكروا هذا الشرط، واكتفوا بضرورة معرفة الإجماع؛ لأنه مقابل له، والأشياء تعرف بأضدادها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ النَّاسُ الْعِلْمَ مَعْرِفَةَ الِاخْتِلَافِ. فَعَنْ قَتَادَةَ: "مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الِاخْتِلَافَ لَمْ يشمَّ أنفُه الْفِقْهَ"1. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ: "مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ فَلَيْسَ بِقَارِئٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اخْتِلَافَ2 الْفُقَهَاءِ فَلَيْسَ بِفَقِيهٍ"3. وَعَنْ عَطَاءٍ: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ رَدَّ4 مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ أَوْثَقُ من الذي في يديه"5.   1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 814، 815/ رقم 1520، 1522". 2 أي: المبني على اختلاف أدلتهم؛ لأنه بدون ذلك لا يمكن ترجيح جانب الحق في المسألة ما لم يقف على دليل كل. "د". 3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 815-816/ رقم 1523". 4 يظهر هذا فيمن له القدرة على الترجيح، فإنه إذا لم يعلم اختلافهم وأدلة كل ربما كان ما في يده أضعف مدركًا مما لم يقف عليه، فإذا عرف الخلاف ومدرك كل أمكنه الترجيح، فلا يأخذ ضعيفًا ويترك قويًا، أما شبه العامي؛ فسيان عنده أن يعرف الخلاف وألا يعرف إن كان مثله يصح له أن يفتي؟! وفيه الخلاف المشهور. "د". 5 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 816/ رقم 1524" بسنده إلى ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء عن أبيه. قلت: أبوه هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وعثمان فيه كلام، انظر: "تهذيب الكمال" "19/ 441". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 وَعَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ: "أَجْسَرُ1 النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ". زَادَ أَيُّوبُ: "وأمسكُ الناسِ عَنِ الْفُتْيَا أَعْلَمُهُمْ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ"2. وَعَنْ مَالِكٍ: "لَا تَجُوزُ الْفُتْيَا إِلَّا لِمَنْ عَلِمَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، قِيلَ لَهُ: اخْتِلَافَ أَهْلِ الرَّأي؟ قَالَ: لَا، اخْتِلَافَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِمَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْ حَدِيثِ الرَّسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"3. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: "لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يَعْرِفُ الِاخْتِلَافَ أَنْ يُفْتِيَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ الْأَقَاوِيلَ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَحَبُّ إليَّ"4. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: "مَنْ لَمْ يَسْمَعْ الِاخْتِلَافَ، فَلَا تَعُدُّهُ عَالِمًا"5. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ عُقْبَةَ: "لَا يُفْلِحُ مَنْ لَا يَعْرِفُ اخْتِلَافَ النَّاسِ"6. وَكَلَامُ النَّاسِ هَنَا كَثِيرٌ، وَحَاصِلُهُ مَعْرِفَةُ مَوَاقِعِ الْخِلَافِ، لَا حِفْظَ مُجَرَّدِ الْخِلَافِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّظَرِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ، وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ هَذَا لِلْمُحَقِّقِينَ فِي النَّظَرِ كَالْمَازِرِيِّ وَغَيْرِهِ.   1 يوضح ما قبله. "د". 2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 816، 817، 1124/ رقم 1525، 1527، 2209"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 166". 3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 818/ رقم 1529". 4 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 819/ رقم 1534". 5 أخرجه عباس الدوري عنه في "تاريخه" "4/ 271"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 815، 819/ رقم 1521، 1536". 6 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 820/ رقم 1537". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: 1 الِاجْتِهَادُ إِنْ تَعَلَّقَ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ النُّصُوصِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمَعَانِي مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مُجَرَّدَةً عَنِ2 اقْتِضَاءِ النُّصُوصِ لَهَا أَوْ مسلَّمة مِنْ صَاحِبِ الِاجْتِهَادِ فِي النُّصُوصِ؛ فَلَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعِلْمُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ3 مِنَ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا4 خَاصَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى5 عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ إِنَّمَا يُفِيدُ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَلْفَاظُ الشَّارِعِ الْمُؤَدِّيَةُ لِمُقْتَضَيَاتِهَا عَرَبِيَّةٌ، فَلَا يُمْكِنُ مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ أَنْ يَفْهَمَ لِسَانَ الْعَرَبِ، كَمَا لَا   1 هذه المسألة والتي بعدها تكميل للمسألة الثانية، يقيد بهما اشتراط الوصفين السابقين في الاجتهاد، ويبين أنهما قد يرتفعان معًا وقد يرتفع أحدهما ويبقى نوع من الاجتهاد، وأن اشتراطهما إنما هو في بعض أنواعه، ولو ذكرتا عقبها، لكان أجود صنعًا حتى لا يتوهم معارضتهما لها. "د". قلت: قارن بما عند ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "7/ 286". 2 سيأتي تمثيله لذلك بالاجتهاد القياسي وبتوقيع المجتهدين الأحكام على النوازل، وسيأتي البحث معه فيها. "د". 3 في "ط": "الشارع". 4 أي: في الباب الذي فيه الاجتهاد إن قلنا: إن الاجتهاد يتجزأ، أو في سائر الأبواب إن قلنا: إنه لا يتجزأ. "د". 5 للمؤلف دعويان اشتراط العربية في الاجتهاد من النصوص، وعدم اشتراطها في الاجتهاد الراجخ للمعاني من النظر في المصالح والمفاسد، وقد أقام الدليل عليهما حسب ترتيبهما في سياقه، ففي العبارة سقط، والأصل هكذا: "والدليل على الاشتراط وعدم الاشتراط ... إلخ" "د". قلت: وكتب "ف" ما نصّه: "الأنسب: "على عدم اشتراط علم العربية فيه"، أي: في الاجتهاد المتعلق بالمعاني". قلت: أثبتها "م": "عدم اشتراط علم ... ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 يُمْكِنُ التَّفَاهُمُ [فِيمَا] بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالْبَرْبَرِيِّ أَوِ الرُّومِيِّ أَوِ الْعِبْرَانِيِّ حَتَّى يَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مُقْتَضَى لِسَانِ صَاحِبِهِ. وَأَمَّا الْمَعَانِي مجرَّدة1؛ فَالْعُقَلَاءُ مُشْتَرِكُونَ فِي فَهْمِهَا، فَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ لِسَانٌ دون غيره، فإذن2 مَنْ فَهِمَ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ مِنْ وَضْعِ الْأَحْكَامِ، وَبَلَغَ فِيهَا رُتْبَةَ الْعِلْمِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ فَهْمُهُ لَهَا مِنْ طَرِيقِ التَّرْجَمَةِ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ؛ فَلَا فَرْقَ3 بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ فَهِمَهَا مِنْ طَرِيقِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلِذَلِكَ يُوقِعُ الْمُجْتَهِدُونَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى الْوَقَائِعِ الْقَوْلِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ، ويعتبرون4 [المعاني، ولا يتعبرون] الْأَلْفَاظَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّوَازِلِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ الْقِيَاسِيَّ غَيْرُ5 مُحْتَاجٍ فِيهِ إِلَى مُقْتَضَيَاتِ الألفاظ إلا   1 مرتبط بقوله: "وإنما يلزم العلم ... إلخ"؛ لتضمنه دعوى اشتراط العلم بمقاصد الشرع وعدم اشتراط العلم بالعربية، ولذلك شمله البيان وإن سبق دليله. "ف" و"م". 2 أي: فالفهم هو اللازم المعمول عليه، فهو المشترط في الاجتهاد المتعلق بالمعاني دون العلم بالعربية؛ إذ لا فرق بين أسلوبها وأسلوب غيرها بالنسبة لفهم تلك المعاني. "ف". 3 تأمل في وجه التوفيق بين هذا وبين ما سبق له، حيث قال: "يتوقف فهم الشريعة حتى الفهم على فهم اللغة العربية حق الفهم"، وقال فيما سبق أيضًا: "إن الاجتهاد يتوقف على وصفين: العلم بمقاصد الشريعة، والتمكن من الاستنباط، وهذا إنما يكون بواسطة معارف خاصة، وإن هذه المعارف وسيلة إلى معرفة المقاصد"، ثم قال: "إن أوجب الوسائط اللغة العربية ... إلخ". "د". 4 أي: فيسألون عما تدل عليه في مجاري عرف أهلها مع أنه غير عربية، وبعد، فهل هذا عير تحقيق المناط؟ وسيأتي له في المسألة الثانية أنه لا يحتاج إلى واحد من الأمرين، لا فهم مقاصد الشريعة ولا اللغة العربية. "د". قلت: قوله مبني على سقط لاحق أثبتناه فقط من "ط". 5 إذا كان ثبوت العلة بالسبر والتقسيم أو المناسبة المسمى بتخريج المناط، فربما يسلم في بادئ الرأي، أما إذا كان ثبوتها في الأصل بالنص أو الإيماء في مراتبهما الكثيرة، فلا يظهر؛ لأنه لا بد من الرجوع إلى النص الذي أفاد ذلك، والتسليم في هذا ليس بكاف، وعلى فرض كفايته لا بد له من استقراء النصوص حتى يتمكن من دفع فساد الاعتبار وفساد الوضع، وهما أهم اعتراضات القياس، والرجوع للنص مستوجب لشرط العربية؛ لأنه لا يتم له إجراء القياس والمحافظة على نتيجة إلا بعدم مصادمته للنصوص مطلقًا في أي قياس كان، وهذا ما يعود على الأولين أيضًا بالتوقف كما أشرنا إليه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مُسَلَّمًا أَوْ بِالْعِلَّةِ1 الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أَوِ الَّتِي أُومِئَ إِلَيْهَا2، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مُسَلَّمًا، وَمَا سِوَاهُ فَرَاجِعٌ إِلَى النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ. وَإِلَى هَذَا النَّوْعِ3 يَرْجِعُ الِاجْتِهَادُ الْمَنْسُوبُ إِلَى أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، كَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيِّ وَالْبُوَيْطِيِّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُمْ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُمْ يَأْخُذُونَ أُصُولَ إِمَامِهِمْ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ فِي فَهْمِ أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ، وَيُفَرِّعُونَ الْمَسَائِلَ، وَيُصْدِرُونَ الْفَتَاوَى عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَبِلَ النَّاسُ أَنْظَارَهُمْ وَفَتَاوِيَهُمْ، وَعَمِلُوا عَلَى مُقْتَضَاهَا، خَالَفَتْ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ أَوْ وَافَقَتْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مَقَاصِدَ الشَّرْعِ في وضع   1 يريد أنه إنما يحتاج الاجتهاد القياسي إلى اللغة العربية في شيئين: معرفة الأصل المقيس عليه، ومعرفة العلة إذا كانت منصوصة أو مومًا إليها، أما باقي أعمال القائس، فلا تحتاج إلى اللغة، والأصل والعلة إذا كانت كذلك يمكن أن يؤخذا مسلمين، وإذ ذاك؛ فلا يحتاج إلى اللغة أصلًا. "د". 2 في "ط": "لها". 3 أي: الثاني، وهو المتعلق بالمعاني والمصالح ... إلخ، وقوله: "يأخذون أصول إمامهم"، أي: مسلمة لا بحث لهم فيها، إنما يبحثون في تفاريعها حتى فيما فرعه نفس الإمام صاحب هذه الأصول، وقد يخالفونه في تفريعه، بقي أنه يقتضي أنهم لا يرجعون إلى النصوص التفصيلية، وأن اجتهادهم منحصر في التفريع على تلك الأصول المسلمة؛ لأنهم لو رجعوا إلى النصوص لكان الواجب توافر شرط العربية؛ فهل الواقع كذلك، وأنهم لا يتعلقون بالنصوص مطلقًا في اجتهادهم؟ هذا يحتاج إلى استقراء، وقلما يثبته الاستقراء. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 الْأَحْكَامِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ، لَمْ يَحِلَّ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى، وَلَا حَلَّ لِمَنْ فِي زَمَانِهِمْ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يقَّرهم عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَسْكُتَ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانُوا خُلَقَاءَ1 بِالْإِقْدَامِ فِيهِ، فَالِاجْتِهَادُ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ كَانَ مِثْلَهُمْ وَبَلَغَ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ مَبَالِغَهُمْ صَحِيحٌ، لَا إِشْكَالَ فِيهِ، هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَأَمَّا إِذَا بَلَغُوا تِلْكَ الرُّتْبَةَ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا فِي صحة اجتهادهم على الإطلاق2 والله أعلم.   1 في "م" و"ط" و"ف" بالفاء، وعلق "ف": "لعله بالقاف جمع خليق". قلت: وهو كذلك في الأصل و"د". 2 ظاهره أن اجتهادهم في هذه الحالة مطلق؛ كالأئمة الأربعة، ولك أن تقول مطلق، أي شامل للاجتهادين وإن كانوا منتسبين إلى أئمتهم متقيدين بقواعدهم لعدم بلوغهم درجة تأسيس الأصول. "ف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدْ يَتَعَلَّقُ الِاجْتِهَادُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَلَا يُفْتَقَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ بِالْمَوْضُوعِ1 عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ إِلَّا بِهِ2، مِنْ حَيْثُ قُصِدَتِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَارِفًا وَمُجْتَهِدًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا لِيَتَنَزَّلَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى، كَالْمُحَدِّثِ الْعَارِفِ بِأَحْوَالِ الْأَسَانِيدِ وَطُرُقِهَا، وَصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَمَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ مُتُونِهَا مِمَّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ اجْتِهَادُهُ فِيمَا هُوَ عَارِفٌ بِهِ، كَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَا3، وَعَارِفًا بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ أَمْ لَا4، وَكَذَلِكَ الْقَارِئُ فِي تَأْدِيَةِ5 وجوه القرءات، والصانع في معرفة عيوب   1 أي: موضع الحكم على ما هو عليه، ومتى علمه كذلك، علم المناط في الجزئيات؛ لأنه منصوص شرعًا، وإنما النظر في تحقيقه ووجوده في جزئيات قد يخفى تحققه فيها على الوجه المطلوب. "ف". 2 خذ هذا المثال لزيادة الإيضاح: الحكم الشرعي أن من يعتريه المرض أو يتأخر برؤه بسبب استعمال الماء يرخص له في التيمم، فإذا أردنا معرفة الحكم الشرعي بالنسبة لمريض ليرخص له أو لا يرخص؛ فإننا لا نحتاج إلى اللغة العربية، ولا إلى معرفة مقاصد الشرع في باب التيمم فضلًا عن سائر الأبواب، إنما يلزم أن نعرف بالطرق الموصل: هل يحصل ضرر فيتحقق المناط، أم لا فلا يتحقق؟ ولا شأن لهذا بواحد من الأمرين، وإنما يعرف بالتجارب في الشخص نفسه، أو في أمثاله، أو بتقرير طبيب عارف. "د". 3 كيف هذا مع أن الترجيح بالمتن يكون بالمرجحات الراجعة إلى الألفاظ ككون ما دل بالحقيقة يحتج به ولا يحتج بما عارضه الدال بالمجاز، وهكذا؛ فلا بد في هذا النوع من علم العربية، أما الترجيح بالإسناد، فقد يسلم فيه عدم التوقف على شرط العربية. "د". 4 قد لا يسلم في بعض صور الترجيح بالحكم، كما يعلم من مراجعتها في مثل "المنهاج" للبيضاوي. "د". 5 لأنها ترجع للرواية الصرفة، أو إلى ضوابط تعين كيفية النطق بالكلمات مثلًا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 الصِّنَاعَاتِ، وَالطَّبِيبُ فِي الْعِلْمِ بِالْأَدْوَاءِ وَالْعُيُوبِ، وَعُرَفَاءُ الْأَسْوَاقِ1 فِي مَعْرِفَةِ قِيَمِ السِّلَعِ وَمَدَاخِلِ الْعُيُوبِ فِيهَا، وَالْعَادُّ2 فِي صِحَّةِ الْقِسْمَةِ، وَالْمَاسِحُ فِي تَقْدِيرِ الْأَرَضِينَ وَنَحْوِهَا، كُلُّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَى الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ كَمَالًا فِي الْمُجْتَهِدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ3 مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَازِمًا4 لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ، بَلْ هُوَ مُحَالٌ عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ، فَعَلَى جِهَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَيْضًا، إِنْ لَزِمَ5 فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ الْعِلْمُ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ6 لَزِمَ في كل   1 في "ماء": "العرفاء بالأسواق". 2 في "ماء": "العادي". 3 أي: على عدم الافتقار إلى العلم بالأمرين. "د". 4 أي: لمن يجتهد في الأحكام الشرعية بأي نوع من أنواع الاجتهاد، سواء أكان تحقيق مناط أم غيره، لو كان لازمًا له أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ عِلْمٍ يَتَعَلَّقُ به الاجتهاد أي تعلق كان، لم يوجد مجتهد ... إلخ، هذا ما تقدم للمؤلف استدلالًا على غير هذا الموضع، ولا يخفى أن الكلام ها هنا ليس فيما يتوقف عليه مطلق الاجتهاد، بل في خصوص توقف تحقيق المناط على الوصفين، وقد تقدم له في تحقيق المناط العام أن ارتفاعه تتعطل بسببه التكاليف كلها أو أكثرها، فلو لزم الشرطان في تحقيق المناط، لتعطلت أكثر التكاليف، وهو باطل، فلو نحا هذا النحو في الدليل لكان ظاهرًا، ولا يتأتى أن يقال: إذا توقف الاجتهاد بأي نوع منه عليهما لم يوجد مجتهد، كيف وهما الركنان في أكثر أنواع الاجتهاد؟ "د". 5 في "ط": "لو لزم". 6 أي: والعربية بدليل قوله بعد: "ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية"، أي: فضلًا عن مقاصد الشريعة، فقد أدرج العربية في الاستدلال، وهذا الدليل صالح لإقامته على الدعويين. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 علم وصناعة أن لا تُعْرَفَ إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، إِذْ1 فُرِضَ مِنْ لُزُومِ الْعِلْمِ2 بِهَا الْعِلْمُ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْعُلُومُ وَوَجَدْتَ مِنَ الْجُهَّالِ بِالشَّرِيعَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَمِنَ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ لِلشَّرِيعَةِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ3 لَمْ يَزَالُوا يُقَلِّدُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرُوا أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِمَا قُلِّدُوا فِيهِ خَاصَّةً، وَهُوَ التَّقْلِيدُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِينَ4 كَذَلِكَ، فَالِاجْتِهَادُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ [الْعَرَبِيَّةِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي مَنَاطِ الْأَحْكَامِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ] 5 ذَلِكَ الْمَنَاطِ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ لَا من وجه غيره، وهو ظاهر.   1 في "م": "إذا". 2 أي: وهو الذي قلنا: إنه يتوقف عليه تحقيق المناط. "د". أما "ف"، فقال: "لعله من لازم العلم". 3 أي: مطلقًا مجتهدين ومقلدين. "د". 4 وهما الاجتهاد من النصوص ومن المعاني، واقتصر في تفريعه على الأول. "د". 5 سقط من جميع النسخ إلا من "ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الِاجْتِهَادُ الْوَاقِعُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا، وَهُوَ الصَّادِرُ عَنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ اضْطَلَعُوا1 بِمَعْرِفَةِ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَالثَّانِي: غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ وَهُوَ الصَّادِرُ عَمَّنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِمَا يَفْتَقِرُ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ رَأْيٌ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ، وَخَبْطٌ فِي عِمَايَةٍ، وَاتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، فَكُلُّ رَأْيٍ صَدَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا مِرْيَةَ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم} [الْمَائِدَةِ: 49] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} الْآيَةَ [ص: 26] . وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ يَنْشَأُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمٌ آخَرُ فَأَمَّا القسم الأول، وهي:   1 أي: تقووا واهتموا بمعرفة ... إلخ، "وأصلها مأخوذ" من الضلاعة وهي القوة، يقال: أضلع بحلمه، أي: قوي عليه ونهض به. "ف" و"م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَيَعْرِضُ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ، إِمَّا بِخَفَاءِ1 بَعْضِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ فِيهِ مَا لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ، وَإِمَّا بِعَدَمِ2 الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ جُمْلَةً. وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ إِنْ كَانَ فِي [أَمْرٍ] جُزْئِيٍّ3، وَأَمَّا إِنْ كَانَ [الْخَطَأُ] فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ4، فَهُوَ أَشَدُّ وَفِي هَذَا الْمَوْطِنِ حَذَرٌ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، فَإِنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّحْذِيرُ مِنْهَا؛ فَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ". قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جائرٍِ، وَمِنْ هَوًى متَّبع"5.   1، 2 وقد يكون هذان من عدم بذل الوسع، ومن التقصير فيما هو واجب على المجتهد، وسيأتي الإشارة إليه بقوله: "وأكثر ما يكون ذلك عند الغفلة ... إلخ". "د". 3 فينتقض حكم الحاكم فيه إذا صادم إجماعًا، أو نصًا قاطعًا، أو قياسًا جليًا، أو قواعد الشريعة، ويبطل أثر الفتوى أيضًا إن لم يكن حكم حاكم بل إفتاء. "د". قلت: وما بين المعقوفتين ساقط في الأصل. 4 كتحريم الحلال وتحليل الحرام مصادمة لقاطع أيضًا، كحل المتعة والربا، وكتحريم الطيبات من الرزق، وهكذا. "د". 5 أي: فأما اتقاء زلة العالم، فطريقه أنكم إن ظننتم به الخير وأنه موفق، فلا تستسلموا له، فربما جره الاستسلام إلى الزيغ واتباع الهوى، وإن ظننتم به الخطأ والزيغ، فلا تظهروا له تمام الجفوة وشدة الغلظة؛ فربما جره هذا إلى التمادي في العناد، وخلع ربقة الحق في غير ما ظهر خطؤه فيه أيضًا، وشواهد هذا حاصلة الآن فيمن زل من المنسوبين للعلماء في زماننا هذا، فإنهم لما قرروا حذف اسمه من عدادهم أعانوا عليه إبليس، فصار ضد الإسلام ونبي الإسلام يهرف بفحش القول ولا رادع له، أعاذنا الله من زيغ القلوب بعد الهداية. "د". قلت: ومضى تخريج الحديث "4/ 89". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 وَعَنْ عُمَرَ: "ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زلَّة الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ"1. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةُ الْعَالِمِ، أَوْ جِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حقٌّ، وَعَلَى الْقُرْآنِ منارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ"2. وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ كَثِيرًا: "وَإِيَّاكُمْ وزَيْغةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ، وَقَدْ يقولُ المنافقُ الحقَّ، فتلقَّوا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا". قَالُوا: وَكَيْفَ زَيْغَةُ3 الْحَكِيمِ؟ قَالَ: "هِيَ كَلِمَةٌ تُرَوِّعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا، وَتَقُولُونَ مَا هَذِهِ؟ فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ، وَلَا تَصُدَّنكم عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وأن يراجع الحق"4.   1 مضى تخريجه "4/ 89". 2 مضى تخريجه "4/ 89". وفي "ط": "زلة عالم ... منافق". 3 بفتح الزاي؛ أي: زلته وميله، يقال: زاغ فلان عن الشيء زيغًا "وزيغانًا" وزيوغًا "وذلك إذا" مال عنه. "ف" و"م". 4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 203/ رقم 4611"، ومعمر في "الجامع" "11/ 363-364/ رقم 20750"، والدارمي في "السنن" "1/ 67"، وابن وضاح في "البدع" "ص25، 26"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 222، 320-322، 719"، والآجري في "الشريعة" "ص47، 48"، والفريابي في "صفة النفاق" "ص18-19، 19-20"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 22/ 2"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن" "رقم 834"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 981/ رقم 1781"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 88-89، 89"، والذهبي في "السير" "1438" من طرق، وبألفاظ متقاربة، منها المذكور وسنده صحيح. وذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 297"، وأبو شامة في "الباعث" "ص11"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص57-58". ووقع في "م": "أن يراجع الخلق". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: "كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ: زَلَّة عَالِمٍ، وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ، فَإِنِ اهْتَدَى؛ فَلَا تُقلَّدوهُ دِينَكُمْ، تَقُولُونَ: نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ، وَنَنْتَهِي عَمَّا يَنْتَهِي عَنْهُ فُلَانٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ، فَلَا تَقْطَعُوا إِيَاسَكُمْ مِنْهُ، فتُعينوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"1 الْحَدِيثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "ويلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثرات الْعَالِمِ. قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ يجدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ"2. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: "أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: رَآنِي أَبِي وَأَنَا أُنْشِدُ الشِّعْرَ، فَقَالَ لِي: يَا بُنّي! لَا تُنْشِدِ الشِّعْرَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ! كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ. فَقَالَ لِي: أَيْ بُني! إِنْ أَخَذْتَ بَشرٍّ مَا فِي الْحَسَنِ وبشرٍّ مَا فِي ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيكَ الشرُّ كُلُّهُ"3. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتيبة4 وَمَالِكٌ: "لَيْسَ أحدٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا يُؤخذ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم"5.   1 مضى تخريجه "4/ 90". 2 مضى تخريجه "4/ 90". 3 سيأتي قريبًا وسليمان هو التيمي. 4 كذا في الأصل، وهو الصواب، وفي النسخ المطبوعة كلها: "عيينة"!! وهو خطأ، وانظر ترجمته في "طبقات الفقهاء" "ص82، 83" للشيرازي. 5 أسنده عن مجاهد أبو نعيم في "الحلية" "3/ 300"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 176"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 857"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 925، 926/ رقم 1762، 1763، 1764، 1765"، وإسناده صحيح. وأسنده عن الحكم ابن عبد البر في "الإحكام" "2/ 925/ رقم 1761"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 883"، وإسناده صحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ1: "إِنْ أخذتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّر كُلُّهُ"2. قَالَ3 ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: "هَذَا إِجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا". وَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ4 الْحَذَرِ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنِ اعْتِبَارِ5 مَقَاصِدِ الشَّارِعِ في ذلك المعنى الذى اجتهد فيه،   = وذكر الغزالي في "الإحياء" "1/ 78" أنه من قول ابن عباس عند الطبراني، وكذا السبكي في "الفتاوى" "1/ 148"، وقال: "وأخذ هذه الكلمة من ابن عباس مجاهد، وأخذ منهما مالك رضي الله عنه واشتهرت عنه". قلت: وأخذها أيضًا الشعبي، كما في "مختصر المؤمل" "رقم 185"، و"معنى قول الإمام المطلبي" "ص127 - ط دار البشائر". ومقولة مالك صححها ابن عبد الهادي في "إرشاد السالك" "ق227/ أ"، وذكرها أحمد كما في "مسائل أبي داود" "ص276". وانظر: مقدمة "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص49 - ط المعارف وص24-25 - ط الرابعة عشر، المكتب الإسلامي"، و"الإيقاظ" "ص72" للفلاَّني. 1 في "م": "التميمي"، وهو خطأ. 2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 927/ رقم 1766، 1767" بإسنادٍ صحيح. 3 قاله في كتابه "بيان العلم" "2/ 827"، وفيه أن سليمان المذكور خاطب بهذا خالد بن الحارث، وكأن المؤلف يجعل هذه الرخص في المذاهب من زلات العلماء، ولولا أنها كذلك ما كانت شرورًا. "د". 4 ورد في الأصل -وهو خطأ-: "عدم الحذر". 5 أي: في غير تحقيق المناط؛ لأنه لا يحتاج إلى هذين كما سبق، وهو الموافق لقوله أيضًا أول المسألة: "وفي هذا الموطن -يشير إلى الأمر الكلي- حذر من زلة العلم"، وتحقيق المناط من الجزئي، وكأنه لم يعتد به زله -مع أنه كذلك-؛ لأن الذي يترتب على خلل تطبيق الأحكام الشرعية على مناطاتها من الفساد وضياع الحقوق أخف من الخطأ في الكليات؛ لأنها تعم وذلك يخص. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وَالْوُقُوفِ دُونَ أَقْصَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْبَحْثِ عَنِ النُّصُوصِ فِيهَا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَعَمُّدٍ وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ وَمَأْجُورٌ، لَكِنْ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِي الِاتِّبَاعِ لِقَوْلِهِ فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: "إِنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِالذَّنْبِ قَدْ تَصِيرُ كَبِيرَةً وَهِيَ فِي نَفْسِهَا صَغِيرَةٌ"، وَذَكَرَ مِنْهَا أَمْثِلَةً، ثُمَّ قَالَ: "فَهَذِهِ ذُنُوبٌ يُتَّبَعُ1 الْعَالِمُ عَلَيْهَا، فَيَمُوتُ الْعَالِمُ ويبقى شره مستطيرًا في العالم آماد2 مُتَطَاوِلَةً، فَطُوبَى لِمَنْ إِذَا مَاتَ مَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ"3، وَهَكَذَا الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ فِي زَلَّتِهِ فِي الْفُتْيَا مِنْ بَابٍ أَوْلَى، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَفِيَ عَلَى الْعَالِمِ بَعْضُ السُّنَّةِ أَوْ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ الْعَامَّةِ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِهِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ قَوْلُهُ شَرْعًا يُتَقَلَّدُ، وَقَوْلًا يُعْتَبَرُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَرُبَّمَا رَجَعَ عَنْهُ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَيَفُوتُهُ4 تَدَارُكُ مَا سَارَ فِي الْبِلَادِ عَنْهُ [وَيَضِلُّ عَنْهُ] 5 تَلَافِيهِ، فَمِنْ هُنَا قَالُوا: زَلَّةُ الْعَالِمِ مَضْرُوبٌ بِهَا الطَّبْلُ6. فَصْلٌ: إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي أُمُورٍ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: -مِنْهَا: أَنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ لَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهَا مِنْ جِهَةٍ7 وَلَا الْأَخْذُ بِهَا تَقْلِيدًا لَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ عُدَّتْ زَلَّةً، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدًّا بِهَا؛ لَمْ يُجْعَلْ لَهَا هَذِهِ الرُّتْبَةُ، وَلَا نُسِبَ إِلَى صَاحِبِهَا الزَّلَلُ فِيهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ صَاحِبُهَا إِلَى التَّقْصِيرِ8، وَلَا أَنْ يشنع عليه بها، ولا ينتقص   1 في "م": "يتّسع". 2 كذا في "الإحياء"، وفي جميع النسخ بدلها: "أيامًا"!! 3 "إحياء علوم الدين" "4/ 33". 4 ولذلك كره مالك كتابة الفقه عنه. "د". 5 سقط من "م". 6 أسندها المعافي في "الجليس الصالح" "3/ 177" عن الخليل بن أحمد، وانظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 274". 7 في "ط": "جهته". 8 كيف هذا وقد جعل من أكثر أسباب هذا الخطأ الوقوف دُونَ أَقْصَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْبَحْثِ عَنِ النُّصُوصِ، يعني: بحيث يصح أن يقال: إنه لم يبذل غاية الوسع والاجتهاد يتوقف عليه، فإذا لم يقم ببذل أقصى الوسع، ووقف عند حد كان يمكنه تجاوزه في البحث، يكون مقصرًا وغير آت بحقيقة الاجتهاد، فيكون ملومًا قطعًا، ويؤيد هذا قوله أول الفصل التالي: "لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد"، أما عدم التشنيع وعدم الانتقاض، فمسلمان للأدلة السابقة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 مِنْ أَجْلِهَا، أَوْ يُعْتَقَدُ فِيهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ [بَحْتًا] 1، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ خِلَافُ مَا تَقْتَضِي2 رُتْبَتُهُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِ مَا يُرْشِدُ3 إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ رُوِيَ4 عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ؛ أَنَّهُ قَالَ: "كُنَّا فِي الْكُوفَةِ فناظَرُوني فِي ذَلِكَ -يَعْنِي: [فِي] 5 النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ-، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعَالَوْا فَلْيَحْتَجَّ الْمُحْتَجُّ6 مِنْكُمْ عَمَّنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّخْصَةِ، فَإِنْ لَمْ نُبَيِّنِ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِشِدَّةٍ7 صَحَّتْ عَنْهُ فَاحْتَجُّوا. فَمَا جَاءُوا عَنْ وَاحِدٍ بِرُخْصَةٍ إِلَّا جِئْنَاهُمْ بِشِدَّةٍ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ8 وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ عَنْهُ فِي رُخْصَةِ9 النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: فَقُلْتُ لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ فِي الرُّخْصَةِ: يَا أَحْمَقُ! عُدَّ10 أَنَّ ابْنَ مسعود لو كان ههنا جالسًا فقال: هو لك   1 ما بين المقعوفتين ساقط من الأصل، وشرحها "ماء": أي: خالصًا". 2 في "م": "تقتضي"، وفي "ماء": "تقتضيه". 3 وهو أن ذلك يكون إعانة للشيطان عليه، وذلك لا يجوز. "د". قلت: ومضى كلام معاذ وتخريجه "ص133". 4 تأييد للبناء الأول "د". 5 سقطت من "ط". 6 أي: بالراوية والنقل عمن شاء من أصحابه صلى الله عليه وسلم النبيذ بأن يحكي عنه قولًا بإباحة شربه، فإن لم نبين الرد على ذلك المحتج برواية أخرى صحيحة عن ذلك الرجل تفيد القول بحرمته، فقد تم لكم ما أردتم. "ف". 7 مقابل للرخصة في كلامه. "د". "8" انظر ما ورد عنه في "الأشربة" لابن قتيبة "ص21-22". 9 في "ط": "شدّة". 10 بضم أوله, وتشديد ثانيه، أي: هب أن ابن مسعود ... إلخ. "ف" و"م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 حَلَالٌ، وَمَا وَصَفْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الشِّدَّةِ، كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَحْذَرَ أَوْ تُحَيَّرَ أَوْ تَخْشَى. فَقَالَ قَائِلُهُمْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! فَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَمَّى عِدَّةً مَعَهُمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ الْحَرَامَ؟ فَقُلْتُ1 لَهُمْ: دَعُوا عِنْدَ الِاحْتِجَاجِ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ؛ فَرُبَّ رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَاقِبُهُ كَذَا وَكَذَا وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ زَلَّةٌ، أَفَلِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا؟ فَإِنْ أَبَيْتُمْ؛ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ؟ قَالُوا: كَانُوا خِيَارًا. قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ؟ فَقَالُوا: حَرَامٌ. فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا فَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ، فَبَقُوا وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ". هَذَا مَا حُكِيَ2. وَالْحَقُّ مَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 59] . فَإِذَا كَانَ بَيِّنًا ظَاهِرًا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِلسُّنَّةِ، لَمْ يَصِحَّ الاعتدادُ بِهِ وَلَا البناءُ عَلَيْهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إِذَا خَالَفَ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ، مَعَ أَنَّ حُكْمَهُ مبنيٌّ عَلَى الظَّوَاهِرِ مَعَ إِمْكَانِ خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَلَا يُنْقَضُ مَعَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَإِنْ تَبَيَّنَ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ نَصْبِ الْحَاكِمِ تُنَاقِضُ3 نَقْضَ حُكْمِهِ، وَلَكِنْ يُنْقَضُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَصْلٌ: -وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهَا خِلَافًا فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لأنها لم   1 استفهام إنكاري، أي: يلزم على رأيك أنهم كانوا يشربون المحرم. "د". 2 ذكر مناظرة ابن المبارك هذه للكوفيين مختصرة بسنده البيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 289-299". 3 وإلا، لصح النظر في النقض أيضًا، وفي نقض النقض ويتسلسل، فلا ينفذ حكم، فتتعطل المصالح. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 تَصْدُرْ فِي الْحَقِيقَةِ عَنِ اجْتِهَادِهِ، وَلَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ1 الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ حَصَلَ مِنْ صَاحِبِهَا اجْتِهَادٌ، فَهُوَ لَمْ يُصَادِفْ فِيهَا مَحَلًّا، فَصَارَتْ فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الشَّرْعِ كَأَقْوَالِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ فِي الْخِلَافِ الْأَقْوَالُ الصَّادِرَةُ عَنْ أَدِلَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ، كَانَتْ مِمَّا يَقْوَى أَوْ يَضْعُفُ، وَأَمَّا إِذَا صَدَرَتْ عَنْ مُجَرَّدِ خَفَاءِ2 الدَّلِيلِ أَوْ عَدَمِ مُصَادَفَتِهِ فَلَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَدَّ بِهَا فِي الْخِلَافِ، كَمَا لَمْ يَعْتَدَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ بِالْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَالْمُتْعَةِ، وَمَحَاشِي النِّسَاءِ3، وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَفِيَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فماذا يُعْرَفُ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ كَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَهُمُ الْعَارِفُونَ بِمَا وَافَقَ أَوْ خَالَفَ، وَأَمَّا غيرهم، فلا تمييز لَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَرَاتِبَ، فَمِنَ الْأَقْوَالِ مَا يَكُونُ خِلَافًا لِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِنْ نَصٍّ مُتَوَاتِرٍ أَوْ إِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ فِي حُكْمٍ كُلِّيٍّ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خِلَافًا لِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَالْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ مُتَفَاوِتَةٌ، كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ الْجُزْئِيَّةِ، فَأَمَّا الْمُخَالِفُ لِلْقَطْعِيِّ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي اطِّرَاحِهِ4، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ رُبَّمَا ذَكَرُوهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا فيه، لا للاعتداد   1 لأنها ليست ظنية، بل من القطعيات التي لم تتردد طرفي النفي والإثبات. "د". 2 في "ماء": "خطأ". 3 جمع محشاة، وهي "في الأصل" مبعر الدواب أراد بها هنا أدبار النساء، وفي الحديث محاشي النساء حرام. "ف" و"م". وقال "ماء": "أي: إتيانهن في أدبارهن". 4 قال الشافعي في "الرسالة" "ص560": "فإني أجد أهل العلم قديمًا وحديثًا مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟ قال: "الشافعي": فقلت له: الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، لا أقول ذلك في الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصًا بينًا، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه. وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسًا، فذهب المتأول أو القياس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل: إنه يضيق عليه الخلاف في المنصوص". قلت: وحدّه أدق مما ذكره المصنف، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 بِهِ، وَأَمَّا الْمُخَالِفُ لِلظَّنِّيِّ؛ فَفِيهِ الِاجْتِهَادُ1 بِنَاءً عَلَى التَّوَازُنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اعْتَمَدَهُ صَاحِبُهُ مِنَ الْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ مِنَ الْمُتَفَقِّهِينَ فِي ذَلِكَ ضَابِطٌ يَعْتَمِدُهُ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ لَهُ ضَابِطًا تَقْرِيبِيًّا، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مَعْدُودًا فِي الْأَقْوَالِ غَلَطًا وَزَلَلًا قَلِيلٌ جِدًّا فِي الشَّرِيعَةِ، وَغَالِبُ الْأَمْرِ أَنَّ أَصْحَابَهَا مُنْفَرِدُونَ بِهَا، قَلَّمَا يُسَاعِدُهُمْ عَلَيْهَا مُجْتَهِدٌ آخَرُ، فَإِذَا انْفَرَدَ صَاحِبُ قَوْلٍ عَنْ عَامَّةِ الْأُمَّةِ، فَلْيَكُنِ اعْتِقَادُكَ أَنَّ الْحَقَّ [فِي الْمَسْأَلَةِ] مَعَ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ2، لَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ. فَصْلٌ: وَقَدْ عَدَّ ابْنُ السَّيِّدِ3 هَذَا الْمَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ، حين عدّ جهة   1 أي: فطرحه رأسًا أو الاعتداد به خلافًا محتاج لاجتهاد المجتهد والموازنة ... إلخ؛ فالمرجع في مثل ذلك للمجتهد. "د". 2 نعم، مخالفة الجماهير من العلماء المجتهدين مظنة الخطأ والزلل، ولكن لا يستلزم ذلك دائمًا، والعبرة بالحجة والدليل. 3 وهذا نص كلامه في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين" "ص165-166": "اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله وعن أصحابه والتابعين لهم رضي الله عنهم تعرض له ثماني علل: أولها: فساد الإسناد: والثانية: من جهل نقل الحديث على معناه دون لفظه، والثالثة: من جهة الجهل بالإعراب، والرابعة: من جهة التصحيف، والخامسة: أن ينقل المحدث بعض الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له، أو بساط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة: أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، والثامنة: نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 الرِّوَايَةِ وَأَنَّ لَهَا ثَمَانِيَ عِلَلٍ: فَسَادُ الْإِسْنَادِ، ونقل الحديث على المعنى أو من الصحف1، وَالْجَهْلُ بِالْإِعْرَابِ، وَالتَّصْحِيفُ2، وَإِسْقَاطُ جُزْءِ3 الْحَدِيثِ، أَوْ سَبَبِهِ، وَسَمَاعُ بَعْضِ الْحَدِيثِ وَفَوْتُ بَعْضِهِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَرْجِعُ إِلَى4 مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ إِذَا صَحَّ أَنَّهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عِلَلٌ حَقِيقَةٌ، فَإِنَّهُ5 قَدْ يَقَعُ الْخِلَافُ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَالْخِلَافُ مُعْتَدٌّ بِهِ بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهِيَ:   1 في النسخ المطبوعة كلها: "المصحف"، وكتب "م" معلًَّقا": "أي: النقل من كتاب اشتهر بالتصحف". قلت: الصواب ما أثبته، ووقع على الجادة في الأصل وفي "التنبيه" لابن السيد البطليوسي، انظر الهامش السابق. 2 التصحيف من الراوي غير النقل عن كتاب عرف فيه التصحيف، فهو علة أخرى. "د". قلت: انظر الهامش السابق. وكتب "م": "المراد هنا الأخذ عن راوٍ يصحف فيما يرويه". 3 أي: أن الراوي مع علمه بباقي الحديث أو سببه لغرض صحيح في نظره، كأن يكون شاهده لما يدعيه يكفي فيه ما اقتصر عليه، وقد يكون في إسقاط السبب أو جزء الحديث ما يكون سببًا في خفاء المعنى المراد وتبادر خلافه، وهذا غير سماع بعض الحديث وفوات بعضه، فعذره في هذا أنه لم يسمع كل الحديث. "د". 4 أي: لأن الدليل الذي يوجد فيه شيء من هذه العلل لا يعد دليلًا معتبرًا، هذا إذا سلم وجودها في المحل، وقد لا يسلم فلا ترجع إلى ما تقدم، فيكون الخلاف الحاصل من اعتبار هذه الأدلة وعدم اعتبارها بناء على الخلاف في وجود هذه العلل فيها وعدم وجودها معتدًا به خلافًا، وهذا وجه كلام ابن السيد في عده هذا الموضع من أسبابه. "د". 5 بيان لعد ذلك من أسباب الخلاف. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فَيَعْرِضُ فِيهِ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي صَاحِبِهِ أَوْ يَعْتَقِدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ، وَتَكُونُ مُخَالَفَتُهُ تَارَةً فِي جُزْئِيٍّ وَهُوَ أَخَفُّ، وَتَارَةً فِي كُلِّيٍّ مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا الْعَامَّةِ، كَانَتْ مِنْ أُصُولِ الِاعْتِقَادَاتِ أَوِ الْأَعْمَالِ؛ فَتَرَاهُ آخِذًا بِبَعْضِ1 جُزْئِيَّاتِهَا فِي هَدْمِ كُلِّيَّاتِهَا حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُ بِبَادِئِ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَا راجع رجوع2 الافتقار إليها، ولا   1 أي: وقد عرفت في كتاب الأدلة أنه يجب اعتبار الجزئيات بكلياتها، فلا ينقض جزئي قاعدة كلية، فمسألة العسل الذي لم يوافق الصفراوي الذي شربه لا ينقض مع قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} القاعدة الكلية، وهي أن الشارع لا يخبر خبرًا يغاير المخبر عنه، ولا بد من رجوع* الدليل الجزئي إلى كلي آخر بأن يقيد هذه المطلق، ويقال فيه ما لم يكن صفراويًّا مثلًا أو يوكل فهمه إلى الله العالم بما أراد بهذه الجزئيات، مع أن الآية ليس فيها تعميم نفعه لجميع الناس، ومن الشاهد للمؤلف ما قاله بعض من يدعي لنفسه الفهم والاستنباط في الشريعة في هذا الزمان أنه لا يوجد حكم شرعي في غير العبادات إلا وهو قابل للتغيير، ويستدل على ذلك بأمور ككون الأحكام تتغير بتغير الزمان، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء من أمور دنياكم، فإنما أنا بشر" **، وقولهم: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهكذا أخذ بهذه الأمور على غير وجهتها، ولم يرجع إلى أهل العلم بها ليفهم معناها، فهدم بهذا الشريعة كلها، ولم يبق بيده من كلياتها سوى أن الشريعة وضعت للمصحة، وطبعًا المصلحة هي ما يوافق هواه، وما يظهر له ببادئ الرأي؛ لأنه لا يفهم مقاصد الشريعة إلا ما يزعمه هو مقصدًا ومصلحة. "د". قلت: انظر في المعنى الذي ذكره المصنف هنا كتابه "الاعتصام" "2/ 712 - ط ابن عفان". 2 بل يرجع إليها رجوع الاستظهار بها على صحة غرضه في النازلة؛ فالمقصود إنما هو تنزيل الدليل على وفق غرضه، وتحكيم هواه في الدليل، فيكون الدليل تبعًا لهواه كما تقدم في المسألة الثالثة عشرة من كتاب الأدلة. "د".   * في الأصل: "رجع". ** مضى تخريجه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 مُسَلِّمٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي فَهْمِهَا، وَلَا رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرِهَا كَمَا قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 59] . وَيَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ الْأَهْوَاءِ الْكَامِنَةِ فِي النُّفُوسِ، الْحَامِلَةِ عَلَى تَرْكِ الِاهْتِدَاءِ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَاطِّرَاحِ النَّصَفَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّاظِرِ وَيُعِينُ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَتَوَهُّمِ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ بِاسْتِعْجَالِ نَتِيجَةِ الطَّلَبِ1، فَإِنَّ2 الْعَاقِلَ قَلَّمَا يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِي اقْتِحَامِ الْمَهَالِكِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُخَاطِرٌ. وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7] . وَفِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: "فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ" 3. وَالتَّشَابُهُ4 فِي الْقُرْآنِ4 لَا يَخْتَصُّ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ الأمور الإلهية   1 أي: طلب العلم. "د". 2 أي: فهذا التوهم يجعله يفهم أنه لا يخاطر بعمله، ولو كان يفهم أنه يخاطر ما خاطر؛ لأن العاقل ... إلخ. "د". 3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} ، 8/ 209/ رقم 4547" عن عائشة رضي الله عنها. 4 أي: الأعم من الحقيقي والإضافي، وقوله: "بل هو من جملة ... إلخ، أي: أن ما نصوا عليه من جملة ... إلخ، ولذلك قال: "وأصل هذه المسألة مذكور في قوله تعالى"، أي: فالآية أصل عام شامل لما ذكر وما لم يذكر. "د". قلت: انظر "الاعتصام" "1/ 71 و2/ 586، 737 - ط ابن عفان". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَلَا الْعِبَارَاتِ الْمُجْمَلَةِ وَلَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَذْكُرُونَ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُقْتَضَى الْآيَةِ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْحَصْرِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَذْكُرُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْقَصْدِ إِلَى مُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ إِذَا كَانَ فِيهَا أَصْلٌ مُطَّرِدٌ فِي أَكْثَرِهَا مُقَرَّرٌ وَاضِحٌ فِي مُعْظَمِهَا، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ1 الْمَوَاضِعِ فِيهَا مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ مُخَالَفَةَ مَا اطَّرَدَ، فَذَلِكَ مِنَ الْمَعْدُودِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يُتَّقَى اتِّبَاعُهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا مُفْضٍ إِلَى ظُهُورِ مُعَارَضَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ وَالْقَوَاعِدِ الْمُطَّرِدَةِ، فَإِذَا اعْتُمِدَ عَلَى الْأُصُولِ وَأُرْجِئَ أَمْرُ النَّوَادِرِ، وَوُكِّلَتْ إِلَى عَالِمِهَا2 أَوْ رُدَّتْ إِلَى أُصُولِهَا؛ فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْمُجْتَهِدِ وَلَا تعارض في حقه.   1 فمثلًا تنزيه الله عن متشابهة الخلق في الجسمية ولواحقها كالحركة أصل مطرد مقرر واضح، وجاء في الحديث قوله: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ... إلخ"، فهذا يتقى اتباعه، وإلا لأفضى إلى معارضة السابق المقرر، فإما أن نكل هذا إلى العالم سبحانه بمراده فنفوض، أو نؤوله ونرده إلى أصل آخر ثابت بتقدير مضاف أو غيره، وهذا في الأعمال كثير، فترى أحاديث ظاهرها مخالفة ما تقرر من أصول الأعمال، فيجرى فيها مثل هذا، لكن المغتر بما وصل إليه يستعمل هذه الجزئيات في نقض الكليات توصلًا إلى غرضه، وستأتي أمثلة كثيرة في الفصل التالي. "د". قلت: قرر الشارح مذهب الخلف من التأويل أو التفويض، وهو ليس بصواب، على ما بيناه في التعليق على "4/ 11، 137". 2 إشارة إلى ما ذكره المؤلف في "الاعتصام" "2/ 587 - ط ابن عفان" عنه صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، "فلا تكذبوا بعضه ببعض"، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه". "د". قلت: أخرجه أحمد "2/ 181، 185"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 192"، وابن الضريس في "فضائله"، وابن مردويه -كما في "الدار المنثور" "2/ 6"- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وإسناده حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ؛ فَجَعَلَ الْمُحْكَمَ -وَهُوَ الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ- هُوَ الأمُّ والأصلَ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، يُرِيدُ: وَلَيْسَتْ بِأُمٍّ وَلَا مُعْظَمٍ، فَهِيَ إِذًا قَلَائِلُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ مِنْهَا شَأْنُ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ عَنِ الْحَقِّ وَالْمَيْلِ عَنِ الْجَادَّةِ، وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فَلَيْسُوا كَذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمْ أُمَّ الْكِتَابِ وَتَرْكِهِمْ الِاتِّبَاعَ لِلْمُتَشَابِهِ1. وَأُمُّ الْكِتَابِ يَعُمُّ مَا هُوَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ2؛ إِذْ لَمْ يَخُصَّ الْكِتَابُ ذَلِكَ وَلَا السُّنَّةُ، بَلْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "افترقتِ اليهودُ على إحدى أو اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ3 وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وسبعين فرقة" 4.   1 في "ط": "لاتباع المتشابه". 2 هذا المقام وهو إثبات أن المتشابه لا يخص ما كان في قواعد الدين، بل يشمل الأعمال استوفاه "المصنف في" "الاعتصام" في المسألة الرابعة "2/ 709-712 - ط ابن عفان"، وقال هناك: "وقد تقررت هذه المسألة في كتاب "الموافقات" بنوع آخر من التقرير". "د". 3 على الشك، قال في "الاعتصام" في المسألة التاسعة "2/ 742 - ط ابن عفان": "الرواية الصحيحة في الحديث: إن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين فرقة". "د". 4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 4/ 25/ رقم 2640" -وقال: "حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197-198/ رقم 4596"-وهذا لفظه-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 1321/ رقم 3991"، وأحمد في "المسند" "2/ 332"، وأبو يعلى "10/ 317، 381-382، 502/ رقم 5910، 5978، 6117"، والآجرى في "الشريعة" "25"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 86، 128"، وابن حبان "14/ 140/ رقم 6247 - الإحسان و15/ 125/ رقم 6731 - الإحسان"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 66"، والمروزي في "السنة" "ص17"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 252"، وغيرهم عن أبي هريرة، وإسناده حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وَفِي التِّرْمِذِيِّ تَفْسِيرُ هَذَا1 بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً". قَالُوا: مَنْ هِيَ2 يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عليه وأصحابي" 3. والذي عليه النبي وَأَصْحَابُهُ ظَاهِرٌ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَمْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ: "وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ، فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ" 4، وَهِيَ بمعنى الرواية   1 ففيه تفسير الفرقة بالملة، وهي المناسبة للمقام. "د". 2 في "ط": "وما هي". 3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افترق هذه الأمة، 5/ 26/ رقم 2641" -وقال: "هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه"-، والآجرِّي في "الشريعة" "ص15، 16"، والمروزي في "السنة" "ص18"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "ص85"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 262"، والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" "رقم 16، 17"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 145-147" من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا. وإسناده ضعيف، من أجل عبد الرحمن بن زياد الإفريقي؛ إلا أن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن. انظر: "السلسة الصحيحة" "رقم 1348". واستغرب المصنف في "الاعتصام" أيضًا "2/ 698 - ط ابن عفان" هذا الحديث، ولعل ذلك من أجل: "كلها في النار إلا واحدة"، كما حصل لابن الوزير في "العواصم والقواصم" "1/ 186 و3/ 172"، والصنعاني في "حديث افتراق الأمة" "ص95-97"، وللشوكاني في "فتح القدير" "2/ 56"، وغيره، ورد على ذلك بتفصيل حسن وعلى وجه قوي الشيخ صالح المقبلي في "العلم الشامخ" "ص414"، ونقل كلامه وأيده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 204". 4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 198/ رقم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 الَّتِي قَبْلَهَا1. وَقَدْ رُوِيَ مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدٍ لَمْ يَرضه2، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ هوَّن الْأَمْرَ فِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: "ستفترقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا3 فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الأمورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ" فَهَذَا نَصٌّ عَلَى دُخُولِ الْأُصُولِ الْعَمَلِيَّةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي"، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ فِي أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يُقَصِّرُ عَنِ الْمُخَالِفِ فِي أَصْلٍ مِنَ الْأُصُولِ الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية.   = 4597"، وأحمد في "المسند" "4/ 102"، والدارمي في "السنن" "2/ 158/ رقم 2521 "، والآجرى في "الشريعة" "ص18"، والمروزي في "السنة" "ص14، 15"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 1، 2، 65"، والطبراني في "الكبير" "19/ 376"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 245، 247"، والأصبهاني في "الحجة" "رقم 107"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 150"، وأبو العلاء الهمذاني في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" "رقم 12" من طريق صفوان بن عمرو عن أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية مرفاعًا بألفاظ، والمذكور لفظ أبي داود، وهو قطعة من الحديث. وإسناده حسن على أقل أحواله، وللحديث شواهد يصل بها إلى درجة الصحة، وحسنه ابن حجر في "الكافي" الشاف" "ص63"، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" "1/ 118": "هذا حديث محفوظ"، وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء "3/ 230": "ولأبي داود من حديث معاوية، وابن ماجه من حديث حسن، وعوف بن مالك، "وهي الجماعة"، وأسانيدها جياد". 1 لأن التي تستحق اسم الجماعة هي التي اتبعت سبيله وسبيل أصحابه صلى الله عليه وسلم، وانظر تفسير كلمة "الجماعة" في المسألة السادسة عشر من "الاعتصام" "2/ 767-776". "د". 2 في "الاعتصام" "2/ 699-700/ ط ابن عفاف" أنه قدح فيه ابن عبد البر بهذه الرواية؛ لأن ابن معين قال: "إنه باطل لا أصل له"، قال بعض المتأخرين: روي عن جماعة من الثقات، وقد أشبع المؤلف الكلام على الحديث ورواياته في "الاعتصام" "2/ 699". "د". قلت: الحديث منكر، وقد خرجناه وتكملنا عليه فيما مضى "1/ 98"، فانظره غير مأمور. 3 راجع المسألة الخامسة والعشرين من "الاعتصام" "2/ 795 - ط ابن عفان" لتبيين معنى القياس المذموم في الحديث. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 فَصْلٌ: وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّنَا عَلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّ الْحَدِيثَ شَامِلٌ لَهَا، وَأَنَّهَا مَقْصُودَةُ الدُّخُولِ تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ1 تُشِيرُ إِلَى أَوْصَافٍ يُتَعَرَّفُ مِنْهَا أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا، فَهُوَ آخِذٌ فِي بِدْعَةٍ، خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَمَنْ تَتَبَّعَ مَوَاضِعَهَا رُبَّمَا اهْتَدَى إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَرُبَّمَا وَرَدَ التَّعْيِينُ فِي بَعْضِهَا، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ: "إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ 2 هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" 3. وَفِي رِوَايَةٍ: "دَعْهُ -يَعْنِي: ذَا الْخُوَيْصِرَةِ-، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا َيحقُر أحدُكم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ،   1 ستأتي له في العلامات التفصيلية في الفصل التالي لهذا الفصل. "د". 2 الضئضئ؛ بكسر الضادين، وضمهما: الأصل والمعدن، وفي الحديث ان رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال له: اعدل؛ فإنك لم تعدل. فقال: "يخرج من ضئضئ هذا ... " الحديث؛ أي: يخرج من أصله ونسله، والرمية: الصيد الذي ترميه، فتقصده وينفذ فيه سهمك، وقيل: كل دابة مرمية. "ف" و"م". وقال "ماء": "ضئضئ، أي: خالص". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التوحيد، باب قول الله {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} ، 13/ 415-416/ رقم 7432" -بنحوه-، والمذكور لفظ مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 741-742/ رقم 1064 بعد 143" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 يمَرقوُن مِنَ الْإِسْلَامِ .... " الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: "آيتُهم رَجُلٌ أسودُ، إِحْدَى عضُديه مثلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ البَضْعةِ 1 تَدَرْدَر 2 " ..... إِلَخْ3. فَقَدْ عرَّف عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ لَهُمْ عَلَامَةً فِي صَاحِبِهِمْ، وَبَيَّنَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي مُعَانَدَةِ الشَّرِيعَةِ أَمْرَيْنِ كُلِّيَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: اتبَّاع ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا نَظَرٍ فِي مَقَاصِدِهِ وَمَعَاقِدِهِ، وَالْقَطْعُ بِالْحُكْمِ بِهِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "يقَرءونَ الْقُرْآنَ لَا يجُاوزُ حَنَاجِرَهُمْ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ يَصُدُّ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ الْمَحْضِ، وَيُضَادُّ الْمَشْيَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمِنْ هُنَا ذَمَّ4 بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَأْيَ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ جَرَى عَلَى مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ تَنَاقَضَتْ5 عَلَيْهِ السُّوَرُ6 وَالْآيَاتُ، وَتَعَارَضَتْ فِي   1 البضعة، بالفتح، ومثلها الهبرة: القطعة من اللحم. "ف" و"م". 2 تددر، بفتح التاء، وسكون الراء، أي: ترجرج، وأصله تتدردر، فحذفت منه إحدى التائين. "ف" و"م". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" بنحوه "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 617-618/ رقم 3610، وكتاب الأدب ما جاء في الرجل "ويلك"، 10/ 552/ رقم 6163، وكتاب استتابة المرتدين، باب من ترك قتال الخوارج، 12/ 290/ رقم 6933"، ومسلم -والمذكور لفظه- في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744/ رقم 1064 بعد 148" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 4 في "الاعتصام" "2/ 784 - ط ابن عفان": "ومن البدع التي تتجارى بصاحبها كالكلب ما ذهب إليه الظاهرية، على رأي من عدها من البدع". "د". قلت: انظر لزامًا ما قدمناه في التعليق على 3/ 420" عنهم، والله الموفق، لا رب سواه. 5 أي: فلا بد للناظر من التدبر والنظر في المقاصد حتى لا تتناقص السور والآيات عنده، والأخذ بالظاهر مؤد إلى هذا، فينطبق عليه الحديث. "د". 6 في "د": "الصور". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 يَدَيْهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. وَتَأَمَّلْ مَا ذَكَرَهُ الْقُتْبِيُّ فِي صَدْرِ كِتَابِهِ فِي "مُشَكِلِ الْقُرْآنِ"1، وَكِتَابِهِ فِي "مُشْكِلِ الْحَدِيثِ"2 يُبَيِّنُ لَكَ صِحَّةَ هَذَا الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَالِكَ آخِذٌ بِبَادِئِ الرَّأْيِ فِي مُجَرَّدِ الظَّوَاهِرِ. وَالثَّانِي قَتْلُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَرْكُ أَهْلِ الْأَوْثَانِ عَلَى ضِدِّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الشَّرِيعَةِ وَتَفْصِيلُهَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْحُكْمِ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ نَاجُونَ، وَأَنَّ أَهْلَ الْأَوْثَانِ هَالِكُونَ، وَلِتَعْصِمَ هَؤُلَاءِ وَتُرِيقَ دَمَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيهِمَا وَالْعُمُومِ، فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مُؤَدِّيًا إِلَى مُضَادَّةِ هَذَا الْقَصْدِ، صَارَ صَاحِبُهُ هَادِمًا لِقَوَاعِدِهَا، وَصَادًّا عَنْ سَبِيلِهَا، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْكِيمِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ3 وَفِي غَيْرِهَا، ظَهَرَ لَهُ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْقَصْدِ، وَعُدُولُهُمْ عَنِ الصَّوَابِ، وَهَدْمُهُمْ لِلْقَوَاعِدِ، وَكَذَلِكَ مُنَاظَرَتُهُمْ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ4، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. فَهَذَانِ وَجْهَانِ ذُكِرَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الْكُلِّيَّةِ اتِّبَاعًا لِلْمُتَشَابِهَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ آرَائِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِهِ، كَتَكْفِيرِهِمْ لِأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَلِغَيْرِهِمْ وَمِنْهُ سَرَى قَتْلُهُمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْفَاعِلَ لِلْفِعْلِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن، وأن لا حرام إلى مَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ   1 انظر منه: "ص103-106". 2 انظر منه: "ص5-11 - ط الكتاب العربي"، ونقل كلامه المصنف في "الاعتصام" "2/ 760-764 - ط ابن عفان". 3 انظر تفصيل المناظرة عند المصنف في "الاعتصام" "2/ 696-698 - ط ابن عفان"، ومضى تخريجها "4/ 221-223". 4 انظر: "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص112-115، 147" لا بن عبد الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 إِلَيَّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 145] ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَحَلَالٌ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا كَفَرَ كَفَرَتْ رَعِيَّتُهُ كُلُّهُمْ شَاهِدُهُمْ وَغَائِبُهُمْ، وَأَنَّ التَّقِيَّةَ لَا تَجُوزُ فِي قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُرْجَمُ بِإِطْلَاقٍ، وَالْقَاذِفَ لِلرِّجَالِ لَا يُحَدُّ وَإِنَّمَا يُحَدُّ قَاذِفُ النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَأَنَّ الْجَاهِلَ مَعْذُورٌ1 فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِنَ الْعَجَمِ بِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَيَتْرُكُ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ2، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَكُونُ مُطِيعًا بِفِعْلِ الطَّاعَةِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، وَإِنْكَارُهُمْ سُورَةَ يُوسُفَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ3 وَكُلُّهَا مُخَالَفَةٌ لِكُلِّيَّاتٍ شَرْعِيَّةٍ أَصْلِيَّةٍ أَوْ عَمَلِيَّةٍ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْفِرَقِ أَنْ يُشَارَ إِلَى أَوْصَافِهِمْ لِيُحَذَّرَ مِنْهَا، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي تَعْيِينِهِمْ مُرْجًى كَمَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَلَعَلَّ عَدَمَ تَعْيِينِهِمْ هُوَ الْأَوْلَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ لِيَكُونَ سِتْرًا عَلَى الْأُمَّةِ، كَمَا سُتِرَتْ عَلَيْهِمْ قَبَائِحُهُمْ، فَلَمْ يُفْضَحُوا فِي الدُّنْيَا بِهَا فِي الْحُكْمِ الْغَالِبِ الْعَامِّ، وَأُمِرْنَا بِالسَّتْرِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ مَا لَمْ يَبْدُ لَنَا صَفْحَةُ الْخِلَافِ، لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أذنب   1 يناقض قولهم سابقًا: إن الْفَاعِلَ لِلْفِعْلِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَلَالٌ أو حرام فليس بمؤمن، فلا يعذر بالجهل حتى ولا في الحكم بخروجه عن الإسلام، ولا يخفى أن ما سبق لهم في الفروع. "د". قلت: العذر بالجهل في الفروع هو مذهب النجدات منهم، قاله البغدادي في "أصول الدين" "ص332". 2 هذا زعم اليزيدية، وإنكار سورة يوسف مذهب الميمونية منهم، أفاده البغدادي في "أصول الدين" "ص332-333"، وقال: "فهذه الفرقة منهم -أي: اليزيدية- مع الميمونية في أعداد المرتدين". 3 انظر: "أصول الدين" "ص332-333"، و"الملل والنحل" "1/ 114-138"، و"اعتقادات فرق المشركين" "51"، و"الفصل في الملل" "3/ 189"، و"التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" "ص51". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 أَحَدُهُمْ لَيْلًا1 أَصْبَحَ وَعَلَى بَابِهِ مَعْصِيَتُهُ مَكْتُوبَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي شَأْنِ قَرَابِينِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَرَّبُوهَا أَكَلَتِ النَّارُ الْمَقْبُولَ، مِنْهَا وَتَرَكَتْ غَيْرَ الْمَقْبُولِ وَفِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُذْنِبِ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خُصَّتْ بِهَا2 هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ أَنْ تَكُونَ ذُنُوبُهُمْ مَسْتُورَةً عَنْ غَيْرِهِمْ، فَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهَا كَمَا اطَّلَعُوا هُمْ عَلَى ذُنُوبِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَفَ. وَلِلسَّتْرِ حِكْمَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ أُظْهِرَتْ -مَعَ أَنَّ أَصْحَابَهَا مِنَ الْأُمَّةِ-، لَكَانَ فِي ذَلِكَ دَاعٍ إِلَى الْفُرْقَةِ وَالْوَحْشَةِ، وَعَدَمِ الْأُلْفَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 103] ، وَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم} [الْأَنْفَالِ: 1] . "وَقَالَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات} 3" [آلِ عِمْرَانَ: 105] . وَقَالَ: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الرُّومِ: 31-32] . وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إخوانًا" 4.   1 كذا في "الاعتصام" "2/ 724" و"ط" فقط، وفي غيره: "أحدهم ذنبًا". 2 أي: بالستر فيها كما في "الاعتصام" "2/ 724 - ط ابن عفان". "د". قلت: وفيه أيضًا: "وهذا الفصل مبسوط في كتاب "الموافقات" والحمد لله". 3 ما بين المعقوفتين سقط في "د". وهو مثبت في الأصل و"ف" و"م" و"ط"، وكذا في "الاعتصام" "2/ 725 - ط ابن عفان"، وما قبله وبعده فيه بحرفه ونصره. 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر 10/ 481/ رقم 6065، وباب الهجرة، 10/ 492/ رقم 6076"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب تحريم التحاسد والبتاغض والتدابر، 4/ 1983/ رقم 2559" عن أنس رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، وأنها تحلق الدين1.   1 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها: ما أخرجه هناد في "الزهد" "رقم 1310" -ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، 4/ 663/ رقم 2509"-، وأحمد في "المسند" "6/ 444-445"، والبخاري في "الأدب المفرد" "106"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين، 4/ 280/ رقم 4919"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 130" عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصوم والصلاة والصدقة؟ ". قالوا: بلى. قال: "صلاح ذات البين، وإن فساد ذات البين هي الحالقة". قال الترمذي: "هذا حديث صحيح، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين". ثم أخرج برقم "2510"، وأحمد في "المسند" "1/ 165، 167"، والبزار في "المسند" "رقم 2002 - الزوائد"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 32/ رقم 669" عن الزبير مرفوعًا: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام". لفظ أبي يعلى. وإسناده ضعيف، ولكنه حسن بشواهد، ولآخره: "والذي نفسي بيده ... " شاهد عن أبي هريرة، أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 54"، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 260"، وزاد في آخره: "وإياكم والبغضة، فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"، ولفظ الترمذي "رقم 2508" عنه مرفوعًا: "إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة". وانظر: "غاية المرام" "414"، و"الإرواء" "2/ 239"، و"صحيح الأدب المفرد" "رقم 197". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَكْفِي فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي كِتَابِ "الْبِرِّ وَالصِّلَةِ"، وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 159] ، أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -وَهَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَةُ! إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، مَنْ هُمْ؟ ". قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَا عَائِشَةُ! إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً؛ مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَهُمْ مِنِّيَ برءاء"1.   1 أخرجه الطبراني في "الصغير" "1/ 203"، وأبو الشيخ -ومن طريقه الواحدي في "الوسيط" "2/ 342"-، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 204"-؛ وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 4"، وابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 77/ رقم 2724"، الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" "ص209"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 449-450/ رقم 7239 و7240"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 137-138"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 144/ رقم 209" من طريق بقية ثنا شعبة أو غيره من مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر رفعه. قال الطبراني: "لم يروه عن شعبة إلا بقية، تفرد به ابن مصفى"، وقال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث شعبة، تفرد به بقية". قلت: إسناده ضعيف، فيه مجالد، ليس بالقوي، والحديث لم ينفرد به ابن المصفى كما قال الطبراني، وإنما تابعه جحدر بن الحارث كما قال الدارقطني في "العلل" "2/ 163"، وخالفهما وهب بن حفص الحراني -وكان ضعيفًا-، فرواه عن عبد الملك الجدي عن شعبة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر، أخرجه ابن عدي في "الكامل" "7/ 5232" -وسقط متن الحديث من هذه الطبعة-، وقال: "رواه بقية عن شعبة عن مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر"، قال: "وجميعًا غير محفوظين". وقال الدارقطني في "العلل" "2/ 164": "ولا يثبت عن شعبة ولا عن مجالد، والله أعلم"، ونقله ابن الجوزي وزاد: "أما بقية فكان يدلس، والظاهر أنه سمع من ضعيف فأسقط ذكره، فلا يوثق بما يروي"، وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 204": "وهو غريب أيضًا، ولا يصح رفعه"، وقال = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فَإِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِهِمْ عَلَى التَّعْيِينِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْفُرْقَةَ وَتَرْكَ الْمُوَالَفَةِ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِدْعَةُ فَاحِشَةً جِدًّا كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِ إِبْدَائِهَا وَتَعْيِينِ أَهْلِهَا، كَمَا عَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ وَذَكَرَهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ، حَتَّى يُعْرَفُونَ وَيُحْذَرَ مِنْهُمْ. وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الشَّنَاعَةِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَالسُّكُوتُ عَنْ تعيينه أولى1".   = الهيثمي في "المجمع" "1/ 188": "وفيه بقية ومجالد عن سعيد، وكلاهما ضعيف"، وهذا هو الصواب، فبقية مدلس، ولكنه قال "7/ 22": "وإسناده جيد"، وعاد في "10/ 189"، فقال: "وفيه بقية، وهو ضعيف"، وعزاه في المواطن كلها للطبراني في "الصغير"، وانظر: "مجمع البحرين" "1/ رقم 275 و6/ رقم 3320 ورقم 4712"، والحديث كما رأيت حديث عمر وليس حديث عائشة كما قال المصنف رحمه الله تعالى. أما حديث أبي هريرة، فأخرجه ابن جرير في "التفسير" "8/ 105" من طريق بقية عن عباد ابن كثير عن ليث، والطبراني في "الأوسط" "1/ 384/ رقم 668" من طريق معلل عن موسى بن أعين عن سفيان الثوري عن ابن طاووس، كلاهما عن طاووس عن أبي هريرة به، ولفظه: "هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة"، وزاد عباد بن كثير: "وأهل الشبهات"، قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا موسى، تفرد به معلل". قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 23": "ورجاله رجال الصحيح، غير معلل بن نفيل، وهو ثقة"، وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 203-204" عقب إسناد الطبراني: "هذا إسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهم في رفعه، فإن سفيان الثوري عن ليث -وهو ابن أبي سليم- عن طاووس عن أبي هريرة في الآية، أنه قال: "نزلت في هذه الأمة"، وعزى الآلوسي في "روح المعاني" "8/ 68" حديث أبي هريرة أيضًا للحكيم الترمذي والشيرازي في "الألقاب" وابن مردويه". 1 قال في "الاعتصام" "2/ 726، 730": "إن التعيين يكون في موطنين: الأول ما أشار إليه هنا، والثاني: حيث تكون تلك الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام، "ومن لا علم عنده"، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، "وهم من شياطين الإنس"، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة". ولا يخفى عليك أن بدعة طائفة من أهل الأهواء في زماننا هذا كبعض محرري الصحف الأسبوعية قد جمعت الخستين: بدعة غاية في الشناعة والكفر، ثم الدعوة إليها بنشرها في الصحف وتزيينها بكل أنواع البهتان والزخرف، فلا حول ولا قوة إلا بالله. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 وخروج أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو1 بْنِ أَبِي قُرَّةَ، قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ، فَكَانَ يَذْكُرُ أَشْيَاءَ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْغَضَبِ، فَيَنْطَلِقُ نَاسٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ حُذَيْفَةَ، فَيَأْتُونَ سَلْمَانَ فَيَذْكُرُونَ لَهُ قَوْلَ حُذَيْفَةَ، فَيَقُولُ سَلْمَانُ: حُذَيْفَةُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ. فَيَرْجِعُونَ إِلَى حُذَيْفَةَ، فَيَقُولُونَ لَهُ: قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَكَ لِسَلْمَانَ، فَمَا صَدَّقَكَ وَلَا كَذَّبَكَ. فَأَتَى حُذَيْفَةُ سَلْمَانَ وَهُوَ فِي مَبْقَلَةٍ2، فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ! مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَنِي بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْضَبُ فَيَقُولُ [فِي الْغَضَبِ] 3 لِنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيَرْضَى فَيَقُولُ فِي الرِّضَى لِنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَمَا تَنْتَهِي حَتَّى تُورِثَ رِجَالًا حُبَّ رِجَالٍ، وَرِجَالًا بُغْضَ رِجَالٍ، وَحَتَّى تُوقِعَ اخْتِلَافًا وَفُرْقَةً؟ وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ، فَقَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبْتُهُ سُبَّةً أو لعنته [لعنة] 4 في غضبي، فإنما أن مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَغْضَبُ5 كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بعثني رحمة للعاملين، فَأَجْعَلُهَا عَلَيْهِمْ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ"6، فَوَاللَّهِ لِتَنْتَهِيَنَّ أو لأكتبن إلى عمر.   1 في جميع النسخ المطبوعة: "عمر"، بضم العين، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وكذا في "الاعتصام" "2/ 225 - ط رضا، و2/ 725 - ط ابن عفان" وفيهما: "ابن أبي مرة"، بالميم بدل القاف، وهو خطأ ثان، فليصحح. 2 أي: موضع البقل، وهو من النبات ما ليس بشجر. "ف" و"م". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 4 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 5 في "ط": "وأغضب". 6 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، 4/ 214-215/ رقم 4658"، وأحمد في "المسند" "5/ 437" عن عمرو بن أبي قرة، وإسناده صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أذيته فاجعله له زكاة ورحمة"، 11/ 171"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه، وليس هو أهلًا لذلك، كان له زكاةً وأجرًا ورحمة، 4/ 2008/ 2601" "91". وأخرجه مسلم من حديث عائشة وجابر وأم سلمة رضي الله عنهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 فَهَذَا مِنْ سَلْمَانَ حُسْنٌ مِنَ النَّظَرِ، فَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْبِدَعُ مَأْمُورٌ بِاجْتِنَابِهَا وَاجْتِنَابِ أَهْلِهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّشْرِيدِ1 بِهِمْ وَتَقْبِيحِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرُ ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ غَيْرَ جَائِزٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ فِي الْجُمْلَةِ2 عَلَيْهِمْ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ كَالْخَوَارِجِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى تِلْكَ الْعُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَشَارَ إِلَى خَوَاصَّ عَامَّةٍ فِيهِمْ وَخَاصَّةٍ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْيِينِ غالبًا تصريحًا يقطع الْعُذْرِ3، وَلَا ذَكَرَ فِيهِمْ عَلَامَةً قَاطِعَةً لَا تَلْتَبِسُ4، فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مَعْشَرَ الْأُمَّةِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ5 مِنْ ذَلِكَ فَبِحَسَبِ فُحْشِ تِلْكَ الْبِدَعِ، وَأَنَّهَا لَاحِقَةٌ فِي جَوَازِ ذِكْرِهَا بِالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ، مَعَ أَنَّ التَّعْيِينَ إِذَا كَانَ بِحَسَبِ الاجتهاد، فهو   1 في "د": "والتشديد" بدالين!! 2 أي: تنبهًا إجماليًا لا تفصيليًا. "د". 3 حتى لا يسد عليهم باب التوبة بسبب العناد واليأس من رحمة الله. "د". وفي "د": "لقطع العذر". 4 أي: في غالبهم كما نبه عليه، أما مثل الخوارج، فقد تقدم له ذكر العلامة القاطعة "د". 5 من عد أهل البدع وتعيينهم بأسمائهم وإيصال هذه الفرق إلى اثنتين وسبعين فرقة، وقوله: "إذا كان بحسب الاجتهاد"، أي: كما هو الشأن في تعيين المتقدمين لهذه الفرق، أي فليس هذا التعيين جاريًا مجرى الحكم الفصل، وقد عقد في "الاعتصام" "2/ 718-720 - ط ابن عفان" مسألة خاصة لتعيين هذه الفرق الاثنتين والسبعين. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بَعْضِهِ، فَمَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ اجْتَهَدَ وَالْأَصْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ السِّتْرِ، حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرٌ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ، وَيَبْقَى النَّظَرُ: هل هذ الظَّاهِرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ1 تَحْتَ الْحَدِيثِ، أَمْ لَا؟ فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْبِدَعَ الْمُحْدَثَةَ تَخْتَلِفُ، فَلَيْسَتْ كُلُّهَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الضَّلَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِدْعَةَ الْخَوَارِجِ مُبَايِنَةً غَايَةَ الْمُبَايَنَةِ لِبِدْعَةِ التَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا مَالِكٌ: "التَّثْوِيبُ2 ضَلَالٌ"؟ وَقَدْ قَسَّمَ الْمُتَقَدِّمُونَ3 الْبِدَعَ إِلَى مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، لَكَانَتْ قِسْمًا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ كذلك، فالبدع التي   1 أي: فيكون صاحبه في النار، وهل دوامًا أم كبقية عصاة المؤمنين؟ ويرجع ذلك إلى درجة البدعة وكونها مكفرة أو لا، وكونها صغيرة أو كبيرة. "د". 2 قال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 556": "وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس، قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الفلاح! وهذا نظير قولهم عندنا: الصلاة رحمكم الله، وقيل: إنما عني بذلك قول المؤذن في أذانه: حي على خير العمل؛ لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة" اهـ. يعني: وأما جملة "الصلاة خير من النوم" في أذان الصبح، فهي مطلوبة داخلة في جمل الأذان المشروعة. "د". وكتب "ف" -وتبعه "م"- في تفسير "التثويب" ما نصه: "أي: ترجيع المؤذن بالصلاة، وفي حديث بلال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أثوب في شيء من الصلاة إلا صلاة الفجر، وهو قوله: "الصلاة خير من النوم" مرتين من ثاب يثوب إذا رجع". قلت: انظر بدع الأذان عن المصنف: "فتاوى الشاطبي" "ص217"، و"الاعتصام" "2/ 102-103/ ط رضا". 3 قال المصنف في "الاعتصام" "1/ 241": "وبسط ذلك القرافي "في الفروق" "4/ 202-205"، وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين عبد السلام "في قواعد الأحكام" "2/ 172-174"، و"الفتاوى" "116"، وها أنا آتي به على نصه ... وساقه". انظر: "القواعد" للمقري" "2/ 438، القاعدة الرابعة والتسعون بعد المئة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 تَفْتَرِقُ بِهَا الْأُمَّةُ مُخْتَلِفَةُ الرُّتَبِ فِي الْقُبْحِ، وبسب ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَمَا فِي الْحَدِيثِ مَحْصُورٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ يَكُونُ بَعْضُهَا جُزْءًا مِنْ بِدْعَةٍ فَوْقَهَا أَعَظُمَ مِنْهَا، أَوْ لَا تَكُونُ دَاخِلَةً مِنْ حَيْثُ هِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْمَكْرُوهِ1، فَصَارَ الْقَطْعُ عَلَى خُصُوصِيَّاتِهَا فِيهِ نَظَرٌ وَاشْتِبَاهٌ، فَلَا يُقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ، وَهَذَا كَالْمَعْدُومِ فِيهَا، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ صَارَ الْأَوْلَى تَرْكَ التَّعْيِينِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ2: فَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ خِلَافَ هَذَا، وَإِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّشْرِيدُ3 بِهِمْ وَالزَّجْرُ لَهُمْ، وَالْقَتْلُ وَمُنَاصَبَةُ الْقِتَالِ إِنِ امْتَنَعُوا، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الدِّينِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِيهِمْ [كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ مَنْ تَظَاهَرَ بِمَعْصِيَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ أَوْ دَعَا إِلَيْهَا أَنْ يُؤَدَّبَ أَوْ يُزْجَرَ أَوْ يُقْتَلَ إِنِ امْتَنَعَ] مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، كَمَا يُقْتَلُ تَارِكُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ مِنْ حَيْثُ هِيَ بِدَعٌ يَشْمَلُهَا الْحَدِيثُ، فَتَوَجُّهُ4 الْأَحْكَامِ شَيْءٌ وَالتَّعْيِينُ لِلدُّخُولِ تَحْتَ الْحَدِيثِ شَيْءٌ آخَرُ5. فَصْلٌ: وَلِهَؤُلَاءِ الْفِرَقِ خَوَاصُّ وَعَلَامَاتُ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَامَاتٌ أَيْضًا فِي التفصيل6.   1 أي: فلا تدخل في الحديث الذي يجعل صاحب البدعة في النار. "د". 2 ترق في السؤال ووصول به فوق التعيين إلى القتل ومناصبة القتال، وجوابه فيما سبق يمنع التعيين، وكذلك هنا حيث يقول: إن دخولهم تحت الأحكام شيء ودعوى دخولهم تحت الحديث شيء آخر. "د". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "التشديد". 4 في الأصل و"ط": "فتوجيه". 5 أي: فهما مقامان لا يشكل أحدهما على الآخر. "د"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط". 6 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 114-116". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 فَأَمَّا عَلَامَاتُ الْجُمْلَةِ فَثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا: الْفُرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 159] . وَقَوْلُهُ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 105] . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ1: "صَارُوا فِرَقًا لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَبِمُفَارَقَةِ الدِّينِ تَشَتَّتْ أَهْوَاؤُهُمْ فَافْتَرَقُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الْأَنْعَامِ: 159] ، ثُمَّ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 159] ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ [وَأَصْحَابُ الضَّلَالَاتِ] وَالْكَلَامِ فِيمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ وَلَا رَسُولُهُ". قَالَ: "وَوَجَدْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ، وَلَمْ يَفْتَرِقُوا وَلَمْ يَصِيرُوا2 شِيَعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الدِّينَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فما أُذِنَ لَهُمْ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ نَصًّا، وَاخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ، فَصَارُوا مَحْمُودِينَ؛ لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا أُمِرُوا بِهِ، كَاخْتِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ [وَعَلِيٍّ] وَزَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأُمِّ3، وقول عمر   1 في "الاعتصام" "2/ 733 - ط ابن عفان": "قال بعض العلماء ... " وساقه بنصه، وما بين المعقوفتين منه، وسقط من الأصل و"ط" في الأصل و"ط" وجميع النسخ المطبوعة. وانظر في تفسير الآية: "الكشاف" "2/ 50"، و"تفسير القرطبي، "7/ 149-150"، و"نظم الدرر" "7/ 344-335"، و"روح المعاني" "8/ 68". 2 في "الاعتصام": "ولم يتفرقوا، ولا صاروا .... ". 3 وكذا في "الاعتصام" "2/ 734 - ط ابن عفان"، وفي هامش الأصل: "لعله "مع الإخوة""، وكذا أثبته "د"، وفصل "ف"، فقال: "لعله في الأخوة مع الجد إذ لا نعلم خلافًا بين = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 ...............................................   = العلماء في إرث الجد مع الأم، وقد أجمعوا على أن الجد عاصب مع ذوي الفرائض يأخذ ما أبقته الفروض، فإذا انفرد مع الأم يرث الباقي بعد فرض الثلث لها، ولا يحجبه إلا الأب، واختلفوا في حجبه الأخوة أشقاء أو لأب، فذهب ابن عباس وأبو بكر رضي الله تعالى عنهما وجماعة من الفقهاء إلى أنه يحجبهم كالأب، وذهب آخرون ومنهم زيد وعلي وعمر رضي الله عنهم إلى إرثهم معه". قلت: يتأكد هذا التصويب بأمور: أولًا: هذا هو المثبت في كتب الأصول، انظر على سبيل المثال: "مختصر المنتهى" "ص199". ثانيًا: وهذا هو المثبت في كتب التخريج، انظر على سبيل المثال: "تحفة الطالب" "ص437"، و"موافقة الخبر الخبر" "1/ 158-160". ثالثًا: وهذا هو المثب أيضًا في كتب الحديث والرواية، وإليك ما يدل عليه: أخرج البيهقي في "الكبرى" "6/ 248" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية في شأن الجد، قال: "وجرى بيني وبين عمر كلام في الجد مع الأخوة، وكنت أرى يومئذ أن الأخوة أقرب حقًا إلى أخيهم من الجد، وكان هو يرى أن الجد أقرب". وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 160"، وأخرج الدارمي "رقم 2910، 2911" مذهب أبي بكر، وقال ابن حجر عنه: "هذا موقوف صحيح، وثبت عن أبي بكر من طريق أخرى من رواية ابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وبعضها في البخاري". قلت: قال البخاري في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة 8/ 18 - مع الفتح": "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: الجد أب، وقرأ ابن عباس: {يَا بَنِي آدَم} و {اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، وقال ابن عباس: يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني". قال: "ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة". قلت: انظرها مع الكلام عليها في "تغليق التعليق" "5/ 214-222"، وخلاصة ما في هذا الباب أن المال للجد ثابت عن أبي بكر، وتابعه عمر وعثمان وابن عباس وابن الزبير وغيرهم، ثم رجع بعضهم إلى القول بالمقاسمة، وهو قول الأكثر، وأما القول بحرمان الجد، فجاء عن زيد وعلي وعبد الرحمن بن غنم، ثم رجع علي وزيد إلى المقاسمة. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 وَعَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ1 الْأَوْلَادِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الْفَرِيضَةِ المشتركة2، وخلافهم في   = وانظر في المسألة: "سنن سعيد بن منصور" "1/ 62-72 - ط الأعظمي"، و"المحلي"، "10/ 364-376"، و"إعلام الموقعين" "1/ 212"، و"المبسوط" "29/ 144، 180-181"، و"شرح الرحبية" "44"، و"تحفة الطالب" "ص438-440" لابن كثير، و"أحكام التركات والمواريث" "ص158 وما بعدها"، و"الميراث في الشريعة الإسلامية" "ص175-187"، و"عدة الباحث في أحكام التوارث" "32". 1 أي: في جواز بيعهن كما رأى بعض من كبار الصحابة، أو عدم جوازه كما هو رأي الجمهور. "د". وكتب "ف" ما نصه: "هل يجوز بيعهن أولًا؟ فإن العلماء اختلفوا في أم الولد، فالثابت عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بأنها لا تباع"، وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات، وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار، والثابت عن أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الزبير أنهم يجيزون بيعها، وبه قال الظاهرية". قلت: أخرج اختلاف عمر وعلي في ذلك: عبد الرزاق في "المصنف" "7/ 291-292/ رقم 13224" بإسناد صحيح، ومضى تخريج ذلك. 2 أي: التي ورد فيها: "هب أبانا كان حجرًا في اليم". "د". وكتب "ف" ما نصه: "وهي امرأة توفيت عن زوج وأم وأخوة لأم وأخوة أشقاء، فكان عمر وعثمان وزيد بن ثابت رضى الله عنهم يعطون للزوج النصف وللأم السدس وللإخوة لأم الثلث فلا يبقى للإخوة الأشقاء شيء، فكانوا يشركونهم مع الإخوة للأم في الثلث: يقسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال مالك والشافعي وجماعة من الفقهاء، وكان علي رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري لا يشركون الأشقاء مع الأخوة للأم في هذه الفريضة ولا يوجبون لهم شيئًا فيها، وبه قال أبو حنيفة وأبو ليلى وأحمد رضي الله عنهم". قلت: أخرج سعيد بن منصور في "السنن" "رقم 20، 21 - ط الأعظمي"، وسفيان الثوري في "الفرائض" "رقم 22"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 255" -وهذا لفظه-، وعبد الرزاق في "المصنف" "10/ 251"، والدارمي في "السنن" "2/ 251"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 256" بإسناد صحيح من طرق عن إبراهيم، قال: إن عمر وزيدًا وابن مسعود كانوا يشركون في زوج وأم وإخوة لأم وأب وأخوات لأم، يشركون بين الإخوة من الأب والأم مع الأخوة للأم في سهم، وكانوا يقولون: لم يزدهم الأب إلا قربًا، ويجعلون ذكورهم وإناثهم فيه سواء"، وعدم مشاركة علي في "سنن سعيد" "رقم 26" وفيه "برقم 28 و29" مذهب أبي موسى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 الطَّلَاقِ1 قَبْلَ النِّكَاحِ، وَفِي الْبُيُوعِ ... وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا أَهْلَ مودة وتناصح [و] أخوة الْإِسْلَامِ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِمَةٌ، فَلَمَّا حَدَثَتِ [الْأَهْوَاءُ] 2 الْمُرْدِيَةُ3 الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَتِ الْعَدَاوَاتُ، وَتَحَزَّبَ أَهْلُهَا فَصَارُوا شِيَعًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَفْوَاهِ أَوْلِيَائِهِ". قَالَ: "فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، وَلَمْ يُوَرِّثْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً وَلَا بَغْضَاءَ وَلَا فُرْقَةً، عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ طَرَأَتْ فَأَوْجَبَتِ الْعَدَاوَةَ وَالتَّنَافُرَ وَالتَّنَابُزَ4 وَالْقَطِيعَةَ، علمنا أنها ليست   1 أي: تعليق الطلاق على النكاح، كأن يقول: إن تزوجت فلانه فهي طالق، وفيها الأقوال الثلاثة لمالك وأبي حنيفة والشافعي. "د". وكتب "ف" ما نصه: "أي: العقد مثل أن يقول: إن نكحت فلانه فهي طالق، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب: قول أن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلًا عم المطلق أو خص، وهو قول الشافعي وأحمد وجماعة، وقول أنه يتعلق بشرط التزويج عمم المطلق جميع النساء أو خصص، وهو قول أبي حنيفة وجماعة، وقول أنه إن عم جميع النساء لم يلزمه وإن خص لزمه، وهو قول مالك وأصحابه، مثل أن يقول: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ من بلد كذا فهي طالق، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن. 2 ما بين المعقوفتين سقط من "د" و"ماء". 3 في "د": "المرذية"، بالذال المعجمة، وكتب "د": "الذي في "الاعتصام" "2/ 734" بالدال المهملة، وكل له وجه، فإن الأهواء موقعة في الهلاك والردى، كما أنها مرذية جالبة للأرذاء والمضعفات، وفي الأصل: "حظر"، ولكن عليها علامة التوقف والشك". قلت: وفي الأصل و"م" و"ف" و"ط" بالدال. 4 هو التعاير، فكل فرقة تعير غيرها بالمروق، وتسمى غيرها باسم ولقب تكرهه. "د". وفي "ط": "التدابر"، وقال "ف": "لعله": "والتدابر" كما في "الاعتصام"". قلت: في "الاعتصام" "2/ 734": " ... الاختلاف بينهم العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا الَّتِي عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الْأَنْعَامِ: 159] ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي دِينٍ وَعَقْلٍ أَنْ يَجْتَنِبَهَا، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آلِ عِمْرَانَ: 103] ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا وَتَقَاطَعُوا، كَانَ ذَلِكَ لِحَدَثٍ أَحْدَثُوهُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى". هَذَا مَا قَالَهُ1، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو إِلَى الْأُلْفَةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، فَكُلُّ رَأْيٍ أَدَّى إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَخَارِجٌ عَنِ الدِّينِ. وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ2، أَلَا تَرَى كَيْفَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَخْبَرَ بِهِمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ" 3، وَأَيُّ فُرْقَةٍ تُوَازِي هَذَا إِلَّا الْفُرْقَةَ الَّتِي4 بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ! وَهَكَذَا تَجِدُ الأمر في سائر من عرف من   1 في الأصل و"الاعتصام" "2/ 735": "قاله"، وفي جميع النسخ المطبوعة و"ماء": "قالوه". 2 أي: المضمنة في الحديث كما في "الاعتصام" "2/ 735". "د". 3 مضى تخريجه "ص148"، وهو في "الصحيحين". 4 أي: هم وإن كانوا ينطقون، بكلمة التوحيد، ويصلون، ويزعمون أنهم مسلمون، إلا أن خاصيتهم التي ذكرها الحديث تجعل فرقتهم عن المسلمين لا يوازيها إلا فرقة الكفار عن المسلمين، فلا فرق بينهم وبين الكفار في الواقع، فكلمة "إلا" لازمة وإن كانت عبارة "الاعتصام" بدونها، ولكني ما رأيت كتابًا في مثل تحريف طبعة "الاعتصام" "الحالية". "د". قلت: قال "ف": "لعله كما في "الاعتصام": "توازي هذه الفرقة التي ... "، والمذكور آنفًا رد عليه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 الْفِرَقِ أَوْ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فِيهِمْ1. وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَة} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، فَجَعَلَ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْمَيْلِ عَنِ الْحَقِّ مِمَّنْ شَأْنُهُمُ اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ" 2. وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّالِثَةُ3: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتباعًا للهوى. وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه} [الْقَصَصِ: 50] . وَقَوْلُهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} الْآيَةَ [الْجَاثِيَةِ: 23] . إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ، فَلَا يَعْرِفُهَا غَيْرُ صَاحِبِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ يَعْرِفُونَهَا وَيَعْرِفُونَ أَهْلَهَا بِمَعْرِفَتِهِمْ لَهَا، وَالَّتِي قَبْلَهَا تَعُمُّ جَمِيعَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ التَّوَاصُلَ أَوِ التَّقَاطُعَ معروف للناس كلهم، وبمعرفته يعرف أهله.   1 زاد في "الاعتصام" "2/ 735": "إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت؛ لأنها تختلف بالقوة والضعف، وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق في الفروع الجزئية، فإن الفرقة بلا بد أضعف، فيجب النظر في هذا كله". 2 مضى تخريجه "ص143"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره. 3 يراجع الكلام في الخواص الثلاث في "الاعتصام" "2/ 732-742" في المسألة الثامنة من الجزء الثاني ليزيد اتضاحًا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 وَأَمَّا الْعَلَامَاتُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي [كُلِّ] 1 فِرْقَةٍ، فَقَدْ نُبِّهَ عَلَيْهَا وَأُشِيرَ إِلَيْهَا2، كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ... إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 59-60] . وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الْأَنْعَامِ: 116-117] . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النِّسَاءِ: 115] إِلَى آخِرِهَا. وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 37] . وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَه} الْآيَةَ [يس: 47] . وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} [الْحَجِّ: 11] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء} ... إِلَى قَوْلِهِ: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم} [الْمَائِدَةِ: 101-105] . وَقَوْلُهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا} الآية [الأنعام: 140] .   سقطت من "د". 2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 742 - ط ابن عفان" " ... فقد نبه عليها، وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشارًا إليها، ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها، لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي، وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمن، فغلبنا عليه، ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك". قلت: يشير بقوله: "في ماضي الزمن" إلى صنيعه هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 وَقَوْلُهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْن} ... إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الْأَنْعَامِ: 143-144] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" 1. وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قِسْمِ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا نُبِّهَ عَلَيْهَا لِتَنْبِيهِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا وَلَمْ يُصَرَّحْ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ2 لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَمَنْ تهدى3 إليها فذاك، وإلا، فلا عليه أن لا يُعْلِمَهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا4 يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ مِمَّا هُوَ حَقٌّ يُطْلَبُ نَشْرُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَمِمَّا يُفِيدُ عِلْمًا بِالْأَحْكَامِ، بَلْ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مَطْلُوبُ النَّشْرِ، وَهُوَ غَالِبُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُطْلَبُ نَشْرُهُ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ لَا يُطْلَبُ نَشْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ شَخْصٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ يُثِيرُ فِتْنَةً، كَمَا تَبَيَّنَ تَقْرِيرُهُ فَيَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَمْنُوعًا بَثُّهُ. وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْكَلَامُ فِيهَا، فَإِنَّ الله ذم من اتبعها، فإذا   1 مضى تخريجه "1/ 97"، وهو في "الصحيحين". 2 تصريحًا يعين أصحابها تعيينًا تامًا بالأسماء والألقاب. "د". 3 في الأصل: "اهتدوا". 4 في "ط": "ومن هنا يعلم ... ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 ذُكِرَتْ وَعُرِضَتْ لِلْكَلَامِ فِيهَا، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ "1. وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: "يَا مُعَاذُ! تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ... " الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: "لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا "2. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ مُعَاذٍ فِي مِثْلِهِ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا أُخْبِرُ بها فيستبشروا؟ فقال: "إذن يَتَّكِلُوا" 3. قَالَ أَنَسٌ: فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ موته تأثمًا"4.   1 أخرجه الديلمي في "الفردوس" "2/ 129/ رقم 2656" عن الحسين بن علي مرفوعًا، وهو في "ضعيف الجامع" "رقم 2701"، وقال العزيزي في "السراج المنير" "2/ 223": "وهو في البخاري موقوف على علي، وإسناد المرفوع واهٍ، بل قيل: موضوع". قلت: أخرجه موقوفًا على علي رضي الله عنه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، رقم "127"، وانظر في معناه: "فتح الباري" "1/ 225"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 260، 261"، ومضى موقوفًا "1/ 124". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، 10/ 397-398/ رقم 5967"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 58-59/ رقم 30 بعد 49". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من خص العلم قومًا دون قوم ... ، 1/ 226/ رقم 128 و129"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 61/ رقم 32 بعد 53" عن أنس رضي الله عنه. 4 كان معاذ بين عاملين: النهي عن كتمان العلم بإطلاق، والنهي عن تبليغ هذه المسألة من الرسول صلى الله عليه وسلم فلعله فهم عند موته أن النهي لم يكن تحتيمًا أو النهي في حال أو أن العلة غير محققة بل متوهمة، ويدل عليه حديث عمر بعده، فإن قوله فيه: "فخلهم" بعد الإذن لأبي هريرة وتبشيره بالفعل دليل على أن في الأمر فسحة بين الفعل والترك، وأن المصلحة الشرعية لا تتنافى = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، انْظُرُهُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بنعليك: "من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ " قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَخَلِّهِمْ" 1. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: "لَوْ شَهِدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلَانًا. فَقَالَ عُمَرُ: لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الذين يريدون أن يغصبوهم2.   = معهما، على أنه يمكن أن ينازع في إفادة قوله صلى الله عليه وسلم: "فخلهم" للنهي المطلق عن تبليغ هذه المسألة "د". وكتب في "ف" ما نصه: "قوله "تأثمًا"، أي: تاجنبًا للإثم، يقال: تأثم فلان إذا فعل فعلًا يخرج به عن الإثم، ومعنى تأثم معاذ أنه كان يحفظ علمًا يخاف ذهابه بموته، فخشي أن يكون ممن كتم علمًا ولم يبلغ سنة فيأثم، فاحتاط وأخبر بهذه السنة خشية الإثم". وقال "ماء": "أي: تخريجًا من الإثم". 1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 59-61/ رقم 31 بعد 52" عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعزو المصنف الحديث للبخاري خطأ، ولم يعزه إلا لمسلم المزي في "تهذيب الكمال" "10/ 442/ رقم 14843"، والنووي في "رياض الصالحين" "ص306-307"، تحقيق شيخنا الألباني. وكتب "د" في الهامش: "لفظ مسلم: "مستعينًا بها"". قلت: في "صحيح مسلم": "مستيقنًا بها"، وفي النسخ المطبوعة من كتابنا "مستيقنًا به"، فلعل خطأ مطبعيًا وقع في تعليق "د"، ومراده تصويب "به"، والله أعلم. 2 كذا في الأصل و"ف" و"ط": "يريدون يغصبونهم"، وفي "د" و"م": "يريدون يغصبونهم"، وقال: "ف" وتبعه "م": "لعله" "يعصبونهم"، أي: يسودونهم ويملكونهم من التعصيب ويراجع". = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 قُلْتُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ الناس ويغلبون1 على مجلسك، فأخاف أن لا يُنْزِلُوهَا2 عَلَى وَجْهِهَا، فَيَطِيرُوا بِهَا كُلَّ مُطَيِّرٍ وَأَمْهِلْ3 حَتَّى تَقْدُمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَيَحْفَظُوا4 مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ [بِهِ] 5 فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ"6 الْحَدِيثَ. وَمِنْهُ حَدِيثُ سَلْمَانَ مَعَ حُذَيْفَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ7. وَمِنْهُ أن لا يَذْكُرَ لِلْمُبْتَدِئِ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ حَظُّ المنتهي، بل يربي بصغار   = قلت: الصواب ما أثبتناه، وهي رواية البخاري كما سيأتي، قال ابن حجر في "الفتح" "12/ 147": "وكذا في رواية الجميع بغين معجمة وصاد مهملة، وفي رواية مالك: "يغتصبوهم" بزيادة مثناة بعد الغين المعجمة، وحكى ابن التين أنه روي بالعين المهملة وضم أوله من "أعضب"، أي: صار لا ناصر له، والمعضوب: الضعيف، وهو من عضب الشاة: إذا انكسر أحد قرنيها أو قرنها الداخل وهو المشاشي، والمعنى، أنهم يغلبون على الأمر فيضعف لضعفهم، والأول أولى، والمراد أنهم يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة، وقد وقع ذلك بعد علي، على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه. 1 في "صحيح البخاري": "يغلبون" من غير واو. 2 في "د": "ينزلها". 3 في "صحيح البخاري": "فأمهل". 4 في "صحيح البخاري": "فيحفظوا". 5 سقط من جميع النسخ، وأثبتها من "صحيح البخاري". 6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم وما اجتمع، 13/ 303/ رقم 7323"، وهذا لفظه. وأخرجه البخاري بنحوه في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، 7/ 264/ رقم 3928"، وكتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، 12/ 144/ رقم 6830"، وأحمد في "المسند" "1/ 55". 7 انظره وتخريجه: "ص156". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَقَدْ فَرَضَ الْعُلَمَاءُ مَسَائِلَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْفُتْيَا بِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي نَظَرِ الْفِقْهِ، كَمَا ذَكَرَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَسْأَلَةِ1 الدَّوْرِ فِي الطَّلَاقِ، لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ رَفْعِ حُكْمِ الطَّلَاقِ، بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ. مِنْ ذَلِكَ سُؤَالُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلَلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَحُكْمِ التَّشْرِيعَاتِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا عِلَلٌ صَحِيحَةٌ وَحِكَمٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ عَلَى مَنْ قَالَتْ: لِمَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ وقالت لها: أحروية أَنْتِ2؟ وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَبِيغًا وَشَرَّدَ بِهِ لَمَّا كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عمل3، وربما أوقع خيالًا وَفِتْنَةً وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] . فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ، فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا أُمِرْنَا بِهَذَا4. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ يُبَثُّ وَيُنْشَرُ5 وَإِنْ كَانَ حَقًّا وَقَدْ أَخْبَرَ مَالِكٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ عِنْدَهُ أَحَادِيثَ وَعِلْمًا مَا تَكَلَّمَ فِيهَا وَلَا حَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَأُخْبِرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ   1 صورتها أن يقول لزوجته: إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثًا. نص الشافعية على الخلاف فيها على ثلاثة أقوال: 1 لا يقع شيء للدور وهو منسوب لابن سريج عندهم، وتنبه كتبهم على ضعفه. 2 يقع الثلاث. 3 يقع المعلق عليه وهو المفتي به. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب لا تفضي الحائض الصلاة، 1/ 421/ رقم 321"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، 1/ 265/ رقم 335"، وسمى مسلم السائلة معاذة، وانظر: "تنبيه المعلم" "رقم 200 - بتحقيقي"، و"المستفادة" "16"، و"فتح الباري" "1/ 422". 3 مضى لفظه وتخريجه "1/ 51". 4 مضى لفظه وتخريجه "1/ 49". 5 في "ط": "ولا ينشر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 ذَلِكَ1، فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَضَابِطُهُ أَنَّكَ تَعْرِضُ مَسْأَلَتَكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ صَحَّتْ فِي مِيزَانِهَا، فَانْظُرْ فِي مَآلِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذِكْرُهَا إِلَى مَفْسَدَةٍ، فَاعْرِضْهَا فِي ذِهْنِكَ عَلَى الْعُقُولِ، فَإِنْ قَبِلَتْهَا، فَلَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيهَا إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِمَّا عَلَى الْخُصُوصِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَائِقَةٍ بِالْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِكَ هَذَا الْمَسَاغُ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا هُوَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. فَصْلٌ: هَذِهِ الْفِرَقُ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، فَلَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي"1، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتْ بِبِدْعَتِهَا تَخْرُجُ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يُضِفْهَا إِلَيْهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَوَارِجِ: "فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَذَا"2، فَأَتَى بـ"في"3 المقتضية   1 انظر ما مضى عند المصنف "2/ 142-143". 2 مضى ذلك في أحاديث عديدة، منها المتقدم "ص145 وما بعدها". 3 انظر الهامش الآتي، وفي "ط": "يخرج في ... ". 4 مجرد ذكر "في" أو "من" كما في بعض الأحاديث لا يقتضي بقاءهم في أمة الإجابة، ألا ترى ما ورد في حديث مسلم: "سيكون في أمتي ثلاثون كذابًا، كلهم يدعى أنه نبي وأنه خاتم النبيين" *، فهذه الظرفية في الحديث وما ماثلها فيما هو صريح في الكفر لا يصح أن يستدل بها. =   * أخرجه بنحوه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام 7/ 616/ رقم 3606، وكتاب الفتن، باب منه 13/ 81/ رقم 1721، ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش 3/ 1454/ رقم 1822، وكتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة 4/ 2240/ رقم 157. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 أَنَّهَا فِيهَا وَفِي جُمْلَتِهَا. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "وَتَتَمَارَى فِي الْفَوْقِ" 1، وَلَوْ كَانُوا خَارِجِينَ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَقَعْ تَمَارٍ2 فِي كُفْرِهِمْ، وَلَقَالَ: إنهم كفروا بعد إسلامهم.   = وأيضًا، فإن أبا سعيد الخدري في روايته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها-: قوم تحقرون صلاتكم .... " إلخ "أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 6931" وغيره"، قال ابن حجر "في "فتح الباري" "12/ 289": "لم تختلف الطرق "الصحيحة" على أبي سعيد في ذلك ... قال النووي: وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج، وأنهم من غير هذه الأمة"، ولكن المؤلف رآه دليلًا لكونهم منها، والفرق جسيم، إلا أن يقال: "أمة الدعوة لا أمة الإجابة، ولكن هذا بعيد عن غرضه، ولا تترتب عليه فائدة. "د". 1 أي: حديث البخاري "في "صحيحه" "كتاب استتابة المرتدين، باب منه، 12/ 283/ رقم 6931": "فيتمارى في الفوقة"، قال ابن حجر "في "الفتح" "12/ 1290": "الفوقة: "موضع الوتر من السهم، قال ابن الأنباري": تذكر وتؤنث، أي: يتشكك هل بقي فيها من الدم شيء؟ "، "وقال 12/ 300-301": "قال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أنهم غير خارجين عن جملة المسلمين، لقوله: "يتمارى في الفوق"؛ لأن التماري في الشك، وإذا وقع الشك -يعني: في التمثيل- لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج عنه إلا بيقين ... ورد هذا برواية "سبق الفرث والدم"، والجمع بينهما أنه شك أولًا، ثم تحقق أنه لم يعلق بالسهم شيء. "د". وكتب "ف" ما نصه: "صحته في الفوق بالضم، وهو موضوع الوتر من السهم والتماري في الفوق هو شك الرامي، هل فيه شيء من أثر الصيد، يعني نفذ السهم المرمي بحيث لم يتعلق به شيء ولم يظهر أثره فيه؟ فكذلك قراءتهم للقرآن لا يحصل لهم منها فائدة". قلت: وجاء عنده وفي الأصل و"م" و"ماء": "الفرق بالراء، وهو خطأ. 2 أي: التماري في الكفر الممثل له في الحديث بالتماري في الفوق: هل علق به أثر من الفرث والدم؟ "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ أهل البدع، كالخوارج1، والقدرية2 وغيرهما.   1 قال الخطابي*: "أجمع المسلمون على عد الخوارج -مع ضلالتهم- فرقة إسلامية أجازوا شهادتها وأكل ذبيحتها ومناكحتها" اهـ، لكن المؤلف نقل عنهم في هذه المسألة ما لا شك في كفرهم به، من إنكار سورة يوسف، وبعث نبي بعد محمد، وغير ذلك، فالذي ينبغي التعويل عليه في هذا الرجوع إلى مقالات هذه الفرق السبع من الخوارج التي ذكرت في "الاعتصام" "2/ 719 - ط ابن عفان"، وتعليقاته، فمن وصل منهم إلى إنكار مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، كمن يقول ببعث نبي أو ينكر سورة يوسف، وغير ذلك من الشناعات المنقولة عنهم، فهؤلاء كفار يقينًا**، ومن كان منهم باغيًا قاتل عليًّا وأنكر عليه التحكيم، وقاتل عمر بن عبد العزيز، وعمل من المعاصي والكبائر ما لم يصل إلى خروجه عن عقائد الدين الضرورية، فهذا لا نكفره، ونأكل ذبيحته، أما نقل الخطابي الإجماع، فلا يصح أن يحمل على الإطلاق، وإلا لم يكن هناك محل لباب الردة كله ولا إلى تشريع أحكام الكفار، ثم رأيت في "فتح الباري على البخاري" "12/ 283-302" في باب قتل الخوارج تلخيصًا حسنًا جدًّا في شأنهم، ورأيت فيه ما يوافق ما رأيناه من عدم إطلاق الكفر أو عدم الكفر عليهم، فإنهم طوائف: غلاة، وغيرهم. "د". 2 هم الذين يقولون: الخير من الله والشر من الإنسان، وأن الله لا يريد أفعال العصاة، سماهم الرسول صلوات الله عليه: "مجوس هذه الأمة"، ونهى عن عيادة مرضاهم وشهود جنازتهم"***. "د".   * النقل بتصرف من "الفتح" "12/ 300". ** وهذا ما صرح به البغدادي في "أصول الدين" "ص332-333". *** ورد ذلك في حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود "رقم 4691"، والآجري في "الشريعة" "190"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1068"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 338"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 314"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 85"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص236"، وابن الجوزي في "الواهيات" "225"، وإسناده منقطع، لم يسمع أبو حازم من ابن عمر، وبهذا أعله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "7/ 58"، والعلائي -كما في "اللآلئ المصنوعة" "1/ 258"-، والذهبي في "الكبائر" ص128 - بتحقيقي"، وله طرق أخرى حسنه من أجلها ابن حجر في "أجوبته على مشكاة المصابيح" "3/ 1779، 1790"، وأنكره الإمام أحمد في "مسائل أبي داود" له "ص299". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى خُرُوجِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذن مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ، بَلِ الْفِرَقُ مَنْ1 لَمْ تؤدهم بدعتهم إلى   1 من أين هذا وقد وقال: "كلهم في النار"؟ والحديث يحتمل التأبيد والتوقيت، ولم يقطع المؤلف بأحدهما في "الاعتصام" في المسألة الثامنة من الجزء الثاني. "د". قلت: أخطأ الشارح في الإحالة، فالذي يصدق على كلامه هنا ما ذكره في "الاعتصام" "2/ 752-753 - ط ابن عفان، في المسألة الثانية عشر لا في المسألة الثامنة، 2/ 732 - ط ابن عفان"، وهي: "في خواص وعلامات أهل البدع". والمتمعن في كلام المصنف يجزم بأنه لا يرى تكفير هذه الفرق على الجملة، وقد صرح بذلك في "المسألة السادسة، 2/ 714 - ط ابن عفان"، وكذا في "2/ 694"، وأيده وأكده بأنه عمل السلف قال: "وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه علم السلف الصالح فيهم"، ثم ذكر صنع علي في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، وكذا هجر السلف لمعبد القدري، ولم يقيموا عليه حد الردة، وصنيع عمر بن عبد العزيز مع الحرورية". ثم قال "2/ 695 - ط ابن عفان": "ومن جهة المعنى: إنا وإن قلنا: إنهم متبعون للهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارًا؛ إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادًا، وهو كفر، وأما من صدق بالشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغًا يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال فيه: إنه صاحب هوى إطلاق، بل هو متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحتله، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة. وأيضًا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة في مطلب واحد، وهو = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَبْقَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْصَافِ الْإِسْلَامِ مَا دَخَلُوا بِهِ فِي أَهْلِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ1 لَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ؛ إِذْ لِلْقَتْلِ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْكُفْرِ، كَقَتْلِ الْمُحَارِبِ وَالْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فالحق أن لا يُحْكَمَ بِكُفْرِ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ، وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّعْيِينَ فِي دُخُولِهِمْ تَحْتَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ صَعْبٌ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ لَا قَطْعَ فِيهِ، إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ للعذر وما أعز وجود مثله.   = الانتساب إلى الشريعة، ومن أشد مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَثَلًا مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائمًا حول حمى التنزيه ونفي النقائض وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، وذلك لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع. وأيضًا، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع، كما تقدم في أن المتبدع ليس له توبه". وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية نحو هذا في "منهاج السنة النبوية" "3/ 19-70"، وفي "الرد على البكري" "ص256-260"، و"مجموعة الرسائل والمسائل" "5/ 199-204"، فانظر كلامه فإنه من النفائس، وقلما تعثر على مثله -بالاستطراط والتأصيل والتقعيد- في غيره. وهذا -أعني: عدم التكفير- ما نحى إليه جماهير العلماء والباحثين، كما تراه في "الاقتصاد في الاعتقاد" "الباب الرابع: بيان من يجب تكفيره من الفرق" للغزالي، و"شرح مشكاة المصابيح" "1/ 147-148" للشيخ علي القاري، و"حديث افتراق الأمة" للصنعاني، وهو مطبوع عن دار العاصمة -الرياض، بتحقيق الشيخ سعد بن عبد الله السعدان. 1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب استتابه المرتدين، باب قتل الخوارج، 12/ 283/ رقم 6930" عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان ... "، وفيه: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: النَّظَرُ فِي مَآلَاتِ1 الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا كَانَتِ الْأَفْعَالُ مُوَافِقَةً أَوْ مُخَالِفَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَحْكُمُ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِقْدَامِ أَوْ بِالْإِحْجَامِ إِلَّا بَعْدَ نَظَرِهِ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ2، مَشْرُوعًا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ تُسْتَجْلَبُ، أَوْ لِمَفْسَدَةٍ تُدْرَأُ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ مَا قُصِدَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لِمَفْسَدَةٍ تَنْشَأُ عَنْهُ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الْأَوَّلِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ، فَرُبَّمَا أَدَّى اسْتِجْلَابُ الْمَصْلَحَةِ3 فِيهِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ تُسَاوِي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون   1 هذه المسألة لها ارتباط تام بالمسألة الرابعة في الأسباب، حيث يقول: "وَضْعُ الْأَسْبَابِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْوَاضِعِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ"، أي: فالشارع إنما شرع الأسباب لأجل المسببات، أي: لتحصل المصلحة المسببة أو تدرأ المفسدة المسببة، وقوله: "موافقه أو مخالفة"، أي: مأذونًا فيها أو منهيًا عنها، وهذا غير ما سبق في المسألة الثالثة في الأسباب، حيث يقول: "يلزم من تَعَاطِي الْأَسْبَابِ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ الِالْتِفَاتُ إِلَى المسببات والقصد إليها، بل المقصود الجريان تحت الأحكام الموضوعة"، فلكل منها مقام، وهو ما يشير إليه هنا بقوله بعد: "ومر الجميع بين المطلبين"، إلا أنه زاد هنا تعارض المصلحة والمفسدة في العمل الواحد، ورتب عليه قوله: "وهو مجال للمجتهد"، وقال بعد: "وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة، وأما في المسألة على الخصوص، فكثير"، ويؤخذ منه أن هذا الخصوص هو مقصود المسألة، فاستدل على الإجمال واعتبار المآل في ذاته، ثم انتقل لفرضه من اعتبار الراجح عند التعارض بالأدلة الآتية. "د". وقال "ماء": "مآل: مرجع". 2 هنا سقط لا يستقيم الكلام بدونه يعلم من مقابله الآتي بعده، وأصله: "فقد يكون". "د". قلت: سبقه إلى ذلك "ف"، فكتب: "لعله: "فقد يكون مشروعًا لمصلحة ... ". 3 أي: أو درء المفسدة به، ومثله يقال فيما بعده، حسبما يناسب كلًّا منهما لتكميل المقام. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 هَذَا مَانِعًا مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ1 وَكَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الثَّانِي بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةٍ رُبَّمَا أَدَّى اسْتِدْفَاعُ الْمَفْسَدَةِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُسَاوِي أَوْ تَزِيدُ، فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَهُوَ مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِ صَعْبُ الْمَوْرِدِ، إِلَّا أَنَّهُ عَذْبُ الْمَذَاقِ مَحْمُودُ الْغَبِّ2، جَارٍ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا3: أَنَّ التَّكَالِيفَ -كَمَا تَقَدَّمَ- مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ وَإِمَّا أُخْرَوِيَّةٌ، أَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ، فَرَاجِعَةٌ إِلَى مَآلِ الْمُكَلَّفِ فِي الْآخِرَةِ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ -إِذَا تَأَمَّلْتَهَا- مُقَدِّمَاتٌ لِنَتَائِجِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتٍ هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ وَالْمُسَبَّبَاتُ هِيَ مَآلَاتُ الْأَسْبَابِ، فَاعْتِبَارُهَا فِي جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ مَعْنَى النَّظَرِ فِي الْمَآلَاتِ. لَا يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَا يَلْزَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعتبار المسببات   1 هذا الأصل من أبين الأدلة على استجابة الشريعة لما يقتضيه تطور الحياة بالناس، بما يلابس أوجه نشاطهم الحيوي فيها من ظروف، الأمر الذي يدعم صدق قضية عموم الشريعة وخلودها، بلا مراء. انظر: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 23". 2 أي: العاقبة، وفيه "غب الصباح يحمد القوم السرى". "ف". 3 هذا يرجع إلى الدليل الثاني من أدلة المسألة الرابعة في الأسباب التي تتفق في المآل مع هذه المسألة، غايته أن الكلام هناك كان في وضع الشارع، وهنا في لزوم اعتبار المجتهد وملاحظته لذلك، وأيضًا هنا زيادة الخصوص الذي قرره بعد، وأشرنا إليه وإلى أنه هو المهم عنده الذي سيفرع عليه قواعد الفصل الآتي، ولم يتوصل للدليل هنا إلا توسيطه الأسباب والمسببات، وجعل المآلات هنا هي المسببات التي تقدمت هناك، وقوله: "هي مقصودة للشارع"، أي: بدليل ما سبق في المسألة الرابعة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 فِي الْأَسْبَابِ، وَمَرَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَطْلَبَيْنِ وَمَسْأَلَتُنَا مِنَ الثَّانِي لَا مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُجْتَهِدِ النَّاظِرِ فِي حُكْمِ غَيْرِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحُظُوظِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ نَائِبٌ عَنِ الشَّارِعِ فِي الْحُكْمِ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُجْتَهِدِ بُدٌّ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ مآل السبب. والثانى: أن مآلات الأعمال إنما1 أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ، فَإِنِ اعْتُبِرَتْ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِلْأَعْمَالِ مَآلَاتٌ مُضَادَّةٌ لِمَقْصُودِ2 تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّكَالِيفَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلَا مَصْلَحَةَ تُتَوَقَّعُ3 مُطْلَقًا مَعَ إِمْكَانِ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ تُوَازِيهَا أَوْ تَزِيدُ. وَأَيْضًا4، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أن لا نَتَطَلَّبَ مَصْلَحَةً بِفِعْلٍ مَشْرُوعٍ، وَلَا نَتَوَقَّعَ مَفْسَدَةً بِفِعْلٍ مَمْنُوعٍ، وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ كَمَا سَبَقَ. وَالثَّالِثُ5: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ أَنَّ الْمَآلَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] .   1 في "د": "إنما"، والمثبت من الأصل و"ف" و"م" و"ط". 2 في "ط": "المقصد". 3 أي: يعتد بها ويلتفت إليها باعتبار مصلحة. "د". 4 مفرع على ما قبله، وقوله: "ألا نتطلب"، أي: لا يلزم أن نطلب من فعل شرعه الشارع مصلحة، بل قد تحصل مصحلة اتفاقًا، وقد لا تحصل، فإن هذا الذي يتفرع على قوله: "أمكن أن يكون ... إلخ". "د". 5 وهذا بعينه هو الدليل الذي عول عليه في كون الشريعة وضعت لمصالح العباد في أول كتاب المقاصد، وساق هناك ضعف هذه الآيات، وقال: "المقصود هو التنبيه، ونحن نَقْطَعُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ تَفَاصِيلِ الشريعة". "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 وَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الْبَقَرَةِ: 183] . وَقَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 188] . وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 108] . وَقَوْلِهِ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 165] . وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الْآيَةَ: [الْأَحْزَابِ: 37] . وَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 216] . وَقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [الْبَقَرَةِ: 179] . وَهَذَا مِمَّا فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَآلِ عَلَى الْجُمْلَةِ1. وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَكَثِيرٌ، فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ حِينَ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُ: "أَخَافُ 2 أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يقتل   1 أي: بقطع النظر عن كونه فيه للعمل مآلان متعارضان يحتاجان إلى كد من المجتهدين ليترجح الطلب أو النهي الذي يتطلبه أحد المآلين، وقوله: "وهذا مما فيه ... إلخ"، يصح توجهه للأدلة الثلاثة السابقة، وربما فهم من كلامه أنه ليس في الآيات من الدليل الثالث دليل الخصوص، مع أن آية: {وَلا تَسُبُّوا} إلخ فيها هذا الخصوص؛ لأن سب الأوثان سبب في تخذيل المشركين، وتوهين أمر الشرك وإذلال أهله، ولكن لما وجد له مآل آخر مراعاته أرجح وهو سبهم لله -ملء ما بين السماوات والأرض سبًا في الأوثان لا يزن انحرافهم بكلمة واحدة في شأن الرب سبحانه- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببًا في مصلحة ومأذونًا فيه لولا هذا المآل. "د". 2 فموجب القتل حاصل، وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافة بما كان يصنعه المنافقون، بل كانوا أضر على الإسلام من المشركين، فقتلهم درء = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 أصحابه" 1. وقوله: "لولا قومك حديث عدهم بِكُفْرٍ لَأَسَّسْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ" 2. بِمُقْتَضَى3 هَذَا أَفْتَى مَالِكٌ الْأَمِيرَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ لِئَلَّا يَتَلَاعَبَ النَّاسُ بِبَيْتِ اللَّهِ. هَذَا مَعْنَى الْكَلَامِ دُونَ لَفْظِهِ4. وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِهِ حَتَّى يُتِمَّ بَوْلَهُ وَقَالَ: "لَا تُزرِموه" 5. وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ فِي الْعِبَادَةِ خَوْفًا مِنَ الِانْقِطَاعِ6. وَجَمِيعُ مَا مَرَّ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ مِمَّا فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعًا، لَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ لِمَا يُؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ أَوْ مَمْنُوعًا،   = لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر -وهو هذه التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام- أشد ضررًا على الإسلام من بقائهم، وعليك بالنظر في باقي الأمثلة. "د". 1 مضى تخريجه "2/ 467". 2 مضى تخريجه "4/ 428". 3 أي: من مراعاة القاعدة هنا، وإن كان المآل أمرًا آخر غير ما في الحديث لا أنه بالقياس على ما فيه من الامتناع عن ردة للقواعد -مع كونه مصلحة- خشية المفسدة، ولا يخفى أن المصلحة المتروكة فيهما محققة والمفسدة المتروكة من أجلها مظنونة، مع ذلك رجحت. "د". 4 مضى لفظه في "4/ 113". 5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، 10/ 449/ رقم/ 6025"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول ... ، 1/ 236/ رقم 284" عن أنس، قال إن أعرابيا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكره، وقال: "ثم دعا بدلوٍ من ماء فصب عليه"، وكتب "ف" و"م" في تفسير "تزرموه" ما نصه: "بضم التاء، أي: لا تقطعوه يقال للرجل إذا قطع بوله "مخاطبًا إياه": قد أزرمت بذلك وأزرمه غيره قطعه". 6 انظر النصوص الواردة في ذلك في التعليق على "1/ 525 وما بعد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 لَكِنْ يُتْرَكُ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا، فَإِنَّ غَالِبَهَا تَذَرُّعٌ بِفِعْلٍ جَائِزٍ، إِلَى عَمَلٍ غَيْرِ جَائِزٍ فَالْأَصْلُ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ، لَكِنَّ مَآلَهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ كُلُّهَا، فَإِنَّ غَالِبَهَا سَمَاحٌ فِي عَمَلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِي الْأَصْلِ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الرِّفْقِ الْمَشْرُوعِ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ بِذِكْرِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاشْتِهَارِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ [حِينَ] 1 أَخَذَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: "اخْتَلَفَ النَّاسُ بِزَعْمِهِمْ فِيهَا، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَافْهَمُوهَا وَادَّخِرُوهَا". فَصْلٌ: وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: - مِنْهَا: قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ الَّتِي حَكَّمَهَا مالك في أكثر2 أبواب الفقه؛ لأن   1 سقطت من نسخة "ماء". 2 مثل لها في "إعلام الموقعين" "3/ 147-171" بتسعة وتسعين مثالًا، وقال: "إن سد الذرائع ربع التكليف؛ لأنه إما أمر، أو نهي، والأول مقصود لنفسه أو وسيلة إليه، والمنهي عنه مفسدة لنفسه أو وسيلة إليه، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام ربع الدين"، وجعل صورة البيع المذكورة هنا من أمثلة الذرائع، ثم ذكرها في مسألة الحيل بعد ذلك، وقال: "إن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فالشارع يسد الطريق إليها بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بكل حيلة، فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم ممن يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ "، ثم قال بعد ذلك: "ومن يبطل الحيلة كبيع العينة -يعني: كصورة البيع المذكورة هنا- يبطل العقد الأول بلا تردد، وبعضهم يجعل الخلاف في العقد الثاني يصحح الأول، وعلى هذا تكون من مسائل الذريعة لا من باب الحيل" اهـ. ولعل ذلك؛ لأن الحيلة تكونت من مجموع العقدين، ولكن الذريعة إنما جاءت بالعقد الثاني، فأنت ترى المقام محتاجًا إلى قول فصل يتضح به الفرق بين حد الحيلة وحد الذريعة، وإن كان يظهر في الفرق أيضًا أن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة، والحيلة لا بد من قصدها = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 حَقِيقَتَهَا التَّوَسُّلُ بِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ إِلَى مَفْسَدَةٍ1 فَإِنَّ عَاقِدَ الْبَيْعِ2 أَوَّلًا عَلَى سِلْعَةٍ بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ ظَاهِرُ الْجَوَازِ، مِنْ جِهَةِ مَا يَتَسَبَّبُ عَنِ الْبَيْعِ مِنَ الْمَصَالِحِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِذَا جَعَلَ مَآلَ ذَلِكَ الْبَيْعِ مُؤَدِّيًا إِلَى بَيْعِ خَمْسَةٍ نَقْدًا بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ مِنْ مُشْتَرِيهَا [مِنْهُ] 3 بِخَمْسَةٍ نَقْدًا، فَقَدْ صَارَ مَآلُ هَذَا الْعَمَلِ إِلَى أَنْ بَاعَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ مِنْ مُشْتَرِيهَا مِنْهُ خَمْسَةً نَقْدًا بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ، وَالسِّلْعَةُ لَغْوٌ لَا مَعْنَى لَهَا فِي هَذَا الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَ الْبَيْعُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ4 أَنْ يَظْهَرَ لذلك قصد ويكثر5 في الناس   = للتخلص من المحرم، والحيلة تجري في العقود خاصة، والذريعة أعم، وتعريف المؤلف للذريعة يجعلها شاملة للحيل بتعريفها الآتي له، فيكون كل ما ذكرناه فارقًا بينهما، وقد أشبع الكلام في وجوب سد الذريعة ومنع الحيل ابن القيم في هذا الكتاب رحمه الله. "د". قلت: انظر في سد الذرائع: "الذخيرة" "1/ 152-153 - ط دار الغرب"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص448-449"، و"القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 786"، و"أحكام القرآن" "2/ 798" كلاهما لابن العربي، و"مجموع فتاوي ابن تيمية" "23/ 186-187"، و"إعلام الموقعين" "2/ 142 و3/ 147-171"، و"روضة المحبين" "ص93"، و"زاد المعاد" "3/ 88"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 361-376"، و"تهذيب السنن" "5/ 102"، كلها لابن القيم، و"إحكام الفصول" "ص689-694" للباجي، و"البحر المحيط" "6/ 82-86"، و"تبصرة الحكام" "2/ 376-377"، و"تفسير القرطبي" "2/ 57 و3/ 252 و359-360 و7/ 61"، و"أصول الفقه وابن تيمية" "1/ 200 و2/ 479-507"، و"القواعد" للمقري "2/ 471-474، القاعدة الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين والثلاثون والحادية والثلاثون بعد المئتين"، و"الفروق" "2/ 32"، و"الإمام مالك" "ص405" لأبي زهرة، و"سد الذرائع" لمحمد هشام البرهاني، رسالة ماجستير. 1 في "ط": "التوسل إلى ما هو مفسدة بفعل ما هو مصلحة". 2 لعله: "عقد البيع" "ف". قلت: كذا أثبتها "م"، وفيه قبلها: " ... التوسل إلى ما هو مصلحة، فإن عقد ... ". 3 سقطت من "د". 4 والصورة المذكورة من بيوع الآجال التي قد يظهر فيها قصد المتبايعين لهذا الممنوع، = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ. وَمَنْ أَسْقَطَ حُكْمَ الذَّرَائِعِ كَالشَّافِعِيِّ1، فإنه اعتبر المآل2 أيضًا؛ لأن   = وقد لا يظهر، ولكنه كثر قصد الناس له بمقتضى العادة، فلذلك قالوا: إن السلف الذي يؤدي إلى منفعة المسلف ممنوع، ولو لم يقصد منفعة المسلف؛ لأنه كثير القصد من الناس عادة، فلا تنافي بين شرطيته للقصد وقول المالكية: إنه ممنوع، ولو لم يقصد بالفعل، فالمظنة كافية عندهم، بخلاف ما قل قصده لضعف التهمة كضمان يجعل كأن يبيعه ثوبين بدينار لشهر ثم يشتري منه عند الأجل أو دونه أحدهما بدينار، فيجوز، ولا ينظر لكونه آل الأمر لضمان أحد الثوبين له عند الأجل في مقابلة الثوب الآخر -مع أن الضمان لا يكون إلا لله- لقلة قصد الناس لمثله. "د". قلت: انظر: في هذا: "الموطأ" "2/ 673"، و"المغني" "4/ 133-134" لابن قدامة. 5 عبارة المالكية: "يمنع ما أدى لممنوع يكثر قصده للمتبايعين، ولو لم يقصد بالفعل"1، وبالتطبيق عليها يكون عطف قوله: "ويكثر" على قوله: "يظهر لذلك قصد" عطف تفسير، وكأنه قال تصويرًا لذلك: بأن يكثر ... إلخ، فهذه الكثرة هي الضباط والمظنة، ومقابلة ما لا يكثر، فلا يمنع كما تقدم مثال الضمان بالجعل. "د". وكتب "ف" ما نصه: "لعله: أو يكثر في الناس تنزيلًا للكثرة منزلة القصد إشارة إلى أن القصد أعم من أن يكون حقيقة أو حكمًا؛ إذ مجرد القصد في المنع كثر أو لم يكثر؛ لأن البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها سلف جر نفعًا، وهو غير جائز". قلت: وأثبتها "م": "أو يكثر". 1 قال في "الإعلام" "3/ 200 - ط محمد عبد الحميد": "وأبو حنيفة وإن قال بالحيلة، إلا أن له مأخذًا آخر في منع العينة، وهي الصورة المذكورة هنا؛ لأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنيًا عليه". اهـ. يعني: فليس للبائع الأول أن يشتري شيئًا ممن لم يتملكه، فالثاني فاسد، ورجع إلى خمسة في عشر لأجل، وهو ربا فضل ونساء معًا. "د". 2 يعبر عنه فقهاء الشافعية أحيانًا بـ"سلامة العاقبة"، وانظر: "المنثور في القواعد" "2/ 217-218" للزركشي.   1 هذه عبارة الدردير في "شرحه الصغير" "3/ 117". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 الْبَيْعَ إِذَا كَانَ مَصْلَحَةً جَازَ، وَمَا فُعِلَ مِنَ الْبَيْعِ الثَّانِي فَتَحْصِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى مُنْفَرِدَةٍ عَنِ الْأُولَى، فَكُلُّ عُقْدَةٍ مِنْهُمَا لَهَا مَآلُهَا، وَمَآلُهَا فِي ظَاهِرِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا مَانِعَ عَلَى هَذَا؛ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَآلٌ هُوَ مَفْسَدَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَكِنَّ هَذَا بشرط أن لا يَظْهَرَ قَصْدٌ1 إِلَى الْمَآلِ الْمَمْنُوعِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَتَّفِقُ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بِإِطْلَاقٍ، وَاتَّفَقُوا فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ2 عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَبُّ الْأَصْنَامِ حَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا فِي سَبِّ اللَّهِ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 108] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ مَالِكٌ مَعَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ فِيهَا. وَأَيْضًا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ يَجُوزُ التَّذَرُّعُ إِلَى الرِّبَا بِحَالٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّهِمُ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدٌ إِلَى الْمَمْنُوعِ وَمَالِكٌ يتَّهم بِسَبَبِ ظُهُورِ فِعْلِ اللَّغْوِ3، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْقَصْدِ إِلَى الْمَمْنُوعِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَاعِدَةَ الذَّرَائِعِ مُتَّفَقٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أمر آخر4.   1 ظهور القصد بوجود قرينة تحتف بالحادثة تدل على قصد المآل الفاسد الذي أدى إليه مجموع العقدين، أو بكثرة وقوع هذه العقود بين الناس. "ف" ونحوه عند "م". 2 أي: مسألة سد الذرائع؛ لأن إسقاط الشافعي لحكم الذرائع لا ينافي اعتبار بعض جزئياتها الخاصة التي ورد النص فيها، وسيأتي بين أن إسقاط حكم الذرائع [عند] ما لم يظهر القصد إلى الممنوع بقرينة خارجة عن العقدين، وإلا، فيتفق مع مالك على اعتباره. "ف" و"م". 3 لعل المراد باللغو هنا: العقد الصوري الذي يتخذ وسيلة إلى تحليل المحرم، كأن يبيعه شيئًا بمئة إلى أجل، ثم يشتريه منه بثمانين حالًا مثلًا، فيكون أقرضه ثمانين ليرد له مئة، وجعلا عقد البيع ذريعة لتحليل ذلك، أفاده مصطفى البغا في "أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي "ص575". 4 هو في الحقيقة اختلاف في المناط الذي يتحقق فيه التذرع، وهو من تحقيق المناط في الأنواع كما سبقت أمثلته، فمالك يجعل وجود اللغو في البيعة دليلًا على قصد التوسل = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 ........................................................   = الممنوع، والشافعي يزيد في المناط دليلًا أخص من هذا، فلو صورت المسألة بأنه باع له حيوانًا بعشرة لأجل، ثم بعد شهر خرج إلى السوق ليشتري بدل الحيوان، فوجد المبيع معروضًا في السوق وقد حالت الأسواق مثلًا أو تغير، فاشتراه بخمسة نقدًا، فهذا ظاهر فيه أنه لم يقصد الممنوع، ولكنه بيع فاسد عند مالك ولو لم يقصد، كما قال الدردير في "شرحه الصغير" "3/ 117"، وقال ابن رشد: "إنه لا إثم على فاعله فيما بينه وبين الله، حيث لم يقصد الممنوع، يعني: وإنما ذلك الفساد لاطراد حكم الحاكم فقط. "د". قلت: سبق المصنف إلى القول بنحو هذا القرافي في "الذخيرة" "1/ 152-153 - ط دار الغرب"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص448-449"، ورجحه الأستاذ أبو زهرة، فقال في كتابه "الإمام مالك" "ص216": "ونحن نميل إلى أن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع، وإن لم يسموه بذلك الاسم". قلت: أسهب الإمام الشافعي في كتابيه: "الأم" "3/ 34 و4/ 41"، و"إبطال الاستحسان" "7/ 267-270" في بيان موقفه من الذرائع، وأنكر القول به، وهذا مخالف لقول القرافي والمصنف، وقد حقق ذلك العطار في "حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع" "2/ 364"، فقال: "وأما قاعدة سد الزرائع، فقد اشتهرت عند المالكية، وزعم القرافي أن كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية، إلا من حيث زيادتهم فيها، قال: فإن من الذرائع ما يعتبر إجماعًا، كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسبب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله عند سبها، وتلغى إجماعًا، كزراعة، العنب، فإنها لا تمنع خشية الخمر، وما يختلف فيه كبيوع الآجال. قال العطار: "قال المصنف -أي: ابن السبكي-: وقد أطلق هذه القاعدة على أعم منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، وسنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها، وأن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى الذرائع من شيء، نعم، حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي رضي الله عنه في باب إحياء الموات من الأم عند النهي عن منع الماء ليمنع به الكلأ: إن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله، فقال: في هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحرام والحلال تشبه معاني الحلال والحرام. قال ابن السبكي: ونازعه الشيخ الإمام الوالد، وقال: إنما أراد الشافعي رحمه الله تعالى = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 - وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ الْحِيَلِ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا الْمَشْهُورَةَ تَقْدِيمُ عَمَلٍ ظَاهِرِ1 الْجَوَازِ لِإِبْطَالِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلِهِ فِي الظَّاهِرِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، فَمَآلُ الْعَمَلِ فِيهَا خَرْمُ2 قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ، كَالْوَاهِبِ ماله عند رأس3 الحول فرارًا من   = تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا منع الماء، فإنه يستلزم منع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصًا ومنعه من الطعام والشراب، فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء. قال الشيخ الإمام: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها" اهـ. وهذا التحقيق سديد ووجيه، فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم -في أغلب صوره- على الظن والتوهم والتخمين، وشتان ما بينهما، ولذلك كان مسلك الشافعي رحمه الله تعالى في عدم أخذ الناس بالتهم وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكًا سليمًا وصحيحًا، يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى كما أثبت الشافعي فيما أشرنا إليه، وذلك كي تستقر للناس أحوالهم، ويطمئنوا إلى تصرفاتهم، طالما أنها لا تصادم الشريعة في ظاهرها، والله أعلم. انظر: "اثر الألدلة المختلف فيها" "578-579". 1 في "ماء": "ظاهره". 2 جعل المفسدة في الحيل خرم قواعد الشريعة، خاصة كإبطال الزكاة وهدمها بالكلية، ولا يخفى أنه ممنوع، والهبة ذريعة إليه، فتكون الحيل أخص من الذريعة على ما يؤخذ من تعريفه لهما. "د". 3 المراد به قرب نهاية الحول، أما بعد تمام الحول، فقد وجبت الزكاة، ولا تفيد الحيلة وقبل تمامه اختلف محمد وأبو يوسف في استهلاك النصاب تحليلًا لدفع الوجوب، كأن أخرجه عن ملكه، فقال الثاني: لا يكره ذلك؛ لأنه امتناع عن الوجوب لا إبطال لحق الغير، وقال الأول: يكره؛ لأن فيه إضرارًا بالفقراء وإبطالًا، فكلام المؤلف مبني على رأي محمد، وأنه إذا قصدت الحيلة بإبطال الحكم صريحًا يكون ممنوعًا. "د". وقال: "ف": "أي: ولو لم يتفق مع الموهوب له على رده بعد الحول أو قبله". وانظر لطيفة في هروب الفقهاء "ممن تخرج من مدرسة الكرخي والجصاص والخصاف"، وتحيله والرد عليه في "أحكام القرآن" "3/ 110" لابن العربي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 الزَّكَاةِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْهِبَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَوْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ هِبَةٍ لَكَانَ مَمْنُوعًا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ أَمْرُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْقَصْدِ، صَارَ مَآلُ الْهِبَةِ الْمَنْعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ الْقَصْدِ إِلَى إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَنْ أَجَازَ الْحِيَلَ كَأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَآلَ أَيْضًا، لَكِنْ عَلَى حُكْمِ الِانْفِرَادِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ عَلَى أَيِّ قَصْدٍ كَانَتْ مُبْطِلَةً لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كَإِنْفَاقِ الْمَالِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ، وَأَدَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَشِرَاءِ الْعُرُوضِ بِهِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ، وَهَذَا الْإِبْطَالُ صَحِيحٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ وَالْمُنْفِقِ، لَكِنَّ هَذَا بشرط أن لا يُقْصَدَ إِبْطَالُ الْحُكْمِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ بِخُصُوصِهِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ عِنَادٌ لِلشَّارِعِ كَمَا إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَا يُخَالِفُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّ قَصْدَ إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ صُرَاحًا مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا إِبْطَالُهَا ضِمْنًا، فَلَا، وَإِلَّا امْتُنِعَتِ الْهِبَةُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ مُطْلَقًا، وَلَا يَقُولُ بِهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْقَصْدِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى مُجَرَّدِ إِحْرَازِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، كَالْمُنَافِقِينَ، وَالْمُرَائِينَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ التَّحَيُّلَ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَاطِلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ نَظَرًا إِلَى الْمَآلِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ آخَرَ1. - وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ2 الْخِلَافِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْنُوعَاتِ فِي الشَّرْعِ إِذَا   1 وهو تحقيق المناط كما سبق في سد الذرائع. "د". 2 مثاله استحقاق المرأة المهر، وكذا الميراث مثلًا عند مالك فيما إذا تزوجت بغير ولي، فمالك -مع كونه يقول بفساد النكاح بدون ولي- يراع في ذلك الخلاف عندما ينظر فيما ترتب بعد = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 وَقَعَتْ، فَلَا يَكُونُ إِيقَاعُهَا مِنَ الْمُكَلَّفِ سَبَبًا فِي الْحَيْفِ عَلَيْهِ بِزَائِدٍ عَلَى مَا شَرَعَ لَهُ مِنَ الزَّوَاجِرِ أَوْ غَيْرِهَا، كَالْغَصْبِ مَثَلًا إِذَا وَقَعَ، فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوَفَّى حَقَّهُ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى إِضْرَارِ الْغَاصِبِ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ فِي الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، فَإِذَا طُولِبَ الْغَاصِبُ بِأَدَاءِ مَا غَصَبَ1 أَوْ قِيمَتِهِ أَوْ مِثْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، صَحَّ، فَلَوْ قُصِدَ فِيهِ حَمْلٌ عَلَى الْغَاصِبِ، لَمْ يَلْزَمْ؛ لأن العدل هو   = الوقوع، فيقول: إن المكلف واقع دليلًا على الجملة وإن كان مرجوحًا، إلا أن التفريغ على البطلان الراجح في نظره يؤدي إلى ضرر ومفسدة أقوى من مقتضى النهي على ذلك القول، وهذا منه مبني على مراعاة المآل في نظر الشارع، فالمراد مراعاة الخلاف الواقع بين المجتهدين، والتعويل بعد وقوع الفعل من المكلف على قول وإن كان مرجوحًا عند المجتهد، ليقر فعلًا حصل منهيًا عنه على القول الراجح عنده، وأن له بعد الوقوع حكمًا لم يكن له قبله، وذلك نظر إلى المآل، وأنه لو فرع على القول الراجح بعد الوقوع، لكان فيه مفسدة تساوي أو تزيد على مفسدة النهي، فينظر المجتهد في هذا المآل، ويفرع على القول الآخر المرجوح باجتهاد ونظر جديد، لولا المآل الطارئ بعد الوقوع بالفعل ما كان له أن يفرع عليه وهو يعتقد ضعفه، ويدل على أن هذا غرضه لاحق الكلام، أما تمثيله بالغضب والزنا، فمن باب التمهيد والتوطئة لغرضه، ولا يتعلق به مقصوده. "د". وكتب "ف" ما نصه: "أي: خلاف ما شرع له الحكم مما يعود عليه بالنقض، ومراعاته بالاحتراز عما يوجبه، كما في مثالي الغصب والزنا، فلا يحمل على الغاصب والزاني بالزيادة في استيفاء الحق والحد على القدر المشروع في حقهما لئلا يؤدي إلى مفسدة تساوي أو تزيد عن مفسدة الفعل المنهي عنه". قلت: انظر في المسألة: "الاعتصام" "2/ 146 وما بعدها -ط رضا و2/ 645 وما بعدها -ط ابن عفان" للمصنف، و"البحر المحيط" "4/ 478 و6/ 324" للزركشي، و"إيضاح السالك" "ص160-161" للونشريسي، وما مضى "ص106". 1 إن كان بقي على حاله لم يتغير، وقوله: "أو قيمته"، أي: إن تغير في غير المثلي، وقوله: "أو مثله"، أي: إن تغير وهو مثلي، وقوله: "من غير زيادة" مفهومة أن الحمل عليه بالزيادة لا يصح، بأن كان غزلًا فنسجه الغاصب أو سبيكة فصكها نقودًا: فليس للغاصب أخذه، بل له القيمة فقط. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 الْمَطْلُوبُ، وَيَصِحُّ إِقَامَةُ الْعَدْلِ مَعَ عَدَمِ الزِّيَادَةِ1، وَكَذَلِكَ الزَّانِي إِذَا حُدَّ لَا يُزَادُ2 عَلَيْهِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لَهُ، وَكَوْنُهُ جَانِيًا لَا يُجْنَى عَلَيْهِ زَائِدًا عَلَى الْحَدِّ الْمُوَازِي لِجِنَايَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّعَدِّي3 [عَلَى الْمُتَعَدِّي] أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 194] . وَقَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الْمَائِدَةِ: 45] . وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِذَا4 ثَبَتَ هَذَا، فَمَنْ وَاقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَقَدْ يَكُونُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ زَائِدٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لَا بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ، أَوْ مُؤَدٍّ إِلَى أَمْرٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ، فَيُتْرَكُ5 وَمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ نُجِيزُ6 مَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِالْعَدْلِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وافق7 المكلف فيه دليلًا على   1 وهذا أصل للمحامين في مشروعية خصوماتهم عن موكليهم إن كانوا ظالمين، على أن تكون العقوبة الملحقة بهم أكثر من المقررة في الشرع. 2 أي: فلا يلزم بسكنى المزني بها مدة الاستبراء، ولا بنفقتها كذلك، ولا بإرضاع ولدها من الزنا ونفقته وهذا ... لأن هذه زيادة عن الحد الذي رآه الشارع. "د". 3 المراد به الزيادة عن الحد المشروع في جزاء العدوان لا نفس العدوان. "د". 4 من هذا يفهم أن الكلام في الغصب والزنا تمهيد ليقاس عليه الكلام في مراعاة الخلاف، فكأنه يقول: إذا كان ما وقع ممنوعًا باتفاق لا يصح أن يكون سببًا للحيف، فما وقع ممنوعا عند المجتهد مخالفًا لغيره في منعه من باب أولى أن يراعي دليل صحته، وإن كان مرجوحًا عند هذا المجتهد، فلا يكون سببًا للحيف، بل ينظر للأمر الواقع وللمآل. "د". 5 أي: كما في مثال البائل الآتي. "د". 6 أي: كما يأتي في الأنكحة الفاسدة قبل الدخول، والمصححة بعد الدخول. "د". قلت: في "الأصل" و"ف": "يحيز"، بالياء آخر الحروف في أوله. وقال "ف": "لعله" "أو نجيز" كما يدل عليه البيان بعد"، ونحوه عند "م"، وفي "ط": "يجبر". 7 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "واقع". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، فَهُوَ رَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْقَاءِ الْحَالَةِ عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِزَالَتِهَا مَعَ دُخُولِ ضَرَرٍ عَلَى الْفَاعِلِ أَشَدِّ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ، فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ دَلِيلُهُ أَقْوَى قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ أَقْوَى بَعْدَ الْوُقُوعِ، لِمَا اقْتَرَنَ [بِهِ] مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُرَجِّحَةِ، كَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ1 فِي حَدِيثِ2 تَأْسِيسِ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَحَدِيثِ3 [تَرْكِ] قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَحَدِيثِ4 الْبَائِلِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَرْكِهِ حَتَّى يُتِمَّ بَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُطِعَ بَوْلُهُ لَنَجِسَتْ ثِيَابُهُ، وَلَحَدَثَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ دَاءٌ فِي بَدَنِهِ، فَتَرَجَّحَ جَانِبُ تَرْكِهِ عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى قَطْعِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَبِأَنَّهُ يُنَجِّسُ مَوْضِعَيْنِ وَإِذَا تُرِكَ، فَالَّذِي يُنَجِّسُهُ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وليها، فنكاحها بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ"، ثُمَّ قَالَ: "فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا"5. وَهَذَا تَصْحِيحٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ الْمِيرَاثُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَلَدِ، وَإِجْرَاؤُهُمُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ مَجْرَى الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا كَانَ فِي حُكْمِ الزِّنَى، وَلَيْسَ فِي حُكْمِهِ بِاتِّفَاقٍ فَالنِّكَاحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ قَدْ يُرَاعَى فِيهِ الْخِلَافُ فَلَا تَقَعُ فِيهِ الْفُرْقَةُ إِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ6 الدُّخُولِ، مُرَاعَاةً لِمَا يَقْتَرِنُ بِالدُّخُولِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ترجح   1 أي: على الترك أو التصحيح وإن لم يكن مما نحن فيه مما فيه مراعاة الخلاف؛ لأن المواضع الثلاثة ليست منه، وإنما هي مما وقع مخالفًا للمطلوب وترك كما في بناء البيت على غير قواعد إبراهيم، أو وقع منهيا عنه قطعًا، كمسألة البائل في المسجد، وكترك قتل الكافر المنافق المؤذي للمسلمين، وقد تركه الجميع خشية حصول ضرر أشد من إزالة هذه الثلاثة. "د". 2 و3 مضى تخريجهما "4/ 428". 4 مضى تخريجه "ص181". 5 صحيح بمجموع طرقه، كما بيناه بتفصيل فيما مضى "3/ 48". 6 أي: كما في الأنكحة الفاسدة للصداق، كأن نقص عن ربع دينار، أو جعل الصداق خمرًا أو إنسانًا حرًا، أو وقع العقد على إسقاط رأسًا، فإنه إن عثر عليه قبل الدخول فسخ إن لم يتمه في الصورة الأولى وفي غيرها مطلقًا، وأما إن لم يعثر عليه إلا بعد الدخول، فلا فسخ بناء على الخلاف في الصداق داخل المذهب وخارجه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 جَانِبَ التَّصْحِيحِ. وَهَذَا كُلُّهُ نَظَرٌ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُوَازِي مَفْسَدَةَ [مُقْتَضَى] النَّهْيِ أَوْ تَزِيدُ. وَلِمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ دَلِيلٌ عَامٌّ مُرَجِّحٌ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَامِلَ بِالْجَهْلِ مُخْطِئًا فِي عَمَلِهِ لَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِبْطَالَ. وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ مَدَاخِلَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمَحْكُومٌ لَهُ بِأَحْكَامِهِمْ، وَخَطَؤُهُ أَوْ جَهْلُهُ لَا يَجْنِي عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَتَلَافَى لَهُ حُكْمٌ يُصَحِّحُ لَهُ بِهِ مَا أَفْسَدَهُ بِخَطَئِهِ وَجَهْلِهِ وَهَكَذَا لَوْ تَعَمَّدَ الْإِفْسَادَ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنِ الْحُكْمِ لَهُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَمْ يُعَانِدِ1 الشَّارِعَ، بَلِ اتَّبَعَ شَهْوَتَهُ غَافِلًا عَمَّا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 17] . وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَعْصِي إِلَّا وَهُوَ جَاهِلٌ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْجَاهِلِ، إِلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْإِبْطَالِ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَانَبُ التَّصْحِيحِ لَيْسَ لَهُ مَآلٌ يُسَاوِي أَوْ يَزِيدُ، فَإِذْ ذَاكَ لَا نَظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ، مَعَ2 أَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْإِبْطَالِ إِلَّا بعد النظر في المآل وهو المطلوب.   1 في "ط": "لا يعاند". 2 أي: فلم يخالف القاعدة حينئذ. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 وَمِمَّا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَاعِدَةُ الِاسْتِحْسَانِ1، وهو -في مذهب   1 لهم في الاستحسان عبارات: منهم أنه العدول عن قياس إلى قياس أقوى، ومنها تخصيص قياس بأقوى منه، وعلى هذين لا يخالف فيه أحد، إلا انه ليس دليلًا شرعيًا زائدًا، ومنها دليل ينقدح في ذهن المجتهد يعسر عليه التعبير عنه، فإن كان بمعنى أنه مؤد إلى الشك فيه، فباطل أن يكون دليلًا، وإن كان على أنه ثابت متحقق، فليس بزائد عن الأدلة، ومنها العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، كدخول الحمام، والشرب من السقاء، مما لا يحدد فيه زمان الانتفاع ولا مقدار المأخوذ من الماء، فقيل عليه: إن كانت العادة ثابتة في زمنه عليه السلام، فقد ثبت الحكم بالسنة لا بالاستحسان، وإن كانت في عصر الصحابة من غير إنكار منهم فإجماع، وإن كانت غيره عادة، فإن كان نصا أو قياسًا مما ثبتت حجيته، فقد ثبت بذلك كالأمثلة التي ذكرها المؤلف من القرض والعرية وجمع الصلاتين، وكذا سائر الترخصات التي وردت أدلتها بالنص أو القياس، وبه تعلم ما في قوله: "هذا نمط من الأدلة ... إلخ"، وقوله: "وله في الشرع أمثلة ... إلخ" الذي يفيد ظاهره أن هذه المواضع مما فيه تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وليس كذلك إذ هي ثابتة بالنص، وأما إن كان شيئًا آخر لم يثبت حجيته، فهو مردود، قال الباجي1: "الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو العدول إلى أقول الدليلين، كتخصيص بيع رطب العرايا من بيع2 الرطب بالتمر"، قال: "وهذا هو الدليل، فإن سموه استحسانًا، فلا مشاحة في التسمية"3، قال ابن الأنباري: "الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على المعنى السابق، بل هو استعمال مصلحة جزئية في قياس كلي، فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس، ومثاله لو اشترى سلعة بالخيار ثم مات فاختلفت ورثته في الإمضاء والرد، قال أشهب: القياس الفسخ، ولكنا نستحسن إذا قبل البعض الممضي نصيب الراد إذا امتنع البائع من قبوله أن نمضيه"، قال ابن الحاجب: "لا يتحقق استحسان مختلف فيه"، وتبعه على ذلك من بعده. "د". قلت: انظر عن الاستحسان: "الاعتصام" "2/ 136-146 - ط رشيد رضا"، و"الإحكام" =   1 في "إحكام الفصول" "ص687" وقبله: "ذكر محمد بن خويز منداد من أصحابنا"، وفيه: " ... القول بأقوى ... مثل تخصيص..". 2 في الأصل: "منع"، والتصويب من "الإحكام" للباجي. 3 عبارته: "وإن كان يسميه استحسانًا على سبيل المواضعة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 مَالِكٍ- الْأَخْذُ بِمَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ دَلِيلٍ كُلِّيٍّ، وَمُقْتَضَاهُ الرُّجُوعُ إِلَى تَقْدِيمِ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مَنِ اسْتَحْسَنَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مُجَرَّدِ ذَوْقِهِ وَتَشَهِّيهِ، وَإِنَّمَا رَجَعَ إِلَى مَا عَلِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي الْجُمْلَةِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَفْرُوضَةِ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي يَقْتَضِي الْقِيَاسُ فِيهَا أَمْرًا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ يُؤَدِّي إِلَى فَوْتِ مَصْلَحَةٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ جَلْبِ مَفْسَدَةٍ كَذَلِكَ، وَكَثِيرٌ مَا يَتَّفِقُ هَذَا فِي الْأَصْلِ الضَّرُورِيُّ مَعَ الْحَاجِيِّ وَالْحَاجِيُّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ، فَيَكُونُ إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا فِي الضَّرُورِيِّ يُؤَدِّي إِلَى حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ فِي بَعْضِ مَوَارِدِهِ، فَيُسْتَثْنَى مَوْضِعُ الْحَرَجِ1، وَكَذَلِكَ فِي الْحَاجِيِّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ، أَوِ الضَّرُورِيِّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلَهُ فِي الشَّرْعِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ كَالْقَرْضِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ رِبًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ الدرهم   = "4/ 137" للآمدي، و"الرسالة" للشافعي "505-507"، و"المحصول" "6/ 123"، و"البحر المحيط" "6/ 87 وما بعدها"، و"شرح اللمع" "2/ 973"، و"المسودة" "451 وما بعدها"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص451"، و"الذخيرة" "1/ 155-156 - ط دار الغرب"، و"الحدود" "ص65" للباجي، و"شرح المحلي على جمع الجوامع" "2/ 353"، و"فتح الغفار شرح المنار" "3/ 30"، و"بدائع الفوائد" "4/ 32، 124-126" لابن القيم، و"المنخول" "ص374"، و"المستصفى" "1/ 137"، و"العضد على ابن الحاجب" "2/ 228"، و"شروح المنار" "811"، "والتمهيد" "4/ 93"، و"المعتمد" "2/ 840"، و"التبصرة" "494"، و"أصول السرخسي" "2/ 204"، و"كشف الأسرار" "4/ 3"، و"فتح الرحموت" "2/ 32"، و"تيسير التحرير" "4/ 78"، و"تفسير القرطبي" "4/ 106، 119". 1 هذا الاستثناء الذي فيه ترك القياس هو الأخذ بالاستحسان، وقد نص جمال الدين الحصيري في كتابه "التحرير" "1/ ق34" على قاعدة "إن ترك القياس في موضع الحاجة والضرورة جائز؛ لأن الحرج منفي، ومواضع الضرورات مستثناه عن قضيات الأصول" بواسطة "القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير" "ص205"، وانظر غير مأمور: "رد المحتار" "1/ 219" لابن عابدين، ففيه ربط هذه القاعدة بالاستحسان. وبعده في "ط" زيادة: "لرفع ذلك الحرج". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ، وَلَكِنَّهُ أُبِيحَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَرْفَقَةِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ، بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ ضِيقٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَمِثْلُهُ بَيْعُ الْعَرِيَّةِ1 بِخُرْصِهَا تَمْرًا، فَإِنَّهُ بَيْعُ الرَّطْبِ بِالْيَابِسِ، لَكِنَّهُ أُبِيحَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعَرِّي وَالْمُعَرَّى، وَلَوِ امْتَنَعَ مُطْلَقًا، لَكَانَ وَسِيلَةً لِمَنْعِ الْإِعْرَاءِ، كَمَا أَنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ لَوِ امْتَنَعَ فِي الْقَرْضِ لَامْتَنَعَ أَصْلُ الرِّفْقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِثْلُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلْمَطَرِ2 وَجَمْعُ الْمُسَافِرِ، وَقَصْرُ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ، وَسَائِرُ التَّرَخُّصَاتِ الَّتِي3 عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا تَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَآلِ فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ أَوْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْخُصُوصِ، حَيْثُ كَانَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ يَقْتَضِي مَنْعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا لَوْ بَقِينَا مَعَ أَصْلِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ لَأَدَّى إِلَى رَفْعِ مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ رَعْيُ ذَلِكَ الْمَآلِ إِلَى أَقْصَاهُ، وَمِثْلُهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ فِي التَّدَاوِي، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، وَأَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةً. هَذَا نَمَطٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَذِهِ القاعدة، وعليها بنى4   1 العرية عند المالكية: ثمر نخل أو غيره، ييبس ويدخر، يهبه مالكه ثم ثشتريه من الموهوب له بثمر يابس إلى الجذاذ المعروف أو دفع الضرر، وتجوز عندهم بشروط مبنية في كتب الفروع. "ف" و"م". 2 من لطيف استدلال ابن القيم على وجوب صلاة الجماعة بالجمع بين الصلاتين؛ إذ شرع في المطر لأجل تحصيل الجماعة،- مع أن إحدى الصلاتين وقد وقعت خارج الوقت، والوقت واجب، فلو لم تكن الجماعة واجبة، لما ترك لها الوقت الواجب، انظر ذلك مبسوطًا في: "بدائع الفوائد" "3/ 159-161"، وكتاب "الصلاة وحكم تاركها" "ص133-134". 3 في "م": "الترخيصات التي هي على ... ". 4 أي: فهذه المسائل فيها تخصيص الدليل على المنع بالمصلحة الجزئية، فبنى عليها مالك وأصحابه صحة ما يكون مثلها، وسموه بالاستحسان، فهذه المسائل ليست من باب الاستحسان؛ لأنها كلها منصوصة الأدلة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ بِأَنَّهُ إِيثَارُ1 تَرْكِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ على طريق الاستثاء وَالتَّرَخُّصِ، لِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ أَقْسَامًا، فَمِنْهُ تَرْكُ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ كَرَدِّ الْأَيْمَانِ إِلَى الْعُرْفِ، وَتَرْكُهُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ كَتَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ، أَوْ تَرْكُهُ لِلْإِجْمَاعِ كَإِيجَابِ الْغُرْمِ عَلَى مَنْ قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي2، وَتَرْكُهُ فِي الْيَسِيرِ لِتَفَاهَتِهِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْخَلْقِ، كَإِجَازَةِ التَّفَاضُلِ الْيَسِيرِ فِي الْمُرَاطَلَةِ الْكَثِيرَةِ، وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فِي الْيَسِيرِ. وَقَالَ فِي "أَحْكَامِ الْقُرْآنِ": "الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وعند الحنفية هو العمل3   1 يجيء فيه ما تقدم من أن التخصيص بالعرف والعادة إن كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم، فالدليل السنة، وإن كانت في عهد الصحابة ... إلخ. "د". قلت: وكلام ابن العربي في كتابه "المحصول في علم الأصول". 2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 642 - ط ابن عفان": "يريدون غرم قيمة الداية، لا قيمة النقص الحاصل فيها، ووجه ذلك ظاهر، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب، وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع، وهو متجه بحسب الغرض الخاص، وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة، لكن استحسنوا ما تقدم"، ثم قال: "وهذا الإجماع مما ينظر فيه، فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره، ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبمًا نص عليه القاضي عبد الوهاب". 3 إن كان المراد ظاهر العبارة، فالعمل بأقوى الدليلين لا يخص هذين المذهبين، وإن كان المراد تخصيص النص العام والقياس بأي دليل كان، فيصح أن يدخله الخلاف الذي أشار إليه بعد، فمالك يخصص بالمصلحة -أي: بدليل المصالح المرسلة الذي يقول هو به، ويخالفه فيه = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 بأقوى الدليلين، فالعلموم إِذَا اسْتَمَرَّ وَالْقِيَاسُ إِذَا اطَّرَدَ، فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ، مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى، وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يُخَصَّ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَسْتَحْسِنَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد   = أكثر الأصوليين-، وأبو حنيفة يخصص العام والقياس بخبر الواحد، وكل منهما يرى صحة القياس الذي نقضت علته ونقضها هو إبداء الوصف المدعى عليته في المحل بدون وجود الحكم فيه، ويعبر عنه بتخصيص الوصف، كقول الشافعي فيمن لم يبيت النية: "الصوم تعرى أوله عنها فلا يصح"، فجعل العلة للبطلان عرو أوله عنها، فيقول الحنفي: تنتقض العلة بصوم التطوع، فوجدت فيه العلة مع عدم الحكم وهو البطلان، قال الأصوليون: إن النقض إذا كان ورادًا على سبيل الاستثناء لا يقدح في القياس، وذلك بأن كان ناقضًا لجميع العلل، مخالفًا للقياس في جميع المذاهب، كبيع الرطب في العرية، فإنه ناقض لعلة حرمة الربا، التي هي الطعم أو القوت أو الكيل أو المال، ولا زائد على هذه الأربعة، وكل منها موجود في بيع العرايا المذكور، ولم يحرم هذا البيع فيها، والإجماع على أن العلة لا تخرج عنها، فدلالته على العلية أقوى من دلالة النقض على عدم العلية، وأما إن لم يكن واردًا على طريق الاستثناء، ففيه أربعة أقوال: أولها يقدح في العلة، ويبطل القياس مطلقًا منصوصة أو مستنبطة، كان التخلف لمانع أو لغير مانع، وعليه أكثر أصحاب الشافعي والشافعي نفسه في أظهر قوليه، ولذلك قال بعض الحنفية: إن قياس الشافعي أقوى الأقيسة لسلامة علله من الانتقاض، وثانيها لا يقدح مطلقًا، وعليه مالك وأحمد وأبو حنيفة، وثالثها يقدح في المستنبطة دون المنصوصة، ورابعها لا يقدح إذا وجد مانع من تعميم القياس، واختار ابن الحاجب أنه لا يصح تخصيص المستنبطة إلا إذا وجد مانع، وإن كانت منصوصة، صح تخصيصها بالنص المنافي لحكمها، فيقدر المانع في صورة التخلف، ووجهه قياس تخصيص العلة على تخصيص العام جمعًا بين الدليلين، فإن احتجت للأمثلة، فعليك بكتب الأصول وبما حررناه على قاعدة الاستحسان أولًا وآخرًا يتضح المقام. "د". قلت: اختلاف الأصوليين في كون النقض قادحًا في الوصف المدعي عليته أوسع مما ذكره الشارح، وأوصله الزركشي في "البحر المحيط" "3/ 271" إلى ثلاثة عشر قولًا، وانظر: "المعتمد" "2/ 1041"، و"المسودة" "412-415"، و"البرهان" "2/ 999-1001"، و"الإحكام" "3/ 208" للآمدي، و"نشر البنود" "2/ 210-211"، و"مسلم الثبوت" "2/ 277"، و"مباحث العلة في القياس عند الأصوليين" "555-573". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَيَرَيَانِ مَعًا تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ وَنَقْضَ الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيُّ لِعِلَّةِ الشَّرْعِ إِذَا ثَبَتَتْ تَخْصِيصًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَ هُوَ نَظَرٌ1 فِي مَآلَاتِ الْأَحْكَامِ، مِنْ غَيْرِ اقْتِصَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْعَامِّ وَالْقِيَاسِ الْعَامِّ". وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا. وَفِي "الْعُتَبِيَّةِ"2 مِنْ سَمَاعِ أَصْبَغَ فِي الشَّرِيكَيْنِ يَطَآنِ الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَتَأْتِي بِوَلَدٍ، فَيُنْكِرُ أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ الْآخَرِ، أَنَّهُ يَكْشِفُ مُنْكِرَ الْوَلَدِ عَنْ وَطْئِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي صِفَتِهِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِنْزَالُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَكَانَ كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْعَزْلَ مِنَ الْوَطْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، فَقَالَ أَصْبَغُ: إِنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً، فَلَعَلَّهُ غُلِبَ وَلَا يَدْرِي، وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي نَحْوِ هَذَا: "إِنَّ الْوِكَاءَ قَدْ يَتَفَلَّتُ"3. قَالَ: "وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْعِلْمِ قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ وَيَرْوِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ"4. فَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ غَيْرُ خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه   1 هذا ظاهر بالنسبة لاستحسان مالك في التخصيص بالمصلحة، أما استحسان أبي حنيفة الذي يخصص بقول الواحد من الصحابة، فالتخصيص ليس فيه نظر للمآل، وإنما هو بالنص الجزئي في مقابلة القياس الكلي أو في مقابلة العام. "د". 2 "4/ 154-155/ مع "الشرح". 3 انظر المسألة في: "البيان والتحصيل" "4/ 155"، و"الاعتصام" "2/ 943 - ط ابن عفان"، ومذاهب الصحابة والتابعين في "مصنف عبد الرزاق" "7/ 359-361"، و"السنن الكبرى" "10/ 263-364" للبيهقي، و"نصب الراية" "3/ 291-292". 4 انظره وتعليق المصنف في "الاعتصام" "2/ 138 - ط رشيد رضا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 نَظَرٌ إِلَى لَوَازِمِ الْأَدِلَّةِ وَمَآلَاتِهَا؛ إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْقِيَاسِ هُنَا كَانَ الشَّرِيكَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا يَعْزِلَانِ أَوْ يُنْزِلَانِ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ لَا حُكْمَ لَهُ إِذْ أُقِرَّ بِالْوَطْءِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَزْلِ وَعَدَمِهِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ، لَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مَعَ الْإِنْزَالِ وَلَا يَكُونُ مَعَ الْعَزْلِ إِلَّا نَادِرًا، فَأَجْرَى الْحُكْمَ عَلَى الْغَالِبِ1، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرِ2 الْمَآلَ فِي جَرَيَانِ الدَّلِيلِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْإِنْزَالِ، وَقَدْ بَالَغَ أَصْبَغُ فِي الِاسْتِحْسَانِ حَتَّى قَالَ: "إِنَّ الْمُغْرِقَ فِي الْقِيَاسِ يَكَادُ يُفَارِقُ السُّنَّةَ3 وَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ عِمَادُ الْعِلْمِ"، وَالْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ تُعَضِّدُ4 مَا قَالَ. وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا تُسْتَمَدُّ قَاعِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَاجِيَّةِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّةِ إِذَا اكْتَنَفَتْهَا مِنْ خَارِجٍ أُمُورٌ لَا تُرْضَى شَرْعًا، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ التَّحَفُّظِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ5، كَالنِّكَاحِ الَّذِي يَلْزَمُهُ طَلَبُ قُوتِ العيال مع ضيق طرق الحلال   1 قال: وهل مع وجود الغالب يصح أن يكون القياس التسوية، حتى يدعى أن هذا تخصيص للقياس بالمصلحة المبينة على النظر للمآل؟ أم الأحكام تبنى على العادة المستمرة أو الغالبة في مجرى عادة الله في خلقه، ولا محل لأصل التسوية هنا حتى تحتاج إلى الاستحسان؟ وبالجملة، فإنك تجد عند التأمل أن المؤلف تارة يبني كلامه على فهم أن الاستحسان تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وتارة يجعله عامًا كما يعلم بتتبع عباراته من أول كلامه في الاستحسان إلى آخره. "د". 2 في "ط": "فلم يعتبر". 3 عزاه في "الاعتصام" "2/ 138 - ط رضا" لمالك، وفيه: "إن المفرق ... " بالفاء، وكذا أيضًا في طبعة عفان "2/ 638". 4 عرفت ما فيه. "د". 5 الأمثلة المذكورة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو دون ذلك كشهود الجنائز، وكان قد فصل بين هذه المراتب في "1/ 181، 3/ 232-233". وانظر ما علقناه هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وَاتِّسَاعِ أَوْجُهِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يُلْجِئُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الِاكْتِسَابِ لَهُمْ بِمَا لَا يجوز، ولكنه1 غير مانع لما يؤول إِلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْمُرْبِيَةِ2 عَلَى تَوَقُّعِ مَفْسَدَةِ التَّعَرُّضِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ مِثْلُ هَذَا فِي النِّكَاحِ فِي مِثْلِ زَمَانِنَا، لَأَدَّى إِلَى إِبْطَالِ أَصْلِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِهِ مَنَاكِرُ يَسْمَعُهَا وَيَرَاهَا، وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ وَإِقَامَةُ وَظَائِفَ شَرْعِيَّةٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِقَامَتِهَا إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ مَا لَا يُرْتَضَى، فَلَا يُخْرِجُ هَذَا الْعَارِضُ تِلْكَ الْأُمُورَ عَنْ أُصُولِهَا؛ لِأَنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُ الْمَصَالِحِ وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمهما3 حَقَّ الْفَهْمِ، فَإِنَّهَا مَثَارُ اخْتِلَافٍ وَتَنَازُعٍ، وَمَا يُنْقَلُ4 عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ قَضَايَا أَعْيَانٌ لَا حُجَّةَ فِي مُجَرَّدِهَا حَتَّى يُعْقَلَ مَعْنَاهَا، فَتَصِيرَ إِلَى مُوَافَقَةِ مَا تَقَرَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ مَآلَاتِ الْأَعْمَالِ، فَاعْتِبَارُهَا لَازِمٌ فِي كُلِّ حكم على الإطلاق، والله أعلم.   1 أي: هذا اللازم غير مانع من النكاح، وقوله: "لما يؤول" تعليل لكونه غير مانع، وقوله "من المفسدة" بيان لما يؤول، وقوله: "ولو اعتبر" شرح للمفسدة التي يؤول إليها التحرز. "د". 2 أي: الزائدة على المفسدة التي تتوقع من التعرض، وذلك أنه يتوقع من نكاحه مفسدة هي التعرض للكسب الحرام، لكنا لا نمنعه من النكاح نظرًا لما يؤول إليه التحرز من تلك المفسدة، فإن التحرز منها يؤول إلى الوقوع في مفسدة أشد، وهي خشية الزنا، بل وإبطال أصل النكاح، وهو ضروري أو حاجي، فاغتفر الأول خشية الوقوع في هذا المآل الذي هو أشد ضررًا من التعرض. "د". 3 في "ط": "ها هنا فهمهما". 4 من أنهم كانوا يتركون الجنائز وأمثالها من فروض الكفاية، وبعضهم كان يترك الجماعات خشية المناكر التي تعترض في طريق القيام بها، كما يروى عن مالك أنه ترك الجماعات وغيرها للمناكر، ولكنه عند التحقيق ظهر أن تركها لسلس أصابه خشي منه على طهارة المسجد، فصارت بهذا قضيته العينية موافقة لما تقرر. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَحَالِّ الْخِلَافِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَقَعْ هُنَالِكَ تَفْصِيلٌ، وَقَدْ أَلَّفَ ابْنُ السَّيِّدِ كِتَابًا1 فِي أَسْبَابِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَحَصَرَهَا فِي ثَمَانِيَةِ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: الِاشْتِرَاكُ الْوَاقِعُ فِي الْأَلْفَاظِ، وَاحْتِمَالُهَا لِلتَّأْوِيلَاتِ، وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: اشْتِرَاكٌ فِي مَوْضُوعِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ2 كَالْقُرْءِ وَأَوْ3 فِي آيَةِ الحرابة. واشتراك في أحواله العارضة في التصريف، نَحْوَ: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} 4 [الْبَقَرَةِ: 282] .   1 بعنوان: "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم"، وهو مطبوع. 2 وهذا القسم نوعان: اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة، واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة: انظر: "التنبيه" "ص12". 3 وهي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ؛ فإنه اختلف في حرف "أو" فيها: هل هو للتخيير، أو للتفصيل على حسب جناياتهم، أو "هي" للتخيير في البعض والتفصيل في البعض "الآخر". "ف" و"م". وكتب "د" هنا ما نصه: "قال البناني محشي "جمع الجوامع": التحقيق أنها لأحد الشيئين أو الأشياء، وهذه المعاني إنما تأتي من السياق والقرائن، وعليه فلا اشتراك". 4 فإن الإدغام جعل الكلمة محتملة لأن يقع الإضرار من الكتاب بالنقص والزيادة بناء على أن الأصل "يضارر" بالكسر، وبه قرأ عمر، فنهوا عن ذلك، ويحتمل الفتح أي: لا يجوز أن يقع الإضرار عليهما بمنعهما عن أعمالهما وتعطيل مصالحهما، وبه قرأ ابن مسعود، أي: بالفك والفتح وما أجمل موقع هذا الإدغام الذي كان غاية الإيجاز بتضمنه المعنيين معًا، فلا محل لأن يكون الخلاف حقيقًا. "د". قلت: انظر: "التنبيه" "ص32"، و"المحتسب" "1/ 148" لابن جني، و"مختصر الشواذ" "ص15" خالويه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 وَاشْتِرَاكٌ مِنْ قِبَلِ التَّرْكِيبِ، نَحْوَ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} 1 [فَاطِرٍ: 10] . {وَمَا قَتَلُوهُ2 يَقِينًا} [النِّسَاءِ: 157] . وَالثَّانِي دَوَرَانُ اللَّفْظِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، نَحْوَ حديث النزول3، {اللَّهُ نُورُ   1 أي: فإنه لولا وقوع الضميرين في يرفعه قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقوله: {وَالْعَمَل الصَّاْلِحُ} ما جاء الاختلاف في فاعل يرفع: هل هو الكلم، أم العمل؟ وكذلك ضميره البارز المفعول، هل هو الكلم، أم العمل؟ والكلم الطيب هو التوحيد على رأي الأكثر، والأعمال الصالحة الأقوال، والأفعال غير الإيمان، فأيهما يرفع الآخر ويقويه ويزكيه أو يجعله مقبولًا؟ وانظر في تسمية مثل هذا اشتراكًا مع أنه لا بد فيه من الوضع للمعنيين أو المعاني، فهل مجرد الاحتمال في الضميرين لوجود ما يقتضيهما في التركيب يسمى اشتراكًا؟ "د". قلت: انظر "التنبيه" "38-39". 2 مثل سابقه، فقد تقدم قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} ، وتقدم لفظ: "عِيْسَىْ"، فهل الضمير في قتلوه لعيسى كما هو الظاهر، أم للعلم؟ أي: ما قتلوا العلم يقينًا، من قولهم: قتلت العلم والرأي إذا بالغت فيه وهو مجاز كما في "الأساس" "ص355"، وأيضًا فلفظ "يقِينًا" قيد وقع بعد نفي ومنفي، فهل يرجع للنفي، أي النفي متيقن به، أم للمنفي؟ أي: القتل المتيقن ليس حاصلًا عندهم، بل هو ظن فقط، فيكون مؤكدًا لقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنّ} ، وما جاء هذا إلا من التركيب وكون القيد وقع فيه بعد أمرين صالحين لعوده إليهما. "د". قلت: الجمهور يرون أن الضمير في "قَتَلُوهُ" عائد إلى المسيح عليه السلام، وقال الفراء وابن قتيبة: "الضمير عائد على العلم"، وانظر: "التنبيه" "ص49"، و"البحر المحيط" لأبي حيان "3/ 391"، و"الكشاف" "1/ 588". 3 مضى لفظه وتخريجه والتعليق عليه في "2/ 445"، وأنكر ابن السيد في "التنبيه" "ص = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1 [النور: 35] .   = 66" هذه الصفة لله عز وجل، ونسب إلى مالك أنه قال في الحديث: "ينزل أمره في كل سحره"، وهذا تأويل مكذوب على الإمام مالك، والمحفوظ عنه خلافه، وانظر في تفصيل ذلك: "شرح حديث النزول" "182"، و"التمهيد" "7/ 143" لابن عبد البر، و"السير" "8/ 105"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 261"، و"الردود والتعقبات" "93-97"، وصنيع المصنف عفى الله عنا وعنه في تلخيص كلام ابن السيد، وذكره هذا المثال والذي يليه على وجه الخصوص في التمثيل على دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ينبئ على أشعريته في الصفات، وتقدم أمثلة كثيرة تدلل على ذلك أيضًا، وهذا يخالف ما كتبه أخونا الشيخ سليم الهلالي في تعليقه على "الاعتصام" "1/ 305" من أن "من تتبع عقيدة المصنف رحمه الله من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره"!! 1 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص74-75": "وما غلطت فيه المجسمة أيضًا قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فتوهموا أن ربهم نور -تعالى الله عن قول الجاهلين-، وإنما المعنى: الله هادي أهل السموات والأرض، والعرب تسمي كل ما جلى الشبهات، وأزال الالتباس، أوضح الحق: نورًا". قلت: كلام ابن السيد في تأويل هذه الآية شبيه بما قاله المازري في "المعلم بفوائد مسلم" "1/ 304"، والقاضي عياض في "إكمال المعلم" "806"، والنووي في "شرح صحيح مسلم" "3/ 12-13 و6/ 54"، وهذا التأويل قائم على أن النور من فعله سبحانه وتعالى، وإلا، فالنور الذي هو من أوصافه قائم به أيضًا، وحمل الآية عليه من باب أولى، وفي هذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص10": "سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه: نورًا يتلألأ، قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "النور: 35"، وقد فسر بكونه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا، فالنور الذي هو من أوصافه، قائم به، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى، والنور يضاف إليه سبحانه على وجهين: - إضافة صفة إلى موصوفها. - وإضافة مفعول إلى فاعله. فالأول كقوله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "الزمر: 69"، فهذا إشراقها يوم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 وَمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْوَالِهِ، نَحْوَ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 1 [سَبَأٍ: 33] وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الْخِلَافِ.   القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت"، "أخرجه ابن جرير في "التاريخ" "2/ 345"، والطبراني في "الكبير" بإسناد رجاله ثقات، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، ومن أجلها وللإعضال الذي فيه ضعفه شيخنا الألباني في تخريجه لـ"فقه السيرة" "ص132"، وفي "معجم الطبراني" و"السنة" له، و"كتاب عثمان بن سعيد الدارمي" وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"، "أخرجه ابن منده في "الرد على الجهمية" "99". وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنها منور السماوات والأرض، فلا تتنافى بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها" انتهى. فقول ابن السيد رحمه الله وغيره: "ولا يصح أن يكون النور صفة ذات الله تعالى، وإنما هو صفة فعل" غير صحيح، والصواب ما ذكره ابن القيم آنفًا، من صحة إضافة "النور" إلى ذات الله عز وجل، دل على هذا القرآن في قوله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "الزمر: 69". وقد أحسن العلامة عبد الرحمن السعدي عندما قال في "تفسيره" "5/ 419" عند تفسير قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ما نصه: "الله نور السماوات والأرض، الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش والكرسي، والشمس والقمر والنور، وبه استنارت الجنة، وكذلك المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور". ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه أسهب في إثبات هذه الصفة لله عز وجل، وبين أنها متعلقة بذاته عز وجل، فضلًا عن أفعاله، وأورد شبه المخالفين وفندها بما لا مزيد عليه في مواطن من "مجموع الفتاوى" له، انظر منها: "5/ 73-74، 6/ 374-379، 382-396، 20/ 468-469"، وكذا تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه البديع: "الصواعق المرسلة" "2/ 191 وما بعدها-مختصره"، و"التفسير القيم" "374". 1 أي: أن ما تقدم يظهر فيه كونه سببًا للخلاف، وهذا لم يبين فيه، وليس بظاهر سببيته = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 وَمَا يَرْجِعُ إِلَى جِهَةِ التَّرْكِيبِ، كَإِيرَادِ الْمُمْتَنِعِ بصورة الممكن1، ومنه:   = للخلاف في مثل الآية، فسواء أكان من الإضافة للظرف أم للفاعل، فالمعنى لا يختلف إلا من جهة أنه حقيقة أو مجاز، فإن كان الأصل مكركم بناء في الليل والنهار، فحذف المضاف إليه وحل محله الظرف اتساعًا كان حقيقة، وإن كان الإسناد إلى الظرف، كان مجازًا علقيًّا، ولم يوجب الدوران اختلافًا في المعنى. "د". قلت: انظر: "التنبيه" "ص80". 1 لعله سقط هنا لفظ: "وعكسه"، ويكون قوله: "ومنه"، أي: من العكس؛ لأنه إيراد للممكن في صورة الممتنع، أو أن قوله: "كإيراد ... إلخ" مقدم من تأخير، وموضعه بعد قوله: "وعكسها" الراجع لسائر ما ذكره من أنواع ما يرجع إلى جهة التركيب، فيكون مثالًا لأول نوع من العكس، وهذا كله على حمل كلمة "قدر" على أنه من القدرة، فيكون مما استعمل فيه إن في مقام الجزم تجاهلًا للحيرة أو الخوف، أو مما نزل فيه المخاطب منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، أما إن حملت على أنها بمعنى ضيق كما في قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} "الأنبياء: 87"، أو أنه قدر المضاعف، فلا يكون مما نحن فيه. "د". قلت: كلام ابن السيد في "التنبيه" "ص91 وما بعدها"، يدل على صحة السياق المذكور وعلى عدم وجود سقط فيه، فإنه قال "ص89": "وأما ورود الممتنع بصورة الممكن ... ". وذكر أمثلة، ثم قال: "ومن هذا قول الرجل المحرق لبنيه: "إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اذروا رمادي في اليم، فلعلي أضل الله، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً"، قال: "ألا ترى أنه قد أخرج ما قد تحقق أنه لا يكون مجرج ما يرجي أن يكون، تقللاً بذلك، واستراحة إليه". ثم قال شارحًا الحديث: "فمعناه: فوالله لئن ضيق الله علي طرق الخلاص ليعذبني، وليس يشك في قدرة الله، ولو شك في قدرته لكان كافرًا، وإنما هو كقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} "الأنبياء: 87"، وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} "الطلاق: 7"، أي: ضيق"، ثم قال: "ويجوز أن يكون من "القدر" الذي هو القضاء، فيكون معناه: فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني العذاب، فحذف المفعول اختصارًا"، ثم قال: " ... وقد يجوز أن يكون قوله: "فوالله لئن قدر الله علي، من القدرة على الشيء ... ، فمعناه على هذا: فوالله إذا قدر الله علي ليعذبني عذابًا شديدًا"، وإنما جاز وقوع إن التي للشرط موقع إذا الزمانية؛ لأن كل واحدة منهما تحتاج إلى جواب". قلت: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 409-410": " ... = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 "لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ" الْحَدِيثَ1، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا2 يُورَدُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ بِصُورَةِ غَيْرِهِ، كَالْأَمْرِ بِصُورَةِ الْخَبَرِ وَالْمَدْحِ بِصُورَةِ الذَّمِّ، وَالتَّكْثِيرِ بِصُورَةِ التَّقْلِيلِ، وَعَكْسُهَا. وَالثَّالِثُ: دَوَرَانُ الدَّلِيلِ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ كَحَدِيثِ3 اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شبرمة في مسألة البيع والشرط4،   = ومن تأول قوله: "لئن قدر الله علي" بمعنى: قضى، أو بمعنى: ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: "إذا أنا مت، فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى، يدل على أنه سبب لها، وأنه فعل ذلك، لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة به؛ ولأن التقدير عليه والتضييق موافقات للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا لأن يقدر الرب". والمقصود أن هذا الرجل دخل الجنة مع صدور الكفر منه، ولكنه عذر بالجهل، ومن تتبع الأحاديث الصحيحة، وجد فيها من هذا الجنس الكثير مما يوافقه، ولتفصيل هذا موطن آخر، وهو كتب العقيدة، وانظر: "من قصص الماضيين" "ص246-247". 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، رقم 3481، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، رقم 7506"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، رقم 2756"، ومالك في "الموطأ" "1/ 240" وغيرهم عن أبي هريرة. وفي الباب عن أبي سعيد وحذيفة ومعاوية بن حيدة وأبي بكر الصديق وأبي مسعود الأنصاري وسلمان الفارسي، خرجتها في كتابي "من قصص الماضين" "ص239-243". 2 في "م": "بما". 3 سيأتي في المسألة الثالثة عشرة "ص231"، فإن كلا منهم أخذ بحديث لم يتبين فيه أنه مستقل بإنتاج حكم المسألة، أو محتاج إلى ضم غيره إليه حتى ينتج، فكان ذلك سببًا لاختلافهم. "د". 4 فقد وردت فيها أحاديث متعارضة، كحديث جابر: "ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا، = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 وَكَمَسْأَلَةِ1 الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَالِاكْتِسَابِ. وَالرَّابِعُ: دَوَرَانُهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، نَحْوَ: {لَا إِكْرَاهَ فِي2 الدِّين} [البقرة: 256] .   = وشرط ظهره إلى المدينة"، وحديث بريرة: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل"، وحديث جابر في النهي عن بعض البيوع والترخيص في العرايا، وحديث النهي عن بيع وشرط، ولتعارضها اختلف العلماء في بيع وشرط، فأبو حنيفة والشافعي ذهبا إلى فساد البيع والشرط، وابن شبرمة ذهب إلى جوازهما، وابن أبي ليلى ذهب إلى جواز البيع وفساد الشرط، وفصل مالك في الشروط، فمنهما ما يوجب بطلان البيع والشرط، ومنها ما يصح معه البيع والشرط، ومنها ما يصح معه البيع دون الشرط، فكل دليل من هذه الأدلة أصبح محتملًا للاستقلال بالحكم وعدمه. "ف" و"م". قلت: مضى تخريج بعض الأحاديث المشار إليها، وانظر حديث جابر: "ابتاع مني ... " في "صحيح البخاري" "رقم 2097"، وحديث بريرة في "1/ 427"، وحديث جابر في الترخيص في العرايا في "صحيح البخاري" "رقم 2192"، وحديث النهي عن بيع وشرط في "1/ 469". 1 فكل قائل لشيء منها استند إلى دليل لم يلاحظ فيه دليل غيره، وهو ظاهر في دليل الجبريين والقدريين، أما الاكتساب، فقد لاحظ صاحبه سائر الأدلة. "د". قلت: انظر "التنبيه" "ص134"، والكسب هو مذهب الأشاعرة، ومداره عندهم على الإرادة التى تحصل عند الفعل، وهو الاقتران العادي بين القدرة الحادثة والفعل، وأن الله سبحانه أجرى عادته بخلق أفعاله عند إرادة العبد، انظر: "شرح جوهرة التوحيد" "104"، و"أصول الدين "133-134" للبغدادي، و"روضة الطالبين وعمدة السالكين" "ص31-32، 34-35" للغزالي، وانظر رده في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "30/ 139"، و"ابن حزم وموقفه من الإلهيات" "421-423". 2 هل هو خبر حقيقي؟ أي: لا يتصور الإكراه فيه بعد دلائل التوحيد، وما يظهر إكراهًا، فليس في الحقيقة بإكراه، أم هو خبر بمعنى النهي؟ أي: لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه، وعليه فهو عام منسوخ بآية: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} "التوبة: 73"، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية، والآية على الوجه الثاني صالحة للتمثيل بها للقسم الثالث مما يدور اللفظ فيه بين الحقيقة والمجاز، ولدورانه بين العموم والخصوص، ولدعوى النسخ وعدمه. "د". قلت: انظر: "التنبيه" "ص155-156". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1 [الْبَقَرَةِ: 31] . وَالْخَامِسُ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ، وَلَهُ ثَمَانِي عِلَلٍ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا2. وَالسَّادِسُ: جِهَاتُ3 الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ. وَالسَّابِعُ: دَعْوَى النسخ وعدمه4.   1 هل هي أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، أم اللغات، أم أسماء الله، أم أسماء الأشياء علوية وسفلية؛ لأنه الذي يقتضيه مقام الخلافة؟ فاللفظ صالح للعموم والخصوص، ولا يلزم أن يكون مجازًا عند الخصوص في هذا. "د". قلت: كلام ابن السيد في "التنبيه" "ص156-157" له وجه آخر غير الذي ذكره المصنف والمعلق، قال رحمه الله: "ومن هذا الباب قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "العلق: 5"، ذهب قوم إلى أنه خصوص، واختلفوا في حقيقة ذلك، فقال بعضهم: أراد آدم عليه السلام، واحتجوا بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} "البقرة: 31"، وقال بعضهم: أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقوله عز وجل: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} "النساء: 113"، وقال آخرون: هي عموم في جميع الناس، وهو صحيح". قلت: ومنه تعلم ما في صنيع المصنف من اجتزائه الآية المذكورة على وجه مخل من السياق المذكورة فيه، وكذا تكلف المعلق، والله الموفق. 2 انظر: "ص140-141". 3 الاختلاف في أصل القياس وشروطه وما يجري فيه الاجتهاد وما لا يجري فيه الاجتهاد، وما لا يجري فيه شهير، وينبني عليه الاختلاف في نفس الأحكام المستنبطة. "د". قلت: لا يخرج ما عند ابن السيد في "التنبيه" "ص213" على المذكور هنا. 4 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص217-218": "الخلاف العارض من هذا الموضع يتنوع أولًا نوعين: أحدهما: خلاف عارض بين من أنكر النسخ ومن أثبته، وإثباته هو الصحيح، وجميع أهل السنة مثبتون له، وإنما خالف في ذلك من لا يلتفت إلى خلافه؛ لأنه بمنزلة دفع الضرورات وإنكار العيان. والنوع الثاني: خلاف عارض بين القائلين بالنسخ، وهذا النوع الثاني ينقسم ثلاثة أقسام: أحدهما: اختلافهم في الأخبار، هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر والنهي، أم لا؟ والثاني: اختلافهم، هل يجوز أن تنسخ السنة والقرآن، أم لا. والثالث: اختلافهم في أشياء من القرآن والحديث، يذهب بعضهم إلى أنها نسخت، وبعضهم إلى أنها لم تنسخ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 وَالثَّامِنُ: وُرُودُ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوهٍ تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ وَغَيْرَهَا كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَوُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ1. هَذِهِ تَرَاجِمُ مَا أَوْرَدَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي كِتَابِهِ، وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فَعَلَيْهِ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَ جَمِيعُ مَا ذَكَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَبَيَّنَ بِهِ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فيها، وبالله التوفيق.   1 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص221": "هذا النوع من الخلاف يعرض من قبل أشياء وسع الله فيها -عز وجل- على عباده، وأباحها لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كاختلاف الناس في الأذان ... ". قلت: وهذا يطلق عليه ابن قتيبة في "تأويل القرآن" "24، 33" وكذا ابن تيمية في "رفع الملام" و"مقدمة في أصول التفسير": "اختلاف تنوع"، وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص59". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: مِنَ الْخِلَافِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْخِلَافِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنَ الْأَقْوَالِ خَطَأً مُخَالِفًا لِمَقْطُوعٍ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْخِلَافَ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَتَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ يَنْقُلُونَ عَنِ السَّلَفِ فِي مَعَانِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً فِي الظَّاهِرِ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَهَا وَجَدْتَهَا تَتَلَاقَى1 عَلَى الْعِبَارَةِ كَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَالْأَقْوَالِ إِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهَا وَالْقَوْلُ بِجَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِمَقْصِدِ الْقَائِلِ، فَلَا يَصِحُّ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهَا عَنْهُ، وَهَكَذَا يُتَّفَقُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوَى الْأَئِمَّةِ وَكَلَامِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَجِبُ تَحْقِيقُهُ، فَإِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا خِلَافَ فِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ خَطَأٌ، كَمَا أَنَّ نَقْلَ الْوِفَاقِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ لَا يَصِحُّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلِنَقْلِ الْخِلَافِ هنا2 أسباب:   1 أي: يمكن التعبير عنها بعبارة واحدة كما هو شأن المعنى الواحد. "د". قلت: انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 58، 390-391 و13/ 333، 340، 381-383 و19/ 139-140"، و"توجيه النظر" "1/ 44 - ط المحققة"، وفيه تفصيل لفائدة مثل هذا الاختلاف من رسوخ المسألة في النفس ووضوح أمرها ما لا يكون في العبارة الواحدة، على أن بعض العبارات ربما كان فيها شيء من الإبهام أو الإيهام، فيزول ذلك بغيرها، وقد يكون بعضها أقرب إلى فهم بعض الناظرين، فكثيرًا ما تعرض عبارتان متحدتان المعنى لاثنين، تكون إحداهما أقرب إلى فهم أحدهما، والأخرى أقرب إلى فهم الآخر، وهذا مشاهد بالعيان. 2 أي: لنقل الخلاف في الضرب الثاني الذي ليس في الحقيقة بخلاف أسباب أوقعت الناقلين في نقله خلافًا، فالعبارة جيدة لا تحتاج إلى زيادة لفظ كما قيل. "د". قلت: وهو ما رد على ما قاله "ف": "لعله له أسباب". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 أَحَدُهَا: أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَيَكُونَ ذَلِكَ الْمَنْقُولُ بَعْضَ مَا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ، ثُمَّ يَذْكُرَ غَيْرَ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ أَيْضًا، فَيَنُصُّهُمَا الْمُفَسِّرُونَ عَلَى نَصِّهِمَا، فَيُظَنُّ أَنَّهُ خِلَافٌ، كَمَا نَقَلُوا فِي الْمَنِّ أَنَّهُ خُبْزُ رُقَاقٍ، وَقِيلَ: زَنْجَبِيلٌ، وَقِيلَ: التَّرَنْجَبِينُ وَقِيلَ: شَرَابٌ مَزَجُوهُ بِالْمَاءِ، فَهَذَا كُلُّهُ يَشْمَلُهُ1 اللَّفْظُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ"2، فَيَكُونُ الْمَنُّ جُمْلَةَ نِعَمٍ، ذَكَرَ النَّاسُ مِنْهَا آحَادًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ فِي النَّقْلِ أَشْيَاءُ تَتَّفِقُ فِي الْمَعْنَى بِحَيْثُ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ فِيهَا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَيُوهِمُ نَقْلُهَا عَلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ أَنَّهُ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ، كَمَا قَالُوا فِي السَّلْوَى إِنَّهُ طَيْرٌ يُشْبِهُ السِّمَانِيَّ وَقِيلَ: طَيْرٌ أَحْمَرُ صِفَتُهُ كَذَا، وَقِيلَ: طَيْرٌ بِالْهِنْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَنِّ: شَيْءٌ يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ فَيُؤْكَلُ وَقِيلَ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ، وَقِيلَ: التَّرَنْجَبِينُ وَقِيلَ: مِثْلُ رُبٍّ غَلِيظٍ وَقِيلَ: عَسَلٌ جَامِدٌ، فَمِثْلُ هَذَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فِيهَا3.   1 أي: وإن كان أنواعًا متغايرة في المعنى، بخلاف ما قيل في المن في السبب الثاني، فإنه اختلاف في مجرد العبارة، والمعنى واحد. "د". قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 343". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة ومداواة العين بها، 3/ 1620/ رقم 2049 بعد 159" عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، وتتمته: "وماؤها شفاء للعين". وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ... 8/ 163/ رقم 4478، وباب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ... } / 303/ رقم 4639، وكتاب الطب، باب المن شفاء العين 10/ 163/ رقم 5708" عنه مختصرًا بلفظ: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". 3 انظر في هذا: "مجموع الفتاوى" "13/ 341-342 و19/ 139-140". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وَالثَّالِثُ: أَنْ يُذْكَرَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عَلَى تَفْسِيرِ اللُّغَةِ، وَيُذْكَرَ الْآخَرُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَعْنَوِيِّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَقْرِيرِ الْإِعْرَابِ1 وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى، وَهُمَا مَعًا يَرْجِعَانِ إِلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ اللُّغَوِيَّ رَاجِعٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالْآخَرَ2 رَاجِعٌ إِلَى تَقْرِيرِ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِين} [الْوَاقِعَةِ: 73] ، أَيِ: الْمُسَافِرِينَ، وَقِيلَ: النَّازِلِينَ بِالْأَرْضِ الْقِوَاءِ وَهِيَ الْقَفْرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} [الرَّعْدِ: 31] ، أَيْ: دَاهِيَةٌ تَفْجَؤُهُمْ3، وَقِيلَ: سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْبَاهُ ذلك.   1 وانظر لم أطلق على بيان المعنى الوضعي إعرابًا؟ "د". قال: "ف": "لعله: "تقرير الإعراب"، وكذا ما بعده". قلت: لأنه ورد في الأصل، وفيه وفي "ماء" و"ط": "تقدير". 2 هذا الآخر مبني على الأول، ففي المثال الأول المسافرون لازم عرفًا للنازلين بالأرض القفر ألجأتهم الضرورة إلى النزول فيها، فيكون بهذا الاعتبار مجازًا، وسيأتي في السبب الثامن، فإن كان على اعتبار معنى المسافرين تحقيق فيه الكلي، فيكون حقيقة، لكنه يكون من السبب الأول، وكذا المثال الثاني، فإن كان باعتبار أنه يلزم من وصول السرية إليهم قرعهم ورميهم بالأمر العظيم، فمجاز، وإن كان باعتبار أن السرية جزئي من القارعة تحققت فيه، فحقيقة، ويلزمهما ما، لزم سابقهما، فلم يأت بمثال يحقق أن هذا سبب ثالث مستقل عن الأسباب الأخرى، إلا أن يقال: إنه يقصد المعنى الاستعمالي الذي تقدم له في المسألة الثالثة من العموم والخصوص، وأن المعنى الاستعمالي الذي يفهم بواسطة القرائن والمقامات ومقتضيات الحال يكون حقيقة أشبه بالحقيقة الشرعية، وعليه يكون تقرير الكلام على أصل الوضع حقيقة، وتقريره بحسب المقاصد الاستعمالية حقيقة أيضًا، فيكون هذا السبب الثالث مغايرًا للأول وللثامن، راجع المسألة المشار إليه ليتضح غرضه ويستقيم كلامه. "د". 3 القارعة من القرع، وهو ضرب الشيء بالشيء، استعملت مجازًا في الداهية المهلكة، كما في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ} "القارعة: " 1-2"، وفي "البيضاوي" "أي: داهية تقرعهم وتقلعهم"، فاللفظ محرف على كل حال!! "د". قلت: وقع عنده وفي "ط" "تفجوهم" من غير همز، فقال: "محرف"، فتنبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 والرابع: أن لا يَتَوَارَدَ الْخِلَافُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، كَاخْتِلَافِهِمْ1 فِي أن المفهوم له عموم أولا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَخْتَلِفُ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ2 أَنَّهُ عَامٌّ فِيمَا سِوَى الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَالَّذِينَ نَفَوُا الْعُمُومَ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَيْضًا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ، عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، وَيُنْقَلُ فِيهَا الْأَقْوَالُ [على] 3 عَلَى أَنَّهَا خِلَافٌ. وَالْخَامِسُ: يَخْتَصُّ بِالْآحَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، كَاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَامِ الْوَاحِدِ، بِنَاءً عَلَى تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ وَالرُّجُوعِ عَمَّا أفتى به إلى خلافه،   1 على رأي بعض الكاتبين هنا يكون خلافًا حقيقيا مبينًا على خلاف حقيقي، فمن يعتبر المفهوم دليلًا شرعيًا يقول: يعم، ومن قال: ليس بدليل شرعي، يقول: لا عموم ولا خصوص؛ لأن المفهوم غير معتد به، حتى يقال: إنه يعم أو لا يعم، ولكن كلام المؤلف ليس في الخلاف بين القائلين بجعل المفهوم دليلًا شرعيًا وبين غيرهم، بل الخلاف بين فريق القائلين باعتبار المفهوم دليلًا شرعيًا أنفسهم، كما قال العضد في "شرح ابن الحاجب" "2/ 120"، وعبارته هكذا: "الذين قالوا بالمفهوم اختلفوا في أن له عمومًا أم لا، فقال الأكثر: له عموم، ونفاه الغزالي، وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف" اهـ. فقول المؤلف: "والذين نفوا العموم وأرادوا ... إلخ"، أي: الذين نفوه ممن قالوا بالمفهوم كالغزالي، ووجه كون ذلك لا يتحقق به خلاف مبسوط في "شرح العضد" و"حواشيه"، فليرجع إليه. "د". قلت: انظر الهامش الآتي والتعليق عليه. 2 أي: المتمسكون به في الاستدلال متفقون على عمومه فيما سوى المنطوق، بناء على أن العموم لا يختص بالألفاظ كما في قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم زكاة"، فلا زكاة عندهم في كل معلوفة، والنافون لعمومه يقولون بعدم اعتبار المفهوم في الاستدلال رأسًا، فالخلاف في عمومه، وعدمه لم يتوارد على محل واحد، وهو المفهوم المعتبر في الاستدلال نعم، الخلاف في كون المفهوم معتبرًا أو لا خلاف حقيقي. "ف". قلت: انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "31/ 105-110"، و"المحصول" "2/ 401"، و"البحر المحيط" "3/ 163" للزركشي. 3 ما بين المعقوفتين سقط "من "م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 فَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ خِلَافًا فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْإِمَامِ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي اطِّرَاحٌ مِنْهُ لِلْأَوَّلِ وَنَسْخٌ لَهُ بِالثَّانِي، وَفِي هَذَا مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَنَازُعٌ، وَالْحَقُّ فِيهِ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا1، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى أَعَمِّ مِمَّا ذُكِرَ كَأَنْ يَخْتِلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ2 فِي الْمُتْعَةِ وَرِبَا الْفَضْلِ، وَكَرُجُوعِ3 الْأَنْصَارِ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى مِثْلُ هَذَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ لَا فِي الْحُكْمِ، كَاخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ القراءات، فإنهم لم يقرؤوا به على إنكار غيره، بل على   1 على تفصيل تراه في: "إعلام الموقعين" "4/ 223"، و"البحر المحيط" "6/ 266" للزركشي، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص137-142 - ط الدار السلفية" للشيخ محمد الأشقر، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص215-216" لنادية العمري. 2 أنه رجع عن حلهما الذي كان مخالفًا فيه للجمهور إلى تحريمهما. "د". قلت: انظر في رجوع ابن عباس عن ربا الفضل في: "المعرفة والتاريخ" "3/ 27"، و"مصنف عبد الرزاق" "8/ 118-119"، و"التاريخ الكبير" "1/ 2/ 487"، و"المطالب العالية" "1/ 388-389"، "شرح معاني الآثار" "4/ 64-65"، و"الكفاية" "ص28"، و"الفقيه" والمتفقه" "1/ 140-143"، كلاهما للخطيب، و"ذكر أخبار أصبهان" "1/ 230"، و"المعجم الأوسط" "رقم 1561" للطبراني، و"الاعتبار" "ص248، 250" للحازمي، و"التمهيد" "4/ 74"، و"تاريخ واسط" "ص93"، و"فتح الباري" "4/ 381-382"، و"المغني" "4/ 1-3"، و"تحفة الأحوذي" "4/ 442". 3 تقدم له في المسألة الثانية عشرة من كتاب الأدلة في فتوى زيد بن ثابت ورفاعة بن رافع وكلام عمر معهما. "د". قلت: انظر تخريجها هناك "3/ 275". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 إِجَازَتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الِاخْتِيَارَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاخْتِلَافٍ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّاتِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْهَا لَا يَخْتَلِفُونَ1 فِيهَا. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَقَعَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِ الْوَاحِدِ عَلَى أَوْجَهٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ، وَيَبْنِي عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ خِلَافًا فِي التَّرْجِيحِ، بَلْ عَلَى تَوْسِيعِ الْمَعَانِي خَاصَّةً، فَهَذَا لَيْسَ بمستقر خلافً؛ إِذِ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْتِزَامِ كُلِّ قَائِلٍ احْتِمَالًا يُعَضِّدُهُ بِدَلِيلٍ يُرَجِّحُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ حَتَّى يَبْنِيَ عَلَيْهِ [دُونَ غَيْرِهِ] ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَالثَّامِنُ: أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَنْزِيلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَيَحْمِلُهُ قَوْمٌ عَلَى الْمَجَازِ مَثَلًا وَقَوْمٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْمَطْلُوبُ أَمْرٌ وَاحِدٌ2، كَمَا يَقَعُ لِأَرْبَابِ التَّفْسِيرِ كَثِيرًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} [يُونُسَ: 31] ، فَمِنْهُمْ مَنْ يحمل الحيات وَالْمَوْتَ عَلَى حَقَائِقِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُمَا عَلَى الْمَجَازِ، وَلَا فَرْقَ فِي تَحْصِيلِ الْمَعْنَى بَيْنَهُمَا، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَظَاهِرٌ لَهَا من يابس الشخت وبائس الشخت وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ 3، وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ4 فِيهِ: إِنَّ "بَائِسَ" وَ"يَابِسَ" وَاحِدٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم} [القلم: 20] ،   1 فلا يتأتى الاختلاف بينهم في المتواتر. "د". 2 أي: نحصل عليه على محمل، كما سيقول: "فلا فرق ... إلخ". "د". 3 أي: في المسألة الرابعة من النَّوْعُ الثَّانِي فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ للأفهام. "ف" و"م". قلت: انظره والتعليق عليه "2/ 133". 4 أي: حيث سائل أنشدت البيت أولًا بلفظ: "يائس"، ثم بلفظ: "بائس". "ف" و"م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 فَقِيلَ: كَالنَّهَارِ بَيْضَاءَ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَقِيلَ: كَاللَّيْلِ سَوْدَاءَ لَا شَيْءَ فِيهَا، فَالْمَقْصُودُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ شُبِّهَ بِالْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَتَلَاقَيَانِ. وَالتَّاسِعُ: أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ1 وَصَرْفِ الظَّاهِرِ عَنْ مُقْتَضَاهُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ، فَإِنَّ مَقْصُودَ كُلِّ مُتَأَوِّلٍ الصَّرْفُ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَى وَجْهٍ يَتَلَاقَى مَعَ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْوِيلِ2، وَجَمِيعُ التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي الظَّوَاهِرِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَتَقَعُ فِي غَيْرِهَا كَثِيرًا أَيْضًا، كَتَأْوِيلَاتِهِمْ3 فِي حَدِيثِ4 خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِنَاءً عَلَى رَأْيِ5 مَالِكٍ فيه، وأشباه ذلك.   1 أي: في تعين المراد، وإن اتفقوا على صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يساعد عليه الدليل، فالتأويل في كلامه بمعنى المآل كما في قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} "النساء: 59" "د". 2 هذا معنى التأويل عند المتأخرين بخلاف معناه عند السلف، انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 35-36 و13/ 278-291"، وكتاب محمد السيد الجليند "الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل". 3 وكيف لا يكون اختلاف الفهم الموجب لاختلاف الحكم الشرعي من مواضع الاختلاف الحقيقي؟ بل الوجه التاسع كله غير ظاهر في غرضه؛ لأنهم وإن اتفقوا على لزوم التأويل، إلا أنهم اختلفوا اختلافًا حقيقيًّا في المعنى المراد، ومجرد اتفاقهم على أصل التأويل لا يجعل نقل الخلاف خطأ كما يقول. "د". 4 وهو كم في "صحيح البخاري" "رقم 2107، 2109" عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار"، فالشافعية حملوه على التفرق بالأبدان، واعتمدوا عليه في إثبات خيار المجلس، والمالكية حملوه على التفرق بالأقوال، وهو الفراغ من العقد، فإذا تعاقدا، صح البيع، ولا خيار لهما إلا أن يشترطًا، وتسميتهما بالمتبايعين بمعنى المتساومين مجازًا، فلم يثبتوا خيار المجلس. "ف" و"م". قلت: انظر تخريجه "1/ 425، 3/ 197". 5 لم يأخذ مالك بظاهر الحديث، مع أنه راو له في بعض طرقه ورفعه، وأخذ بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، ومثل مالك في ترك العمل به أبو حنيفة وأصحابهما، وقد توسع الزرقاني على "الموطأ" "3/ 420-423" في نقل أدلة الطرفين وأبحاثها فيه. "د". قلت: وانظر ما مضى أيضًا حول هذه المسألة: "3/ 197". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وَالْعَاشِرُ: الْخِلَافُ فِي مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ مُتَّحِدٌّ1 كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ: هَلْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ خَاصَّةً، أَمْ ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ؟ فَهَذَا خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ2، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ3، وَكَذَلِكَ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِيهِمَا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى مُرَادِهِمْ فِيهِمَا. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ4 فِي مَسْأَلَةِ "الْوِتْرِ أَوَاجِبٌ هُوَ؟ ": "إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ تَرْكَهُ حَرَامٌ يُجَرَّحُ فَاعِلُهُ بِهِ، فَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مَعْنًى يَصِحُّ أَنْ تَتَنَاوَلَهُ الْأَدِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ5، وَقَالُوا: لَا يَحْرُمُ6 تَرْكُهُ وَلَا يجرح فاعله، فوصفه   1 انظر: في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 341-342". 2 يقولون في مثله: إنه خلاف في حال، وهو قسم ثالث غير الخلاف في العبارة المسمى خلافًا لفظيًا، فلعله أيضًا اصطلاح، والواقع أنه ليس خلافًا حقيقيًا على كل حال؛ لأنه لو نظر كل إلى ما نظر إليه الآخر لم يختلفا. "د". 3 إذ من جعل القسمة ثنائية أراد بالكذب ما قابل الصدق، ومن جعلها ثلاثية أراد به هو أخص من ذلك. "ف". 4 ونحوه له في "الإشراف" "1/ 106-107"، و"المعونة" "1/ 244"، و"التلقين" "1/ 79". 5 قلت: هكذا في الأصل و"د"، و"ف" و"م" و"ط": "لم يرد ذلك"، وكتب "ف": "لعله: "وإن لم يريدوا ذلك، وقالوا: لا يحرم ... " إلخ، وعلى هذا، فلا فرق بين الواجب عندهم والمسنون عند غيرهم في المعنى، ويكون تقسيم المطلوب فعله أكيدًا إلى فرض وواجب كتقسيم غيرهم إله إلى فرض وسنة". 6 وعلى هذا الوجه يصح كونه مثالًا لا على الوجه الأول الذي هو المعروف عند الحنفية في الوتر؛ لأن الوتر عندهم واجب يأثم المكلف بتركه، بل هو فرض عملي يفوت الجواز -أي = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 بِأَنَّهُ وَاجِبٌ خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ". وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الْعِبَارَاتِ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِيهَا حُكْمٌ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْخِلَافِ فِيهَا. هَذِهِ عَشَرَةُ أَسْبَابٍ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْخِلَافِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِ، لِيَقِيسَ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا، فَلَا يَتَسَاهَلُ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ1 الْإِجْمَاعِ. فَصْلٌ: وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْخِلَافِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْوِفَاقِ1 أَيْضًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ كَمَا تَبَيَّنَ قَبْلَ هَذَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي مَسَائِلِهَا رَاجِعٌ إِلَى دَوَرَانِهَا بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَاضِحَيْنِ أَيْضًا يَتَعَارَضَانِ فِي أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَى خَفَاءِ بَعْضِ الأدلة وعدم الإطلاع عليه.   = الصحة- بفوته، فلو شرع في الفجر ثم تذكر أن عليه الوتر، فسد الفجر، ووجب قضاء الوتر أولًا كما هو شأن الفرائض من حيث وجوب الترتيب للفوائت مع الحاضرة إذا كانت الفوائت ستًّا فأقل، والواجب الصرف عندهم هو ما ثبت بدليل ظني فيه شبهة، كقراءة السورة، وقنوت الوتر، وتكبيرات العيد، وهذه وأمثالها لا يفوت الجواز بفوتها، ولكن تركها عمدًا مؤثم، وسهوا مقتض لسجود السهو، فالخلاف بين المالكية وبينهم في الوتر خلاف حقيقي يصح أن تتناوله الأدلة. "د". قلت: انظر تفويت الجواز بفوت الوتر عند الحنفية في: "المبسوط" "2/ 87"، و"حاشية ابن عابدين" "1/ 95"، و"المطالب المنيفة" "ص46-47 - بتحقيقي". 1 أي: بإثباته الخلاف في محل الإجماع. "د". 2 أي: في التحري عن مقصد الشارع وإن كان الحكم الذي قرره كل منهما يخالف الآخر. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 أَمَّا هَذَا الثَّانِي، فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافًا؛ إِذْ لَوْ فَرَضْنَا اطِّلَاعَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ1 عَنْ قَوْلِهِ، فَلِذَلِكَ يُنْقَضُ لِأَجْلِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي. أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ تَحَرٍّ2 لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْمُسْتَبْهَمِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَاتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ الْمُرْشِدِ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِهِ، وَقَدْ تَوَافَقُوا فِي هَذَيْنِ الْقَصْدَيْنِ تَوَافُقًا لَوْ ظَهَرَ مَعَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا رَآهُ لَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَلَوَافَقَ صَاحِبَهُ فِيهِ، فَقَدْ صَارَ هَذَا الْقِسْمُ فِي الْمَعْنَى رَاجِعًا إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي3، فَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا فِي الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُ الْمُجْتَهِدِ عَمَّا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِغَيْرِ بَيَانٍ اتِّفَاقًا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب، إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على   1 وقد وقع ذلك من مالك وغيره من المجتهدين، فكل مجتهد منهم لقي مجتهدًا آخر، واطلع على أدلة لم تكن عنده رجع عن رأيه، كما في مسألة تخليل أصابع الرجلين كان مالك يقول: "إنه تعمق في الوضوء"، فلما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله رجع إلى استحبابه1، وَكَمَا اتَّفَقَ لِأَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي المد والصاع حتى رجع لموافقة مالك، وكما سبق قريبًا عن ابن عباس وعن الأنصار أيضًا. "د". 2 لا يخفى أن التردد بين الطرفين وصف للفعل نفسه وليس من عمل المجتهد، والذي للمجتهد هو الرد على أحدهما، بتحريه الدليل المرشد إلى أخذ الفعل حكم أحد الطرفين دون الآخر، فالعبارة -كما ترى- فيها ركة ونبو عن هذا المقصود، ولو قال: "فالرد إلى أحد الطرفين تحر ... إلخ"، لكان جيدًا، وقوله: "هذين القصدين" هما في الحقيقة قصد واحد، وهو الوصول إلى قصد الشارع باتباع الدليل المرشد إلى تعرفه. "د". 3 فإن مخالفة أحدهما لقصد الشارع في الواقع -بناء على اتحاد الحكم، وأن من أصابه، ومن أخطأه أخطأ- إنما ترتبت على استبهام الدليل وخفائه عليه. "د".   1 انظر ذلك في: "مقدمة الجرح والتعديل" "ص31-32"، و"السنن الكبرى" "1/ 81" للبيهقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 قَوْلِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا أَيْضًا، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مُخْطِئًا، فَالْإِصَابَةُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ إِضَافِيَّةٌ1، فَرَجَعَ الْقَوْلَانِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَّفِقُونَ لَا مُخْتَلِفُونَ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُوَالَاةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّعَاطُفِ فِيمَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ2، حَتَّى لَمْ يَصِيرُوا شِيَعًا وَلَا تَفَرَّقُوا فِرَقًا؛ لِأَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى طَلَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ، فَاخْتِلَافُ الطُّرُقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، كَمَا لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُتَعَبِّدِينَ لِلَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَرَجُلٍ تَقَرُّبُهُ الصَّلَاةُ، وَآخَرَ تَقَرُّبُهُ الصِّيَامُ، وَآخَرَ تَقَرُّبُهُ الصَّدَقَةُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي أَصْلِ التَّوَجُّهِ لِلَّهِ الْمَعْبُودِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَصْنَافِ التَّوَجُّهِ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُونَ لَمَّا كَانَ قَصْدُهُمْ إِصَابَةَ مَقْصِدِ الشَّارِعِ صَارَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً وَقَوْلُهُمْ وَاحِدًا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لَهُمْ وَلَا لِمَنْ قَلَّدَهُمُ التَّعَبُّدُ بِالْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ3؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِهَا رَاجِعٌ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، لَا إِلَى تَحَرِّي مَقْصِدِ الشَّارِعِ، وَالْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِأَنْفُسِهَا، بَلْ لِيُتَعَرَّفَ مِنْهَا الْمَقْصِدُ الْمُتَّحِدُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّعَبُّدُ مُتَّحِدَ الْوُجْهَةِ، وإلا، لم يصح، والله أعلم.   1 أي: بالنسبة للمجتهد نفسه ولمن قلده من غير المجتهدين، لا للواقع، وإلا لما تعدد الصواب، وقوله: "إلى قول واحد"، أي: في هذا المقام، وهو أنه لا يجوز له أن يرجع عن اجتهاده مطلقًا إلا ببينة، لا لمجرد أن غيره مصيب على قول التصويب. "د". 2 ومن أحسن ما حكاه يونس الصدفي قال: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، وأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق، في مسألة؟ ". حكاه الذهبي في ترجمته في "السير". 3 في المسألة الثالثة، وهو أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي الْخِلَافِ، ولا بد من الترجيح وتحري مقصد الشارع بأي طريق كان، كما أن المجتهد ليس له أن يأخذ بأحد دليلين بدون ترجيح "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 فَصْلٌ: وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ -الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ1 - نَاشِئٌ عَنِ الْهَوَى الْمُضِلِّ2، لَا عَنْ تَحَرِّي قَصْدِ الشَّارِعِ بِاتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الصَّادِرُ عَنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَإِذَا دَخَلَ الْهَوَى أَدَّى إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ حِرْصًا عَلَى الْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ بِإِقَامَةِ الْعُذْرِ فِي الْخِلَافِ، وَأَدَّى إِلَى الْفُرْقَةِ وَالتَّقَاطُعِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لِاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ الشَّرْعُ بِحَسْمِ مَادَّةِ الْهَوَى بِإِطْلَاقٍ3، وَإِذَا صَارَ الْهَوَى بَعْضَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ لَمْ يُنْتَجْ إِلَّا مَا فِيهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَذَلِكَ مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ، وَمُخَالَفَةُ الشَّرْعِ لَيْسَتْ مِنَ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلشَّرْعِ، ضَلَالٌ فِي الشَّرْعِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْبِدَعُ ضَلَالَاتٍ، وَجَاءَ: "إِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" 4؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُخْطِئٌ مِنْ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مُصِيبٌ، وَدُخُولُ الْأَهْوَاءِ فِي الْأَعْمَالِ خَفِيٌّ5، فَأَقْوَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي الْخِلَافِ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرْعِ، فَلَا خِلَافَ6 حِينَئِذٍ فِي مَسَائِلِ الشَّرْعِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدِ اعْتَدُّوا بِهَا فِي الْخِلَافِ الشَّرْعِيِّ، وَنَقَلُوا أَقْوَالَهُمْ فِي عِلْمَيِ الْأُصُولِ، وفرعوا عليها الفروع، واعتبروهم في   1 "استدراك2". 2 ذكر نحوه في "الاعتصام"، في "الباب التاسع: في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين، 2/ 683 وما بعدها -ط ابن عفان"، وكذا في المسألة الثامنة من الجزء الثاني "2/ 737". 3 بعدها في "ط": "فاتباعه مخالفة للشرع بإطلاق". 4 مضى تخريجه. 5 قد لا يشعر به صاحبه، فيتوهم أنه مصيب في اجتهاده الذي بعض مقدماته مبني على الهوى. "د". 6 أي: يلزم أن نخرج من الشريعة جميع الأقوال التي دخلها الهوى باتباع المتشابه، فلا تحسب منها، ولا يقال بالنسبة لها: إن هناك خلافًا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 الْإِجْمَاعِ [وَالِاخْتِلَافِ] ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِدَادُ بِأَقْوَالِهِمْ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِهَا، بَلْ إِنَّمَا أَتَوْا بِهَا لِيَرُدُّوهَا وَيُبَيِّنُوا فَسَادَهَا، كَمَا أَتَوْا بِأَقْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ لِيُوَضِّحُوا مَا فِيهَا، وَذَلِكَ فِي عِلْمَيِ الْأُصُولِ مَعًا بَيِّنٌ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا1 مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: إِذَا سَلِمَ اعْتِدَادُهُمْ بِهَا، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبِعُ لِلْهَوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِالشَّرِيعَةِ رَأْسًا، وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِهَا وَبَلَغَ فِيهَا مَبْلَغًا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّبِعٍ إِلَّا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ يَصِيرُ إِلَى حَيْثُ أَصَارَهُ، فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى مُطْلَقًا، بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ، وَلَكِنْ بِحَيْثُ يُزَاحِمُهُ الْهَوَى فِي مَطَالِبِهِ مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، فَشَارَكَ أَهْلَ الْهَوَى فِي دُخُولِ الْهَوَى فِي نِحْلَتِهِ، وَشَارَكَ أَهْلَ الْحَقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ، وَأَشَدُّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَثَلًا مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ فَرِيقٍ حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ قَدْ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا2، وَهَكَذَا إِذَا اعْتُبِرَتْ سَائِرُ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ. وَإِلَى هَذَا3، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَشْكُلُ وُرُودُهُ وَيَعْظُمُ خَطْبُ الْخَوْضِ فِيهِ، وَلِهَذَا   1 في "د": "عنها". 2 نحوه في "الاعتصام" "2/ 695" مبرهنًا به على عدم كفر أصحاب البدع والأهواء. 2 أي: يضاف إلى أنهم طالبون للحق في تنزيه الله تعالى -وإن لم يصادفوا صميم الحق في كثير من المسائل التي خالفوا فيها- أن هناك من مسائل خلافهم ما هو مشكل في ذاته، ويصعب الخوض في الكشف عن اليقين فيه، فربما كان لهم وجه في جانب هذه المشكلات، ولذلك لم يصرح الشارع بخروجهم ... إلخ. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الشَّارِعِ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ بِدَعِهِمْ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا فِي غِمَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَارْتَسَمُوا فِي مَرَاسِمِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَكَانَ الشَّارِعُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ قَدْ أَشَارَ إِلَى عَدَمِ تَعْيِينِهِمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزُوا إِلَّا بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِهِمْ، وَمَدَارِكُ الِاجْتِهَادِ تَخْتَلِفُ، لَمْ يُمْكِنْ1 وَالْحَالُ هَذِهِ إِلَّا حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ، وَالِاعْتِدَادُ بِتَسْطِيرِهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا، وَاعْتِبَارُهُمْ فِي الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ لِيَسْتَمِرَّ النَّظَرُ فِيهِ، وَإِلَّا أَدَّى إِلَى عَدَمِ الضَّبْطِ2، وَلِهَذَا تَقْرِيرٌ3 فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، نُقِلَ خِلَافُهُمْ. وَفِي الْحَقِيقَةِ، فَمِنْ جِهَةِ مَا اتَّفَقُوا فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ حَصَلَ التَّآلُفُ، وَمِنْ جِهَةِ مَا اخْتَلَفُوا حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَجِهَةُ الِائْتِلَافِ لَا خِلَافَ فِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ لِصِحَّتِهَا وَاتِّحَادِ حُكْمِهَا، وَجِهَةُ الِاخْتِلَافِ هُمْ4 مُخْطِئُونَ فِيهَا قَطْعًا، فَصَارَتْ أَقْوَالُهُمْ زَلَّاتٍ لَا اعتبار بها في الخلاف، فالاتفاق حاصل إذن عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مُتَّحِدَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لِبُسِطَ هَذَا الْمَوْضِعُ بِأَدِلَّتِهِ التَّفْصِيلِيَّةِ وَأَمْثِلَتِهِ الشَّافِيَةِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِيهَا كافٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.   1 في الأصل: "يكن". 2 أي: وعدم تميز حقهم من باطلهم، فيرد كل ما ينسب إليهم ولو كان حقًا، وذلك لا يصح. "د". 3 فقد اختلفوا: هل يشترط عدالة المجمعين، أم لا؟ والحنفية تشترط، وعليه يبتنى شرط عدم البدعة، إذا لم يكفر بها كالخوارج، والحنفية قالوا: يشترط عدم بدعته إذا دعا إليها، فإن لم يدع إليها، كان قوله في غير بدعته معتبرًا في انعقاد الإجماع. "د". قلت: انظر "ص275 والتعليق عليها". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "فهم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَرَّ الْكَلَامُ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنَ الْعُلُومِ، وَأَنَّهُ إِذَا حَصَّلَهَا، فَلَهُ الِاجْتِهَادُ بِالْإِطْلَاقِ. وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ فِيهَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِالِاجْتِهَادِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إِذَا اسْتَمَرَّ فِي طَلَبِهِ مَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَنَبَّهَ عَقْلُهُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا حَفِظَ وَالْبَحْثِ عَنْ أَسْبَابِهِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ هَذَا عَنْ شُعُورٍ بِمَعْنَى1 مَا حَصَّلَ، لَكِنَّهُ مُجْمَلٌ بَعْدُ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ2 لَهُ فِي بَعْضِ أَطْرَافِ الْمَسَائِلِ جُزْئِيًّا لَا كُلِّيًّا، وَرُبَّمَا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، فَهُوَ يُنْهِي الْبَحْثَ نِهَايَتَهُ وَمُعَلِّمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُعِينُهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فِي تِلْكَ الرُّتْبَةِ، وَيَرْفَعُ عَنْهُ أَوْهَامًا وَإِشْكَالَاتٍ تَعْرِضُ لَهُ فِي طَرِيقِهِ، يَهْدِيهِ إِلَى مَوَاقِعِ إِزَالَتِهَا [وَيُطَارِحُهُ] فِي الْجَرَيَانِ عَلَى مَجْرَاهُ، مُثَبِّتًا قَدَمَهُ، وَرَافِعًا وَحْشَتَهُ، وَمُؤَدِّبًا لَهُ حَتَّى يَتَسَنَّى لَهُ النَّظَرُ وَالْبَحْثُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. فَهَذَا الطَّالِبُ3 حِينَ بَقَائِهِ هُنَا، يُنَازِعُ الْمَوَارِدَ الشَّرْعِيَّةَ وَتُنَازِعُهُ، وَيُعَارِضُهَا وَتُعَارِضُهُ، طَمَعًا فِي إِدْرَاكِ أُصُولِهَا وَالِاتِّصَالِ بِحِكَمِهَا وَمَقَاصِدِهَا، وَلَمْ تَتَلَخَّصْ لَهُ بَعْدُ، لَا يَصِحُّ4 مِنْهُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا هُوَ ناظر فيه؛ لأنه لم يتخلص له مسند4 الِاجْتِهَادِ، وَلَا هُوَ مِنْهُ عَلَى بَيِّنَةٍ بِحَيْثُ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ، فَاللَّازِمُ لَهُ الكف والتقليد.   1 أي: بسره وحكمته. "د". 2 أي: مفصلًا. "د". 3 وضع ناسخ الأصل فوق كلمة الطالب: "مبتدأ"، وفوق كلمة لا يصح. "خبر". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "مسند". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَهِيَ بِالنَّظَرِ إِلَى تَحْقِيقِ1 مَعْنَى مَا حَصَلَ عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ الْبُرْهَانُ الشَّرْعِيُّ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ الْيَقِينُ وَلَا يُعَارِضُهُ شَكٌّ، بَلْ تَصِيرُ الشُّكُوكُ -إِذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ- كَالْبَرَاهِينِ2 الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا فِي يَدَيْهِ، فَهُوَ يَتَعَجَّبُ3 مِنَ الْمُتَشَكِّكِ فِي مَحْصُولِهِ كَمَا يَتَعَجَّبُ مِنْ ذِي عَيْنَيْنِ لَا يَرَى ضَوْءَ النَّهَارِ لَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ بِهِ4 الْحَالُ إِلَى أَنْ زَلَّ مَحْفُوظُهُ5 عَنْ حِفْظِهِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَهُ، فَلَا يُبَالِي فِي الْقَطْعِ عَلَى الْمَسَائِلِ، أَنُصَّ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى خِلَافِهَا أَمْ لَا. فَإِذَا حَصَلَ الطَّالِبُ عَلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ6، فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ، ومما يقع فيه الخلاف.   1 ويكون ذلك بتمام علمه بالمراتب الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، ومكملاتها، واستقصاء انبثاثها في أبواب الشريعة، بحيث تكون ميزانًا يزن به كل ما يرد عليه من قواعد الشريعة وتفاصيلها المنصوص على أدلتها من كتاب وسنة ... إلخ. "د". 2 لأن دفع الشكوك عن العقيدة بسهولة مما يزيد صاحب العقيدة ثباتًا ورسوخًا في اعتقاده، حيث إن ما يورد عليه فيها لا يجد صعوبة في دفعه. "د". 3 في "ط": "يعجب". 4 في الترقي لإدراك مقاصد الشريعة وأصولها، حتى صار تعلقه بتلك الكليات وكأن محفوظاته من النصوص الجزئية والقواعد الشرعية غابت عن حافظته، وإن كانت في الواقع لا تزال عنده، إلا أن همته منصرفة إلى التعويل على كليات المقاصد وأصول الشريعة، حتى إنه لا يبالي في استنباطه الحكم: أنص على دليله الخاص أم لا؟ بل لو نص على دليل خلافه، لكان حكمه عنده مقتضى الكليات ولو خالفت النص؛ لأنه لم يصل بعد إلى ملاحظة الخصوصيات مع الكليات، فهذه مرتبة متوسطة بين المرتبة الأولى والثالثة الآتية، ومثاله يأتي في إعمال ذي الرأي رأيه مطلقًا، حتى إذا خالفه نص جزئي رده إلى الكلي الذي اعتمده. "د". 5 أي: من الأدلة التفصيلية ومن القواعد الشرعية التي سماها سبابقًا جزئيًا إضافيًا. "د". 6 وليكن على البال أن الفرض أنه وصل لهذه المرتبة باستقصائه بنفسه موارد الشريعة، حتى صار مجتهدًا في الأصول، فمن عرف الأصول تقليدًا لغيره مهما قتلها خبرة، فليس من أهل هذه المرتبة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 وَلِلْمُحْتَجِّ لِلْجَوَازِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ إِذَا كَانَ هَذَا الطَّالِبُ قَدْ صَارَ لَهُ أَوْضَحَ مِنَ الشَّمْسِ، وَتَبَيَّنَتْ لَهُ مَعَانِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى الْتَأَمَتْ وَصَارَ1 بَعْضُهَا عَاضِدًا لِلْبَعْضِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ بِحَقَائِقِهَا مَطْلَبٌ2، فَالَّذِي حَصَلَ عِنْدَهُ هُوَ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وَعُمْدَةُ النِّحْلَةِ، وَمَنْبَعُ التَّكْلِيفِ، فَلَا عَلَيْهِ أَنَظَرَ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا الْمَنْصُوصَةِ3 أَوْ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ أَمْ لَا؛ إِذْ لَا يَزِيدُهُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ وَاصِلًا بَعْدُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ وَاصِلًا، هَذَا خَلْفٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَالْمَنْصُوصَاتِ إِنَّمَا مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى ذَلِكَ4 الْمَطْلُوبِ الْكُلِّيِّ الشَّرْعِيِّ، حَتَّى يَبْنِيَ عَلَيْهِ فُتْيَاهُ وَيَرُدَّ إِلَيْهِ حُكْمَ اجْتِهَادِهِ، فَإِذَا كَانَ حَاصِلًا، فَالتَّنَزُّلُ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ طَلَبٌ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ5، وَهُوَ أَنَّ كُلِّيَّ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ إِنَّمَا انْتَظَمَ لَهُ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ وَبِمَعَانِيهَا تَرْقَى إِلَى مَا ترقى إليه، فإن تكن في الحال   1 في الأصل و"ماء": "صارت". 2 فقد عرف الضروري والحاجي والتحسيني ومكملاتها في سائر الأبواب، وصار لا يخفى عليه من ذلك شيء، فصارت مقاصد الشارع في سائر الأبواب متميزة عنده كل التميز. "د". 3 أي: الوارد فيها الأدلة التفصيلية، وقوله: "أو مسائلها الجزئية"، أي: الإضافية، وهي القواعد المتعلقة بالأبواب الفقهية. "د". 4 تقدم بيانه بتوسع في المسألة الأولى من كتاب الأدلة في قوله: "فَإِنْ قِيلَ: الْكُلِّيُّ لَا يُثْبِتُ كُلِّيًّا إِلَّا من استقراء الجزئيات كليًا أو أكثرها، فالنظر بعد ذلك إلى الجزيئات عناء ... إلخ". "د". 5 هذا الوجه لا يسلم أنه قطع النظر عن الجزئي، بل يقول: إنه منظور إليه وحاكم في الواقع، وما قبله يقول: لا مقتضى للنظر إليه بعد أن تكون الكلي من جزئياته، فالنظر فيه تحصيل حاصل. "د". وسقطت "وهو" من"ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 غَيْرَ حَاكِمَةٍ عِنْدَهُ لِاسْتِيلَاءِ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ، فَهِيَ حَاكِمَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ مِنْهَا انْتَظَمَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تَجِدُ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ يَقْطَعُ بِالْحُكْمِ بِأَمْرٍ إِلَّا وَقَامَتْ1 لَهُ الْأَدِلَّةُ الْجُزْئِيَّةُ عَاضِدَةً وَنَاصِرَةً، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُعَضِّدْهُ وَلَا نَصَرَتْهُ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ2 مُتَمَكِّنٌ جِدًّا مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَوْجُهٍ: - مِنْهَا: أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ إِذَا فَاجَأَتْهُ حَقَائِقُهَا، وَتَعَاضَدَتْ مَرَامِيهَا، وَاتَّصَلَ لَهُ بِالْبُرْهَانِ مَا كَانَ مِنْهَا عِنْدَهُ مَقْطُوعًا حَتَّى صَارَتِ الشَّرِيعَةُ فِي حَقِّهِ أَمْرًا مُتَّحِدًا وَمَسْلَكًا مُنْتَظِمًا، لَا يَزِلُّ عَنْهُ مِنْ مَوَارِدِهَا فَرْدٌ، وَلَا يَشِذُّ لَهُ عَنِ الِاعْتِبَارِ مِنْهَا خَاصٌّ إِلَّا3 وَهُوَ مَأْخُوذٌ بِطَرَفٍ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهِ عَنْ طَرَفٍ آخَرَ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنِ اعْتِبَارِهِ؛ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكُلِّيِّ مَعَ اطِّرَاحِ الْجُزْئِيِّ خَطَأٌ كَمَا فِي الْعَكْسِ، وَإِذَا كَانَ4 كَذَلِكَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ أَنْ يَتَرَقَّى إِلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ حَتَّى يُكْمِلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْمِيلِهِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ لِلْخُصُوصِيَّاتِ5 خَوَاصَّ يَلِيقُ بِكُلِّ مَحَلٍّ مِنْهَا ما لا يليق بمحل   1 أي: وإن لم يتنبه إليها عند الاستنباط، وسيأتي للمانع أن ينازعه في اطراد هذا بالحجة الثانية والثالثة. "د". 2 في "ط": "الرتبة". 3 لعل هنا سقطًا حاصله: "لا يترك النظر إلى الجزئي"، وهو جواب إذا، أي إن صاحب هذه الرتبة متحقق بركن من أركان الاجتهاد، غير حاصل على الركن الآخر، وهو اعتبار الجزئي. "د". 4 هذه هي القضية الكبرى في الدليل، فهي بمنزلة قوله: "وكل من كان كذلك، لم يستحق درجة الاجتهاد. "د". وكتب "ف": "إعادة للشرط قبله، وجوابه قوله: "لم نستحق ... إلخ"". 5 في "ط": "للخصوصية". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 آخَرَ كَمَا فِي النِّكَاحِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمُعَاوَضَاتِ1 مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسُوغُ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْهِبَاتِ وَالنِّحَلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَمَا فِي مَالِ الْعَبْدِ2، وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَالْقَرْضِ، وَالْعَرَايَا، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، بَلْ لِكُلِّ بَابٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَلِكُلِّ خَاصٍّ خَاصِّيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ لَا تَلِيقُ بِغَيْرِهِ، وَكَمَا فِي التَّرَخُّصَاتِ3 فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَإِذَا4 كَانَ كَذَلِكَ -وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْجَمِيعَ يَرْجِعُ مَثَلًا إِلَى حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّكْمِيلِيَّاتِ-، فَتَنْزِيلُ5 حِفْظِهَا فِي كُلِّ مَحَلٍّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ خُصُوصِيَّاتِ الْأَحْوَالِ وَالْأَبْوَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْجُزْئِيَّةِ فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ الْخُصُوصِيَّاتُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ الْحُكْمِيِّ، لَا فِي حُكْمِ الْمَقْصُودِ الْعَيْنِيِّ بِحَسَبِ كُلِّ نَازِلَةٍ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ جَرَيَانُ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ، وَأَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ؟ هَذَا لَا يَسْتَمِرُّ مَعَ الْحِفْظِ عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ. - وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ يَلْزَمُهَا إِذَا6 لَمْ يَعْتَبِرِ الْخُصُوصِيَّاتِ أَلَّا يَعْتَبِرَ مَحَالَّهَا7 وَهِيَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، بَلْ كَمَا يُجْرِي الْكُلِّيَّاتِ فِي كل جزئية على   1 أي: مع أنهما من مرتبة واحدة، وهي مرتبة الحاجيات. "د". 2 هو وما بعده من المستثنيات من القواعد المانعة، وتقدو له أننا لو طردنا الباب في كل الضروريات لأجل ذلك بالحاجيات أو الضروريات، أما إذا اعتبرنا في كل رتبة ما يليق بها، فإن ذلك يكون محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الرتب، فلا بد إذن من اعتبار الجزئيات. "د". 3 وتقدم له أن الترخصات الهادمة للعزائم إعمال لقاعدة الحاجيات في الضروريات؛ لأن هذه الرتب يخدم بعضها بعضًا ويقيد بعضها بعضًا. "د". 4 في "د": "وإن". 5 في "ط": "فتنزل". 6 أي: يلزمها ما ذكر، فاللازم مضمون هذه الجملة الشرطية. "ف". وفي "ط": "أن صاحب هذه ... يلزمه إذا ... ". 7 في "ط": "محلها". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 الْإِطْلَاقِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُجْرِيَهَا فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِخُصُوصِيَّاتِهِمْ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ كَذَلِكَ عَلَى مَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْفَهْمُ فِي مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا1 إِلَّا اعْتِبَارُ خُصُوصِيَّاتِ الْأَدِلَّةِ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَا يُمْكِنُهُ التَّنَزُّلُ إِلَى مَا2 تَقْتَضِيهِ رُتْبَةُ الْمُجْتَهِدِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لِكُلِّ احْتِمَالٍ مَأْخَذًا، كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْحَقِيقِيِّ فِيهَا بَاقِيَةَ الْإِشْكَالِ3. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَذْهَبُ مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ جُمْلَةً وَأَخَذَ بِالنُّصُوصِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَذْهَبُ مَنْ أَعْمَلَ الْقِيَاسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ جُمْلَةً، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَاصَ بِهِ الْفِكْرُ فِي مَنْحًى شَرْعِيٍّ مُطْلَقٍ عَامٍّ اطَّرَدَ لَهُ4 فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ اطِّرَادًا لَا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ فِي الشَّرِيعَةِ نَقْصٌ5 وَلَا تَقْصِيرٌ، بَلْ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3] .   1 أي: اعتبار خصوصيات المكلفين لا يصح معه إلا اعتبار خصوصيات الأدلة. "د". 2 وهو النظر في الجزئيات والخصوصيات وتفاصيل الأدلة. "د". 3 أي: فلا يمكن الحكم لصاحب هذه المرتبة أو عليه بأهليته للاجتهاد أو عدمها والمؤلف هنا تردد، ولكنه في المسألة الأولى من كتاب الأدلة جزم بالمنع، وقال "3/ 180": "فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ خُصُوصِ الجزئيات مع اعتبار كلياتها"، وضرب مثلًا بمسألة العسل الذي شربه الصفراوي مع الآية الكريمة، إلى أن قال "3/ 183": "فَلَا يَصِحُّ إِهْمَالُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّ فِيهَا جُمْلَةَ الْفِقْهِ، وَمِنْ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إليها أخطأ من أخطأ "، وبالجملة إنما تتضح هذه المسألة تمام الاتضاح بمراجعة تلك المسألة، فراجعها. "د". قلت: انظرها في "3/ 171 وما بعد". 4 أي: حتى وصل إلى كلية أصولية هي اعتبار القياس عند أحدهما وعند الثاني اعتبار الأدلة التفصيلية لا غير. "د". 5 في ماء: "نقض"، بالضاد المعجمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 فَصَاحِبُ الرَّأْيِ يَقُولُ: الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ أَدِلَّتُهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ، فَكُلُّ فَرْدٍ جَاءَ مُخَالِفًا فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ شَرْعًا؛ إِذْ قَدْ شَهِدَ الِاسْتِقْرَاءُ بِمَا يُعْتَبَرُ1 مِمَّا لَا يُعْتَبَرُ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ عَامٍّ، فَهَذَا الْخَاصُّ الْمُخَالِفُ يَجِبُ رَدُّهُ وَإِعْمَالُ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ قَطْعِيٌّ، وَدَلِيلَ الْخَاصِّ ظَنِّيٌّ فَلَا يَتَعَارَضَانِ. وَالظَّاهِرِيُّ يَقُولُ: الشَّرِيعَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَمَصَالِحُهُمْ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ مَا أَجْرَاهَا الشَّارِعُ، لَا عَلَى حَسَبِ أَنْظَارِهِمْ2، فَنَحْنُ مِنَ اتِّبَاعِ مُقْتَضَى النُّصُوصِ عَلَى يَقِينٍ فِي الْإِصَابَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِذَلِكَ وَاتِّبَاعُ الْمَعَانِي رَأْيٌ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ النُّصُوصَ مِنْهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَاصٌّ مُخَالِفٌ لِعَامِّ الشَّرِيعَةِ، وَالْخَاصُّ الظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْعَامَّ الْقَطْعِيَّ. فَأَصْحَابُ الرَّأْيِ جَرَّدُوا الْمَعَانِيَ3، فَنَظَرُوا فِي الشَّرِيعَةِ بِهَا، وَاطَّرَحُوا خُصُوصِيَّاتِ الْأَلْفَاظِ، وَالظَّاهِرِيَّةُ جَرَّدُوا مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، فَنَظَرُوا فِي الشَّرِيعَةِ بِهَا، وَاطَّرَحُوا خُصُوصِيَّاتِ الْمَعَانِي الْقِيَاسِيَّةِ، وَلَمْ تَتَنَزَّلْ وَاحِدَةٌ مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ4 إِلَى النَّظَرِ فِيمَا نَظَرَتْ فِيهِ الْأُخْرَى بِنَاءً عَلَى كُلِّيِّ مَا اعْتَمَدَتْهُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ.   1 وهو ما كان من مقاصد الشارع في المراتب الثلاثة. "د". 2 أي: التي من شأنها أن تختلف في الحكم على الشيء الواحد بأنه مصلحة أو مفسدة. "د". 3 أي: الأسرار والحكم والمصالح والمفاسد التي فهموها مقصدًا للشارع من استقرائهم لموارد الشريعة، أما الظاهرية، فلم يلتفتوا إلى الحكم والأسرار والتفتوا إلى مدلولات التراكيب، ووقفوا عندها ولو كانت في نظرها مخالفة لما يفهمونه مصلحة. "د". 4 في "ماء": "الفريقين". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ1 مَا خَرَّجَ ثَابِتٌ فِي "الدَّلَائِلِ" عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: "وَجَدْتُ فِي كِتَابِ جَدِّي: "أَتَيْتُ مَكَّةَ، فَأَصَبْتُ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَابْنَ شُبْرُمَةَ، فَأَتَيْتُ أبا حنفية فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ بَاعَ بَيْعًا وَاشْتَرَطَ شَرْطًا قَالَ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَأَتَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَأَتَيْتُ ابْنَ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ. وَالشَّرْطُ جَائِزٌ، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! ثَلَاثَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْنَا فِي مَسْأَلَةٍ! فَأَتَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ2، فَأَتَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اشْتَرِي بَرِيرَةَ وَاشْتَرِطِي 3 لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ" 4، فَأَجَازَ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ. فَأَتَيْتُ ابْنَ شُبْرُمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا قَالَاهُ5، حَدَّثَنِي مَسْعُودُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "اشْتَرَى مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةً6 فَشَرَطْتُ حُمْلَانِي، فَأَجَازَ البيع والشرط"7 اهـ.   1 وهو مطلق الاعتماد على الكليات واطراح الجزئيات، وليس المراد أن هؤلاء الأئمة الثلاثة منهم من نظر إلى المعاني واطرح خصوصيات الألفاظ كأصحاب الرأي، ومنهم من نظر إلى مقتضيات الألفاظ كالظاهرية، كلا، بل جميعهم تمسك بدليل اللفظي في الأحاديث الثلاثة. "د". 2 مضى تخريجه "1/ 427". 3 في الأصل: "فاشترطت"، وكتب "ف": "أي: اقبلي منهم هذا الشرط والتزميه". 4 مضى تخريجه "1/ 427". 5 في "م" و"ط": "قالا" من غير ماء. 6 المعروف في قصة جابر: "جمل" لا ناقة. "د". 7 مضى تخريجه "ص206"، وأورد القصة المذكورة ابن السيد في "التنبيه" "ص115-117"، ومثال آخر على وزانه تجد الإشارة إليه في هامش "بذل المجهود" "12/ 297". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اعْتَمَدَ1 فِي فُتْيَاهُ عَلَى كُلِّيَّةِ مَا اسْتَفَادَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَرَ غَيْرَهُ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ مُعَارِضًا، فاطرح الاعتماد عليه، والله أعلم. و [الحال] الثَّالِثُ: أَنْ يَخُوضَ فِيمَا خَاضَ فِيهِ الطَّرَفَانِ وَيَتَحَقَّقُ بِالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ مُنَزَّلَةً عَلَى الْخُصُوصِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا يَصُدُّهُ التَّبَحُّرُ فِي الِاسْتِبْصَارِ بِطَرَفٍ عَنِ التَّبَحُّرِ فِي الِاسْتِبْصَارِ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ، فَلَا هُوَ يَجْرِي عَلَى عُمُومٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ2 أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى تَنَزُّلِ3 مَا تَلَخَّصَ لَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى الرُّتْبَةِ الَّتِي تَرْقَى مِنْهَا، لَكِنْ بِعِلْمِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ فِي كُلِّ جُزْئِيٍّ فِيهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا. وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ مِنْ صَاحِبِهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ فِيهَا، حَاكِمٌ لَهَا، غَيْرُ مَقْهُورٍ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا، فَإِنَّ صَاحِبَهَا مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ قَدْ تَسْتَفِزُّهُ مَعَانِيهَا4 الْكُلِّيَّةُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخُصُوصِيَّاتِ، وَكُلُّ رُتْبَةٍ حَكَمَتْ عَلَى صَاحِبِهَا دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ رُسُوخِهِ فِيهَا، وَإِنْ كانت محكومًا   1 على رأيه يكونون مصححين للفتيا من رأس الكلية، وقائلين بأن النظر إلى الجزئي ليس بلازم، وهل يصح أن يأخذ كل منهم كليته من حديث واحد؟ إن هذا بعيد، والقريب أن يكون كل منهم استند إلى الحديث الذي رواه، ولم يعتمد على ما رواه غيره، إما لعدم روايته له، أو لعدم صحة الحديث عنده، أو لمرجع آخر من المرجحات الكثيرة عند تعارض الأحاديث في السند أو في المتن أو بخارج عنهما، وربما أيد الاحتمال الأول قول كل "لا أدري ما قالاه"، فالتمثيل بهذه القصة للمقام الذي هو بصدده غير ظاهر. "د". قلت: قال ابن السيد قبل هذه القصة: "ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به، ولم يتصل به سواه". 2 كما سبق أن المرتب يخدم بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا. "د". 3 أي: فلا بد في النظر في محال الخصوصيات، وأهي أفعال المكلفين، فلا يكونون عنده سواء، بل كل وما يليق به كما أشار إليه آنفًا في حجج المانع. "د". 4 أي: تخرجه تلك المعاني الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات. "ف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 عَلَيْهَا تَحْتَ نَظَرِهِ وَقَهْرِهِ، فَهُوَ صَاحِبُ التَّمْكِينِ وَالرُّسُوخِ، فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الِانْتِصَابَ لِلِاجْتِهَادِ، وَالتَّعَرُّضَ لِلِاسْتِنْبَاطِ، وَكَثِيرًا مَا يَخْتَلِطُ أَهْلُ الرُّتْبَةِ، الْوُسْطَى بِأَهْلِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ عَدَمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسَمَّى صَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: الرَّبَّانِيَّ، وَالْحَكِيمَ، وَالرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَالِمَ، وَالْفَقِيهَ، وَالْعَاقِلَ؛ لِأَنَّهُ يُرَبَّى بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَيُوُفِّي كُلَّ أَحَدٍ حَقَّهُ حَسْبَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالْعِلْمِ وَصَارَ لَهُ كَالْوَصْفِ الْمَجْبُولِ عَلَيْهِ، وَفَهِمَ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ [مِنْ شَرِيعَتِهِ] . وَمِنْ خَاصِّيَتِهِ1 أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجِيبُ السَّائِلَ عَلَى مَا يَلِيقُ [بِهِ] 2 فِي حَالَتِهِ عَلَى الْخُصُوصِ إِنْ كَانَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ خَاصٌّ، بِخِلَافِ صَاحِبِ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجِيبُ مِنْ رَأْسِ الْكُلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِخَاصٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَاظِرٌ فِي الْمَآلَاتِ قَبْلَ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالَاتِ، وَصَاحِبُ الثَّانِيَةِ لَا يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُبَالِي بِالْمَآلِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، وَكَانَ فِي مَسَاقِهِ كُلِّيًّا، وَلِهَذَا الْمَوْضِعِ أَمْثِلَةٌ كثيرة تقدم منها جملة من مَسْأَلَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَمَسْأَلَةِ اعْتِبَارِ الْمَآلِ، وَفِي مَذْهَبِ مالك من ذلك كثير3.   1 في "د": "خاصته"، وفي "ماء" بالحاء: "حاصيته". 2 سقط من "ط". 3 لما تقدم أنه يقول بالمصالح المرسلة التي يكون النظر فيها إلى جزئي في مقابلة الكلي. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْخَاصِّ بِالْعُلَمَاءِ وَالْعَامِّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُوَضِّحُ النَّوْعَيْنِ، وَيُبَيِّنُ جِهَةَ الْمَأْخَذِ فِي الطَّرِيقَيْنِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ الْمَكِّيَّةَ وَهِيَ الْأَوَّلِيَّةُ كَانَتْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، وَجَارِيَةً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَجَارِي الْعَادَاتِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعُقُولِ، وَعَلَى مَا تَحْكُمُهُ1 قَضَايَا مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، مِنَ التَّلَبُّسِ بِكُلِّ2 مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَاسِنَ الْعَادَاتِ، وَالتَّبَاعُدِ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مُنْكَرٌ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، فِيمَا سِوَى مَا الْعَقْلُ مَعْزُولٌ عَنْ تَقْرِيرِهِ جُمْلَةً مِنْ حُدُودِ الصَّلَوَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا3، فَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى أَنْظَارِ الْمُكَلَّفِينَ فِي تِلْكَ الْعَادَاتِ، وَمَصْرُوفًا إِلَى اجْتِهَادِهِمْ لِيَأْخُذَ كُلٌّ بِمَا لَاقَ بِهِ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَحَاسِنِ الْكُلِّيَّاتِ، وَمَا اسْتَطَاعَ مِنْ تِلْكَ الْمَكَارِمِ فِي التَّوَجُّهِ بِهَا لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ، مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي إِعَانَةِ الْمُحْتَاجِينَ، ومؤاساة الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مُقَرَّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ، عَلَى حَسَبِ مَا تُسْتَحْسِنُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ فِي ذَلِكَ التَّرْتِيبِ، وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِ الْجِوَارِ وَحُقُوقِ الْمِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لم ينص على تقييدها بعد.   1 لا يخفى موقع كلمة "تحكمه" التي تفيد أنه ليس المراد من المكارم ما يختلف فيها العرف والأزمان، فتكون مكرمة في زمن ثم تنسخ، فيكون ضدها مكرمة في زمن آخر، ويلوح إلى ذلك قوله بعد: "أو من كان عادة في الجاهلية ... إلخ". "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "من كل"، وكتب "ف": "لعله: بكل، يقال: تلبس بالأمر، خالطه". 3 أي: من تفاصيل التعبدات. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ، عَلَى مَرَاتِبِهَا فِي الْقُبْحِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُثَابِرِينَ عَلَى مُجَانَبَتِهَا مُثَابَرَتَهُمْ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالْمَحَاسِنِ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْيَانِ آخِذِينَ فِيهَا بِأَقْصَى مَجْهُودِهِمْ، وَعَامِلِينَ عَلَى مُقْتَضَاهَا بِغَايَةِ مَوْجُودِهِمْ1، وَهَكَذَا بَعْدَ مَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ وَفِي زَمَانِ التَّابِعِينَ. إِلَّا أَنَّ خُطَّةَ الْإِسْلَامِ لَمَّا اتَّسَعَتْ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا رُبَّمَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ مُشَاحَّاتٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَمُطَالَبَاتٌ بِأَقْصَى مَا يَحِقُّ لَهُمْ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ، أَوْ عَرَضَتْ لَهُمْ خُصُوصِيَّاتٌ ضَرُورِيَّاتٌ2 تَقْتَضِي أَحْكَامًا خَاصَّةً، أَوْ بَدَرَتْ3 مِنْ بَعْضِهِمْ فَلَتَاتٌ فِي مُخَالَفَةِ الْمَشْرُوعَاتِ، وَارْتِكَابِ الْمَمْنُوعَاتِ، فَاحْتَاجُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى حُدُودٍ تَقْتَضِيهَا تِلْكَ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ، وَمَشْرُوعَاتٍ تُكْمِلُ لَهُمْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ، وَتَقْيِيدَاتٍ تَفْصِلُ لَهُمْ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ؛ إِذْ كَانَ أَكْثَرُهَا جُزْئِيَّاتٍ4 لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، كَمَا لَمْ تَسْتَقِلَّ بِأُصُولِ الْعِبَادَاتِ وَتَفَاصِيلِ التَّقَرُّبَاتِ، وَلَا سِيَّمَا حِينَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِعَقْلِهِ ذَلِكَ5 النُّفُوذُ مِنْ عَرَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ مَنْ كَانَ عَلَى عَادَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَضُرِّيَ6 عَلَى اسْتِحْسَانِهَا فَرِيقُهُ وَمَالَ إِلَيْهَا طَبْعُهُ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الَّتِي كَانَتْ لَهَا فِي عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ جَرَيَانٌ لِمَصَالِحَ رَأَوْهَا وَقَدْ شَابَهَا مَفَاسِدُ مِثْلُهَا أَوْ أَكْثَرُ، هَذَا إِلَى7 مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ   1 أي: مقدورهم. "ف". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ضرورات". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بدت". 4 أي: إضافية. "د". 5 في الأصل: "تلك". 6 بفتح فكسر: اعتاد، والفريق طائفة من الناس، أي: اعتاد قومه اسحسانها. "ف". 7 أي: فالجهاد تشريع مدني جديد، وليس تفصيلًا وتكميلًا لما سبق في مكة؛ لأنه لم يكن سببه قد تم في مكة وهو ظاهر وإن كان قد يتنافى مع ما سبق له في المسألة الثامنة1 من كتاب = 1 في الأصل: "الثانية"، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 ................................................   = الأدلة حيث قال هناك "3/ 240": "والجهاد شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقرر بمكة، كقوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر} "لقمان: 17"، وهو توجيه منه لتلك المسألة التي تقول "3/ 236": "كلما وجدت في المدنيات كلياً، فإنه جزئي بالنسبة إلى ما هو أتم منه أو تكميل لأصل كلي"، وقد يقال: لامنافاة؛ لأن ما قبل الجهاد في كلامه من أنواع المشروعات المكية كان مذكوراً بنفسه ومقرراً نوعه، إلا أنه قيد مثلاً، وبين وفصل بالمدينة أما الجهاد، فهو وإن كان مندرجاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه اندراج أشبه بالاندراج الذهني المحض، الذي لم يتحقق في الخارج على أي وجه كان في مكة، بخلاف الأنواع السابقة، فإنها بنفسها شرعت مطلقة، فاحتاجت إلى التقليد والبيان ... إلخ، فلذلك عد تشريع الجهاد في المدينة تشريعا جديدا، بخلافها، ولكن يبقى قوله: "وإلى الأمر بالمعروف ... إلخ"، وعطفه على قوله: "إلى أمر الله" الذي يقتضي أنه شرع بالمدينة، وقد عرفت فيما نقلناه عنه آنفاً أنه مقرر في مكة كما ورد في سورة لقمان، إلا أن يقال: "إنه ليس عطفا مغايرا حتي يلزم منه أن يكون مطلق الأمر بالمعروف نوعا آخر تشريعه بالمدينة جديد، بل غرضه عطف التفسير وبيان منزلة الجهاد، وأنه أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه قال: "الذي هو أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ليجتمع كلامه هنا وهناك. ولنوسع الكلام بمقدار ما يتضح المقام: جاء في سورة العنكبوت: {مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] ، قال بعض المفسرين: جاهد جهاد النفس، وقال بعضهم: بل الأعم من جهاد الغزو، وجاء في آخر السورة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، قالوا: أطلق الجهاد ليعم الأمرين، ولم يشذ عن هذا إلا من قال: الجهاد في الآية الثبات على الإيمان، ومن قال: خاص بجهاد الغزو والسورة كلها مكية لم يشذ عن القول بمكيتها؛ إلا من قال: ما عدا الآيات العشر الأول، ومن قال: بل كلها مدنية، وينبني على هذا أن السورة إذا كانت كلها مكية أو إلا العشر الآيات التي منها {وَمَنْ جَاهَد} ، وكان إطلاق الجهاد في آخرها ليعم الامرين؛ يكون تشريع الجهاد مكياً بالنص عليه بخصوصه لا بمجرد دخوله في آية الأمر بالمعروف غايته أنه مجمل من جهة الوقت، ولا يتمشى كلامه هنا وفيما سبق إلا على أحد وجهين: إما أن تكون السورة كلها مدنية، أو يكون معنى الجهاد لا يشمل الغزو، ولا يخفى ما في الوجهين من الضعف ومخالفة الجمهور. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ حِينَ قَوُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وطلبوا1 بِدُعَائِهِمُ الْخَلْقَ إِلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَإِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ كُلَّ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ بغاية البيان: تارة القرآن، وتارة بالنسبة؛ فَتَفَصَّلَتْ تِلْكَ الْمُجْمَلَاتُ الْمَكِّيَّةُ، وَتَبَيَّنَتْ تِلْكَ الْمُحْتَمَلَاتُ، وَقُيِّدَتْ تِلْكَ الْمُطْلِقَاتُ، وَخُصِّصَتْ بِالنَّسْخِ أَوْ غَيْرِهِ تِلْكَ الْعُمُومَاتُ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْبَاقِي الْمُحْكَمُ قَانُونًا مُطَّرِدًا وَأَصْلًا مُسْتَنًّا2، إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وليكون ذلك تماماً   = نعم، قال المفسرون: إن أول آية نزلت في الأمر بالجهاد آية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] ، وسورة الحج قيل: مدينة، وقيل: مكية، والأصح أنها مركبة من مدني ومكي، ولم يحققوا تمييز المكي من المدني فيها*، وقال بعضهم: أول آية نزلت في الأمر به: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] في سورة البقرة المدنية قطعاً؛ فكيف يجمع بين ما قالوه في الآيتين مع ما قولوه في آيات العنكبوت؟ فما قالوه في آيات البقرة يؤيد ما بنى عليه المؤلف كلامه هنا وفيما سبق، ويخالف ما قالوه في العنكبوت؛ فنقول: إن الجهاد قرر في مكة فضله؛ وأثنى عليه الثناء الذي يستلزم مشروعيته، ولوح ألى أنه سيكون نافذاً إذا جاء وقته، وكمل الاستعداد له، فلما جاء وقته رخص فيه بأية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] ، وقد كانموا يجيئونه صلى الله عليه وسلم بمكة هذا مشجوج الرأس، وهذا مجروح، وهذا مهان؛ فيقول لهم: "لم يؤذن لي**، بل جاء النهي عنه في جملة آيات، ثم جاءت آيات البقرة بالطلب الأكيد بالقتال وتفاصيل أحواله، فلما كان الإذن والطلب الأكيد بالقيام به إنما جاء بالمدينة؛ قال المفسرون: إنه تشريع مدني، إلا انه كان الأولى للمؤلف هنا وفيما سبق أن يجعله من الكليات المشروعة في مكة بنفسه لا بمجرد دخوله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كنت عرفت وجه صنيعه. "د". 1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وطلبوا". 2 في "ط": "مستثنياً".   * انظر تحقيق ذلك وتفصيله عند الداني في: "البيان في عد آي القرآن" "ص189". ** قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 388": "غريب جداً، وعزاه الواحدي في "الوسيط" "3/ 273"، للمفسرين، وقال ابن حجر في الكافر الشاف" "ص113": "لم أجده هكذا"، ثم قال: "وهو منتزع من أحاديث ... ". وبينها وهي مقطوعات، وانظر: "البداية والنهاية" "3/ 64". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُقَدَّمَةِ، وَبِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْمَحْكَمَةِ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً. فَالْأُصُولُ الْأُوَلُ بَاقِيَةٌ لَمْ تَتَبَدَّلْ وَلَمْ تُنْسَخْ؛ لِأَنَّهَا فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ كُلِّيَّاتٌ ضَرُورِيَّاتٌ وَمَا لَحِقَ بِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ أَوِ الْبَيَانُ عَلَى وَجْهِهِ1 عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ لَا الْكُلِّيَّاتِ. وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ مَعَ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمَكِّيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الِامْتِثَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمَدَنِيَّةُ، فَمُنَزَّلَةٌ فِي الْغَالِبِ عَلَى وَقَائِعَ لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَعْضِ الْمُنَازَعَاتِ وَالْمُشَاحَّاتِ، وَالرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ وَتَقْرِيرِ الْعُقُوبَاتِ -فِي الْجُزْئِيَّاتِ لَا الْكُلِّيَّاتِ، فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ كَانَتْ مُقَرَّرَةٌ مُحْكَمَةٌ2 بِمَكَّةَ-، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مَعَ بَقَاءِ الْكُلِّيَّاتِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى حَالِهَا، وذلك3 يُؤْتَى بِهَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّاتِ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا، فَكَمُلَتْ جُمْلَةُ الشَّرِيعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْأَمْرَيْنِ وَتَمَّتْ وَاسِطَتُهَا بِالطَّرَفَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] . وَإِنَّمَا عَنَى الْفُقَهَاءُ بِتَقْرِيرِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مظان   1 في "د": "وجوهه". 2 كما في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} ... إلخ "الأنعام: 160"، وكما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} ... إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} ... إلخ "هود: 106"، وكما في آيات: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} "الإسراء: 23"، والتذيلات التي جاءت عقبها، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ... إلخ "النازعات: 37"، ومثله كثير في تقرير الجزاءات الكلية. "د". 3 كذا في "ط" -وفيه أيضًا: " ... السور المدنية"- وفي غيره: "وذلك"، وكتب "د": "لعله: "ولذلك". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 التَّنَازُعِ وَالْمُشَاحَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْحُظُوظِ الْخَاصَّةِ، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الطَّوَارِئِ الْعَارِضَةِ، وَكَأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ لِلنَّاسِ فِي اجْتِهَادِهِمْ عَلَى خَطِّ الْفَصْلِ بَيْنَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ، حَتَّى لَا يَتَجَاوَزُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَ، فَهُمْ يُحَقِّقُونَ لِلنَّاسِ مَنَاطَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ الْخَاصَّةِ، حِينَ صَارَ التَّشَاحُّ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى مُقَارَبَةِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ، فَهُمْ يَزَعُونَهُمْ عَنْ [مُقَارَبَتِهِ وَيَمْنَعُونَهُمْ عَنْ] مُدَاخَلَةِ الْحِمَى، وَإِذَا زَلَّ أَحَدُهُمْ يُبَيِّنُ لَهُ الطَّرِيقُ1 الْمُوَصِّلُ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ فِي كُلِّ جُزْئِيَّةٍ آخِذِينَ بِحُجَزِهِمْ2 تَارَةً بِالشِّدَّةِ3، وَتَارَةً بِاللِّينِ4 فَهَذَا النَّمَطُ هُوَ كَانَ مَجَالَ اجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ، وَإِيَّاهُ تَحَرَّوْا. وَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أُصُولِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِعْلًا وَتَرْكًا، فَلَمْ يُفَصِّلُوا الْقَوْلَ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّفْصِيلِ، بَلِ الْإِنْسَانُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ الْعَمَلِ فِيهِ؛ فَوَكَلُوهُ إِلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَاجْتِهَادِهِ؛ إِذْ كَيْفَ مَا فَعَلَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ، وَقَدْ تَشْتَبِهُ فِيهِ أُمُورٌ وَلَكِنْ بِحَسَبِ قُرْبِهَا مِنَ الْحَدِّ الْفَاصِلِ؛ فَتَكَلُّمُ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ بُعْدُهُ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِّ أكثر كان اعراقه فِي مُقْتَضَى الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَكْثَرَ. وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَوْصَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ تَبَيَّنَ لَكَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَبَوْنُ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَا يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم   1 من الكفارات وغيرها. "د". 2 الحجز؛ بضم، ففتح: جمع حجزة؛ بضم، فسكون، وهي موضع شد الإزارة، والمراد هنا التمسك والتعلق. "ف". "3 و4" يحتاج إلى بيان؛ فإن ذلك إنما يظهر في مواطن الوعظ بالترغيب والترهيب، لا في الاجتهاد؛ إلا أن يقال: إن ذلك يظهر في الاجتهاد بمعنى تحقيق المناط الخاص لما سبق أنه يختلف باختلاف الأشخاص وما يناسبهم. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأُصُولِ، وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ عَوَّلَ مَنْ شُهِرَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَبِذَلِكَ سَادُوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبَالِغَهُمْ فِي الِاتِّصَافِ بِأَوْصَافِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ حَازَ مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبًا فَافْتَقَرَ إِلَى النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْوَقَائِعِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ؛ فَأَجْرَوْهَا بِالْأُصُولِ الْأُولَى عَلَى حَسَبِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَأَجْرَوْهَا بِالْفُرُوعِ الثَّوَانِي حِينَ اضْطُرُّوا إِلَى ذَلِكَ؛ فَعَامَلُوا رَبَّهُمْ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا1 إِلَّا الْمُوَفَّقُ الْفَذُّ، وَهُوَ كَانَ شَأْنَ مُعَامَلَاتِ الصَّحَابَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ السِّيَرِ. وَلَمْ تَزَلِ الْأُصُولُ يَنْدَرِسُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا وَالتَّفْرِيعِ فِيهَا؛ حَتَّى صَارَتْ كَالنَّسْيِ الْمَنْسِيِّ، وَصَارَ طَالِبُ الْعَمَلِ بِهَا كَالْغَرِيبِ الْمُقْصَى عَنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "بَدَأَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" 2. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْكُلِّيَّاتِ يُشَارِكُ الْجُمْهُورُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ فَيَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ وَاسْتِقْرَاءُ مَا تَقَدَّمَ من الشريعة يبينه.   1 في "د": "ذلك". 2 مضى تخريجه "1/ 151"، وهو صحيح، وفي "ف": "بدا" من غير همز، وكتب "روي مهمزًا وغير مهموز*، أي أنه كان في أول مره كالغريب الوحيد لقلة المسلمين، وسيعود غريبًا كان، أي: يقل المسلمون في آخر الزمان لفساد الناس، وظهور الفتن؛ فطوبى للغرباء أولًا وآخرًا؛ لصبرهم على أذى الكفار، ولزومهم دين الإسلام، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغرباء؛ فقال: "الذين يحيون ما أمات الناس من سنتى"**، وطوبى لهم؛ أي: قرة عين وخير لهم"، وفي "ط": "بدأ الإسلام".   * انظر في هذا: "شرح النووي" على صحيح مسلم" "2/ 176"، و"التدوين في تاريخ قزوين" "1/ 139". ** ورد هذا التفسير في حديث عمرو بن عوف، أخرجه البزار "رقم 3287 - زوائده"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1052، 1053"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 207"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص23"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 120"، وعياض في "الإلماع" "ص18-19" بإسناد واه، وقد صح تفسير الغرباء بـ"النزاع" من القبائل، كما مضى تخريجه"1/ 151". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 فَصْلٌ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ آخِذِينَ بِمُقْتَضَى التَّنْزِيلِ الْمَكِّيِّ عَلَى مَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ وَاحْتِيَاطُهُمْ؛ فَسَبَقُوا غَايَةَ السَّبْقِ حَتَّى سُمُّوا "السَّابِقِينَ" بِإِطْلَاقٍ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَحِقَهُمْ فِي ذَلِكَ السَّبْقِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَمُلَتْ لَهُمْ بِهَا شُعَبُ الْإِيمَانِ وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَصَادَفُوا ذَلِكَ وَقَدْ رَسَخَتْ فِي أُصُولِهَا أقدامهم فكانت المتمات أَسْهَلُ عَلَيْهِمْ؛ فَصَارُوا بِذَلِكَ نُورًا حَتَّى نَزَلَ مَدْحُهُمْ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ فِي الدِّينِ أَئِمَّةً؛ فَكَانُوا هُمُ الْقُدْوَةُ الْعُظْمَى فِي أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، بَلْ زَادُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَأَمْعَنُوا فِي الِانْقِيَادِ لِمَا حُدَّ لَهُمْ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مَعًا. لَمْ تُزَحْزِحْهُمُ الرُّخْصُ الْمَدَنِيَّاتُ عَنِ الْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ الْمَكِّيَّاتِ، وَلَا صَدَّهُمْ عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مَا مُتِّعُوا بِهِ مِنَ الْأَخْذِ بِحُظُوظِهِمْ وَهُمْ مِنْهَا فِي سَعَةٍ {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 105] . فَعَلَى1 تَقْرِيرِ2 هَذَا الْأَصْلِ مَنْ أَخَذَ بِالْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَاسْتَقَامَ فِيهِ كَمَا اسْتَقَامُوا فَطُوبَى لَهُ، وَمَنْ أَخَذَ بِالْأَصْلِ الثاني فبها ونعمت، وعلى الأول جرى   1 هذا كالتلخيص لما سبق يبنى عليه مقصده في تفريع طريقة الصوفية عليه بقوله: "فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ الأصل الأول ... إلخ". "د". 2 في الأصل و"ف": "تقدير". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 الصُّوفِيَّةُ الْأُوَلُ1، وَعَلَى الثَّانِي جَرَى مَنْ عَدَاهُمْ ممن لم يلتزم ما التزموه، ومن ههنا يُفْهَمُ شَأْنُ الْمُنْقَطِعِينَ إِلَى اللَّهِ فِيمَا امْتَازُوا بِهِ مِنْ نِحْلَتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا أُمُورًا لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلَا هِيَ مِمَّا يَلْزَمُهُمْ شَرْعًا؛ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَكَلَّفُوا مَا لَمْ يُكَلَّفُوا، وَدَخَلُوا عَلَى غَيْرِ مَدْخَلِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ. وَحَاشَ لِلَّهِ! مَا كَانُوا لِيَفْعَلُوا ذَلِكَ وَقَدْ بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَهُمْ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنَ الْخَلِيقَةِ، لَكِنْ إِذَا فَهِمْتَ حَالَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّكْلِيفِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَنُصُوصِ التَّنْزِيلِ الْمَكِّيِّ [الْمُحْكَمِ] الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ، وَتَنْزِيلِ أَعْمَالِهِمْ عَلَيْهِ؛ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ2 سَلَكَ هَؤُلَاءِ، وَبِاتِّبَاعِهَا عَنَوْا3 عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَادَّ الْمَدَنِيَّ الْمُفَسِّرَ. فَإِذَا سَمِعْتَ مَثَلًا أَنَّ بَعْضَهُمْ سُئِلَ عَمَّا يَجِبُ مِنَ الزَّكَاةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: "أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا؛ فَالْكُلُّ لِلَّهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ؛ فَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا يُسْتَمَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ التَّنْزِيلَ الْمَكِّيَّ أَمَرَ فِيهِ بِمُطْلَقِ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ وَكَّلَ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُنْفِقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالِاحْتِيَاطُ فِي مِثْلِ هَذَا4 الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَدِّ الْخَلَّاتِ وَضُرُوبِ الْحَاجَاتِ، إِلَى غَايَةٍ تَسْكُنُ إِلَيْهَا نَفْسُ الْمُنْفِقِ؛ فَأَخَذَ هَذَا الْمَسْئُولُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بما أفتى به، والتزمه   1 قوله: "الأول" تقييد لما عليه من ذمه منهم من المتأخرين؛ كما مضى "1/ 358"، والفرق بين الطائفتين العلم الشرعي المصفى؛ فالأوائل ممن لهم انقطاع إلى الله لم يفعلوا ذلك إلا بعد تحري الحق والصواب بالأدلة والبراهين. 2 لعله: "إن في تلك الطريق". "ف". 3 في ماء": "عللوا". 4 في "د": "في مثل هذه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 مَذْهَبًا فِي تَعَبُّدِهِ، وَفَاءً بِحَقِّ الْخِدْمَةِ، وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِسْقَاطًا لِحُظُوظِ نَفْسِهِ، وَقِيَامًا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقِ لِنَفْسِهِ حَظًّا وَإِنْ أَثْبَتَهُ لَهُ الشَّارِعُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ لله خزائن السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ قَالَ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] . وَقَالَ: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذريات: 57] . وَقَالَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 22] . وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا نَحْوٌ مِنَ التَّعَبُّدِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ فِي مُلْتَزَمِهِ: إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الطَّرِيقَةِ، وَلَا متكلَّف فِي التَّعَبُّدِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَيْدَانُ لَا يَسْرَحُ فِيهِ كُلُّ النَّاسِ قُيِّدَ فِي التَّنْزِيلِ الْمَدَنِيِّ حِينَ فُرِضَتِ الزَّكَوَاتُ؛ فَصَارَتْ هِيَ الْوَاجِبَةُ انْحِتَامًا، مُقَدَّرَةٌ لَا تَتَعَدَّى إِلَى مَا دُونَهَا، وَبَقِيَ مَا سِوَاهَا عَلَى حُكْمِ الْخِيَرَةِ؛ فَاتَّسَعَ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَجَالُ الْإِبْقَاءِ جَوَازًا، وَالْإِنْفَاقِ نَدْبًا؛ فَمِنْ مُقِلٍّ فِي إِنْفَاقِهِ وَمِنْ مُكْثِرٍ؛ وَالْجَمِيعُ مَحْمُودُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا اسْتَفْسَرَ الْمَسْئُولُ السَّائِلَ لِيُجِيبَهُ عَنْ مُقْتَضَى سُؤَالِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْتَهِي فِي الْإِنْفَاقِ إِلَى إِنْفَاذِ الْجَمِيعِ، بَلْ يُبْقِي بِيَدِهِ مَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُوَافِقٌ فِي الْقَصْدِ لِمَنْ لَمْ يبقِ شَيْئًا، عِلْمًا بِـ"أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سوى الزكاة"1، وهو يَتَعَيَّنُ تَحْقِيقًا، وَإِنَّمَا فِيهِ الِاجْتِهَادِ؛ فَلَا يَزَالُ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدًا فِيهِ مَا بَقِيَ بيده منه شيء.   1 ورد هذا اللفظ في حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقًا سوى الزكاة" 3/ 48/ رقم 659، 660"، والدارمي في "السنن" "1/ 385" عن فاطمة بنت قيس بإسناد ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهو أصح"، انظر ما مضى "3/ 64". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 مُتَحَمِّلًا1 مِنْهُ أَمَانَةً لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا إِلَّا بِنَفَاذِهِ، أَوْ كَالْوَكِيلِ فِيهِ لِخَلْقِ اللَّهِ، سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْهُمْ2 أَمْ لَا. وَهَذَا كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ إِمْسَاكُهُمْ مُضَادًّا لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ أُجْرِيَ عَلَى اعْتِبَارِ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَادِيَاتِ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ لِلْعَادِيَّاتِ عِنْدَهُ مَزِيَّةٌ فِي جَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْعِبَادِ. وَأَمَّا مَنْ أَبْقَى لِنَفْسِهِ حَظًّا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ حَظُّهُ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ عَلَى شَرْطِ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبَاتِ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنَ الْخِصَالِ الْمَكِّيَّةِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذُكِرَ؛ فَالصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الْقِسْمِ3 مُعَامَلُونَ حُكْمًا بِمَا قَصَدُوا مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحُظُوظِ؛ فَيَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهُمَا مَنْ لَا يَأْخُذُ بِتَسَبُّبِهِ أَوْ يَأْخُذُ بِهِ وَلَكِنْ عَلَى نِسْبَةِ الْقِسْمَةِ وَنَحْوِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تَقَعُ الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ النَّظَرَ فِيهِ خَاصٌّ لَا عَامٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى حَالَةٍ يَكُونُ الْمُسْتَفْتِي عَلَيْهَا، وَهُوَ كَوْنُهُ يَعْمَلُ لِلَّهِ وَيَتْرُكُ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ تَصَارِيفِهِ؛ فَسَقَطَ لَهُ طَلَبُ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ، فَسَاغَ أَنْ يُفْتِيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ حَالَتِي، فَاحْمِلْنِي عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَلَا بُدَّ أن يحمله على ما تقضيه4، كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدٌ لِلْمُفْتِي: إِنِّي عَاهَدْتُ الله على أن لا أَمَسَّ فَرَجِي بِيَمِينِي، أَوْ عَزَمْتُ عَلَى أَلَّا أسأل أحدا شيئًا، وأن لا تَمَسَّ يَدِي يَدَ مُشْرِكٍ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا؛ فإنه عقد [عقدًا]   1 في "ماء": "محتملًا". 2 في "د": "أمد نفسه منه". 3 في "د": "أهل هذا البلد". 4 في "د": "يحمله ... تقضيه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 لِلَّهِ عَلَى فِعْلِ فَضْلٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النَّحْلِ: 91] . وَمَدَحَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُ الْمُتَجَرِّدِينَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ؛ فَهُوَ مِمَّا يُطْلَبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مانع، وفي الحديث: "إِنَّ خَيْرًا لِأَحَدِكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا" 1؛ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَقَعُ لَهُ سَوْطُهُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ2. وَقَالَ عُثْمَانُ: مَا مَسَسْتُ ذَكَرِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. وَقِصَّةُ حَمِيِّ الدَّبْرِ4 ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذْ عَاهَدَ اللَّهَ أن لا يَمَسَّ مُشْرِكًا، فَحَمَتْهُ الدَّبْرُ حِينَ اسْتُشْهِدَ أَنْ يمسه مشرك، الحديث كما وقع5.   1 مضى تخريجه "1/ 501". 2 مضى تخريجه "2/ 500". 3 أخرج الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 488"، وابن قتيبة في "غريب الحديث" "2/ 72"، والطبراني في "الكبير" "1/ 85/ رقم 124"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص23، 24" من طرق عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي ثور الفهمي، عن عثمان؛ قال: "لقد اختبأت عند ربي عشرًا .... "، وذكر منها: "ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها حبي صلى الله عليه وسلم"، وذكره ابن جرير" في "التاريخ" "4/ 390"، والذهبي في "تاريخ الإسلام" "ص469 – عهد الخلفاء الراشدين"، وابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 210"، وغيرهم. وأخرجه من طريق آخر بنحوه أبو يعلى في "مسنده" "7/ 45"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 339"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "142-143 – ترجمة عمر بن الخطاب". 4 بفتح الحاء، وكسر الميم، وياء مشدده؛ أي: محميه، والدبر؛ بفتح الدال، وكسرها وسكون الباء: النحل والزنابير، وحمي الدبر هو عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أصيب يوم أحد؛ فمنعت النحل الكفار منه، وقصته أن المشركين لما قتلوه أرادا أن يمثلوا به؛ فسلط الله عز وجل عليهم الزنابير الكبار تأبر الدارع، فارتدعوا عنه؛ حتى أخذه المسلمون، فدفنوه، وتأبر؛ بكسر الباء: تدفع بإبرتها. "ف". 5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه 7/ 308-309/ رقم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 غَيْرَ أَنَّ الْفُتْيَا بِمِثْلِ هَذَا اخْتُصَّتْ بِشُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِأَرْبَابِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ؛ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْغَالِبِ مَعَ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِحَظِّهِ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ لَهُ الشَّارِعُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمُقْتَضَاهُ، وَحُدُودُ الْحُظُوظِ مَعْلُومَةٌ فِي فَنِّ الْفِقْهِ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَحَدًا جَاءَ سَائِلًا وَحَالُهُ مَا تَقَدَّمَ؛ لَكَانَ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا خِلَافَ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِعُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ صَرَّحَ بِالْجَمِيعِ، لَكِنْ جَعَلَ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَهِيَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَلَمْ يُلْزِمْهَا أَحَدًا؛ لِأَنَّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْأُخْرَى الْعَامَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْفُتْيَا بِهَا عُمُومًا كَسَائِرِ مَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ؛ فَلَمْ تَقَعِ الْفُتْيَا بِهَا عَلَى مُقْتَضَى اللُّزُومِ؟ قِيلَ: لَمْ يُفْتِ بِهَا [عَلَى] 1 مُقْتَضَى اللُّزُومِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ السَّائِلُ مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يفتي لها وَهُوَ طَالِبٌ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ حَسْبَمَا اسْتَدْعَاهُ حَالُهُ، وَأَصْلُ الْإِلْزَامِ مَعْمُولٌ بِهِ شَرْعًا؛ أصله النظر والوفاء بالوعد2 في   = 3989، وباب غزوة الرجيع 7/ 378-379/ رقم 4086" عن أبي هريرة؛ قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا ... " وفيه أنه قتل و"بعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر؛ فبعث الله عليه مثل الضُّلَّة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء". وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في الرجل يستأسر 3/ 51/ رقم 2260" مختصرًا، وأحمد في "المسند" "2/ 294، 310-311"، وفي رواية ابن إسحاق: "كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا". انظر: "فتح الباري" "7/ 384"، وعزاه في "الإصابة" "2/ 245" لـ"الصحيحين" بلفظ ابن إسحاق، وفي هذا نظر، وهو ليس في مسلم، وقول "ف": "يوم أحد" ليس بصحيح. 1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أصله النظر والوفاء بالعهد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 التَّبَرُّعَاتِ، وَمِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ لَازِمٌ1؛ كَالْمُتْعَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَحَدِيثُ: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ" 2. وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَامِلُ أَصْحَابَهُ بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَيَمِيلُ بِهِمْ إِلَيْهَا؛ كَحَدِيثِ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا3. وَقَوْلُهُ: "مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ 4 عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ" الْحَدِيثَ بِطُولِهِ5. وَقَوْلُهُ: "مَنْ ذَا الَّذِي تَأَلَّى 6 عَلَى الله لا يفعل الخير؟ " 7.   1 ألف محمد بن محمد الحطاب المالكي "ت954هـ" كتابًا بعنوان: "تحرير الكلام في مسائل الالتزام"، وهو مطبوع، وفيه كلام تفصيلي على الفروع المذكورة عند المصنف. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المظالم، باب لا يمنع جاره أن يغرز خشبة في جداره، 5/ 110/ رقم 2643"، وكتاب الأشربة، باب الشرب من فم السقاء 9/ 60/ رقم 5627"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار 3/ 1230/ رقم 1609" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 مضى لفظه وتخريجه "2/ 324"، و"أرملوا" أي: تقدمت أزوادهم، يقال: أرمل الرجل والقوم إذا ذهب زادهم. "ف" و"م". 4 "فليعد" –بالدال "المهملة": من عاد يعود، إذا رجع. "ف" و"م". 5 مضى تخريجه "3/ 63". 6 أي: حلف، يقال: تألَّى، يتألَّى، تألِّيًا، وائتلى يأتلي ائتلاء: "إذا" حَلِف. "ف" و"م". 7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح 5/ 307/ رقم 2705"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1191-1192/ رقم 1557" عن عائشة؛ قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: "والله لا أفعل". فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟ " وأبهم مسلم شيخه فيه، انظر له: "غرر الفوائد المجموعة" "ص678-680 - بتحقيقي" لرشد الدين العطار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وَإِشَارَتُهُ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْ يَحُطَّ عَنْ غَرِيمِهِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِهِ1. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ2 فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ ائْتَلَى أن لا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} الْآيَةَ [النُّورِ: 22] ، وَبِذَلِكَ عَمِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي حُكْمِهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى أَرْضِهِ وَقَالَ: "وَاللَّهِ؛ ليمرَّنَّ به ولو على بطنك"3.   1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد 1/ 551-552/ رقم 457، وكتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض 5/ 73/ رقم 2418، وكتاب الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح 5/ 307/ رقم 2706، وباب الصلح بالدين والعين 5/ 300/ رقم 2710"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1192/ رقم 1558" عن كعب بن مالك؛ أنه تقاضى ابنَ أبي حدرد دينا كان له عليه، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف –أي: ستر- حجرته، ونادى كعب بن مالك؛ فقال: "يا كعب! ". فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك. قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم فاقضِهِ". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، 4/ 2129-2137/ رقم 2770" عن عائشة -ضمن حديث الإفك الطويل- وفيه: " .... قال أبو بكر -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} ". 3 أخرجه مالك في "الموطأ" "746 – رواية يحيى، ورقم 2897 - رواية أبي مصعب، و358 – رواية محمد بن الحسن" -ومن طريقه الشافعي في "المسند" "2/ 135"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 157" و"معرفة السنن والآثار" "9/ رقم 12264"- ويحيى بن آدم في "الخراج" "رقم 353" من طريق عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، وشط فيه يحيى؛ فقال: "أظنه عن أبيه، ولعله رواه من حفظه"، وإسناد رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل، كما قال البيهقي. وله طريق أخرى أشار إليها البيهقي وابن عبد البر في "الاستذكار" "22/ 229/ رقم 32544"، ثم ظفرت بها في "الخراج" ليحيى بن آدم "رقم 348، 349، 350"، وهو مرسل أيضًا، أفاده البيهقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَأَخَصُّ1 مِنْ هَذَا فُتْيَا أَهْلِ الْوَرَعِ إِذَا عَلِمْتَ دَرَجَةَ الْوَرَعِ فِي مَرَاتِبِهِ؛ فَإِنَّهُ يُفْتِي بِمَا تَقْتَضِيهِ مَرْتَبَتُهُ، كَمَا يُحْكَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهُ عَنِ الْغَزَلِ بِضَوْءِ مَشَاعِلِ السُّلْطَانِ؛ فَسَأَلَهَا: "مَنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِي. فَأَجَابَهَا بِتَرْكِ الْغَزَلِ بِضَوْئِهَا"2. هَذَا مَعْنَى الْحِكَايَةِ دُونَ لَفْظِهَا. وَقَدْ حَكَى مُطَرِّفٌ3 عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ مَالِكٌ يَسْتَعْمِلُ فِي نَفْسِهِ مَا لَا يُفتي بِهِ النَّاسَ"4، يَعْنِي: الْعَوَامَّ، وَيَقُولُ: "لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ وَحَتَّى يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِمَا5 لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ6 إِثْمٌ". هَذَا كَلَامُهُ. وَفِي هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَالْحِكَايَاتِ عَنْهُمْ كَثِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   1 في "ط": "وأرخص". 2 ذكره القشيري في "الرسالة" "ص54". 3 نقله عن القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 180 - ط بيروت"، وأسنده الخطيب البغدادي إلي في "الفقيه والمتفقه" "2/ 161". 4 في "تريب المدارك": "ما لا يلتزمه الناس". 5 أي: بفعل ما لو تركه لم يكن آثمًا، ولكن إنصاف من النفس، وإسقاط للحظ. "د". 6 سقطت "فيه" من "م"، وفي "ترتيب المدارك" " ..... لو تركه لا يكون عليه فيه إثم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 الطَّرَفُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُجْتَهِدِ مِنَ الْأَحْكَامِ فيما يتعلق بفتواه ... الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُفْتِي قَائِمٌ1 فِي الْأُمَّةِ مَقَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النَّقْلُ الشَّرْعِيُّ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ" 2. وَفِي "الصَّحِيحِ": "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ؛ حَتَّى إِنِّي لِأَرَى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْعِلْمُ" 3. وهو في معنى الميراث.   1 القيام مقامه صلى الله عليه وسلم بجملة أمور، منها: الوراثة في علم الشريعة بوجه عام، ومنها إبلاغها الناس، وتعليمها للجاهل بها، والإنذار بها كذلك، ومنها بذل الوسع في استنباط الأحكام في مواطن الاستنباط المعروفة، فكل مرتبة من هذه المراتب أعلى مما قبلها، فالمرتبة الأولى استدل عليها بحديثين وبمجموع الآيتين؛ فصدر الآية الثانية يفيد وراثة العلم، وعجز الثانية مع الأولى يفيدان الوراثة بوجه عام، والوراثة في النذارة بوجه خاص ولو أخرهما إلى الرتبة الثانية؛ ليستدل بهما عليها كان أجود، والرتبة الثانية استدل عليها بالأحاديث الثلاثة، والثالثة أدلتها هي عين أدلة الاجتهاد، ومطالبة من بلغ ربتبته بالقيام به مضافة إلى دليل أنه صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، وهذه الرتبة للمفتي أهم الرتب الثلاثة في القيام مقامه والخلافة عنه صلى الله عليه وسلم كما سيقول المؤلف، وبهذا التقرير يتضح كلامه؛ فليست الأمور الثلاثة دليلًا على نوع واحد، بل المستدل عليه أنواع ثلاثة كلها داخلة تحت الخلافة عنه، وأدلتها أيضًا مختلفة بحسبها. "د". قلت: أسهب ابن القيم في بيان أن المفتي في الأمة قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في "إعلام الموقعين"، ونقل القاسمي في "الفتوى في الإسلام" ص49-54" كلام المصنف هذا، وانظر: "المعتمد" "1/ 338"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 94"، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص119"، وكلاهما للشيخ محمد الأشقر. 2 مضى تخريجه "4/ 76". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التعبير، باب اللبن 12/ 393/ رقم 7006، وباب إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافره 12/ 394/ رقم 7007، وباب إذا أعطى فضله غيره في النوم 12/ 417/ رقم 7027، وباب القدح في النوم 12/ 420/ رقم 7032، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه" "4/ 1859-1860/ رقم 2391" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 وبُعث النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا؛ لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هُودٍ: 12] . وَقَالَ فِي الْعُلَمَاءِ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 122] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ؛ لِقَوْلِهِ: "أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ" 1. وَقَالَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" 2. وَقَالَ: "تَسْمَعُونَ ويُسمَع مِنْكُمْ، ويُسمَع مِمَّنْ يَسمَع منكم" 3.   1 أخرجه البخاري في صحيحه "كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب" "1/ 199/ رقم 105"، "وكتاب المغازي، باب حجة الوداع 8/ 108/ رقم 4406"، "وكتاب الأضاحي، باب من قال: الأضحى يوم النحر 10/ 7-8/ رقم 5550"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال 3/ 1305-1306/ رقم 1679" عن أبي بكرة رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 496/ رقم 3461" وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. 3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3/ 321-322/ رقم 3659" ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "6/ 539"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 292/ رقم 203" ومن طريقه ابن خير في "الفهرست" "10، 12-13" وأحمد في "المسند" "1/ 321"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 263/ رقم 62 - الإحسان، ورقم 77 - = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ النَّبِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُفْتِيَ شَارِعٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ مَا يُبَلِّغُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ إِمَّا مَنْقُولٌ عَنْ صَاحِبِهَا، وَإِمَّا مُسْتَنْبَطٌ مِنَ الْمَنْقُولِ؛ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ فِيهِ مُبَلِّغًا، وَالثَّانِي يَكُونُ فِيهِ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي إِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ، وإنشاءُ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا هُوَ لِلشَّارِعِ1، فَإِذَا كَانَ لِلْمُجْتَهِدِ إِنْشَاءُ الْأَحْكَامِ بِحَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَارِعٌ، وَاجِبٌ اتِّبَاعُهُ2 وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ ما قاله، وهذه هي الخلافة على   = موراد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 95"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "92"، والرازي في "مشيخته" "رقم 5"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "70"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 250"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1012-1013/ رقم 1932" عن ابن عباس، وإسناده حسن. قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ليس له علة". "قلت: فيه أبو جعفر الرازي عبد الله بن عبد الله، لم يخرج له الشيخان، قال النسائي: "ليس به بأس"، ووثقه ابن حبان؛ فقال عقب حديثه: "ثقة كوفي"، ولم يضعفه أحد، قاله العلائي في "جامع التحصيل" "ص50-51"، وزاد: "والحديث حسن، وقد صححه الحاكم في "المستدرك"، وفي كلام إسحاق بن راهويه ما يقتضي تصحيحه أيضًا". وللحديث شاهد عن ثابت بن قيس أخرجه البزار في "مسنده" "146 - زوائده"، والطبراني في "الكبير" "2/ 71/ رقم 1321"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "ص91"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص37-38"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1012/ رقم 1931". ورجاله ثقات؛ إلا أن انقطاعًا فيه؛ عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من ثابت، أفاده الهيثمي في "مجمع الزوائد" "1/ 137". 1 أي: بالوحي أو الاجتهاد على القول به له صلى الله عليه وسلم. "د". 2 في هذا نظر؛ فالمفتي ليس شارعًا، وليس واجب الاتباع؛ لأنه مفتٍ، وإلا للزم الناس فتاوى المجتهدين جميعًا على اختلافها وتناقضها، ويتأيد ذلك بما أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 654" بعد "257" وغيره عن ابن مسعود قوله: "إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى"، وقال تعالى: = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 التَّحْقِيقِ1، بَلِ الْقِسْمُ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُبَلِّغٌ لَا بُدَّ مِنْ نَظَرِهِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ فَهْمِ الْمَعَانِي مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا وَتَنْزِيلِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ فِيهَا؛ فَقَدْ قَامَ مَقَامَ الشَّارِعِ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ2 جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَقَدْ أُدْرِجَتِ النبوة بين جنبيه"3.   = {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} ، وترى في لفظ "المشروع" بحثًا مطولًا في كتاب "التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية" "ص32-36"، ولكل من الشيخ عبد العال عطوة والشيخ عبدا لستار فتح الله سعيد في كتابه "المنهاج القرآني في التشريع" "ص300-302" اعتراضات على مؤلف الكتاب في تجويزه هذا الإطلاق. وانظر: الفروق" "4/ 53-54"، و"نظرات في اللغة" "ص106" للغلاييني، و"معجم المناهي اللفظية" "ص303-305 - ط الأولى" للشيخ بكر أبو يزيد، والتعليق على "الفتوى في الإسلام" "ص53" للقاسمي، و"تغيُّر الفتوى" "ص57-58" لبازمول. 1 أفاد الشيخ القاسمي في كتابه "الفتوى في الإسلام" "ص53 - الهامش" أن المصنف يشير إلى حديث: "اللهم ارحم خلفائي". قلت: الحديث ضعيف باطل، ومضى تخريج نحوه بإسهاب. 2 يصلح أن يكون دليلًا للرتب الثلاثة. "د". 3 أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" "ص159"، وأبو عبيد "ص53"، وابن الضريس "65"، وأبو الفضل الرازي "51"، كلهم في "فضائل القرآن"، والشجري في "الأمالي" "1/ 92"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 531"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 396" من طريق إسماعيل بن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا. وإسناده ضعيف جدًّا؛ إسماعيل بن رافع متروك. وأخرجه ابن الانباري في "إيضاح الوقف والابتداء" "1/ 11-12"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 187-188"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 440-441"، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 50"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 446"، والشجري في "الأمالي" "1/ 85"، والبيهقي في "الشعب" "4/ 557-558" و"5/ 530"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "1/ 252-253"، و"الحدائق" "1/ 501" من طريق بشر بن نمير عن القاسم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالْمُفْتِي مخبِرٌ عَنِ اللَّهِ كَالنَّبِيِّ، ومُوقع لِلشَّرِيعَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِحَسَبِ نَظَرِهِ كَالنَّبِيِّ، وَنَافِذٌ أَمْرُهُ فِي الْأُمَّةِ بِمَنْشُورِ1 الْخِلَافَةِ كَالنَّبِيِّ، وَلِذَلِكَ سُمُّوا أُولِي الْأَمْرِ، وقُرنت طَاعَتُهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] . وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا انْبَنَى عَلَيْهِ معنى آخر وهو:   = ابن عبد الرحمن عن أبي أمامة مرفوعًا: "من قرأ ثلث القرآن أعطى ثلث النبوة .... ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها". وإسناده هالك، بشر بن نمير مُتهم. وأخرجه الأجُرِّي في "أخلاق حملة القرآن" "رقم 14"، ومن طريقه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 49"، من طريق مسلمة بن علي الخشني عن زيد بن واقد عن مكحول عن أبي أمامة رفعه: "من قرأ ربع القرآن؛ فقد أوتي ربع النبوة ..... ومن قرأ القرآن؛ فقد أوتي النبوة؛ غير أنه لا يوحى له"، وإسناده ضعيف جدًّا؛ مسلمة بن على متروك الحديث، ومكحول لم يسمع من أبي أمامة. وقد صح موقوفا بنحو اللفظ الذي أورده المصنف عن عبد الله بن عمرو قوله، ومضى تخريجه "4/ 189". 1 أقرب معاني "المنشور" هنا ما كان غير مختوم من كتب السلطان، وذلك هو ما أشار إليه سابقًا من الآيات والأحاديث الدالة على خلافة العلماء عنه صلى الله عليه وسلم. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْفَتْوَى مِنَ الْمُفْتِي تَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ؛ فَأَمَّا الْفَتْوَى بِالْقَوْلِ؛ فَهُوَ الْأَمْرُ الْمَشْهُورُ وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا بِالْفِعْلِ؛ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ فِي مَعْهُودِ1 الِاسْتِعْمَالِ؛ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْقَوْلِ الْمُصَرَّحِ بِهِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا" 2 وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ. وَسُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّتِهِ؛ فَقَالَ3: "ذبحتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ" فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ؛ قال: "ولا حرج" 4.   1 أي: في عرف المفتي والمستفتي؛ فرب إشارات يختلف استعمالها عند الأمم والطوائف. "د". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب اللعان 9/ 439/ رقم 5302" عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "الشهر هكذا وهكذا " يعني ثلاثين"، ثم قال: "وهكذا وهكذا " يعنى تسعًا وعشرين". يقول مرة ثلاثين، ومرة تسعًا وعشرين. أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/ 761/ رقم 1080 بعد 15" عن ابن عمر، وفيه: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" -وعقد الإبهام في الثالثة- "والشهر هكذا وهكذا وهكذا" -يعني: تمام الثلاثين. وأخرجه بألفاظ كثيرة، وكذا أخرجه البخاري بنحوه في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" 4/ 119/ رقم 1908، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب" 4/ 126/ رقم 1913"، وأوله في بعض طرقه: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب". 3 أي: فقال السائل في سؤاله. "م". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 وَقَالَ: "يُقْبَضُ الْعَلَمُ، وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ؛ فَحَرَّفَهَا؛ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ1. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ حِينَ أَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، قُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ2. وَحِينَ سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ قَالَ لِلسَّائِلِ: "صَلِّ مَعَنَا 3 هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ". ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "الْوَقْتُ ما بين هذين" 4.   = والرأس 1/ 181/ رقم 84". ومضى تخريجه "4/ 100" دون لفظة الإيماء باليد وهو في ستة مواطن أخرى من "صحيح البخاري" "الأرقام: 1721، 1722، 1723، 1734، 6666"، و"صحيح مسلم" "رقم 1306" دونها والمثبت: "ولا حرج" من "صحيح البخاري"، وفي الأصول: "لا" من غير واو. 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس 1/ 182/ رقم 85"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 182" معلقًا على: "فحرفها، كأنه يريد القتل": "كأن ذلك فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب، لكن هذه الزيادة لم أرها في معظم الروايات؛ وكأنها من تفسير الراوي عن حنظلة؛ فإن أبا عوانة رواه عن عباس الدروي عن أبي عاصم عن حنظلة، وقال في آخره: "وأرانا أبو عاصم كأنه يضرب عنق الإنسان". 2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/ 543/ رقم 1053" عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها؛ قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم-حين خسفت الشمس- فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي؛ فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء، وقالت: سبحان الله! فقلت: آية. فأشارت؛ أي نعم ... ". وأخرجه أيضًا مسلم في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار 2/ 624/ رقم 905"، ومالك في الموطأ" "1/ 188-189". 3 لو اكتفى صلى الله عليه وسلم بصلاته معهم هذين اليومين، وفهم الصحابي منها الغرض؛ لكان مما نحن فيه، أما وقد قال له: "الوقت ..... إلخ"، والإفتاء بهذا القول لا بمجرد الفعل الذي إنما حصل مساعدًا على إيجاز الإفتاء القولي، نعم، له دخل في قوة البيان، ولكن الفتوى قولية، انبنى على الفعل وضوحها وإيجازها، وقد يقال: إنها مركبة من الفعل والقول. "د". 4 مضى تخريجه "3/ 156". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 أَوْ كَمَا قَالَ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا. وَالثَّانِي: مَا يَقْتَضِيهِ كَوْنُهُ أُسْوَةً يُقْتَدَى بِهِ، وَمَبْعُوثًا لِذَلِكَ قَصْدًا، وَأَصْلُهُ2 قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 37] . وَقَالَ قبل ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 21] . وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيم} [الممتحنة: 4] إلى آخر القصة3.   1 كحديث الأنصاري الذي شكا عدم الحفظ؛ فقال له: "استعن بيمينك"* وأومأ بيده إلى الخط، وقد يقال أيضًا: إنها مركبة منهما، وسيأتي في المسألة بعد هذه أنه لما سأله الرجل عن أمر؛ قال: "إني أفعله ... ". "د". 2 أي: الدليل القولي العام للاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم. "د". 3 والكلام وإن كان في الفعل وباقي القصة قول؛ إلا أن قول إبراهيم والذين معه لقومهم .... إلخ يعد فعلًا في هذا المقام، كما سبق في القول التكليفي، وهو الذي لا يؤتى به أمرًا ولا نهيًا ولا أخبارًا عن حكم شرعي، بل يؤتى به كما يؤتى بالأفعال، وبيانه في المسألة السادسة من السنة. "د".   * أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الرخصة فيه" "أي: كتابة العلم" 5/ 39/ رقم 2666" عن أبي هريرة، والحديث ضعيف؛ قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسناده ليس بذلك القائم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: الخليل بن مرة منكر الحديث". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 وَالتَّأَسِّي: إِيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ، وشَرْعُ مَن قبلَنا شَرْعٌ لَنَا1. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمِّ سَلَمَةَ: "أَلَا أَخَبَرْتِيهِ أَنِّي أُقَبِّل وَأَنَا صَائِمٌ" 2. وَقَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 3، وَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 4. وَحَدِيثُ5 ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ أَشْهَرُ مِنْ أن يخفى، ولذلك   1 الآية فيها التصريح بطلب القدوة بإبراهيم؛ فلا يحتاج للبناء على هذه القاعدة. "د". 2 رواية مالك: "ألا أخبرتها"، والضمير يعود على السائلة، وقد تقدمت هذه الرواية، ورواية مسلم وإن لم يكن فيها جملة: "ألا أخبرتيه"؛ إلا أن الضمير عائد إلى عمر بن أبي سلمة ابنها، فيصح لو وجدت جملة: "ألا أخبرتيه " ... إلخ أن يكون الضمير مذكرًا؛ لأنه يعود إلى عمر ابنها. "د". قلت: مضى تخريجه "4/ 74". 3 مضى تخريجه "3/ 245". 4 مضى تخريجه "3/ 246". 5 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، أقتصِر على واحد منها جُمع فيه أربع خصال: أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين 1/ 267-268/ رقم 166"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة 2/ 844-845/ رقم 1187" عن عبيد بن جريج قال لعبد الله بن عمر: "يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها. قال: وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية، قال عبد الله: أما الأركان؛ فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها؛ فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها؛ فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال؛ فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته". لفظ البخاري، وانظر: "تحفة الأشراف" "6/ 6/ رقم 7316". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 جَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ أَفْعَالَهُ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ كَأَقْوَالِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَثَبَتَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ النَّبِيِّ وَنَائِبٌ مَنَابَهُ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَحَلٌّ لِلِاقْتِدَاءِ أَيْضًا، فَمَا قُصِدَ بِهَا الْبَيَانُ وَالْإِعْلَامُ؛ فَظَاهَرٌ، وَمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ؛ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَارِثٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُوَرِّثُ [قُدْوَةً] 1 بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مُطْلَقًا2؛ فَكَذَلِكَ3 الْوَارِثُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَنْتَصِبَ أَفْعَالُهُ مُقْتَدًى بِهَا كَمَا انْتَصَبَتْ أَقْوَالُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّأَسِّيَ بِالْأَفْعَالِ -بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُعظَّم فِي النَّاسِ- سِرٌّ مَبْثُوثٌ فِي طِبَاعِ4 الْبَشَرِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ بِوَجْهٍ وَلَا بِحَالٍ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاعْتِيَادِ وَالتَّكْرَارِ، وَإِذَا صَادَفَ مَحَبَّةً وَمَيْلًا إِلَى الْمُتَأَسَّى بِهِ، وَمَتَى وَجَدْتَ5 التَّأَسِّيَ بِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ مَفْقُودًا فِي بَعْضِ النَّاسِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا تُرِكَ لتأسٍ آخَرَ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ6 فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَحَلَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: حِينَ دَعَاهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ [إِلَى الْخُرُوجِ] مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ؛ فَكَانَ مِنْ آكَدِ مُتَمَسَّكَاتِهِمُ التَّأَسِّي بِالْآبَاءِ7؛ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}   1 ما بين المعقوفتين سقط في "ف" و"م". وفي "ماء": "الموروث مقتدى"، وفي "ط": "الموروث يقتدى". 2 أي: سواء أقصد به البيان أم لم يقصد. "د". 3 ولعل أصل العبارة: مطلقًا كذلك فكذلك. إلخ. "ف". 4 وهل يكفي هذا لأن يكون دليلًا شرعيًا على شرعية التأسي بالمفتي ولو لم يقصد البيان؟ "د". 5 في "م": "وجد". 6 أي: ترك التأسي لتأسٍ آخر. "د". 7 فصل المصنف الكلام على هذا في كتابه "الاعتصام" "2/ 688-690 - ط ابن = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 [لُقْمَانَ: 21] وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} [ص: 5] . ثُمَّ كَرَّرَ عَلَيْهِمُ التَّحْذِيرَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَكَانُوا عَاكِفِينَ عَلَى مَا عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ، إِلَى أَنْ نُوصِبُوا بِالْحَرْبِ1 وَهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ؛ حَتَّى كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا دُعوا بِهِ التَّأَسِّي بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَأُضِيفَتِ الْمِلَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} [الْحَجِّ: 78] ؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَابًا لِلدُّعَاءِ إِلَى التَّأَسِّي بِأَكْبَرِ آبَائِهِمْ عِنْدَهُمْ، وبيَّن لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ الَّتِي كَانَتْ آبَاؤُهُمْ تَسْتَحْسِنُهَا وَتَعْمَلُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا؛ فَكَانَ التَّأَسِّي دَاعِيًا إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ التَّأَسِّي، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا دُعُوا بِهِ مِنْ2 جِهَةِ التَّلَطُّفِ بِالرِّفْقِ وَمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَبِذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النَّحْلِ: 123] . وَقَوْلُهُ3: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} [النَّحْلِ: 125] . فَكَانَ هَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو بِهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَانَ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَدَّقَ الفعلُ القولَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مما دعا إلى اتِّباعه والتأسي   = عفان في السبب الثالث من أسباب الخلاف "التصحيح على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق"، من الباب التاسع "في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين". وانظر: "الأمر بالمعروف" لابن تيمية "ص46-47 - ط المكتبة القيمة". 1 في "م": "الحرب"، وفي "ط": "نصبوا الحرب". 2 في "ط": "في". 3 في "ط" بدون "واو" على أنها فاعل "جاء"، وقال "د": "لعل الواو زائدة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 بِهِ1؛ فَانْقَادُوا وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ. وَالْمَحَلُّ الثَّانِي: حِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَعَرَفُوا الْحَقَّ، وَتَسَابَقُوا إِلَى الِانْقِيَادِ لِأَوَامِرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَوَاهِيهِ، فَرُبَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْأَمْرِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ دِينِهِمْ؛ فَتَوَجَّهُوا إِلَى مَا يُفْعَلُ تَرْجِيحًا لَهُ عَلَى مَا يَقُولُ، وَقَضِيَّتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَهُمْ فِي تَوَقُّفِهِمْ عَنِ الْإِحْلَالِ بَعْدَ مَا أَمَرَهُمْ؛ حَتَّى قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: "أَمَا تَرَيْنَ أَنَّ قَوْمَكِ أَمَرْتُهُمْ فَلَا يَأْتَمِرُونَ؟ ". فَقَالَتِ: اذْبَحْ وَاحْلِقْ. فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعُوهُ2. وَنَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ؛ فَلَمْ يَنْتَهُوا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ يُوَاصِلُ؛ فَقَالَ: "إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" 3، وَلَمَّا تَابَعُوا فِي الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ حَتَّى يَعْجِزُوا، وَقَالَ: "لَوْ مُدَّ لَنَا فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ" 4. وَسَافَرَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ وَأَمْرَهُمْ بِالْإِفْطَارِ وَكَانَ هُوَ صَائِمًا؛ فَتَوَقَّفُوا أَوْ تَوَقَّفَ بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا5.   1 وهل هذا المحل خالٍ من قصد البيان حتى يكون دليلًا على قوله: "وما لم يقصد .... إلخ"؟ نعم، في المحل الثاني الذي فيه أنه كان يفعل من التشديد على نفسه في العبادة غير ما يطلبه منهم؛ كمسألة الوصال وغيرها، لم يكن يقصد بالفعل البيان؛ لأنه خاص به. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد 5/ 329-333/ رقم 2731، 2732"، وأحمد في "المسند" "4/ 326"، والبيهقي في "الدلائل" "4/ 150" عن المسور بن مخرمة، وهو جزء من حديث طويل في عمرة الحديبية، وانظر: "مرويات غزوة الحديبية" "ص225-234"، و"المحقق عن علم الأصول" "ص147" و"4/ 87". 3 مضى تخريجه "2/ 239". 4 مضى تخريجه "1/ 526"، وفي "ط": "لا يدع"، والصواب حذف "لا". 5 مضى لفظه وتخريجه "4/ 87-88". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 وَكَانُوا يَبْحَثُونَ عَنْ أَفْعَالِهِ1 كَمَا يَبْحَثُونَ عَنْ أَقْوَالِهِ، وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ الْمَوَاضِعِ عَلَى الْعَالِمِ الْمُنْتَصِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ بَيَانٌ آخَرُ فِي بَابِ الْبَيَانِ؛ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ. وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْصُومًا، فَكَانَ عَمَلُهُ لِلِاقْتِدَاءِ مَحَلًّا بِلَا إِشْكَالٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ مَحَلٌّ لِلْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ فَضْلًا عَنِ الْإِيمَانِ، فَأَفْعَالُهُ لَا يُوثَقُ بِهَا؛ فَلَا تَكُونُ مُقْتَدًى بِهَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنِ اعْتَبَرَ هَذَا الِاحْتِمَالَ فِي نَصْبِ أَفْعَالِهِ حُجَّةً لِلْمُسْتَفْتِي؛ فَلِيَعْتَبِرْ مِثْلَهُ فِي نَصْبِ أَقْوَالِهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهَا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْكَذِبُ عَمْدًا وَسَهْوًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي الْأَقْوَالِ؛ لَمْ يَكُنْ2 مُعْتَبَرًا فِي الْأَفْعَالِ، وَلِأَجْلِ هَذَا تُسْتَعْظَمُ شَرْعًا زَلَّةُ الْعَالَمِ كَمَا تَبَيَّنَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي بَابِ الْبَيَانِ؛ فَحَقٌّ3 عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَنْتَصِبَ لِلْفَتْوَى بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَفْعَالِهِ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى قَانُونِ الشَّرْعِ؛ لِيُتَّخَذَ فِيهَا أُسْوَةً. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ؛ فَرَاجِعٌ [فِي الْمَعْنَى] إِلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ، وَكَفُّ الْمُفْتِي عَنِ الْإِنْكَارِ إِذَا رَأَى فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ كَتَصْرِيحِهِ بِجَوَازِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْأُصُولِيُّونَ ذَلِكَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَذَلِكَ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلى   1 وصنفوا في حجيتها وأحكامها كتبًا ورسائل، منها: "المحقق من علم الأصول" لأبي شامة "ت665هـ"، و"تفصيل الإجمال" للعلائي، و"أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام" لمحمد العروسي عبد القادر، و"أفعال الرسول" لمحمد الاشقر، وهو أوعبها وأحسنها. 2 الفرق واضح بين الأقوال والأفعال بالوجدان والمشاهدة؛ فكثير من المنتصبين يزنون الفتوى القولية وزنًا تامًا، مع أن أفعالهم يكون فيها كثير من مخالفة ما يفتون الناس به؛ ترخصًا لأنفسهم، لا سيما في باب المكارم والمطلوبات على غير الوجوب، والمنهيات على غير الحرمة. "د". 3 الحق والمطالبة به شيء، واتخاذ حجة شرعية شيء آخر. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 الْمُنْتَصِبِ بِالْفَتْوَى، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَتْوَى الْفِعْلِيَّةِ جارٍ هُنَا بِلَا إِشْكَالٍ، وَمِنْ هُنَا ثَابَرَ1 السَّلَفُ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ2، وَلَمْ يُبَالُوا فِي ذَلِكَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مَنْ عَوْدِ الْمَضَرَّاتِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، وَمَنْ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ3 فِي تَرْكِ الْإِنْكَارِ فَرَّ بِدِينِهِ وَاسْتَخْفَى بِنَفْسِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِخْلَالِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّ ارْتِكَابَ خَيْرِ الشَّرَّيْنِ أَوْلَى مِنَ ارْتِكَابِ شَرِّهِمَا4، وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى إِعْمَالِ الْقَاعِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورَةٌ شَوَاهِدُهَا فِي مَوَاضِعِهَا من الكتب المصنفة فيه5.   1 فلم يكفوا عن الإنكار، حتى لا يكونوا كالمصرحين بجواز المنكر. "د". 2 انظر قصتين ماتعتين للسلف في الأمر بالمعروف في "الطبقات الكبرى" "5/ 137" لابن سعد، و"الإحكام" "4/ 163-164" لابن حزم. وفي "ط": "السلف الصالح". 3 أي: فاعتزل الخلق حتى لا يترتب على إنكاره أذى شديد يصيبه، وقوله: "المراتب الثلاث"؛ أي: التغيير باليد واللسان والقلب. "د". 4 انظر عنها: "الأمر بالمعروف" "ص22 - ط المكتبة القيمة" لابن يتيمة، و"إعلام الموقعين" "2/ 7" و"3/ 291"، و"مفتاح دار السعادة" "ص341، 348"، و"روضة المحبين" "ص132"، و"الداء والدواء" "ص225-226، 309-310"، و"قواعد ابن رجب" "ق112 - بتحقيقي"، و"القواعد الكلية والضوابط الفقهية" "ص10" ليوسف بن عبد الهادي، و"الأمر بالمعروف" "ص178" للعمري. 5 انظر: "الإحياء" "2/ 289-292"، و"الأمر بالمعروف" "169 وما بعدها" للعمري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَنْبَنِي عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْفُتْيَا لَا تَصِحُّ مِنْ مُخَالِفٍ1 لِمُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الْأُصُولِيُّونَ قَدْ نَبَّهُوا عَلَيْهِ وَبَيَّنُوهُ؛ فَهُوَ فِي كَلَامِهِمْ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ بِالتَّفْصِيلِ الْمُقَرَّرِ فِي أَقْسَامِ الْفُتْيَا. فَأَمَّا فُتْيَاهُ بِالْقَوْلِ؛ فَإِذَا جَرَتْ أَقْوَالُهُ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ، [فَلَا يُوثَقُ بِمَا يُفْتِي بِهِ؛ لِإِمْكَانِ جَرَيَانِهَا كَسَائِرِ أَقْوَالِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ] ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ، فَيُمْكِنُ2 جَرَيَانُهَا عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ؛ فَلَا يُوثَقُ بِهَا. وَأَمَّا أَفْعَالُهُ، فَإِذَا جَرَتْ عَلَى خِلَافِ أَفْعَالِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعَلَمِ؛ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهَا وَلَا جَعْلُهَا أُسْوَةً فِي جُمْلَةِ أَعْمَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَكَذَلِكَ إِقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عَائِدٌ3 عَلَى صَاحِبَيْهِ بِالتَّأْثِيرِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ بِجَوَارِحِهِ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فِي قَوْلِهِ، وَالْمُخَالِفُ بِقَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِجَوَارِحِهِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَسْتَمِدُّ مِنْ أَمْرٍ وَاحِدٍ4 قَلْبِيٍّ. هَذَا بَيَانُ عَدَمِ صِحَّةِ الْفُتْيَا منه على الجملة.   1 سيأتي له تفسير الصحة بالانتفاع والوقوع لا الصحة في الحكم الشرعي ما لم يحط إلى رتبة الفسق بالمخالفة. "د". وكتب في "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي: لا تعد صحيحة منتفعًا بها موثوقًا بحكمها إذا صدرت ممن يخالف قوله فعله؛ لأن للمفتي وراثة وخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وله منصب التأسي والاقتداء به؛ فمن هذه الجهة إذا خالف قوله عمله كان كالمكذب نفسه، ولا شك أن من أخبر بشيء وكذب نفسه فيه، يهدر قوله، ويطرح رأيه، ولا يوثق به". 2 أي: فيحتمل احتمالًا قريبًا أن يكون فتياه بالقول غير صحيحة كأقواله الأخرى. "د". 3 في الأصل: " .... الوجوه الثلاثة دالٌّ على ... ". 4 وهو كمال الإيمان أو عدمه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا أَمَرَ مَثَلًا بِالصَّمْتِ عَمًّا لَا يَعْنِي؛ فَإِنْ كَانَ صَامِتًا عَمًّا لَا يَعْنِي فَفَتْوَاهُ صَادِقَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَائِضِينَ فِيمَا لَا يَعْنِي فَهِيَ غَيْرُ صَادِقَةٍ1، وَإِذَا دلَّك عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ زَاهِدٌ فِيهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ، وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الدُّنْيَا فَهِيَ كَاذِبَةٌ، وَإِنْ دلَّك عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَكَانَ مُحَافِظًا عَلَيْهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ سَائِرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَوَامِرِ، وَمِثْلُهَا النَّوَاهِي؛ فَإِذَا نَهَى عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَهِيًا عَنْهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ، أَوْ نَهَى عَنِ الْكَذِبِ وَهُوَ صَادِقُ اللِّسَانِ، أَوْ عَنِ الزِّنَى وَهُوَ لَا يَزْنِي، أَوْ عَنِ التَّفَحُّشِ وَهُوَ لَا يَتَفَحَّشُ، أَوْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْأَشْرَارِ وَهُوَ لَا يُخَالِطُهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الْفُتْيَا وَالَّذِي2 يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ وَيُقْتَدَى بِفِعْلِهِ؛ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ صِدْقِ الْقَوْلِ مُطَابَقَةُ الْفِعْلِ، بَلْ هُوَ الصِّدْقُ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه} 3 [الْأَحْزَابِ: 23] . وَقَالَ فِي ضِدِّهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَن} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون} [التَّوْبَةِ: 75-77] . فَاعْتُبِرَ فِي الصِّدْقِ مُطَابَقَةُ الْقَوْلِ الْفِعْلَ، وَفِي الْكَذِبِ مُخَالَفَتُهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} 4 [التوبة: 119] .   1 أراد به غير ظاهرة الصدق؛ لعدم وجود العلاقة الدالة على صدق قوله، وهي مطابقة الفعل للقول، أو المراد: غير صادقة بمعنى عدم مطابقتها لفعله وإن كان الصدق عند الجمهور مطابقة الواقع. "ف". 2 في "ط": "الذي" بدون واو. 3 أي: فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى. "ف". 4 أي: اتقوا الله وكونوا مثلهم في الصدق وخلوص النية، كما هو أحد التفاسير، وقال الآلوسي "في تفسيره" "11/ 45": "أنه المناسب" أي: فهؤلاء قد طابق قولهم فعلهم؛ فلم ينتحلوا أعذارًا كغيرهم، وقال يقال: إن السبب وإن كان خاصًا وهو مطابقة لفعلهم؛ إلا أن لفظ الصدق بمعناه الأعم عند الجمهور وهو مطابقة نسبة الخبر الواقع يدل على خصوص الغرض وهو مطابقة قول الشخص لفعله، وهو المعنى الخاص عند العلماء. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 وَهَكَذَا إِذَا أَخْبَرَ الْعَالِمُ عَنِ الْحُكْمِ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ؛ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْحَقِيقَةِ؛ فَإِنْ وَافَقَ صَدَقَ وَإِنْ خَالَفَ كَذَبَ؛ فَالْفُتْيَا لَا تَصِحُّ مَعَ الْمُخَالَفَةِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ مَعَ الْمُوَافَقَةِ. وَحَسْبُ النَّاظِرِ مِنْ ذَلِكَ1 سَيِّدُ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَتْ أَفْعَالُهُ مَعَ أَقْوَالِهِ عَلَى الْوِفَاقِ2 وَالتَّمَامِ؛ حَتَّى أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ: يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ3. وَحِينَ سَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنْ أَمْرٍ؛ فَقَالَ: "إِنِّي أَفْعَلُهُ". فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. غَضِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "وَاللَّهِ؛ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ 4 أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي" 5. وَفِي الْقُرْآنِ عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الْأَعْرَافِ: 89] . وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه} [هود: 88] .   1 في "ط": "في ذلك". 2 كذا في الأصل و"ط"، وفيه "الوفاق التمام"، ,في جميع النسخ المطبوعة "الوفاء -بالهمزة- والتمام". 3 مضى تخريجه "2/ 503". 4 في الأصل: "تكون". 5 مضى تخريجه "2/ 503". 6 لأنه يدعو الناس إلى توحيد الله بلسانه، فإذا عاد إلى شركهم؛ كان كاذبًا، لم يصدق قوله فعله. "د". 7 يقال: "خالفني فلان إلى كذا" إذا قصده وأنت مُوَلٍّ عنه، "وخالفني عنه" بالعكس؛ أي: إذا سمعتم نصحي، وتجنبتم التطفيف والبخس وعبادة الأوثان وسائر المعاصي؛ فإني لا أفعله،= واستبد به دونكم لأن الأنبياء لا ينهون عن شيء ويخالف فعلهم قولهم؛ وقد يقال: إن الآية ليس فيها أن هذا يعد كذبًا، بخلاف ما قبلها، إلا أن يقال: إنها تفيده بضميمتها إليها؛ لأن المخالف إليه فيها هو ما سماه كذبًا في قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم} . "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 فَبَيَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْقَوْلِ الْفِعْلَ تَقْتَضِي كَذِبَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا، وَقَدْ قَالُوا فِي عِصْمَةِ1 الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ: إِنَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَنْفِرُ عَمَّنْ كَانَتْ هَذِهِ سَبِيلُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى جَارٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى فِيمَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى فُرُوعِ الْمِلَّةِ فَضْلًا عَنْ أُصُولِهَا؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ [وَلَا يَفْعَلُونَهُ] وَنَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ -عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ- لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى2 منفِّر وَأَقْرَبَ صادٍّ عَنِ الاتباع؛ فمن كان في رتبة الوارثة لَهُمْ؛ فَمِنْ حَقِيقَةِ نَيْلِهِ الرُّتْبَةَ ظُهُورُ الْفِعْلِ عَلَى مِصْدَاقِ الْقَوْلِ. وَلَمَّا نَهَى3 عَنِ الرِّبَا قَالَ: "وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رَبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" 4. وَحِينَ وَضَعَ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ قَالَ: "وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُنَا: دم ربيعة بن الحارث" 5.   1 أي: في دليلها. "د". 2 في "م": "أوَّل". 3 في خطبة حجة الوداع المشهورة. "د". 4 مضى تخريجه "4/ 380". 5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 886-892/ رقم 1218" ضمن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الطويل، ولفظه: "وإن أول دم أضع من دمائنا دمُ ابن ربيعة بن الحارث". وأخرجه أحمد في "المسند" "5/ 73" عنه بلفظ: "وأول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث"، وأبو داود في "السنن" "كتاب المناسك، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 182-186/ رقم 1905". بلفظ: "ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا"؛ -قال عثمان: "قلت: هو ابن أبي شيبة، = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وَقَالَ حِينَ شُفِعَ لَهُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" 1. وَكُلُّهُ ظَاهِرٌ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُطَابَقَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى قَرَابَتِهِ، وَأَنَّ النَّاسَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ سَوَاءٌ. وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. وَقَدْ ذَمَّ الشَّرْعُ الْفَاعِلَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 44] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون} [الصف: 2-3] .   = شيخ أبي داود": "دم ابن ربيعة"، وقال سليمان -"قلت: هو ابن عبد الرحمن الدمشقي، شيخ آخر لأبي داود في الحديث"-: "دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب"، وقال بعض هؤلاء -"أي: المذكورين، وعبد الله بن محمد النفيلي وهشام بن عمار؛ فمجموع شيوخه في هذا الحديث أربعة"- "كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل". وأخرجه أبو داود في "السنن" أيضًا "كتاب البيوع، باب في وضع الربا 3/ 244-245/ رقم 3334"، بلفظ: "ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث ابن عبد المطب، وكان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل". قال الخطابي في "معالم السنن" "3/ 59-60": "دم الحارث بن عبد المطلب"؛ فإن أبا داود هكذا روى، وإنما هو في سائر الروايات: "دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب"، وأسند إلى ابن الكلبي قوله: "إن ربيعة بن الحارث لم يقتل، وقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر، وإنما قتل له ابن صغير في الجاهلية؛ فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم فيما أهدر، ونسب الدم إليه؛ لأنه ولي الدم". 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه 8/ 24-25/ رقم 4304"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود 34/ 1315/ رقم 1688" عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ؛ قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَ ابن مِهْرَانَ يَقُولُ: "إِنَّ الْقَاصَّ1 الْمُتَكَلِّمَ يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ2، وَالْمُسْتَمِعُ يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون} الْآيَةَ [الصَّفِّ: 2] ، هُوَ الرَّجُلُ يُقَرِّظُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْخَيْرِ؟ أَوْ هُوَ الرَّجُلُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى3 عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْصِيرٌ؟ فَقَالَ: كِلَاهُمَا"4. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتَ تَعَذَّرَ الْقِيَامُ بِالْفَتْوَى وَبِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُؤْتَمِرًا أَوْ مُنْتَهِيًا، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى خَرْمِ الْأَصْلِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ كُلَّ تَكْمِلَةٍ أَدَّتْ إِلَى انْخِرَامِ الْأَصْلِ الْمُكَمِّلِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٌ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا5، وَمِثْلُهُ الِانْتِصَابُ لِلْفَتْوَى، وَمَنِ الَّذِي يُوجَدُ لَا يزلُّ وَلَا يضلُّ وَلَا يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْبَعِيدَةِ عَنْ زَمَانِ النُّبُوَّةِ؟ نَعَمْ، لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ مَنْ طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّقَدُّمِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِذَا عَدِمَ ذَلِكَ لم يصح الانتصاب؛ هذا مشكل جدا.   1 في القاص -بالقاف "وآخره صاد مهملة مشددة: هو" الذي يقص [الحديث و] الأخبار، ويعظ الناس. "ف" و"م". 2 لأنه يخشى عليه ألا يطابق فعله ما يعظ؛ فيمقت من الله ومن العباد، أما المستمع؛ فيرجى له أن يعمل بما سمع؛ فيرحم. "د". 3 في "ط": "أو ينهى". 4 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 49 - ط الأعظمي، ورقم 41 - ط المحققة"، وإسناده حسن، وصححه السيوطي في "تحذير الخواص" "ص240". "استدراك 3". 5 أي: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أصل كلي في الدين، ومكمله الائتمار والانتهاء، حتى يكون قدوة وينتفع به، ولكنه إذا جعل هذا المكمل شرطًا مطردًا حتى عند عدم وجود المؤتمر؛ انخرم الأمر بالمعروف، وضاع هذا الأصل؛ فيهمل هذا المكمل. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى الْقَصْدِ الْمُقَرَّرِ؛ لِأَنَّا إِنَّمَا1 تَكَلَّمْنَا عَلَى صِحَّةِ الِانْتِصَابِ وَالِانْتِفَاعِ فِي الْوُقُوعِ لَا فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَنَحْنُ نَقُولُ: وَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ الِانْتِصَابَ وَالْفَتْوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ أَمْ لَا، لَكِنَّ الِانْتِفَاعَ بِفَتْوَاهُ لَا يَحْصُلُ وَلَا يَطَّرِدُ2 إِنْ حَصَلَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا3 قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ حَصَلَ الِانْتِفَاعُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا أَوْ كَانَ مَظِنَّةً لِلْحُصُولِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ أَوْ يُكَذِّبُهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِعْلَهُ قَوْلُهُ؛ فَإِمَّا أَنْ تُؤَدِّيَهُ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الِانْحِطَاطِ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَةِ إِلَى الْفِسْقِ، أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الِانْتِصَابِ شَرْعًا وَعَادَةً، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ كَانَ مُخَالِفًا مِثْلَهُ؛ فَلَا فَتْوَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا حُكْمَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَاسْتِفْتَاؤُهُ وَفَتْوَاهُ فِيمَا وَافَقَ4 دُونَ مَا خَالَفَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إِذَا أَفْتَاكَ بِتَرْكِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَبِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ فِي فِعْلِهِ عَلَى حَسَبِ فَتْوَاهُ [لَكَ] ؛ حَصَلَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ، وَإِذَا أَفْتَاكَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمُتْرَفِينَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ الْعَدَالَةِ ثُمَّ رَأَيْتَهُ يَحْرِصُ عَلَى الدُّنْيَا وَيُخَالِطُ مَنْ نَهَاكَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ؛ فَلَمْ يُصَدِّقِ الْقَوْلُ الْفِعْلَ. هَذَا وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ قَدْ أَمَرَكَ بِمُتَابَعَةِ قَوْلِهِ؛ فَقَدْ نَصَبَهُ الشَّارِعُ أَيْضًا لِيُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ وَارِثُ النَّبِيِّ، فَإِذَا خَالَفَ فَقَدْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْمَرْتَبَةِ، وَكَذَّبَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ لِمَا فِي الْجِبِلَّاتِ مِنْ جَوَاذِبِ التَّأَسِّي بِالْأَفْعَالِ.   1 في الأصل: "إذا". 2 أي: بل يقع الانتفاع به نادرًا، بخلاف الصادق؛ فالانتفاع به مطرد أي غالب، كما سيقول: "أو كان مظنة للحصول". "د". 3 في "ط": "بقوله". 4 أي: فيما وافق فيه قوله فعله؛ أما كل ما خالف فيه قوله فعله؛ فلا يعتد بقوله المخالف لفعله فيه، وسيأتي أنه يحمل ذلك على كمال الصحة لا على البطلان؛ لأن الشرع نصبه للمتابعة في القول وإن خالف مرتبته في الفعل، وسيأتي مزيد البيان في الفصل الآتي. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَلَا الْفَتْوَى عَلَى كَمَالِهَا فِي الصِّحَّةِ إِلَّا مَعَ مُطَابَقَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ1: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتىَ مِثْلَهُ ... عارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ [وَهُوَ مَعْنًى مُوَافِقٌ لِلنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ] 2. فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا حُكْمُ الْمُسْتَفْتِي مَعَ هَذَا الْمُفْتِي الَّذِي لَمْ يُطَابِقْ قَوْلُهُ فِعْلَهُ؛ هَلْ يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ، أَمْ لَا؟ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَيُعْمَلُ عَلَيْهِ أَوْ لَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ فِي الْوُقُوعِ فَلَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَصِحَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُفْتِي، فَكَذَلِكَ يُقَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي؛ هَذَا هُوَ المطَّرِد وَالْغَالِبُ، وَمَا سِوَاهُ كَالْمَحْفُوظِ النَّادِرِ الَّذِي لَا يَقُومُ مِنْهُ أَصْلٌ كُلِّيٌّ بِحَالٍ، وَأَمَّا إِنْ أُخِذَتْ مِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ الشَّرْعِيِّ؛ فَالْفِقْهُ فِيهَا ظَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ ظَاهِرَةٌ قَادِحَةٌ فِي عدالته؛ فلا يصح إلزامه،   1 الأبيات من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي في "شرح شواهد المغني" "194"، ومنها: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم وفي "البيان والتبين" "1/ 198" للجاحظ عدا الثالث، وعزاهما للأفوه الأودي، وفيه: فهناك تُعذَر إن وَعَظت ويُقتَدَى بالقول منك ويُقبَل التعليم ويروى بعضها للمتوكل الليثي. انظر: "حماسة البحتري" "173". 2 انظر: "الاجتهاد في الإسلام" لنادية العمري "ص113-115"، وما بين المعقوفتين سقط من "م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 إِذْ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِهِ صِدْقُهُ، وَغَيْرُ الْعَدْلِ لَا يُوثَقُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فَتْوَاهُ جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ عِلْمُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَجِهَتُهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا؛ فَيَسْقُطُ الْإِلْزَامُ عَنِ الْمُسْتَفْتِي، وَإِذَا سَقَطَ الْإِلْزَامُ عَنِ الْمُسْتَفْتِي؛ فَهَلْ يَبْقَى إِلْزَامُ1 الْمُفْتِي مُتَوَجِّهًا أَمْ لَا؟ يَجْرِي2 ذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ فِي مَسْأَلَةِ حُصُولِ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ: هَلْ هُوَ شَرْطٌ3 فِي التَّكْلِيفِ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ4، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ قَادِحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ؛ فَقَبُولُ قَوْلِهِ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ مُبَرِّئٌ لِلذِّمَّةِ وَالْإِلْزَامُ الشَّرْعِيُّ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمَا مَعًا.   1 أي: هل يبقى مكلفًا بالإفتاء مع فقد الشرط الشرعي وهو العدالة أو لا؟. "د". 2 قد يقال: وهل العدالة شرط في تكليفه بالإبلاغ، أم هي شرط شرعي لإلزام المستفتي الأخذ بأقواله؟ "د". 3 نسبوا للحنفية القول بشرطية ذلك في التكليف، وتبرأ الحنفية من كون ذلك عامًا، وقالوا: إنه لا يقول به عاقل؛ بل النزاع بينهم وبين الشافعية في خصوص تكليف الكفار بفروع الشريعة لا غير، وعليه لا محل لإجراء هذا الخلاف هنا حتى يعد تسليم أن العدالة شرط في وجوب الإبلاغ. "د". 4 انظر منها على سبيل المثال: "البحر المحيط" "6/ 204" للزركشي، و"المستفتي" "2/ 350"، و"إعلام الموقعين" "1/ 11 و4/ 220"، و"جمع الجوامع" "2/ 385 - مع حاشية البناني"، و"المجموع" "1/ 76"، و"روضة الناظر" "3/ 960 - ط المحققة"، و"أدب المفتي والمستفتي" "ص107"، لابن الصلاح، و"صفة الفتوى" "ص13" لابن حمدان، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص40" للأشقر، و"الفتوى في الإسلام" "ص62-63" للقاسمي، و"إرشاد الفحول" "ص296". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُفْتِي الْبَالِغُ ذُرْوَةِ2 الدَّرَجَةِ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْمَعْهُودِ الْوَسَطِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ؛ فَلَا يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلَا يَمِيلُ بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الِانْحِلَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْحَمْلُ عَلَى التَّوَسُّطِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَفْتِينَ؛ خَرَجَ عَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا خَرَجَ عَنِ الْمَذْهَبِ الْوَسَطِ مَذْمُومًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ3. وَأَيْضًا4؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ شَأْنِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْأَكْرَمِينَ، وَقَدْ رَدَّ5 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّبَتُّلَ6. وَقَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا أَطَالَ بِالنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ: "أَفْتَّانٌ أنت يا معاذ" 7.   1 نقل جل هذه المسألة عن المصنف القاسمي في "الفتوى" "ص56-60". 2 قال "الماء": "جمعها" "ذري"، وهي من الدرجات". 3 انظر أدلة هذا من الكتاب والسنة وآثار السلف في: رسالة السخاوي "الجواب الذي انضبط عن: "لا تكن حلوا فتُستَرَط" بتحقيقي، و"العزلة" "ص207، 236 - ط المحققة" للخطابي، و"الموشى" "ص83-84" لابن الوشاء -وهو مطبوع بعنوان "الظرف والظرفاء" تصرفًا من المحقق، وهو غير جيد، والله الموافق- و"الغلو في الدين". 4 دليل ثانٍ غير استدلاله بالقاعدة الأصولية التي تقدمت له في كتاب المقاصد في المسألة الثانية عشرة من النوع الثالث. "د". 5 أي: على جماعة من أصحابه طلبوا منه ذلك. "د". 6 مضى تخريجه "1/ 522"، وهو صحيح. 7 مضى تخريجه "1/ 528"، وهو صحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 وَقَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ" 1. وَقَالَ: "سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، واغدُوا ورُوحُوا وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقصدَ القصدَ تبلُغُوا" 2. وَقَالَ: "عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" 3. وَقَالَ: "أحب العمل إلى الله ما دام عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" 4. وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْوِصَالَ5، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْأَطْرَافِ خَارِجٌ عَنِ الْعَدْلِ، وَلَا تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْخَلْقِ، أَمَّا فِي طَرَفِ التَّشْدِيدِ؛ فَإِنَّهُ مَهْلَكَةٌ، وَأَمَّا فِي طَرَفِ الِانْحِلَالِ؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ بِهِ مَذْهَبَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ بُغِّضَ إِلَيْهِ الدِّينَ، وَأَدَّى إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ؛ وَأَمَّا إِذَا ذُهِب بِهِ مَذْهَبَ الِانْحِلَالِ كَانَ مَظِنَّةً لِلْمَشْيِ مَعَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا جَاءَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْهَوَى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة.   1 مضى تخريجه "1/ 528"، وهو صحيح. 2 مضى تخريجه "2/ 208" وهو في "الصحيحين"، وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي: اطلبوا السداد أي الصواب والقصد في القول والعمل، وأصل السداد: إغلاق الخلل وردم الثلم، والمقاربة قريبة من هذا المعنى؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا" مراد به اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه فلا تميلوا بها* إلى الأطراف، ولمغايرة الثاني للأول في المعنى اللغوي عطف عليه "واغدوا" أي: بكروا بأعمالكم، والغدوة نقيض الرواح؛ والدلجة؛ بالضم، سير الحر**، وبالفتح: سير الليل كله". 3 مضى تخريجه "1/ 525". 4 مضى تخريجه "2/ 404"، وفي "د" و"ف": "ما دام". 5 مضى ذلك في أحاديث عديدة، انظر منها: "2/ 239".   * في "م": "فلا تميلوا بأنفسكم..". ** في "م": "السير في وقت الحر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَيْلُ إِلَى الرُّخَصِ فِي الْفُتْيَا بِإِطْلَاقٍ مُضَادًّا1 لِلْمَشْيِ عَلَى التَّوَسُّطِ؛ كَمَا أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى التَّشْدِيدِ مُضَادٌّ لَهُ أيضا [أَيْضًا] 2. وَرُبَّمَا فَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَرْكَ التَّرَخُّصِ تَشْدِيدٌ؛ فَلَا يَجْعَلُ بَيْنَهُمَا وَسَطًا، وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْوَسَطُ هُوَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ مَوَارِدَ الْأَحْكَامِ بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ عَرَفَ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ مِنْ أَهْلِ [الِانْتِمَاءِ إِلَى] 3 الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ الْوَارِدِ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، بِحَيْثُ يَتَحَرَّى4 الْفَتْوَى بِالْقَوْلِ الَّذِي يُوَافِقُ هَوَى الْمُسْتَفْتِي، بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى بِالْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِهَوَاهُ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ وَحَرَجٌ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَاسِطَةٌ، وَهَذَا قَلْبٌ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى لَيْسَ مِنَ الْمَشَقَّاتِ الَّتِي يَتَرَخَّصُ بِسَبَبِهَا، وَأَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ رَحْمَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ حَمْلٌ عَلَى التَّوَسُّطِ لَا عَلَى مُطْلَقِ التَّخْفِيفِ، وَإِلَّا؛ لَزِمَ ارْتِفَاعُ مُطْلَقِ التَّكْلِيفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَرِجٌ وَمُخَالِفٌ لِلْهَوَى، وَلَا عَلَى مُطْلَقِ التَّشْدِيدِ؛ فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حِذْرَهُ؛ فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ قَدَمٍ عَلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ فيه5.   1 في الأصل: "مضاد". 2 سقط من "ط". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 4 تقدم الكلام على هذا بأوفى بيان في المسألة الثالثة ولواحقها من كتاب الاجتهاد. 5 تكلم بعض الأصوليين على هذه المسألة على هذا النحو: "هل يجب الأخذ بأخف القولين أو الأثقل؟ "، وذكر ذلك المصنف في آخر المسألة من الطرف الأول من كتاب = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 فَصْلٌ: قَدْ يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُحَمِّلَ نَفْسَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مَا هُوَ فَوْقَ الْوَسَطِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَحْكَامِ الرُّخَصِ، وَلَمَّا كَانَ مُفْتِيًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخْفِيَ مَا لَعَلَّهُ يُقتدَى1 بِهِ فِيهِ فَرُبَّمَا اقْتَدَى بِهِ فِيهِ مَنْ لَا طَاقَةَ لَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَيَنْقَطِعُ وَإِنِ اتَّفَقَ ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ نَبَّهَ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ؛ إِذْ كَانَ قَدْ فَاقَ النَّاسَ عِبَادَةً وَخُلُقًا، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قُدْوَةً؛ فَرُبَّمَا اتُّبِعَ لِظُهُورِ عَمَلِهِ؛ فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ؛ كَنَهْيِهِ عَنِ الْوِصَالِ، وَمُرَاجَعَتِهِ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ2 فِي سَرْدِ الصَّوْمِ3. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّم} [الْحُجُرَاتِ: 7] . وَأَمَرَ بِحَلِّ4 الْحَبْلِ الْمَمْدُودِ بَيْنَ الساريتين5.   = الاجتهاد مع الأدلة معتمدًا على الرازي، واختار المصنف قولًا آخر، وهو صحيح من حيث الجملة وعلى وجه العموم، وإلا يلزم في كثير من المسائل القول إما بالأخف أو الأثقل، والمرجح النص والدليل؛ نعم، يظهر أهمية كلام المصنف في مجمل ما يفتي به؛ المطلوب ما قرر، على الرغم من صبغ فقه ابن عباس بالترخص في كثير من المسائل، وصبغ فقه ابن عمر بالتشدد في كثير من المسائل، وقصة المنصور مع مالك، وذكره هذا أمر مشهور، ولكن في صحتها نظر كبير، ولتحقيق ذلك موطن آخر. وانظر في المسألة: "المحصول" "6/ 159-160"، و"شرح المحلي على جمع الجوامع" "2/ 352". 1 في "ط": "أن يقتدى". 2 كان المراجعة لعبد الله بن عمرو بن العاص لا لعمرو نفسه. "د". 3 مضى تخريجه ذلك "2/ 240"، وهو صحيح. 4 حبل وضعته زينب أم المؤمنين رضي الله عنها حتى إذا فترت تعلقت به. "د". قلت: مضى تخريج ذلك "1/ 528"، وهو صحيح. 5 أي: ليتعلقوا به خشية النوم. "ف" و"م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 وَأَنْكَرَ عَلَى الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ قِيَامَهَا اللَّيْلَ1. وَرُبَّمَا تَرَكَ الْعَمَلَ2 خَوْفًا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَخْفَى السَّلَفُ الصَّالِحُ أَعْمَالَهُمْ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذُوا قُدْوَةً، مَعَ مَا كَانُوا يَخَافُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ رِيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الْإِظْهَارُ عُرْضَةً لِلِاقْتِدَاءِ؛ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِلَّا مَا صَحَّ لِلْجُمْهُورِ أَنْ يَحْتَمِلُوهُ. فَصْلٌ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّوَسُّطِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ فَلْيَنْظُرِ الْمُقَلِّدُ أَيُّ مَذْهَبٍ كَانَ أَجْرَى عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ أَخْلَقُ بالاتِّباع وَأَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا طُرُقًا إِلَى اللَّهِ، وَلَكِنَّ التَّرْجِيحَ فِيهَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَقْرَبُ إِلَى تَحَرِّي قَصْدِ الشَّارِعِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ؛ فَقَدْ قَالُوا3 فِي مَذْهَبِ دَاوُدَ لَمَّا وَقَفَ مَعَ الظَّاهِرِ مُطْلَقًا: إِنَّهُ بِدْعَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَقَالُوا في مذهب أصحاب الرأي4: لا يكاد المعرق5 فِي الْقِيَاسِ إِلَّا يُفَارِقُ السُّنَّةَ؛ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ رَأْيٌ بَيْنَ هَذَيْنِ؛ فَهُوَ الْأَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَالتَّعْيِينُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ مَوْكُولٌ إِلَى أَهْلِهِ، والله أعلم.   1 مضى تخريجه "1/ 527". 2 كقيام رمضان جماعة في المسجد. "د" قلت: تقدم مع تخريجه "4/ 423". 3 المذكور قول القاضي عياض كما قدمناه "2/ 320"، وانظر -لزامًا- تعليقنا عليه. 4 المذكور قول مالك على ما في "الاعتصام" "2/ 638 - ط ابن عفان" أو قول أصبغ، على ما مضى عند المصنف "ص199". 5 كذا في "ط": وفي النسخ المطبوعة: "المعرق" بعين مهملة، وتصحف في "الاعتصام" إلى "المفرق" بالفاء، والصواب ما اثبتناه، وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي": المناضل فيه، المتوغل في مناحيه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِعْمَالِ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ المقتدى به وحكم الاقتداء به ... الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ الْمُقَلِّدَ إِذَا عَرَضَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ دِينِيَّةٌ؛ فَلَا يَسَعُهُ فِي الدِّينِ إِلَّا السُّؤَالُ عَنْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ1؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يتعبد الخلق بالجهل، وإنما تعبدهم على متضى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} [الْبَقَرَةِ: 282] لَا عَلَى مَا يَفْهَمُهُ2 كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي صِنَاعَةِ النحو، أي: إن الله يعلمكم   1 أي: سواء أَسَأَل عنها وطلب الوقوف على دليلها حتى يقتنع، كما في العقائد وكما في الفروع إن كان من أهل الاستقلال، أم سأل بمقدار ما يصحح به عمله فقط، وأيضًا؛ سواء أكان سؤاله لمن هو أَهْلٌ أم لا.. إلخ ما سيبينه في المسألة الثانية. "د". 2 يفهمونها على حد: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الْأَنْفَالِ: 29] ؛ إلا أن فهمهم لا تساعده قواعد اللغة الفصحى؛ لأنه مبني على أن جملة {وَيُعَلِّمُكُم} حال مقدرة، أو بمعنى مضمونًا لكم التعليم، وكلاهما يفيد أن التعليم مرتب على التقوى، ولكن الجملة المضارعية المثبتة وقوعها حالًا بالواو قليل؛ حتى قالوا: لا بد له من التأويل، والوجه الثاني أن هذه الجمل الثلاث مستقلة بعضها عن بعض؛ فالأولى طلب تقوى الله، والثانية وعد بالإنعام، والثالثة غاية التعظيم، ولذا ساغ فيها تكرار كلمة الجلالة مع أنهم كرهوا تكرار اللفظ الواحد في الجمل المتعاقبة. "د". قلت: نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "18/ 177" على خطأ فهم الآية، قال رحمه الله تعالى بعد كلام: "وقد شاع في لسان العامة أن قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} من الباب الأول، حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله، وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل: "وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمكم"، ولا قال: "فيعلمكم"، وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني"، ثم قال "18/ 177-178": "وقد يقال: العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم، كما يقال: "زرني وأزورك"، و"سَلِّمْ علينا ونسلِّمُ عليك"، ونحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين، والتعاوض من الطرفين"، قال: "فقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} قد يكون من هذا الباب؛ فكلٌّ من تعليم الرب وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه، فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك، ومتى اتقاه زاده من العلم ... وهلم جرا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 عَلَى كُلِّ حَالٍ فَاتَّقُوهُ؛ فَكَأَنَّ الثَّانِيَ سَبَبٌ فِي الْأَوَّلِ1؛ فَتَرَتَّبَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَلَى حُصُولِ التَّعْلِيمِ تَرَتُّبًا مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ2، وَهِيَ قَضِيَّةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا؛ [فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ فِيهَا] 3، لَكِنَّهَا كَالْمُقَدَّمَةِ لِمَعْنًى آخَرَ وهى:   1 في "ماء": "فكان الثاني سببًا في الأول". 2 انظر بعضها في "صحيح البخاري" "كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/ 159"، و"روضة الطالبين" "ص92" للغزالي. 3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَذَلِكَ أَنَّ السَّائِلَ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّرِيعَةِ جَوَابُهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْنَادُ أَمْرٍ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ؛ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ مِثْلِ هَذَا1، بَلْ لَا يُمْكِنُ2 فِي الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمَا سُئِلَ عَنْهُ: أَخْبِرْنِي عَمَّا لَا تَدْرِي، وَأَنَا أُسْنِدُ أَمْرِي لك فيما نحن بالجهل3 به على سواء، ومثل هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي زُمْرَةِ الْعُقَلَاءِ؛ إِذْ لَوْ قَالَ لَهُ: دُلَّنِي فِي هَذِهِ الْمَفَازَةِ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمَا فِي الْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ سَوَاءٌ؛ لعدَّ مِنْ زُمْرَةِ الْمَجَانِينِ؛ فَالطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ هَلَاكٌ أُخْرَوِيٌّ، وَذَلِكَ هَلَاكٌ دُنْيَوِيٌّ خَاصَّةً، وَالْإِطْنَابُ فِي هَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ؛ غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ بَعْدَهُ: إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ؛ فَحَقَّ عليه أن لا يَسْأَلَ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْأَلُ عَنْهُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَّحِدَ فِي ذَلِكَ النَّظَرُ4 أَوْ يَتَعَدَّدَ، فَإِنِ اتَّحَدَ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنَّ تَعَدَّدَ؛ فَالنَّظَرُ فِي التَّخْيِيرِ وَفِي التَّرْجِيحِ قَدْ تَكَفَّلَ بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ السُّؤَالِ، أَمَّا إِذَا كَانَ [قَدِ] اطَّلَعَ عَلَى فَتَاوِيهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِأَحَدِهَا؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ إِلَّا التَّرْجِيحُ؛ لِأَنَّ مِنْ مَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَتَخْيِيرِهِ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ اتِّبَاعِ الْهَوَى؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، وَقَدْ5 مَرَّ فِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ حَسَنٌ فِي هذا الكتاب؛ فلا نعيده.   1 حكى الإجماعَ الرازيُّ في "المحصول" "6/ 81" وغيره. 2 أي: حصوله من العقلاء. "د". وفي "ط" بعده: "في الوقائع". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالجهل". 4 هكذا في الأصل، وفي "د" و"ط" و"ماء": "القطر". 5 في المسألة الثالثة من كتاب الاجتهاد ولواحقها. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَيْثُ يَتَعَيَّنُ1 التَّرْجِيحُ؛ فَلَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالْآخِرُ خَاصٌّ. فَأَمَّا الْعَامُّ؛ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ إِلَّا أَنَّ فِيهِ مَوْضِعًا يَجِبُ أَنْ يُتَأمل ويُحترز مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجَاوَزُوا التَّرْجِيحَ بِالْوُجُوهِ الْخَالِصَةِ إِلَى التَّرْجِيحِ بِبَعْضِ الطَّعْنِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمَرْجُوحَةِ عِنْدَهُمْ، أَوْ عَلَى أَهْلِهَا الْقَائِلِينَ بِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَذَاهِبَهُمْ وَيَعْتَدُّونَ بِهَا وَيُرَاعُونَهَا، وَيُفْتُونَ بِصِحَّةِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمْ فِي الْفَتْوَى، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِمَنَاصِبِ الْمُرَجِّحِينَ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَا يَلِيهَا مِنْ مَذْهَبِ دَاوُدَ وَنَحْوِهِ2؛ فَلْنَذْكُرْ هُنَا أُمُورًا يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهَا: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ3 فِي الْوَصْفِ الَّذِي تَفَاوَتَا فِيهِ، وَإِلَّا؛ فَهُوَ إِبْطَالٌ لِأَحَدِهِمَا، وَإِهْمَالٌ لِجَانِبِهِ رَأْسًا، وَمِثْلُ4 هَذَا لَا يُسَمَّى تَرْجِيحًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْخُرُوجُ فِي [تَرْجِيحِ] بَعْضِ الْمَذَاهِبِ عَلَى بَعْضٍ إِلَى الْقَدْحِ فِي أَصْلِ الْوَصْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ الْمُتَّصِفِينَ خُرُوجٌ عَنْ نَمَطٍ5 إِلَى نَمَطٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِمَنْ تَعَاطَاهُ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَالْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ بُرَآءُ6 مِنْ ذَلِكَ؛ [فهذا] 7 النمط لا يليق بهم.   1 في "ط": "تعين". 2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 291-293"، و"بدعة التعصب المذهبي" للشيخ محمد عيد عباسي. 3 في "ف" و"م": "بين الاشتراك"، وقالا: "لعله: "بعد الاشتراك"، وفي "ط": "مع الاشتراك". 4 في "د": "مثله". 5 لعل فيه سقط كلمة "الترجيح". "د". 6 إذ الموضوع أنهم يثبتون مذاهبهم.. إلخ ما تقدم. "د". 7 ما بين المعقوفتين سقط من "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّعْنَ فِي مَسَاقِ التَّرْجِيحِ يُبَيِّنُ1 الْعِنَادَ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ2 الْمَطْعُونِ عَلَيْهِ، وَيَزِيدُ فِي دَوَاعِي التَّمَادِي وَالْإِصْرَارِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي غُضَّ مِنْ جَانِبِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ خِلَافَ ذَلِكَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَتَعَصَّبَ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَيُظْهِرَ مَحَاسِنَهُ؛ فَلَا يَكُونُ لِلتَّرْجِيحِ الْمَسُوقِ هَذَا الْمَسَاقَ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِالْتِزَامِ [الْمَذْهَبِ] 3، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا؛ فَكَأَنَّ4 التَّرْجِيحَ لَمْ يَحْصُلْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ مغرٍ بِانْتِصَابِ الْمُخَالِفِ لِلتَّرْجِيحِ بِالْمِثْلِ أَيْضًا؛ فَبَيْنَا نَحْنُ نتتبع المحاسن5 صرنا نتتبع القبائح [من المجانبين] ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهَا وَمَذَاهِبِهَا وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا؛ فَمَنْ غَضَّ مِنْ جَانِبِ صَاحِبِهِ غَضَّ صَاحِبُهُ مِنْ جَانِبِهِ؛ فَكَأَنَّ الْمُرَجِّحَ لِمَذْهَبِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غاضٌّ مِنْ جَانِبِ مَذْهَبِهِ؛ فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ". قَالُوا: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ" 6؛ فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ أَشْيَاءَ مِنَ الْجَائِزَاتِ7 لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْمَمْنُوعِ؛ كَقَوْلِهِ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] . وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} الآية [الأنعام: 108] . وأشباه ذلك.   1 أي: يثيره. "د". قلت: في "ط": "يثير". 2 في الأصل: "المذاهب". 3 سقط من "د"، وفي الأصل: "المذاهب". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإن". 5 أي: لترجُّحٍ بها صار كل منا يبحث عن القبائح عند الآخر، يزعم أن ذلك يرجح مذهبه. "د". 6 مضى تخريجه "3/ 76". 7 أي: فما بالك بالممنوعات؟ "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُورِثٌ لِلتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ بَيْنَ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، وَرُبَّمَا نَشَأَ الصَّغِيرُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَرْسُخَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ بُغْضُ مَنْ خَالَفَهُمْ فَيَتَفَرَّقُوا شِيَعًا، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 105] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الْأَنْعَامِ: 159] . وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قبلُ؛ فَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى هَذَا مَمْنُوعٌ؛ فَالتَّرْجِيحُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ وَحُدُوثِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَمْنُوعٌ. وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ1 عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -وَإِنْ لَمْ يُصَحِّحْ سَنَدَهُ2 - أَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ الْحُطَيْئَةَ مِنَ الحبس في هجائه3 الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ؛ قَالَ لَهُ: "إِيَّاكَ وَالشِّعْرَ. قَالَ: لَا أَقْدِرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَرْكِهِ، مَأْكَلَةُ عِيَالِي وَنَمْلَةٌ عَلَى لِسَانِي4. قَالَ: فَشَبِّبْ بِأَهْلِكَ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مِدْحَةٍ مُجْحِفَةٍ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَقُولُ بَنُو فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، امْدَحْ وَلَا تُفَضِّلْ. قَالَ: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْعَرُ مِنِّي". فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْمَدْحَ إِذَا أَدَّى إِلَى ذَمِّ الْغَيْرِ كَانَ مُجْحِفًا، وَالْعَوَائِدُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الطَّعْنَ وَالتَّقْبِيحَ فِي مَسَاقِ الرَّدِّ أَوِ التَّرْجِيحِ رُبَّمَا أدى إلى   1 في كتابه "تهذيب الآثار" "2/ 2/ 20/ رقم 2718"؛ قال: ثنا الزبير بن بكار: ثني محمد بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه؛ قال: "لما أرسل عمر .... "، والخبر مرسل، بل معضل؛ فإسناده ضعيف. 2 الصواب أنه سكت عليه، ولم يضعفه. 3 في الأصل والنسخ المطبوعة كلها: "هجاء"، والتصويب من "تهذيب الآثار" و"ط". 4 أي: قرحة فيه لا تنفك عنه. "ف" و"م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 التَّغَالِي وَالِانْحِرَافِ فِي الْمَذَاهِبِ، زَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبُ إِثَارَةِ1 الْأَحْقَادِ النَّاشِئَةِ عَنِ التَّقْبِيحِ الصَّادِرِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعَارِضِ2 التَّرْجِيحِ وَالْمُحَاجَّةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: "أَكْثَرُ الْجَهَالَةِ3 إِنَّمَا رَسَخَتْ فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ بِتَعَصُّبِ جَمَاعَةٍ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِ الْحَقِّ أَظْهَرُوا الْحَقَّ، فِي مَعْرِضِ التَّحَدِّي وَالْإِدْلَاءِ4، وَنَظَرُوا إِلَى ضُعَفَاءِ الْخُصُومِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ وَالِازْدِرَاءِ؛ فَثَارَتْ مِنْ بَوَاطِنِهِمْ دَوَاعِي الْمُعَانَدَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَرَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَةُ، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُتَلَطِّفِينَ مَحْوُهَا مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهَا، حَتَّى انْتَهَى التَّعَصُّبُ بِطَائِفَةٍ إِلَى أَنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي نَطَقُوا بِهَا فِي الْحَالِ بَعْدَ السُّكُوتِ عَنْهَا طُولَ الْعُمْرِ قَدِيمَةٌ، وَلَوْلَا اسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَاسِطَةِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ؛ لَمَا وُجِدَ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ مُسْتَقِرًّا5 فِي قَلْبٍ مَجْنُونٍ فَضْلًا عَنْ قَلْبٍ عَاقِلٍ". هَذَا مَا قَالَ؛ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تشهد له العوائد الجارية6.   1 لعله "بسبب" كما يدل عليه لاحق الكلام؛ فالزائد على ما تقدم إنما هو الانحراف الشديد والتغالي في مجافاة الحق؛ بسبب الأحقاد الناشئة عن مر التشنيع في معرض المحاجة كما سيمثل له في كلام الغزالي. "د". 2 في "ط": "معرض". 3 في "ط" و"الاعتصام" "2/ 230 - ط رشيد رضا؛ و2/ 732 - ط ابن عفان": "الجهالات". 4 من قولهم: "أدلى فلان في فلان"؛ أي: قال قبيحًا، وليس المراد الإدلاء بالحجة؛ لأنه لا يناسب ما قبله وما بعده. "د". قلت: تصحفَت في "الاعتصام" "ط رضا" إلى: "والإدلال"، وفي طبعة ابن عفان: "والإذلال". 5 في "الاعتصام" "2/ 230 - ط رضا": "مستفزًا"، وفيه "2/ 732 - ط ابن عفان": "مستنفرًا"؛ وكلاهما خطأ. 6 زاد في "الاعتصام" عليه: "فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك، والله أعلم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ الْقَائِلِ: "وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ وَقَالَ: "لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ" 1، أَوْ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى" 2، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالتَّفْضِيلِ3 أَيْضًا؛ فَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ4 فِي تَأْوِيلِهِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إِلَى نَقْصِ بَعْضِهِمْ، قَالَ: "وَقَدْ خَرَجَ الْحَدِيثُ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ لَطْمُ الْأَنْصَارِيِّ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ؛ فَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَافَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ انْتِقَاصُ [حَقِّ] 5 مُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] 5؛ فَنَهَى عَنِ التَّفْضِيلِ الْمُؤَدِّي إِلَى نَقْصِ الْحُقُوقِ". قَالَ عِيَاضٌ6: "وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَإِنْ عَلِمَ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَأَعْلَمَ بِهِ أُمَّتَهُ، لَكِنْ نَهَاهُ عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ وَالْمُجَادَلَةِ بِهِ؛ إِذْ قَدْ يكون ذلك ذريعة إلى   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} 6/ 450-451/ رقم 3414"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم 4/ 1844 رقم 2373 بعد 159" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ قال: ثم ينفخ فيه أخرى؛ فأكون أول من بُعث -أو: في أول من بُعث- فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرش.." لفظ مسلم. ولفظ البخاري: "لا تفضلوا بين أولياء الله". 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم 4/ 1844/ رقم 2373 بعد 160"، وابن أبي شيبة في "المصنف" في "11/ 509"، وأحمد في "المسند" "3/ 31، 33" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس .... ". 3 أي: التفضيل بين الأنبياء وتفضيله على موسى؛ فهو راجع للروايتين. "د". 4 في كتابه: "المعلِم بفوائد مسلم" "3/ 134". 5 زيادة من "المعلم"، وما بين المعقوفتين الأخريين من "المعلم" و"ط". 6 ونقله عنه الأبي في "إكمال إكمال العلم" "6/ 166". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 ذِكْرِ مَا لَا يُحَبُّ مِنْهُمْ عِنْدَ الْجِدَالِ، أَوْ مَا يَحْدُثُ1 فِي النَّفْسِ لَهُمْ بِحُكْمِ الضَّجَرِ وَالْمِرَاءِ؛ فَكَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْمُمَارَاةِ فِي ذَلِكَ كَمَا نَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ2 وَغَيْرِ ذَلِكَ". هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ حَقٌّ3، فَيَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا1 إِذَا وَقَعَ التَّرْجِيحُ بِذِكْرِ الْفَضَائِلِ وَالْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الْكَافَّةُ؛ فَلَا حَرَجَ فِيهِ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، أَعْنِي: عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} الآية [البقرة: 253] ؛ بيَّن أَصْلَ التَّفْضِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا الْمَخْصُوصِ بِهَا بَعْضُ الرُّسُلِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 55] . وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ: [كَقَوْلِهِ] لَمَّا سُئِلَ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: "أَتْقَاهُمْ". فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فيوسف، نبي الله ابن نبي الله   1 معطوف على "ذكر"؛ أي: ذريعة إلى أن يحدث في نفوسهم شيء لا يليق بمقامهم بسبب ضجرها من المراء والجدل، وإن لم يتكلم به. "د". 2 ولا تجادلوا أهل الكتاب. "د". 3 ذهب الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" "3/ 57 - ط المحققة" إلى قول آخر، وهو حسن؛ فقال رحمه الله تعالى: " ... وكان هذا عندنا والله أعلم على التفضيل بينهم، وعلى التخيير بينهم بآرائنا، وربما لم يوقفنا عليه، ولم يُبَيِّنْه لنا، فأما ما بينه لنا وأعلمنا؛ فقد أطلقه لنا، وعاد ما نهى عنه في هذا الباب ما سوى ذلك مما لم يبينه لنا، ولم يطلق لنا القول فيه بما قد تولاه عز وجل ومنعنا منه، واللهَ نسأله التوفيق". 4 سقط من "ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا" 1. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ" 2. وَفِي رِوَايَةٍ: "أَنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ3 لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ. قَالَ لَهُ: بَلَى لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ" الْحَدِيثَ4.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 6/ 387/ رقم 2353، وباب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} 6/ 414/ رقم 3374، وباب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِين} 6/ 417/ رقم 3383، وكتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم} 6/ 525/ رقم 3490، وكتاب التفسير، باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِين} ، 8/ 362/ رقم 4689"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السلام 4/ 1846-1847/ رقم 2378" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما ذُكر في ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى الخضر، رقم 74، وباب الخروج في طلب العلم، رقم 78، وكتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، رقم 3400، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء} رقم 7478"، وأحمد "5/ 116"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 282" عن أبي بن كعب رضي الله عنه. 3 في "د": "إذا". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم، رقم 122، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، رقم 3278، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، رقم 3401، وكتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ} ... رقم 4725، وباب {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} رقم 4727، وكتاب الإيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، رقم 6672"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب في فضائل الخضر عليه السلام 4/ 1847/ رقم 2380" عن أبي بن كعب رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 وَاسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ؛ فَقَالَ الْمُسْلِمُ: "وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ -فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ- فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ ........... " إِلَى أَنْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يُفِيقُ؛ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ؛ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعق فَأَفَاقَ، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ... " الْحَدِيثَ2. فَهَذَا3 نَفْيٌ لِلتَّفْضِيلِ مُسْتَنِدٌ إِلَى دَلِيلٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ التَّفْضِيلِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ ثَمَّ مُرَجَّحٌ، وَقَالَ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ؛ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" 4.   1 مضى تخريجه قريبًا، في "ط": "فإذا موسى باطش". 2 مضى تخريجه قريبًا. 3 أي: فهذا النوع في حديثي موسى نهى عن التفضيل إذا لم يكن له مرجح، فإذا كان له مرجح ومستند؛ فلا مانع منه كما في الأحاديث الأخرى، ومنه يعلم أن الأصل هكذا: "نفي للتفضيل إذا كان غير مستند إلى دليل" كما يرشد إليه ما بعده. "د". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْن} 6/ 448/ رقم 3411، وباب قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَم} 6/ 471-472/ رقم 3433، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها 7/ 106/ رقم 3769، وكتاب الأطعمة، باب الثريد 9/ 551/ رقم 5418، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين 4/ 1886-1887/ رقم 2431" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 وَقَالَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ: "ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ" 1. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ" 2. وَأَشْبَاهُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ، وَلَيْسَ النَّظَرُ هُنَا فِي وَجْهِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ3 وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي صِحَّةِ التَّفْضِيلِ وَمُسَاغِ التَّرْجِيحِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهُوَ ثَابِتٌ4 مِنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَقَالَ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" 5. وَقَالَ [ابْنُ] 6 عُمَرَ: "كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عثمان"7.   1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، 4/ 1839/ رقم 2369" عن أنس بن مالك رضي الله عنه. 2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، 4/ 1782/ رقم 2278" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 "استدراك 4". 4 أي: في كل منهما صراحة، وإن كان الأول يفيد تفضيل إبراهيم على جيمع الخلق، والثاني يفيد تفضيل خاتم الأنبياء على أولاد آدم؛ فلذا كان بينهما تعارض كما قال المؤلف. "د". 5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، 5/ 258-259/ رقم 2651"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، 4/ 1964/ رقم 2535" عن عمران بن حصين رضي الله عنه. ولفظ البخاري: "خيركم قرني .... "، ولفظ مسلم: "إن خيركم قرني ... "، و "خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيه..". 6 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل ومن النسخ المطبوعة كلها، واستدركته من مصادر التخريج. 7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، 7/ 16/ رقم 3655 -والمذكور لفظه- وباب مناقب عثمان رضي الله عنه 7/53-54/ رقم 3697"، والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 5/ 629-630/ رقم 3707"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في التفضيل، 4/ 206/ رقم 4627، 4628". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَعَبْدُ الرحمن بن الحرث بن هشام: "إذا اختلفتم أنت وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ1؛ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ"2. فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَقَالَ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ [بَنُو النَّجَّارِ ثُمَّ] 3 بَنُو عَبْدِ الله الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ" 4. وَقَالَ: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشُدُّهُمْ فِي اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضَهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَلِكُلِّ أَمَةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بن الجراح" 5.   1 أي: من جهة الإملاء الذي ينبني على النطق لا في أصل الألفاظ، حاشا لله أن يكون ذلك في المتواترة ألفاظه لفظًا لفظًا. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب نزل القرآن بلسان قريش، 6/ 537/ رقم 3506، وكتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، 9/ 8-9/ رقم 4984، وباب جمع القرآن، 9/ 10-11/ رقم 4987". 3 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ رقم 2807"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949/ رقم 2511" عن أبي أسيد رضي الله عنه. 5 أخرجه بهذا اللفظ الخطيب البغدادي في "الفصل للوصل" "ق102/ ب-103/ أ" من طريق إسماعيل بن علية ثنا خالد عن أبي قلابة؛ قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم .... وذكره = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: "سَأَلْنَا حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ قَرِيبِ السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَأْخُذَ عَنْهُ؛ فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَقْرَبَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ ابن أم عبد"1.   = مرسلًا، ثم قال: "وعن أنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لكل أمة أمين .... ". وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 472" عن ابن علية به مختصرًا مرسلًا مقتصرًا على: "أرحم أمتى بأمتي .... ". وأخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" "رقم 537" عن ابن علية به مختصرًا مرسلًا مقتصرًا على: "أصدق أمتي حياء عثمان". وأخرجه أيضًا "7/ 531" -ومن طريقه مسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح، 4/ 1881/ رقم 2419" عن ابن علية به مرفوعًا موصولًا مقتصرًا على: "إن لكل أمة أمينًا ... "، والمتتبع لطرق هذا الحديث يجزم بيقين أن الحديث من مرسل أبي قلابة عد ذكر أبي عبيدة، وقد ظفرت بكلام جماعة من الحفاظ فيه نحو هذا؛ منهم البيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 210"، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" "ذكر النوع السابع والعشرين، ص114"، والخطيب في "الفصل للوصل" "ق102/ أ"، والدارقطني في "الأفراد" "ق96/ أ- مع ترتيبه"، وأبو نعيم الأصبهاني في "الرد على الرافضي" أو "تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة" "ص112-113" - وأطلق التضعيف وأيده بكلام قوي- وابن عبد البر في "الاستعاب" "1/ 50 - مع الإصابة"، وابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" "7/ 512-513"، و"مجموعه الفتاوى" "4/ 10، 408-409 و31/ 343"، و"الفتاوى المصرية" "1/ 369 - ط دار الفكر"، ومحمد بن عبد الهادي في "جزء طرق حديث "أفرضكم زيد" "ق10/ أ- 10/ ب"- وقد فرغت من تحقيقه- وابن حجر في "فتح الباري" "7/ 93". وللحديث طرقا أخرى وشواهد جمعتها وخرجتها وتكلمت عليها في دراسة مستقلة، وأثبت فيها ما قررته آنفًا من أن الحديث مرسل بسياقه عد ذكر أبي عبيدة، وهي مطبوعة بعنوان: "دراسة حديث: "أرحم أمتي بأمتي ... ". 1: أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، 7/ 102/ رقم 3762" -وهذا لفظه- وكتاب الأدب، باب الهدي الصالح، 10/ 509/ رقم 6097". وكتب "د" معرفًا بابن أم عبد: "وهو عبد الله بن مسعود". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 وَلِمَا حَضَرَ مُعَاذًا الْوَفَاةُ، قِيلَ لَهُ: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! أَوْصِنَا. قَالَ: أَجْلِسُونِي. قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانَهُمَا؛ مَنِ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا" يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْتَمِسُوا الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةِ رَهْطٍ، عِنْدَ عُوَيْمِرٍ1 أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعِنْدَ سَلْمَانَ2 الْفَارِسِيِّ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ ... "3 الْحَدِيثَ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ" 4. وَمَا جَاءَ فِي التَّرْجِيحِ وَالتَّفْضِيلِ كَثِيرٌ لِأَجْلِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَجَمِيعُهُ لَيْسَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَنْقِيصِ الْمَرْجُوحِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ الْقَانُونُ اللَّازِمُ وَالْحُكْمُ الْمُنْبَرِمُ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَى سواه، وكذلك فعل السلف الصالح.   1 في الأصل بياض. 2 في الأصل سليمان. 3 أخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" "1/ 73" -وهو "الاوسط" على التحقيق- والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، 5/ 671/ رقم 3804" -واللفظ له- والنسائي في "فضائل الصحابة" "149"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 86"، والفسوي في "المعروفة والتاريخ" "1/ 467-468" - ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق417" - والحاكم في "المستدرك" "3/ 416" من طريقين عن زيد ابن عميرة؛ قال: لما حضر ... به، وتمته: "الذي كان يهوديًا فأسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة". وإسناده حسن، وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال: قال الحاكم: "صحيح الإسناد". وأخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 550"، والخطيب البغدادي في "تالي التلخيص" "رقم 298 - بتحقيقنا", وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق417" من طرق ضعيفة عن معاذ به. 4 مضى تخريجه في التعليق على "4/ 456". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 فَصْلٌ: وَرُبَّمَا انْتَهَتِ الْغَفْلَةُ أَوِ التَّغَافُلُ بِقَوْمٍ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِمْ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ صَيَّرُوا التَّرْجِيحَ بِالتَّنْقِيصِ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا دَأْبَهُمْ، وَعَمَّرُوا بِذَلِكَ دَوَاوِينَهُمْ، وَسَوَّدُوا بِهِ قَرَاطِيسَهُمْ؛ حَتَّى صَارَ هَذَا النَّوْعُ تَرْجَمَةً مِنْ تَرَاجِمِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَوْ كَالتَّرْجَمَةِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ مِمَّا أُشِيرَ إِلَى بَعْضِهِ، بَلْ تَطَرَّقَ الْأَمْرُ إِلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ؛ فَرَأَيْتُ بَعْضَ التَّآلِيفِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى مَنْحَى التَّنْقِيصِ بِمَنْ جَعَلَهُ مَرْجُوحًا وَتَنْزِيهِ1 الرَّاجِحِ عِنْدَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَى الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُ، بَلْ أَتَى الْوَادِيَ فَطَمَّ عَلَى الْقُرَى؛ فَصَارَ هَذَا النَّحْوُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا بَيْنُ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَطَرَّقَ ذَلِكَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنَ الْجُهَّالِ؛ فَنَظَمُوا فِيهِ وَنَثَرُوا، وَأَخَذُوا فِي تَرْفِيعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ بِالتَّخْفِيضِ مِنْ شَأْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ2 مُسْتَنِدِينَ إِلَى مَنْقُولَاتٍ أَخَذُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ عَلِمْتَ السَّبَبَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ" 3، وَمَا قَالَ النَّاسُ فِيهِ؛ فَإِيَّاكَ وَالدُّخُولَ فِي هَذِهِ الْمَضَايِقِ؛ فَفِيهَا الْخُرُوجُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ4. وَأَمَّا التَّرْجِيحُ الْخَاصُّ؛ فَلْنُفْرِدْ لَهُ مسألة [على حدة] ، وهى:   1 في "ط": و"ترجيح". 2 في "ط": "لكن" بإسقاط الواو، ويشير المصنف في كلامه السابق إلى ما أثير في عصره -واستمر إلى القرن العاشر- من المفاضلة بين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام؛ وذكر نحوه ابن القيم في "جلاء الأفهام". وانظر: "الإشارات" "رقم 820 - بقلمي". 3 مضى تخريجه "ص290". 4 انظر كلام المصنف المتقدم في آخر المسألة السادسة من النوع الأول من المقاصد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِانْتِصَابِ لِلْفَتْوَى عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ عِنْدَ1 مُقْتَضَى فَتْوَاهُ؛ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِأَوْصَافِ الْعِلْمِ، قَائِمٌ مَعَهُ مَقَامَ الِامْتِثَالِ التَّامِّ؛ حَتَّى إِذَا أَحْبَبْتَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَغْنَاكَ عَنِ السُّؤَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، كَمَا كَانَ رسول اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ. فَهَذَا الْقِسْمُ إِذَا وُجِدَ؛ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ الْعَدَالَةِ مُبْرِزًا؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ؛ فَوَعْظُهُ أَبْلَغُ، وَقَوْلُهُ أَنْفَعُ، وَفَتْوَاهُ أَوْقَعُ2 فِي الْقُلُوبِ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ، وَاسْتَنَارَتْ كُلِّيَّتُهُ بِهِ، وَصَارَ كَلَامُهُ خَارِجًا مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ3، وَالْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَلْبِ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28] ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا وَصَادِقًا وَفَاضِلًا لَا يَبْلُغُ كَلَامُهُ مِنَ الْقُلُوبِ هَذِهِ الْمَبَالِغَ، حَسْبَمَا حَقَّقَتْهُ التَّجْرِبَةُ الْعَادِيَّةُ. وَالثَّانِي4: أَنَّ مُطَابَقَةَ الْفِعْلِ الْقَوْلَ شَاهِدٌ لِصِدْقِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا؛ فَمَنْ طَابَقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ صَدَّقَتْهُ الْقُلُوبُ، وَانْقَادَتْ لَهُ بِالطَّوَاعِيَةِ النُّفُوسُ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَقَامَ وَإِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَدِينُهُ مَعْلُومًا، وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ الْحَاصِلَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ مُفِيدٌ زِيَادَةَ؛ الْفَائِدَةِ أَوْ عَدَمِ زِيَادَتِهَا فَمَنْ زَهَّدَ النَّاسُ فِي الْفُضُولِ الَّتِي لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَهُوَ زاهد فيها وتارك لطلبها؛ فتزهيده أنفع   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "على". 2 في "ط"ك "أرفع". 3 في "ط": "قلبه". 4 يحتاج إلى الفرق بين هذا الوجه وسابقه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 مِنْ تَزْهِيدِ مَنْ زَهَّدَ فِيهَا وَلَيْسَ بِتَارِكٍ لَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةٌ، وَفِي مُخَالَفَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ هُنَا مَا يَمْنَعُ مِنْ بُلُوغِ مَرْتَبَةِ مِنْ طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ. فَإِذَا اخْتَلَفَ مَرَاتِبُ الْمُفْتِينَ فِي هَذِهِ الْمُطَابَقَةِ؛ فَالرَّاجِحُ لِلْمُقَلِّدِ اتِّبَاعُ مَنْ غَلَبَتْ مُطَابَقَةُ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ. وَالْمُطَابَقَةُ أَوْ عَدَمِهَا يُنْظَرُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَإِذَا طَابَقَ فِيهِمَا؛ [فَهُوَ الْكَمَالُ، فَإِنَّ تَفَاوَتَ الْأَمْرُ فِيهِمَا] 1 -أَعْنِي فِيمَا عَدَا شُرُوطِ الْعَدَالَةِ- فَالْأَرْجَحُ الْمُطَابَقَةُ فِي النَّوَاهِي، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على أن لا يَرْتَكِبَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنَّهُ فِي الْأَوَامِرِ لَيْسَ كذلك، والآخر مثابر على أن لا يُخَالِفَ2 مَأْمُورًا بِهِ، لَكِنَّهُ فِي النَّوَاهِي عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ فِي الِاتِّبَاعِ مِنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِيمَا عَدَا شُرُوطِ الْعَدَالَةِ إِنَّمَا مُطَابَقَتُهَا مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ مَنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ مَعْنًى يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنَاهِيَ تَمْتَثِلُ3 بِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكَفُّ؛ فَلِلْإِنْسَانِ قُدْرَةٌ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَأَمَّا الْأَوَامِرُ؛ فَلَا قُدْرَةَ لِلْبَشَرِ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا تَتَوَارَدُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَلَى الْبَدَلِ بِحَسْبِ مَا اقْتَضَاهُ التَّرْجِيحُ؛ فَتَرْكُ بَعْضِ الْأَوَامِرِ لَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِخِلَافِ [فِعْلِ] بَعْضِ النَّوَاهِي، فَإِنَّهُ مُخَالَفَةٌ   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 أي: بقدر ما في قدرته كما تقدم له، وكما يأتي في قوله بعد: "فلا قدرة للبشر على فعل جميعها ... إلخ. "د". 3 في "م": "تمثل". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 فِي الْجُمْلَةِ؛ فَتَرْكُ النَّوَاهِي أَبْلَغُ فِي تَحْقِيقِ1 الْمُوَافَقَةِ. الثَّالِثُ: النَّقْلُ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ؛ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" 2، فَجَعَلَ الْمَنَاهِيَ آكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَوَامِرِ، حَيْثُ حَتَّمَ فِي الْمَنَاهِي مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ، وَلَمْ يُحَتِّمْ ذَلِكَ فِي الْأَوَامِرِ إِلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَذَلِكَ إِشْعَارٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ تَرْجِيحِ مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر.   1 في "ط": "تحقق". 2 مضى تخريجه "1/ 256". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الِاقْتِدَاءُ بِالْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ1 أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المقتدى به بالأفعال2 مِمَّنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عِصْمَتِهِ كَالِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ أَوْ مَا يُعْلَمُ3 بِالْعَادَةِ أَوْ بِالشَّرْعِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى الْخَطَأِ؛ كَعَمَلِ4 أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الثَّانِي؛ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِ قَصْدًا؛ كَأَوَامِرِ الْحُكَّامِ وَنَوَاهِيهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ فِي مَقْطَعِ الْحُكْمِ، مِنْ أَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ وَرَدٍّ وَإِمْضَاءٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ5 يَتَعَيَّنُ بِالْقَرَائِنِ قَصْدُهُ إِلَيْهِ تَعَبُّدًا بِهِ وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ دِينًا وَأَمَانَةً. وَالْآخَرُ: أن لا يَتَعَيَّنَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ، لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ. فَالْقَسَمُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ الْمُقْتَدِي إِيقَاعَ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ6 عَلَيْهِ الْمُقْتَدَى بِهِ، لَا يَقْصِدُ بِهِ إِلَّا ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَفَهِمَ مَغْزَاهُ أَمْ لا،   1 في الأصل و"ط": "عن". 2 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالأفعال". 3 واقعة موقع "من"؛ فهو داخل فيمن الدليل على عصمته. "د". 4 في الأصل و"ف" و"م" و"ط": "وعمل"، وكتب "ف": "لعله: "كعمل أهل المدينة"، والمثبت من "د". 5 صنف آخر من أحد الضربين، وقوله: "والآخر.. إلخ" هو الضرب الثاني؛ فلا هو ممن دل الدليل على عصمته، ولا هو ممن انتصب للاقتداء أو تعيين قصده؛ فلذا كانت الأقسام ثلاثة فقط. "د". وفي "ط": "ويتعين". 6 كذا في "ط" و"ماء"، وفي "م": دلة"، وفي "م" و"ف": وقعه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ تَنْوِيَةُ1 الْمُقْتَدَى بِهِ فِي الْفِعْلِ أَحَسَنُ2 الْمَحَامِلِ مَعَ احْتِمَالِهِ فِي نَفْسِهِ؛ فَيَبْنِي فِي اقْتِدَائِهِ عَلَى الْمَحْمَلِ الْأَحْسَنِ، وَيَجْعَلُهُ أَصْلًا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَيُفَرَّعُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ، كَمَا اقْتَدَى3 الصَّحَابَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ؛ كَنَزْعِ الْخَاتَمِ الذَّهَبِيِّ4، وَخَلْعِ النَّعْلَيْنِ فِي الصَّلَاةِ5، وَالْإِفْطَارِ في السفر6، والإحلال من   1 في "ف" و"م": "تنويه" بهاء في آخره، وفي "د" و"ط": "تنوية" بتاء مربوطة، وكتب "ف" هنا ما نصه: "من نواه بالتشديد: جعله ينوي، والمراد هنا حمله على أن المقتدي به قصد بفعله أحسن الوجوه، أو لعله الميم، بالميم؛ أي: كون المقتدي به مصيبًا بفعله أحسن المحامل، يقال: رجل منوي؛ بفتح الميم، وسكون النون: إذا كان يصيب النجعة المحمودة". 2 وهو أن يكون فعله تعبدًا، مع احتماله أن يكون دنيويًا، وقد يقال: إنه في صورة فهم مغزاه وسره الشرعي، يتعين فيه أن يكون فاهمًا فيه التعبد من المعصوم لعدم التنوية المذكورة إنما يظهر فيما لم يفهم مغزاه. "د". 3 فإن قيل: وهل اقتداؤهم به صلى الله عليه وسلم في مثل الإفطار في السفر والإحلال من العمرة كان مجردًا من تنويتهم له صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك تعبدًا، وإنما فعلوه لمجرد أنه فعله من غير زيادة حتى يصح عده من القسم الأول؟ قلنا: إن محل الفرق بين القسمين قوله: "مع احتماله في نفسه" في الثاني، وهذه الأمثلة ليست مما يحتمل في نفسه لأنها متعينة للتعبد؛ فاتضح كلامه. "د". 4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب خواتيم الذهب، 10/ 315/ رقم 5865، وباب ختم الفضة 10/ 318/ رقم 5866، 5867" عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال بألفاظ أحدها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتمًا من ذهب؛ فنبذه فقال: "لا ألبسه أبدًا". فنبذ الناس خواتيمهم. 5 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو دواد في "سننه" "كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل 1/ 175/ رقم 650" -وهذا لفظه، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 431"- والدارمي في "السنن" "1/ 320"، وأحمد في "المسند" "3/ 20، 92"، والطيالسي في "المسند" "رقم 2154"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 260"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ1، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الصَّحَابَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَيْهَا2، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِي3؛ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ إِذَا أَمْكَنَ4 انْضِبَاطُ الْمَقْصِدِ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ غَيْرُ معتدٍّ بِهِ شَرْعًا فِي الِاقْتِدَاءِ؛ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ إِلْغَاءٌ لِاحْتِمَالِ5 قَصْدِ الْمُقْتَدَى بِهِ دُونَ مَا نَوَاهُ الْمُقْتَدِي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. فَالِاحْتِمَالُ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُقْتَدِي لَا يَتَعَيَّنُ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُ لَمْ [يَكُنْ تَرْجِيحُهُ] 6 إِلَّا بِالتَّشَهِّي، وَذَلِكَ مُهْمَلٌ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ؛ إِذْ لا ترجيح إلا بمرجِّح.   = 402، 431" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: بينما رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؛ قال: @"ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني، فأخبرني أن فيها قذرًا"، وقال: "إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى؛ فليمسحه، وليصلِّ فيهما". وإسناده صحيح، صححه النووي في "المجموع" "2/ 179، 3/ 132، 156"، وشيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 284". 6 مضى لفظه وتخريجه "4/ 87-88". 1 مضى لفظه وتخريجه "ص264". 2 كصلاة التراويح جماعة في المسجد. "د". قلت: مضى تخريج ذلك "4/ 423". 3 وهو زيادة نية التعبد. "د". 4 فإذا لم يمكن؛ فلا وجه للاختلاف فيه، بل يتعين إلغاؤه. "د". 5 أي: وهو احتمال قوي لا يصح إهماله بمجرد تحسين المقتدي الظن بأن المقتدى به فعله على الوجه الأفضل وهو التعبد، وإلغاؤه بدون دليل ترجيح الاحتمالين بمجرد التشهي. "د". 6 كذا في "ط"، وبدله في جميع النسخ: "يترجح". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 وَلَا يُقَالُ: إِنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ مَطْلُوبٌ عَلَى الْعُمُومِ؛ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ1 ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ -وَإِنْ ظَهَرَتْ مَخَايِلُ2 احْتِمَالِ إِسَاءَةِ الظَّنِّ فِيهِ- مَطْلُوبٌ3 بِلَا شَكٍّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّن} الْآيَةَ [الْحُجُرَاتِ: 12] . وَقَوْلُهُ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} الْآيَةَ [النُّورِ: 12] . بَلْ أُمِرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَقُولَ ما لا يعلم كما أمر4 باعتقاد   1 أي: كما هو الفرض في هذا القسم. "د". 2 بالياء: جمع مخلية؛ كمعايش، ومعيشة. "ف". 3 في الأصل: "مطلوبه". 4 أداة الطلب الموجه إلى القول في الآيتين واحدة، وهي: "لولا"، كما أنها موجهة إلى ظن الخير بالمؤمنين والمؤمنات في الأولى؛ فالمطلوب في الأولى أن يظنوا الخير بأهل الإيمان، وأن يقولوا: {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، وفي الثاني أن يُكَذِّبوا ما سمعوا، ويهولوا عليه ويقولوا: "سبحان الله! "؛ أي: تنزه عن أن يَصِمَ نبيه ويشينَه؛ لأن فجور الزوجة ينفر القلوب من زوجها، وأن يقولوا: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، وعليه؛ فلا يظهر وجه لما قيل*: "إن موضع الأمر قوله: لولا إذ سمتعتموه، وذكر الأول؛ لتعلقه به"، ويبقى الكلام في أن طلب الجزم في قولهم: {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12] ، و {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم} [النور: 16] من باب طلب القول والاعتقاد لما يعلم أو ما لا يعلم، قال بالأول الفخر، والعلامة الثاني؛ لأن الأنبياء معصومون من كل منفر، وهذا منه كما أشرنا إليه، واستشكل بأن هذا لو كان شرطًا عقليًا في النبوة؛ لما خفي عليه صلى الله عليه وسلم ولما سألها؛ فقال: "إن كنتِ ألممت بذنب؛ فاستغفري الله، وتوبي إليه ... " إلخ**، وأجيب بأجوبة، واختار الآلوسي*** أن هذا من مجرد الظن بخيرة المؤمنين؛ فراجعه. "د".   * المذكور قول "ف". ** قطعة من حديث الإفك الطويل، ومضى تخريجه "2/ 422". *** في "تفسيره" "18/ 120-121". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 مَا لَا يَعْلَمُ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النُّورِ: 12] . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النُّورِ: 16] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يبْن عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا اعْتُبِرَ فِي عَدَالَةِ شَاهِدٍ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ [بـ] مجرد هَذَا التَّحْسِينِ؛ حَتَّى تَدُلَّ الْأَدِلَّةُ الظَّاهِرَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ الْغَالِبِ. فَإِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ مَأْمُورًا بِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَكُنْ كُلُّ مُسْلِمٍ عَدْلًا [عِنْدَ المحسِّن] بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّحْسِينِ حَتَّى تَحْصُلَ الْخِبْرَةُ أَوِ التَّزْكِيَةُ1؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِأَمْرٍ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَإِذَا لَمْ يُثْبِتْهُ لَمْ ينبنِ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْأَفْعَالِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ. وَمِثَالُهُ كَمَا إِذَا فَعَلَ الْمُقْتَدَى بِهِ فِعْلًا يُحتمل أَنْ يَكُونَ دِينِيًّا تَعَبُّدِيًّا، ويُحتمل أَنْ يَكُونَ دُنْيَوِيًّا رَاجِعًا إِلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَلَا قَرِينَةَ تَدُلُّ على تعين أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ؛ فَيَحْمِلُهُ هَذَا الْمُقْتَدِي عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدَى بِهِ إِنَّمَا قَصَدَ الْوَجْهَ الدِّينِيَّ [لَا الدُّنْيَوِيَّ] بِنَاءً عَلَى تَحْسِينِهِ الظَّنَّ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقْتَدَى بِهِ مَثَلًا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا وَافَقَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ خَالَفَ؛ إِذْ لَوْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ2 الْمُطَابَقَةَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا لَمَا أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا، بَلْ بِقَيْدِ الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْمُطَابَقَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّحْسِينِ بِنَاءٌ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ لَا عَلَى أَمْرٍ3 حَصَلَ لِذَلِكَ الْمُقْتَدَى بِهِ، لَكِنَّهُ قَصَدَ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءً على ما   1 في "ط": "والتزكية". 2 في "ط": "ويلتزم". 3 وهو قصده في الواقع بهذا الفعل التعبد، وقوله: "على ما عند المقتدى به"؛ أي: كما يقتضيه معنى الاقتداء. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 عِنْدَ الْمُقْتَدَى بِهِ؛ فأدَّى إِلَى بِنَاءِ الِاقْتِدَاءِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، بِخِلَافِ الِاقْتِدَاءِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ عَلَامَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا انْبَنَى عَلَى أَمْرٍ حَصَلَ لِلْمُقْتَدَى بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا1، وَإِيَّاهُ قَصَد الْمُقْتَدِي بِاقْتِدَائِهِ فَصَارَ كَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَيَّنَةِ2. وَالثَّالِثُ3: أَنَّ هَذَا الِاقْتِدَاءَ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّنَاقُضَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقتدَى بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ظَنًّا مَثَلًا، وَمُجَرَّدُ تَحْسِينِ الظَّنِّ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا عِلْمًا وَلَا ظَنًّا، وَإِذَا لَمْ يَقْتَضِهِ لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهُ كَذَلِكَ، هَذَا خَلْفٌ مُتَنَاقِضٌ. وَإِنَّمَا يَشْتَبِهُ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِنَفْسِ الظَّنِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظَّنَّ نَفْسَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُقْتَدَى بِهِ مَثَلًا بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ، بِخِلَافِ تَحْسِينِ الظَّنِّ؛ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَانَ فِي الْخَارِجِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ أَوْ لَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّنَّ نَاشِئٌ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ ضَرُورَةً4 لَا انْفِكَاكَ لِلْمُكَلَّفِ5 عَنْهُ وَتَحْسِينُ الظَّنِّ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْمُكَلَّفِ غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى نَفْيِ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ الْمُضْطَرِبَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِالْمُقْتَدَى بِهِ، فَإِذَا جَاءَهُ خَاطِرُ الِاحْتِمَالِ الأحسن   1 في "ط": و"ظنًّا". 2 أي: للتعبد كما في الصنف الأول من هذا القسم. "د". 3 هذا الوجه لازم لما قبله، ولو قال عقب قوله: "فَأَدَّى إِلَى بِنَاءِ الِاقْتِدَاءِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ"، ويلزمه أيضًا التناقض؛ لصَحَّ؛ لأن مقدمات هذا الوجه هي محصل مقدمات الوجه الثاني. "د". 4 كما قالوه في لزوم النتيجة للدليل. "د". 5 في "ط": "لانفكاك المكلف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 قوَّاه وثبتَهُ بتكراره في فِكْرِهِ وَوَعْظِ النَّفْسِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَإِذَا أَتَاهُ خَاطِرُ الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ ضَعَّفَهُ وَنَفَاهُ، وَكَرَّرَ نَفْيَهُ عَلَى فِكْرِهِ، وَمَحَاهُ عَنْ ذِكْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْمُقْتَدَى بِهِ ظَاهِرُهُ وَالْغَالِبُ مِنْ أَمْرِهِ الميلُ إِلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَالتَّزَوُّدُ لِلْمَعَادِ، وَالِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ، وَمُرَاقَبَةُ أَحْوَالِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؛ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْفَرْدَ الْمُحْتَمَلَ مُلْحَقٌ بِذَلِكَ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، شَأْنَ الْأَحْكَامِ الواردة على هذا الوزان. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْفَرْدَ إِذَا تَعَيَّنَ هَكَذَا عَلَى هَذَا الْفَرْضِ فَقَدْ يَقْوَى الظَّنُّ بِقَصْدِهِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْأُخْرَوِيِّ؛ فَيَكُونُ مَجَالُ الِاجْتِهَادِ كَمَا سَيُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْفَرْضُ بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ تَحْسِينِ الظَّنِّ، بَلْ عَلَى نَفْسِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى دَلِيلٍ يُثِيرُهُ، وَالظَّنُّ الَّذِي يَكُونُ هَكَذَا قَدْ يَنْتَهِضُ فِي الشَّرْعِ سَبَبًا لِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَفَرْضُ مَسْأَلَتِنَا لَيْسَ هكذا، بل على جهة أن لا يَكُونَ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ تَرْجِيحٌ يُثِيرُ مِثْلُهُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَيُضْعِفُ الِاحْتِمَالَ الْآخَرَ كَرَجُلٍ1 مُتَّقٍ لِلَّهِ مُحَافِظٍ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، لَيْسَ [لَهُ] 2 فِي الدُّنْيَا شُغْلٌ إِلَّا بِمَا كُلِّفَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ؛ فَمِثْلُ هَذَا لَهُ فِي هَذِهِ الدار حالان:   1 لتكن على ذكر من أصل الموضوع، وهو أن المتقدى به ممن دل الدليل على عصمته كالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِ أَهْلِ الإجماع، لا فعل واحد منهم، بل فعل صدر من جمع يتحقق منهم الإجماع الشرعي، أو صدر من جماعة يقوم الدليل على أَنَّهُمْ لَا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى الْخَطَأِ؛ كَعَمَلِ أَهْلِ المدينة، فالفعل المقتدى فيه فيما عدا النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون عمل فرد ولا جماعة لا يتحقق فيهم ما ذكر؛ فتمثيله برجل ... إلخ هنا وفيما يفهم من أصل السؤال بعيد عن أصل الفرض، ومحتاج تطبيقه على أصل الموضوع إلى تكلفات، وإنما يتضح التمثيل فيما يأتي له بعد بالأفعال الجبلية بالنسبة له صلى الله عليه وسلم من حيث تحسين الظن بأن أفعاله مصروفة إلى الآخرة. "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "م". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 - حَالٌ دُنْيَوِيٌّ، بِهِ يُقِيمُ مَعَاشَهُ وَيَتَنَاوَلُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ. - وَحَالٌ أُخْرَوِيٌّ، بِهِ يُقِيمُ أَمْرَ آخِرَتِهِ. فَأَمَّا هَذَا الثَّانِي؛ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، وَغَيْرُ مُحْتَمِلٍ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّوَادِرِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ مَثَارُ الِاحْتِمَالِ، فَالْمُبَاحُ مَثَلًا يُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حَيْثُ حَظِّ نَفْسِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حَيْثُ حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا عَمِلَهُ وَلَمْ يُدرَ وَجْهَ أَخْذِهِ؛ فَالْمُقْتَدِي بِهِ بِنَاءً عَلَى تَحْسِينِ ظَنِّهِ بِهِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا عَمِلَهُ مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ وَمُتَعَبِّدًا لَهُ بِهِ؛ فَيَعْمَلُ بِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ إِلَّا تَحْسِينُ ظَنِّهِ بِالْمُقْتَدَى بِهِ، لَيْسَ له أصل يبني عَلَيْهِ؛ إِذْ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا قَوِيًّا أَنْ يَقْصِدَ الْمُقْتَدَى بِهِ نَيْلَ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ حَظِّهِ؛ فَلَا يُصَادِفُ قَصْدَ الْمُقْتَدِي مَحَلًّا، بَلْ إِنْ صَادَفَ صَادَفَ أَمْرًا مُبَاحًا صَيَّرَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ، وَالْمُبَاحُ لَا يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. بَلْ نَقُولُ: إِذَا وَقَفَ الْمُقْتَدَى بِهِ وَقْفَةً، أَوْ تَنَاوَلَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهٍ، أَوْ قَبَضَ [عَلَى] لِحْيَتِهِ فِي وَقْتٍ مَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَأَخَذَ هَذَا الْمُقْتَدِي يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْعِبَادَةَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَعْنًى دُنْيَوِيٍّ أَوْ غَافِلًا؛ كَانَ هَذَا الْمُقْتَدِي مَعْدُودًا مِنَ الْحَمْقَى وَالْمُغَفَّلِينَ؛ فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْمَسْأَلَةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ مَثَلًا، فَأَعْطَاهُ صَدِيقًا لَهُ؛ لِصَدَاقَتِهِ1، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَصْنَعَ بِهِ مُبَاحًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ فَيَقُولُ الْمُقْتَدِي: حُسْنُ الظَّنِّ بِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ [كَانَ] يَتَصَدَّقُ بِهِ، لَكِنْ آثَرَ بِهِ عَلَى نفسه في هذا الأمر   1 أي: لا لفقر مثلًا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 الْأُخْرَوِيِّ؛ فَيَجِيءُ1 مِنْهُ جَوَازُ الْإِيثَارِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَحَظَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِيثِ: "وَاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2، فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ صِحَّةَ الْإِيثَارِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ؛ إِذْ كَانَ إِنَّمَا يَدْعُو3 بِدَعْوَتِهِ الَّتِي أُعْطِيهَا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ لَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا. فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ4؛ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَا قَالَهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكُنُهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ وَلَا قَدْحَ فِيهِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحِبُّ مِنَ الدُّنْيَا أَشْيَاءَ، وَيَنَالُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا أُبِيحَ لَهُ، وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي أمور؛ كحبه للنساء، والطيب5،   1 أي: يفرع عليه جواز ذلك، ولا بد له أن يجعل في طي حسن ظنه أنه إنما أعطاه لصديقه ليتصدق به؛ حتى يتم له الاستنباط. "د". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة 11/ 96/ رقم 3604، وكتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة 13/ 447/ رقم 7474"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته 1/ 188-190/ رقم 198" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي؛ شفاعة لأمتي في الآخرة". لفظ البخاري. وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 6305"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 210" عن أنس نحوه. وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 201" عن جابر مرفوعًا، وفي آخره: "وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". 3 أي: فحسن الظن به صلى الله عليه وسلم أنه يدعو بها لأمر أخروي؛ فآثر أمته عن نفسه في أمر أخروي. "د". 4 وهو أن الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا للأدلة السابقة، فلنا أن نردَّ ما لحظه هذا البعض؛ فنقول: إن ما قاله ... إلخ. "د". 5 مضى بيان ذلك وتخريجه في "2/ 240". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 وَالْحَلْوَاءِ، وَالْعَسَلِ، وَالدُّبَّاءِ1، وَكَرَاهِيَتِهِ لِلضَّبِّ2، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَكَانَ يَتَرَخَّصُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ3، وَهُوَ مَنْقُولٌ كَثِيرًا. وَوَجْهٌ ثانٍ4 وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ دَعَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ؛ كَاسْتِعَاذَتِهِ مِنَ الْفَقْرِ، وَالدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، وَالْهَمِّ وَأَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ5، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْ ذَلِكَ أُمُورَ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَيَدُلُّ   1 مضى بيان حبه صلى الله عليه وسلم للحلواء والعسل وتخريجه في "1/ 185"، وأما حبه صلى الله عليه وسلم للدباء؛ فأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 5379، 5420، 5535، 5437" عن أنس رضي الله عنه. 2 مضى بيان ذلك وتخريجه في "4/ 115". 3 مضى بيان ذلك وتخريجه في عدة أحاديث. انظر "1/ 469-470، 523". 4 مغايرة هذا الوجه لما قبله من حيث إنه في هذا وقع الدعاء فعلًا بأمور دنيوية، وفيما قبله أنه بحيث لو وقع؛ لكان مقبولًا؛ لما ثبت أنه كان يميل إلى بعض أمور دنيوية ولا حجر عليه في طلبها. "د". 5 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها: ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من غزا بصبي للخدمة 6/ 86/ رقم 2893" -وهذا لفظه- ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره 4/ 2079/ رقم 2706" عن أنس؛ قال: كنت قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال". وما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب ما يتعوذ من الجبن 6/ 36-37/ رقم 2822" عن ميمون الأودي: قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر". فحدثت به مصعبًا؛ فصدقه. وما أخرجه النسائي في "المجتبى" كتاب السهو، باب التعوذ في دبر الصلاة 3/ 73-74" -وهذا لفظه- وأحمد في "المسند" "5/ 36، 39، 44"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "رقم 110" بسند صحيح على شرط مسلم عن مسلم بن أبي بكرة؛ قال: كان أبي يقول = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ جُمْلَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دَعَوُا الدَّعْوَةَ الْمَضْمُونَةَ الْإِجَابَةِ لَهُمُ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فِي أُمَّتِهِ" 1 عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِالدُّنْيَا جَائِزٍ لَهُمْ، وَهُوَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ؛ كَقَوْلِهِ: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، حسبما نقله المفسرون2، وكان من   = في دبر الصلاة، "اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر". فكنت أقولهن، فقال أبي: أي بني! عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك. قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولهن في دبر الصلاة. وما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب القدر، باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء 11/ 513/ رقم 6616" عن أبي هريرة مرفوعًا: "تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". وأخرجه البخاري في "صحيحه" "أيضًا في "كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء 11/ 148/ رقم 6347" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الاعداء". وأخرجه بنحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب من التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره 4/ 2080/ رقم 2707". 1 هو صدر الحديث السابق، وسيأتي الكلام على قوله في "أمته" من جهة الرواية ومن جهة المعنى. "د". 2 ذهب ابن العربي في "أحكامه" "4/ 1861" -وتبعه القرطبي في "تفسيره" "18/ 313"- إلى أن دعاء نوح عليه السلام على قومه كان "غضبًا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك"، ولم يبين هنا هل استجيب لنوح أم لا، وبينه في مواضع أخر، منها قوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَه} وكذلك في قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ، بقى الدليل الذي يعين أن دعوت عليه السلام المستجابة هي المذكورة، لم أظفر بأحد من المفسرين تعرض لذلك، وذلك على خلاف قول المصنف، وقد نظرت في تفسير الآية عند الزمخشري، والآلوسي، والبقاعي، وابن كثير، والجلالين، وحواشيه، وابن عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، والقاسمي، والشنقيطي، ولكن سيأتي أن في رواية مسلم: "دعاها لأمته"، و"مستجابة في أمته"، وهذا يرجح ما ذكره المصنف هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 الْمُمْكِنِ أَنْ يَدْعُوَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ؛ فَكَوْنُهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ صَفْوَةُ اللَّهِ مَنْ خَلْقِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِمْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ مَصْرُوفَةً إِلَى الْآخِرَةِ فَقَطْ، فَكَذَلِكَ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَ هَذَا العالم. أمر ثَالِثٌ1: وَهُوَ أَنَّا لَوْ بَنَيْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ2؛ لَكُنَّا نَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ الْآدَمِيَّةِ أَوْ لَا؛ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَصَدَ بِهَا أُمُورًا أُخْرَوِيَّةً وَتَعَبُّدًا مَخْصُوصًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، بل كان يلزم منه أن لا يَكُونَ لَهُ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ مُخْتَصًّا3 بِالدُّنْيَا إلا ما بَيَّنَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ إِذْ ذَاكَ كَوْنُهُ دُنْيَوِيًّا لِخَفَاءِ قَصْدِهِ فِيهِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ4، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ جِهَتَهُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا؛ فَلَا يَحْصُلُ مِنْ بَيَانِ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا ثبت صَحَّ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ ثَابِتٍ5، وَأَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ يَقْتَضِي أَنَّ الدَّعْوَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْأُمَّةِ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ:   1 هذا يصلح دليلًا لأصل الموضوع، وهو أن الصواب عدم الاعتداد بالمحتمل في الاقتداء؛ فيكون رابع الأدلة الثلاثة المتقدمة. "د". 2 أي: المجيز للاقتداء تحسين الظن الذي بني عليه الإيثار في أمور الآخرة. "د". 3 أي: متعينًا لها غير محتمل. "د". 4 لعله قد سقطت هنا جملة المشبه به، والأصل: "فما بين رجوعه إلى الآخرة؛ فهو أخروي، وكذلك .... إلخ"، وقوله: "فلا يحصل ... إلخ" مبني على تمهيد مطوي، حاصله أن ما لم يبين جهته هو الغالب والكثير، وقوله: "وذلك خلاف ... إلخ" في قوة الاستثنائية القائلة: وذلك باطل. "د". 5 طبق قوله سابقًا: "الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا". "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فِي أُمَّتِهِ" 1؛ فَلَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِهِ، فَلَا يَحْصُلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِيثَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ الْإِيثَارَ ثانٍ عَنْ قَبُولِ الِانْتِفَاعِ فِي2 جِهَةِ الْمُؤَثِّرِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي إِنْ كَانَ مِثْلَ انْتِصَابِ الْحَاكِمِ وَنَحْوِهِ؛ فَلَا شَكَّ فِي3 صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَصْرِيحِهِ4 بِالِانْتِصَابِ لِلنَّاسِ وَتَصْرِيحِهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَفْعُولِ أَوِ الْمَتْرُوكِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَعَيَّنَ فِيهِ قَصْدُ الْعَالِمِ إِلَى التَّعَبُّدِ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، بِالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ مَوْضِعُ احْتِمَالٍ: فَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا تَطَرَّقَ إِلَى أَفْعَالِهِ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْمَعْصِيَةُ5 قَصْدًا، وَإِذَا لَمْ يتعين وجه فعله6؛ فكيف يصح الاقتداء   1 مضى تخريجه في "ص310"، وأفاد "د" أنه في "صحيح مسلم" بروايات منها روايتان قريبتان في المعنى مما يرويها المؤلف، إحداهما: "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته"، والأخرى: "دعاها لأمته"، وعلى هاتين يتمشى كلام المؤلف؛ أما على رواية البخاري وروايات مسلم الأولى؛ فيمكن استنباط الإيثار الذي قاله بعضهم، لولا الاحتمال الذي ذكره المؤلف سابقًا من أنه لا مانع أن يدعو بها في أمور ديناه؛ فلا يكون في أمور الآخرة متعينًا حتى يستدل به على الإيثار المذكور، وإلى ما فصلناه أشار المؤلف بقوله: "كما تقدم"، أي أنه بالرواية المتقدمة لا معنى للاستدلال به على الإيثار رأسًا، يعني: وما قررناه أولًا مقطوع فيه النظر عن هذه الرواية، ومصروف إلى الروايات الأخرى التي لم تصرح بما يقتضي أن الدعوة مختصة بأمته. 2 في "ط": "مَن". 3 في "ط": "إشكال". 4 أي: لا فرق بين ما بعد كالتصريح القولي بسبب الانتصاب المذكور، وهو فعله في مقطع الحكم من أخذ ورد ... إلخ، وبين تصريحه اللفظي بحكم الفعل من إذن ومنع مثلًا، وإنما أولنا كلمة "التصريح" بهذا؛ لأن موضوع المسألة الاقتداء بفعله. "د". قلت: انظر صحة الاقتداء بالحاكم في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "30/ 407". 5 هذا في الحقيقة لا داعي إليه في الدليل، ويكر بالإبطال على الأقوال نفسها وعلى أفعال المنتصب اللذين سلمنا فيها بصحة الاقتداء، ويرشح ما قلناه قوله بعد: "ولعله فعله ساهيًا"، ولم يقل: أو عاصيًا. "د". 6 إلا بقرائن قد لا تصدق؛ كما هو موضوع كلامه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 قَصْدًا فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ فِي الْعَادَاتِ؟ وَلِذَلِكَ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ1 أَنَّهُ قَالَ: "أَضْعَفُ الْعِلْمِ الرُّؤْيَةُ، يَعْنِي: أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُ فُلَانًا يَعْمَلُ كَذَا، وَلَعَلَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا". وَعَنْ إِيَاسِ ابن مُعَاوِيَةَ: "لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يصدقْك"2. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ قَالُوا3: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الْآيَةَ [الزُّخْرُفِ: 22] . وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الْمُرْتَابِ: "سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ"4. فَالِاقْتِدَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَفْرُوضِ كَالِاقْتِدَاءِ بِسَائِرِ النَّاسِ أَوْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ. وَلِلْمُجِيزِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مَعْمُولٌ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ5، وَإِذَا تَعَيَّنَ بِالْقَرَائِنِ قَصْدُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ -وَلَا سِيَّمَا في العبادات، ومع التكرار أيضًا،   1 هو عطاء، وأورد نحوه عنه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 778/ رقم 1448"، ونصه: "وأضعف العلم: علم النظر، أن يقول الرجل: رأيت فلانًا". 2 أخرجه وكيع في "أخبار القضاة" "1/ 350"، وابن شبة كما في "تهذيب الكمال" "3/ 433". 3 أي: الذين قلدوا من ليس أهلًا، وفي الحديث لفظ: "الناس"؛ أي: مطلق الناس الذين لا يقلدون، فتقليد من ليس أهلًا المنفي عليه في الآية، والحديث يشبهه تقليد العالم في الفرض المذكور، وليس التقليد بعمومه مذمومًا كما تدل عليه تلك المسائل الأصولية. "د". 4 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب الصلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/ 543/ رقم 1053"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار 2/ 624/ رقم 905"، ومالك في "الموطأ" "1/ 188-189" عن أسماء رضي الله عنها". 5 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 312-313 و13/ 310-326"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص518"، و"البحر المحيط" للزركشي "1/ 76، 82 و5/ 276 و6/ 285". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 وَهُوَ مِنْ أَهِلِ الِاقْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِ كَذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ: "إِنَّهُ جَائِزٌ"1، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ، قَالَ2: "وأراه كان يتحراه"؛ فقد استند   1 وذهب الجمهور إلى كراهته، وقال عياض: "لعل قول مالك يرجع إليه؛ لأن مذهبه كراهة تخصيص يوم معين بالصيام" وأشار الباجي في "المنتقى" "2/ 76" إلى احتمال أنه قول آخر له، وقال الداودي: "لم يبلغه الحديث، ولو بلغه ما خالفه"، قال الأبي: "فالحاصل أن المازري والداودي فهما من "الموطأ" الجواز، وعياض رده إلى ما علم من مذهبه من كراهته تخصيص يوم معين بالصوم، وعضده بما أشار إليه الباجي؛ هذا وأكثر الشيوخ يحكي عن مالك الجواز، ولكن بناؤه على ما قال المؤلف بعيد، فإنه روي عن ابن مسعود أنه "كان صلى الله عليه وسلم، يصوم من كل شهر ثلاثة ايام، وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة"*، وعن ابن عمر: "ما رأيته [صلى الله عليه وسلم] مفطرًا يوم الجمعة قط"**، ويكون قوله: "لم أسمع أحدًا من أهل العلم ينهى عنه"، وقوله: "وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه ... إلخ" من باب الترشيح والتقوية لهذه الأحاديث؛ لا أن عمل بعض أهل العلم هو الدليل المسقط لحكم الحديث الصحيح كما يقول المؤلف، يراجع: "الزرقاني على الموطأ" "2/ 203". "د". قلت: انظر أيضًا: "الاستذكار" "10/ 260-264"، و"مصنف ابن أبي شيبة" "3/ 46"، و"الشرح الصغير" "1/ 694" للدردير. 2 عبارته في "الموطأ" "كتاب الصيام، باب جامع الصيام 1/ 311 - رواية يحيى" هذا =   * أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 742 "، وأبو دواد في "السنن" "رقم 2450" -دون: "وقلما ... "، والنسائي في "المجتبى" "4/ 204"، وأحمد في "المسند" "1/ 406"، وابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 3129"، وإسناده صحيح، وصححه ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 260". ** أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" "3/ 46" بإسنادٍ ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 إِلَى فِعْلِ بَعْضِ النَّاسِ عِنْدَ ظَنِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عُمْدَةً مُسْقِطَةً لِحُكْمِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ. فَقَدْ يُلَوَّحُ مِنْ هُنَا أَنَّ مَالِكًا يَعْتَمِدُ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ صَاحِبِهِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ جَهْلًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَفْلَةً؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ يَقْتَضِي عَمَلَهُ بِهِ، وَتَحَرِّيهِ إِيَّاهُ دَلِيلٌ2 عَلَى عَدَمِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي مَا اعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ، إِذَا تَأَمَّلْتَهَا وَجَدْتَهَا قَدِ انْضَمَّتْ إِلَيْهَا قَرَائِنُ عَيَّنَتْ قَصْدَ الْمُقْتَدَى بِهِ، وَجِهَةَ فعله، فصَحَّ الاقتداء. والقسم الثالث: هو3 أن لا يَتَعَيَّنَ فِعْلُ الْمُقْتَدَى بِهِ لِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ وَلَا أُخْرَوِيٍّ، وَلَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى جِهَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْقَسَمِ الثَّانِي بِعَدَمِ   = نصها: لم اسمع أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَمَنْ يُقْتَدَى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه". قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 261" في تحديد "بعض أهل العلم": "وأما الذي ذكره مالك؛ فيقولون: إنه محمد بن المنكدر، وقيل: إنه صفوان بن سليم". 1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها: - ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة 4/ 232"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهية صيام يوم الجمعة منفردًا 2/ 801/ رقم 1143" عن محمد بن عباد؛ قال: "سألت جابرًا رضي الله عنه: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم". زاد بعض الرواة: "يعنى: أن ينفرد بصومه". لفظ البخاري. - وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1144" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده". 2 خبر قوله: "وتحرِّيه". "د". 3 في "ط": "وهو". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 صحة الاقتداء؛ فههنا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ؛ فَقَدْ يَنْقَدِحُ فِيهِ احْتِمَالٌ، فَإِنَّ قَرَائِنَ التَّحَرِّي لِلْفِعْلِ [هُنَالِكَ] 1 مَوْجُودَةٌ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الصِّحَّةِ2. وَأَمَّا ههنا، فَلَمَّا فُقِدَتْ قَوِيَ احْتِمَالُ الْخَطَأِ وَالْغَفْلَةِ وَغَيْرِهِمَا، هَذَا مَعَ اقْتِرَانِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الدِّينِ؛ فَالصَّوَابُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَنْعُ الِاقْتِدَاءِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ النَّازِلَةِ الْمُقَلَّدِ فِيهَا، وَيَتَمَكَّنُ قَوْلُ مَنْ قَالَ3: "لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الفقيه، ولكن سله يصدقْك" ونحوه   1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ماء" و"ط". 2 أي: في القسم الثاني. "د". 3 هو إياس بن معاوية كما تقدم قريبًا "ص315". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدْ تَقَدَّمَ1 أَنَّ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً: أَمَّا الْحَالُ الْأَوَّلُ؛ فَلَا يَسُوغُ الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ صَاحِبِهِ كَمَا لَا يُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ بَعْدُ، فَإِذَا كَانَ اجْتِهَادُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْمَالَهُ إِنْ كَانَتْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ فَهِيَ سَاقِطَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِتَقْلِيدٍ فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ فِي الِاقْتِدَاءِ إِلَى مُقَلِّدِهِ أَوْ إِلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ، وَلِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِدُخُولِ الْعَوَارِضِ2 عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَيَصِيرُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا فَلَا يُوْثَقُ بِأَنَّ عَمَلَهُ صَحِيحٌ فَلَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ اسْتِفْتَائِهِ، وَيَجْرِي الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِي؛ فَهُوَ مَوْضِعُ إِشْكَالٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِفْتَائِهِ3، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ؛ فَاسْتِفْتَاؤُهُ3 جارٍ عَلَى النَّظَرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ. وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ كَصَاحِبِ الْحَالِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ اجْتِهَادِهِ جَرَى الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالنَّظَرِ. هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَعْمَالِهِ صَاحِبَ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ4 حَالٍ وَهُوَ   1 في المسألة الثالثة عشرة من الطرف الأول في الاجتهاد. 2 أي: من شأنها أن تدخل النقص والخلل في أعماله، وذلك كدواعي الهوى والانحراف عن قصد الدليل وغير ذلك. "د". 3 في "ط": "استيفائه.. فاستيفاؤه". 4 ليس خاصًا بالحالة الثانية، بل عام لكل من صح اجتهاده، واستفتاؤه كان من ذوي الحالة الثانية أو الثالثة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 مِمَّنْ يُسْتَفْتَى؛ فَهَلْ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ بِنَاءً عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا، وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِفْتَاؤُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَمْ لَا؟ كُلُّ هَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ حَالٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ هُوَ ذُو حَالٍ مِثْلُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ عَامِلُونَ فِي أَحْوَالِهِمْ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، بَالِغُونَ غَايَةَ الْجُهْدِ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ؛ إِمَّا لِسَائِقِ الْخَوْفِ، أَوْ لِحَادِي الرَّجَاءِ، أَوْ لِحَامِلِ الْمَحَبَّةِ؛ فَحُظُوظُهُمُ الْعَاجِلَةُ قَدْ سَقَطَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِأَمْرٍ شَاغِلٍ عَنْ غَيْرِ مَا هُمْ فِيهِ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ عَنِ الْأَعْمَالِ فَتْرَةٌ، وَلَا عَنْ جِدِّ السَّيْرِ رَاحَةٌ، فَمَنْ كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ؛ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ مَنْ هُوَ طَالِبٌ لِحُظُوظِهِ مُشَاحٌّ فِي اسْتِقْصَاءِ مُبَاحَاتِهِ؟! وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَهَّلَ عَلَيْهِمْ مَا عَسُرَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَأَيَّدَهُمْ بِقُوَّةٍ مِنْهُ عَلَى مَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، حَتَّى صَارَ الشَّاقُّ عَلَى النَّاسِ غَيْرَ شَاقٍّ عَلَيْهِمْ، وَالثَّقِيلُ عَلَى غَيْرِهِمْ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ؛ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ضَعِيفُ الْمِنَّةِ1 عَنْ حَمْلِ تِلْكَ الْأَعْبَاءِ، أَوْ مَرِيضُ الْعَزْمِ فِي قَطْعِ مَسَافَاتِ النَّفْسِ، أَوْ خَامِدُ الطَّلَبِ لِتِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، أَوْ رَاضٍ بِالْأَوَائِلِ عَنِ الْغَايَاتِ؟! فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِاتِّبَاعِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ تَطَوَّقُوا ذَلِكَ زَمَانًا؛ فَعَمَّا قَرِيبٍ يَنْقَطِعُونَ2، وَالْمَطْلُوبُ الدَّوَامُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حتى تملوا" 3.   1 أي: القوة، وتقدمت. أما "ماء"؛ ففيها: "الهمة". 2 كما في حديث الترمذي الصحيح: @"إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة"، والشرة: النشاط والرغبة. "د". قلت: مضى تخريجه الحديث "3/ 522". 3 مضى تخريجه "1/ 525"، وهو صحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 وَقَالَ: "أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" 1. وَأَمَرَ2 بِالْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ، وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ" 3. وَكَرِهَ الْعُنْفَ وَالتَّعَمُّقَ وَالتَّكَلُّفَ وَالتَّشْدِيدَ4 خَوْفًا مِنَ الِانْقِطَاعِ، وَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الْحُجُرَاتِ: 7] . وَرَفَعَ عَنَّا الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، فَإِذَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ آيِلًا إِلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ؛ لَمْ يَلِقْ أَنْ يَنْتَصِبُوا مَنْصِبَ الِاقْتِدَاءِ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَلَا أَنْ يَتَّخِذَهُمْ غَيْرُهُمْ أَئِمَّةً فِيهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَالٍ مِثْلَهُمْ وَغَيْرَ مَخُوفٍ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ؛ فَإِذْ ذَاكَ يَسُوغُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَهَذَا الْمَقَامُ قَدْ عَرَفَهُ أَهْلُهُ، وَظَهَرَ لَهُمْ بُرْهَانُهُ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ. وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِأَقْوَالِهِ إِذَا اسْتُفْتِيَ فِي الْمَسَائِلِ؛ فَيَحْتَمِلُ تَفْصِيلًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسْتَفْتَى فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ صَاحِبُ حَالٍ، أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَرَى حُكْمُهُ مَجْرَى الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ، فَإِنَّ نُطْقَهُ فِي أحكام أحواله من جملة   1 مضى تخريجه "1/ 525"، وهو بقية الحديث السابق. 2 كما في حديث: "سددوا وقاربوا"، وهو صحيح، ومضى تخريجه "2/ 208". 3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، 10/ 449/ رقم 6024، وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 11/ 194/ رقم 6395"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن عائشة رضي الله عنها. والمذكور لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". 4 ورد ذلك في أحاديث عديدة، تقدم منها ما يفي بالغرض، وانظر غير مأمور: "1/ 522". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 أعماله، والغالب فليه أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ، لَا بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُ السَّائِلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي سَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَأَنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِنْ أَصْلِ الْعِلْمِ لَا مِنْ رَأْسِ الْحَالِ؛ إِذْ لَيْسَ مَأْخُوذًا فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: يُذْكَرُ فِيهَا بَعْضُ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَشْهَدُ لِلْعَامِّيِّ بِصِحَّةِ اتِّبَاعِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا فِي فَتْوَاهُ. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ1: "رُبَّمَا وَرَدَتْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةُ تَمْنَعُنِي مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمِ. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! وَاللَّهِ مَا كَلَامُكَ عِنْدَ النَّاسِ إِلَّا نَقْرٌ فِي حَجَرٍ، مَا تَقُولُ شَيْئًا إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْكَ. قَالَ: فَمَنْ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا إِلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا؟ قَالَ الرَّاوِي: فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ: مَالِكٌ مَعْصُومٌ". وَقَالَ2: "إِنِّي لَأُفَكِّرُ فِي مَسْأَلَةٍ مُنْذُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَا اتَّفَقَ لِي فِيهَا رَأْيٌ إِلَى الْآنِ". وَقَالَ3: "رُبَّمَا وَرَدَتْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةُ فَأُفَكِّرُ فِيهَا لَيَالِيَ". وَكَانَ4 إِذَا سُئِلَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ لِلسَّائِلِ: "انْصَرِفْ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهَا". فَيَنْصَرِفُ وَيُرَدِّدُ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَبَكَى وَقَالَ: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِي مِنَ الْمَسَائِلِ يَوْمٌ وَأَيُّ يَوْمٍ". وَكَانَ إِذَا جَلَسَ؛ نَكَّسَ رَأْسَهُ، وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ يَذْكُرُ اللَّهَ وَلَمْ يلتفت يمينًا   1 قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 144 - ط بيروت": "قال عبد الرحمن العمري: قال لي مالك ... "وذكره"، وفيه: "كنقش في الحجر"، و"أن يكون كذا"، وفي "ط": "نقش". 2 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": قال: ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول ... "وذكره". 3 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": "قال ابن مهدي: سمعت مالكًا يقول ... "وذكره"، وفيه: " ... المسألة فأسهر فيها عامة ليلي". 4 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا ... وذكره"، وفيه: " .... ويتردد فيها؛ فقلنا ... شفتيه بذكر ... وكان أحمر فيصفر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 وَلَا شِمَالًا، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ؛ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ -وَكَانَ أَحْمَرَ- فَيَصْفَرُّ، وَيُنَكِّسُ رَأْسَهُ وَيُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: "مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، فَرُبَّمَا سُئِلَ عَنْ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً؛ فَلَا يُجِيبُ مِنْهَا فِي وَاحِدَةٍ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُجِيبَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَلَاصُهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُجِيبُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ1: "لَكَأَنَّمَا مَالِكٌ وَاللَّهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ؛ وَاقِفٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ". وَقَالَ2: "مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْقَطْعُ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ بِبَلَدِنَا وَإِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ كَأَنَّ الْمَوْتَ أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ أَهْلَ زَمَانِنَا هَذَا يَشْتَهُونَ الْكَلَامَ فِيهِ وَالْفُتْيَا، وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ غَدًا لَقَلَّلُوا مِنْ هَذَا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيًّا وَعَامَّةَ خِيَارِ الصَّحَابَةِ كَانَتْ تَرِدُ عَلَيْهِمُ الْمَسَائِلُ وَهُمْ خَيْرُ الْقَرْنِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَ، ثُمَّ حِينَئِذٍ يُفْتُونَ فِيهَا، وَأَهْلُ زَمَانِنَا هَذَا قَدْ صَارَ فَخْرُهُمُ الْفُتْيَا؛ فَبِقَدْرِ ذَلِكَ يُفْتَحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ". قَالَ3: "وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا الَّذِينَ يُقتدى بِهِمْ   1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 144"، وفي "د": "مسألة والله". 2 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 144-145"، وفيه: " .... كأن هذا هو.. وعلقمة -وهو خطأ- خيار الصحابة ..... تتردد عليهم المسائل. ويسألون حينئذ ثم ....... ". 3 نقله عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 145"، وفيه: "مضى ولا من سلفنا ... ويعول ... أكره كذا وأحب ... ". وذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1075/ رقم 2091"؛ قال: "وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول .... "وذكر نحوه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 وَمُعَوَّلُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَكْرَهُ كَذَا، وَأَرَى كَذَا وَأَمَّا حَلَالٌ وَحَرَامٌ؛ فَهَذَا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 59] ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَاهُ". قَالَ مُوسَى بْنُ دَاوُدَ1: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: "لَا أُحْسِنُ" مِنْ مَالِكٍ، وَرُبَّمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَيْسَ نُبْتَلَى بِهَذَا الْأَمْرِ، لَيْسَ هَذَا بِبَلَدِنَا"، وَكَانَ2 يَقُولُ لِلرَّجُلِ يَسْأَلُهُ، اذْهَبْ حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكَ، قَالَ الرَّاوِي: فَقُلْتُ: إِنَّ الْفِقْهَ مِنْ بَالِهِ3 وَمَا رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى. وَسَأَلَ4 رَجُلٌ مَالِكًا عَنْ مَسْأَلَةٍ -وَذَكَرَ أَنَّهُ أُرْسِلَ فِيهَا مِنْ مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْمَغْرِبِ- فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرِ الَّذِي أَرْسَلَكَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لِي بِهَا. قَالَ: وَمَنْ يَعْلَمُهَا؟ قَالَ: مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا أَهْلُ الْمَغْرِبِ؛ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا ابْتُلِينَا بِهَذِهِ المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحدا من   1 نقله عنه عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 145"، وليس فيه: "ليس نبتلى بهذا الأمر". 2 في "ترتيب المدارك" "1/ 145": "قال مروان بن محمد: كنت أرى مالكًا يقول للرجل ... "وذكره"، وفيه: "من بابه". 3 أي معروف عنده، ولكنه لورعه يريد التثبت، وهذا نوع من التقوى الموجبة لرضى الله عن عبده ورفعه في أعين خلقه. "د". 4 في "ترتيب المدراك" "1/ 145-146": "قال ابن مهدي: سأل رجل مالكًا" ... و"ذكره"، وفيه: "تكلم بها ولكن ... جاءه .... بغلة يقودها ... ". وأسنده إلى ابن مهدي ابنُ أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" "ص18"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص134"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 174"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 838/ رقم 1573":، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 816"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 323" بألفاظ متقاربة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 أَشْيَاخِنَا تَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ تَعُودُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ وَقَدْ حَمَلَ ثِقَلَهُ عَلَى بَغْلِهِ يَقُودُهُ، فَقَالَ: مَسْأَلَتِي! فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! تَرَكْتُ خَلْفِي مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَعْلَمُ مِنْكَ. فَقَالَ مَالِكٌ غَيْرَ مُسْتَوْحِشٍ: إِذَا رَجَعْتَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي لَا أُحْسِنُ". وَسَأَلَهُ آخَرُ1 فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَجِبْنِي. فَقَالَ: وَيْحَكَ، تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَنِي حُجَّةً بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ؟ فَأَحْتَاجُ أَنَا أَوَّلًا أَنْ أَنْظُرَ كَيْفَ خَلَاصِي ثُمَّ أُخَلِّصُكَ". وَسُئِلَ2 عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا" "لَا أَدْرِي". وَسُئِلَ3 مِنَ الْعِرَاقِ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً؛ فَمَا أَجَابَ مِنْهَا إِلَّا فِي خَمْسٍ. وَقَدْ4 قَالَ ابْنُ عَجْلَانَ: "إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ "لَا أَدْرِي"؛ أُصِيبَتْ مقاتله".   1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 146"، وفيه: "أتريد أن ... " ونحوه في "المعرفة والتاريخ" "1/ 556"، و"الفقيه والمتفقه" "2/ 169"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 823". 2 في ترتيب المدارك" "1/ 146": قال الهيثم بن جبيل: "شهدتُ مالكًا سئل عن ... ". 3 في ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال خالد بن خراش: قدمت من العراق على مالك بأربعين ... "، وفيه: " ... فما أجابني ... ". 4 في "د" و"ف" و"ط": "وقال: قال ..... "، وسقطت "قال" من "م"، والتصويب من "ترتيب المدارك" "1/ 146"، والأصل. وأسند مقولة ابن عجلان ابنُ أبي حاتم في "مناقب الشافعي" "ص107"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص134"، والحازمي في "سلسلة الذهب" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر للخبر" "1/ 22-23"- والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 172-173"، والبيقهي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 812"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 840، 840 841/ رقم 1852، 1853"، وإسناده صحيح. ونحوها عن ابن عجلان عند أبي الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "3/ 142"، وأبي نعيم في "أخبار أصبهان" "1/ 349". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 وَيُرْوَى هَذَا الْكَلَامُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ1، وَقَالَ2: "سَمِعْتُ ابْنَ هُرْمُزَ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُوَرِّثَ الْعَالِمُ جُلَسَاءَهُ قَوْلَ لَا أَدْرِي"، وَكَانَ3 يَقُولُ فِي أَكْثَرِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ: "لَا أَدْرِي". قَالَ عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ: "فَقُلْتُ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ: يَرْجِعُ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى شَامِهِمْ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى عِرَاقِهِمْ، وَأَهْلُ مِصْرَ إِلَى مصرهم، ثم لعلي أرجع عما أُفْتِيهِمْ4 بِهِ. قَالَ: فَأَخْبَرْتُ اللَّيْثَ بِذَلِكَ؛ فَبَكَى وَقَالَ: مَالِكٌ وَاللَّهِ أَقْوَى مِنَ اللَّيْثِ "أَوْ نَحْوُ هَذَا". وَسُئِلَ5 مَرَّةً عَنْ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً؛ فَمَا أَجَابَ مِنْهَا إِلَّا فِي وَاحِدَةٍ،   1 أخرجه عنه الآجري في "أخلاق العلماء" "ص133"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 172"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 813"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 839، 840/ رقم 1580، 1581" بأسانيد منقطعة. والمذكور من "ترتيب المدارك" "1/ 146". 2 في "ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال مالك: "سمعت ابن هرمز."، وأسنده إلى ابن هرمز: الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 655"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 173"، والبيهقي في "مدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 809"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 835/ رقم 1564". 3 في "ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال ابن وهب: كان مالك يقول: "وذكره بتمامه". وأسند الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 485" إلى الفضل بن دكين؛ قال: "ما رأيت أحدًا أكثر قولا "لا أدري" من مالك بن أنس"، وفي "د": "لعلي أرجع عما أرجع ... " والصواب حذف "أرجع" الثانية. 4 في "ط": "أفتيتهم". 5 في "ترتيب المدارك" "1/ 147": قال ابن أبي أويس: سئل مالك مرة عن نيف ... "وذكره". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 وَرُبَّمَا سُئِلَ عَنْ مِائَةِ مَسْأَلَةٍ فَيُجِيبُ مِنْهَا فِي خَمْسٍ أَوْ عَشْرٍ، وَيَقُولُ فِي الْبَاقِي: "لَا أَدْرِي". قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ1: "قَالَ لَنَا المغيرة: تعالوا نجتمع [ونستذكر] كل ما بقي علينا ما نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ مَالِكًا. فَمَكَثْنَا نَجْمَعُ ذَلِكَ، وَكَتَبْنَاهُ فِي قُنْدَاقٍ2 وَوَجَّهَ بِهِ الْمُغِيرَةُ إِلَيْهِ، وَسَأَلَهُ الْجَوَابَ؛ فَأَجَابَهُ فِي بَعْضِهِ وَكَتَبَ فِي الْكَثِيرِ مِنْهُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا قَوْمِ! لَا وَاللَّهِ مَا رَفَعَ اللَّهُ هَذَا الرَّجُلَ إِلَّا بِالتَّقْوَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُسْأَلُ عَنْ هَذَا فَيَرْضَى أَنْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي؟ ". [وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي لَا أَدْرِي"] 3 وَ"لَا أُحْسِنُ" كَثِيرَةٌ؛ حَتَّى قِيلَ لَوْ شَاءَ رَجُلٌ أَنْ يَمْلَأَ صَحِيفَتَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ "لَا أَدْرِي" لَفَعَلَ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ فِي مَسْأَلَةٍ4. وَقِيلَ5: "إِذَا قُلْتَ أَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا أَدْرِي؛ فَمَنْ يَدْرِي؟ قَالَ: وَيْحَكَ أَعَرَفْتَنِي، وَمَنْ أَنَا، وَإِيشِ مَنْزِلَتِي حَتَّى أَدْرِيَ مَا لَا تَدْرُونَ؟ ثُمَّ أَخَذَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ6، وَقَالَ: هَذَا ابْنُ عُمَرَ يقول "لا أدري"؛ فمن أنا؟ وإنما   1 وكذا في "ترتيب المدارك" "14/ 147" و"ط"، وما بين المعقوفتين منه، وفي الأصول: "نجمع"، و"ما نريد"، والتصويب منه ومن "ط". 2 بضم القاف: صحيفة الحساب. "ف" و"م". قلت: تصحفت في "ترتيب المدراك" إلى "قنوان"!! 3 سقط من "ط". 4 أخرجه الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 485" بسنده إلى وهب؛ قال: "ولو شئت أن أنصرف كل يوم عن مالك وألواحي مملوءة من "لا أدري" لفعلت"، وذكره الذهبي في "السير" "8/ 108". 5 في "ترتيب المدراك" "1/ 147": "وقال بعضهم: إذا قلت ... "وذكره"، وفيه: "ما عرفتني؟ وما أنا"، وفي "ط": "وقيل له ... ". 6 يشير إلا سؤال الأعرابي لابن عمر: "أترث العمة؟ قال: لا أدري. قال: أنت ابن عمر ولا تدري؟ قال: نعم، اذهب إلى العلماء؛ فسلهم"، وأخرجه الدرامي في "السنن" "1/ 63"، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والذهلي في "جزئه"، وابن مردويه في "التفسير المسند" -كما في "فتح الباري" "3/ 273"، و"موافقة الخبر والخبر" "1/ 81"- والآجري في "أخلاق العلماء" "ص131-132"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 171-172"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 796"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 834-835، 835-836/ رقم 1563، 1566"، بألفاظ وأسانيد بعضها صحيح على شرط البخاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 أَهْلَكَ الناسَ العُجْبُ وطَلَبُ الرياسةِ، وَهَذَا يضمحِلُّ عَنْ قَلِيلٍ". وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى1: "قَدِ ابْتُلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ فَلَمْ يُجِبْ فِيهَا2، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا أَدْرِي، وَابْنُ عُمَرَ: لَا أَدْرِي". وَسُئِلَ3 مَالِكٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: "لَا أَدْرِي. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إِنَّهَا مَسْأَلَةٌ خَفِيفَةٌ سَهْلَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُعْلِمَ بِهَا الْأَمِيرَ، وَكَانَ السَّائِلُ ذَا قَدر؛ فَغَضِبَ مَالِكٌ وَقَالَ: مَسْأَلَةٌ خَفِيفَةٌ سَهْلَةٌ! لَيْسَ فِي الْعِلْمِ شَيْءٌ خَفِيفٌ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 5] ؛ فَالْعِلْمُ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَبِخَاصَّةٍ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ بَعْضُهُمْ4: مَا سَمِعْتُ قَطُّ أَكْثَرَ قَوْلًا مِنْ مَالِكٍ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، وَلَوْ نَشَاءُ أَنْ نَنْصَرِفَ بِأَلْوَاحِنَا مَمْلُوءَةً بِقَوْلِهِ: "لَا أَدْرِي {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الْجَاثِيَةِ: 32] ؛ لَفَعَلْنَا.   1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 147". 2 وكان رضي الله عنه يجمع الشباب فيستشيرهم تارة، وأهل بدر تارة أخرى، وأخرج الأول عنه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "193" والخليلي في "الإرشاد" "1/ 309"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 106 - ط القديمة"، وذكره عنه الذهبي في "السير" "8/ 372-373" وأخرج الثاني والبيهقي في "المدخل" "رقم 803". 3 في "ترتيب المدارك" "1/ 147-148": "وقال مصعب: سئل مالك ..... "وذكره"، وانظر: "الإمام مالك مفسرًا" "ص399" لحميد الحمر، ط دار الفكر، 1415هـ. 4 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 وَقَالَ1 لَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: "لَيْسَ بَعْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِالْبُيُوعِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ. فَقَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ أَيْنَ عَلِمُوهَا؟ قَالَ: مِنْكَ. فَقَالَ2 مَالِكٌ: مَا أَعْلَمُهَا [أَنَا] ؛ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَهَا؟! ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ3: "قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مَا حَدَّثْتُ بِهَا قَطُّ وَلَا أُحَدِّثُ بِهَا قَالَ الْفَرَوِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا الْعَمَلُ". وَقَالَ4 رَجُلٌ لِمَالِكٍ: إِنِ الثَّوْرِيَّ حَدَّثَنَا عَنْكَ فِي كَذَا. فَقَالَ: "إِنِّي لَأُحَدِّثُ فِي كَذَا وَكَذَا حَدِيثًا مَا أَظْهَرْتُهَا بِالْمَدِينَةِ". وَقِيلَ5 لَهُ: عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ عِنْدَكَ. فَقَالَ: "أَنَا أُحَدِّثُ الناس بكل ما سمعت؟! إني إذن أَحْمَقُ! "، وَفِي رِوَايَةٍ6: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُضِلَّهُمْ إذن! وَلَقَدْ خَرَجَتْ مِنِّي أَحَادِيثُ لَوَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بِكُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا سَوْطًا وَلَمْ أُحَدِّثْ بِهَا، وإن كنت أجزع الناس من السياط! ".   1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148"، وما بين المعقوفتين منه، وفي الأصول: "يعلمونها بي"، والتصويب منه. 2 كذا في الأصل و"د" و"ف" و"ط"، وفي "الترتيب"و"م": "قال". 3 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148"، و"ما رواه الأكابر" "43"، و"الحلية" "6/ 322، و"السير" "8/ 62". 4 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148-149"، وفيه: "إني لأحدثك .... ". 5 في "ترتيب المدارك" "1/ 149": "قال الشافعي: قيل لمالك: عند ابن عيينة ... " وفيه: "إذا أحدث..". 6 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 149-150"، وفيه: "أفزع الناس"، وأسنده بنحوه من طريق القعنبي عن مالك الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 552-553" والضبي في "البغية" "ص464"، وانظر: "نوادر ابن حزم" "1/ 56". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 وَلَمَّا مَاتَ؛ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ حَدِيثٌ كَثِيرٌ جِدًّا لَمْ يُحَدِّثْ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ1. وَكَانَ إِذَا قِيلَ لَهُ: "لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ غَيْرِكَ" تَرَكَهُ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: "هَذَا مِمَّا2 يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ" تَرَكَهُ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا يُحَدِّثُ3 بِغَرَائِبَ. فَقَالَ: "مِنَ الْغَرِيبِ نَفِرُّ". وَكَانَ4 إِذَا شَكَّ فِي الْحَدِيثِ طَرَحَهُ كُلَّهُ، وَقَالَ5: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ؛ فَانْظُرُوا [فِي] رَأْيِي؛ فَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ فَاتْرُكُوهُ". وَقَالَ6: "لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا يُتَّبَعُ وَيُجْعَلُ سُنَّةً وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى الْأَمْصَارِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 17-18] . وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَجَابَ فِيهَا ثُمَّ قَالَ مَكَانَهُ: "لَا أَدْرِي، إِنَّمَا هُوَ الرَّأْيُ وَأَنَا أُخْطِئُ وَأَرْجِعُ، وَكُلُّ مَا أَقُولُ يكتب"7.   1 انظر تفصيل ذلك في "ترتيب المدارك" "1/ 148، 149". 2 في "د" "ما"، وما أثبتناه من "ترتيب المدارك" "1/ 150" والأصل و"ف" و"م" و"ط". 3 في "ترتيب المدارك" "1/ 150": "تحدثنا". 4 في "ترتيب المدراك" "1/ 150": "قال الشافعي: كان مالك إذا شك..". 5 في ترتيب المدارك" "1/ 146-147": قال معن: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر .... "، وما بين المعقوفتين منه. 6 قال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 362": "ذكر ابن معين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك ... "وذكره"، ونحوه في "المقدمات" لابن رشد "3/ 424 - ط دار الغرب"، وانظر: "الإمام مالك مفسرًا" "ص341". 7 نحوه في "ترتيب المدارك" "1/ 150". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 وَقَالَ أَشْهَبُ1: "وَرَآنِي أَكْتُبُ جَوَابَهُ فِي مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا تَكْتُبْهَا؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي أَثْبُتُ عَلَيْهَا أَمْ لَا". قَالَ ابْنُ وَهْبٍ2: "سَمِعْتُهُ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْجَوَابِ مِنَ الْعَالِمِ حِينَ يُسأل، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ عِنْدَمَا يُكْثَرُ عَلَيْهِ مِنَ السُّؤَالِ يَكُفُّ، وَيَقُولُ: حَسْبُكُمْ! مَنْ أَكْثَرَ أَخْطَأَ، وَكَانَ يَعِيبُ كَثْرَةَ ذَلِكَ، وَقَالَ: يَتَكَلَّمُ كَأَنَّهُ جَمَلٌ مُغْتَلِمٌ3 يَقُولُ: هُوَ كَذَا هُوَ كَذَا يُهْدِرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عِرَاقِيٌّ عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ دَجَاجَةً مَيِّتَةً فَخَرَجَتْ مِنْهَا بَيْضَةٌ، فَأَفْقَسَتِ الْبَيْضَةُ عِنْدَهُ عَنْ فَرْخٍ: أَيَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: سَلْ عَمَّا يَكُونُ، وَدَعْ مَا لَا يَكُونُ. وَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ نَحْوِ هَذَا فَلَمْ يُجِبْهُ؛ فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تُجِيبُنِي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! فَقَالَ4: لَوْ سَأَلْتَ عَمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ أَجَبْتُكَ". وَقِيلَ لَهُ5: إِنَّ قُرَيْشًا تَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَذْكُرُ فِي مَجْلِسِكَ آبَاءَهَا وَفَضَائِلَهَا. فَقَالَ: "إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِيمَا نَرْجُو بَرَكَتَهُ". قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ6: "كَانَ مَالِكٌ لَا يَكَادُ يُجِيبُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَحْتَالُونَ أَنْ يَجِيءَ رَجُلٌ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي يُحِبُّونَ أَنْ يَعْلَمُوهَا كَأَنَّهَا مَسْأَلَةُ بَلْوَى، فَيُجِيبُ فِيهَا". وَقَالَ7 لِابْنِ وَهْبٍ: "اتَّقِ هَذَا الْإِكْثَارَ وَهَذَا السَّمَاعَ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ أن   1 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 150". 2 أخرجه الدوري "فيما رواه الأكابر" "36، 53"، بنحون، ومثله في "ترتيب المدارك" "1/ 150"/ وزاد: "يعني: الرجل الذي يجلس لهذا". 3 [أي] : هائج. "ف" و"م". 4 في "ترتيب المدارك" "1/ 150" زيادة "له". 5 في "ترتيب المدارك" "1/ 151": "قال ابن المعدل: قيل لمالك: إن قريشًا ... ". 6 مثله في "ترتيب المدراك" "1/ 151". وفي "ط": "أن يتعلموها". 7 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 151"، وفيه: "اتق هذه الآثار، وهذا السماع ... فقال [له] ... لأعرفه لأحَدِّث. فقال: ما سمع ... إلا تحد َّث به، وعلى ذكر القدر وسعت". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 يُحَدَّثَ بِهِ. فَقَالَ: إِنَّمَا أَسْمَعُهُ لِأَعْرِفَهُ، لَا لِأُحَدِّثَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: مَا يَسْمَعُ إِنْسَانٌ شَيْئًا إِلَّا يُحَدِّثُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ أَشْيَاءَ مَا تَحَدَّثْتُ بها، وأرجو أن لا أفعل ما عشت، وقد1 ندمت أن لا أَكُونَ طَرَحْتُ مِنَ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِمَّا طَرَحْتُ". قَالَ أَشْهَبُ2: "رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ: لَقَدْ لَزِمَ مَالِكٌ كَلِمَةً عِنْدَ فَتْوَاهُ لَوْ وَرَدَتْ عَلَى الْجِبَالِ لَقَلَعَتْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"". هَذِهِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ الْإِنْسَانَ عَلَى مَنْ يَكُونُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى بِالْفُتْيَا وَالتَّقْلِيدِ لَهُ، وَيَتَبَيَّنُ بِالتَّفَاوُتِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَلَمْ آتِ بِهَا عَلَى تَرْجِيحِ تَقْلِيدِ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ3 بِسَبَبِ شِدَّةِ اتِّصَافِهِ بِهَا، وَلَكِنْ لِتُتَّخَذَ قَانُونًا فِي سَائِرِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ هُدَاةِ الْإِسْلَامِ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أشد اتصافا بها من بعض4.   1 في "ترتيب المدارك" "1/ 151": "وروى البياضي عنه أنه قال: لقد ندمت أن لا أكون طرحت أكثر مما طرحت من الحديث". وفي "ط": "وقال: لقد ... ". 2 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 151"، وفيه: "لو ورد عليه الجبال"، وفي "ط" و"ف" و"م": "وردت عليه"، وعلَّقا: "لعل "أصل" هذه العبارة: "لو وردت على الجبال لقلعتها"". 3 انظر رجحان مذهب أهل المدينة في "مجموع الفتاوى" "10/ 260 و20/ 294-320 و333-396"، وانظر منه: "20/ 320-348" تعظيم الناس لمالك. 4 في "ط": "من البعض". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: يَسْقُطُ عَنِ الْمُسْتَفْتِي1 التَّكْلِيفُ بِالْعَمَلِ عِنْدَ فَقْدِ الْمُفْتِي، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ لَا مِنْ جِهَةِ اجْتِهَادٍ مُعْتَبَرٍ، وَلَا مِنْ تَقْلِيدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ -حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْأُصُولِ- فَالْمُقَلِّدُ عِنْدَ فَقْدِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ رَأْسًا أَحَقُّ وَأَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَلِ قَبْلَ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ سُقُوطُ التَّكْلِيفِ؛ إِذْ لَا حُكْمَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ؛ إِذْ شَرْطُ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ الْعِلْمُ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ، وَهَذَا غَيْرُ عَالِمٍ [بِهِ] بِالْفَرْضِ؛ فَلَا يَنْتَهِضُ سَبَبُهُ عَلَى حَالٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكَلَّفًا بِالْعَمَلِ؛ لَكَانَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ؛ إِذْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَلَوْ كُلِّفَ بِهِ لَكُلِّفَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ فِيهِ، وَهُوَ عَيْنُ الْمُحَالِ؛ إِمَّا عَقْلًا وَإِمَّا شرعًا، والمسألة بيِّنَة.   1 أي: من هو بصدد الاستفتاء، وهو من عرضت له مسألة دينية وليس من أهل الاجتهاد. "د". قلت: قال إمام الحرمين في "الغياثي" "ص431" في مثل اختيار المصنف: "وهذا زَلَل ظاهر"، ثم أسهب في بيان أن هذه المسألة "تنزل منزلة التباس الأحوال في الطهارة والنجاسة مع وجود العلماء"، ثم قال "ص442": "فقصارى القول فيه اعتبار شك بشك، وبناء على الأمر على تغليب ما قضى الشارع بتغليبه"، ثم قال "ص481": "ويتحصل من مجموع ما نفينا وأثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو في المآل، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به ما يُتوقع منه فساد البنية، أو ضعف يصد عن التصرف، والتقلب في أمور المعاش"، ثم فصل ذلك في سائر الأبواب، وقرر أشياء نفيسة وقواعد كلية مليحة، وصرح في "ص521" أنه ألف الكتاب عند تخليه انحلال الشريعة، وانقراض حملتها، ورغبة الناس عن طلبها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 فَصْلٌ: وَيُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْعَمَلِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: فَقْدُ1 الْعِلْمِ بِهِ أَصْلًا؛ فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ أَلْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: فَقْدُ الْعِلْمِ لوصفه دُونَ أَصْلِهِ كَالْعَالَمِ بِالطَّهَارَةِ أَوِ الصَّلَاةِ2 أَوِ الزَّكَاةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْ تَفَاصِيلِهَا وَتَقْيِيدَاتِهَا وَأَحْكَامِ الْعَوَارِضِ فِيهَا، كَالسَّهْوِ وَشِبْهِهِ؛ فَيَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِوَجْهِ الْعَمَلِ بِهِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ فِيهَا، وَكُتُبُ الْفُرُوعِ أَخَصُّ3 بِهَا مِنْ هذا الموضع.   1 كمن يسمع أن التهجد مطلوب ولكن لا يدري ما هو، أو يسمع أن العمرة مطلوبة ولا يعرفها؛ من أي نوع من العبادات؟ لا أنه لم يُروَ إليه حتى اسم العمل المطلوب؛ لأنه حينئذ لا يتحقق فيه أنه مستفتٍ هذا، ومغايرته لما بعده ظاهرة، وما يسقط عنه في أصل العلم، وما يسقط عنه في الثاني الوصف الذي لم يتيسر له طريق معرفته. "د". 2 في "ط": "أو بالصلاة". 3 فمنها يُعلم ما رتب على هذه المسألة مما يسقط عنه وما لا يسقط بعد حصول العلم به. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فَتَاوَى الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَوَامِّ كالأدلة1 الشرعية بالنسبة إلى   1 أي: قائمة مقامها، فكما أن المجتهدين ملزمون باتباع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ... إلخ، فكذلك المقلدون ليس لهم أهلية الاجتهاد يلزمهم اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواهم؛ كما قال الآمدي في "الأحكام" "4/ 306 وما بعد" واستدل عليه بالنص والإجماع والمعقول؛ فالنص الآية التي استدل بها المؤلف والإجماع السكوتي على ذلك المعقول، وهو أن من لم يكن عنده أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية؛ فإما ألا يكون متعبدًا بشيء أصلًا، وهو خلاف الإجماع، وإن كان متعبدًا بشيء؛ فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم، أو بالتقليد، والأول ممتنع؛ لأن ذلك مما يفضي في حقه وحق الخلق أو أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش، وتعطيل الحرف والصناعات، وخراب الدنيا بتعطيل الحرث والنسل، ورفع التقليد رأسًا، وهو منتهى الحرج والإضرار المطلوب رفعهما؛ فلم يبقَ إلا التقليد، وأنه هو المتعبد به عند ذلك الفرض، هذا هو ما يريد المؤلف تقريره، وهو بعينه الذي يوافق المسألة قبله من سقوط التكليف عن المستفتي والمقلد إذا لم يجد المفتي، فهذا لا يكون إلا إذا كانت أقوال المجتهدين كأقوال الرسل، من جهة وجوب اتباعها والتزام العمل بها، وأنها كخطاب الله الوارد على لسان الرسل بالنسبة للعوام، ولا معنى لكونها حجة على الناس إلا ذلك، وسبق للآمدي في تعريف التقليد ما صرح فيه بوجوب أخذ العامي بقول المفتي، حتى قال: "إنه حجة ملزمة كالأخذ بالإجماع وبقول الرسول عليه السلام"، وأما كون ذلك حجة لذاته، أو ليس لذاته، وكذا كون الأدلة الشرعية للمجتهدين حجة لذاتها أو للمعجزة؛ فهذا أمر آخر وبحث آخر، لا يخص موضوع المسألة. "د". وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "لا لأن أقوالهم حجة على الناس في ذاتها كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فإن ذلك لا يقول به أحد، بل لأنه -لعدالتهم، وسعة اضطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشرعية وحفظ نصوصها- لا بد أن تستند أقوالهم إلى مأخذ شرعي عام أو خاص وإن يذكروه لمن يستفتيهم في النوازل، فإن ذلك غير لازم؛ فقد كان المجتهدون من الصحابة والتابعين يفتون العامة من غير إبداء المستند، ويُتَّبَعون* في ذلك من غير نكير، وشاع ذلك بينهم حتى تَوَاتَر".   * في "م": "والناس يتبعونهم في ذلك". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 الْمُجْتَهِدِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ وُجُودَ الْأَدِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَلِّدِينَ وَعَدَمَهَا سَوَاءٌ؛ إِذْ كَانُوا لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا شَيْئًا؛ فَلَيْسَ النَّظَرُ فِي الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 43] . وَالْمُقَلِّدُ غَيْرُ عَالِمٍ؛ فَلَا يَصِحُّ لَهُ إِلَّا سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَإِلَيْهِمْ مَرْجِعُهُ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ عَلَى الإطلاق، فهم إذن الْقَائِمُونَ لَهُ مَقَامَ الشَّارِعِ، وَأَقْوَالُهُمْ قَائِمَةٌ مَقَامَ [أَقْوَالِ] الشَّارِعِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ فَقْدُ الْمُفْتِي1 يُسْقِطُ2 التَّكْلِيفَ فَذَلِكَ مساوٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ؛ إِذْ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهِ؛ فَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مفتٍ فِي الْعَمَلِ؛ فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ دَلِيلُ الْعَامِّيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَعَلَّقُ3 بِكِتَابِ الِاجْتِهَادِ نَظَرَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَالْآخَرُ: فِي أحكام السؤال والجواب.   1 في الأصل و"ط: "عدم المفتي". 2 في "ط": "بسقوط". 3 لعل هنا كلمة "فصل" محذوفة. "ف". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 كتاب لواحق الاجتهاد النظر الأول: في التعارض والترجيح ... النظر الأول: وفيه مَسَائِلُ: بَعْدَ أَنْ نُقَدِّمَ مُقَدِّمَةً لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَحَقَّقَ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ فَأَدِلَّتُهَا عِنْدَهُ لَا تَكَادُ1 تَتَعَارَضُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَقَّقَ2 مَنَاطَ الْمَسَائِلِ؛ فَلَا يَكَادُ يَقِفُ فِي مُتَشَابِهٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَعَارُضَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، فَالْمُتَحَقِّقُ بِهَا مُتَحَقِّقٌ بما في [نفس] الأمر؛ فيلزم أن لا يَكُونَ عِنْدَهُ تَعَارُضٌ، وَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ أَلْبَتَّةَ دَلِيلَيْنِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَعَارُضِهِمَا بِحَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْوُقُوفُ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَفْرَادُ الْمُجْتَهِدِينَ غَيْرَ مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ؛ أَمْكَنَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الأدلة عندهم، فإذا ثبت هذا فنقول:   1 وقد أوضح ذلك في الفصل اللاحق للمسألة الثالثة من التشابه. "د". قلت: انظر بسط المسألة على عدم التعارض مع الأدلة العقلية: "كشف الأسرار" "3/ 76"، و"التقرير والتحبير" "3/ 2"، و"شرح منار الأنوار" لابن مالك "ص226 - ط التركية"، وما مضى في المسألة الثالثة من الطرف الأول في الاجتهاد. 2 في "ط": "تحقق". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّعَارُضُ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ جِهَةِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ مَرَّ آنِفًا فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ ذَلِكَ -فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ- مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ؛ فَمُمْكِنٌ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِنَّمَا نَظَرُوا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَهُوَ صَوَابٌ؛ فَإِنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا تَعَارُضَ1؛ كَالْعَامِّ مَعَ الْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقِ مَعَ الْمُقَيَّدِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ2.   1 ولا داعي إلى الترجيح، قالوا: من شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها ألا يمكن الجمع بين الدليلين بوجه مقبول، فإن أمكن تعين المصير إليه، قال في "المحصول" "5/ 406": "العمل بكل منهما أولى من إهمال أحدهما"، وبه الفقهاء جميعًا. ا. هـ شوكاني في "الإرشاد" "ص273". "د". قلت: انظر في ذلك: "المحلى" "1/ 121-122"، و"الخلافيات" "1/ 329" وتعليقنا عليه "1/ 235، 236، 237، 244، 245"، و"الأوسط" "2/ 306-309" لابن المنذر، و"الإبهاج" "3/ 139-144"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص417-419، 421"، و"شرح مشكاة الأنوار على المنار" "2/ 109"، و"جمع الجوامع" "2/ 359-361 - مع شرح المحلي"، و"الاعتبار" "ص4-5"، للحازمي، و"توجيه النظر" "ص224-226"، و"أدلة التشريع المتعارضة" "ص36-38" لبدران أبو العنين بدران، و"التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية" "1/ 265-299"، وأفاد أن خلافًا وقع في المسألة. 2 ومثلوا له أيضًا بقوله عليه السلام "فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأقضية، باب بيان خير الشهود 3/ 1344/ رقم 1719" عن زيد بن خالد الجهني رفعه": " ألا أخبركم بخير الشهود؟ " فقيل: نعم. فقال: أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد" مع قوله "فيما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، 4/ 465، رقم 2165"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد 2/ 791/ رقم 2363" = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 لَكِنَّا نَتَكَلَّمُ هُنَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ وَنَسْتَجِرُّ مِنَ الضَّرْبِ الْمُمْكِنِ فِيهِ الْجَمْعُ أَنْوَاعًا مُهِمَّةً، وَبِمَجْمُوعِ النَّظَرِ فِي الضَّرْبَيْنِ يَسْهُلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا عَسُرَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ زَاوَلَ الِاجْتِهَادَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ1. فَأَمَّا مَا لَا يمكن فيه الجمع، وهى:   = وأحمد في "المسند" "1/ 18"، وغيرهم عن عمر مرفوعًا، وهو صحيح، والمذكور جزء من آخر الحديث، وأوله: "أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم .... "، وفيه": "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد"؛ فحملوا الأول على ما فيه حق لله، والثاني على ما فيه حق الآدمي؛ فكل عمل به في وجه؛ فلا تعارض ولا ترجيح، وسيأتي له كثير منه في المسألة الثالثة. "د". 1 في "م": "والله ولي التوفيق". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ أَنَّ مَحَالَّ الْخِلَافِ دَائِرَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ ظَهَرَ قَصْدُ الشَّارِعِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ الْوَاسِطَةَ آخِذَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِسَبَبٍ، هُوَ مُتَعَلِّقُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ؛ فَصَارَتِ الْوَاسِطَةُ يَتَجَاذَبُهَا الدَّلِيلَانِ مَعًا: دَلِيلُ النَّفْيِ وَدَلِيلُ الْإِثْبَاتِ، فَتَعَارَضَ عَلَيْهَا الدَّلِيلَانِ؛ فَاحْتِيجَ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَإِلَّا؛ فَالتَّوَقُّفُ وَتَصِيرُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلَمَّا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ هَذَا الْمَعْنَى؛ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى مَزِيدٍ. إِلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ كَمَا يَصِحُّ تَعَارُضُهَا عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ كَذَلِكَ يَصِحُّ تَعَارُضُ مَا فِي مَعْنَاهَا1 كَمَا فِي تَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْمُقَلِّدِ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُمَا إِلَيْهِ نِسْبَةُ   1 عرفوا التعارض بأنه تقابل الدليلين على سبيل الممانعة، بأن يثبت أحدهما ما ينفيه الأخر؛ فالتعارض الذي يتكلم فيه الأصولين واقع بين الدليلين أنفسهما، فيجيء الترجيح بينهما من جهة المتن أو السند أو المعنى أو أمر خارج؛ أما أنواع التعارض التي ذكرها المؤلف من هذه المسألة أولًا وآخرًا -إذا استثنينا تعارض القولين على المقلد- فأنها ليست في شيء من تعارض الدليلين الذي أفاض فيه الأصوليون؛ إذ الأدلة في هذه الأنواع لا تعارض فيها باعتبارها في أنفسها، وإنما التعارض فيها باعتبار التطبيق وتحقيق المناط في محل الحكم، وقد قال المؤلف في المسألة الثالثة من التشابه في الأدلة "3/ 318" ما حصله أن التشابه الراجح إلى المناط ليس راجعًا إلى الأدلة؛ فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل المذكية واضح، والاشتباه عند اختلاطهما في المأكول لا في الدليل. ا. هـ. وسبق له في المسألة الرابعة من الاجتهاد "ص144 وما بعد" ذِكْر أكثر هذه الأنواع أمثلة لموضوع القاعدة التي أشار إليها في صدر هذه المسألة، وهو الواسطة تقع بين طرفين مختلفي الحكم، وفيها شبه من كل منهما، وحيث كانت كل هذه الأنواع راجعة إلى اختلاف المناط في الواسطة، وكان اختلاف المناط ليس من التعارض في الأدلة؛ فلا يصح جعل بعضها من التعارض الحقيقي في الأدلة وبعضها شبيهًا به وفي معناه، فإن كان المؤلف يريد أن ما قبل قوله: "كذلك يصح ... إلخ" من باب تعارض الأدلة حقيقة وما بعده من الملحق به، فغير صحيح كما عرفت = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 الدَّلِيلَيْنِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، وَمِنْهُ تَعَارُضُ الْعَلَامَاتِ1 الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَمَا إِذَا انْتُهِبَ نَوْعٌ مِنَ الْمَتَاعِ يَنْدُرُ وُجُودُ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ الِانْتِهَابِ؛ فَيُرَى مِثْلُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَرِعٍ؛ فِيَدُلُّ صَلَاحُ ذِي الْيَدِ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ، وَيَدُلُّ نُدُورُ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ النَّهْبِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ؛ فَيَتَعَارَضَانِ، وَمِنْهُ تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ الجارَّة إِلَى الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ كَالْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ، فَيَجْرِي مَجْرَى الْأَحْرَارِ فِي الْمِلْكِ، وَمَالٌ فَيَجْرِي مَجْرَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ فِي سَلْبِ الْمِلْكِ، وَمِنْهُ تَعَارُضُ الْأَسْبَابِ؛ كَاخْتِلَاطِ الْمَيْتَةِ بِالذَّكِيَّةِ، وَالزَّوْجَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ إِذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَطَرَّقَ إِلَيْهَا احْتِمَالُ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَرِّمِ، وَمِنْهُ تَعَارُضُ الشُّرُوطِ؛ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ؛ إِذْ قُلْنَا: إِنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي إِنْفَاذِ الْحُكْمِ؛ فَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي إِثْبَاتَ أَمْرٍ، وَالْأُخْرَى تَقْتَضِي نَفْيَهُ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى مَجْرَى [هَذِهِ] 2 الْأُمُورِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا. وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي هَذَا الضَّرْبِ غَيْرُ3 مُنْحَصِرٍ؛ إِذِ الْوَقَائِعُ الْجُزْئِيَّةُ النوعية   = وإن كان يعني أنه يتكلم من أول الأمر على تعارض آخر غير ما ذكره الأصوليون وهو تعارض ليس باعتبار الأدلة في أنفسها، بل باعتبار المناط، وهو ما يشير إليه قوله: "تعارض -عليها- الدليلان"، وقوله: "كما يصح تعارضها -على ذلك الترتيب"؛ فهو صحيح، لكن يرد عليه أن تعارض الدليلين بهذا المعنى موجود بعينه في تعارض العلامات وما معه، كما يرشد إليه قوله بعد: "وَحَقِيقَةُ النَّظَرِ الِالْتِفَاتُ إِلَى كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الطرفين ... إلخ"، وصنيعه هنا يوهم خلاف ذلك، وأن تعارض العلامات وما معها ليس من جنس ما قبله، وقد يجاب بأن هذه الأنواع وإن اشتركت في أن الكل من باب التعارض الواقع على واسطة بين الطرفين، لكن المنظور إليه في النوع الأول حصول التعارض بين دليلي الطرفين، وفي الأنواع حصل التعارض أولًا وبالذات بين علامتي الطرفين أو سببيهما ... إلخ"، وهو إن كان يلزم منه تعارض دليليهما على تلك الواسطة؛ لكن ليس هو نفس تعارض الدليلين؛ فلذلك جعله في معنى تعارض الدليلين؛ لأنه يَئُول إليه. "د". 1 في نسخة "ماء": "المعاملات". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 3 أي: بخلاف وجوه الترجيح في التعارض الواقع بين نفس الدليلين؛ فقد حصرها = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 أَوِ الشَّخْصِيَّةُ لَا تَنْحَصِرُ، وَمَجَارِي الْعَادَاتِ تَقْضِي بِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْجُزْئِيَّاتِ بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَى كُلِّ جُزْئِيٍّ بِحُكْمٍ جُزْئِيٍّ وَاحِدٍ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ضَمَائِمَ تَحْتَفُّ، وَقَرَائِنَ تَقْتَرِنُ، مِمَّا يُمْكِنُ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ؛ فَيَمْتَنِعُ إِجْرَاؤُهُ فِي جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَوُجُوهُ1 التَّرْجِيحِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَحَلِّ التَّعَارُضِ؛ فَلَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْحَالِ [إِلَّا] 2 الْإِحَالَةُ عَلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي أَوَّلِ3 كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَحَقِيقَةُ النَّظَرِ الِالْتِفَاتُ إِلَى كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَيُّهُمَا أَسْعَدُ4 وَأَغْلَبُ5 أَوْ أَقْرَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْوَاسِطَةِ؛ فيبنى على6 إلحاقها به من غير   = الأصوليون في الأنواع الأربعة التي أشرنا إليها، وأضافوا إليها ترجيح الأقيسة وما معها؛ فصارت ستة أنواع. "د". قلت: فَصَّل الكلام على وجوه الترجيح على وجه مستوعب: الشيخ عبد اللطيف البرزنجي في رسالته العالِمية "الدكتوراة": "التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية"، وهو مطبوع في مجلدين سنة 1397هـ، عن مطبعة العاني، والعراق. 1 هل وجوه الترجيح هي الجارية مجرى الأدلة المذكورة، أم أن العلامات والأشباه والأسباب المتعارضة هي الجارية هذا المجرى؟ فتحتاج إلى نظر المجتهدين فيها من أهل الذكر والخبرة في كل نوع منها؛ إلا أن يقال: إنه يعني بوجوه الترجيح هذه الأسباب والعلامات .... إلخ، ولا ينافيه قوله بعدُ: "أيهما أسعد أو أغلب.. إلخ". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 3 في المسألة الأولى منه، حيث بسط الكلام في الاجتهاد في تحقيق المناط. "د"، وهذا يؤيد ما قررناه في هذا المقام، وأن الكلام كله مسوق في تحقيق المناط، لا في التعارض الذي فصله الأصوليون ولا في نوع منه، إنما هو نوع آخر شبيه به. "د". 4 أي: أقوى وأنسب. "د". 5 كذا في "ط" و"د"، وفي غيرهما: "أو أغلب". 6 لعل الصواب: "فيبنى عليها إلحاقها"، وهو راجع لكل واحد من الثلاثة منفردة أو مجتمعة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 مُرَاعَاةٍ لِلطَّرَفِ الْآخَرِ أَوْ مَعَ مُرَاعَاتِهِ1 كَمَسْأَلَةِ2 الْعَبْدِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ3 وَمَنْ خَالَفَهُ وَأَشْبَاهِهَا. فَصْلٌ: هَذَا وَجْهُ النَّظَرِ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ4 الْأُصُولِيِّينَ، وَإِذَا تَأَمَّلْنَا الْمَعْنَى فِيهِ؛ وَجَدْنَاهُ رَاجِعًا5 إِلَى الضَّرْبِ الثَّانِي، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ رَاجِعٌ إِلَى وَجْهٍ مِنَ الْجَمْعِ6، أَوْ إِبْطَالِ7 أَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، حَسْبَمَا يُذْكَرُ عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ فيه الجمع، وهي:   1 عند مراعاة الطرفين كيف يكون من الضَّرْبِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ، مع أنه في هذه الحالة يكون أعمل الطرفين المتعارضين إعمالًا جزئيًا في كل منهما؛ فلم يلغ أحدهما، ولم يعمل الآخر إعمالًا كليًّا، فوضعه هذه المسألة للضرب الذي لا يمكن فيه الجمع إنما هو باعتبار الغالب، وسيأتي له كلام في المسألة الثالثة. "د". 2 في "د": "مسألة". 3 فعنده أن يملك ملكًا غير تام، وعند غيره لا يملك رأسًا، ولكل تفريعه. "د". 4 أي: حيث اشتغلوا بترجيح أحد الدليلين بالمرجحات التي تقتضي اعتماد أحد الدليلين وإهمال الآخر، وهذا لا يكون إلا إذا كان مما لا يمكن فيه الجمع، ولكن قد سبق لنا ذكر شيء من أمثلة ما اعتبروا فيه الجمع بإعمال الدليلين. "د". 5 ظاهره أن كل ما حكم عليه الأصوليون بعدم إمكان الجمع فيه يرجع إلى الضرب الثاني الذي فيه؛ إما الجمع، أو الأبطال لأحدهما؛ فلا تبقى معارضة مطلقًا، فإن كان هذا مراده حقيقة يريد به القضاء على باب التعادل والترجيح؛ فإنه لم يصل إليه، وذلك لأن الصور التي ذكرها في المسألة الثالثة على فرض أنها حاصرة للصور المعقولة في التعارض، فإن الأحكام لم تُستوفَ في الصورة الثانية؛ فما بين الجزئيتين الداخلتين تحت كلية واحدة لا ينحصر حكمه في الإبطال بالطرق التي أشار إليها أو الإعمال الذي ذكره، بل هناك شيء كثير، بل أكثر ما ذكر في باب التعادل، والترجيح ليس فيه إبطال أحد الدليلين بالنسخ وما معه، ولا إعمال الدليلين معًا؛ فبقي ما قالوه كما هو ولم يرجع الضرب الأول إلى الثاني. "د". 6 كذا في "ط" وفي غيره "وإبطال"، وكتب "د": الصواب: "أو"؛ ليتفق مع المسألة الثالثة. 7 هذا إنما يظهر فيما سيذكره في المسألة الثالثة في الصورة الثانية في الأمر الأول منها؛ فإنه هو الذي فيه إبطال الدليلين إبطالًا حقيقيًّا، أما ما رجحوا فيه دليلًا على آخر بالمرجحات المتعلقة بالمتن أو السند أو المعنى أو بخارج -مع اعترافهم بأنه لا يزال الدليل قابلًا لأن يكون صحيحًا غايته أنه وجد لمقابله ما يقتضي الظن بأرجحيته- فلا يكون فيه أبطال أحدهما إبطالًا حقيقيًّا، وتسمية ما ذكره من نسخ أحدهما وما معه جمعًا بين الدليلين بعيد من جهة المعنى، وقد اعترف بذلك حيث يقول: "لم يمكن فرض اجتماع دليلين فيتعارضا"، وعليه؛ فإدخال هذا النوع في التعارض ثم دعوى أنه مما أمكن فيه الجمع لا محصل له. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَنَقُولُ: لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الضَّرْبِ صُوَرٌ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ كُلِّيَّةٍ مَعَ جِهَةٍ جُزْئِيَّةٍ [تَحْتَهَا] 1؛ كَالْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ مَعَ الْكَذِبِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمُحَرَّمِ مَعَ الْقَتْلِ قِصَاصًا أَوْ بِالزِّنَى؛ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجُزْئِيُّ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ الْكُلِّيِّ، أَوْ لَا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَقَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا يُقْتَبَسُ مِنْهُ الْحُكْمُ2 تَعَارُضًا وَتَرْجِيحًا، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَكِتَابِ الْأَدِلَّةِ؛ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرَارِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَ فِي جِهَتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ كُلِّيَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ كَتَعَارُضِ حَدِيثَيْنِ3، أَوْ قِيَاسَيْنِ، أَوْ عَلَامَتَيْنِ4 عَلَى جُزْئِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ5 فِيهِ الْجَمْعُ، وَلَكِنْ وَجْهُ النَّظَرِ فِيهِ أَنَّ التَّعَارُضَ إِذَا ظَهَرَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: "إِمَّا الْحُكْمُ عَلَى أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ بِالْإِهْمَالِ"؛ فَيَبْقَى الْآخَرُ هُوَ الْمُعْمَلُ لَا غَيْرَ؛ وذلك لا يصح إلا مع   1 ما بين المعقوفتين سقط من "م". 2 ومحصله إعمال الدليلين، كما سبق في مسألة شرب العسل لصاحب الصفراء في كتاب الأدلة. "د". 3 وانظر لِمَ لم يذكر تعارض آيتين؟ ولعله لا يقول بتعارضهما لأنهما قطعيتان، ولكن التعارض واقع باعتبار الدلالة الظنية، وللحديثين المتواترين حكم الآيتين، وقد أطلق في الحديثين، وقد عرفت أن الكلام في التعارض صورة فقط لا في التعارض الحقيقي؛ لأنه لا يقع في الشريعة مطلقًا؛ فلا فرق بين القطعي وغيره. "د". 4 أي: كما صنع هو في تعارض العلامتين، وقد توسع هنا في العلامة؛ فجعلها شاملة للسببين والشبهين، إلى غير ذلك مما يكون فيه تحقيق المناط. "د". 5 أي: مع أن هذه الصورة قد تكون مما يمكن فيه ذلك؛ كما يذكره في الأمر الثاني. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 فَرْضِ1 إِبْطَالِهِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا، أَوْ تَطْرِيقِ غَلَطٍ أَوْ وَهْمٍ فِي السَّنَدِ أَوْ فِي الْمَتْنِ إِنْ كَانَ خَبَرَ آحَادٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَظْنُونًا يُعَارِضُ مَقْطُوعًا بِهِ2، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الْقَادِحَةِ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَإِذَا فُرِضَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لَمْ يُمْكِنْ فَرْضُ اجْتِمَاعِ الدَّلِيلَيْنِ3 فَيَتَعَارَضَا، وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ أَحَدَهُمَا [إِذَا كَانَ] مَنْسُوخًا لَا يُعَدُّ مُعَارِضًا، فَكَذَلِكَ ما في معناه4؛ فالحكم إذن لِلدَّلِيلِ الثَّابِتِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارِضٍ مِنْ أَصْلٍ، "وَالْأَمْرُ الثَّانِي الْحُكْمُ عليهما معا بالإعمال"5، ويلزم من هذا أن لا يَتَوَارَدَ الدَّلِيلَانِ عَلَى مَحَلِّ التَّعَارُضِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ مَعَ فَرْضِ إِعْمَالِهِمَا فِيهِ، فَإِنَّمَا يَتَوَارَدَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَإِذْ ذَاكَ يَرْتَفِعُ التَّعَارُضُ أَلْبَتَّةَ؛ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِعْمَالَ تَارَةً يَرِدُ عَلَى مَحَلِّ التَّعَارُضِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ فِي رَأْيِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ أَعْمَلَ حُكْمَ الْمِلْكِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَأَهْمَلَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ، وَتَارَةً يَخُصُّ6 أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ؛ فَلَا يَتَوَارَدَانِ على محل التعارض معًا، بل يعمل   1 كلامه -كما عرفت- قاصر على ما يتأتى فيه القدح في اعتبار الدليل، ولا يشمل ما إذا ترجح فقط أحد الدليلين المتعارضين بالمرجحات المشهورة مع بقاء الاعتراف بصحة الدليل المهمل، مع أن هذا النوع هو الذي عليه معظم باب التعادل والترجيح عندهم. "د". 2 هذا على رأي؛ والتحقيق ما عرفته من أنه يتأتى التعارض بين الكتاب والسنة لأنه ليس المراد به التناقض والتعارض الحقيقي، بل التعارض في الشرعيات صوري فقط، وبذلك نسخت السنة الكتاب وخصصته.. إلخ، ولا يعد كون السنة مظنونة المتن قدحًا فيها في مقابلة قطعي الكتاب الظني الدلالة؛ إلا أن يكون مراده به الدليل المقطوع به من جميع الوجوه إذا قابله ظني. "د". 3 كذا في "ط"، وفي غيره: "دليلين". 4 أي: من طريق الغلط والوهم ..... إلخ، ما أشار إليه. "د". 5 راجع كتب الأصول، ففيها من هذا النوع كثير من الأمثلة. "د". 6 أي: فيُعْمِل الدليلين، لكن يخص كل واحد منهما ببعض الجزئيات، بضم قيود أو رفع بعضها؛ كما تقدم في تحقيق المناط الخاص، وكما تقدم لنا في حديث "خير الشهود"، حيث حمل كل على محل خاص به من حق الله وحق الآدمي، وسيأتي له تمثيل في التيمم. "د". = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 فِي غَيْرِهِ وَيُهْمَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِمَعْنًى اقْتَضَى ذَلِكَ. وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَا يَسْتَثْنِيهِ الْمُجْتَهِدُ صَاحِبُ النَّظَرِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ1. وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقَعَ التَّعَارُضُ فِي جِهَتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ لَا تَدْخُلُ2 إِحْدَاهُمَا تَحْتَ الْأُخْرَى، وَلَا تَرْجِعَانِ إِلَى كُلِّيَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْمُكَلَّفِ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تَيَمُّمًا؛ فَهُوَ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ مقتضى {أَقِيمُوا الصَّلاة} [الْبَقَرَةِ: 43] لِمُقْتَضَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [الْمَائِدَةِ: 6] إِلَى آخِرِهَا، أَوْ يَعْكِسُ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّةٍ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالطَّهَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّةٍ مِنَ التَّحْسِينِيَّاتِ عَلَى قَوْلِ3 من قال بذلك، أو معارضة {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 150] بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ؛ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْجُزْئِيَّ رَاجِعٌ فِي التَّرْجِيحِ إِلَى أَصْلِهِ الْكُلِّيِّ، فَإِنْ رَجَحَ الْكُلِّيُّ؛ فَكَذَلِكَ4 جُزْئِيُّهُ، أَوْ لَمْ يَرْجَحْ فَجُزْئِيُّهُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّ مُعْتَبَرٌ بِكُلِّيِّهِ، وَقَدْ ثبت   = قلت: تجد أمثلة كثيرة من هذا الباب في "شرح معاني الآثار" و"مشكل الآثار"، كلاهما للطحاوي. 1 قال هناك: إن فرض الجهاد كفاية يجب أن يخص بمن فيه غناء ونجدة؛ فلا إثم على من ليس كذلك إذا لم تقم به الأمة، وكذا مثل الولاية العامة.. إلخ ما قال؛ فهذا فيه تخصيص لأحد الدليلين بقيد يراعى فيه، حتى لا يتعارض دليل طلب الجهاد كفاية مع دليل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] إذا تسلط الدليلان على محل واحد. "د". 2 احتاج له لأن المراد بالجزئي النوعي، وقد حقق بهذا القيد مخالفة هذه الصورة للصورة الأولى، وحقق بقوله: "ولا ترجعان" مخالفتها للصورة الثانية. "د". 3 أما إذا قلنا: إنها من المكملات لنفس الصلاة؛ فيقال فيها ما سيقال في القبلة، والظاهر أنه لا فرق بين القبلة والطهارة؛ فكل شرط سابق على الدخول في الصلاة ومتسصحب فيها. "د". 4 أي: فيصلي بلا وضوء ولا تيمم كما هو بعض الأقوال في مذهب مالك، وقد يقال: كيف يكون استقبال القبلة ليس من كلية الصلاة مع أنه شرط؟ إلا أن يقال: إنه شرط خارج عنها؛ = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 تَرْجِيحُهُ؛ فَكَذَلِكَ يَتَرَجَّحُ جُزْئِيُّهُ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجُزْئِيَّ خَادِمٌ لِكُلِّيِّهِ، وَلَيْسَ الْكُلِّيُّ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي الْجُزْئِيِّ؛ فَهُوَ الْحَامِلُ1 لَهُ، حَتَّى إِذَا انْخَرَمَ؛ فَقَدْ يَنْخَرِمُ الْكُلِّيُّ؛ فَهَذَا إِذًا مُتَضَمِّنٌ لَهُ، فَلَوْ رَجَحَ غَيْرُهُ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ غَيْرِ الدَّاخِلَةِ مَعَهُ فِي كُلِّيِّهِ؛ لَلَزِمَ تَرْجِيحُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّ الْكُلِّيَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْآخَرِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ جُزْئِيِّهِ كَذَلِكَ، وَقَدِ انْجَرَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حُكْمُ الْكُلِّيَّاتِ2 الشَّامِلَةِ لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْكَلَامِ فِيهَا مَعَ أَنَّ أَحْكَامَهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَالصُّورَةُ الرَّابِعَةُ3: أَنْ يَقَعَ التَّعَارُضُ فِي كُلِّيَّيْنِ مِنْ نوع واحد، وهذا في   = فهو مكمل، والمكمل إذا عاد بسببه إهمال المكمل ألغي. "د". وفي "ط": "فذلك". قلت: انظر تفصيل المسألة وأدلتها مع سبب الخلاف في: "عقد الجواهر الثمينة" "1/ 81-82"، و"الذخيرة" "1/ 350-351"، و"منح الجليل" "1/ 161". 1 أي: الذي يتحقق فيه كالعرض مع المعروض. "د". 2 أي أنه وإن كان التعارض المفروض بين جزئيتين؛ إلا انه انجر معه الكلام في تعارض الكليين اللذين ليسا من نوع واحد، وحكمه قد علم من بيان حكم الجزئيين الداخلين في هذين الكليين؛ فيرجح كلي الضرويات على كل الحاجيات مثلًا، وهكذا. "د". 3 بقي أنهم ذكروا من صور التعارض ما كان بين الدليلين عموم وخصوص وجهي، كما في حديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" * مع حديث: "قراءة الإمام قراءة المأموم"**؛ فالأول =   * أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، 2/ 236-237/ رقم 756"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، 1/ 295/ رقم 394" عن عبادة بن الصامت مرفوعًا، ولفظه: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ** روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة؛ منهم: جابر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وأبو الدرداء، وجميعها لا تخلو من مقال، وحسنه شيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 500" بتعدد طرقه، بينما قال ابن حجر في "الفتح" "2/ 242": "حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدراقطني وغيره". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 ظَاهِرِهِ شَنِيعٌ، وَلَكِنَّهُ فِي التَّحْصِيلِ صَحِيحٌ. وَوَجْهُ شَنَاعَتِهِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةَ قَدْ مَرَّ أَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلظَّنِّ، وَتَعَارُضُ الْقَطْعِيَّاتِ مُحَالٌ. وَأَمَّا وَجْهُ الصِّحَّةِ؛ فَعَلَى تَرْتِيبٍ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيهِ إِذَا كَانَ الْمَوْضُوعُ لَهُ اعْتِبَارَانِ؛ فَلَا يَكُونُ تَعَارُضًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ الجزئيان1 إذا دخلا تحت   = يقتضى أن الفاتحة واجبة على المأموم، والثاني يقتضي أن المأموم يكفيه عنها قراءة إمامه لها، فعموم كل منهما يقابله خصوص الآخر ويعارضه، وكذا ما بين حديث: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" *، وحديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها**، ولا يخفى أنهما جزئيتان كلتاهما داخلة تحت كلية الصلاة، وقد أعملوا كلًا من الدليلين على خلاف في طريق الإعمال، ويمكن إدخال ذلك في الصورة الثانية في الأمر الثاني، أما مالك؛ فقد التمس إزالة المعارضة في مسألة الفاتحة من خارج عنهما، وهو حديث جابر: قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِّ؛ إلا أن يكون وراء الإمام"***، وعلى كل حال؛ فقد أعملهما معًا. "د". 1 أعاده ومثل له مع دخوله في الأمر الثاني من الصورة الثانية ليرتب عليه بيان الكليين إذا تعارضا وكان لهما اعتباران؛ لأنهما مثلهما في ذلك كما قال: "وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار ... إلخ. "د".   * أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 597"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 684" عن أنس رضي الله عنه بنحوه. ** مضى تخريجه "2/ 516"، "وهو صحيح". *** أخرجه الخلعي في "فوائده" "ق47/ أ" عن يحيى بن سلام عن مالك عن وهب بن كيسان عن جابر مرفوعًا، وإسناده ضعيف، يحيى بن سلام ضعفه الدراقطني، وقال الزيلعي في "نصب الراية" "1/ 10": "هذا باطل لا يصح عن مالك"، والصواب أنه موقوف على جابر؛ كما عند البيهقي" "2/ 160". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 كُلِّيٍّ وَاحِدٍ وَكَانَ مَوْضُوعُهُمَا وَاحِدًا؛ إِلَّا أَنَّ لَهُ اعْتِبَارَيْنِ. فَالْجُزْئِيَّانِ أَمْثِلَتُهُمَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهَا1 وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَيْلُ وَنَحْوُهُ فِي تَحْدِيدِ طَلَبِ الْمَاءِ لِلطُّهُورِ؛ فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا يَشُقُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخَرَ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّيَمُّمِ؛ فَقَدْ تَعَارَضَ عَلَى الْمَيْلِ دَلِيلَانِ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ، وَهَكَذَا رُكُوبُ الْبَحْرِ2 يُمْنَعُ مِنْهُ بَعْضٌ وَيُبَاحُ لِبَعْضٍ، وَالزَّمَانُ وَاحِدٌ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ وَالْغَرَقِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي الْكُلِّيَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ؛ فَلْنَذْكُرْ لَهُ مِثَالًا عَامًّا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين3:   1 أي: كما في المسائل التي أشار إليها فيما يستثنيه المجتهد في تحقيق المناط الخاص وما ذكر معه. "د". 2 انظر تفصيل ذلك مع الأدلة في: "مصنف ابن أبي شيبة" "4/ 135 و5/ 336"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 149"، و"سنن سعيد بن منصور" "2/ 185-187"، و"السنن الكبرى" "4/ 334-335" للبيهقي، و"مجمع الزوائد" "4/ 64"، و"فتح الباري" "4/ 229"، و"القرى لقاصد أم القري" "67-68"، و"تفسير القرطبي" "2/ 190 و7/ 341"، و"أحكام القرآن" "1/ 131" للجصاص، و"إتحاف السادة المتقين" "4/ 513"، وكتابنا "المروءة" "ص108 - ط الأولى"، وغيرهما كثير، وانظر ما مضى "1/ 331". 3 وإنما كان هذان الوصفان كليين لأنهما في معنى "كل ما اشتملت عليه الحياة الدنيا مذموم"، "وكل ما اشتملت عليه الحياة الدنيا ممدوح ونافع"، وإنما لم يجعلهما متضادين حقيقة لوجود الاعتبارين المشار إليهما أيضًا؛ فإن ما ذكر من الآيات والأحاديث ليس صريحًا في الوصفين المذكورين، ولكنه يفهم منه ذلك، ولذا قال: "يقتضي"، ووسط الوجهين المذكورين في كل منهما كمقدمة ينتقل الذهن منها إلى وصف الذم، ثم بين التضاد بين الوجوه المقتضية للوصفين، وسيأتي له بعد تمام البيان أن يقول: "فالوصفان إذن متضادان". "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وَصْفٌ يَقْتَضِي ذَمَّهَا وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَتَرْكَ اعْتِبَارِهَا. وَوَصْفٌ يَقْتَضِي مَدْحَهَا وَالِالْتِفَاتَ إِلَيْهَا وَأَخْذَ مَا فِيهَا بِيَدِ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ1 شَيْءٌ عَظِيمٌ مُهْدًى مِنْ مَلِكٍ عَظِيمٍ. فَالْأَوَّلُ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا جَدْوَى لَهَا وَلَا مَحْصُولَ عِنْدَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} الْآيَةَ2 [الْحَدِيدِ: 20] . فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مِثْلُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ الَّذِي لا يوجد في شَيْءٌ وَلَا نَفْعَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الَّتِي لَا طَائِلَ تَحْتَهَا وَلَا فَائِدَةَ وَرَاءَهَا3. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الْحَدِيدِ: 20] . فَحَصَرَ فَائِدَتَهَا فِي الْغُرُورِ الْمَذْمُومِ الْعَاقِبَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ 4 الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 64] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آلِ عِمْرَانَ: 14] . وَقَالَ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الْكَهْفِ: 46] . إِلَى غير ذلك من الآيات.   1 في "د": "على لأنها"، والصواب حذف "على". 2 أي: إلى قوله: {وَالْأَوْلَادِ} ، وأما قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} ... إلخ؛ فظاهر دخوله في الوجه الثاني. "د". 3 في "ط": "طائل وراءها، ولا فائدة تحتها". 4 سقطت من "د": و"ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سقى كافرًا منها شربة ماء" 1.   1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، 4/ 560/ رقم 2320"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 2/ 1376-1377/ رقم 4110"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 306"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 128"، وابن عدي في "الكامل" "5/ 1956"، والعقلي في "الضعفاء الكبير" "3/ 46"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 253"، والطبراني والضياء في "المختارة" -كما في "المقاصد" "346" -من طريقين ضعيفين؛ في أحدهما: عبد الحميد بن سليمان، وفي الأخرى زكريا بن منظور، وكلاهما ضعيف- عن أبي حازم عن سهل بن سعد مرفوعًا. إلا أن الحديث صحيح بشواهده، قال الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة"، وقال: "هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه". قلت: حديث أبي هريرة أخرجه البزار في "مسنده" "4/ رقم 3693 - زوائده"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 130"، وابن عدي في "الكامل" "6/ 2235"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1440"، وفيه محمد بن عمار بن حفص المديني، وهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 129" من طريق آخر عن أبي هريرة، وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن، وهو ضعيف. وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" "4/ 92"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1439" من طريق علي بن عيسى الماليني عن محمد بن أحمد بن أبي عون عن أبي مصعب عن مالك عن نافع به. قال الخطيب: "هذا غريب جدًّا من حديث مالك، لا أعلم رواه غير أبي جعفر بن أبي عون عن أبي مصعب، وعنه علي بن عيسى الماليني، وكان ثقة". وأبو جعفر ثقة؛ كما قال الخطيب "1/ 311"؛ فالسند مع غرابته صحيح. وعن ابن عباس أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "3/ 304 و8/ 290"، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك. وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" "620" من مرسل الحسن، وإسناده حسن، وبرقم "509" بسند فيه ضعف من طريق إسماعيل بن عياش عن عثمان بن عبد الله بن رافع أن رجالًا = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ نَسَجَ الزُّهَّادُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ1 مِنْ ذَمِّ الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَا شَيْءَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَالظِّلِّ الزَّائِلِ وَالْحُلْمِ الْمُنْقَطِعِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يُونُسَ: 24] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غَافِرٍ: 39] . وَقَوْلُهُ: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ} الآية: [آل عمران: 196-197] .   = مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدَّثوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال.. "وذكره"؛ وإسماعيل ضعيف في المدنيين، وعثمان مدني، مترجم في "الجرح والتعديل"، "3/ 1/ 156"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. وأخرجه هناد في "الزهد" "رقم 800" عن عمرو بن مرة مرسلًا و"رقم 578" ثنا عبدة عن محمد بن عمرو؛ قال: سمعت أشياخنا يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم ... "وذكره". والحديث إن شاء الله تعالى صحيح بمجموع هذه الطرق. 1 جعل الغزالي شئون الحياة الدنيا ثلاثة أقسام: الأول: ما يصحبك منها إلى الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت، وهو العلم بالله والعمل، أي العبادة الخالصة؛ فهذه هي الدنيا الممدوحة. والثاني: المقابل له على الطرف الأقصى، وهو كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة؛ كالتلذذ بالمعاصي، والتنعم بالمباحات الزائدة عن الحاجة؛ حتى يعد داخلًا في جملة الرفاهية والرعونات؛ كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، والخدم من الغلمان والجواري، والمواشي، والقصور، ورفيع الثياب، وما إلى ذلك، فحظ العبد من هذا كله من الدنيا المذمومة. والقسم الثالث: متوسط بين الطرفين، وهو الحظ العاجل المعين على أعمال الآخرة؛ كقدر القوت من الطعام، وما يحتاج إليه من اللباس، وكل ما لا بد منه للإنسان في بقائه وصحته التي يتوصل بها إلى العلم والعمل. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الْكَهْفِ: 45] . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُفْهِمَةِ مَعْنَى الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ وَبِذَلِكَ تَصِيرُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا أَيْضًا كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟! مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ [قَالَ] 1 تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" 2،   1 زيادة ما بين المعقوفتين من الأصل، وهو من القيلولة، وفي "ماء" و"ط: "استظل". 2 أخرجه وكيع في "الزهد" "رقم 64" -ومن طريقه ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 217"، وأحمد في "المسند" "1/ 7-8، 441" و"الزهد" "8"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 183"، وأبو يعلى في المسند" "8/ 416/ رقم 4998 و9/ 148/ رقم 5229"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 297" و"أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "ص295 أو 272 - ط أخرى"، وابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" "رقم 126" وفي "ذم الدنيا" "رقم 133"، وتمام في "الفوائد" "رقم 912 أو رقم 1619 - مع ترتيبه الروض البسام" - والطيالسي في المسند" "277 أو 2/ 120 - مع منحه المعبود"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب منه، 4/ 588-589/ رقم 2377"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 2/ 1376/ رقم 4109"، والرامهرمزي في "الأمثال" "20"، ونعيم بن حماد في "زيادات زهد ابن المبارك" "رقم 195"، ويونس بن بكير في "زيادات السيرة" "ص195"، وهناد في "الزهد" "رقم 744"، وأحمد في "المسند" "1/ 391" و"الزهد" ص12"، وأبو يعلى في "المسند" "9/ 195-196/ رقم 5292"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "ص165"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 467"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 310"، والطبراني في "الأوسط" "2/ ق297/ ب"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" "رقم 1407"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "1/ 337-338" و"الشعب" "7/ 311"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 102 و4/ 234"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1384"، والبغوي في "شرح السنة" "14/ 235-236/ رقم 4034"، جميعهم من طريق المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعًا. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 .........................................................................   = وإسناده حسن، المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله اختلط قبل موته، وسماع وكيع منه قديم؛ قبل الاختلاط كما قال الإمام أحمد. وله عن ابن مسعود طريقان آخران: الأول: أخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 181"- وعنه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "ص272"- الطبراني في "الكبير" "10/ 200-201/ رقم 10327"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 311" من طريق عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه به رفعه. قال الهيثمي في "المجمع" "10/ 326": "وفيه عبيد الله بن سعيد، قائد الأعمش، وقد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة". قلت: وفيه أيضًا حبيب، وهو مدلس وقد عنعن؛ فإسناده ضعيف. والآخر: أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 332"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 238"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 234" من طريق الحسن بن الحسين العرني عن جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه رفعه. وإسناده ضعيف أيضًا، الحسن بن الحسين العرني يروي المقلوبات؛ كما قال ابن حبان، وقال أبو حاتم: "لم يكن بصدوق عندهم"، وقال ابن عدي: "لا يشبه حديثه حديث الثقات"، قال أبو نعيم عقبه: "وهو غريب"، وقال ابن حبان: "هذا خبر ما رواه عن إبراهيم إلا المسعودي؛ فإنه روي عن عمرو مرة عن إبراهيم، والمسعودي لا تقوم الحجة بروايته". قلت: ولحديث ابن مسعود شاهدان يصح بأحدهما، هما: الأول: حديث ابن عباس، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 301" و"الزهد" "ص13"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 599"، وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 134" و"قصر الأمل" "رقم 127"- ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "7/ 312"- وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 182"وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 298"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 2526 - موارد، و14/ 265/ رقم 6352 - الإحسان"، ,الطبراني في "الكبير" "11/ 327/ رقم 11898"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 310"، وأبو نعيم في "الحلية" "3/ 343"، والخطيب في "الموضع" "2/ 366-367"، كلهم من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عنه مرفوعًا. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وَهُوَ حَادِي1 الزُّهَّادِ إِلَى الدَّارِ الْبَاقِيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْوَصْفَيْنِ؛ فَلَهُ وَجْهَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ ووحدانيته وصفاته العلى، وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} إِلَى {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6-11] . وَقَوْلِهِ: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} الْآيَةَ [النَّمْلِ: 61] . وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} الْآيَةَ [إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ] [الْحَجِّ: 5-7] . وَقَوْلِهِ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّه} [إِلَى قَوْلِهِ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ] [الْمُؤْمِنُونَ: 84-91] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ دَلَائِلُ عَلَى الْعَقَائِدِ وَبَرَاهِينُ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مننٌ وَنِعَمٌ امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وتعرف إليهم بها في   = وإسناده قوي في الشواهد، هلال ثقة؛ إلا أنه تغير كما قال الثوري ويحيى القطان، وهما أعلم بشيخهما من ابن معين عندما قال: "لا ما اختلط ولا تغير"، والمثبِت مقدم على النافي، قال الهيثمي في "المجمع" "10/ 326": "رجال أحمد رجال الصحيح؛ غير هلال بن خباب، وهو ثقة". والآخر: حديث عائشة، أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "ص268"، وإسناده واهٍ، فيه الوازع بن نافع، متروك، له ترجمته في اللسان" "6/ 213"، والخلاصة الحديث صحيح بمجموع هذه الطرق. 1 في "ماء": "حال". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَاعْتَبَرَهَا وَدَعَا إِلَيْهَا بِنَصْبِهَا لَهُمْ1 وَبَثِّهَا فِيهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} 2 [إِبْرَاهِيمَ: 32-34] . وَقَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ] } الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 22] . وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النَّحْلِ: 10-18] . وَفِيهَا: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} الْآيَةَ [النَّحْلِ: 81] . وَفِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النَّحْلِ: 5] . ثُمَّ قَالَ: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} ثُمَّ قَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة} [النحل: 6-8] . فامتن تعالى ههنا وَعَرَّفَ بِنِعَمٍ مِنْ جُمْلَتِهَا الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ، وَهُوَ الَّذِي ذَمَّ بِهِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الْحَدِيدِ: 20] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ حِينَ عَرَّفَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ امْتَنَّ بِأَمْثَالِهِ فِي الدُّنْيَا؛ كَقَوْلِهِ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 28-30] .   1 أي: وبمثل قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} [النحل: 14] . "د". 2 في سورة إبراهيم. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا} [النَّحْلِ: 81] . وَقَالَ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [الْبَقَرَةِ: 25] . وَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النَّحْلِ: 72] . وَهُوَ كَثِيرٌ؛ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ فِي الْجَنَّةِ: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [مُحَمَّدٍ: 15] إِلَى آخِرِ أَنْوَاعِ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} إِلَى قَوْلِهِ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النَّحْلِ: 65-69] . وَهُوَ كَثِيرٌ أَيْضًا؛ [وَأَيْضًا] فَأَنْزَلَ الْأَحْكَامَ وَشَرَعَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ تَخْلِيصًا لِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقَهَا لَنَا مِنْ شَوَائِبِ الْكُدُرَاتِ الدُّنْيَوِيَّاتِ وَالْأُخْرَوِيَّاتِ1. وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة} [النَّحْلِ: 97] يَعْنِي فِي الدُّنْيَا1 {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} [النَّحْلِ: 97] يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ حِينَ امْتَنَّ بِالنِّعَمِ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الْأَنْعَامِ: 99] . {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سَبَأٍ: 15] . وَقَالَ فِي بَعْضِهَا: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النَّحْلِ: 14] . فَعَدَّ طَلَبَ الدُّنْيَا فَضْلًا, كَمَا عَدَّ حُبَّ الْإِيمَانِ وَبُغْضَ الْكُفْرِ فضلًا.   1 في "ط": "الكدرات الدنيوية والأخروية". 2 هو رأي بعض المفسرين، وأولى ماقيل بناء على هذا التفسير أنها الحياة التي تصحبها القناعة، لأنه لا يطيب عيش في الدنيا لغير القانع، وذلك مشاهد معروف، وقيل: حياة طيبة يعنى في الجنة؛ لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 وَالدَّلَائِلُ أَكْثَرُ مِنَ الِاسْتِقْصَاءِ. فَاقْتَضَى الْوَصْفُ الْأَوَّلُ الْمُضَادَّةَ لِلثَّانِي؛ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ يُضَادُّ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ مِنَ الْوَصْفِ الثَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهَا وَأَنَّهَا مُجَرَّدُ لَعِبٍ لَا مَحْصُولَ لَهُ مُضَادٌّ لِكَوْنِهَا نِعَمًا وَفَضْلًا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ مُضَادٌّ لِلْأَوَّلِ مِنَ الْوَصْفِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا زَائِلَةً وَظِلًّا يَتَقَلَّصُ عَمَّا قَرِيبٍ مُضَادٌّ لِكَوْنِهَا بَرَاهِينَ عَلَى وُجُودِ الْبَارِي وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَعَلَى أَنَّ الْآخِرَةَ حَقٌّ؛ فَهِيَ مِرْآةٌ يُرَى فِيهَا الْحَقُّ، فِي كُلِّ مَا هُوَ حَقٌّ، وَهَذَا لَا تَنْفَصِلُ الدُّنْيَا فِيهِ مِنَ الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ فِي الدُّنْيَا لَا يَفْنَى؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِأَمْرٍ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تُعْطِيهِ؛ فَذَلِكَ الْأَمْرُ مَوْجُودٌ فِيهَا تَحْقِيقُهُ وَهُوَ لَا يَفْنَى، وَإِنْ فَنِيَ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ لِلْحِسِّ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْتَقِلُ إِلَى1 الْآخِرَةِ؛ فَتَكُونُ هُنَالِكَ نَعِيمًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا بُثَّ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي وُضِعَتْ2 عُنْوَانًا عَلَيْهِ -كَجَعْلِ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْنَى-[فَالْمَعْنَى] 3 بَاقٍ وَإِنْ فَنِيَ الْعُنْوَانُ، وَذَلِكَ ضِدُّ كَوْنِهَا مُنْقَضِيَةً بِإِطْلَاقٍ؛ فالوصفان إذن مُتَضَادَّانِ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ التَّضَادِّ، مُبَرَّأَةٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ؛ فَلَزِمَ4 مِنْ ذَلِكَ أَنَّ5 تَوَارُدَ الْوَصْفَيْنِ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، أَوْ حَالَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ، بَيَانُهُ أَنَّ لَهَا نَظَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَظَرٌ مُجَرَّدٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الدُّنْيَا مِنْ كَوْنِهَا مُتَعَرَّفًا لِلْحَقِّ، وَمُسْتَحَقًّا لِشُكْرِ الْوَاضِعِ لَهَا، بَلْ إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا   1 كما سبق آنفًا في كلام الغزالي في القسم الأول. "د". 2 أي: هذه النعم وضعت عنوانًا على العلم الذي تعطيه، وهو العقائد المتعلقة بوحدانية الله وصفاته العلى، وتمجيده وتقديسه. "د". وفي "ط": "بث فيها من العلم". 3 زيادة في الأصل. 4 في "ط": "فيلزم". 5 أي: فوجب بسبب هذا التعارض أن يحمل كل من الدليلين على حال واعتبار غير ما يحمل عليه الآخر. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 لِلَّذَّاتِ، وَمَآلًا لِلشَّهَوَاتِ، انْتِظَامًا فِي سِلْكِ الْبَهَائِمِ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قِشْرٌ بِلَا لُبٍّ، وَلَعِبٌ بِلَا جِدٍّ، وَبَاطِلٌ بِلَا حَقٍّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا النَّظَرِ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا إِلَّا مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا، وَمَلْبُوسًا وَمَنْكُوحًا وَمَرْكُوبًا، مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ، ثُمَّ يَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ؛ فَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ؛ فَذَلِكَ كَأَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، فَكُلُّ مَا وَصَفَتْهُ الشَّرِيعَةُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَقٌّ، وَهُوَ نَظَرُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُبْصِرُوا مِنْهَا إِلَّا مَا قَالَ تَعَالَى مِنْ أَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَهَا بِهِ، وَلِذَلِكَ صَارَتْ أَعْمَالُهُمْ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النُّورِ: 39] . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفُرْقَانِ: 23] . وَالثَّانِي: نَظَرٌ غَيْرُ مُجَرَّدٍ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الدُّنْيَا؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مَلْأَى مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ، مَبْثُوثٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَطِيرٍ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَأْدِيَةِ شُكْرِ بَعْضِهِ؛ فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا الْعَاقِلُ وَجَدَ كُلَّ [شَيْءٍ فِيهَا نِعْمَةً] 1 يَجِبُ شُكْرُهَا، فَانْتَدَبَ إِلَى ذَلِكَ حَسَبَ قُدْرَتِهِ وَتَهْيِئَتِهِ، وَصَارَ ذَلِكَ الْقِشْرُ مَحْشُوًّا لُبًّا، بَلْ صَارَ الْقِشْرُ نَفْسُهُ لُبًّا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ نِعَمٌ طَالِبَةٌ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنَالَهَا فَيَشْكُرَ لِلَّهِ بِهَا وَعَلَيْهَا، وَالْبُرْهَانُ2 مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّتِيجَةِ بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ؛ فَلَا دِقَّ وَلَا جِلَّ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَّا وَالْعَقْلُ عَاجِزٌ عَنْ بُلُوغِ أَدْنَى مَا فِيهِ مِنَ الحكم والنعم، ومن ههنا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الدُّنْيَا بِأَنَّهَا جِدٌّ وَأَنَّهَا حَقٌّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [الْمُؤْمِنُونَ: 115] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِين، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَق} [الدخان: 38] .   1 كذا في "ط" فقط، وبدلها في سائر النسخ: "نعمة فيها". 2 تشبيه للتقريب. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الرُّومِ: 8] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِأَجْلِ هَذَا صَارَتْ أَعْمَالُ أَهْلِ [هَذَا] 1 النَّظَرِ مُعْتَبَرَةٌ مُثْبَتَةٌ؛ حَتَّى قِيلَ: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} [التِّينِ: 6] . {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة} [النَّحْلِ: 97] 3. فَالدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ مَذْمُومَةٌ، وَلَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ مِنْ جِهَةِ النظر   1 من "ط" فقط، وكتب "د": "لعل الأصل: "أهل هذا النظر"، وفي "ط" بعدها "معتبرة منبنية". 2 أي: غير مقطوع، كما أن أعمالهم غير مقطوعة ولا فانية، ويظهر أن غرضه أن أجرهم في الآخرة غير مقطوع عن عملهم في الدنيا، بل متصل به حتى يظهر ارتباط الكلام في سياق الاستدلال. "د". 3 إذا اقتصر على ما ذكره في الآية، وكان المراد الحياة في الدنيا كما سبق له في معناها؛ فلا يظهر وجه ارتباطه بما يستدل عليه من استقرار الأعمال الصالحة واتصالها بالآخرة، وإن كان المراد الحياة في الآخرة كما هو رأي بعض المفسرين صح؛ وعلى الأول كان المناسب إثبات بقية الآية: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} إلخ. "د". قلت: قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" "3/ 419" معلقًا على قول الحسن البصري: "هي حياة الآخرة ونعيم الجنة"، قال: "وهناك هو الطبيب على الإطلاق، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في الدنيا، والذي أقول: "إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم، ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذٌّ؛ فبهذا تطيب حياتهم، وأنهم احتقروا الدنيا، فزالت همومهم عنهم؛ فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة أو قناعة؛ فذلك كمال، وإلا؛ فالطيب فيما ذكرنا راتب"، وقال الزمخشري في الكشاف" "2/ 343": {حَيَاةً طَيِّبَة} يعني في الدنيا، وهو الظاهر لقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُم} ، وعده الله ثواب الدنيا والآخرة". وانظر: "تفسير ابن كثير" "2/ 607". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 الثَّانِي، بَلْ هِيَ مَحْمُودَةٌ؛ فَذَمُّهَا بِإِطْلَاقٍ لَا يَسْتَقِيمُ، كَمَا أَنَّ مَدْحَهَا بِإِطْلَاقٍ لَا يَسْتَقِيمُ، وَالْأَخْذُ لَهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى مَذْمُومٌ يُسَمَّى أَخْذُهُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَحُبًّا فِي الْعَاجِلَةِ، وَضِدُّهُ هُوَ الزُّهْدُ فِيهَا، وَهُوَ تَرْكُهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَطْلُوبٌ، وَالْأَخْذُ لَهَا مِنَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَا يُسَمَّى أَخْذُهُ رَغْبَةً فِيهَا، وَلَا الزُّهْدُ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَحْمُودٌ، بَلْ يُسَمَّى سَفَهًا وَكَسَلًا وَتَبْذِيرًا. وَمِنْ هُنَا وَجَبَ الْحَجْرُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالَةِ1 شَرْعًا، وَلِأَجْلِهِ كَانَ الصَّحَابَةُ طَالِبِينَ لَهَا، مُشْتَغِلِينَ بِهَا، عَامِلِينَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَوْنٌ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَعَلَى اتِّخَاذِهَا مَرْكَبًا لِلْآخِرَةِ، وَهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ النَّاسِ فِيهَا، وَأَوْرَعَ النَّاسِ فِي كَسْبِهَا؛ فَرُبَّمَا سَمِعَ أَخْبَارَهُمْ فِي طَلَبِهَا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ طَالِبُونَ لَهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى لِجَهْلِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا طَلَبُوهَا مِنَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَصَارَ طَلَبُهُمْ لَهَا مِنْ جُمْلَةِ عِبَادَاتِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ تَرَكُوا طَلَبَهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ عِبَادَاتِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَلْحَقَنَا بِهِمْ، وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ، وَوَفَّقَنَا لِمَا وَفَّقَهُمْ لَهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ؛ فَإِنَّ فِيهِ رَفْعَ شُبَهٍ كَثِيرَةٍ تَرِدُ عَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَفِي أَحْوَالِ أَهْلِهَا، وَفِيهِ رَفْعُ مَغَالِطَ تَعْتَرِضُ لِلسَّالِكِينَ لِطَرِيقِ الْآخِرَةِ؛ فَيَفْهَمُونَ الزُّهْدَ وَتَرْكَ الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ؛ كَمَا يَفْهَمُونَ طَلَبَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ؛ فَيَمْدَحُونَ مَا لَا يُمْدَحُ شَرْعًا، وَيَذُمُّونَ مَا لَا يُذَمُّ شَرْعًا. وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الْفَوَائِدِ فَصْلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ لَيْسَ الْفَقْرُ أَفْضَلَ مِنَ الْغِنَى بِإِطْلَاقٍ، وَلَا الْغِنَى أَفْضَلَ بِإِطْلَاقٍ، بَلِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ يَتَفَصَّلُ؛ فَإِنَّ الْغِنَى إِذَا أَمَالَ إِلَى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى   1 أي: حالة التبذير بوضعها في غير موضعها. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 صَاحِبِهِ مَذْمُومًا، وَكَانَ الْفَقْرُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِنْ أَمَالَ إِلَى إِيثَارِ الْآجِلَةِ؛ فَإِنْفَاقُهُ1 فِي وَجْهِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى التَّزَوُّدِ لِلْمَعَادِ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ2، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِفَضْلِهِ. فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ هَذَا النَّظَرِ مَذْكُورٌ فِي أَثْنَاءِ3 الْكِتَابِ؛ فَلِذَلِكَ اخْتُصِرَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ ثَمَّ أَحْكَامًا أُخَرَ تَتَعَلَّقُ بِهِ، قَلَّمَا يَذْكُرُهَا الْأُصُولِيُّونَ، وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ كَالْفُرُوعِ؛ فَلَمْ نَتَعَرَّضْ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُضْطَلِعَ بِهَا يُدْرِكُ الْحُكْمَ فِيهَا بِأَيْسَرِ النَّظَرِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا مَا هُوَ كَالضَّابِطِ الْحَاصِرِ، وَالْأَصْلُ الْعَتِيدُ، لِمَنْ تَشَوَّفَ إِلَى ضَوَابِطِ التعارض والترجيح   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإنفاقه"، وكتب "د": "لعله: بإنفاقه". 2 انظر في المفاضلة بين الفقر والغنى": "تفسير القرطبي" "3/ 329 و5/ 343 و14/ 306 و15/ 216 و19/ 213"، و"عدة الصابرين" "ص193-195، 284، 203-204، 208-209، 217، 313-314، 317-322"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 21، 69، 119-121، 195 و14/ 305-306"، ورسالة محمد البيركلي "ت981هـ" "المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر"، وهي مطبوعة عن دار ابن حزم -بيروت، سنة 1414هـ، في "64" صفحة، وما مضى "1/ 187-188" مع التعليق. 3 ولذا تراه اتبع فيه طريقة الإحالة على ما سبق خمس مرات، يعين في كل منها الموضوع المحال عليه مما يؤخذ منه حكم المسألة التي هو بصدد بيانها. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 النَّظَرُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَهُوَ عِلْمُ الْجَدَلِ: وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ مُتَقَدِّمٍ وَمُتَأَخِّرٍ1، وَالَّذِي يَلِيقُ مِنْهُ بِغَرَضِ هَذَا الكتاب فرض مسائل:   1 من أشهر الكتب المطبوعة في هذا الباب: "الكافية في الجدل" للجويني، و"كتاب الجدل على طريقة الفقهاء" لابن عقيل الحنبلي، و"المنهاج في ترتيب الحجاج" للباجي، و"المعونة في الجدل" للشيرازي، و"علم الجذل على علم الجدل" للطوفي. وانظر: "كشف الظنون" "1/ 579"، و"مفتاح دار السعادة" "1/ 304 و2/ 599"، و"مقدمة ابن خلدون" ص457". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ السُّؤَالَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْ عَالِمٍ أَوْ غَيْرِ عَالِمٍ، وَأَعْنِي بِالْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، وَغَيْرِ الْعَالِمِ الْمُقَلِّدِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَالِمًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: سُؤَالُ الْعَالِمِ [لِلْعَالِمِ] 1، وَذَلِكَ فِي الْمَشْرُوعِ2 يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ؛ كَتَحْقِيقِ مَا حَصَلَ، أَوْ رَفْعِ إِشْكَالٍ عَنَّ لَهُ، وَتَذَكُّرِ مَا خَشِيَ عَلَيْهِ النِّسْيَانَ، أَوْ تَنْبِيهِ الْمَسْئُولِ3 عَلَى خَطَأٍ يُورِدُهُ مَوْرِدَ الِاسْتِفَادَةِ، أَوْ نِيَابَةٍ مِنْهُ عَنِ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، أَوْ تَحْصِيلِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فَاتَهُ مِنَ الْعِلْمِ4. وَالثَّانِي: سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ لِمِثْلِهِ؛ وَذَلِكَ أَيْضًا يَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ كَمُذَاكَرَتِهِ لَهُ بِمَا سَمِعَ، أَوْ طَلَبِهِ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ مِمَّا سَمِعَهُ الْمَسْئُولُ، أَوْ تَمَرُّنِهِ مَعَهُ فِي الْمَسَائِلِ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَالِمِ، أَوِ التَّهَدِّي بِعَقْلِهِ إِلَى فَهْمِ مَا أَلْقَاهُ الْعَالِمُ. وَالثَّالِثُ: سُؤَالُ الْعَالِمِ لِلْمُتَعَلِّمِ، وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ كَذَلِكَ؛ كَتَنْبِيهِهِ عَلَى مَوْضِعِ إِشْكَالٍ يُطْلَبُ رَفْعُهُ، أَوِ اخْتِبَارِ عَقْلِهِ أَيْنَ بَلَغَ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِفَهْمِهِ إِنْ كَانَ لِفَهْمِهِ فَضْلٌ، أَوْ تَنْبِيهِهِ5 عَلَى مَا عَلِمَ؛ ليستدل به على ما لم يعلم.   1 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 2 أي: وأما غير المشروع: فهو أن يسأله عن حكم حادثة نزلت به مثلًا مما يجب عليه أن يرجع فيه إلى اجتهاد نفسه؛ بحيث لا يجوز له أن يقلد مجتهدًا آخر، والوجوه الستة التي ذكرها خارجة عن موضوع التقليد الممنوع. "د". 3 في "ط": "للمسئول". 4 أي: مما لم يكن عن اجتهاد، بل كتلقي حديث أو بحث في رواية وما أشبه ذلك. "د". 5 وهذه الكلمة القصيرة تضمنت أهم أركان فن التربية العملية المسمى بالبيداجوجيا، وهو بناء المعلم تعليم تلميذه شيئًا جديدًا على ما تعلمه قبل؛ فقد كان نتيجة لمقدمات، ثم يصير بعد علمه به مقدمة لمسألة جديدة، وهكذا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 وَالرَّابِعُ: وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ لِلْعَالَمِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ عِلْمِ1 مَا لَمْ يَعْلَمْ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ؛ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مُسْتَحَقٌّ2 إِنْ عَلِمَ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ عَارِضٌ3 مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَإِلَّا؛ فَالِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَلَيْسَ الْجَوَابُ [عَنْهُ] بِمُسْتَحَقٍّ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ فَيَلْزَمُ الْجَوَابُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا سُئِلَ عَنْهُ مُتَعَيِّنًا4 عَلَيْهِ فِي نازلة واقعة5 أو في   1 ويشترك معه فيه بعض وجوه القسم الأول والثاني. "د". 2 عبر بذلك دون مطلوب شرعا؛ لأنه قد لا يكون كذلك؛ كما يعلم من مراجعة التفاصيل التي ذكرها لهذه الأقسام الثلاثة، أما قوله في الرابع: "فليس بمستحق"؛ فإنه أراد به لازمًا شرعًا كما يقتضيه قوله: "فيلزم الجواب ... إلخ". "د". 3 أي: كما أشار إليه بعد بقوله: "وقد لا يجوز" وكما يأتي تفصيله في الفصل الآتي. "د". 4 قالوا: إن للمفتي رد الفتوى إذا كان في البلد غيره أهلًا لها شرعًا، خلافًا للحليمي. "د". قلت: انظر في ذلك: "البحر الرائق" "6/ 260"، و"المجموع" "1/ 45" للنووي، و"منتهى الإرادات" "4/ 57 - بذيل كشاف القناع"، و"مباحث في أحكام الفتوى" "ص40"، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص24". "د". 5 لأن الأجتهاد إنما يباح عند الضرورة، كذا قال البيهقي، ثم روى عن معاذ: "أيها الناس! لا تعجلوا بالبلاء قبل وقوعه". "د". قلت: أخرج أثر معاذ الدارمي في "السنن" "1/ 56"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 296"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 12"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 293"، وإسحاق في "مسنده"؛ كما في "المطالب العالية" "3009"، وقال ابن حجر فيه: "إسناده حسن". قلت: وفيه جهالة أصحاب طاوس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 أَمْرٍ فِيهِ نَصٌّ1 شَرْعِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ، لَا مُطْلَقًا، وَيَكُونُ السَّائِلُ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ الْجَوَابَ، وَلَا يُؤَدِّي السُّؤَالُ إِلَى تَعَمُّقٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، وَهُوَ مِمَّا يُبْنَى عَلَيْهِ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ فِي مَوَاضِعَ، كَمَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، أَوِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ2 لَا نَصَّ فِيهَا لِلشَّارِعِ، وَقَدْ لَا يَجُوزُ، كَمَا إِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ3 عَقْلُهُ الْجَوَابَ، أَوْ كَانَ فِيهِ تَعَمُّقٌ، أَوْ أَكْثَرَ مِنَ السُّؤَالَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَغَالِيطِ، وفيه4 نَوْعُ اعْتِرَاضٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ جُمْلَةٍ يَتَبَيَّنُ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى بِحَوْلِ اللَّهِ فِي أثناء المسائل الآتية.   1 أي: وإن لم يقع بالفعل. "د". 2 ينظر: هل يجب عليه بذل الوسع عند استيفاء الشروط المذكورة وإن لم يصل كما كان مالك يفعل؟ وهو المنقول عن أبي الخطاب وابن عقيل وغيرهما؛ فيحمل عليه كلامه بأن الذي لا يلزمه إنما هو جواب المسألة؛ لأنه قد لا يصل إليه اجتهاده. "د". قلت: سئل سحنون "المتوفى 240هـ" رحمه الله، أيسع العالم أن يقول: "لا أدري" فيما يدري؟ قال: "أما ما فيه كتاب أو سنة ثابتة، فلا، وأما ما كان من هذا الرأي؛ فإنه يسعه ذلك؛ لأنه لا يدري أمصيب هو أم مخطئ". ذكره الذهبي في "السير" "12/ 65". 3 قال ابن عقيل: "في هذا تحرم الإجابة، ولعله المراد بقول ابن الجوزي: لا ينبغي" ا. هـ. "شرح التحرير"، وسيأتي أن بعض الأسئلة يشتد فيه النهي، وبعضها يخفف، والإجابة بحسبه، كما يأتي أيضًا أن السؤال المتضمن للاعتراض ومعارضة الكتاب والسنة بالرأي مستقل بسببية النهي بقطع النظر عن كونه من الأغاليط، وعليه؛ فقوله: "وفيه نوع اعتراض" ليس قيدًا لما قبله؛ فحقه "أو" كالسببين قبله. "د". 4 كذا في "ط"، وفي غيره: "وفيه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِكْثَارُ مِنَ الْأَسْئِلَةِ مَذْمُومٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أيها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ 1 إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الْآيَةَ: [الْمَائِدَةِ: 101] . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَأَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 97] . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أكُلَّ عَامٍ؟ فَأَعْرَضَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكُلَّ عَامٍ "ثَلَاثًا"؟ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُعْرِضُ، وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ قلتُها لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، وَلَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ؛ فَذَرُونِي مَا تَرَكُتْكُمْ" 2. وَفِي مِثْلِ هَذَا3 نَزَلَتْ: {لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء} الآية [المائدة: 101] .   1 والمراد بالأشياء ما لاخير لهم فيه من التكاليف الشاقة عليهم، والأسرار الخفية التي قد يُفتضحون بها، وكل يسوء؛ أما الثاني؛ فظاهر؛ أما الأول؛ فلأن السؤال عما لم كلفوا به ربما كان سببًا في التكليف؛ عقوبة لخروجهم عن الأدب، وتركهم بما يليق بهم من التسليم لله من غير تعرض للكميات والكيفيات؛ كما يشير إليه حديث الحج، وإن لم يقع هذا النوع من العقوبة من هذه الشريعة السمحة، وإذا كان كذلك؛ ظهر أن الاستدلال بالآية فيه قصور عن المدعى؛ لأنه إنما يظهر ذلك في مدة الوحي، والمدعى أوسع من هذا. "د". قلت: قال ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 700" في "المسألة السادسة" من المسائل تحت الآية المذكورة: "اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع؛ تعلقًا بهذه الآية، وهو جهل؛ لأن هذه الآية قد صرحت بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه، ولا مساءة في جواب نوازل الوقت". 2 مضى تخريجه "1/ 256"، والرجل هو الأقرع بن حابس كما صرح به النسائي "5/ 83"، والدارقطني "2/ 279"، وابن ماجه "رقم 1886"، وانظر: "تنبيه المعلم" "رقم 512" وتعليقنا عليه. 3 قيل: نزلت لهذا السبب نفسه، وهو السؤال عن فرضية الحج في كل عام، وقالوا: إنه = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 وَكَرِهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَنَهَى عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ السُّؤَالَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ1 فِيهِ حُكْمٌ، وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ؛ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ؛ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا؛ فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ؛ لَا عَنْ نِسْيَانٍ؛ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا" 2. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ3 مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُنَّ فِي القرآن: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيض} [البقرة: 222] .   = الأقرب، وقيل: نزلت حيثما ألحفوا في السؤال وهو يخطب عليه السلام على المنبر؛ حتى غضب، وقال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسأل عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ ... " إلى آخر الحديث الآتي، ولذلك قال: "وفي مثله"، أي: "وهو الإلحاف في السؤال، سواء أكان في خصوص مادة الحديث السابق أم في غيرها. "د". قلت: مضى تخريج سبب نزول الآية في "1/ 45، 258"؛ فانظره هناك. 1 هذا أيضًا مما يقتضي تقييد ذم كثرة السؤال، ومثله ما يأتي عن الربيع، وسيأتي قيد آخر في كلام ابن عمر، ولذلك عُقد الفصل بعدُ، وبه تتبين القيود التي يلزم أن تراعى في أصل المسألة. "د". 2 مضى تخريجه "1/ 253". 3 ينظر في توجيه العدد مع أن المتتبع لأسئلتهم يجد ما فوق المئات، وتوجيهه بأن المراد أن ما ذكر في القرآن من هذا العدد فقط لا يفيد المؤلف في غرضه. "د". قلت: التوجيه المذكور نص عليه في الأثر، وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 77": "قلت: ومراد ابن عباس بقوله: "ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة": المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم: وإلا؛ فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى"، وذكر في آخر "الجزء الرابع، ص266-414"، جملة كثيرة من أسئلة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وفتاواه فيها. بقي تحرير عدد الأسئلة التي في القرآن، تتابعت مصادر التخريج على إيراد الأثر بلفظ: "ثلاث عشر مسألة"، وعند البزار: "عن اثنتي عشرة مسألة"، كلها في "القرآن"، قال السيوطي في "الإتقان" "2/ 315" عقبه: "وأورده الإمام الرازي بلفظ: "أربعة عشر حرفًا"، ثم ذكرها عنها = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [الْبَقَرَةِ: 220] . {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَام} [الْبَقَرَةِ: 217] . مَا كَانُوا يُسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ"1. يَعْنِي أَنَّ هَذَا كَانَ الْغَالِبَ2 عَلَيْهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِ؛ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ" 3. وَقَالَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سؤالهم واختلافهم   = تعدادًا، ثم بيَّن أن اثنين منها -وهما السؤال عن الروح، والسؤال عن ذي القرنين- سألهما غير الصحابة، ثم قال: "فالخالص اثنا عشر؛ كما صحت به الرواية". قلت: رواية الطبراني فيها ستة من الأسئلة، وبعضها ليس في القرآن. 1 أخرجه الدرامي في "السنن" "1/ 51"، والطبراني في "الكبير" "11/ 454/ رقم 12288"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 296" "رقم 296" من طريق محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، بألفاظ متقاربة. وقال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1062/ رقم 2053": "وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء ... "وذكره". قلت: وجرير، وابن فضيل ممن رويا عن عطاء بعد الاختلاط؛ فالإسناد ضعيف؛ قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 159": "فيه عطاء بن السائب، وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات"، وحكمه هذا أدق من قول ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 77": "إسناده حسن"؛ إلا أنه فاته العزو للبزار، وهو عنده باللفظ الذي أوردناه آنفًا؛ كما أفاده السيوطي في "الإتقان" "في النوع الثاني والأربعين 2/ 315"، وصححه. 2 فلا ينافي سؤال بعضهم: "ما بال الهلال ... إلخ؟ "، وسؤال حذافة: "من أبي؟ ". "د". قلت: تخريجها -على الترتيب- "3/ 149-150، 1/ 45". 3 مضى تخريجه "1/ 48/ 256"، وفي "ط": @"لم يحرم عليهم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ" 1. وَقَامَ يَوْمًا وَهُوَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ؛ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ؛ فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا". قَالَ: فَأَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الْبُكَاءِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ يَقُولَ: "سَلُوني". فقام عبد الله ابن حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ؛ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ". فَلَمَّا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: "سَلُوني"؛ بَرَكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وبمحمد نبينا. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَوَّلًا: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصلي؛ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ" 2!!. وَظَاهِرُ هَذَا الْمَسَاقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: "سَلُونِي" فِي مَعْرِضِ الْغَضَبِ، تَنْكِيلًا بِهِمْ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يَرَوْا عَاقِبَةَ ذَلِكَ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ3 وَرَدَ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم} [الْمَائِدَةِ: 101] . وَمِثْلُ ذَلِكَ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "لو ذبحوا بقرة ما أجزأتهم، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى ذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ"4. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ5: "يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ فِي كتابه من علم؛   1 مضى تخريجه "1/ 256". 2 مضى تخريجه "1/ 45، 258"، وهو في "الصحيحين". 3 أي: بناء على أن الآية نزلت في تلك القصة. "د". 4 مضى تخريجه "1/ 49". 5 كذا في الأصل و"ط"، وهو الصواب، وفي النسخ المطبوعة: "خيثم" بتقديم التحتية على الثاء المثلث, وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَمَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؛ فكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ وَلَا تَتَكَلَّفْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] 1 إِلَخْ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ قَالَ: "لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يكن"2.   1 أخرجه أبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "ص138"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1044/ رقم 2011" من طرق عنه بألفاظ متقاربة، وهو حسن. 2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 47" من طريق حماد بن زيد عن أبيه؛ قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن شيء لا أدري ما هو؛ فقال له ابن عمر ... "وذكره". ورجاله ثقات؛ إلا أنه ضعيف؛ زيد بن درهم والد حماد لم يلق ابن عمر؛ فهو منقطع. وأخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1054-1055/ رقم 2036" من طريق شريك عن ليث "وهو ابن أبي سليم" عن طاوس عن ابن عمر مثله. وإسناده ضعيف أيضًا. وأخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 47" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 293"- وابن بطة في "الإبانة" "317"، وابن عبد البر في "الجامع" "2051، 2052" من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس؛ قال: قال عمر وهو على المنبر: "أحرّج بالله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء لم يكن؛ فإن الله قد بين ما هو كائن". ورجاله ثقات؛ إلا أنه ضعيف لانقطاعه، فإن طاوس لم يلقَ عمر. وأخرجه أبو خيثمة في "العلم" "رقم 125"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2056" من طريق حبيب بن الشهيد، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 292" من طريق سفيان، كلاهما: ابن طاوس عن طاوس؛ قال: قال عمر: "لا يحل أن تسألوا عما لم يكن ... ". وإسناده منقطع كالذي قبله. وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "712" من طريق يعلى بن عبيد، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة؛ قال: خرج عمر على الناس؛ فقال: "أحرج عليكم أن تسألونا عما لم يكن ... ". وإسناده ثقات؛ إلا أنه منطقع أيضًا، عمرو بن مرة لم يلقَ عمر. = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 وَفِي الْحَدِيثِ؛ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عن الأغلوطات"1.   = والأثر بمجموع هذه الطرق يدل على أن له أصلًا. وهناك شواهد كثيرة عن السلف تدل على كراهيتهم السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، تراها في مقدمة "سنن الدارمي" "باب كراهة الفتيا"، "الفقيه والمتفقه" "2/ 7، باب القول في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها"، و"جامع بيان العلم" "2/ 1037 وما بعده -ط ابن الجوزي، باب ما جاء في ذم القول في دين الله تعالى وبالرأي والظن والقياس على غير أصل، وعيب الإكثار من المسائل دون اعتبار"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "للبيهقي "ص218 ومما بعدها، باب من كره المسألة عما لم يكن ولم ينزل به وحي"، و"الآداب الشرعية" "2/ 76-79" لابن مفلح. وانظر في الكلام على هذا المسلك في الفقه وتأريخه والمقدار المحمود منه في "أحكام القرآن" لابن العربي "2/ 700"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 483، و"جامع العلوم والحكم" "شرح الحديث التاسع 1/ 243"، و"الفقيه والمتفقه" "2/ 9-12"، و"إعلام الموقعين" "4/ 221"، الفائدة 38 في آخر الكتاب"، و"الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" "2/ 117-122"، و"منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقع وما لم يقع". 1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب التوقف في الفتيا 3/ 321/ رقم 3656"، وأحمد في "المسند" "5/ 435"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 305"، والطبراني في "الكبير" "19/ 380/ رقم 982"، والآجري في "أخلاق العلماء" "183"، وتمام في "الفوائد" "رقم 114، 115، 116 - مع ترتيبه الروض البسام"، وابن بطة في "الإبانة" "300، 302"، والدارقطني في "الأفراد" "ق246/ أ – ب - مع أطراف الغرائب"، والخطابي في "غريب الحديث" "1/ 354"، والهروي في "ذم الكلام" "ص135"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 303، 305"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 10-11"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1055-1056/ رقم 2037، 2038"، والمزي في "تهذيب الكمال" "ق687" من طريقين عن الأوزاعي، عن عبد الله بن سعد، عن الصنابحي عن معاوية مرفوعًا، وفي إحدى الطرقين أبهم اسم الصحابي. وإسناده ضعيف من أجل عبد الله بن سعد بن فروة؛ فإنه مجهول كما قال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" "2/ 2/ 64"، وترجمه ابن حبان في "الثقات" "7/ 39"، وقال: "يخطئ"، = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 فَسَّرَهُ الْأَوْزَاعِيُّ؛ فَقَالَ: "يَعْنِي: صِعَابَ الْمَسَائِلِ"1. وَذُكِرَتِ الْمَسَائِلُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى   = وبه أعله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 250"، ولذا قال فيه ابن حجر في "التقريب": "مقبول"؛ أي: إذا توبع، ولم يتابع. وانظر ترجمته في "ميزان الاعتدال" "2/ 428". نعم، له شواهد، ولكن لا يفرح بها. أخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ 913"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 2130" من طريق سليمان بن داود الشاذكوني عن عبد الملك بن عبد الله عن إبراهيم بن أبي عبلة عن رجاء بن حيوة عن معاوية مرفوعًا، والشاذكوني متهم. وأخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ رقم 865"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 2257"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1056/ رقم 2039" من طريق سليمان بن أحمد الواسطي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن عبادة بن نُسَيّ، عن الصنابحي عن معاوية مرفوعًا بلفظ: "نهى عن عضل المسائل". وهذا إسناده واهٍ، فيه علل كثيرة: الأولى: مخالفة الوليد بن مسلم لكل من عيسى بن يونس وروح بن عبادة؛ إذ روياه عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي، قال الأول: عن معاوية، وقال الآخر: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمه. الثانية: الوليد بن مسلم مدلس، ولم يصرح بالسماع. الثالثة: جهالة عبد الله بن سعد كما تقدم. الرابعة: سليمان بن أحمد الواسطي، متروك، بل اتهمه ابن معين. قال الدراقطني في "العلل" "7/ 67/ رقم 1219": "والصحيح حديث عيسى بن يونس"، وأفاد أن عبد الملك بن محمد الصنعاني رواه فوهم فيه؛ فقال: "عن الأوزاعي عن عمرو "!! " بن سعد عن عبادة بن نسي عن معاوية"!. وعلى أي حال الحديث ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به. وفسر "ف" -وتبعه "م"- الأغلوطات؛ فقال: "أي: التي يغالط بها العلماء؛ ليزلوا؛ فيهيج بذلك شر وفتنةٌ، وإنما نهى عنها؛ لأنها مع إيذائها غير نافعة في الدين، ومثله قول ابن مسعود: "أنذرتكم صعاب المنطق"؛ يريد المسائل الدقيقة الغامضة. 1 ووقع تفسيره مسندا عقب طرقه السابقة، ولا سيما عند الحربي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 عَنْ عَضْلِ الْمَسَائِلِ؟ ". وَعَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ: "وَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْ أَهْلِ هذا الزمان أن لا أَسْأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا يَسْأَلُونِي [عَنْ شَيْءٍ] ، يَتَكَاثَرُونَ بِالْمَسَائِلِ كَمَا يَتَكَاثَرُونَ أَهْلُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ"2. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ" 3. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ حَدِيثِ: "نَهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ" 4؛ قَالَ: "أَمَّا كَثْرَةُ السُّؤَالِ؛ فَلَا أَدْرِي أَهْوَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، فَقَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 101] ؛ فَلَا أَدْرِي أَهْوَ هَذَا، أَمِ السُّؤَالُ فِي [مَسْأَلَةِ النَّاسِ في] الاستعطاء؟ " 5.   1 مضى تخريجه بهذا اللفظ في الحديث الذي قبله، وكتب "ف" -وتبعه "م"- موضحًا "عضل المسائل" ما نصه: "جمع عضلة كغرفة وغرف، والمعضلة هي الأمر المعيي الذي لا يهتدى لوجهه، وفي حديث عمر: "أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن -يريد عليًّا كرم الله وجهه-". ثم استعمل استعمال النكرات؛ فقيل في كل مشكلة معضلة ولا أبا حسن لها ". 2 أخرجه الدارمي "207"، أبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "ص91"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1058-1059/ رقم 2045" -والمذكور لفظه، وما بين المعقوفتين منه- وإسناده حسن. 3 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1059" من طريق إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن الحجاج بن عامر الثمالي مرفوعًا. وشرحبيل صدوق، فيه لين وهو شامي، وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، ومخلط في غيرهم. وفي "ط": "وروي في الحديث ... ". 4 مضى تخريجه، وهو في "الصحيحين". 5 قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1059/ رقم 2047": "وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "وذكره". وأخرج زهير بن حرب أبو خيثمة في "العلم" "رقم 77" -ومن طريقه أبو ذر الهروي في "ذم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "أُحَرِّجُ بِاللَّهِ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ1؛ فَإِنَّ اللَّهَ [قَدْ] 2 بَيَّنَ مَا هُوَ كَائِنٌ"3. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: "قَالَ لِي مَالِكٌ وَهُوَ يُنْكِرُ كَثْرَةَ الْجَوَابِ لِلْمَسَائِلِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَا عَلِمْتَهُ فَقُلْ بِهِ وَدُلَّ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ تَعْلَمْ فَاسْكُتْ عنه وإياك أن تتقلد   = الكلام" "ص132"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1057/ رقم 2042"-عن عبد الرحمن بن مهدي ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال: "كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسائل وعابها". وهكذا ذكره زهير بن حرب، ورواه عنه ابنه أحمد -كما عند ابن عبد البر- فقال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها"، وهذا خلاف لفظ "الموطأ"، وكذا خلاف لفظ غير واحد ممن رواه عن مالك على الجادة بلفظ: "كره "كما عند مالك في "الموطأ" "2/ 566 - رواية يحيى"- ومن طريقه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب من جوز الطلاق الثلاث ... ، 9/ 361/ رقم 5259"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللعان، باب منه، 2/ 1129/ رقم 1492"، وأحمد في "المسند" "5/ 334"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في اللعان، 2/ 273/ رقم 2245"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 2043، 2044" -عن الزهري به، وفيه قصة طويلة. وأخرجه من طرق عن الزهري به البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} ، 8/ 448/ رقم 4745، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 276/ رقم 7304"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللعان، باب منه، 2/ 1130/ رقم 1492 بعد 2، 3"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب بدء اللعان، 6/ 170/ رقم 3466"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب اللعان، 2/ 667/ رقم 2066"، وأحمد في "المسند" "5/ 336، 337". 1 يريد الافتراضات الصرفة، أما ما يقع في العادة؛ فإن الشريعة تكفلت به لا ينقصها منه شيء، وهذا معنى قوله: "فإن الله قد بين ما هو كائن". "د". 2 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 3 مضى تخريجه بهذا اللفظ "ص378 - الهامش". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 لِلنَّاسِ قِلَادَةَ سُوءٍ"1. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْأَغَالِيطَ"2. وَعَنِ الْحَسَنِ؛ قَالَ: "إِنَّ شِرَارَ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بِشِرَارِ الْمَسَائِلِ، يُعَنِّتُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ"3. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "وَاللَّهِ؛ لَقَدْ بَغَّضَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إليَّ الْمَسْجِدَ حَتَّى لَهُوَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ كُنَاسَةِ دَارِي. قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا أَبَا عَمْرٍو4؟ قَالَ: الأرَأَيْتِيُّون"5. وَقَالَ: "مَا كَلِمَةٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ "أَرَأَيْتَ"6.   1 أخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 822"، والخطب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 170"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1071/ رقم 2080"، والدوري "فيما رواه الأكابر عن مالك" "رقم 39" بإسناد صحيح إلى ابن وهب به. 2 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1073/ رقم 2083" بإسناد صحيح. 3 أخرجه ابن بطة في "الإبانة" "304، 305"، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2084"، وهو صحيح. 4 كذا في الأصل و"ط"، وفي جميع النسخ المطبوعة: "عمر"، وهو خطأ، انظر: "تهذيب الكمال" "14/ 28". 5 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "6/ 251"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 600، 601، 602، 603"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 215"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 2089"، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "ص105"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 184"، وهو صحيح عنه. وكتب "ف" -وتبعه "م"- تعليقًا على "الأرأيتيون": "بهمزة قبل التاء؛ أي: الذين يكثرون من قول أرأيت". 6 أخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 226"، وابن عبد البر في الجامع" "رقم 2095"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 605"، وهو صحيح عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 وَقَالَ أَيْضًا لِدَاوُدَ الْأَوْدِيِّ1: "احْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا [لَهَا شَأْنٌ] 2: إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْتَ فِيهَا؛ فَلَا تَتْبَعْ مَسْأَلَتَكَ3 أَرَأَيْتَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الْفُرْقَانِ: 43] ؛ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، وَالثَّانِيَةُ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ؛ فَلَا تَقِسْ4 شَيْئًا بِشَيْءٍ، فَرُبَّمَا حَرَّمْتَ حَلَالًا أَوْ حَلَّلْتَ حَرَامًا وَالثَّالِثَةُ إِذَا سُئِلْتَ عَمَّا لَا تَعْلَمُ؛ فَقُلْ لَا أَعْلَمُ وَأَنَا شَرِيكُكَ"5. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: "بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ كَانُوا يَقُولُونَ: إذا أراد الله أن لا يعلم عبده [خيرًا] أشغله بالأغاليط"6.   1 في الأصل وجميع النسخ المطبوعة: "ألا"، وهو خطأ؛ إذ هو جزء من كلمة "الأودي"، وعلق "ف"- وتبعه "م"- بقوله: "في الأصل بياض، ولعل محله: "ألا تريد أن تعلم أو أن تسلم، احفظ عني ثلاثًا، الأولى: إذا سألت.. إلخ". قلت: الصواب ما ذكرناه، وهو كذا في "ط" ومصادر التخريج الآتية. 2 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبتناه من الأصل و"ط" ومصادر التخريج. 3 أي: فلا تعقب جوابك بتأييده ببحث عقلي وتأييد نظري؛ حتى لا تكون مبتعًا للهوى، هذا ما يفيده الاستدلال بالآية ويشير إليه قوله بعد: "ومتابعة المسائل.. إلخ"، وإن كان كلامه الآتي عاما في السائل والمجيب، ثم هل هذا يستقيم في أيامنا هذه، أم أن المصلحة تقتضي التأييد بالعقليات؟ وعلى كل حال يلزم تقييده بغير ما يفيد وجهة نظر الشرع في الحكم، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولها في هذه المواطن؛ كقوله: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟ "، وسيأتي في الفصل بعده ما يؤيده، حيث قيد في النوع الخامس في الأسئلة المذمومة كراهة السؤال عن علة الحكم بأن يكون في أمر تعبدي أو يكون السائل غير أهل لذلك. "د". 4 إذا لم يكن الشعبي ممن يمنعون القياس يلزم حمل كلامه على غير إطلاقه. "د". 5 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1076-1077/ رقم 2096"، والإسناد فيه ضعف، داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي فيه ضعف. 6 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1077-1078/ رقم 2099" عن يحيى بن أيوب به، وإسناده صحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ. وَالْحَاصِلُ [مِنْهَا] أَنَّ كَثْرَةَ السُّؤَالِ وَمُتَابَعَةَ الْمَسَائِلِ بِالْأَبْحَاثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالِاحْتِمَالَاتِ النَّظَرِيَّةَ مَذْمُومٌ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وُعِظُوا فِي كَثْرَةِ السُّؤَالِ حَتَّى امْتَنَعُوا مِنْهُ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابُ فَيَسْأَلُوهُ1 حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَهُ، وَيَحْفَظُوا مِنْهُ الْعِلْمَ، أَلَا تَرَى مَا فِي "الصَّحِيحِ" عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: "نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلِ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ"2. وَلَقَدْ أَمْسَكُوا عَنِ السُّؤَالِ حَتَّى جَاءَ جِبْرِيلُ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَالسَّاعَةِ وَأَمَارَتِهَا، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ جِبْرِيلُ، وَقَالَ: "أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا3 إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا"4. وَهَكَذَا كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ كَثِيرًا، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَهَابُونَ ذَلِكَ، قَالَ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ -وَقَدْ قَدِمَ عَلَى مَالِكٍ: "وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْعَلُونَنِي أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِذَا أَجَابَ يَقُولُونَ: قُلْ لَهُ فَإِنْ كَانَ كَذَا؛ فَأَقُولُ لَهُ: فَضَاقَ عَلَيَّ يَوْمًا فَقَالَ لِي: هَذِهِ سُلَيْسِلَةٌ بِنْتُ سُلَيْسِلَةٍ، إِنْ أَرَدْتَ هَذَا فَعَلَيْكَ بِالْعِرَاقِ"5، وَإِنَّمَا كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ فِقْهَ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَحْوَالَهُمْ لِإِيغَالِهِمْ فِي المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي.   1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فيسألون". 2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، 1/ 41/ رقم 12 بعد 10" عن أنس رضي الله عنه". 3 "تعلموا" ضبطناه على وجهين: "تعلَّمُوا"؛ أي: تتعلموا، والثاني: "تعلَموا"، أفاده النووي. 4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان العلم والإسلام والإحسان 1/ 40/ رقم 10" عن أبي هريرة مرفوعًا". 5 ذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 466". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَنْ قَضَاءِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ فَقَالَتْ لَهَا: "أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ " إِنْكَارًا عَلَيْهَا السُّؤَالَ عَنْ مِثْلِ هَذَا. وَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ؛ فَقَالَ الَّذِي قَضَى عليه: كيف أغرم ما لَا شَرِبَ2 وَلَا أَكَلَ، وَلَا شَهِقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ3 فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام: "إنما هذا من إخوان الكهان" 4.   1 مضى تخريجه "2/ 526". 2 في النسخ المطبوعة و"ط": "ما لا شرب" والمذكور من الأصل، وكذا في "صحيح البخاري"، قال ابن حجر في "الفتح" "10/ 218": "ووقع في رواية مالك: "ما لا" بدل "من لا"، وهذا هو الذي في "الموطأ"، وقال أبو عثمان بن جني: معنى قوله: "لا أكل"؛ أي: لم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع"، وفي "ط": "ولا أكل ولا نطق". 3 كذا في الأصل، وفي نسخة "م": "ومثل هذا يطل"، وفي "ف": "ومثل ذلك باطل"، وفي "د" و"ط": "ومثل ذلك بطل". قال ابن حجر في "الفتح" "10/ 218": "يطل: للأكثر بضم المثناة التحتانية، وفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام؛ أي: يهدر، يقال: دم فلان هدر، إذا ترك الطلب بثأره، وطل الدم بضم الطاء وفتحها أيضًا وحكي: أطل، ولم يعرفه الأصمعي، ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر "بطل"؛ بفتح الموحدة، ,التخفيف: من البطلان، كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة، قال: "بالوجهين في "الموطأ"، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان، وأنكره ابن بطال؛ فقال: كذا يقوله أهل الحديث: وإنما هو "طل الدم"؛ إذا هدر. قلت: وليس لإنكار معنى بعد ثبوت الرواية، وهو موجه، راجع إلى معنى الرواية الأخرى" انتهى. وعبارة القاضي عياض في "مشارق الأنوار" "1/ 88" هذا نصها: "ورأيت في بعض الأصول من "الموطأ" عن ابن بكير بالوجهين، قرأناها على مالك في "موطئه"، ورجح الخطابي رواية الياء باثنتين على رواية الباء بواحدة فيه". قلت: ونقل عياض عن الخطابي مخالف لما ذكره ابن حجر عنه؛ فتنبه، وكلام الخطابي في "إعلام الحديث" "3/ 2138" يؤيد رواية الباء، ونص كلامه في "الغريب" "3/ 251": "عامة المحدثين يقولون: بطل من البطلان، ورواه بعضهم: يطل؛ أي: يهدر وهو جيد في هذا الموضع". 4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب الكهانة، 10/ 216/ رقم = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 وَقَالَ1 رَبِيعَةُ لِسَعِيدٍ فِي مَسْأَلَةِ عَقْلِ الْأَصَابِعِ حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا: "نَقَصَ عَقْلُهَا؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ يا ابن أَخِي"2. وَهَذَا كَافٍ فِي كَرَاهِيَةِ كَثْرَةِ السُّؤَالِ فِي الْجُمْلَةِ. فَصْلٌ: وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ لِكَرَاهِيَةِ السُّؤَالِ مَوَاضِعَ، نَذْكُرُ مِنْهَا عَشَرَةَ مَوَاضِعَ3: أَحَدُهَا: السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ؛ كسؤال عبد الله بن حذافة: من   = 5758، 5759، 5760، وكتاب الفرائض، باب ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره، 12/ 24/ 6740، وكتاب الديات، باب جنين المرأة، 12/ 246/ رقم 6904، وباب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد، 12/ 252/ رقم 6909، 6910" -وليس فيه الموطن الشاهد إلا في باب الكهانة؛ إذ ورد في سواه مختصرًا- ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني، 3/ 1309-1310/ رقم 1681 بعد 36" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 1 من نوع أسئلة الاعتراض مع التنكيت في شدة المصيبة ونقصان العقل بالتورية، وسيشير إليه بعد. "د". 2 مضى "2/ 526"، وانظر -غير مأمور- تعليقنا عليه. 3 انظر في هذا: "إعلام الموقعين" "4/ 157"، و"الفروق" "1/ 34"، و"الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" "ص264-366" - وفي التعليق عليه ما نصه: "وقد عقد الإمام الشاطبي في "الموافقات" فصلًا حسنًا، ساق فيه عشرة نماذج مختلفة للأمور التي يكره السؤال فيها، ثم قال: "ويقاس عليها ما سواها"، وكأنه قعد فيها ما رسمه القرافي هنا، رحمة الله عليهما، فعد إليها، فإنها مما يسافر إلى تحصليه"- و"فيض القدير" "6/ 355" للمناوي، و"مباحث في أحكام الفتوى" "ص41-44"، و"صفة المفتي والمستفتي" "ص44، 47، 49، 51"، و"الفتوى في الإسلام" "ص100" للقاسمي، و"الفقيه والمتفقة" "2/ 197"، و"إرشاد الفحول" "ص266". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 أَبِي1"، وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْمُو حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَنْقُصُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ كَمَا كَانَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} 2 الْآيَةَ [إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [الْبَقَرَةِ: 189] ؛ فَإِنَّمَا أُجِيبَ3 بِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدِّينِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْأَلَ بَعْدَ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ حَاجَتَهُ؛ كَمَا سَأَلَ الرجل عَنِ الْحَجِّ: أَكُلَّ عَامٍ4؟ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] قَاضٍ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ لِلْأَبَدِ لِإِطْلَاقِهِ، وَمِثْلُهُ سُؤَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ5 بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [الْبَقَرَةِ: 67] . وَالثَّالِثُ: السُّؤَالُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ فِي الْوَقْتِ، وَكَأَنَّ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ خَاصٌّ6 بِمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ" 7، وَقَوْلُهُ: "وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها" 8.   1 مضى تخريجه "1/ 45، 258". 2 إذا كان السؤال عن العلة والسبب تم التقريب، وكان الجواب في الآية الشريعة والخبر من الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله، وإن كان عن الغاية والحكمة، أي ما شأن الهلال وحكمة اختلاف تشكلاته النورية بدءًا وعودا؛ كان الجواب مطابقًا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه، ولم يكن مما نحن فيه. "ف". قلت: ومضى تخريج سبب النزول بالتفصيل في "3/ 149". 3 راجع: "روح المعاني" "2/ 72" في تفسير الآية يتضح المقام. "د". 4 يشير إلى الحديث المتقدم لفظه وتخريجه في "1/ 256". 5 انظر أثر ابن عباس في ذلك وتخريجه في "1/ 45". 6 هذا متعين، وإلا لمنع من تعلم العلم الزائد عما يحتاج إليه الشخص في الوقت، ولا يقول بهذا أحد. "1/ 256". 8 مضى تخريجه "1/ 253". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 وَالرَّابِعُ1: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صِعَابِ الْمَسَائِلِ وَشِرَارِهَا؛ كَمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ2. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدَاتِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ لَهَا مَعْنًى، أَوِ السَّائِلُ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ السُّؤَالُ كَمَا فِي حَدِيثِ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ3. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَبْلُغَ بِالسُّؤَالِ إِلَى حَدِّ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّقِ4، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] ، وَلَمَّا سَأَلَ الرَّجُلُ5: "يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ! هَلْ تَرِدُ حَوْضُكَ السُّبَاعُ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ! لَا تُخْبِرْنَا؛ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ علينا"6. الحديث.   1 ينطبق عليه أيضًا الأول والثالث؛ فالأغلوطات لا تنفع في الدين، وأيضًا لا حاجة لها في العلم. "د". 2 مضت الأحاديث الواردة في ذلك مع تخريجها قريبًا. 3 انظر ما مضى عند المصنف "2/ 526"، والحديث مضى تخريجه "2/ 526". 4 أي: التعمق في الدين، كما في السؤال عن ورود السباع الحوض، وكما سيأتي في الاعتراض على الظواهر بتحميلها ما يبعد عنها. "د". 5 هو عمرو بن العاص، كان في ركب عمر. "د". قلت: وقع التصريح به في مصادر التخريج الآتية. 6 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 23-24/ رقم 14 - رواية يحيى، و1/ 26/ رقم 55 - رواية أبي مصعب، و42 - رواية محمد بن الحسن" - ومن طريقه عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 250"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 250" و"الخلافيات" "3/ رقم 927"- عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر به. وأخرجه الدراقطني في "السنن" "1/ 32"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 310" من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 وَالسَّابِعُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنَ السُّؤَالِ مُعَارِضَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالرَّأْيِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سَعِيدٌ: "أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ "1 وَقِيلَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: "الرَّجُلُ يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ؛ أَيُجَادِلُ عَنْهَا؟ قَالَ: "لَا2، وَلَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ وَإِلَّا سَكَتَ"3. وَالثَّامِنُ: السُّؤَالُ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7] . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا4 للخصومات؛ أسرع   = ورجاله ثقات؛ إلا أنه منقطع؛ لأن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب لم يدرك عمر، فإنه ولد في خلافة عثمان؛ فالإسناد ضعيف، وبه أعله النووي في "المجموع" "1/ 174"؛ إذ قال: "مرسل منطقع"، وكذا قال محمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ 246"، وزاد النووي: "إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه". قلت: له شاهد من حديث ابن عمر وآخر من حديث جابر، كلاهما مرفوعًا، إلا أنهما ضعيفان، انظر تفصيل ذلك في "تمام المنة" "ص47، 48"، و"الخلافيات" "3/ مسألة 39". 1 مضى تخريجه "2/ 526"، ومضى بتمامه قريبًا "ص387". 2 فيه النظر السابق، وهو أن هذا لا يصلح لزماننا الذي لا بد فيه من المجادلة لتأييد الحق، وإلا لم يسمع من كثير من الناس، وفي "إعلام الموقعين" "4/ 259": "عاب بعض الناس ذكر الدليل في الفتوى، قال ابن تيمية: بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل". "د". قلت: انظر في ضرورة ذكر الدليل مع الفتوى: "إعلام الموقعين" "4/ 161، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 321-322"، و"صفة الفتوى والمستفتي" "66"، و"الفتوى في الإسلام" "98-99" للقاسمي، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص118-119" للأشقر. 3 ذكر السجزي في "رسالته" إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف" "ص235"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 936/ رقم 1784"، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 170" هكذا: "وقال الهيثم بن جميل: قلت: لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله! الرجل يكون ... إلخ". 4 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة: "عرضنا" -بالعين المهملة- وفي "ط": "عرضا"، وقال "د": "لعل الأصل "غرضًا" من الغين المعجمة؛ أي: هدفًا ومرمى، أما بالعين؛ فالذي يوافق المعنى "عرضة"؛ بالتاء، وضم العين". قلت: والصواب بالغين المعجمة كما في مصادر التخريج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 التَّنَقُّلَ"1. وَمِنْ ذَلِكَ سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ مَالِكًا عَنِ الِاسْتِوَاءِ، فَقَالَ: "الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ"2. وَالتَّاسِعُ: السُّؤَالُ عَمَّا شَجَرَ3 بَيْنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَقَدْ سُئِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ صِفِّينَ؛ فَقَالَ: "تِلْكَ دِمَاءٌ كَفَّ اللَّهِ عَنْهَا يَدَيَّ؛ فَلَا أحب أن يطلخ بها لساني"4.   1 أخرجه الدارمي في "السنن" "رقم 310"، والآجري في "التشريعة" "1/ 56، 57"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 566، 568، 577، 578، 579، 580"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 128/ رقم 216"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 391/ رقم 1770" من طرق عنه، وهو حرف غامق. 2 أخرجه عثمان بن سعيد الدرامي، في "الرد على الجهمية" "رقم 104"، وأبو عثمان الصابوني في "عقيدة السلف" "رقم 24، 25، 26"، و"اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "664"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 325-326"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "2/ 304-305، 305-306/ رقم 866، 867 - ط المحققة"، وابن عبد البر في "التمهيد" "7-151" من طرق عنه. وجود إسناده ابن حجر في "الفتح" "13/ 406، 407"، وقال الذهبي في "العلو" "ص141 - مختصره": "وهذا ثابت عن مالك، وتقدم عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول السنة قاطبة". 3 أي: وقع. "ماء". 4 أخرجه الخطابي في "العزلة" "ص136 - ط دار ابن كثير" بسنده إلى الشافعي، ذكره عن عمر بن عبد العزيز. وأخرجه بسند لا بأس به عن عمر بن عبد العزيز: ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 934/ رقم 1778"، وابن الجوزي في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص165". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وَالْعَاشِرُ: سُؤَالُ التَّعَنُّتِ1 وَالْإِفْحَامِ وَطَلَبِ الْغَلَبَةِ فِي الْخِصَامِ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي ذَمِّ نَحْوِ هَذَا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [الْبَقَرَةِ: 204] . وَقَالَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزُّخْرُفِ: 58] . وَفِي الْحَدِيثِ: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلى الله الألد الخصم" 2. هذه جملة مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُكره السُّؤَالُ فِيهَا، يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا، وَلَيْسَ النَّهْيُ فِيهَا وَاحِدًا، بَلْ فِيهَا مَا تَشْتَدُّ كَرَاهِيَتُهُ، وَمِنْهَا مَا يَخِفُّ، وَمِنْهَا مَا يَحْرُمُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ، وَعَلَى جُمْلَةٍ3 مِنْهَا يَقَعُ النَّهْيُ عَنِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ؛ كَمَا جَاءَ "إِنَّ الْمِرَاءَ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ"4. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 68] . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ أَوِ الْأَحَادِيثِ؛ فَالسُّؤَالُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، والجواب بحسبه.   1 أي: يسأل ليعنت المسؤول ويقهره، لا يعلم، يعني: وإن لم تكن المسألة من الأغلوطات، وبذلك يغاير الرابع. "د". 2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ، 8/ 188/ رقم 4523"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب في الآلد الخصم، 4/ 2054/ رقم 2668" عن عائشة رضي الله عنها. 3 يقع على خمسة منها. "د". 4 مضى تخريجه "3/ 40". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْكُبَرَاءِ مَحْمُودٌ، كَانَ الْمُعْتَرَضُ فِيهِ مِمَّا يُفْهَمُ أَوْلَا يُفْهَمُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ كَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ1، واشتراطه عليه أن لا يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ مِنْهُ ذِكْرًا؛ فَكَانَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الْكَهْفِ: 78] ، وَقَوْلُ2 مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا" 3، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْخُرُوجَ عَنِ الشَّرْطِ يُوجِبُ4 الْخُرُوجَ عَنِ الْمَشْرُوطِ. وَرُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ5 أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا   1 مضى تخريجها "1/ 456"، وهي في "الصحيحين". 2 أي: فالاعتراض كان سببًا من للحرمان من التوسع في العلم الخاص. "د". 3 مضى تخريجه "1/ 546". 4 وقد يقال: حينئذ: إن ذلك بسبب الخروج عن الشرط لا بسبب أصل الاعتراض. "د". 5 هذا الخبر متكلم فيه، وعلى فرض صحته إنما يظهر على القول بعد عصمة الملائكة الأرضية كما حكي عن بعضهم على ما فيه؛ ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من الملائكة الأرضيين، وعلى أن سؤال الملائكة في الآية سؤال إنكار واعتراض على الله تعالى وطعن على آدم وبنيه، وكلاهما غير صحيح، وحاشا عباد الله المكرمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون أن يسألوا ربهم كذلك، بل سؤالهم إنما وقع لاستكشاف الحكمة، وإزالة الشبهة التي أثارها في نفوسهم ما فهموه من اسم الخليفة، وما يقتضيه اختلاف طبائعه وتركيب أمزجته، وليس المقصود منه التعجب والتفاخر والاعتراض حتى يضر بعصمتهم كما قيل، ولو كان كذلك؛ لما كان الجواب بهذا التلطف والإقناع المفيد، قال تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ؛ فقد أقرهم على ما فهموه من الاسم الشريف، وأرشدهم بقصور علمهم إلى ما انطوى تحت سره المنيف، وأظهر لهم من شأنه = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية [البقرة: 30] ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ. وَجَاءَ فِي أَشَدِّ مِنْ هَذَا اعْتِرَاضُ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الْأَعْرَافِ: 12] ؛ فَهُوَ الَّذِي كَتَبَ لَهُ بِهِ الشَّقَاءَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَى الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَهُوَ دَلِيلٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَقِصَّةُ1 أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا، حِينَ تَعَنَّتُوا فِي السُّؤَالِ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ؛ كَحَدِيثِ: "تَعَالَوْا أَكْتُبُ لَكُمْ كتابا لن تضلوا   = بتعليم آدم ما لم يعلموه ولن يعلموه؛ فازدادوا بذلك علمًا ويقينًا، وفهموا أنه الصالح للخلافة دونهم؛ فإن خليفة الله في عمارة أرضه وسياسة خلقه وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم يجب أن يكون جامعًا بين التجرد والتعلق، وحافظًا للنسبتين، وذلك لا يكون ملكًا وإنما يكون بشرًا، وآدم عليه السلام هو المجلي له سبحانه والجامع لصفتي جماله وجلاله، ومن هنا قال الخليفة الأعظم صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق آدم على صورته" أو "على صورة الرحمن"، وبه جمعت الأضداد، وكملت النشأة، وظهر الحق، وفائدة هذه المقالة تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، وتعريفه للملائكة؛ ليعرفوا قدره؛ لأنه باطن من الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية، وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، والله أعلم. "ف". قلت: قول المعلق: "وآدم عليه والسلام هو المجلي له ... إلخ"، فيه نفس صوفي، ومتعلق للقائلين بوحدة الوجود، وهي عقيدة فاسدة؛ فافهم واحذر، وظفرت به عند الآلوسي في "روح المعاني" "1/ 220"، نقلًا عن ابن عربي الصوفي، وذكر الآلوسي ما أورده المصنف فيما سيأتي قريبًا "أرسل عليهم نارًا فأحرقتهم"، وزاد: "ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف". وقال: "وعندي أن ذلك غير صحيح". قلت: ومن مظان ذلك "عرائس المجالس" للثعالبي، ونظرت فيه؛ فلم أعثر على شيء وانظر عنه لزومًا: كتابنا "كتب حذر منها العلماء" "2/ 20". 1 أي: قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] فإنه استبعاد لما قاله وإنكار، أي: أين ما سألنا عنه بيان القاتل من الأمر بذبح البقر؟ فهو اعتراض على الكبراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 بَعْدَهُ" 1. فَاعْتَرَضَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ2 الصَّحَابَةِ حَتَّى أَمْرُهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَكْتُبْ3 لَهُمْ شَيْئًا. وَقِصَّةُ أَمِّ إِسْمَاعِيلَ حِينَ نَبَعَ لَهَا مَاءُ زَمْزَمَ، فَحَوَّضَتْهُ وَمَنَعَتِ الْمَاءَ مِنَ   1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 132/ رقم 4431 و4432، وكتاب المرضى، باب قول المريض: قوموا عني، 10/ 126/ رقم 5669" ومسلم في "الصحيح" "كتاب الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه 3/ 1259/ رقم 1637" عن ابن عباس رضي الله عنهما بألفاظ منها: "ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي"، ومنها: "هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعدي"، ومنها: "هلموا أكتب لكم ... ". 2 هو عمر رضي الله عنه، حيث قال: "إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن ... " إلى آخر الحديث. "د". قلت: وقع التصريح بأن قائل المذكور عمر في "صحيح البخاري" "رقم 5669"، و"صحيح مسلم" "رقم 1637 بعد 22"، ووقع في الحديث: "وقالوا: ما شأنه، أهجر؟ استفهموه". قال أبو ذر ولد سبط ابن العجمي في "تنبيه المعلم" "رقم 635 - بتحقيقي": "من القائلين: عمر رضي الله عنه". قلت: لم يذكر مستنده، ولا يوجد ما يدل عليه، وأفاد صاحب "تكملة فتح الملهم" "2/ 136، 145" بهذا؛ فقال: "لم أجد في شيء من الروايات الصحيحة أن قائل هذا الكلام -أي: "ما شأنه؛ أهجر؟ "- هو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه". قلت: وأفاد الدهلوي في "التحفة الاثنا عشرية" "ص453" أن قائلي ذلك أهل البيت، أو صدر منهم على سبيل الاستفهام الاستنكاري، وفي "مسند أحمد" "1/ 90" ما يشعر أن موقف علي رضي الله عنه كموقف عمر رضي الله عنه؛ وانظر في معنى "هجر" وتوجيهها: "فتاوى ابن رشد" "2/ 1054-1058"، ووقع في آخر رواية عند البخاري "رقم 4432، 5669"، ومسلم "رقم 1637 بعد 22": "فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم". 3 فحرموا بسبب ذلك من البيان الذي كان يفيدهم، لا سيما على القول بأنه كان في شأن الخلافة!! "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 السيلان؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "لو تركت لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا" 1. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طُبِخَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِدْرٌ فِيهَا لَحْمٌ؛ فَقَالَ: "نَاوِلْنِي ذِرَاعًا". قَالَ الرَّاوِي: فَنَاوَلْتُهُ ذِرَاعًا؛ فَقَالَ: "نَاوِلْنِي ذِرَاعًا". فَنَاوَلْتُهُ ذِرَاعًا؛ فَقَالَ: "نَاوِلْنِي ذِرَاعًا". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ سَكَتَ لَأُعْطِيتَ أَذْرُعًا مَا دعوت" 2.   1 يظهر أن هذا حرص لا اعتراض، ولا يخفى شؤم الحرص في غير أمور الآخرة. "د". قلت: وأخرج قصتها بطولها، والمذكور جزء منها: البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء باب يزفون: النسلان في المشي، رقم 3362، 3364، وكتاب المساقاة، باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، رقم 2368"، وأحمد في "المسند" "1/ 347، 360"، وابنه عبد الله في "زوائد المسند" "5/ 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 105/ رقم 9107"، والنسائي في "فضائل الصحابة" "رقم 271، 272، 273" وغيرهم، وقد خرجته بتفصيل في كتابي"من قصص الماضيين" "ص97-106". 2 في الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة: "ذراعًا ما دعوت" والتصحيح من مصادر التخريج أخرجه بهذا اللفظ الدارمي في "سننه" "1/ 22 أو1/ 27/ رقم 45 - ط دار إحياء السنة "، وأحمد في "المسند" "3/ 484-485"، وابن أبي شيبة في "مسنده" "3/ ق214/ أ- مع "إتحاف الخيرة"، والترمذي في "الشمائل" "رقم 60"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 350/ رقم 472"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "7/ 95"، والطبراني في "الكبير" "22/ 335/ رقم 842"، ودعلج في "مسند المقلين" "4 - المنتقى"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق275/ ب- 276/ أ"، والبغوي في "الشمائل" "2/ 618/ رقم 949"، وقوّام السنة الأصبهاني في "دلائل البنوة" "3/ 883-884/ رقم 136"، جميعهم من طريق أبان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وإسناده ضعيف، قتادة مدلس، وقد عنعن، وشهر بن حوشب فيه كلام مشهور، وإن كان لا يننزل عن درجة الحسن؛ كما حققته في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي. ولكن الحديث صحيح؛ فله شواهد، منها حديث أبي رافع رضي الله عنه، أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 392" من طريق خلف بن الوليد عن أبي جعفر الرازي عن شرحبيل بن سعد = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 ........................................................................................   = عن أبي رافع به. وإسناده ضعيف، صالح في المتابعات وخالف خلفًا سلمة بن الفضل؛ فرواه عن أبي جعفر الرازي عن داود بن أبي هند عن شرحبيل به، وراية خلف عن أبي جعفر عن شرحبيل، لم يذكر بينهما أحدًان هو أشبه بالصواب، قاله الدراقطني في "العلل" "7/ 20/ رقم 1180". وأخرجه ابن أبي شيبة في "المسند" -ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" كما في "إتحاف الخيرة" "3/ ق214/ أ"- عن زيد بن الحباب عن فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن مولاة عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن أبي رافع به. وإسناده ضعيف، عبيد الله بن علي لين الحديث؛ كما في "التقريب"، وحديثه عن جده مرسل؛ كما في "تهذيب الكمال" "19/ 120". وخولف ابن أبي شيبة؛ فأخرجه المحاملي في "أماليه" "رقم 257 - رواية ابن البيع" ثنا أحمد بن محمد ثنا زيد بن الحباب حدثني فائد حدثني مولاي عبيد الله بن علي بن أبي رافع -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله سماه عُلَيًّا- قال: ثني أبو رافع به نحوه. وأحمد بن محمد هو حفيد يحيى بن سعيد القطان، وثقه ابن حبان في "الثقات" "8/ 38-39"، وقال: "وكان متقنًا"، وابن أبي شيبة أحفظ منه وأتقن. وخولف زيد بن الحباب؛ فأخرجه أبو يعلى في "المسند" "3/ ق216 - مع إتحاف الخيرة"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "6/ 203-204/ رقم 3434"، والطبراني في "الكبير" "24/ 300/ رقم 763" من طريق الفضيل بن سليمان عن فائد عن عبيد الله أن جدته سلمى أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي رافع ... وذكر نحوه. وزيد أثبت من الفضيل، ولعل الوجهين محفوظان!! ولكن أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 8"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 393"، والطبراني في "الكبير" "1/ 305/ رقم 970"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "2/ 562/ رقم 346" من طريق حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن أبي رافع عن عمته سلمى عن أبي رافع به نحوه. وإسناده حسن في الشواهد، وعبد الرحمن لم يرو عنه غير حماد بن سلمة؛ كما في "الوحدان" "ص33 - ط الهندية" لمسلم، و"الكاشف" "2/ 145/ رقم 3231" للذهبي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" "1/ 303/ رقم 964" من طريق ابن وهب عن عمرو بن = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 وَحَدِيثُ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى فَاطِمَةَ مِنَ اللَّيْلِ؛ فَأَيْقَظَنَا لِلصَّلَاةِ، قَالَ: فَجَلَسْتُ وَأَنَا أَعْرُكُ عَيْنِي وَأَقُولُ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نُصَلِّي إِلَّا مَا كُتِبَ لَنَا، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهَا. بَعَثَهَا، فَوَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا" 1.   = الحارث؛ أن بكيرًا حدثه أن الحسن بن علي بن أبي رافع حدثه عن أبي رافع به نحوه، وبرقم "965" من طريق بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف عن ابن لهيعة عن بكير بن عبد الله به، وجعله من مسند "رافع"، وهو في "الأوسط" "1/ ق187/ ب" من طريق بكر بن سهل به، وفيه: "عن الحسن بن علي بن أبي رافع؛ أنه حدثه أن أبا رافع حدثه به"؛ فالخطأ من الناسخ أو المحقق أو الطابع!! وللحديث شاهد عن أبي هريرة أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 517"، وابن حبان في "صحيحه" "8/ 139/ رقم 6450 - الإحسان" من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة. وإسناده حسن، إن كان ابن عجلان سمعه من أبيه. وأخرجه الحسين بن محمد بن خسرو في "مسنده"، ومحمد بن الحسن في "الآثار" "1/ 27-28"، وأبو نعيم في "مسند أبي حنيفة" "ص102"، كلهم من طريق أبي حنيفة عن شيخ له مجهول سماه عبد الرحمن بن داود، وقيل: داود بن عبد الرحمن العطار، وقيل: "عبد الرحمن بن زاذان عن شرحبيل، وأسنده عن أبي سعيد الخدري، قال الدراقطني في "العلل" "7/ 21": "ووهم فيه؛ وإنما هو حديث أبي رافع". والحديث صحيح بمجموع هذه الطرق إن شاء الله تعالى، ورجح الزرقاني في "شرحه على المواهب" أن القصة تكررت. 1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، وطرق النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليًّا عليهما السلام ليلة للصلاة، 3/ 10/ رقم 1127، وكتاب التفسير، باب سورة الكهف، 8/ 407-408/ رقم 4724 - مختصرًا وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} ، 13/ 313/ رقم 7347، وكتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة، 13/ 446/ رقم 7465"، ومسلم في = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 وَحَدِيثُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّهِمُوا1 الرَّأْيَ؛ فَإِنَّا كُنَّا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ2 أَنْ نَرُدَّ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْنَاهُ"3. وَلَمَّا وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزنٌ جَدُّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ لَهُ: "مَا اسْمُكَ؟ ". قَالَ: حَزَنٌ. قَالَ: "بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ". قَالَ: لَا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِي بِهِ أَبِي. قَالَ سَعِيدٌ: فَمَا زَالَتِ الْحُزُونَةُ [فِينَا] 4 حَتَّى الْيَوْمِ"5. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَالثَّالِثُ: مَا عُهِدَ بِالتَّجْرِبَةِ مِنْ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْكُبَرَاءِ قَاضٍ بِامْتِنَاعِ الْفَائِدَةِ مُبْعِدٌ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالتِّلْمِيذِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمُ الدَّاءُ الْأَكْبَرُ حَتَّى زَعَمَ الْقُشَيْرِيُّ6 عَنْهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْهُ لَا تُقْبَلُ وَالزَّلَّةُ لَا تُقَالُ، وَمِنْ ذَلِكَ   = "صحيحه" كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، 1/ 537-538/ رقم 775"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 7/ رقم 325" و"المجتبى" "كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الترغيب في قيام الليل، 3/ 205-206/ رقم 1611، 1612"، وأحمد في "المسند" "1/ 112" عن علي رضي الله عنه بألفاظ متقاربة، والمذكور عند المصنف لفظ النسائي في "المجتبى" "رقم 1612"، وانظر: "تحفة الأشراف" "رقم 10070". 1 أي: فلا تجلعوه في مقابلة الشريعة فتعترضوها به. "د". 2 أي: وقد ظهر خطؤنا وتعين المصحلة فيما أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رده إلى الكفار تنفيذًا للشرط. "د". 3 مضى تخريجه "1/ 143" وهو أثر عن سهل بن حنيف في "صحيح البخاري" وغيره. 4 ما بين المعقوفتين سقط من "د". 5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب اسم الحزن، 10/ 574/ رقم 6190، وباب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه، 10/ 575/ رقم 6193" عن حزن بن أبي وهب رضي الله عنه. 6 في "رسالته" المشهورة "ص150". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 حِكَايَةُ الشَّابِّ الْخَدِيمِ لِأَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ؛ إِذْ كَانَ صَائِمًا؛ فَقَالَ لَهُ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ وَشَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ: "كُلْ مَعَنَا يَا فَتَى. فَقَالَ: أَنَا صَائِمٌ. فَقَالَ أَبُو تُرَابٍ: كُلْ وَلَكَ أَجْرُ شَهْرٍ فَأَبَى فَقَالَ شَقِيقٌ: كُلْ وَلَكَ أَجْرُ صَوْمِ سَنَةٍ. فَأَبَى؛ فَقَالَ أَبُو يَزِيدَ: دَعُوا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ". فَأَخَذَ ذَلِكَ الشَّابُّ فِي السَّرِقَةِ وَقُطِعَتْ يَدُهُ1. وَقَدْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لِأَسَدٍ حِينَ تَابَعَ سُؤَالَهُ: "هَذِهِ سُلَيْسِلَةٌ بِنْتُ سُلَيْسِلَةٍ، إِنْ أَرَدْتَ هَذَا؛ فَعَلَيْكَ بِالْعِرَاقِ"2. فَهَدَّدَهُ بِحِرْمَانِ الْفَائِدَةِ مِنْهُ بِسَبَبِ اعْتِرَاضِهِ3 فِي جَوَابِهِ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا كَثِيرٌ لِمَنْ بَحَثَ عَنْهُ. فَالَّذِي تَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ الْمَعْلُومَ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ إِذَا سُئِلَ عَنْ نَازِلَةٍ فَأَجَابَ، أَوْ عُرِضَتْ لَهُ حَالَةٌ يَبْعُدُ الْعَهْدُ بِمِثْلِهَا، أَوْ لَا تَقَعُ مِنْ فهم السامع موقعها أن لا يُوَاجَهَ بِالِاعْتِرَاضِ وَالنَّقْدِ، فَإِنْ عَرَضَ إِشْكَالٌ فَالتَّوَقُّفُ أَوْلَى بِالنَّجَاحِ، وَأَحْرَى بِإِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ إِنْ شَاءَ الله تعالى.   1 مضت في "2/ 497"، وهي في "رسالة القشيري" "151"، وانظر ما علقناه هناك. 2 مضى قريبا "ص385"، وتخريجه هناك. 3 لا يؤخذ من الرواية السابقة في المسألة الثانية أنه كان يعترض، بل كان يتابع السؤال ويكثر منه فقط؛ فيقول: "فإن كان كذا .... " بإيعاز أصحاب مالك لتهيبهم سؤاله بأنفسهم. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى الظَّوَاهِرِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ1. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ هُوَ الْمُتَرْجِمُ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ يُعْدَمُ فِيهِ النص2 أو ينذر إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا يَكُونُ نَصًّا إِذَا سَلِمَ عَنِ احْتِمَالَاتٍ عَشْرَةٍ3، وَهَذَا نَادِرٌ أَوْ مَعْدُومٌ، فَإِذَا وَرَدَ دَلِيلٌ مَنْصُوصٌ وَهُوَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ؛ فَالِاحْتِمَالَاتُ دَائِرَةٌ بِهِ، وَمَا فِيهِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَكُونُ نَصًّا عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الظَّاهِرُ وَالْمُجْمَلُ، فَالْمُجْمَلُ الشَّأْنُ فِيهِ طَلَبُ الْمُبَيِّنِ أَوِ التَّوَقُّفُ؛ فَالظَّاهِرُ هو المعتمد إذن، فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ. وَأَيْضًا؛ فَلَوْ جَازَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُحْتَمَلَاتِ لَمْ يَبْقَ لِلشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ يُعتمد، لِوُرُودِ الِاحْتِمَالَاتِ وَإِنْ ضَعُفَتْ، وَالِاعْتِرَاضُ الْمَسْمُوعُ مِثْلُهُ يُضْعِفُ الدَّلِيلَ؛ فَيُؤَدِّي إِلَى الْقَوْلِ بِضَعْفِ جَمِيعِ4 أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَوْ أَكْثَرِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: لَوِ اعْتُبِرَ مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ فِي الْقَوْلِ لَمْ يكن لإنزال الكتب   1 في "ماء": "غير مقبول". 2 يطلق النص على الدليل السمعي مطلقًا، ومنه قوله هنا: "دليل منصوص"، ويطلق على ما لا يحتمل غير ما قصد به؛ فيكون قطعيًا في دلالته على معناه وهو ما سلم عن الاحتمالات العشرة، وهو ما أجرى المؤلف أدلته في الكتاب على مقتضاه، ويطلق على ما دل باعتبار وضعه واعتبار سوقه أيضًا على المعنى، وعلى هذا يقبل النص التأويل والتخصيص "د". 3 تقدم في المسألة التاسعة من كتاب المقاصد. "د". 4 أي: حيث قلنا بعدم النص، ومعلوم أن الإجماع والقياس مبنيان على أدلة الكتاب والسنة التي هي من قسم الظاهر الذي بقي من الأقسام كما سبق له، وقوله: "أو أكثرها"؛ أي: حيث قلنا بوجود قليل من النصوص. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وَلَا لِإِرْسَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فائدة؛ إذ يلزم أن لا تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْإِخْبَارَاتِ؛ إِذْ لَيْسَتْ فِي الْأَكْثَرِ نُصُوصًا لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا قُصِدَ بِهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ، فَمَا يَلْزَمُ عَنْهُ كَذَلِكَ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ1: وَهُوَ أَنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالِ إِذَا اعْتُبِرَ أَدَّى إِلَى انْخِرَامِ الْعَادَاتِ وَالثِّقَةِ بِهَا، وَفَتْحِ بَابِ السَّفْسَطَةِ وَجَحْدِ الْعُلُومِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ [عَنْ نَفْسِهِ] فِي كِتَابِهِ "الْمُنْقِذِ مِنَ الضَّلَالِ"2، بَلْ مَا ذَكَرَهُ السُّوفُسْطَائِيَّةُ فِي جَحْدِ الْعُلُومِ فَبِهِ3 يَتَبَيَّنُ لك أن منشأها طريق الِاحْتِمَالِ فِي الْحَقَائِقِ الْعَادِيَّةِ أَوِ الْعَقْلِيَّةِ؛ فَمَا بَالُكَ4 بِالْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ؟ وَلِأَجْلِ اعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ شُدِّدَ عَلَى أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ إِذْ تَعَمَّقُوا فِي السُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَيْهِ حَاجَةً مَعَ ظُهُورِ الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ: "أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَوْ لِلْأَبَدِ؟ "5 وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ فِي الْمَيْلِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ إِنَّمَا اتَّبَعُوا فِيهَا مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالِ، فَاعْتَبَرُوهُ وَقَالُوا فِيهِ6، وَقَطَعُوا فِيهِ عَلَى الْغَيْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ فَذُمُّوا بِذَلِكَ وَأَمَرَ النَّبِيُّ7 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ.   1 الأوجه الثلاثة السابقة ترجع إلى عدم إبطال الأدلة القولية بالاحتمالات، وهذا الوجه كالترقي عليها، وكأنه يقول: بل إذا اعتبرت الاحتمالات المجردة عن الأدلة؛ بطلت العلوم الأخرى المرتبة على العادات، أي: الأسباب والمسببات العادية المبثوثة في الكون؛ فالتجربيات والمشاهدات تلحقها الاحتمالات، فإذا اعتبرت ضاعت العلوم اليقينية، أي: فقبول الاحتمالات مطلقًا يفسد سائر العلوم عقلية ونقلية؛ فهو باطل. "د". 2 انظر منه: "ص26 وما بعد". 3 كذا في "ط":، وفي غيره: "منه". 4 في "ط": "فما ظنك". 5 مضى تخريجه "1/ 256". 6 في "م": "وقالوا فيه على"، والصواب حذف "على". وفي "ط": "عن الغيب". 7 أي: بقوله في الحديث المشهور: "فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذروهم". "د". قلت: مضى تخريجه "ص143". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 وَوَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِ احْتَجَّ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْعُمُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعُمُومَاتِ1 الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} إِلَى أَنْ قَالَ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ] قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 2 [الْمُؤْمِنُونَ: 84-89] ؛ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَجَعَلَهُمْ إِذْ أَقَرُّوا بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ فِي الْكُلِّ ثُمَّ دَعْوَاهُمُ الْخُصُوصَ مَسْحُورِينَ لَا عُقَلَاءَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 61] ، يَعْنِي: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللَّهُ بعد ما أَقَرُّوا3؛ فَيَدَّعُونَ لِلَّهِ شَرِيكًا. وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَار} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزُّمَرِ: 5-6] ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ الْإِقْرَارَ بِعُمُومِهِ، وَجَعَلَ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْقُولِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ الظَّاهِرُ حُجَّةً غَيْرَ مُعْتَرَضٍ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ فِي إِقْرَارِهِمْ بمقتضى العموم حجة عليهم لكن الأمر   1 أي: فمع كونها عقلية وثابتة في الواقع بالعقل كما سيقول: "وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول" هي متفق عليها بين المتناظرين، وهذا الثاني هو محل الاستدلال هنا باعتبار الظواهر؛ لأن العموم المسلم بين الطرفين هو من باب الظاهر في هذه التراكيب. "د". 2 أي: تخدعون وتصرفون عن الحق. "ماء". 3 ليكن على ذكر منك أنهم كانوا يعترفون بأن الله هو الرب الخالق لكل شيء، المالك المتصرف في السماوات والأرض، ولكنهم مع هذا يؤلهون معه شيئًا من مخلوقاته؛ نجومًا، أو حجارة، أو غيرها، يعبدونها؛ فكان الرد عليهم موجهًا إلى أن مستحق العبادة هو المتصرف في الكون وحده، وأنهم يكونون مجانين إذا جمعوا بين الاعتراف بعموم التصرف له وحده وبين تأليه غيره وعبادته، ولذا جعل ختام الآيات الذي هو كالنتيجة قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [المؤمنون: 116] ؛ فجعل المعنى بالحصر، ومحط الرد عليهم هو نفس الشريك في الألوهية والعبادة؛ فقوله: "فيدعون لله شريكًا"؛ أي: في استحقاق العبادة. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا1؛ فَأَنْتَ تَرَى مَا يَنْشَأُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ مِنْ تَشَعُّبِ الِاسْتِدْلَالَاتِ، وَإِيرَادِ الْإِشْكَالَاتِ عَلَيْهَا بِتَطْرِيقِ2 الِاحْتِمَالَاتِ؛ حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليل يُعْتَمَدُ لَا قُرْآنِيًّا وَلَا سُنِّيًّا، بَلِ انْجَرَّ هَذَا الْأَمْرُ إِلَى الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ؛ فاطَّرحوا فِيهَا الْأَدِلَّةَ الْقُرْآنِيَّةَ وَالسُّنِّيَّةَ لِبِنَاءِ كَثِيرٍ مِنْهَا عَلَى أُمُورٍ عَادِيَّةٍ؛ كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] 3: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} الْآيَةَ [الرُّومِ: 28] . وَقَوْلِهِ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ} [الْأَعْرَافِ: 195] . وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَاعْتَمَدُوا عَلَى مقدمات عقلية غير بديهة4 وَلَا قَرِيبَةٍ مِنَ البديهيَّة5، هَرَبًا مِنَ احْتِمَالٍ يَتَطَرَّقُ فِي الْعَقْلِ لِلْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ؛ فَدَخَلُوا فِي أَشَدَّ مِمَّا مِنْهُ فرُّوا، وَنَشَأَتْ مَبَاحِثُ لَا عَهْدَ لِلْعَرَبِ بِهَا وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا بِالشَّرِيعَةِ؛ فَخَالَطُوا الْفَلَاسِفَةَ فِي أَنْظَارِهِمْ، وَبَاحَثُوهُمْ فِي مَطَالِبِهِمُ الَّتِي لَا يَعُودُ الْجَهْلُ بِهَا عَلَى الدِّينِ بِفَسَادٍ، وَلَا يَزِيدُ الْبَحْثُ فِيهَا إِلَّا خَبَالًا، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلُّهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ فِي الْعِبَارَاتِ وَمَعَانِيهَا الْجَارِيَةِ فِي الْوُجُودِ. وَقَدْ مَرَّ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَجَارِيَ الْعَادَاتِ قَطْعِيَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّ طُرَقَ الْعَقْلِ إِلَيْهَا احْتِمَالًا؛ فَكَذَلِكَ الْعِبَارَاتُ؛ لِأَنَّهَا فِي الْوَضْعِ6 الْخِطَابِيِّ تُمَاثِلُهَا أو تقاربها.   1 أي: ويضم إلى هذه الوجوه الخمسة على سماع الاعتراض على الظاهر تلك المفاسد. "د". 2 في "ماء": "لتطريق". 3 زيادة من "م" و"ط". 4 في "د": "بديهة". 5 في "د": "البديهة". 6 في "ط": "الموضع". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 وَمَرَّ أَيْضًا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اقْتِنَاصِ الْقِطَعِ مِنَ الظَّنِّيَّاتِ، وَهِيَ خَاصَّةُ1 هَذَا الْكِتَابِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ والحمد لله؛ فإذن لَا يَصِحُّ فِي الظَّوَاهِرِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا بِوُجُوهِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَرْجُوحَةِ؛ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخُرُوجِ2 عَنْهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ، أَوْ فِي بَابِ الْبَيَانِ، وَاللَّهُ المستعان.   1 تتبع الظنيات في الدلالة أو في المتن أو فيهما، والوجوه العقلية كذلك، ويضم قوة منها إلى قوة، ولا يزال يستقري حتى يصل إلى ما يعد قاطعًا في الموضوع كالتواتر المعنوي، ولا يبالي أن يكون بعض الأدلة ضعيفًا؛ لأنه لا يستند إلى دليل خاص؛ كما أن رواة التواتر المعنوي لا يلزم في جميعهم أن يكون محل الثقة، ولكن المجموع يلزم أن يكون كذلك؛ فهذه خاصية هذا الكتاب في استدلالاته، وهي طريقة ناجحة أدت إلى وصوله إلى المقصود، اللهم إلا في النادر، رحمه الله رحمة واسعة. "د". 2 فتكون حينئذ هي المؤول بعينه. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: النَّاظِرُ1 فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ إِمَّا نَاظِرٌ1 فِي قَوَاعِدِهَا الْأَصْلِيَّةِ أَوْ فِي جُزْئِيَّاتِهَا الْفَرْعِيَّةِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ؛ فَهُوَ إِمَّا مُجْتَهِدٌ أَوْ مُنَاظِرٌ، فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ النَّاظِرُ لِنَفْسِهِ؛ فَمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ؛ إِلَّا أَنَّ الْأُصُولَ وَالْقَوَاعِدَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْقَطْعِيَّاتِ2؛ ضَرُورِيَّةً كَانَتْ أَوْ نَظَرِيَّةً؛ عَقْلِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً، وَأَمَّا الْفُرُوعُ؛ فَيَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ الظَّنِّ عَلَى شَرْطِهِ الْمَعْلُومِ فِي مَوْضِعِهِ، فَمَا أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ؛ فَهُوَ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى مُنَاظَرَةٍ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي مَطْلَبِهِ إِمَّا نَظَرٌ فِي جُزْئِيٍّ، وَهُوَ ثانٍ عَنْ نَظَرِهِ فِي الْكُلِّيِّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَإِمَّا نَظَرٌ فِي كُلِّيٍّ ابْتِدَاءً، وَالنَّظَرُ فِي الْكُلِّيَّاتِ ثانٍ عَنِ3 الِاسْتِقْرَاءِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى تَأَمُّلٍ وَاسْتِبْصَارٍ وَفُسْحَةِ زَمَانٍ يَسَعُ ذَلِكَ. وَهَكَذَا إِنْ كَانَ عَقْلِيًّا؛ فَفَرْضُ الْمُنَاظَرَةِ هُنَا لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَبْلَ الْوُصُولِ مُتَطَلَّبٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَهُ؛ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ فِيهَا، وَبَعْدَ الْوُصُولِ هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ مَطْلَبِهِ فِي نَفْسِهِ؛ فَالْمُنَاظَرَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ. وَأَيْضًا؛ فَالْمُجْتَهِدُ أَمِينٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ قَبِلَهُ الْمُقَلِّدُ، وَوَكَلَهُ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ إِلَى أَمَانَتِهِ؛ إِذْ هُوَ عِنْدَهُ مُجْتَهِدٌ مَقْبُولُ الْقَوْلِ؛ فَلَا يَفْتَقِرُ إِذَا اتَّضَحَ لَهُ مَسْلَكُ المسألة إلى مناظرة.   1 في "ط": "النظر .... إما نظر ... ". 2 ولا يقال: إذا كانت القواعد الأصولية التي تفرع عنها الجزئيات لا بد أن تكون قطعية؛ فكيف يتأتى الخلاف بين الأصوليين في تلك القواعد؛ لأن المراد أنها قطعية هذا المجتهد بعد استقرائه أدلتها حتى يقطع بها؟ وهذا لا ينافي أن غيره يقطع ويجزم بما يخالفها حسبما أدت إليه الأدلة تالتي ارتضاها، ويكون الفرق بين الأصول والفروع أن الأولى لا يعمل ولا يفرع عليها، إلا إذا جزم بخلاف الفروع؛ فإنها يكفي فيها الظن القوي بأن هذا هو حكم الله فيها. "د". وفي "ط": "تثبت بالقطعيات". 3 في الأصل: "على". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 وَهُنَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ كَمُشَاوَرَةِ1 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعْدَيْنِ2 فِي مُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ عَلَى نِصْفِ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِمَا عَزِيمَةُ الْمُصَابَرَةِ وَالْقِتَالِ؛ لَمْ يَبْغِ بِهِ بَدَلًا وَلَمْ يَسْتَشِرْ غَيْرَهُمَا، وَهَكَذَا مُشَاوَرَتُهُ3 وَعَرْضُهُ الْأَمْرَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْحُكْمَ؛ لَمْ يُلْقِ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ وُضُوحِ الْقَضِيَّةِ، وَلَمَّا مَنَعَتِ الْعَرَبُ الزَّكَاةَ عَزَمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَكَلَّمَهُ4 عُمَرُ فِي ذلك؛ فلم   1 وإن كانت الأمثلة ما عدا الثاني في مصلحة عامة المسلمين، وليست خاصة بالمجتهد صلى الله عليه وسلم في قتال الأحزاب، ولا بأبي بكر في مثاليه؛ إلا أن المجتهد في الموضوعين لما كان هو المسئول عن الأمر وتنفيذه عُدَ كأنه يجتهد لنفسه، وعليه؛ فلا تكون الأمثلة خارجة عن أصل فرضه. "د". 2 سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وفي رواية لما سألوه أن يناصفهم تمر المدينة؛ قال: "حتى أستأمر السعود هذين، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود". فقالوا: "لا والله ما أعطينا في أنفسنا الدنية في الجاهلية؛ فكيف وقد جاء الله بالإسلام وأعزنا بك، ما لهم عندنا إلا السيف. "د". قلت: مضى تخريج ذلك في "1/ 499". 3 فقد دعا عليًا وأسامة بن زيد، فأما أسامة؛ فقال: "أهلك، ولا نعلم إلا خيرًا"، وأما علي؛ فقال: "لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، وسأل بربرة أيضًا"، أما كلمات سيدنا علي؛ فكانت مخبأة للإسلام بعد، فكان بسببها ما كان. "د". قلت: مشاورته صلى الله عليه سلم لأسامة وعلي واردة ضمن حديث الإفك الطويل، وقد مضى تخريجه "2/ 422"، وقول الشارح: "أما كلمات سيدنا علي ... إلخ" ليس في بصحيح البتة ولا ارتباط بين مشورته رضي الله عنه وما وقع فيما بعد، وتفصيل ذلك يطول. 4 حيث قال: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" الحديث؛ فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال. فإن قلت: أفلا يعد ما وقع من عمر والصحابة في احتجاجهم بالحديث مناظرة على أبي بكر؟ فالجواب: إن هذا داخل في مناظرة المستعين الآتية، وكلامنا الآن في المجتهد الذي = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 يَلْتَفِتْ إِلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ؛ إِذْ وَجَدَ النَّصَّ الشَّرْعِيَّ الْمُقْتَضِيَ لِخِلَافِهِ، وَسَأَلُوهُ1 فِي رَدِّ أُسَامَةَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَأَبَى لِصِحَّةِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ بِمَنْعِ رَدِّ مَا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. وَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُودُ هَذَا فِي الشَّرِيعَةِ وَأَهْلِهَا3 لَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مُنَاظَرَةٍ وَلَا إِلَى مُرَاجَعَةٍ؛ إِلَّا مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ، وَإِذَا فَرَضَ مُحْتَاطًا؛ فَذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ إِذَا بَنَى عَلَيْهِ بَعْضَ التَّرَدُّدِ فِيمَا هُوَ نَاظِرٌ فِيهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا السُّكُوتُ اقْتِصَارًا عَلَى بَحْثِ نَفْسِهِ إِلَى التَّبَيُّنِ؛ إِذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ قَبْلَ بَيَانِ الطَّرِيقِ. وَإِمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ، وَهُوَ الْمُنَاظِرُ الْمُسْتَعِينُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يكون   = وضحت له القضية؛ فلا يحتاج إلى المناظرة، وأبو بكر من هذا القبيل وإن احتاج غيره إلى مناظرته. "د". قلت: ومناظرة أبي بكر وعمر مضى تخريجها "1/ 500"، وانظر: "مسند الفاورق" "2/ 672-673" لابن كثير. 1 أي: بلسان عمر؛ فشدد النكير عليهم؛ كما في كتب السير، وفي "السيرة الحلبية" توسع وبسط في الموضع. "د". 2 يشير إلى من أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما في مرضة الذي توفي فيه، 8/ 152/ رقم 4468، 4469" عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بعثًا توأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "إن تطعنوا في إمارته؛ فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله؛ إن كان لخليقًا بالإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده". 3 أي: الصحابة العارفين بها والمجتهدين في أحكامها، وقوله: "لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة"؛ أي: في إثبات المسألة، أو معناه: لم يحتج في مثله، أي: في الجزئيات التي من قبيله إلى مناظرة وربما ساعد هذا الفهم قوله: "ولا إلى مراجعة إلا من باب الاحتياط". "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 مُوَافِقًا لَهُ فِي الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا ما تناظرا1 فيه، أولا. فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ صَحَّ إِسْنَادُهُ2 إِلَيْهِ وَاسْتِعَانَتُهُ بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَبْقَى لَهُ تَحْقِيقُ3 مَنَاطِ الْمَسْأَلَةِ الْمُنَاظَرِ فِيهَا، وَالْأَمْرُ سَهْلٌ فِيهَا؛ فَإِنِ اتَّفَقَا فَحَسَنٌ، وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ ظَنِّيٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي وُقُوعِ الْخِلَافِ هُنَا حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ، يَدْخُلُ فِيهَا أَسْئِلَةُ الصَّحَابَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي سُؤَالِهِمْ4 عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} [الْأَنْعَامِ: 82] . وَعِنْدَ نُزُولِ5 قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} الآية [البقرة: 284] . وسؤال ابن أم كتوم حِينَ نَزَلَ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 95] ، حَتَّى نَزَلَ6 {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} [النِّسَاءِ: 95] . وَسُؤَالِ عَائِشَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ   1 في "ط" و"م": "تناظر". 2 في "ط": "استناده". 3 بل وتحقيق الأدلة الجزئية من كتاب وسنة أو قياس.. إلخ. 4 مضى لفظه وتخريجه في "3/ 402". 5 مضى لفظه وتخريجه في "4/ 37". 6 يشير المصنف إلى ما أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قول الله عز وجل {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، 6/ 45/ رقم 2831" عن البراء؛ قال: "لما نزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا؛ فجاءه بكتف فكتبها، وشكا ابن أم مكتوبة ضرارته؛ فنزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} . وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 2832، وبرقم 4592" عن زيد بن ثابت بنحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 عذِّب"1، وَاسْتِشْكَالُهَا مَعَ الْحَدِيثِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] . وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ السُّؤَالَاتِ دَاخِلٌ فِي قِسْمِ الْمُنَاظِرِ الْمُسْتَعِينِ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا بَعْدَ مَا نَظَرُوا فِي الْأَدِلَّةِ، فَلَمَّا نَظَرُوا أُشْكِلَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، بِخِلَافِ السَّائِلِ عَنِ الحكم ابْتِدَاءً، فَإِنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُتَعَلِّمِينَ؛ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ، وَلَا عَلَيْكَ مِنْ إِطْلَاقِ3 لَفْظِ "الْمُنَاظِرِ" فَإِنَّهُ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ، كَمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ مَا إِذَا أَجْرَى الْخَصْمُ الْمُحْتَجُّ نَفْسَهُ مَجْرَى السَّائِلِ الْمُسْتَفِيدِ؛ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْخَصْمُ بِأَقْرَبِ الطُّرُقِ4 كَمَا جَاءَ فِي شَأْنِ حاجة إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ [قَوْمَهُ] 5 بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ؛ فَإِنَّهُ فَرَضَ نَفْسَهُ بِحَضْرَتِهِمْ مُسْتَرْشِدًا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ الْبُرْهَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 70-71] . فَلَمَّا سَأَلَ عَنِ الْمَعْبُودِ سَأَلَ عَنِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ بِالْمَعْبُودِ بِقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون} [الشُّعَرَاءِ: 72-73] ؛ فَحَادُوا عَنِ الْجَوَابِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِمُجَرَّدِ الِاتِّبَاعِ لِلْآبَاءِ.   1 مضى تخريجه "33/ 293". 2 حتى قال لها: "ذلك العرض". "د". 3 الذي قد تظهر منافاته لإدخاله هذا الجنس في قسم المناظر المستعين؛ لأن الصحابة لا يعدون مناظرين للنبي صلى الله عليه وسلم إذا روعي معنى المناظرة اصطلاحًا، يعني؛ لأن هذا اصطلاح آخر. "د". 4 لأنه يأخذ من مناظره الموافقة على مقدمات الدليل أولًا فأولًا؛ حتى لا يبقى إلا الاعتراف بالنتيجة. "د". 5 سقطت من "ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 ومثله قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ: 63] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء} [الرُّومِ: 40] . وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يُونُسَ: 35] . وَقَوْلُهُ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} [الْأَعْرَافِ: 195] إِلَى آخِرِهَا. فَهَذِهِ الْآيِ وَمَا أَشْبَهَهَا إِشَارَاتٌ إِلَى التَّنَزُّلِ مَنْزِلَةَ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي النَّظَرِ، وَإِنْ كَانَ مقتض ى الحقيقة فيها تبكيت الخصم؛ إذ كَانَ مُجِيئًا بِالْبُرْهَانِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِشَارَةِ فِي صِحَّتِهِ؛ فَكَانَ أَبْلَغَ1 فِي الْمَقْصُودِ فِي الْمُوَاجَهَةِ بِالتَّبْكِيتِ، وَلَمَّا اخْتَرَمُوا مِنَ التَّشْرِيعَاتِ أُمُورًا كَثِيرَةً أَدْهَاهَا الشِّرْكُ طُولِبُوا2 بِالدَّلِيلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ: 24] . {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يُونُسَ 59] . {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِه} الآية [المؤمنون: 117] .   1 لأن مواجهة الخصم بالتبكيت تنفره من استماع سائر الدليل، وتثير فيه حمية العناد، وقد استعمل القرآن الطريقين في مقامين. "د". 2 الفرق بين هذا النوع وما قبله في محاجة إبراهيم وما بعدها، أن تلك فيها الأسئلة تفصيلية تؤخذ منها مقدمات الدَّليل الخاص الذي يقوم حجة على الخصم، أما هذه؛ فالسؤال فيها بطلب البرهان إجمالًا على دعواهم، يعني: وهم عاجزون عنه؛ فلم يبق إلا تسليمهم ببطلانها. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَإِنْ كَانَ الْمَنَاظِرُ مُخَالِفًا لَهُ فِي الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا النَّظَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ؛ إِذْ مَا مِنْ وَجْهٍ جُزْئِيٍّ فِي مَسْأَلَتِهِ إِلَّا وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى كُلِّيٍّ، وإذا خ الف فِي الْكُلِّيِّ؛ فَفِي الْجُزْئِيِّ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْلَى؛ فَتَقَعُ مُخَالَفَتُهُ فِي الْجُزْئِيِّ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ رُجُوعُهَا إِلَى مَعْنًى مُتَّفَقٍ1 عَلَيْهِ؛ فَالِاسْتِعَانَةُ مَفْقُودَةٌ. وَمِثَالُهُ فِي الْفِقْهِيَّاتِ مَسْأَلَةُ الرِّبَا فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ كَالْأُرْزِ، وَالدُّخْنِ، وَالذُّرَةِ، وَالْحُلْبَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ هُنَا بِالظَّاهِرِيِّ النَّافِي لِلْقِيَاسِ لِأَنَّهُ بانٍ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ جُمْلَةً، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ أن يناظر فيها مناظشرة الْمُسْتَعِينِ؛ إِذْ هُوَ مُخَالِفٌ فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَرْجِعَانِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْحُلْبَةِ وَالذُّرَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِكِيِّ إِذَا اسْتَعَانَ بِالشَّافِعِيِّ أَوِ الْحَنَفِيِّ وَإِنْ قَالُوا بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ؛ لِبِنَائِهِمَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى خِلَافِ2 مَا يَبْنِي عَلَيْهِ الْمَالِكِيُّ، وَهَذَا الْقِسْمُ شَائِعٌ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ؛ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ لِلْإِجْمَاعِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي مسألة تنبني على صحة الإجماع، والمنكر   1 أي: فتضيع فائدة المناظرة التي يقصد منها رجوع المتناظرين إلى الحق. "د". 2 القياس يتوقف على العلة؛ فبعد الاتفاق عليها تمكن الاستعانة في مثل هذا الموضوع؛ أما إذا اختلف فيها كما هنا؛ فلا يتأتى الاتفاق في نتيجة القياس؛ فامالكية يقولون: إن العلة في ربا النسيئة مجرد الطعم لا على وجه التداوي، فيدخل فيه الخضر والفواكه والبقول؛ فيمنع فيها النسيئة ولو متساوية، ومن ذلك الحلبة ولو جافة، وربا الفضل علته الاقتيات والادخار، أي مجموع الأمرين، فالطعام الربوي ما يقتات ويدخر، فهذا يمنع فيه الفضل في الجنس الواحدج، والنسيئة مطلقًا، ومنه الأرز والدخن والذرة، ويلحق به المصطلح، والشافعية يقولون: كل مطعوم ولو خضرًا أو دواء أو مصلحًا يدخله ربا الفضل وربا النسيئة، والحنفية يقولون: العلة الاتفاق في الجنس والتقدير بالكيل والوزن؛ كما ذكره في "البحر". "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ فِي مَسْأَلَةٍ تَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنْكِرٌ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِلنَّدْبِ أنو اللإباحة أَوْ بِالْوَقْفِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ لِمَنْ كان فائلًا بِأَنَّهَا لِلْوُجُوبِ أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ فَرَضَ الْمُخَالِفُ مُسَاعِدًا صَحَّتْ الِاسْتِعَانَةُ، كَمَا إِذَا كَانَ مُسَاعِدًا حَقِيقَةً، وَهَذَا لَا يَخْفَى. فَصْلٌ: وَإِذَا فُرِضَ الْمُنَاظِرُ مُسْتَقِلًّا بِنَظَرِهِ غَيْرَ طَالِبٍ لِلِاسْتِعَانَةِ وَلَا مُفْتَقِرًا إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ طَالِبٌ لِرَدِّ الْخَصْمِ إِلَى رَأْيِهِ أَوْ مَا هُوَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَتَهُ؛ فَقَدْ تَكَفَّلَ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ1، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَقَدْ مَرَّ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ2، وَهُنَا تَمَامُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ، وهي:   1 وقد توسعوا في ذيك، وأطالوا في باب القياس الأصولي واعتراضاته، كما دون أهل المنطق فنًّا خاصًا في طرق الاعتراض على الحدود والأقيسة. "د". 2 في المسألة السادسة، وقد أحال بقية البيان هناك على المسألة السادسة هنا. "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَنَقُولُ: لَمَّا انْبَنَى الدَّلِيلُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا تُحَقِّقُ الْمَنَاطَ، وَالْأُخْرَى تَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَمَرَّ أَنَّ مَحَلَّ النَّظَرِ هُوَ تَحَقُّقُ الْمَنَاطِ ظَهَرَ انْحِصَارُ الْكَلَامِ بَيْنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ هُنَالِكَ، بِدَلِيلِ الِاسْتِقْرَاءِ، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْحَاكِمَةُ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَرْضِهَا مُسَلَّمَةً. وَرُبَّمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ النِّزَاعَ قَدْ يَقَعُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: "هَذَا مُسْكِرٌ" وَكُلُّ [مُسْكِرٍ] 1 خَمْرٌ أَوْ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"؛ فَقَدْ يُوَافِقُ الْخَصْمُ عَلَى أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ وَهِيَ مُقَدِّمَةُ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ فِيهَا أَيْضًا، وَإِذَا خَالَفَ فِيهَا فَلَا نَكِيرَ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الاختلاف، وقد يخالف فثي أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ؛ فَإِنَّ الْخَمْرَ إِنَّمَا يطلق على النيىء مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، فَلَا يَكُونُ3 هَذَا الْمُشَارُ إليه خمرًا وإن أسكر، وإذ ذالك لا يسلم أن كل مسكر مر، وَيُخَالِفُ أَيْضًا فِي أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ؛ فَإِنَّ الْكُلِّيَّةَ لِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لَا تَثْبُتُ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ أُخْرِجَ مِنْهَا النَّبِيذُ بِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ كُلِّيَّتُهَا؛ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ، فَإِذًا [قَدْ] 4 صَارَتْ مُنَازَعًا فِيهَا؛ فَكَيْفَ يُقَالُ بِانْحِصَارِ النِّزَاعِ فِي إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ دُونَ الأخرى؟ بل كل واحدة منهما قابلة النزاع، وهو خلاف ما تأصّل. والجواب: أن تَقَدَّمَ صَحِيحٌ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ غَيْرُ وَارِدٍ، وَبَيَانُهُ أن   1 سقطت من "د" و"ف"، وكتب "د" ما نصه: "لعله سقط هنا كلمة "مسكر" كما يدل عليه لاحق الكلام". 2 أي: فلا بدع في ذلك، ولا ضرر في طريق المناظرة. "د". 3 أي: فلا يلزم إلا بعد تحقق أنه نيء من عصير العنب. "د". 4 ما بين المعقوفتين سقط من "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 الخصمين إملاا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَصْلٍ يَرْجِعَانِ إِلَيْهِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ1؛ لَمْ يَقَعْ بِمُنَاظَرَتِهِمَا فَائِدَةٌ بِحَالٍ، وَقَدْ مَرَّ هَذَا، وَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ، وَكَانَ الدَّلِيلُ عِنْدَ الْخَصْمِ مُتَنَازَعًا فِيهِ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ بِدَلِيلٍ؛ فَصَارَ الْإِتْيَانُ بِهِ عَبَثًا لا يفيد فائدة ولا يحصل [مقصودًا، و] 2 مقصود الماظرة رَدُّ الْخَصْمِ إِلَى الصَّوَابِ بِطَرِيقٍ يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ بِغَيْرِ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ رُجُوعِهِمَا إِلَى دَلِيلٍ يَعْرِفُهُ الْخَصْمُ السَّائِلُ مَعْرِفَةَ الْخَصْمِ الْمُسْتَدِلِّ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 59] ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا خِلَافَ فِيهِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُمَا الدَّلِيلُ وَالْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي مَسَائِلِ التَّنَازُعِ، وَبِهَذَا [الْمَعْنَى] وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون} إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] . فقررهم بما به أقروا، وَاحْتَجَّ [عَلَيْهِمْ] بِمَا عَرَفُوا؛ حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: {فَأَنَّى تُسْحَرُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 89] ، أَيْ: فَكَيْفَ تُخْدَعُونَ عَنِ الحق بعد ما أَقْرَرْتُمْ بِهِ، فَادَّعَيْتُمْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مَرْيَمَ: 42] . وَهَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ؛ إِذْ كَانُوا يَنْحِتُونَ بِأَيْدِيهِمْ مَا يَعْبُدُونَ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصَّافَّاتِ: 95] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] .   1 في "م": يتفقا على [كل] شيء. 2 سقطت من "ط". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 قال له ذلك بعد ما ذَكَرَ لَهُ قَوْلَهُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الْبَقَرَةِ: 258] ؛ فَوَجَدَ الْخَصْمَ مَدْفَعًا، فَانْتَقَلَ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ الْمَدْفَعُ [لَا] بِالْمَجَازِ وَلَا بالحقيقية، وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 59] ؛ فَأَرَاهُمُ الْبُرْهَانَ بما لم يختلفوا فيه، وهو آدَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 65] ، وَهَذَا قَاطِعٌ في عواهم أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ تَجِدُ احْتِجَاجَاتِ الْقُرْآنِ؛ فَلَا يُؤْتَى فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يُقِرُّ الْخَصْمُ بِصِحَّتِهِ شَاءَ أَمْ أبى. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ تَجِدُ احْتِجَاجَاتِ الْقُرْآنِ؛ فَلَا يُؤْتَى فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يُقِرُّ الْخَصْمُ بِصِحَّتِهِ شَاءَ أَمْ أَبَى. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَاءَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 91] ؛ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 91] ؛ فَحَصَلَ إِفْحَامُهُ بِمَا هُوَ بِهِ عَالِمٌ. وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَكْتُبَ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". قَالُوا: مَا نَعْرِفُ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". فَقَالَ: " اكْتُبْ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ"، قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ؛ فَعَذَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ1 مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَتَبَ عَلَى مَا قَالُوا2، وَلَمْ يَحْتَشِمْ مِنْ ذَلِكَ حِينَ أَظْهَرُوا [لَهُ] النَّصَفة من عدم   1 في "د": "وإن كان هذا من حمية ... "، وفي "ط": "وإن كان قولهم ذلك من ... ". 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، 8/ 499/ رقم 4251" عن البراء بن عازب بنحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 الْعِلْمِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْرِفُونَ كَذَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ على صحة الدعوى، وهو ماتقرر فِي الْمُقَدِّمَةِ الْحَاكِمَةِ؛ فَلَزِمَ1 أَنْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً عِنْدَ الْخَصْمِ مِنْ حَيْثُ جُعِلَتْ حَاكِمَةً فِي المسألة؛ لأنها إن لم مُسَلَّمَةً لَمْ يُفِدِ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَلَيْسَ فَائِدَةُ التحام إِلَى الدَّلِيلِ إِلَّا قَطْعَ النِّزَاعِ وَرَفْعَ الشَّغَبِ2، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: "هَذَا مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ" إِنْ فُرِضَ تَسْلِيمُ الْخَصْمِ فِيهِ لِلْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ؛ صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ حَيْثُ أَتَى بِدَلِيلٍ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ فُرِضَ نِزَاعُ الْخَصْمِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدِّمَةَ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي قِيَاسٍ آخَرَ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَقَعُ النِّزَاعُ إِلَّا فِيهَا؛ فَيُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ بِدَلِيلِ اسْتِقْرَاءٍ أَوْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِذَا بَيَّنَ3 ذَلِكَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ مثلُا إِنْ كَانَ مُسَلَّمًا أَيْضًا عِنْدَ الْخَصْمِ، كَمَا جَاءَ فِي النَّصِّ: "إِنَّ كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ" 4، وَإِنْ نَازَعَ فِي أَنَّ كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ؛ صَارَتْ مُقَدِّمَةَ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَلَا بُدَّ إِذْ ذَاكَ مِنْ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى تَحْكُمُ عَلَيْهَا، وَفِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ لَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ الدَّعْوَى لِلدَّعْوَى الْأُخْرَى الَّتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُخْرَى؛ فَإِنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ: هَلْ كُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ؟ مُخَالِفٌ لِسُؤَالِهِ إِذَا سَأَلَ: هَلْ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ؟ وَهَكَذَا سَائِرُ مَرَاتِبِ الْكَلَامِ فِي هَذَا النَّمَطِ؛ فَمِنْ هُنَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى   = وليس فيه ذكر للبسملة، ووردت في حديث المِسْوَر بن مخرمة، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، 5/ 329-330/ رقم 2731، 2732"، وهو ضمن حديث طويل. 3 النَّصَفة؛ بالتحريك: اسم الإنصاف، وتفسيره أن تعطيهمن نفسك النَّصف، أي تعطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك، قاله في "لسان العرب". "ماء". 1 في "ط": "فيلزم". 2 أي: تهييج الشر. "ماء". 3 في "ط": "تبين". 4 مضى تخريجه "4/ 360". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 بِالدَّلِيلِ عَلَى حُكْمِ الْمَنَاطِ مُنَازَعًا فِيهِ، وَلَا مَظِنَّةَ لِلنِّزَاعِ فِيهِ؛ إِذْ يَلْزَمُ فِيهِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى أُخْرَى لِأَنَّا إِنْ فَعَلْنَا ذلك لم تتخلص لنا مسألة، وبطلبت فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ. فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَدِّمَتَيْنِ ها هنا لَيْسَ مَا رَسَمَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ عَلَى وَفْقِ الْأَشْكَالِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ التَّنَاقُضِ وَالْعَكْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ جَرَى الْأَمْرُ عَلَى وَفْقِهَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ فَلَا يَسْتَتِبُّ جَرَيَانُهُ عَلَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْرِيبُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى أَقْرَبِ مَا يَكُونُ، وَعَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَقْرَبُ الْأَشْكَالِ إِلَى هَذَا التَّقْرِيرِ1 مَا كَانَ بَدِيهِيًّا فِي الْإِنْتَاجِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنَ اقْتِرَانِيٍّ أَوِ اسْتِثْنَائِيٍّ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَحَرَّى فِيهِ إِجْرَاؤُهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مُخَاطَبَاتِهَا وَمَعْهُودِ كَلَامِهَا، إِذْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَقْرَبِ مَا يَكُونُ، وَلِأَنَّ الْتِزَامَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَالطَّرَائِقِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا مُبْعِدٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُوضَعْ إِلَّا عَلَى شَرْطِ الْأُمِّيَّةِ، وَمُرَاعَاةُ عِلْمِ الْمَنْطِقِ فِي الْقَضَايَا الشَّرْعِيَّةِ مُنافٍ لِذَلِكَ؛ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يستلزم ذلك الاصطلاح. ومن هنا يعلم منى مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ" 2؛ قَالَ: "فَنَتِيجَةُ3 هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"، قَالَ: "وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنْ يَمْزُجَ هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ أَصْحَابِ الْمَنْطِقِ؛ فَيَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ الْمَنْطِقِ يَقُولُونَ: لَا يكون القياس ولا تصح   1 في "ماء": "التقريب". 2 مضى تخريجه "4/ 360". 3 في مطبوع "العلم" "3/ 63، فقرة قم 937": "فإن نتيجة ... ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 النتيجة إلا بمقدتين، فَقَوْلُهُ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ" مُقَدِّمَةٌ لَا تُنْتِجُ بانفرادها شيئًا ... 1. وهذا وإنت اتفق لهذا الأصولي ها هنا2 وَفِي مَوْضِعٍ أَوْ مَوْضِعَيْنِ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ فِي سَائِرِ أَقْيِسَتِهَا، وَمُعْظَمُ طُرُقِ الْأَقْيِسَةِ الْفِقْهِيَّةِ لَا يُسْلَكُ فِيهَا هَذَا الْمَسْلَكُ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَذَلِكَ أَنَّا [مثلُا] 3 لَوْ عَلَّلْنَا تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّفَاضُلَ فِي البُرّ بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لَمْ نَقْدِرْ أَنْ نَعْرِفَ هَذِهِ الْعِلَّةَ إلا ببحث4 وتقسيم، فإذا5 عرفناها؛ فللشافعي   1 في مطبوع "المعلم" "3/ 64" بعد كلمة "شيئًا" ما نصه: وهم يسمون اللفظة الأولى من المقدمة موضوعًا، واللفظة الثانية محمولًا، بمعنى أن اللفظة الأولى وضعت لأن تحمل الثانية عليها؛ فيكون المحمول في المقدمة الأولى هو الموضوع في المقدمة الثانية، وتكون النتيجة موضوع المقدمة الأولى ومحمول الثاني، فيصير كل مسكر حرام، ويجعل أصحاب المنطق هذا أصلًا يسهلون به معرفة النتائج والقياس، وهذا وإن اتفق ... ". 2 أي: في نظم هذا الحديث الذي جاء على رسم المنطق مصادفة. "د". 3 سقطت من النسخ المطبوع، وهي في الأصل و"ط"، وعند المازري في "المعلم" "3/ 64". 4 أي: عن الصفات اللاحقة للبُرِّ، وتقسيم لها بين ما يصلح علة وإمارة شرعية على حرمة التفاضل وما يصلح، وهذا هو المعبر عنه بالسبر والتقسيم عندهم، وبعد معرفتها بهذا الطريق يستوي أن تجعلها حدًا أوسط، ونصوغ الدليل على طريقة أهل المنطق، وألا نجعلها كذلك؛ فنعبر بأي عبارة، فنقول مثلُا: السفرجل ربوي لأنه من المطعومات، والموضع يستمد من تعريف الدليل عند كل من الأصوليين والمنطقيين ومعرفلة النسبة بينهما باعتبار التحقق والوجود، والرد المشار إليه ممكن كما بسطوه في شرح قول ابن الحاج: "ولا بد من مستلزم للمطلوب حاصل للمحكوم عليه، فمن ثم وجبت المقدمتان". فقالوا: إن هذا ظاهر على الاصطلاح المنطقي، أما على الأصولي الذي يقول: إن الدليل هو المفرد كالعالم مثلُا، فإنما تجبان فيه من حيث يتعلق به النظر بالفعل، ويكون معنى الاستلزام حينئذ المناسبة المصححة للانتقال. "د". 5 في "د": "فإذ"، وفي الأصل و"ف" و"م" و"ط" و"ماء" ما أثبتناه، وكذا في "المعلم" "1/ 64" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 أَنْ يَقُولَ حِينَئِذٍ: كُلُّ سَفَرْجَلٍ مَطْعُومٌ، وَكُلُّ مطعوم ربوي؛ فيكون النَّتِيجَةُ السَّفَرْجَلُ رِبَوِيٌّ"1. قَالَ: "وَلَكِنْ هَذَا لَا يُفِيدُ الشَّافِعِيَّ فَائِدَةً؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَ هَذَا وَصِحَّةَ هَذِهِ النَّتِيجَةِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا عَرَفَهَا مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ عِبَارَةً يعبر بها مَذْهَبِهِ؛ فَجَاءَ بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ"3. قَالَ: وَلَوْ جَاءَ بِهَا عَلَى أَيِّ صِيغَةٍ أَرَادَ مِمَّا يُؤَدِّي مِنْهُ مُرَادَهُ4؛ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهَا"5. قَالَ: وَإِنَّمَا6 نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ لَمَّا أَلْفَيْنَا بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ صَنَّفَ كِتَابًا أراد أن يرد فيها أُصُولَ الْفِقْهِ لِأُصُولِ عِلْمِ الْمَنْطِقِ"7. هَذَا مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ مِنَ8 التَّنْبِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْتِزَامِ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ فِي تَقْرِيرِ الْقَضَايَا الشَّرْعِيَّةِ، وَفِيهِ9 أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْحَاكِمَةَ عَلَى الْمَنَاطِ إِنْ لَمْ يكن مُتَّفَقًا عَلَيْهَا مُسَلَّمَةً عِنْدَ الْخَصْمِ؛ فَلَا يُفِيدُ وضعها دليلًا.   1 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64". 2 في مطبوع "المعلم" "3/ 64" "ما يفيد ... ". 3 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64". 4 في مطبوع "المعلم": "مما تؤدي عنه مراده". 5 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64". 6 في "م": "وإنا" 7 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64". 8 أي: حيث قال "فالشافعي ... إلخ". "د". 9 أي: حيث قال "ولكن هذا لا يفيد الشافعي شيئًٍا". "د". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 ولما كان قوله عليه الصلاة نالسلام: "وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ" 1 مُسَلَّمًا؛ لِأَنَّهُ نَصُّ النَّبِيِّ؛ لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ الْمُخَالِفُ، بَلْ قَابَلَهُ بِالتَّسْلِيمِ، واعترض القاعدة بعدم2 الطراد، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ، لَا أَنَّهُ قَصَدَ قَصْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْطِيِّ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] ؛ لِأَنَّ "لُو" لِمَا سَيَقَعُ3 لِوُقُوعِ غَيْرِهِ؛ فَلَا اسْتِثْنَاءَ لَهَا4 فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَصْدًا، وَهُوَ مَعْنَى تَفْسِيرِ سِيبَوَيْهِ5، وَنَظِيرُهَا6 "إنْ"؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ ارْتِبَاطَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ فِي التَّسَبُّبِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهَا فِي صَرِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ فَلَا احْتِيَاجَ إِلَى ضَوَابِطِ الْمَنْطِقِ فِي تَحْصِيلِ الْمُرَادِ فِي الْمَطَالِبِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى- وَاللَّهُ أعلم- أشار الباجي في "أحكام الفصول"7   1 مضى تخريجه "4/ 360". 2 أي: القائلة: لا تصح النتيجة ... إلخ. "د". 3 عبارة سيبويه: "لما كان سيقع لوقوع غيره". "د". 4 أي: فلا يؤتى بعدها بقضية استثنائية لنقيض التالي حتى يرفع المقدم، ولا لعين المقدم ليثبت التالي. "د". 5 في كتابه "الكتاب" "2/ 332". 6 أما المناطقة؛ ففرقوا بينهما بأن استعمال "لو" لما يستثنى فيه نقيض التالي؛ لأنها وضعت لتعليق العدم بالعدم، واستعمال "إن" لما يستثنى فيه عين المقدم؛ لأنها وضعت لتعليق الوجدود بالوجود، والله أعلم. "د". 7 ففيه "ص529-531، فقرة رقم 567، 568" ما نصه: "وقد زعمت الفلاسفة أن القياس لا يصح ولا يتم من مقدمة واحدة، لا يكون عنها نتيجة، وإنما ينبني القياس من مقدمتين فصاعدًا؛ إحداهما قول القائل: "كل حي قادر" والثانية: "كل قادر فاعل"، والمقدمة عندهم مقال موجب شيئًا لشيء أو سالب شيئًا عن شيء؛ فالموجب كقولنا: "كل حي قادر"، والسالب كقولنا: = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 حِينَ رَدَّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ لَا نَتِيجَةَ إِلَّا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، وَرَأَى أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تُنْتِجُ، وَهُوَ كَلَامٌ مُشْكِلُ الظَّاهِرِ؛ إِلَّا إِذَا طُولِعَ بِهِ هَذَا الْمَوْضِعُ فربما استقام في النظر1.   = "كل حي ليس بميت"، وهذا ليس من القياس بسبيل ولا له به تعلق. وذلك أننا قد بينا أن القياس عند أهل النظر وفي مقتضى اللغة إنما هو حمل أمر على أمر بوجه يجمع بينهما فيه ويسوي بينهما في الحكم لأجله، وقد دللنا على ذلك، وإذا كان ذلك وجب أن يكون ما قالوه ليس من القياس بشيء، وإنما هو ضم قول إلى قول يقتضي أمرًا من الأمور، وهو موجب ضم القولين ومقتضاه من غير حمل شيء على شيء ولا قياسه عليه، وما سموه نتيجة، فإنما هو موجب ضم أحد القولين إلى الآخر. وما يبين ذلك اتفاقنا نحن وهم على أن قولنا: "زيد حي" يقتضي أنه ليس بميت، وينتج منه سلب الموت عنه، ومع ذلك؛ فليس بقياس، وكذلك قولنا: "زيد عالم" ينتج منه نفي الجهل عنه، وليس بقياس. ومما يدل على ذلك أنه قد تنتج لنا القسمة الصحيحة للأمر العام شيئًا معلومًا من غير أن تكون القسمة المنتجة من مقدماتهم ولا معدودة في مقاييسهم، وذلك أننا إذا قلنا: "الموجود قسمان: قديم ... "؛ علم كل سامع أن القسم الآخر ليس بقديم، وتنتج هذا من جهة القسمة وتحديد أحد القسمين، وهذا بين في فساد ما ذهبوا إليه. ولولا من يعتني بجهالاتهم من الأغمار والأحداث؛ لنزهنا كتابنا عن ذكر الفلاسفة، ولكن قد نشأ أغمار وأحداث جهال عدلوا عن قراءة الشرائع وأحكام الكتاب والسنن إلى قراءة الجهالات من المنطق، واعتقدوا صحتها، وعولوا على متضمنها دون أن يقرؤوا أقوال خصومهم من أهل الشرائع الذين أحكموا هذا الباب وحققوا معانيه، وعدتهم الملحدة مثل الكندي والرازي وغيرهما الذين يترجمون كتبهم بأقوال تغر من لا علم له بكتبهم وأقوالهم ومذاهبهم؛ فيقولون: "إنا نثبت صانعًا يفعل الطبائع في الأجسام، ثم الطبائع بعد ذلك تفعل العل والأغراض والأمراض"؛ فسهلوا على الأغمار باب الكفر، وجعلوا لهم سترًا وجنة عن عوام الناس، ومن لا خبر له بما تؤول إليه أقوالهم، ولو أن هؤلاء الممتحنين بهذه الطريقة تصفحوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال المتكلمين من المسلمين والفقهاء وذوي الأفهام؛ لبان لهم بأدنى نظر الحق، وتبين لهم الصدق، والله المستعان". 1 في "ط": "فيه هذا النظر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 وَقَدْ تَمَّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ بِفَضْلِ اللَّهِ إِنْجَازُ ذَلِكَ الْمَوْعُودِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ أَشْيَاءُ لَمْ يَسَعْ إِيرَادُهَا؛ إِذْ لَمْ يَسْهُلْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ السَّالِكِينَ مُرَادُهَا، وَقَلَّ عَلَى كَثْرَةِ التَّعَطُّشِ إِلَيْهَا وُرَّادُهَا فَخَشِيتُ أن لا يردوا مواردها وأن لا يَنْظِمُوا فِي سِلْكِ التَّحْقِيقِ شَوَارِدَهَا؛ فَثَنَيْتُ مِنْ جِمَاحِ بَيَانِهَا الْعِنَانَ، وَأَرَحْتُ مِنْ رَسْمِهَا الْقَلَمَ وَالْبَنَانَ، عَلَى أَنَّ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ رُمُوزًا مُشِيرَةً، وَأَشِعَّةً تُوَضِّحُ مِنْ شَمْسِهَا الْمُنِيرَةِ، فَمَنْ تَهَدَّى إِلَيْهَا رَجَا بِحَوْلِ اللَّهِ الْوُصُولَ، وَمَنْ لَا؛ فَلَا عَلَيْهِ إِذَا اقْتَصَرَ التَّحْصِيلُ عَلَى الْمَحْصُولِ؛ فَفِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ تَحْقِيقِ عِلْمِ الْأُصُولِ عِلْمٌ يَذْهَبُ بِهِ مَذَاهِبَ السَّلَفِ، ويقِفُه1 عَلَى الْوَاضِحَةِ إِذَا اضْطَرَبَ النَّظَرُ وَاخْتَلَفَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يُعِينَنَا عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّهِ، وَأَنْ يُعَامِلَنَا بِفَضْلِهِ وَرِفْقِهِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَسَلَامٌ عَلَى عباده الذين اصطفى2.   1 في الأصل و"ف": "ويفقه". 2 من الأصل وحده. قال "د": "والحمد لله الذي أنعم بالتوفيق لهذه الصبابة في خدمة أصول الدين، والصلاة والسلام على الرسول الأكرم وكافة الآل والصحابة وسائر التابعين، والتوجه إلى الله في القبول؛ فإنه غاية المأمول، ونهاية المسؤول، تم بتوفيقه تعالى الجزء الرابع والأخير من كتاب "الموافقات" نفع الله به المسلمين، وأثاب مؤلفه وشارحه وطابعه وناشره، وكل من أدى فيه خدمة للعلم والدين، وأعان على تيسيره للطالبين، آمين، والحمد لله رب العالمين". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 .....................................................................................   = وجاء في نهاية الأصل: "تم جميع الثاني من كتاب "الموافقات"". وفي "ف" ما نصه: "تم هذا التعليق بعون الله وتوفيقه مع العناية بتصحيح الأصل من الجزء الثالث إلى هنا حسبما أشرنا إليه الفهم على يد أفقر العباد وأحوجهم إلى مولاه الرؤوف: محمد بن حسنين بن محمد مخلوف العدوي المالكي عفي عنه، وذلك بمصر، يوم الخميس 8 شوال، سنة 1341هـ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم". وتعليقات "ف" عبارة عن تتمة لما كتبه "خ"، والموجود في آخر طبعته ما نصه: "قد تم بعون الله وقوته طبع الجزء الثاني من "الموافقات"، يليه إن شاء الله الجزء الثالث مفتتحًا بالأدلة الشرعية". وفي نهاية "م" ما رسمه: "وقد تم – والحمد الله- الغرض المقصود، وحصل -بفضل الله- إنجاز ذلك الموعود، وعلى أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها؛ إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها، وقل على كثرة التعطش إليها ورادها، فخشيت أن لا يردوا مواردها، وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها؛ فثنيت من جماح بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبنان، على أن في أثناء الكتاب رموزًا مشيرة، وأشعة توضح من شمسها المنيرة، فمن تهدي إليها رجا بحول الله الوصول، ومن لا؛ فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول، ففيه –إن شاء الله- مع تحقيق علم الأصول، علم يذهب به مذاهب السلف، ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف؛ فنسأل الله الذي بيده ملكوت كل شيء أن يعيننا على القيام بحقه، وأن يعاملنا بفضله ورفقه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى". قال أبو عبيدة عفى الله عنه: فرغت من التعليق على هذا السفر العظيم –بعون الله وكرمه- وضبط نصه، وتخريج أحاديثه وآثاره، وتوثيق ما استطعت من نصوصه، ومراجعة مادته، في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1417هـ، وكان البدء فيه في أوائل شعبان سنة 1415هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وجزى الله مؤلفه وكل من خدمه، وأعان على نشره، خير الجزاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 تقريظ الموافقات : جاء في آخر طبعة "ف" ما نصه: الحمد الله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، أما بعد؛ فيقول مدير إدارة الطباعة المنيرية بمصر المحمية الفقيرة إلى مولاه الغني: محمد منير عبده آغا الدمشقي الأزهري: قد تم بعون الله وحسن توفيقه طبع كتاب "الموافقات في أصول الفقه" للعالم الإمام المجتهد الأصولي النظار أبي أسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، المتوفى سنة "790" هجرية. وقد بذلت الوسع في تصحيحه؛ فكم من ليالٍ سهرتها، وأسفار راجعتها، وفكر أجلته، وجهد بذلته؛ حتى بدا كالعروس جللها الوقار، أو الشمس ساطعة في رابعة النهار، ومع ذلك لا أبرىء نفسي؛ فالذكي من حسبت غلطاته، والعاقل من عدت سقطاته، والعصمة بيد الله، ومن الله أرجو الثواب، وإليه المرجع والمآب. وقد قرظه صديقنا الفاضل صاحب الإمضاء؛ قال: بموافقات الشاطبي علم الأصول ... أضحى على طلابه سهل الحصول ما حاولوا وصلًا بها إلا وقد ... فتحت لهم في الحال أبواب الوصول جادت بها أفكار عالم مغرب ... فغدت كمثل السحر تأخذ بالعقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 جمعت لباب العلم من أبوابه ... وأراحت الألباب من كل الفضول لم ينح نحو الشاطبي مؤلف ... فيما رأينا من تآليف الفحول منهم مخل بالمراد ومسهب ... والشاطبي أتى بما يشفي الغليل كم ألف العلما وفند قولهم ... والشاطبي مصدق فيما يقول نقد المسائل غثها وسمينها ... فجنا السمين ورد ما يحكمى بقيل آثاره في الكون مشرقة وهل ... يحتاج ضوء الزبرقان إلى دليل ذاك ابن أندلس وخدن2 علومها ... في كل مسألة له باع طويل غرناطة الغراء ما أنفكت عليْـ ... ـه حزينة والغرب من ذاك القبيل إن غاب قطب زمانه فعلومه ... منبثة في الناس جيلًا بعد جيل ورد المناهل صفوها حتى ارتوى ... فغدا يؤلف في الفروع وفي الأصول لا سيما هذا الكتاب المقتنى ... في طيه غرر المسائل والفصول بمقدمات زان حلية صدره ... وبنى مقاصده على أصل أصيل يغنى اللبيب بعلمه عن غيره ... وبما تمس إليه حاجته كفيل قد سد أبواب اعتراض بالتحر ... ي في كتابته فمن أين الدخول فعلامَ يعترض الممتنع طرفه ... أعلى كلامٍ أم على شيخ جليل فالوصف والموصوف كل منهما ... في ذاته فرد فليس له مثيل هذا كتاب لا محالة يقتنى ... فخذوه بالثمن الكثير أو القليل فعدولكم عن مثل هذا آفة ... ولمثلكم لا ينبغى عنه العدول سمح الزمان به ولم يبخل على ... من ظن أن وجود هذا يستحيل لم يأت إلا ناسخًا فكأنه ... وحي أتى يومًا بواسطة الرسول أجدى بطبع فائق نفعًا فما ... لذوي النهي إلا التلقي بالقبول   1 القمر. 2 أي: سرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 هذا وإن العلم يشكر سعي من ... طبع الكتاب وخصه باسم السليل1 ذاك الهمام محمد أعني منيرًا ... من أنار بعزمه هذا السبيل في طبعه لم يأل جهدًا ذلك الـ ... ـعلامة السلفي ذو المجد الأثيل وسليله للطبع أكرم من دعا ... بلسان حال عابد الهادي2 النبيل يا حبذا العمل الذي يبقي لصا ... حبه جميل الذكر والأجر الجزيل متعت طرفي في محاسن طبعه ... فكأنه في روضةٍ غنَّا يجول وبه انتهى أدبي إلى تاريخه ... سفر جميل خص بالطبع الجميل 1341 هجرية 340 83 690 114 114 الحسن أحمد البوزيدي الحسني الجزائري من علماء الأزهر   1 أي: نجل ناشر هذا الكتاب. 2 زيادة الألف في عبد بعد العين للضرورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 الاستدراكات : "استدراك 1": ومن لطيف قول أبي إسحاق الإسفراييني "ت 418هـ": "القول بأن كل مجتهد مصيب أوله سفسطة، وآخره زندقة". كذا في "السير" "17/ 355". وانظر: "الاختلاف وما إليه" "ص40 وما بعدها". "استدراك 2": ألمح المصنف إلى الفرق بين الخلاف والاختلاف، والأول ما كان عن هوى … والآخر ما صدر عن المجتهدين، وهذه التفرقة محض اصطلاح للمصنف، لم يلتزمه العلماء في مدوناتهم، فهم يذكرونهما على سواء. انظر مبحثًا مبسوطًا في بيان ذلك "مجموعة بحوث فقهية" لعبد الكريم زيدان "ص273-303". "استدراك 3": وري مرفوعًا، عند الطبراني في "الكبير" "12/ رقم 13567" - ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 242-243" - والقضاعي في "الشهاب" رقم "311"، وابن طولون في "الأربعين في فضل الرحمة والراحمين" "رقم 29" وهو موضوع، كما في "الدر الملتقط" "22" و"الأسرار المرفوعة" "رقم 130". "استدراك 4": انظر الجمع بينهما في: "غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن الملقن "ص268-270"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "1/ 121-122"، و"العقيدة الطحاوية" "ص169-174". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 الموضوعات والمحتويات : الموضوع الصفحة القسم الخامس من الموافقات 5 كتاب الاجتهاد 7 أطراف النظر في كتاب الاجتهاد الثلاثة 7 الأول: يتعلق بالمجتهد من جهة الاجتهاد 7 الثاني: يتعلق بفتوى المجتهد 7 الثالث: يتعلق بإعمال قوله والاقتداء به 7 الأول: المجتهد والاجتهاد 9 المسألة الأولى: الاجتهاد ضربان: ما يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا والثاني ما لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَتَّى يَنْقَطِعَ أَصْلُ التكليف 11 تعريف الاجتهاد 11 هل تخلو العصور من المجتهدين 11 الاجتهاد الذي لا ينقطع هو المتعلق بتحقيق المناط 12 تحقيق المناط وتعريفه مع توضيح له 12 تعريف العدالة الشرعية المطلوبة في الراوة والعلماء 13 أقسام العدالة 13 الشهادات والوصايا للفقراء 13-14 الفقر: تعريفه عند المالكية 13-14 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 النفقات 14 التقليد أو الاجتهاد في تحقيق المناط 14 عمومية الشريعة 14 من أحكام القضاء 15-16 علم القضاء وكلمة جامعة 16 احتياج كل مكلف إلى نوع اجتهاد يخصه 16 السهو في الصلاة 16 جزاء الصيد للمحرم 17 اعتبار المثل في الأنعام وتوضيح بالأمثلة 17 يدخل في الاجتهاد ما ليس منه في عرف الفقهاء -أمثلة 17 وذكر اختلاف العلماء والفقهاء في عده منه أو لا 18 الامتثال في التكليف 18 الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ ينقطع أماكن وقوع الاجتهاد -أنواعه 19 الأول: تنقيح المناط 19 تعريفه أصوليًا ولغويًا وتوضيح له 19 تقسيم تنقيح المناط باعتبار طرق الحذف أربعة أقسام 21-22 إنكار إبي حنيفة للقياس في الكفارات 21 الثاني: تخريج المناط 21 توضيح ذلك بالأمثلة 21 تعريفه المناط؛ لغويًا وأصوليًا 21-22 الثالث: نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر 22 وهو ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَنْوَاعِ لَا إلى الأشخاص 23 والثاني: مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ مَنَاطٍ فِيمَا تَحَقَّقَ مناط حكمه 23 تحقيق المناط وتقسيم آخر له؛ تحقيق عام، وتحقيق خاص من العام 23 توضيح القسمين 23-24 التقوى والعلم والحكمة من القسم الثاني 24-25 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 النَّظَرُ فِيمَا يَصْلُحُ بِكُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ بحسب وقت دون وقت .... 25 صحة هذا الاجتهاد ودخوله تحت عموم تحقيق المناط 26 مثال عن سؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أجوبة مختلفة والمثال عن أفضل الأعمال أو بدء النبي صلى الله عليه وسلم بذكر أفضل الأعمال 26-31 ومثال آخر عن تولي الأمور المالية والحكم وغيرها 32-35 الوسوسة 34 ذكر جملة من كلام السلف، الصحابة ومن بعدهم في تبيان هذا الأصل وهو فقه أحوال المكلفين 36 نقل اتفاق الناس على هذا الأصل -أيضًا 37-38 دعوى التفريق بين الاجتهاد والسابق وغيره من أنواع الاجتهاد 38-41 المسألة الثانية: أوصاف من تحصل له درجة الاجتهاد 41 الأولى: فهم مقاصد الشريعة على كمالها 41 ذكر أن أكثر الأصوليين على عده الوصف الأول سببًا لا شرطًا 41 تعريف السبكي للمجتهد 41-42 الثانية: التَّمَكُّنُ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِ فِيهَا 42 الشريعة مبنية على اعتبار المصالح 42 جواز تجزئ الاجتهاد 43 الثاني كالخادم للأول 43 حفظ علوم الاجتهاد وأدواته أو معرفتها والتمكن من الإطلاع عليها 44 فصل: لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ عِلْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الاجتهاد على الجملة وتفصيل ذلك 45 التفريق بين العلم الذي يكتمل به وصف الاجتهاد وما سوى ذلك 45 العلم الذي لا يخل بوصف الاجتهاد أن يكون مقلدًا 45-46 دليل عدم لزوم الاجتهاد في كل العلوم التي تتعلق بالوصف المكتمل 46 الأول: لزوم ذلك عدم وجود مُجْتَهِدٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ مِمَّنْ سِوَى الصَّحَابَةِ 46 التمثيل بالأئمة الأربعة 46 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 التمثيل بحكم الحاكم 47 الثاني: أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عِلْمٌ مستقل بذاته، وَلَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ عِلْمٍ أَنْ تُبَرْهَنَ مقدماته. 47 مناقشة المصنف في الدعوى الأولى في هذا الدليل 47 توضيح المصنف لما يقول بالأمثلة من الشرع وغيره 47-49 البناء على التقليد 48 اجتهاد الكافر في الشرع، واشتراط العدالة والإيمان 48-49 مقدمات الاجتهاد والتقليد فيها 48-50 برهان "الخُلْف" 49-50 الثالث: أَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ أَنْ يَعْرِفَهُ فَضْلًا أن يكون مجتهدًا فيه، وهو "تنقيح المناط" 50 مناقشة المصنف بكلامه 50 وتأييد له وتقوية في جانب آخر 50 شرطية الْعِلْمِ بِالْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ لَا شَرْطٌ في صحة الاجتهاد 51-50 المطلب الثاني في هذا الفصل: فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه 52 اللغة العربية وعلومها وما المطلوب منها وحدوده وغير المطلوب وفوائد أخرى 52-57 المطلب الثالث: لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعُلُومِ أن يكون المجتهد عالمًا بها 57 المسألة الثالثة: الشريعة في أصولها وفروعها ترجع إلى قول واحد وإن كثر الخلاف 59 تفسير هذا القول بأنه وضع حكمين متخالفين في موضع واحد 59 أدلة ذلك الأول: أدلة القرآن ونصوصه نفي أن يقع فيه الاختلاف البتة 59 توضيح معنى الاختلاف في الشرع وعلى أي صورة يقع 59 شرح لمجموعة من الأدلة القرآنية على ذلك المعنى 60-ب61 الثاني: أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ أَثْبَتُوا فِي الْقُرْآنِ والسنة الناسخ والمنسوخ على الجملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 وتوضيح علاقة ذلك بالاختلاف 61-62 الثالث: لَوْ كَانَ فِي الشَّرِيعَةِ مَسَاغٌ لِلْخِلَافِ لَأَدَّى إلى تكليف ما لا يطاق 62 الرابع: أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ؛ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِعْمَالُ أَحَدِ دَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي تَرْجِيحِهِ عَلَى الْآخَرِ 63-64 الخامس: أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُتَصَوَّرُ، لِأَنَّ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ إِذَا قَصَدَهُمَا الشَّارِعُ مَثَلًا لَمْ يَتَحَصَّلْ مَقْصُودُهُ 64 معارضة: أدلة وقوع الاختلاف في الأمة 65 أولًا: وجود المتشابهات الحقيقية لا الإضافية الاجتهادية 65 ثانيًا: الْأُمُورُ الِاجْتِهَادِيَّةُ الَّتِي جَعَلَ الشَّارِعُ فِيهَا لِلِاخْتِلَافِ مجالًا 65 ثالثًا: اختلاف العلماء الراسخين والأئمة المتقين: هل كل مجتهد مصيب 66 تفصيل هذا القول 66-69 الجواب على الاعتراضات الثلاثة واحدًا واحدًا 69 هل المصيب في الاجتهاد واحد 72 حجية قول الصحابي وتقليده 74 هل الاختلاف رحمة 75 اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين 76 تخير المقلد لأقوال المجتهدين 77 فصل: قواعد وفوائد هذا المبحث وهو رجوع الشريعة إلى قول واحد 79 مِنْهَا: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي الخلاف 79-81 توضيح معنى تخيير المقلد هنا وتفريقه عن معاني أخرى عند غير المصنف 79 تعريف التقليد 80 مساوئ تخير المكلف في الخلاف 80-82 التحذير من اتباع الهوى وأنه حكم بالطاغوت 82 تتبع رخص المذاهب 82 إسقاط التكليف 83 اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح 83 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 فصل: ومن مساوئ هذا الأصل ما وقع من كثير من مقلدة الفقهاء بإفتاء قَرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ، بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ غيره من الأقوال 84 ذكر مجموعة من الأمثلة وتوضيحها 84-91 بيان أَنَّ الْفَقِيهَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض 91 فصل: ازدياد الأمر وشدته، حَتَّى صَارَ الْخِلَافُ فِي الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا فِي حجج الإباحة 93 أمثلة على فحش هذا القول مع تبيان مساوئه مدرجة 93 تقسيم الشخص المتخير بالقولين بمجرد موافقة الغرض: 94 إما أن يكون مفتيًا: فإن أفتى بالتخيير فقد أفتى بقول ثالث اي لم يسبق إليه وهو قائم مقام الحاكم 95-96 وإن كان عاميًا فقد اتبع الهوى 96 فصل: تتبع رخص المذاهب 97 شبهات ونقضها 98-9 فصل: استجازة تتبع الرخص في مواطن الضرورة أو إلجاء الحاجة 99 شبهات واستفتاءات وردها من المصنف مع ملاحظة رد المصنف المبني على المذهب 100-101 فصل: مفاسد تتبع رخص المذاهب 102 ذكر جملة منها والتأكيد على انخرام قانون السياسة الشرعية في شرح لكلام المصنف 103 فصل: ومما ينبني على أصل مسألة الشريعة قول واحد 104 الأخذ بأخف القولين أو أثقلهما 104 استدلال من قال الواجب الأخذ بالأخف 104 والجواب عن الاستدلالات السابقة 105 فصل: شرح معنى مراعاة الخلاف في المذهب المالكي 106 وأنه شبهة لتتبع الرخص بذكر أمثلة قوية في المذهب 106-107 تفنيد هذه الشبهة بكلام متين 107-108 ودليل أن المسألة مختلف فيها أيضًا وتفصيل الرد في ذلك من وجهين على شبهة للباجي 109-112 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 فصل: وينبني على المسألة: هل للمجتهد أن يجمع بين دليلين بوجه من وجوه الجمع حتى يعمل لمقتضى كل واحد منهما فضلًا أو تركًا 112 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَحَالُّ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرِ هِيَ مَا ترددت بين طرفين وضح كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصْدُ الشَّارِعِ فِي الْإِثْبَاتِ في أحدهما والنفي في الآخر 114 بداية التدليل على صحة المسألة 114 خلو الوقائع من الأحكام 114 المتشابهات 114-116 مراتب الظنون 115 أمثلة على هذه المسألة 117 بيع الغرر وصوره وما لا يعتبر منه في البيوع 117-118 الزكاة في الحلي 118 الشهادات 118 العبد والملكية 118 التيمم ووجود الماء أثناء الصلاة 119 الثمر وبيع الشجر 119 الإجماع وصوره 119 البدع المكفرة وغير المكفرة 119-120 صفات الكمال لله 121 فصل: إتقان هذا الفن "علم مواقع الخلاف" مدخل للاجتهاد والتبحر فيه 121 أهمية علم الخلاف في الترجيح والآثار الواردة في ذلك وتخريجها 122 المسألة الخامسة: شرط الاجتهاد بالاستنباط من النصوص فهم اللغة العربية وأما المصالح والمفاسد فلا تشترط 124 الاجتهاد القياسي وتخريج المناط 125 المذاهب المعروفة والتفريع على فتاوى أئمتها 126 الاجتهاد القياسي واللغة العربية 126 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 المسألة السادسة: الاجتهاد بتحقيق المناط لا يحتاج إلى العلم بمقاصد الشارع عمومًا وإنما يلزم المعرفة بمقاصد ذلك المناط 128 لوازم اشتراط ذلك من مفاسد 129 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: 131 الِاجْتِهَادُ الْوَاقِعُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَرْبَانِ: 131 الأول: الصادر عن أهله وهو المعتبر 131 الثاني: الصادر عن غير أهله وهو غير معتبر 131 المسألة الثامنة: الاجتهاد الصادر عن أهله، يعرض فيه الخطأ 132 أسباب الخطأ العارض 132 زلة العالم والتحذير منها والأخبار الواردة في ذلك وتخريجها 133 زلة العالم في الكليات وفي تحقيق المناط 135 الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع 135 فصل: أمور تنبني على ما سبق 136 زلة العلم لَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهَا مِنْ جِهَةٍ وَلَا الْأَخْذُ بها تقليدًا له 136 احترام قدر العلماء مع خطئهم 136-137 مناظرة عبد الله بن المبارك أهل الكوفة في النبيذ وفيها العبرة من المسألة 137-138 نقض قَضَاءُ الْقَاضِي إِذَا خَالَفَ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ 138 فَصْلٌ: وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهَا خِلَافًا في المسائل الشرعية 138 الأقوال المعتبرة في الخلاف وغير المعتبرة 139 فصل: أسباب علمية لاختلاف العلماء 140-141 المسألة التاسعة: 142 الاجتهاد الصادر ممن يعتد بصاحبه وفيه مخالفة 142 تكون المخالفة في الجزئيات وكذلك في الكليات 142 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 الاحتجاج بتغير الأحكام الشرعية على أن كل الأحكام عدا العبادات قابلة للتغير 142 محامل هذا الانحراف الخطير والتصدر المتهور 143 ذكر التشابه في الصفات 144-145 مناقشة المصنف وأحد شراح الكتاب فيما ذهبا إليه من نفي الصفات 145 ذكر افتراق الأمم، وافتراق هذه الأمة 145 فصل: نصوص قرآنية وأحاديث نبوية في وصف بعض أهل البدع: 148 ذكر الخوارج في الحديث النبوي 148-149 الأول: اتِّبَاعُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا نظر في مقاصده 149 الثاني: قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان 150 ذكر أن هذين سببهما اتباع المتشابهات 150 تكفيرهم للصحابة وبدع أخرى لهم 150-151 سبب عدم الإكثار من نصوص تعيين أهل البدع 151 ستر الأمة، وفضح الأمم السابقة 152 اختلاف الأمة وأهل البدع 154 كشف فضائح أهل البدع 155-156 الجمع بين أحوال الكشف وأحوال الستر على أهل البدع 157 اختلاف مراتب البدع 158 تنزيل الأحكام على أهل البدع، وتعيين دخول بدع تحت معاني النصوص 159 فصل: علامات وخواص أهل البدع: 159 الأول: الفرقة والتحول إلى شيع 160 الصحابة اختلفوا ولم يتفرقوا 160 خلاف الصحابة في إرث الجد مع الإخوة وتخريج ذلك 160-161 وبيع أمهات الأولاد وتخريج ذلك 162 والفريضة المشركة -مع تبيانها وتخريجها 162 وأشياء أخرى 162-163 دعوة الإسلام إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف ومخالفة أهل البدع لذلك 164 الخاصية الثانية: اتباع المتشابهات 165 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 الخاصية الثالثة: اتباع الهوى 165 ولا يعرفها غير صاحبها 165 سرد مجموعة من الآيات على علامات أهل البدع التفصيلية 166 والأحاديث 167 فصل: هل كل حق مطلوب نشره 167 العلوم التي لا يجب نشرها 167 تعيين فرق المبتدعة 167 المتشابهات 167-168 عدم تعليم المبتدئ حظ المنتهي 170 مثل طلاق الدور 171 سؤال العوام عن علل الفقه 171 ضابط المسألة 172 فصل: عدم خروج الفرق عن حمى الأمة 172 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: 177 النَّظَرُ فِي مَآلَاتِ الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا كَانَتِ الْأَفْعَالُ مُوَافِقَةً أَوْ مُخَالِفَةً 177 ربط المسألة هنا بما سبق في مسأئل الأسباب والمسببات 177 - ترسيم المسألة بأنه لو كان العمل غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصحلة تندفع به، ولكنه له مآل على خلاف ذلك ويقال ذلك بعكس المسألة إذا كان العمل مشروعًا لمصلحة تُسجلب أو مفسدة تُدفع والمآل على خلاف ذلك 177 هل يصح إطلاق القول بعدم المشروعية؟! 178 الدليل على صحة أصل المسألة: 178 أولًا: أن التكاليف مشروعة لمصلحة العباد الدنيوية والأخروية 178 ثانيًا: أَنَّ مَآلَاتِ الْأَعْمَالِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً شرعًا أو غير معتبرة، فإن لَمْ تُعْتَبَرْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِلْأَعْمَالِ مَآلَاتٌ مضادة لمقصود تلك الأعمال، وهو غير صحيح 179 الثالث: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ أَنَّ الْمَآلَاتِ مُعْتَبَرَةٌ في أصل المشروعية 179 سرد لمجموعة من الآيات والأحاديث وشرحها وتخريجها 179-181 الاستدلال بتحقيق المناط الخاص حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعًا لَكِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 يُنْهَى عَنْهُ لِمَا يُؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الممنوعة 181 فصل: هذا الْأَصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: 182 مِنْهَا: قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ، التي حَقِيقَتَهَا التَّوَسُّلُ بِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ إِلَى مَفْسَدَةٍ 183 الحيل والبيوع في القاعدة 183-184 التعاون على الإثم والعدوان 185 الربا 183-185 تحقيق المناط وسد الذرائع 185-186 اختلاف الشافعي ومالك في سد الذرائع وحكم الوسائل 184-186 ومنها: الحيل، وتعريفها 187 الحيل في الزكاة 187 الحيل من المنافق 188 ومنها: قاعدة مراعاة الخلاف 188-189 مراعاة الخلاف في النكاح الفاسد 188-189 مراعاة الخلاف في مسائل الغصب 189 مراعاة الخلاف في مسائل الزنا 190 أمثلة أخرى مع توضيح آخر 190-192 ومنها الاستحسان 193-194 توضيح الاستحسان 193-194 القرض الجمع بين الصلاتين في المطر وسائر الترخصات 194-195 أقسام الاستحسان 195 عودة إلى تعريف الاستحسان والعمل بأقوى الدليلين ومناقشة ذلك مع ربط ذلك بمسألة القياس والعلل 196-197 الشريكان يطآن الأمة في طهر واحد 198 - ومنها الأمور الضرورية أو الحاجية أو التكلميلية إذا اكتنفتها من الخارج أُمُورٌ لَا تُرْضَى شَرْعًا، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ التَّحَفُّظِ بِحَسَبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 الاستطاعة من غير حرج 199 السعي لطلب الرزق مع وجود الشبهة 199-200 طلب العلم وإقامة العبادات إذا كان في طريقه مناكر 200 المسألة الحادية عشرة: 201 أسباب الخلاف بين العلماء مقتبسة من كتاب "لابن السيد": أولها: الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات وأقسامها ثلاثة: 201 اشتراك في موضوع اللفظ المفرد أو في أحواله العارضة في التصرف 201 واشتراك من قبل التركيب 202 الثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز 202 وأقسامه ثلاثة: أحدهما: ما يرجع إلى اللفظ المفرد 202 صفة النور لله 203-204 ثانيهما: ما يرجع إلى إحواله 204 ثالثهما: ما يَرْجِعُ إِلَى جِهَةِ التَّرْكِيبِ 205 كَإِيرَادِ الْمُمْتَنِعِ بِصُورَةِ الممكن 205 إيراد نوع من الكلام بصورة غيره 206 الثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه 206 الرابع: دورانه بين العموم والخصوص 207 أهمية مراجعة الكتب الأصلية للوصول إلى الصواب 208 الخامس: اختلاف الرواية ولها ثمان علل تقدمت 208 السادس: جهات، الاجتهاد والقياس 208 السابع: دعوى النسخ وعدمه 208 تفصيل من كتاب "ابن السيد ذاته" 208-209 الثامن: وُرُودُ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوهٍ تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ وَغَيْرَهَا 209 المسألة الثانية عشرة: الخلاف الذي لا يعتد به وهو ضربان: الأول: ما كان خطأ مخالفًا لمقطوع به في الشريعة 210 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 الثاني: مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْخِلَافَ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ كذلك 210 وسببه الخطأ في نقل التفسير المتعدد المجتمع حول معنى واحد 210 فوائد تعدد عبارات المفسرين 210 أسباب نقل الخلاف: الأول: أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَوْ عن أحد من الصحابة أَوْ غَيْرِهِمْ، وَيَكُونَ ذَلِكَ الْمَنْقُولُ بَعْضَ مَا يشلمه اللَّفْظُ، ثُمَّ يَذْكُرَ غَيْرَ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَشْيَاءَ أخر مما يشمله اللفظ 211 الثاني: أن يذكر في النقل أشياء تنفق فِي الْمَعْنَى بِحَيْثُ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ فِيهَا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَيُوهِمُ نقلها بألفاظ مختلفة خلاف محقق 211 الثالث: أَنْ يُذْكَرَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عَلَى تَفْسِيرِ اللُّغَةِ، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي 212 مناقشة المصنف فيما جاء به من أمثلة 212 الرابع: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد 212 الخامس: يَخْتَصُّ بِالْآحَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، كَاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ بالنسبة للإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهادوالرجوع عما أفتى به إلى خلافه 213 السادس: أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ لَا فِي الحكم 214-215 السابع: أَنْ يَقَعَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِ الْوَاحِدِ عَلَى أَوْجَهٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ، وَيَبْنِي عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ خِلَافًا فِي التَّرْجِيحِ، بَلْ على توسع المعاني خاصة 215 الثامن: أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَنْزِيلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَيَحْمِلُهُ قَوْمٌ عَلَى الْمَجَازِ مَثَلًا، وَقَوْمٌ عَلَى الحقيقة والمطلوب أمر واحد، وأمثلة على ذلك 215 التاسع: أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ الظَّاهِرِ عَنْ مُقْتَضَاهُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الخارجي 216 العاشر: الْخِلَافُ فِي مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وهو متحد 217 مثال الفرض والواجب عند الحنفية 217 فصل: ما يعتد به من الخلاف يرجع في الحقيقة إلى الوفاق 218 رجوع الشريعة إلى قول واحد 218 الاختلاف راجع إلى الدوران بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين 218-219 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 أو إلى خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليها، وهو ليس خلافًا حقيقًا 218-219 التردد بين الطرفين وتحري الرد إلى أحد الطرفين وعم المجتهد 219 وجوب الموالاة والحب في الخلاف وعدم التفرق بين العلماء 220 فصل: الخلاف الحقيقي ناشء عن الهوى المضل وهو عدم تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجمل والتفصيل 221 مساوئ اتباع الهوى -وكذلك الخلاف 221 ذم البدع 221 هل نقل أقوال البدع اعتداد بخلافهم؟ 221 مجئ العلماء بها للرد عليها 222 إذا سلم أنها معتد بها في الخلاف، فلأن أصحابها غير متبعين لأهوائهم بإطلاق كلام جامع حول أهل البدع وتفصيل واقعهم 222-223 المسألة الثالثة عشرة: 224 مقدار العلم الذي إذا حصلة المجتهد توجه عليه خطاب الاجتهاد بما اراه الله 224 أحوال طالب العلم المستمر على ذلك وهي ثلاثة: 224 الأولى: أن ينبه عَقْلُهُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا حَفِظَ وَالْبَحْثِ عَنْ أسبابه 224 الثانية: أن ينتهي إلى تحقيق معنى مما حَصَلَ عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ الْبُرْهَانُ الشرعي ليحصل له اليقين 225 هل يجوز الاجتهاد لمن في هذه المرحلة؟ 225-226 أدلة المجيزين له الاجتهاد 226 أدلة المانعين 227 القياس والرأي 229-230 البيع والشرط وشبه مناظرة مفيدة 231 الثالثة: أَنْ يَخُوضَ فِيمَا خَاضَ فِيهِ الطَّرَفَانِ وَيَتَحَقَّقُ بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية 232 صحة الاجتهاد لصاحب المرحلة هذه 232 ما يطلق عليه من أوصاف 233 خواصه في هذه المرحلة 233 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 المسألة الرابعة عشرة: 234 طرف الاجتهاد الخاص بالعلماء والعام بالمكلفين 234 التكلم عن أحوال التشريع والبدء المكي وتوضيح أصوله العامة بذكر أمثلة من خصوصيات التشريع 234 الحديث عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 235-237 الحديث عن الأحوال التشريعية في المدينة مربوطة بالمكي والفرق بينهما 238 التصوف والأحوال المكية 240 فصل: التشريعات المكية 241 التصوف والعزائم 242 الورع 249 الطرف الثاني: فيما يتعلق بالمجتهد من جهة فتواه 251 المسألة الأولى: المفتي قائم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمة 253 معنى هذا القيام مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وجملة الأمور التي يقوم بها المفتي مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- 253 دليل القيام بذلك: الأول: النقل الشرعي في الحديث وتخريج النصوص 253 الثاني: أن المفتي نائب عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تبليغ الأحكام 254 الثالث: أن المفتي شارع من وجه، لأنه إما ناقل أو مستنبط 255 مناقشة المصنف دعواه هذه، وهل يطلق على المفتى "شارع"؟ 255-256 المسألة الثانية: 258 حصول الفتوى بالقول وهو معروف وبالفعل وبالأقرار 258 الفتوى بالفعل؛ ويكون بذلك من وجهين: الأول: ما يقصد به الأفهام في معهود الاستعمالن فهو قائم مقام القول المصرح به 258 أمثلة على ذلك، مع تخريجها 258-260 مناقشة المصنف لمثال أوقات الصلاة 259-260 الثاني: مَا يَقْتَضِيهِ كَوْنُهُ أُسْوَةً يُقْتَدَى بِهِ، وَمَبْعُوثًا لذلك قصدًا 260 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 توضيح معنى التأسي في الآيات 261 هل الفعل غير المقصود بفعله طلب التأسي داخل في هذا الباب؟ رأي المصنف، ومناقشته في ذلك 262 ذكر متمسك الكفار بالتأسي بالآباء 262-263 اتباع الصحابة لأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- 264 هل كون النبي -صلى الله عليه وسلم- معصومًا، يجعل فعل المجتهد في غير باب الائتساء به؟ 265 وأما الإقرار؛ فراجع إلى الفعل؛ لأن الكف فعل 265-266 قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند السلف 266 المسألة الثالثة: الفتيا لا تصح "أي لا ينتفع بها" من مخالف لمقتضى علمه "وهي مخالفة الفعل القول أو العلم" 267 عصمة الأنبياء قبل النبوة 270 هل يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الالتزام الكامل ومن أحق الناس بهذه المرتبة 272 أثر موافقة الفعل القول 273 فصل: تقليد المفتي المخالف قول فعله 274 المسألة الرابعة: المفتي عليه بحمل الناس على المعهود والوسط فيما يليق بالجمهور 276 الميل إلى التشديد عند الجمهور مهلكة 277 والميل إلى الترخيص مشي مع الهوى والشهوة 278 الخلاف هل هو رحمة؟ 278 "الأخذ بأخف القولين أو بأشدهما" 278-279 فصل: المجتهد غير المستفتي، فإن المجتهد يسوع له حمل نَفْسَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مَا هُوَ فَوْقَ الْوَسَطِ مع تنبيه للناس أنه يعمل بالأشد أو يخفي، لعله يقتدي به فيه 279 من فقه إخفاء السلف للأعمال فصل: اتباع المذهب الجاري على الاعتدال 280 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 الرأي والقياس بين النفي والغلو في الإثبات 280 الطَّرَفُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِعْمَالِ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ المقتدي به، وحكم الاقتداء به 281 المسألة الأولى: وجوب سؤال المقلد لعالم في ما يعرض له من مسائل دينية 283 التقوى والعلم 283 حكم سؤال المقلد من لا يعتبر في الشريعة جوابه؟ المسألة الثالثة: 285 الترجيح عام وخاص العام المذكور في كتب الأصول مع التنبه لعدم الترجيح بالطعن في المذاهب الأخرى 286 تنبيهات أصولية أخرى: 286 الأول: أَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي تَفَاوَتَا، وإلا سميى إبطالًا 286 الثاني: أن الطعن في مساق الترجيح يثير العناد بين أهل المذهب المطعون عليه 287 الثالث: أن الترجيح هذا، مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضًا فيصير الكل يتبع القبائح 287 الرابع: أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُورِثٌ لِلتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ بَيْنَ أرباب المذاهب ويصح التفرق والتحزب غذاء الصغير في المذهب 288 الخامس: أَنَّ الطَّعْنَ وَالتَّقْبِيحَ فِي مَسَاقِ الرَّدِّ أَوِ الترجيح ربما أدى إلى التغالي تفضيل في المذاهب 288-289 فصل: الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة 291 فصل: غفلة بعض أهل العلم ف الترجيح بين أصحاب المذاهب بذكر فضائل المذاهب والقدح في المذهب المخالف وكذلك الترجيح بالتفضيل بين الأنبياء 298 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 المسألة الرابعة: 299 الترجيح الخاص من انتصب للفتوى فهو في أحد قسمين: الأول: من كان في أفعاله وأقواله على مقتضى فتواه، فهو متصف بأوصاف العلم 299 الثاني: من لم يكن كذلك، وإن كان في العدالة مبرزًا 299 وجها ترجيح القسم الأول: أولًا: لأن وعظه أبلع، وقوله أنفع، وفتواه في القلوب أوقع 299 ثانثًا: أن مطابقة الفعل شاهد لصدق ذلك القول 299 ترجيح تقليد لمن غلبت مطابقة قوله بفعله 300 المطابقة ميزانها الأوامر والنواهي 300 الترجيح بين الالتزام بالأوامر واجتناب النواهي بالنسبة للأشخاص 300 المسألة الخامسة: الاقتداء بالأفعال الصادرة عن معصوم كالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو الإجماع ونحوه 302 ما كان ليس بصادر عن معصوم فهو ضربان: 302 أحدهما: أن ينتصب بفعله ذلك؛ ليقتدى به قصدًا، كالحكام 302 ثانيهما: أن لا يتعين فيه شيء من ذلك 302 شرح للأقسام كلها 302 الأفعال الصادرة عن المعصوم 302 الأفعال الصادرة عمن لم يقم ليقتدى به بفعله 304 أسباب عدم الاعتداد به الأول: أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ إِلْغَاءٌ لِاحْتِمَالِ قَصْدِ الْمُقْتَدَى بِهِ دُونَ مَا نَوَاهُ الْمُقْتَدِي مِنْ غَيْرِ دليل 305 قاعدة تحسين الظن 305 عصمة الأنبياء 305 الثاني: تَحْسِينَ الظَّنِّ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ بالنسبة إلى المقتدى به مثلًا 306 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 الثالث: لزوم التناقض في هذا الاقتداء 307 اختلاط الظن مع تحسين الظن 307 الاقتداء بالأمور الدنيوية، وتوضيح خروج الاقتداء فيها 309 الإيثار في أمور الآخرة 310 مناقشة ما سبق من دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمور الشفاعة وتركه لأمور الدنيا 310 القسم الثاني: فيمن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه 314 القسم الثالث: أن لا يَتَعَيَّنَ فِعْلُ الْمُقْتَدَى بِهِ لِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ وَلَا أخروي 317 المسألة السادسة: أحوال طالب العلم الحال الأول: لا يسوغ الاقتداء بأفعاله 319 الْحَالُ الثَّالِثُ: فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ اسْتِفْتَائِهِ 319 أما الحال الثاني فهوموضع الإشكال بالنسبة إلى استفتائه 319 ربط صحة اجتهاده مع الاقتداء بأفعاله 319 أرباب الأحوال 320 الاستفتاء والاقتداء بهم وتفصيل ذلك 321 المسألة السابعة: ذكر بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة من اتباع من اتصف بها في فتواه 323 الخوف والتقوى من التسرع في الفتوى ونُقُولٌ عن مالك 323 قوله لا أدري 326 عدم الجزم بالصواب 329 تحديث الناس بما يفهمون 330 تركه الغرائب والمتفردات وحجج أهل البدع 331 السؤال عن أحوال الحدث 332 المسألة الثامنة: دليل سقوط التكليف بالعمل عند فقد المفتي 334 فصل: صور هذه المسألة: الأولى: عند فقد العلم أصلًا: 335 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 الثانية: فقد العلم بوصفه دون أصله 335 المسألة التاسعة: فتاوى المجتهدين بالنسبة للعوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين 336 مساوئ ترك العامي لسؤال العلماء 336 كتاب لو احق الاجتهاد 339 النظر الأول: في التعارض والترجيح 341 مقدمة: أدلة الشريعة لا تتعارض في ذاتها بل في نظر المجتهد ولا يوجد إجماع على تعارض دليلين: 341 وهي المسألة الأولى 342 من شروط الترجيح 342 المسألة الثانية: التعارض الذي لا يمكن فيه الجمع 344 تعريف التعارض 344 عندما لا يمكن الترجيح فالتوقف وتصير من المتشابهات 344 تعارض القولين على المقلد 344-345 التعارض بين الأدلة وما في معناها 344 تعارض العلامات الدالة على الأحكام ومثال عليه 345 تعارض الأشباه الجارة إلى الأحكام ومثال عليه 345 تعارض الشروط 345 فصل: هذا النظر راجع إلى الترجيح الراجح إلى وجه من الجمع 347 المسألة الثالثة: الترجيح الذي يمكن معه الجمع بين الأدلة 349 صورة: الصورة الأولى: أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ كُلِّيَّةٍ مَعَ جِهَةٍ جزئية تحتها 349 الصورة الثانية: أَنْ يَقَعَ فِي جِهَتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ كِلْتَاهُمَا دَاخِلَةٌ تحت كلية واحدة 349 الصورة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقَعَ التَّعَارُضُ فِي جِهَتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ لا تدخل إحداهما تحت الأخرى، ولا يرجعان إلى كلية واحدة 351 الصورة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقَعَ التَّعَارُضُ فِي كُلِّيَّيْنِ مِنْ نوع واحد 352-353 مثال تعارض الكليين: ما جاء في مدح الدنيا وما جاء في ذمها 354 وصف الدنيا بالذم: 355 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 الأول: أَنَّهَا لَا جَدْوَى لَهَا وَلَا مَحْصُولَ عِنْدَهَا 355 أقسام شئون الدنيا عند الغزالي 357 الثاني: أنها كالظل الزائل والحلم المنقطع 357 أما مدح الدنيا: أولًا: بما فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وصفاته العلى وعلى الدار الآخرة ثانيا: أَنَّهَا مِنَنٌ وَنِعَمٌ امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى عباده 360 الجمع بين الأدلة بما يخرج الشريعة عن التعارض بأنها عن صورة في حالات مختلفة 363 أنظار بيان ذلك: الأول: نَظَرٌ مُجَرَّدٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الدنيا من كونها متعرفًا للحق ومستحقًا لتشكر الواضع لها 363 الثاني: نَظَرٌ غَيْرُ مُجَرَّدٍ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لها الدنيا 364 الحجر للسفيه والمبذر 366 تفضيل الفقر أو الغنى 366 فصل: هو كالتتمة في البيان 367 النظر الثاني في أحكام السؤال أو الجواب وهو علم الجدل 369 من صنف فيه من العلماء 369 المسألة الأولى: أقسام السؤال بالنسبة للسائل والمسئول 371 الأول: سؤال العالم للعالم على وجه مشروع؛ لتحقيق مَا حَصَلَ أَوْ رَفْعِ إِشْكَالٍ عَنَّ لَهُ، أو تذكر ما خشي نسيانه 371 الثاني: سؤال المتعلم لمثله، كالمذاكرة وغيرها 371 الثالث: سؤال العالم للمتعلم؛ كالتنبه على موضع إشكال يطلب رفعه أو غير ذلك 371 أركان فن التربية العلمية 372 الرابع: سؤال المتعلم للعالم وهو الأصل 372 أحوال السؤال من المتعلم للعالم 372-373 فقه الإجابات 373 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 المسألة الثانية: ذم الإكثار من الأسئلة والإجابة بعلم 374 ذكر مجموعة من الأدلة من القرآن والسنة وحياة السلف في ذلك 374-378 فصل: مواضع كراهية السؤال: 387 الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين 387 الثاني: أن يسأل بعد ما بلغ السائل من العلم حاجته 388 الثالث: السُّؤَالُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ فِي الْوَقْتِ 388 الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها 389 الخامس: أن يسأل عن علة الحكم؛ لأسباب لا تليق 389 السادس: أَنْ يَبْلُغَ بِالسُّؤَالِ إِلَى حَدِّ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّقِ 389 السابع: أَنْ يَظْهَرَ مِنَ السُّؤَالِ مُعَارِضَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بالرأي 390 الثامن: السؤال عن المتشابهات 391 التاسع: السؤال عما شجر بين الصحابة 391 العاشر: سُؤَالُ التَّعَنُّتِ وَالْإِفْحَامِ وَطَلَبِ الْغَلَبَةِ فِي الْخِصَامِ 392 المسألة الثالثة: دليل أن ترك الاعتراض على الكبراء محمود 393 الدليل الأول: ما جاء في القرآن في ذلك 393 تضعيف إسناد قصة "آدم والملائكة" 393 الدليل الثاني: الأحاديث وتخريجها 394 الدليل الثالث: مَا عُهِدَ بِالتَّجْرِبَةِ مِنْ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الكبراء قاضٍ بامتناع الفائدة 339 الصوفية والاعتراض 399-400 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى الظَّوَاهِرِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ 401 الوجه الأول: لأن لسان العرب يعدم فيه النص أو يندر 401 الوجة الثاني: وهو مكمل للأول: لو جَازَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُحْتَمَلَاتِ، لَمْ يَبْقَ لِلشَّرِيعَةِ دليل يعتمد 401 الوجه الثالث: لَوِ اعْتُبِرَ مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ فِي الْقَوْلِ لَمْ يكن لإنزال الكتب ولا لإرسال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- فائدة 402 الوجه الرابع: لأنه يؤدي إلى انخرام العادات والثقة بها 402 الوجة الخامس: احتجاج القرآن عَلَى الْكُفَّارِ بِالْعُمُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعُمُومَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا 403 التوحيد في الربوبية والألوهية 403 مفاسد سماع الاعتراض على العقيدة والخلافات المذهبية 404 تتبع الظنيات واقتناص القطعيات منها "خاصة هذا الكتاب" 405 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: النَّاظِرُ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، إِمَّا نَاظِرٌ فِي قَوَاعِدِهَا الْأَصْلِيَّةِ أَوْ فِي جُزْئِيَّاتِهَا الفرعية، والناظر إما مجتهد وإما مناطر 406 جواز الاستعانة من المجتهد أو المناطر بغيره، وصور ذلك 408 عدم فائدة الاستعانة بمن يختلف معه في الأصول 412 المسألة السادسة: انبناء الدليل على مقدمتين إحداهما تحقيق المناط والأخرى تحكم عليه 414 فرضًا أن المقدمة مسلمة أو وجوب أن يكون مسلمة عند الخصم والنظر في تحقيق المناط 414-415 مقصود المناظرة 514 احتجاجات القرآن والإتيان بأدلة يقر بها الخصم 416 فصل: التفريق بين اصطلاح أهل المنطق واصطلاح الكتاب وإن تقاربا 418 آخر الكتاب، ونهايات الطبع في النسخ المطبوعة والمخطوط 422-424 تقريظات الكتاب 425 الاستدراكات 429 الموضوعات والمحتويات 431 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 المجلد السادس التعريف بالمؤلف أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي عصره ... No pages الجزء: 6 التعريف بالشراح والمعلقين والمحقق : ترجمة الشيخ عبد الله دراز 1: ولد الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن حسنين دراز بمحلة دياي "من أعمال مركز دسوق على الفرع الغربي للنيل" في 12 يناير سنة 1874، وبعد أن حفظ القرآن لازم دروس اللغة العربية وعلوم الشريعة التي كان يلقيها بالمسجد العمري في البلدة نفسها، والده الشيخ محمد، وعمه الشيخ أحمد، وجده الشيخ حسنين دراز، وغيرهم، والتي كان يؤمها الطلاب من البلدة ومن أطراف البلاد المجاورة على طبقات متفاوتة بين مبتدئين ومتوسطين ومنتهين، وكانوا يتلقونها في مواعيد منظمة تتخللها أجازات دورية، وكانت تعار لهم بعض الكتب العلمية التي وقفها جده الشيخ حسنين على أولاده وذريته. وكان رحمه الله أكثر انتفاعًا بدروس جده وأطول ملازمة له؛ لأن والده وعمه توفيا في حياة والدهما. فلما توفى جده؛ قصد إلى القاهرة فأكمل دراسته في الأزهر، وكان من شيوخه الأزهريين في التفسير   1 ترجمته مأخوذة من "الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 3/ 173 وما بعدها"، بتصرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 الشيخ محمد عبده، وفي الحديث الشيخ سليم البشري، وفي التوحيد الشيخ محمد بخيت، وفي الفقه الشيخ أحمد الرخامي، وفي أصول الفقه الشيخ محمد أبو الفضل، وفي المنطق والحكمة والحساب والجبر الشيخ محمد البحيري، وكان ممن اقتبس عنهم الإنشاء والأدب الشيخ أحمد مفتاح الأديب المشهور، من أساتذة دار العلوم إذ ذاك، وكان من أساتذته في الرياضة محمد بك إدريس، وفي تقويم البلدان "الجغرافيا" إسماعيل بك علي وحسن صبري باشا، وفي ذلك العهد لم تكن قد وضعت بعد خرائط جغرافية باللغة العربية فتعلم رحمه الله اللغة الانجليزية ليدرس بها المصورات الجغرافية ويطبق عليها معلوماته بدقة. وقد ظهر نبوغه بصفة ممتازة في هذا العلم، فما إن حصل على شهادته العالمية في صيف سنة 1900م وعلى شهادة الرياضة عقبها حتى أسند إليه تدريس مادة الجغرافيا في الأزهر في أول سنة 1901 إلى جانب دروسه في المواد الأزهرية الأساسية التي كان يؤمها الجم الغفير من الطلاب في مسجد محمد بك أبي الذهب حتى كان يغص المسجد بطلابه الحريصين على الاستفادة من علمه وأدبه ومنهجه التعليمي المبتكر. وكان له منذ نشأته شغف بالشعر والأدب، وله مساجلات معروفة في الأندية الأدبية، وله شعر جيد يجمع إلى رقة الخيال وسلاسة الأسلوب وجزالة اللفظ وغزارة المادة اللغوية، من ذلك قصيدته التي أنشدها بين يدي أستاذه البحيري عند ختم كتاب "السعد" في البلاغة سنة 1898 أي قبل تخرجه بعامين ومطلعها: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 يهيم وحراس الخدود تدافعه ... ويخفي وقد نمت عليه مدامعه وما كان يهوى بل يعنف ذا الهوى ... نعم كان يهواه الوغى ومعامعه ومنها: وعهدي به ثبت الجنان شموسه ... يبيت ومصقول السيوف يضاجعه فما باله حتى استكان مذلة ... وأمسى وغيداء الظباء تصارعه ومنها: خذوا أيها الغزلان عني جانبا ... برئت من التشبيب من ذا يطاوعه وبوأت نفسي للمكرام والعلا ... وكلفتها مرقى تعز مطالعه ومنها: وقد سألتني ذات يوم فما الذي ... تريد وما القصد الذي أنت تابعه فقلت لها شيخا تفرد في العلا ... وفي العلم حتى عز في الناس شافعه ومنها: لأنت فؤادي بل أعز وكيف لا ... وطالع سعدي في يديك أطالعه ولما أنشئ معهد الإسكندرية الديني النظامي في يناير سنة 1905 وعين الشيخ محمد شاكر الجرجاوي شيخًا له، اختير الشيخ عبد الله دراز في أربعة من أفاضل العلماء، وهم المشايخ عبد المجيد الشاذلي، وعبد الهادي مخلوف، وإبراهيم الجبالي، ليكونوا النواة الأولى في هذا المعهد الناشئ، وكان يوم فراق الشيخ دراز لأبنائه الأزهريين عند عزمه على السفر إلى الإسكندرية يومًا مشهودًا سكبت فيه دموع الوداع الحارة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 غزارا. ولم يكن نصيبه منها بأقل من نصيب أبنائه مما يدل على عمق الصلة الروحية المتبادلة بين الشيخ وتلاميذه. وحين استقر به المقام في المعهد الجديد توسم فيه الشيخ شاكر مواهب إدارية بارزة إلى جانب كفايته العلمية فأتخذه عضده الأيمن في إرساء مناهج الدراسة واختيار الكتب والإشراف على سير التعليم ووضع أسئلة الامتحان وفي 20 يناير سنة 1907 عينه مفتشًا للمعهد إلى جانب دروسه الأزهرية والرياضية التي كان يلقيها للفرقة العليا في المعهد إذ ذاك، "وهي طبقة التصريح والسعد" والي جانب اشتغاله بتأليف الكتب النافعة للطلاب في السيرة النبوية وتقويم البلدان وغير ذلك. ثم اتجهت رغبة أولي الأمر إلى إعادة هذه التجربة الناجحة، ونقل صورة من هذا النظام الذي جرب في معهد الإسكندرية إلى الجامع الأحمدي بطنطا، ورأى الخديوي عباس الثاني أن يقوم الشيخ عبد الله دراز بهذا العبء. فعينه وكيلًا لمشيخة الجامع الأحمدي في 26 مارس سنة 1908، وقد حقق الشيخ ما علق عليه من الآمال فما لبث أن عادل بين العلوم الأزهرية والعلوم المدرسية حتى لا يبغي بعضها على بعض، وقد اغتبط الجانب العالي الخديوي بهذا الفتح المبين الذي تم على يد الشيخ دراز، فقلده الوسام العثماني تقديرًا لجهوده الصادقة الموفقة، والذي يلفت النظر بوجه خاص أنه على الرغم من اتساع مجال الإصلاح أمامه وثقل العبء الإداري في معهد لا عهد له بالنظام؛ لم ينصرف عن مزاولة العلم والتعليم بنفسه، فكان يشتغل بتفسير القرآن الكريم لطلبة القسم العالي، وفي الوقت نفسه يضع المؤلفات المبتكرة في العلوم الجديدة؛ كـ "تاريخ أدب اللغة العربية"، وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وفي 10 سبتمبر سنة 1912 عين وكيلًا لمعهد الإسكندرية عودًا على بدء. وهنا أيضا لم يشغله توجيه دفة الأعمال الإدارية والإشراف الجدي على سير التعليم عن الإفادة العلمية الحقيقية. وقد اتخذت إفادته العلمية هنا صورة أرقى من سابقتها، فكان يجمع العلماء المدرسين ومحبي العلم من غيرهم فأفاضل الأطباء لمدارسة القرآن الكريم والسنة النبوية، ووقع اختياره من كتب السنة على "الشفاء" للقاضي عياض، وكتاب "مشكاة المصابيح"، وكتاب "تيسير الوصول"؛ فأتمها كلها في عدة سنين. وفي 26 أغسطس 1924 عين شيخًا لمعهد دمياط، فوضع في تنظيمه طرفًا مما وضعه في تنظيم الجامع الأحمدي، وهناك أيضا تابع السير على هذه السنة الحميدة الجامعة بين الإدارة الحازمة والإفادة العلمية، فكان تجمع العلماء لدراسة السنة النبوية والكتب الدينية وقد وجه عناية خاصة لكتاب "الموافقات في أصول الفقه" للشاطبي، وبعد أن قرأه مرارًا وضع عليه مقدمة وشرحًا، وأخرجه للناس في هذه الحلة الجديدة التي نراها اليوم. وهذه بعض آثار الفقيد من الوجهة العلمية، أما ثمرات قلمه في إصلاح التعليم وإدارة المعاهد؛ فلا تتسع لبيانها العجالة ونكتفي بأن نحيل القارئ على قماطر إدارات المعاهد، فهي تنوء بتقاريره وتعليماته في كل مرحلة من مراحل عمله. وبالجملة فقد صرف أوقاته في خدمة العلم إفادة واستفادة، وكانت أيامه كلها خيرًا وبركة على العلم ومعاهده حتى إنه بعد أن اعتزل الأعمال الإدارية في 13 يونيو 1913 لم يفتر عزمه عن متابعة الإفادة العلمية من طريق الكتابة والتعقيب على المؤلفات الدينية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 الحديثة. وكان لكتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" الذي عملته وزارة الأوقاف وكتاب "محمد المثل الكامل" لجاد المولي بك حظ من هذا الجهد المبارك، فأعيد طبعهما مصححين منقحين وفقا لإرشاداته الحكيمة كما تدل عليه مقدمة الطبعة الثانية لهذين الكتابين. والناظر في كتابات الشيخ قديمها وحديثها يروقه منها دائما ديباجة أسلوبه الأدبي الذي نشأ عليه والذي يبدو طابعه في كل ما خطه قلمه في العلم أو الأدب أو الاجتماع أو السياسة أو غيرها، كما أن الذين كان لهم الحظوة بمجالسته ومعاشرته يذكرون دائمًا ما كان لأسلوبه الوضعي والقصصي من جاذبية روحية عجيبة تتعانق فيها طلاوة اللغة بحسن الأداء في صوت ندي هادئ لا تصنع فيه ولا ترفع، وقد كان رحمه الله كثير الاطلاع على التاريخ وأحوال العصر، جيد الحافظة، قلما يغيب عن ذاكرته حادث عالمي أو محلي مر به مهما طال عهده، فإذا سرده على السامعين؛ سرده في ترتيل يسترعي الأسماع والقلوب. كان رحمه الله وئيد المشية في رزانة تحوطها المهابة، باسم الوجه، في جد ووقار، أسمر اللون، ربعة متوسط السمن، حسن البزة، نفيس الثياب، وكان يحب التروض ساعة في كل يوم سيرًا على القدم. وكان قليل السهر ينام مبكرًا ويستيقظ سحرًا، فيقوم من آخر الليل ما تيسر ثم يضطجع قليلًا بعد صلاة الصبح. وكان في فترة اشتغاله بشئون المعاهد يختم القرآن في كل شهر مرة على الأقل، فلما اعتزل الخدمة؛ كان يملأ به كل أوقات فراغه، كما كان يفعل في رمضان دائمًا، وكان يحب في كل مناسبة أن يجمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 إخوانه على طعام ولا سيما طعام الغذاء؛ لأنه كان لا يتعشى إلا نادرًا خفيفًا ولم يتعود منبهًا ولا مسكنًا ولا ملهاة قط. وكان أصحابه وزواره يعرفون ميعاد نومه المبكر، فيستأذنون في الانصراف من المجلس أحب ما يكون السمر إليهم، فلا يلح عليهم في المكث؛ لأنه -رحمه الله- كان لا يعرف المواربة ولا الملق قط، وكانت صرامته في الحق مع فرط دماثة خلقه وغلبة صمته من الأسباب التي مكنت له في قلوب الخلق مزيجًا من المهابة والمحبة. ثم كانت خاتمة أعماله أداء فريضة الحج المبرور، في أوائل سنة 1932، ولم يلبث إلا قليلًا عقب عودته من الحجاز حتى ألم به المرض الأخير، وهو أتم ما يكون صحة وقوة، فمات -رحمه الله- في ليلة الخميس 23 يونيو سنة 1932، وصلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن بمدافن الأسرة بقرافة العفيفي بقرب العباسية، ورثاه الشعراء وبكاه كل من اغترف من علمه أو ذاق حلاوة عشرته أو لمس صلابة دينه وصفاء سريرته وأكبر فيه عزة نفسه وعلو كرامته أو ناله بره من قريب أو بعيد. طيب الله ثراه وأسكنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 ترجمة الشيخ محمد عبد الله دراز 1: ولد الشيخ محمد في بيت علم وخلق وورع، سنة 1894م، وسرعان ما تفتحت عيناه على زملاء أبيه يغشون منزله لدراسة كتب العلم، والحديث في مسائل الإصلاح الديني، وكان والده يأخذ منزله بآداب التقوى، يؤم أهله في صلاتي الفجر والعشاء، ويقرأ "صحيح البخاري" في ليالي رمضان، ويسهر على تثقيف أبنائه ويعودهم على سنن الخير، وطبيعي أن يلتحق محمد بالأزهر بعد أن حفظ كتاب الله، واستظهر بعض المتون العلمية الذائعة في وقته، وظهرت دلائل نبوغه، إذ كان متقدمًا في امتحاناته السنوية حتى نال الشهادة العالمية سنة 1916م وعين مدرسًا بالأزهر، ولم تشغله أعباء التدريس عن تعلم اللغة الفرنسية، حيث حذقها في ثلاث سنوات.   1 ترجمته في الأعلام: 6/ 246"، و "النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: 2/ 239-256". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 وكان يكتب في جريدة "الفان" الفرنسية، ملخصًا ما يدور بالجامع الأزهر من خطب السياسة، كما أشار عليه ابن عمه الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، وهو يومئذ من رجال الثورة البارزين في القاهرة. ثم لما هدأت الثورة؛ استأنف التدريس بالأزهر، وحينها أشرف على طبع كتاب "الموافقات" للعلامة الشاطبي بشرح والده رحمه الله، واختير أستاذا في كليات الأزهر بكلية أصول الدين، وشاع فضله وعلمه، فرشحته مواهبه لعضوية البعثة الأزهرية إلى فرنسا سنة 1936م بجامعة السوربون، وانتدب الشيخ محمد ممثلًا للأزهر في سنة 1939م إذ عقد مؤتمر الأديان بباريس، وحين ألقى كلمته؛ أجمع المعقبون أن كلية مندوب الأزهر تعد الكلية الرئيسة في المؤتمر، وشاء الله أن تكون أخر محاضرة له في مؤتمر مماثل، هو "المؤتمر الإسلامي الدولي" المنعقد بلاهور في يناير سنة 1957م، حيث أعد بحثا قيما بعنوان "موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها"، وهو بحث شاء الله أن يلقيه سواه، إذ مات الشيخ محمد -رحمه الله- أثناء انعقاد المؤتمر سنة 1957. مؤلفاته: للشيخ محمد عبد الله دراز كتب قليلة، وكلنها منهجية متفردة، فكان -رحمه الله- لا يكتب غير الجديد الطريف، وكان لا يؤلف في غير المجهول الذي تتطلع الأنظار إلى كل كلمة من كلماته، فمن كتبه: - "دستور الأخلاق في الإسلام". - "المدخل إلى القرآن الكريم". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 - "الدين: دراسة تمهيدية لتاريخ الإسلام". - "النبأ العظيم". وجمعت بعض محاضرات الشيخ ومقالاته في كتاب مطبوع بعنوان "دراسات إسلامية"، وفيه بحوث شافية عن القرآن الكريم، والإسلام والرق، وكرامة الفرد في الإسلام، والمسئولية في الإسلام، ومبادئ الأخلاق نظرية وعملية، ومبادئ القانون الدولي في الإسلام، والربا في نظر القانون الإسلامي، وإصلاحات الشيخ محمد عبده، وهذه البحوث نشرت في أمهات المجلات الإسلامية بمصر، وفي "مجلة الأزهر" له بحوث ماتعة لم تجمع بعد، من أهمها: بحثه الرائع عن تاريخ الأزهر، ونقده لاقتراح ترتيب المصحف حسب النزول، وغيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 ترجمة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي 1: نبت في أرومة عريقة في الحسب والنسب ببني عدي إحدى قرى مركز منفلوط بمديرية أسيوط، فقد ولد في منتصف شهر رمضان سنة 1277هـ، وكان والده العلامة الشيخ حسنين محمد علي مخلوف من كبار علماء الأزهر، أقام به سنين ثم عاد إلى بلده يعلم أهلها الفقه والدين وعلوم القرآن، وجده لأمه العلامة التقي الشيخ محمد خضاري أحد أعلام الأزهر في مستهل القرن الثالث عشر. أتم المترجم حفظ القرآن الكريم بعد وفاة والده، وحفظ المتون وتلقى مبادئ العلوم على الأستاذ الجليل الشيخ حسن الهواري، ثم رحل إلى الأزهر فجد واجتهد في تلقي العلوم الأزهرية المعروفة، وسمت همته إلى كثير من العلوم غير المقررة بالأزهر؛ كالحساب والجبر والمساحة والهيئة والفلسفة، فتلقى أكثرها على شيخيه الجليلين   1 ترجمته في "الفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/ 188-191"، ومجلة "الفتح" "عدد17/ المحرم/ 1355هـ"، و "معجم الشيوخ: 1/ 94"، و "الأعلام الشرقية: 1/ 376"، و "جامع التصانيف الحديثة: 2/ 36"، و "معجم المطبوعات الغربية: 1648"، و "الأعلام" 6/ 96". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 الشيخ حسن الطويل والشيخ أحمد أبي خطوة، وقرأها لإخوانه وتلاميذه بالأزهر ومسجد محمد بك أبي الذهب، ومما قرأه فيها "رسالة بهاء الدين العاملي" التي كتب عليها "حاشية" طبعت إذ ذاك، واستفاد منها الطلاب، وكتاب "الجغميني في الهيئة"، و "رسائل الربع المقنطر والمجيب والاسطرلاب"، و "الطوالع" للبيضاوي، و "المواقف" للعضد و "الإرشادات" لابن سينا، وكان كثير الشغف بهذه العلوم وله فيها دروس وتلاميذ عديدون منهم: الأعلام الشيخ محمد مصطفي المراغي، والسيد محمد عاشور الصدفي، والشيخ عبد الفتاح المكاوي، والشيخ عبد الله دراز، والشيخ فرغلي الريدي، والشيخ عبد الهادي مخلوف، والشيخ على إدريس العدوي، والشيخ إبراهيم الجبالي، والشيخ محمد زيد بك الأبياني، والشيخ عبد الرازق القاضي بك، والشيخ محمد عز العرب بك، وكثير غيرهم ممن لا نحصيهم عدًّا. ومن أجل شيوخه بالأزهر: المشايخ الطيول، وأبو خطوة، وأحمد الرفاعي الفيومي المالكي، ومحمد خاطر العدوي، وحسن داود العدوي، ومحمد عنتر المطيعي، وعرفة، والبحيري، والمغربي رحمهم الله أجمعين. وفي ساحته بدير السعادة من أعمال فرشوط ألف المترجم كثيرًا من رسائله في التوحيد والتصوف والفلسفة، وقد نال شهادة العالمية من الدرجة الأولى في 5 شعبان سنة 1305 في أول امتحان أجراه الشمس الأنبابي شيخ الجامع الأزهر إثر توليه المشيخة. وفي أول فبراير سنة 1897 تقرر إنشاء مكتبة أزهرية فعين أمينًا لها، وعني بأمرها كثيرًا حتى تم إنشاؤها على نظام بديع، وكانت الصلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 وثيقة بينه وبين الأستاذ الشيخ محمد عبده، فكان عضده الأقوى من الأزهريين في مشروعاته وإصلاحاته الأزهرية. ولما اتجهت العناية إلى إصلاح الأزهر وتعديل قوانينه القديمة عين المترجم عضوًا بمجلس إدارة الأزهر، وكان العضو العامل الخبير في اللجان التي ألفتها الحكومة لوضع قانون الأزهر رقم 1 لسنة 1908، ثم القانون رقم 10 لسنة 1911، وكان -رحمه الله- أول من اختير عضوًا في هيئة كبار العلماء بعد صدور هذا القانون، وعين مفتشًا أول للأزهر والمعاهد الدينية، ولم يكن للأزهر عهد بهذه الوظيفة من قبل، فأخذ ينفذ الإصلاحات والنظم التي سنها القانون الحديث في الأزهر ومعاهد طنطا ودسوق ودمياط، ثم عين شيخًا للجامع الأحمدي، فاقترح إنشاء معهد على النظام الحديث، وتم ذلك، فوضع أساسه في 11 فبراير سنة 1911، وهو أول معهد عرفته المعاهد الدينية في 15 سبتمبر سنة 1913، ولم يكن لهذه الوظيفة وجود في الأزهر من قبل، فقام بتنفيذ قانون المعاهد وبالإصلاح الهام فيها، واتجه في ذلك إلى ترقية التعليم بالوسائل الصحيحة، فلقي من الأزهريين مقاومة عنيفة، ودس له ذوو الأغراض كثيرًا من الدسائس، فاعتزل الوظائف الإدارية في عهد السلطان حسين كامل في سنة 1916. عاد بعد اعتزاله المناصب سيرته الأولى في الدراسة والتأليف فعكف عليهما عكوفًا منقطع النظير، وكانت دروسه بعد الغروب غاصة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 بالعلماء ومتقدمي الطلاب، وقد عني كثيرًا بتدريس أصول الفقه، فقرأ "جمع الجوامع" مرتين في أربعة عشر عامًا، وكتب عليه حاشية كبيرة قيمة تبلغ مجلدين، وألف كتابًا قيمًا سماه "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" اشتمل على عدة مباحث هامة، وأهمها مباحث الاجتهاد والتقليد وحجية القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وأوضح فيه المنهج الأصولي والفقهي والخلافي في استنباط الأحكام الشرعية، وكان تفسير البيضاوي آخر كتاب يدرسه للطلاب. كان طوال عهده معروفًا بعلو النفس وبعد الهمة والجود والسخاء وصدق الوفاء ومساعدة البائسين والفقراء، وكان أبيًّا لا يعرف الضراعة والخنوع، وقورًا حسن الحديث يترفع عن الغيبة وذكر المثالب والتسمع إليها، ويدعو إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، وكان كثير التعبد وتلاوة القرآن الكريم تلاوة تدبر وإمعان. ومن مؤلفاته "حاشية على رسالة بهاء الدين العاملي في الحساب" مطبوعة، وحاشية كبيرة قيمة على جمع الجوامع في الأصول في جزأين مطبوعة، وكتاب "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" اشتمل على عدة مباحث أهمها: مباحث الاجتهاد والتقليد وحجية القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وأوضح فيه المنهج الأصولي في استنباط الأحكام الشرعية مطبوع، و "المدخل المنير في مقدمة علم التفسير" مطبوع، و "القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق" مطبوع، و "رسالة في حكم ترجمة القرآن الكريم وقراءته وكتابته بغير اللغة العربية" مطبوعة، و "عنوان البيان في علوم التبيان" مطبوعة، وغيرها كثير كما تراه في "الأعلام الشرقية 1/ 377-379". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 ترجمة الشيخ محمد الخضر حسين 1: هو العالم الشيخ محمد الخضر حسين بن علي بن عمر الفقيه المالكي الأصولي اللغوي الأديب الكاتب، ولد ببلاد تونس وحفظ القرآن في سن مبكرة، وأحاط بالمتون في صغره على عادة نوابغ أهل المغرب، وطلب العلم بجامع الزيتونة وتخرج سنة 1316هـ، حيث حصل على شهادة العالمية، ثم عين قاضيًا شرعيًّا مالكيًّا بتونس، ثم مدرسًا بجامع الزيتونة، ورأى في سنة 1912م أن يهاجر إلى الشام، فهاجر إليها لخدمة الإسلام، وعين مدرسًا بالمدرسة السلطانية، ثم رحل إلى القسطنطينية سنة 1917م فعين محررًا بالقلم العربي بوزارة الدفاع العثمانية، وبعد انتهاء الحرب العظمى جاء إلى مصر سنة   1 مترجم في "الفتح المبين: 3/ 213"، ومجلة "الفتح" 17/ ذو القعدة/ سنة 1350هـ، ومجلة "الهداية الإسلامية" "جمادى الآخرة، سنة 1355هـ"، ومجلة "الأزهر" "شعبان سنة 1337هـ"، ومجلة "المجمع العلمي العربي: 18/ 81"، و "معجم المطبوعات العربية: 1652"، و "الأزهر في ألف عام: 1/ 165، 195"، و "الأعلام: 6/ 113/ 114"، و "النهضة الإسلامية في سر أعلامها المعاصرين" 1/ 51/ 66". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 1919م فعين بدار الكتب الملكية مصححًا بالقسم الأدبي، وكان في كل ما وليه من أعمال مثال الكفاءة النادرة والنبوغ الفذ والمقدرة الفائقة حتى تسامع به أولياء الأمور في الأزهر الشريف وملأ حديثه مجالس العلماء والطلبة، فرأت مشيخة الأزهر أن تفيد منه طلاب التخصص، فندبته للتدريس بقسم التخصص بعد أن نال شهادة العالمية الأزهرية في سنة 1926م تقديرًا لفضله وعرفانًا لقدره. ثم اختير رئيسًا لتحرير مجلة "نور الإسلام" وكانت لسان حال الأزهر يومئذ، فاضطلع بهذا العبء بضع سنين بمقدرة وجدارة، ثم عين مدرسًا بكلية أصول الدين سنة 1931م، فتخرج به كثير من العلماء الذين لا يحصون كثرة، وقد عرفت وزارة المعارف مكانته العلمية، فعينته عضوًا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، وإذا كان قد اعتزل مجلة "نور الإسلام" التي صارت بعد ذلك مجلة "الأزهر" واعتزل التدريس بكلية أصول الدين لبلوغه سن التقاعد، وأنشأ بعد ذلك "جمعية الهداية الإسلامية" وتولى رئاستها ومدير مجلتها، كما تولى رئاسة تحرير مجلة "لواء الإسلام". ثم كان من هيئة كبار العلماء، وعين شيخًا للأزهر أواخر سنة 1371هـ، واستقال سنة 1373هـ، وتوفي بالقاهرة في 13 رجب سنة 1377هـ، ودفن بوصية منه في تربة صديقه أحمد تيمور باشا، وكان هادئ الطبع وقورًا، خص قسمًا كبيرًا من وقته لمقاومة الاستعمار، وانتخب رئيسًا لجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا. المترجم له مؤلفات تدل على طول باعه ورسوخ قدمه في علم الدين والاجتماع واللغة، منها: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 - "الدعوة إلى الإصلاح" عالج فيه كثيرا من الشئون الاجتماعية والخلقية، وهو مطبوع. - "القياس في اللغة العربية" وهو موضوع من الموضوعات التي عني بها مجمع فؤاد الأول للغة العربية. - "نقد كتاب الشعر الجاهلي" وهو مؤلف قيم رد فيه على طه حسين في كتاب "الشعر الجاهلي"، وقد كان لهذا النقد وقع عظيم في الأوساط العلمية والدينية، وهو مطبوع. - "حياة اللغة العربية"، مطبوع. - "الخيال في الشعر العربي"، مطبوع. - "مناهج الشرف"، مطبوع. - "طائفة القاديانية"، مطبوع. - "مدارك الشريعة الإسلامية"، مطبوع. - "الحرية الإسلامية"، مطبوع، وهو عبارة عن محاضرة له. - "خواطر الحياة"، مطبوع. - "بلاغة القرآن"، مطبوع. - "محمد رسول الله"، مطبوع. - "السعادة العظمي"، مطبوع". - "من أدب الرحلات"، مطبوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 - "تونس وجامع الزيتونة"، مطبوع. - "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم"، الذي ألفه علي عبد الرازق، وهو مطبوع. - "تعليقات على كتاب الموافقات" للشاطبي في الأصول، وهي مطبوعة. - "تعليقات على شرح الإبريزي للقصائد العشر"، وهذه التعليقات تدل على تبحره في اللغة العربية، وهو مطبوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 ترجمة الشيخ ماء العينين 1: أبو محمد مصطفي بن محمد فاضل بن محمد مامين الشنقيطي القلقمي، أبو الأنوار، الملقب بماء العينين، من قبيلة القلاقمة، من عرب شنقيط. مولده ببلدة الحوض سنة 1246هـ الموافق 1830م، ووفاته في تزنيت من مدن السوس الأقصى. وفد على ملوك المغرب في رحلته إلى الحج وحظي عندهم. وكان مع اشتغاله بالحديث واللغة والسير، له معرفة بما يسمي "علم خواص الأسماء والجداول والدوائر والأوقاف وسر الحرف"، وقصده الناس لهذا! قال صاحب "معجم الشيوخ": "وأخباره في العلم والطريق   1 ترجمته في "الوسيط في أخبار شنقيط: 360"، و "معجم الشيوخ: 2/ 37"، و "المعسول: 4/ 83-101"، و "معجم المطبوعات العربية: 1601"، و "الأعلام: 7/ 243-244"، ومجلة "صحراء المغرب" "عدد 24 محرم / سنة 1378هـ"، وفيها بحث مستفيض في نسبة وطريقته وأبنائه وسيرته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 والسياسة واسعة تحتاج إلى مؤلف خاص". يستفاد مما كتب عنه؛ أنه كانت له مواقف ووقائع في مقاومة الاستعمارين الفرنسي والأسباني في المغرب، وأن الشعب المغربي أسند إليه في العام الأخير من حياته قيادة الجهاد، واجتمع لديه جيش من تلاميذه ومن رجاله ومن قبائل الرقيبات وأولاد دليم وأولاد أبي السباع والنكنة والشلوح وسائر قبائل السوس، وزحف نحو فاس "العاصمة يومئذ" لإنقاذها، وكادت ثورته تعم المغرب كله لولا أن حشد له الفرنسيون قواهم، وتغلبوا عليه، ومرض فعاد إلى مدينة تزنيت الواقعة على 95 كيلو مترا من جنوب أغادير، و60 من إفنى، فتوفي ودفن بها، وذلك في سنة 1328هـ، الموافق 1910م. قال في "المعسول": "لما تمكن المولى عبد الحفيظ، ودخل فاسًا، سافر الشيخ ماء العينين، من تزنيت إلى فاس، محاذيًا سفح الأطلس، لأنه لا يأمن في السهول، فأرسل الفرنسيون المحتلون للدار البيضاء وما يليها إلى الملك بفاس، ينذرونه بأنهم يعدون كل من مد يده "بالمعونة" إلى ماء العينين عدوًّا لهم، فأوعز الملك إلى عبد الله بن يعيش بأن يتلقى الشيخ في الطريق، برسالة من الملك، ليرجع عن فاس، ثم لما وصل الشيخ إلى تادلة، أراد الفرنسيون أن يتسربوا إليه ليلًا، ليستحوذ عليه وحفظه الله منهم، فنشأت عن ذلك حرب بين أهل تادلة والفرنسيين، اصطلى فيها هؤلاء بنار مستعرة في يوم مذكور ورجع الشيخ متوغلًا الأطلس، فطلع من آيت عتاب إلى أن نزل على رأس الوادي في سوس، فحط رحاله في تزنيت، حيث لفظ نفسه الأخير وشيكًا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 له كتب كثيرة منها: - "شرح راموز الحديث"، مطبوع. - "نعت البدايات وتوصيف النهايات"، مطبوع. - "تبيين الغموض على النظم المسمى بنعت العروض"، مطبوع - "مغري الناظر والسامع على تعلم العلم النافع"، مطبوع. - "مبصر المتشوف"، مطبوع، في التصوف. - "دليل الرفاق على شمس الاتفاق"، مطبوع ثلاثة أجزاء قديمًا، وفي جزأين حديثًا، في الفقه المالكي. - "مذهب المخوف على دعوات الحروف"، مطبوع. - "المرافق على الموافق"، مطبوع قديمًا، وهو نظم لـ "الموافقات" مع شرح له. - "مفيد الحاضرة والبادية"، مطبوع. - "مجموع"، مطبوع، مشتمل على رسائل منها: "قرة العينين في الكلام على الرؤية في الدارين". - الإيضاح لبعض الاصطلاح". - "ما يتعلق بمسائل التيمم". - "سهل المرتقى في الحث على التقى". - "فاتق الرتق على راتق الفتق"، وهو شرح قصيدة من نظمه غريبة المباني "كما وصفها في مقدمة الشرح"، منها نسخة خطية في الخزانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 العامة بالرباط "د 384"، واسمه على هذه النسخة "محمد مصطفي الشريف الحسني الإدريسي الملقب ماء العينين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 ترجمة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد 1: هو الشيخ العلامة المحقق محمد محيي الدين بن عبد الحميد، مدرس مصري، ولد سنة 1318هـ-1900م بقرب "كفر الحمام" بمحافظة الشرقية، كان محيي الدين نزاعا للعلم مشغوفًا به منذ نشأته الأولى، إذ تربى في بيت فقه وقضاء؛ لأن والده الشيخ عبد الحميد إبراهيم كان من رجال القضاء والفتيا، وله صلات قوية بزملائه، والصفوة من علماء بيئته، فكانوا يجتمعن لديه في منزله، وقد ترعرع الطفل الناشئ ليسمع آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسائل العلم في نقاش الزائرين، ويلحظ لوالده من الهيبة والمكانة ما دفع به إلى محاكاته، حتى إذا بلغ دور الصبا دفع به والده إلى معهد دمياط الديني ليرتشف من معينه، إذ كان والده قاضيًا بمحكمة فارسكور، ثم انتقل إلى القاهرة مفتيًا دينيًّا لوزارة الأوقاف فانتقل معه.   1 له ترجمة في "الأعلام: 7/ 92"، و "الأزهر في ألف عام: 3/ 112"، ومجلة "الأديب" "عدد مارس/ سنة 1973م"، و "النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: 2/ 152-142"، ومجلة "مجمع اللغة العربية" "جزء 20، ص92، سنة 1966م، وجزء 32، ص186، سنة 1973م. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 إلى الجامع الأزهر، وحصل محمد محيي الدين على العالمية النظامية بالقاهرة سنة 1925م، وعمل في التدريس بمصر والسودان، ثم كان رئيس لجنة الفتوي بالأزهر، ثم عميدًا لكلية اللغة العربية، وضمه مجمع اللغة العربية في القاهرة، إلى أعضائه سنة 1964، واشتهر بتصحيح المطبوعات "أو تحقيقها"، فأشرف على طبع عشرات منها، وكان من بينها كتابنا هذا "الموافقات"، ومدح صنيعه في ضبط الكتب وتحقيقها غير واحد من الأعلام، فها هو الأستاذ العلامة الشيخ محمد علي النجار في حفلة استقبال الشيخ محيي الدين بمجمع اللغة العربية، حين اختير عضوا به؛ يقول: "لقد قيل في الطبري: إنه كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكذلك يقال في الشيخ محيي الدين، إنه كالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالمتكلم الذي لا يعرف إلا الكلام، وآية ذلك ما ألفه أو أخرجه من الكتب في هذه الفنون". قال ذلك الشيخ النجار بعد أن قال: "ولقد أتى على الأزهر حين من الدهر، وجل ما يدرس في معاهده من تأليفه أو إخراجه"1. وتعدد المعارف العلمية كان من سمات علماء الأزهر، قبل أن تنشأ الكليات، لأن الطالب في القسم العالي كان يدرس العلوم الرئيسية لكليات اللغة العربية وأصول الدين والشريعة الإسلامية جميعها، فإذا   1 مجلة "مجمع اللغة العربية" "ج20،ص192، سنة 1966م". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 كان نابغة كالشيخ النجار أو الشيخ محيي الدين؛ فإن علوم الإسلام شريعة ولسانًا لا تعجزه، وكان الشيخ إبراهيم الجبالي والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ عبد المجيد سليم يرأسون لجان الامتحانات في التخصص القديم، ويسألون عن دقائق العلوم المختلفة، وكأنهم ذوو اختصاص في كل علم على حدة! وقد زاد عليهم الأستاذ محيي الدين بما بذل من جهد في النشر والتأليف، على حين اكتفى هؤلاء بمجالس الدرس المستوعب لكبار الطلاب، وليتهم صحبوا القلم كما صحبوا اللسان. ومدحه الأستاذ المحقق الكبير عبد السلام هارون -رحمه الله تعالى- فقال: "ومما يخرج عن نطاق الحصر ما صنعه الأستاذ محيي الدين من العناية بنشر "شرح ابن يعيش على المفصل" في عشرة أجزاء لم يرقم عليها اسمه، ولم يدخلها في حساب ما قام على نشره من أمهات الأصول، ويكفيه فخرًا في النحو ويكفي النحو فخرًا به أنه عالج معظم كتبه المتداولة، لتيسير دراستها وتذليل القراءة، والبحث فيها بدءًا بـ "الأجرومية" وانتهاء "بشرح الأشموني للألفية"، و "شرح ابن يعيش للمفصل"، ولا يزال كثير منا نحن أعضاء المجمع الموقر يرجع إلى كتاباته وتعليقاته، وإلى هذا المدد الزاخر، من المكتبة النحوية التي نقلها من ظلام القدم إلى نور الجدة والشباب"1. وللأستاذ محمد محيي الدين مقدمات علمية رائعة تدل على أنه   1 مجلة "مجمع اللغة العربية" "ج32، ص186، سنة 1966م". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 باحث جيد، لو تفرغ للتأليف الخالص لأبدع الكثير، وأشير إلى مقدمتين رائعتين هما مقدمته لكتاب "مقالات الإسلاميين" للأشعري، ومقدمته لكتاب "تهذيب السعد"، حيث ألمّ في الأولى بتاريخ دقيق لعلم الكلام منذ بدت أصوله حتى اكتمل وتشعب وتعددت فرقة بعد الأشعري، في وضوح خالص يدل على صحة الفهم، وصدق الاستنباط، كما ألم في المقدمة الثانية بتاريخ علم البلاغة في دقة حصيفة، وقد كتب هذا التاريخ المستوعب قبل أن تظهر الكتب المستقلة بتاريخ هذا الفن، فكان ذا سبق جلي، وله في مقدمة "نهج البلاغة" استيعاب جيد، واستشفاف بصير. ومع هذا، فله مؤلفات عدة، منها: - "الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية"، مطبوع. - "أحكام المواريث على المذاهب الأربعة"، مطبوع. - "التحفة السنية بشرح المقدمة الأجرومية"، مطبوع، ثلاثة أجزاء. - "تصريف الأفعال" طبع الأول منه. توفي الشيخ محمد محيي الدين سنة 1393هـ- 1973م، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 ترجمة محقق الكتاب مشهور بن حسن آل سلمان : بقلم تلميذه: أبي العباس الأثري الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.. وبعد: فها أنا ذا أقيد معالم هذه الترجمة، واللسان "اليراع" رضابه يكاد يجف حياء؛ فإن المترجم في ذا الأمر كان شرع -وهي جادة مطروقة، وسكيكة مألوفة، كما لا يخبل على عريب من الناس ذي نهية- ثم آل الأمر إلي بإشارة من إشارته حكم، وطاعته غنم. ولا يدرك الطالع شأو الضليع، ولا الخوار سبيل الشجيع، ولكنه أمر كان، والله المستعان، وعليه التكلان. قال أبو العباس: هو الشيخ السلفي المتفنن، صاحب التصانيف الماتعة الفريدة، والتواليف المليحة المفيدة، والتحقيقات العزيزة الفاردة، مشهور بن حسن بن محمود آل سلمان، المكني بأبي عبيدة -حفظه الله أُخرى المنون، ما توالت الأيام، وتتابعت السنون. ولد في فلسطين سنة ثمانين وثلاثمائة وألف، ونشأ في بيت حفاظ ودين، ونجار كريم، ثم ظعن وأهل بيته إلى الأردن ذات العويم، سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف -وهي سنة هياط ومياط- عقيب النازلة التي حلت بأهلها. ثم عمن في "عمان" الأردن، وكانت دراسته الثانوية فيها، وإنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 التحق بكلية الشريعة، سنة أربعمائة وألف، في قسم "الفقه وأصوله". رزقه الله مقة للعلم الشرعي مذ كان في جن النشاط وربان الحداثة، وآتاه الله من كل شيء سببًا، فأتبع سببًا ومشربًا، وانكب على علوم الشريعة الغراء، درسًا، وقراءة، وتحصيلًا والتقاطًا لشتيتها وأثيثها، واصلًا الآساد بالتأويب، ومراوحًا بين الإهذاب والتقريب فقرأ شطرًا عظيمًا من "المجموع" النواوي، و "المغني" لابن قدامة، و "تفسير أبي الفداء"، و "تفسير القرطبي"، و "صحيح البخاري" بشرح الحافظ العسقلاني، و "صحيح مسلم" بشرح النواوي، وغيرها جمع عظيم، وجم غفير، لا يأتي عليه حيسوب. وكان الشيخ -لا تبلى مودته- مستهتِرا1 بالكتب الشرعية كلفًا بها. بدأ بالفتش والتنقير عنها قبل ظهور سباله، ونبات عثنونه. فاجتمع له منها الشيء الكثير، والعدد الوفير. ثم أتبع سببًا، فتأثر بطائفة من فحولة العلماء ومحققيهم، وقفا أثرهم، وعرف أخراتهم، ومنهم: شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن تيمية النميري "م سنة 728هـ"، والشيخ ولوع به يقدمه. وتلميذه البار، العالم الرباني وشيخ الإسلام الثاني، أبو عبد الله ابن قيم الجوزية "م سنة 751هـ"، والبيهقي، والنواوي، والذهبي، والقرطبي، وابن حجر، وابن عبد البر، والشاطبي -رحم الله الجميع-. وإنه استراح -بعد- من النظر إلى التحقيق، ومن التحقيق إلى التعليق، وإنها -لعمري- الطريقة المثلى، في التحصيل والطلب، ونيل القدح المعلى، وبلوغ الأرب.   1 أي: ولوعًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 تأثر بجماعة من أساتيذه تأثرا عظيمًا، سواء ممن أخذ عنه على مقاعد الدراسة النظامية، أو في المجالس العلمية، ومنهم: فضيلة شيخنا العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وشيخ أشياخنا العلامة الفقيه مصطفي الزرقاء -زاد الله في أنفاسهما-. قال أبو العباس: أما شمايله وتوسه، فإن رائيه يخاله قطعة من نفسه. وإني -علم الله- ما رأيت مثله، زماتة وركانة، وفطنة وزكانة، إلى حلم، وأناة، وإسجاح ولين جنب، ولكنه في الحق شديد الخنزوانة. قال أبو العباس: وهو من هو في العناية بآثار الإسلام وميراثهم، طول باع، وحسن تفهم، وجلدًا على البحث، وتحصيلًا لكتبهم، وتفانيا في خدمتها، وانخراطًا في سلكها، كيف لا، وهو جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. تواليفه كلها ترنو بعين أبيها إذا لحظت، وتمضي في جادة مستقيمة، وفج رغيب، ونهج لاحب، لا عوج فيها ولا أمت، فهو أبو بجدتها، ورب نجدتها. وبعضها وضع له القبول في الأرض، ودرس في أصقاع شتى، كـ "القول المبين في أخطاء المصلين". أول كتبه تصنيفًا كتاب: "الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر"، وله -الآن- عليه زيادات مهمات تخرج -قريبًا إن شاء الله تعالى-. وأول تصانيفه طبعا كتاب: "المحاماة تاريخها في النظم، وموقف الشريعة الإسلامية منها"، قرأ جزءًا منه على شيخه العلامة مصطفي الزرقا. وهو أول كتاب مفرد في بابه، نهل منه وعب كل من كتب في هذه البابة. ثم كتب "موقف الشريعة الإسلامية من خلو الرجل أو الفروغية"، وهو كالذي قبله، حيازة لفضل السبق، وفضل فتق الرتق، فسد به ثغرة، وأزال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 حجر عثرة. وله من الكتب أيضا: "من قصص الماضين في حديث سيد المرسلين"، و "إعلام العابد في حكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد"1، و "دراسة حديث أرحم أمتي بأمتي أبو بكر.." تعقب فيه تصحيح شيخه العلامة الألباني للحديث، و "المروءة وخوارمها"2، و "الهجر في الكتاب والسنة"، و "الغول في الحديث النبوي"، و "كتب حذر منها العلماء"، طبع منه المجموعة الأولى3 في جَلَدين، وهو في مجموعات خمس "لكل مجموعة جلدان"، قدم له، وقرأه شيخنا العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد. وله أيضا: "الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح وأثره في علم الحديث" وهو مطبوع في جلدين، ونشر منه كتاب مختصر، استله ناشره من الكتاب الأصل، فظهر ضعيفًا، لا يسد خلة، ولا جدة فيه. وله أيضا: "عناية النساء بالحديث النبوي"، و "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري"4، و "الردود والتعقبات على الإمام النووي في الصفات وغيرها من المسائل المهمات5 تتبع فيه تأويلات الإمام النوواي في "شرح صحيح مسلم" وبين مذهب السلف فيهن وأنحى باللائمة على من غمط النواوي حقه، وأجرى لسانه فيه بالثلب، وأفتى بحرق كتبه ومدوناته.   1 طبع طبعتين في الثانية فوائد زوائد وتجمع عنده زيادات مهمات لعلها تظهر -إن شاء الله- في طبعة ثالثة. 2 طبع ثلاث طبعات، الثالثة تزيد على الأولتين قرابة "مائة صفحة". 3 طبع أكثر من مرة، ولاقى قبولًا، فلله الحمد والمنة. 4 استله وجرده من "الفتح" تلميذه الأخ رائد صبري، وعلق الشيخ عليه وراجعه وعرف بالكتب وطبع باسميهما. 5 طبع أكثر من مرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وله دراسة جمع فيه أسماء الرسائل التراثية الموجودة برمتها في بطون "المجلات" أو "المجلدات" وسمها بـ "الإشارات"، تكون -إن شاء الله تعالى- في خمسة أجلاد، طبع منها الأول حسب. وله عناية بما لا يصح من القصص، نبوية كانت أو تاريخية، يجمعها في سلسلة تنشر متتابعة بعنوان "قصص لا تثبت"، الرابع منها قيد الإعداد. وله عناية بالقرطبي وتراثه، فكتب عنه دراسة جادة بعنوان "الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير" وصنع كشافًا فقهيًّا لـ "تفسيره"، جعله على أبواب الفقه، وعنده عزم على تخريج أحاديثه، إذ جمعها في بطاقات منذ زمن، وخرج قسمًا يسيرًا منها، وحقق له "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" "لم يطبع بعد"، وجمع كلامه في "التفسير" على الصوفية، وطبعه بعنوان "القرطبي والصوفية"، وطبع أيضا "شكوى القرطبي من أهل زمانه"، وهما رسالتان صغيرتان، وله سلسلة بعنوان "تنبيهات على محذورات" طبع منها "حكم الشرع في لعب الورق"، و "أضرار كرة القدم"، كتبت لأسباب تخص مواضيعها مع بعض أقاربه ومحبيه، وهي رسائل صغيرة، وكذا له "ألفاظ كفرية" جمعها من مجالس العامة على اختلاف طبقاتهم، و "تراجعات ابن حجر العسقلاني في فتح الباري" "قيد الطبع"، وكذا له "نصيحة ذهبية إلى الجماعات الإسلامية"، ضمنها في التقديم والتعليق على فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية في الطاعة والبيعة، كتبها وأرسلها إلى المشايخ والعلماء ليبدوا رأيهم فيها، فظهرت مطبوعة دون علمه، ووقع فيها ما لا يرتضي. ويعمل الآن على جمع الأحاديث النبوية الشريفة، المبثوثة في بطون كتب التاريخ، والأدب، واللغة، والقراءات، والرقاق، وما ليس تحت يد المشتغل بصناعة الحديث، وإنه يطبعها -إن شاء الله تعالى- في جمهرة عظيمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 وكذا بدأ بجمع الآثار المسندة لتكون -بعد- في معلمه كاملة شاملة -إن شاء الله تعالى-. وله جهود في التحقيق عظيمة، فعمل على نشر كثير من كتب التراث مما لم تر النور إلا بجهده، فهو أول من حقق كتاب "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام، و "الطبقات" للإمام مسلم بن الحجاج، و "الخلافيات" للبيهقي "طبع منه مجلدان، والثالث والرابع والخامس قيد الإعداد"، وإنه يربو -إن شاء الله تعالى- على مجلدات عشرة، وحقق "المجالس الخمسة التي أملاها الحافظ أبو طاهر السلفي بسلماس" للحافظ السلفي "ت576هـ"، و "أحاديث منتخبة من مغازي موسى بن عقبة" لابن قاضي شهبة "ت789هـ"، وأحكام النظر إلى المحرمات وما فيه من الخطر والآفات" لابن حبيب العامري "ت530هـ"، و "جزء فيه من عاش مئة وعشرين سنة من الصحابة" لأبي زكريا يحي بن منده "ت 511هـ"، و "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" للحافظ أبي بكر الخلال "ت311هـ"، و "الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط لما روي في ذلك من أحاديث ووجه تأويلها" لأبي الوليد بن رشد "520هـ"، و "الجامع للآداب" لابن عبد البر "ت463هـ" "ولم يكتب اسمه عليها"، و "درة الضرع لحديث أم زرع" لمحمد بن عبد الكريم القزويني "ت580هـ"، و "تالي تلخيص المتشابه" للخطيب البغدادي "وهو قيد الطبع"، و "تحفة الطالبين في تر جمة الإمام محيي الدين "النواوي" لابن العطار "ت724هـ"، و "الكبائر" للإمام الذهبي، وبين فيه زيف الطبعة المشهورة وأن الذهبي بريء منها، و "تشبه الخسيس بأهل الخميس" للذهبي أيضا" ظهر في مجلة الحكمة"، و "ذكر ابن أبي الدنيا وما وقع عاليًا من حديثه" لأبي موسى المديني، و "فنون العجائب" للنقاش، و "جزء القاضي الأشناني"، و "فضائل الرمي في سبيل الله" للحافظ القراب "ت429"، و "فضيلة العادلين"، و "جزء فيه طرق حديث إن لله تسعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 وتسعين اسمًا" كلاهما لأبي نعيم "ت430هـ"، و "الوجل والتوثق بالعمل" لابن أبي الدنيا، و "أدب النفوس" للآجري، و "مسألة سبحان" لنفطويه، و "حديث الجويباري" للبيهقي، وكلها ستظهر -إن شاء الله تعالى- في مجموعة قريبًا، وقد فرغ من تنضيدها. وحقق "العزلة" لابن أبي الدنيا، وهو "قيد الطبع"، وله حواش ومراجعات وتعليقات على تحقيق "الغيلانيات" لأبي بكر الشافعي "قيد الطبع"، وكذا على كتاب شيخه الألباني "المنتخب من فهرس مخطوطات الظاهرية". وحقق مجموعة من كتب ابن القيم، مثل "الفروسية"، و "جلاء الأفهام" "قيد الطبع "، و "الطرق الحكمية" "قيد التنضيد والصف"، و "الفوائد الحديثية" لم يطبع قبل، و "إعلان الموقعين"، "قيد التنضيد" و "زاد المعاد" "قيد الإعداد". وحقق أيضا: "جزء في طرق حديث أفرضكم زيد" لمحمد بن عبد الهادي "لم يطبع بعد"، و "تذكرة الطالب المعلم فيمن قيل إنه مخضرم" لسبط بن العجمي. وحقق أيضا: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" لولد سبط ابن العجمي، و "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة" لرشيد الدين العطار، وهو في ذيل "الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح"، و "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" لابن حيويه "ت366هـ" "تلميذ النسائي"، و "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة المقدسي "شيخ النواوي" و "مجموعة رسائل حديثية" للإمام النسائي، و "المتوارون"، و "الأوهام التي في مدخل أبي عبد الله الحاكم النيسابوري" كلاهما للحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي "ت409هـ"، و "الفوائد الزينية في مذهب الحنفية" لابن نجيم "ت 970هـ". وحقق مجموعة من رسائل الأسيوطي "ت911هـ"، هي: "الأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 بالاتباع والنهي عن الابتداع"، و "تمهيد الفرش في الخصائل الموجبة لظل العرش"، و "بزوغ الهلال في الخصال الموجبة للظلال"، و "بشرى الكئيب بلقاء الحبيب"، و "التعليل والإطفا لنار لا تطفى"، و "كتاب في صفة صاحب الذوق السليم ومسلوب الذوق اللئيم" "وهو عبارة عن مقامة، ولم يكتب اسمه عليها"، و "المسارعة إلى المصارعة". وحقق أيضا مجموعة من رسائل السخاوي، وهي: "رجحان الكفة في بيان نبذة من أهل الصفة"، و "الجواب الذي انضبط عن لا تكن حلوًا فتسترط"، و "تخريج أحاديث العادلين"، و "الفخر المتوالي فيمن انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من الخدم والموالي"، و "تحرير الجواب عن ضرب الدواب" ظهر في مجلة "الحكمة"، و "القول المنبي في ترجمة ابن عربي"، و "الأجوبة العلية عن الأسئلة الدمياطية"، و "المسلسلات"، و "البلدانيات" و "القول البديع"، "كلها قيد الإعداد والتحقيق". وجمع مؤلفات السخاوي في كتاب فرد "لم يطبع". وحقق أيضا مجموعة من رسائل الشوكاني "م سنة 1250هـ" مثل: "در السحابة في فضائل الصحابة" "قيد الطبع"، و "تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل"، و "بلوغ المنى في حكم الاستمنى"، و "إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صلى الله عليه وسلم". وحقق أيضا "برد الأكباد في فضل فقد الأولاد" لابن ناصر الدين "لم يطبع بعد". وحقق مجموعة رسائل الحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ"، مثل: "تخريج حديث الأسماء الحسني"، و "ذكر الآثار الواردة في الأذكار التي تحرس قالها من كيد الجن" "وطبع خطأ منسوبًا لابن حجر الهيتمي! وهو قطعة من "بذل الماعون"، و "جزء في طرق حديث لا تسبوا أصحابي". وحقق مجموعة من رسائل الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي، مثل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 "تحقيق البرهان في شأن الدخان"، وله بذيله "التعليقات الحسان"، و "إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان"، و "تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان"، و "تحقيق الخلاف في أصحاب الأعراف". وحقق أيضا مجموعة من رسائل الشيخ على القاري "م سنة 1014هـ"، مثل: شم العوار في ذم الروافض "لم يطبع بعد"، و "أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام"، و "الذخيرة الكثيرة في رجاء المغفرة للكبيرة"، و "سلالة الرسالة في ذم الروافض ضمن أهل الضلالة"، و "تطهير الطوية في تحسين النية"، و "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة"، و "فصول مهمة في حصول المتمة"، و "فرائد القلائد على أحاديث شرح العقائد"، و "الاستدعاء في الاستسقاء"، و "الأدب في رجب"، و "معرفة النساك في معرفة السواك"، و "التجريد في إعراب كلمة التوحيد"، و "رفع الجناح وخفض الجناح بأربعين حديثًا في النكاح"، و "شفاء السالك في إرسال مالك" "وجميعها مطبوعة"، و "الأربعين القدسية"، و "البينات في بيان بعض الآيات"، و "إعراب القاري على أول باب البخاري"، و "صنعة الله في صيغة صبغة الله"، و "أنوار الحجج في أسرار الحجج"، و "تزيين العبارة لتحسين الإشارة" وذيلها "التدهين للتزيين على وجه التبيين"، و "فتح السماع في شرح السماع"، والاعتناء بالغَنا في الغِنا"، و "رسالة ما يتعلق في ليلة النصف من شعبان" "فرغ من تحقيقها كلها، وهي منضدة ومعدة للطبع من سنوات عديدة". وفرغ من تحقيق "القواعد الفقهية" "قيد التنضيد" لابن رجب الحنبلي، وهو منشغل الأن بتحقيق "المجالسة" لأبي بكر الدينوري. وحقق أيضا مجموعة من الرسائل الصغيرة في الفقه، والآداب، واللغة، مثل: الدرر الثمينة في حكم الصلاة في السفينة" للحموي "ت 1098"، و "مفيدة الحسنى لدفع ظن الخلو بالسكنى" للشرنبلالي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 "ت 1096هـ"، و "المطالب المنيفة في الذب عن الإمام أبي حنيفة" لمصطفي الحسيني، و "آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة" للغزي "ت 984هـ"، و "القول المسموع في الفرق بين الكوع والكرسوع" للزبيدي "ت 1205هـ" -رحم الله الجميع-. قال أبو العباس: فمجموع ما طبع له، حتى كتابة هذه السطور، قرابة مائة رسالة وكتاب، تحقيقًا أو تصنيفًا، وأتم نحو العشرين مما لم يطبع، عدا عما في جعبته ومسوداته من نسخ لأجزاء ومخطوطات مهمة، أو أعمال علمية متممة وغير متممة، نسأل الله أن يعينه على إتمامها وإخراجها إلى عالم النور. وبعد: فإني لو رمت البسط، ويممت شطره، لخرجت ترجمتي المعتصرة هذه في أجلاد وأجلاد، ولكن حال الجريض دون القريض وخشية الإلظاظ دون الغريض. وليعلم الناظر أني كتبت ما كتبت عاصيًا لما يرضيه، مطيعًا لما يرضيني، وإلا فله العتبى حتى يرضى. أسأل الله أن يوفق شيخنا ويعينه، وأن يعظم له أجرًا، ويخلد له ذكرًا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم. وكتب أبو العباس الأثري يوسف بن عطاء السليمان -عفا الله عنه- في 28/ جمادي الآخرة/ 1417هـ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 الفهارس فهرس الآيات القرآنية الكريمة ... فهرس الآيات القرآنية الكريمة: الآية رقمها الجزء والصفحة الفاتحة: الحمد لله رب العالمين 2-4 2/ 165 مالك يوم الدين 4 2/ 132 إياك نعبد 5 2/ 165 إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5-6 4/ 203 اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ 6-7 4/ 167 البقرة: ذلك الكتب لا ريب فيه 2 1/ 74 هدى للمتقين 2 3/ 308، 512-4/ 135، 167- 5/ 70 ويقيمون الصلاة 3 2/ 404 إن الذين كفروا سواء عليهم 6 4/ 167-215 ومن الناس من يقول آمنا 8 3/ 109 يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا 9 1/ 537-3/ 109 وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أنفسهم 9 2/ 132 إنما نحن مستهزئون 14 3/ 109 الله يستهزئ بهم 15 1/ 537-2/ 257 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 يا أيها الناس اعبد وربكم 21 2/ 290-5/ 179 لعلكم تتقون 21 2/ 168 الذي جعل لكم الأرض فراشا 22 2/ 374، 280-5/ 361 فلا تجعلوا لله أندادا 22 4/ 242، 245، 248 وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عبد نا 23 4/ 217 فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا 24 4/ 167 ولهم فيها أزواج مطهرة 25 5/ 362 إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا 26 4/ 167، 201، 212 فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق 26 4/ 212 ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا 26 3/ 514 يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا 26 3/ 512-5/ 70 وَمَا يضل به إلا الفاسقين 26 3/ 515 أولئك هم الخاسرون 27 4/ 404 هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جميعا 29 1/ 477-2/ 76 إني جاعل في الأرض خليفة 30 3/ 25 أتجعل فيها من يفسد فيها 30 5/ 393 إني أعلم ما لا تعلمون 30 5/ 394 وعلم آدم الأسماء كلها 31 5/ 208 وكلا منها رغدا حيث شئتما 35 1/ 277، 493 ولا تقربا هذه الشجرة 35 4/ 245 ولا تلبسوا الحق بالباطل 42 4/ 77 وأقيموا الصلاة 43 5/ 351 أتأمرون الناس بالبر وتنسون 44 1/ 76، 95-4/ 86-5/ 271 واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها 45 2/ 232، 405-406-3/ 154 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم 46 2/ 406 وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئا 48 2/ 382 وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا 58 1/ 228 وادخلوا الباب سجدا 58 4/ 406 وقولوا حطة 58 4/ 397 فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي 59 4/ 397، 406 إن الذين آمنوا والذين هادو والنصارى 62-81 4/ 168 وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ 65 3/ 110-4/ 65 إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة 67 5/ 388 وما كادوا يفعلون 71 1/ 258 وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ 75 4/ 160 وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة 83 2/ 404 وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخرة من خلاق 102 1/ 64 ولبئس ما شروا به أنفسهم 102 4/ 168 ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله 103 4/ 168 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا 104 1/ 465-2/ 163-3/ 509-4/ 60، 111 لا تقولوا راعنا 104 3/ 76-5/ 287 والله يختص برحمته من يشاء 105 5/ 241 ود كثير من أهل الكتاب 109 1/ 96 وأقيموا الصلاة 110 1/ 29، 31 بلى من أسلم وجهه لله 112 4/ 168 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يذكر فيها اسمه 114 4/ 249 وقالوا اتخذ الله ولدا 116 4/ 159 بل له ما في السماوات والأرض 116 4/ 159 الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق 121 4/ 168 واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى 125 2/ 420-4/ 398 رب اجعل هذا بلدا آمنا 126 4/ 386 وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت 127 4/ 203 ربنا تقبل 127 4/ 202 فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون 132 2/ 172، 178 ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده 140 4/ 77 وكذلك جعلناكم أمة وسطا 143 2/ 427-4/ 406، 407، 447 وما كان الله ليضيع إيمانكم 143 4/ 260 قد نرى تقلب وجهك في السماء 144 2/ 420 الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه 146 1/ 84، 94 وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره 150 5/ 351 فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون 150 2/ 12 فاذكروني اذكركم 152 2/ 544 ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع 155 1/ 507 أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة 157 2/ 417 إن الصفا والمروة من شعائر الله 158 1/ 231، 478، 481-4/ 398 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ والهدى 159 1/ 95-4/ 77، 125 إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا 160 2/ 361 يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حلالا طيبا 168 1/ 197 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ 172 1/ 198 كلوا من طيبات ما رزقناكم 172 2/ 306 فمن اضطر 173 1/ 468 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكتاب 174 1/ 88 ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق 176 5/ 61 ليس البر أن تولوا وجوكم 177 2/ 290 كتب عليكم القصاص في القتلى 178 3/ 248 الحر بالحر والعبد بالعبد 178 4/ 403 ولكم في القصاص حياة 179 2/ 493، 520-5/ 180 وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ 179 2/ 13 كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت 180 5/ 48 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ 183-187 4/ 268 كتب عليكم الصيام 183 3/ 248، 422 كتب عليكم الصيام كما كتب 183 5/ 180 كما كتب على الذين من قبلكم 183 2/ 12-3/ 366 فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ 184 1/ 490، 506 ومن كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ 185 1/ 476 يريد الله بكم اليسر 185 1/ 480، 484، 518، 520، 522، 540-2/ 433-3/ 372 يريد الله بكم اليسر ولا يريد 185 2/ 210، 230-5/ 104 وإذا سألك عبادي عني 186 2/ 164 أحل لكم ليلة الصيام الرفث 187 3/ 248 علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم 187 1/ 465-3/ 296 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 فالآن باشروهن 187 2/ 154 وابتغوا ما كتب الله لكم 187 2/ 493 حتى يتبين لكم الخيط الأبيض 187 2/ 143-4/ 398 من الفجر 187 3/ 299 ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل 188 2/ 520-3/ 102، 185، 460-4/ 268-5/ 180 يسألونك عن الأهلة 189 1/ 43-2/ 113-4/ 269 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج 189 3/ 150 وليس البر بأن تأتوا البيوت 189 1/ 44 فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه 194 2/ 257، 321-5/ 190 وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا 195 1/ 248، 329، 331 ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة 195 3/ 561 واتموا الحج والعمرة لله 196 4/ 154 فلا رفث ولا فسوق 197 4/ 95 وتزودوا 197 3/ 561 ليس عليكم جناح أن تبتغوا 198 1/ 465، 475، 479-2/ 306، 366، 493 فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ 203 1/ 465، 478 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدنيا 204 5/ 392 كان الناس أمة واحدة 213 5/ 61 يسئلونك ماذا ينفقون 215 2/ 279 كتب عليكم القتال 216 2/ 217، 375-5/ 180 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ 216 2/ 167، 375 والله يعلم وأنتم لا تعلمون 216 2/ 303 يسئلونك عن الشهر الحرام 217 1/ 254-5/ 376 إن الذين آمنوا والذين هاجروا 218 4/ 178 يسئلونك عن الخمر والميسر 219 1/ 276-2/ 124، 279 ويسئلونك عن اليتامى 220 1/ 254-5/ 376 ويسئلونك عن المحيض 222 1/ 254-5/ 375 إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين 222 2/ 191 نساؤكم حرث لكم 223 1/ 227، 493 والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء 228 3/ 358 وبعولتهن أحق بردههن في ذلك إن 228-229 3/ 111 الطلاق مرتان 229 3/ 111 الطلاق مرتان 229-230 1/ 201 ولا يحل لكم أن تأخذوا مما 229 1/ 428، 466-3/ 111 فإن خفتم ألا يقيما حدود الله 229 4/ 221 فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ 230 1/ 428-3/ 125 وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ 231 3/ 110 فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو سرحوهن بمعروف 231 3/ 9 ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا 231 3/ 9، 185 ولا تتخذوا آيات الله هزوا 231 1/ 446-3/ 31 والوالدات يرضعن أولادهن 233 1/ 157-3/ 422 لا تضار والدة بولدها 233 3/ 185 والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا 234 4/ 397 ولا جناح عليكم فيما عرضتم به 235 1/ 475، 479 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 لا جناح عليكم إن طلقتم النساء 236 1/ 475 وقوموا لله قانتين 238 3/ 341، 294-4/ 150 ولكن أكثر الناس لا يشكرون 243 3/ 508 مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا 245 4/ 281 تلك الرسل فضلنا 253 2/ 60-3/ 546/ -5/ 291 وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بعدهم 253 3/ 372 وسع كرسيه السماوات والأرض 255 4/ 229 ربي الذي يحيي ويميت 258 5/ 416 قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس 258 3/ 247-5/ 415 وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتي 260 4/ 173 رب أرني كيف تحيي الموتى 260 1/ 546-3/ 150-4/ 162، 176، 203 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ 264 1/ 456-3/ 90 كالذي ينفق ماله رئاء الناس 264 3/ 109 يؤتي الحكمة من يشاء 269 5/ 24 إنما البيع مثل الربا 275 4/ 380 وأحل الله البيع 275 1/ 208-2/ 275-3/ 185 وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم 279 4/ 380 وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ 280 3/ 103 واستشهدوا شهيدين من رجالكم 282 4/ 389 ولا يضار كاتب ولا شهيد 282 5/ 201 ممن ترضون من الشهداء 282 1/ 540 واتقوا الله ويعلمكم الله 282 5/ 283 والله بكل شيء عليم 282 3/ 309-4/ 20، 48 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 وإن تبدوا ما في أنفسكم 284 1/ 93، 503-2/ 282-3/ 351، 353-4-4/ 36-5/ 409 والله على كل شيء قدير 284 1/ 131، 133 آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ 285-286 4/ 37 آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ 285 1/ 504 لا يكلف الله نفسا إلا وسعها 286 2/ 210، 215، 282-3/ 51، 352 ربا لا تؤاخذنا 286 1/ 235-2/ 164-3/ 51-4/ 154، 202 ربنا ولا تحمل علينا إصرا 286 1/ 471-2/ 410-4/ 37 آلِ عِمْرَانَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ 7 3/ 305، 307، 315، 339-5/ 143 مِنْهُ آيَاتٌ محكمات 7 3/ 278، 320، 327-5/ 145 وأخر متشابهات 7 4/ 137 فأما الذين في قلوبهم زيغ 7 3/ 212، 290، 329-4/ 138، 139-5/ 390 والراسخون في العلم 7 3/ 329-5/ 76 رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا 8 2/ 164-3/ 291 زين للناس حب الشهوات 14 5/ 355 ربنا إننا آمنا 16 4/ 203 شهد الله أنه لا إله إلا هو 18 1/ 92 قل اللهم مالك الملك 26 2/ 166 لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء 28 3/ 9 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي 35 4/ 203 ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك 44 2/ 118 ربنا آمنا بما أنزلت 53 4/ 203 ومكروا ومكر الله 54 1/ 536-2/ 260 والله لا يحب الظالمين 57 2/ 191 إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ 59 5/ 416 فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون 64 3/ 416 يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ 65 5/ 416 ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا 67 2/ 125 إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه 68 2/ 149 إن الذين يشترون بعهد الله 77 1/ 428-4/ 390 إن أول بيت وضع للناس 96 4/ 247 ولله على الناس حج البيت 97 1/ 257-3/ 549-4/ 154-5/ 374، 388 اتقوا الله حق تقاته 102 3/ 357، 358 واعتصموا بحبل الله جميعا 103 5/ 152 واذكروا نعمت الله عليكم 103 5/ 164 ولتكن منكم أمة يدعون إلى 104 1/ 278، 283 ولا تكونوا كالذين تفرقوا 105 5/ 60، 152، 160، 288 كنتم خير أمة أخرجت للناس 110 2/ 426-4/ 227، 407، 426، 447 ليس لك من الأمر شيء 128 1/ 355 والله يحب المحسنين 134 2/ 191، 134-3/ 423 والذين إذا فعلوا فاحشة 135 4/ 173، 177 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 هذا بيان للناس 138 3/ 308-4/ 135، 325 وتلك الأيام نداولها بين الناس 140 1/ 225 وليمحص الله الذين آمنوا 141 1/ 507 والله يحب الصابرين 146 2/ 191 ثم صرفكم عنهم ليبتليكم 152 1/ 325-2/ 428 وليبتلي الله ما في صدوركم 154 1/ 325 بل أحياء عند ربهم يرزقون 169 4/ 408 الذين قال لهم الناس 173 1/ 498 وما كان الله ليطلعكم على الغيب 179 4/ 471 قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء 181 4/ 218 فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فاز 185 4/ 400 لتبلون في اموالكم وأنفسكم 186 1/ 503، 507 وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب 187-188 4/ 150 وإذا أخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب 187 4/ 32 يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا 188 4/ 32 ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك 191 4/ 203 ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان 193 4/ 186 لا يغرنك تقلب الذين كفروا 196-197 5/ 357 النساء: يا أيها الناس اتقوا ربكم 1 1/ 74 وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى 3 3/ 297 فَانْكِحُوا ما طاب لكم من النساء 3 4/ 227 ذلك أدنى ألا تعولوا 3 3/ 82 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا 4 4/ 221 ولا تؤتوا السفهاء أموالكم 5 1/ 534 وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ 6 2/ 313 وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فليأكل بالمعروف 6 4/ 390 ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا 6 3/ 111 وإذا حضر القسمة أولو القربى 8 3/ 349 إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما 10 3/ 460 يوصيكم الله في أولادكم 11 1/ 294 فإن كن نساء فوق اثنتين 11 4/ 377 فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ 11 4/ 384 مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ 12 1/ 449-3/ 9 مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غير مضار 12 3/ 111 تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ 12 2/ 401 ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات 13 3/ 423 ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده 14 2/ 401-3/ 423 إنما التوبة على الله 17 1/ 96-3/ 389-5/ 192 ثم يتوبون من قريب 17 3/ 489 ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن 19 1/ 466-3/ 111 حرمت عليكم أمهاتكم 23 3/ 460 وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم 23 3/ 250-4/ 385 وأحل لكم ما وراء ذلكم 24 3/ 355-4/ 310، 383 وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ 25 1/ 200-3/ 364 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 ذلك لمن خشي العنت منكم 25 3/ 364 وأن تصبروا خير لكم 25 1/ 518-2/ 271 يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ من قبلكم 26-28 3/ 372 يريد الله أن يخفف عنكم 28 1/ 518، 520-2/ 210، 433 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ 29 1/ 428 وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ 29 1/ 428-2/ 246، 433-3/ 102 إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رحيما 29 2/ 246 إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه 31 4/ 401-174 الرجال قوامون على النساء 34 3/ 87 فابعثوا حكما من أهله 35 3/ 313-4/ 223 واعبد وا الله ولا تشركوا به شيئا 36 2/ 290 والجار ذي القربى 36 4/ 248 الذين يبخلون 37 4/ 177 والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس 38 3/ 109 إن الله لا يظلم مثقال ذرة 40 4/ 174، 177 يومئذ يود الذين كفروا وعصوا 42 4/ 177 يود الذين كفروا وعصوا الرسول 42 3/ 216 ولا يكتمون الله حديثا 42 3/ 215 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وأنتم سكارى 43 3/ 250 لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى 43 1/ 238-2/ 231 أو لامستم النساء 43 4/ 201 من الذين هادوا يحرفون الكلم 46 4/ 161 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ 48 3/ 361-4/ 38، 174، 178 يؤمنون بالجبت والطاغوت 51 4/ 247 يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله 59 2/ 432-3/ 229-4/ 321، 342-5/ 257 فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول 59-60 5/ 166 فإن تنازعتم في شيء 59 4/ 136، 191-5/ 60، 82، 99، 138، 143، 415 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا 60 5/ 82 ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم 64 4/ 174، 178 فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجر بينهم 65 2/ 285-4/ 320 هذه من عند الله 78 4/ 209 فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقون حديثا 78 4/ 208 ما أصابك من حسنة فمن الله 79 4/ 209 من يطع الرسول فقد أطاع الله 80 2/ 430-4/ 322 أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ 82 4/ 209 وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيه 82 3/ 177، 188، 216-5/ 59 لعلمه الذين يستنبطونه منهم 83 2/ 416 فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة 92 4/ 374 ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم 93 3/ 361 لا يستوي القاعدون من المؤمنين 95 3/ 293-5/ 409 غير أولي الضرر 95 3/ 559 إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم 97 4/ 36، 41 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ 101 1/ 474، 490 وإذا كنتم فيهم فأقمت لهم الصلاة 102 1/ 279 لتحكم بين الناس بما أراك الله 105 2/ 416-4/ 182 ولا تكن للخائنين خصيما 105 4/ 177 ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم 107-109 4/ 177 ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه 110 4/ 173، 174، 177 وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ له الهدى 115 3/ 29-4/ 38، 340-5/ 166 ويتبع غير سبيل المؤمنين 115 4/ 41، 182 واتخذ الله إبراهيم خليلا 125 3/ 332-4/ 230 فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما 128 4/ 116 وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا 140 3/ 348 وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا 141 1/ 156-3/ 422-4/ 403 يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا 142 3/ 109 لا يحب الله الجهر بالسوء 148 2/ 190 وما قتلوه يقينا 157 5/ 202 إنا أوحينا إليك 163 2/ 419 رسلا مبشرين ومنذرين 165 2/ 12، 519-5/ 180 وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ 176 4/ 384 المائدة: أحلت لكم بهيمة الأنعام 1 1/ 208 يحكم ما يريد 1 2/ 70 وإذا حللتم فاصطادوا 2 1/ 288-3/ 414 وتعاونوا على البر والتقوى 3 3/ 154 حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير 3 4/ 288 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 فمن اضطر في مخمصة 3 1/ 474، 475 اليوم أكملت لكم دينكم 3 1/ 22، 153-3/ 172، 240-4/ 135، 181، 184، 211، 319-5/ 229، 238 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي 3 2/ 91 فإن الله غفور رحيم 3 1/ 490 فكلوا مما أمسكن عليكم 4 3/ 201 وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم 5 1/ 274-3/ 354 إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا 6 5/ 351 وامسحوا برءوسكم وأرجلكم 6 5/ 48 أو لامستم النساء 6 4/ 201، 263 وإن كنتم جنبا فاطهروا 6 4/ 128 مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ 6 2/ 12، 211، 418، 433-3/ 372 وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله 18 4/ 196 إني أريد أن تبوأ بإثمي وأثمك 29 3/ 60 مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ 32 1/ 336 فكأنما قتل الناس جميعا 32 4/ 54 ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا 32 1/ 360 إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله 33 5/ 37 والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما 38 4/ 311 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ 41 1/ 254 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 يحرفون الكلم من بعد مواضعه 41 4/ 160 وكيف يحكمونك وعندهم التوراة 43 1/ 94-3/ 365 بما استحفظوا من كتب الله 44 2/ 92 ومن لم يحكم بما أنزل الله 44 4/ 39 وكتبنا عليهم فيها أن النفس 45 3/ 366-4/ 374 والجروح قصاص 45 5/ 190 لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا 48 3/ 367 وأن احكم بينهم بما أنزل الله 49 4/ 55-5/ 91، 131 فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ من عنده 52 2/ 167 فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه 54 2/ 189، 426 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ 67 3/ 230 والله يعصمك من الناس 67 2/ 506 كانا يأكلان الطعام 75 2/ 165-4/ 201، 263 وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أعينهم 83 1/ 91-4/ 337 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ 87 1/ 339، 524-2/ 544 فكفارته إطعام عشرة مساكين 89 3/ 422 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ 90 1/ 276-4/ 151 إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام 90 2/ 123 إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم 91 2/ 522-3/ 238 وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول 92 1/ 74-4/ 321 ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات 93 1/ 157، 158، 159، 272، 276-4/ 150، 260 فجزاء مثل ما قتل من النعم 95 5/ 17 يحكم به ذوا عدل منكم 95 3/ 313-4/ 223 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 أحل لكم صيد البحر وطعامه 96 1/ 208 يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء 101 1/ 45، 257، 258-5/ 374 يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء 101-105 5/ 166 لا تسئلوا عن أشياء 101 5/ 374، 381 إن تبد لكم تسؤكم 101 5/ 377 مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ 103 2/ 545 أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يهتدون 104 2/ 167 قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا 114 2/ 165 رضي الله عنهم ورضوا عنه 119 2/ 417 الأنعام: الحمد لله الذين خلق السماوات والأرض 1 1/ 74-4/ 169 كتب على نفسه الرحمة 12 4/ 169 إني أخاف إن عصيت ربي 15 4/ 169 من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه 16 4/ 169 وإن يمسسك الله بضر 17 4/ 169 وإن يمسسك بخير فهو 17 3/ 552 الذين اتيناهم الكتاب يعرفونه 20 1/ 84 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا 21 4/ 27 ربنا ما كنا مشركين 23 3/ 215 ما كنا مشركين 23 3/ 215 وللدار الأجرة خير للذين يتقون 32 4/ 169 قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون 33-35 1/ 354 إنما يستجيب الذين يسمعون 36 4/ 169 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 ما فرطنا في الكتاب من شيء 38 2/ 129-3/ 172، 4/ 184، 319 والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم 39 4/ 169 وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين 48 4/ 169 ولا تطرد الذين يدعون ربهم 52 2/ 382-3/ 283 وإذا جاءك الذين يؤمنون بأياتنا 54 2/ 431 إن الحكم إلا لله 57 4/ 222، 223 وعنده مفاتح الغيب 59 4/ 471 وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا 68 5/ 392 وما على الذين يتقون من حسابهم 69 3/ 348 الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم 82 1/ 93-2/ 282-3/ 401-4/ 24، 27، 28-5/ 409 واجتبيناهم وهديناهم 87 2/ 430 أولئك الذين هدى الله 90 3/ 465 فبهداهم اقتده 90 3/ 466 إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ 91 1/ 60-4/ 158 مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ 91 5/ 416 قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ موسى 91 4/ 158-5/ 416 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا 97 2/ 113 انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه 99 5/ 362 وهو على كل شيء وكيل 102 1/ 131 لا تدركه الأبصار 103 3/ 191 ولا تسبوا 108 4/ 65 ولا تسبوا الذين يدعون 108 5/ 180، 185، 287 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ 108 1/ 465-3/ 75، 509-4/ 60، 112 إن يتبعون إلا الظن وإن هم 116-117 5/ 166 وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا ما اضطررتم 119 3/ 236 وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عليه 121 3/ 354 أومن كان ميتا فأحييناه 122 3/ 249 فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام 125 3/ 372 يجعل صدره ضيقا حرجا 125 4/ 214 وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث 136 4/ 158 وقالوا هذه أنعم وحرث حجر 138 2/ 545-4/ 158 سيجزيهم بما كانوا يفترون 138 4/ 158 وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ 139 4/ 158 سيجزيهم وصفهم 139 4/ 159 قد خسر الذين قتلوا 140 5/ 166 ثمانية أزواج من الضأن 143 5/ 167 قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ 145 4/ 355-5/ 150 فلله الحجة البالغة 149 2/ 137، 354 قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ 151 2/ 123 وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا 151 3/ 236 لعلكم تذكرون 152 2/ 168 وإن هذا صراطي مستقيما 153 3/ 38-5/ 60 لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن 158 4/ 409 إن الذين فرقوا دينهم 159 3/ 38-5/ 154، 160، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 16 4-5/ 288 ولا تزر وازرة وزر أخرى 164 2/ 381-4/ 69 وهو الذي جعلكم خلائف الأرض 165 3/ 25 الأعراف: فلا يكن في صدرك حرج منه 2 2/ 433 فلنسئلن الذين أرسل إليهم 6 1/ 181، 184 أنا خير منه خلقتني من نار 12 5/ 394 قل إن الله لا يأمر بالفحشاء 28 4/ 54 وكلوا واشربوا ولا تسرفوا 31 2/ 120 إنه لا يحب المسرفين 31 3/ 423 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لعباده 32 1/ 183، 477، 480-2/ 76، 123، 281، 306، 544-3/ 517، 523 قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا 32 2/ 547 قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ منها وما بطن 33 2/ 123 ادعوا ربكم تضرعا وخفية 55 3/ 283 بل أنتم قوم مسرفون 81 3/ 423 قد افترينا على الله 89 5/ 269 ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون 129 3/ 25 فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه 131 4/ 216 ولما جاء موسى لميقاتنا 143 4/ 196 ويضع عنهم إصرهم 157 1/ 471، 521، 522-2/ 210 قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ 158 2/ 163، 407-3/ 242 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي 158 2/ 109، 427 كلوا من طيبات ما رزقناكم 160 1/ 228 وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظهورهم ذريتهم 172 4/ 409 ألست بربكم قالوا بلى شهدنا 172 2/ 13 ولقد ذرأنا لجهنم 179 4/ 230 أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض 185 1/ 55، 65-3/ 151 وجعل منها زوجها ليسكن إليها 189 1/ 540 ألهم أرجل يمشون بها 195 5/ 404، 411 إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف 201 1/ 97-4/ 216 الأنفال: قل الأنفال لله والرسول 1 3/ 348 فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم 1 5/ 152 إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله 2 4/ 336 إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله 2-4 1/ 92 ومن يولهم يومئذ دبره 16 3/ 355 استجيبوا لله وللرسول 24 3/ 298، 405 إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا 29 5/ 24 وإذا قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ 32 2/ 165 واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن 41 3/ 348 ليهلك من هلك عن بينة 42 5/ 68 وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة 60 3/ 561 إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا 65 3/ 355 والله مع الصابرين 66 1/ 509 لولا كتاب من الله سبق 68 1/ 256، 260، 514 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر 72 4/ 403 التوبة: فاقتلوا المشركين 5 1/ 446-4/ 220 فإن تابوا وأقاموا الصلاة 5 4/ 220 اتخذوا أحبارهم ورهبانهم 31 3/ 299-4/ 224 والذين يكنزون الذهب والفضة 34 3/ 357 إنما النسيء زيادة في الكفر 37 5/ 166 إلا تنفروا يعذبكم 39 1/ 515-2/ 272 انفروا خفاقا وثقالا 41 1/ 515-2/ 272-3/ 347 عفا الله عنك لم أذنت لهم 43 1/ 255، 260-2/ 428 ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم 46 2/ 190 ومنهم من يقول ائذن لي 49 1/ 515 قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لنا 51 3/ 558 ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى 54 3/ 9 والعاملين عليها 60 4/ 390 ومنهم الذين يؤذون النبي 61 4/ 164، 165 أبالله وآيته ورسوله كنتم 65 3/ 31 ومنهم من عاهد الله لئن 75-77 5/ 268 لئن آتانا من فضله لنصدقن 75-77 4/ 86 ومنهم من عاهد الله لئن 75-78 3/ 403 استغفر لهم أو لا تستغفر 80 2/ 390 وقالوا لا تنفروا في الحر 81 1/ 515 جزءا بما كانوا يكسبون 82، 95 3/ 313 وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا 84 2/ 390 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 ليس على الضعفاء 91 1/ 515 الأعراب أشد كفرا ونفاقا 97 3/ 359 وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا 98 3/ 359 وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ 99 3/ 359 خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا 102 3/ 221، 223 خذ من أموالهم صدقة 103 3/ 357 إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم 111 2/ 217 مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمشركين 113 2/ 388 حتى إذا ضاقت عليهم الأرض 118 2/ 271 يا أيها الذين آمنوا 119 5/ 268 ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ 120 2/ 216 وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً 122 1/ 278-3/ 348 فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فرقة 122 5/ 254 صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ 127 4/ 214 عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم 128 1/ 355 يونس: تلك آيات الكتاب الحكيم 1 3/ 308 هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا 5 2/ 113 ثم جعلناكم خلائف في الأرض 14 1/ 324 لننظر كيف تعملون 14 3/ 421 حتى إذا كنتم في الفلك 22 2/ 165 إنما مثل الحياة الدنيا 24 2/ 281-5/ 357 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 يخرج الحي من الميت 31 3/ 249-5/ 215 أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ 35 5/ 411 هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون 52 2/ 480 قل أرأيتم ما أنزل الله 59 3/ 524-5/ 325، 411 هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ 67 2/ 374 سبحانه هو الغني 68 4/ 159 ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة 88 4/ 203 وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ 107 3/ 552 هود: كتاب أحكمت آياته 1 2/ 91-3/ 308 الر كتاب أحكمت آيته ثم فصلت 1-2 1/ 74 إلا أنهم يثنون صدورهم 5 4/ 38 وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رزقها 6 1/ 302 وهو الذي خلق السماوات والأرض 7 1/ 324-2/ 12-3/ 510 فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ 12 1/ 354 وَضَائِقٌ به صدرك 12 4/ 214 إنما أنت نذير 12 5/ 254 أم يقولون افتراه قل فأتوا 13 4/ 217 فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن 14 1/ 75 من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها 15 1/ 176-4/ 36 أولئك الذين ليس لهم في الآخرة 16 4/ 36 ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن 34 3/ 372 قل إن افتريته فعلي إجرامي 35 2/ 167 لن يؤمن من قومك إلا من 36 4/ 431، 432 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك 49 2/ 118 فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون 55 2/ 500 فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون 55-56 3/ 559 قالوا سلاما 69 4/ 416 قال سلام 69 4/ 216 لو أن لي بكم قوة 80 4/ 410 وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عنه 88 5/ 269 خالدين فيها ما دامت السماوات 107 2/ 158 وأقم الصلاة طرفي النهار 114 3/ 245-4/ 171 وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ 118 5/ 69 يوسف: إنا أنزلنه قرآنا عربيا 2 2/ 102 ولكن أكثر الناس لا يشكرون 38 3/ 508 إن الحكم إلا لله 40 3/ 313-4/ 222 أنا راودته عن نفسه 51 3/ 70 إن الحكم إلا لله 67 4/ 222 وإنه لذو علم لما علمناه 68 1/ 75 ولمن جاء به حمل بعير 72 4/ 390 فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي 80 3/ 317 وسئل القرية التي كنا فيها 82 2/ 158 الرعد: إنما أنت منذر 7 1/ 354 هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا 12-13 4/ 114 خالق كل شيء 16 1/ 131 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 أنزل من السماء ماء فسالت أودية 17 1/ 60 أفمن يعلم إنما أنزل اليك 19 1/ 92 الذين يوفون بعهد الله 20 1/ 92 والذين ينقضون عهد الله من بعد 25 4/ 404 تصيبهم بما صنعوا قارعة 31 5/ 212 إبراهيم: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من 1 1/ 74 لئن شكرتم لأزيدنكم 7 2/ 544 يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت 27 2/ 432 ويفعل الله ما يشاء 27 2/ 70 الله الذي خلق السماوات والأرض 32-34 2/ 280-3/ 541-5/ 361 الحجر: إنا نحن نزلنا الذكر 9 1/ 22، 107-2/ 91 وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا 22 2/ 117 إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها 45-48 2/ 56 النحل: ولكم فيها جمال حين تريحون 6 3/ 518 ولكم فيها جمال حين تريحون 6-8 5/ 361 لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس 7 2/ 207 والخيل والبغال والحمير لتركبوها 8 3/ 517-518 هو الذي أنزل من السماء ماء 10 2/ 280-3/ 512 هو الذي أنزل من السماء ماء 10-18 5/ 361 وهو الذي سخر البحر لتأكلوا 14 1/ 183-3/ 508 ولتبتغوا من فضله 14 5/ 362 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 وبالنجم هم يهتدون 16 2/ 113 فخر عليهم السقف 26 4/ 155 ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون 32 2/ 402 فسئلوا أهل الذكر 43 5/ 337 وأنزلنا إليك الذكر لتبين 44 3/ 184، 230، 242، 308-4/ 73، 127، 135، 180، 314، 343 لتبين للناس ما نزل إليهم 44 4/ 192، 311 أو يأخذهم على تخوف 47 1/ 58 يخافون ربهم من فوقهم 50 4/ 155 وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ 65-69 5/ 362 ومن ثمرات النخيل والأعناب 67 3/ 518، 524 والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا 72 4/ 404-5/ 362 أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم 72 3/ 508 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم 78 1/ 284-2/ 543-4/ 195 وجعل لكم السمع والأبصار 78 4/ 220 والله جعل لكم مما خلق ظلالا 81 5/ 361-362 ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل 89 2/ 129-3/ 230-4/ 184 إن الله يأمر بالعدل والإحسان 90 2/ 123-3/ 396، 400-4/ 54 وأوفوا بعهد الله 91 5/ 245 ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها 91 1/ 449 مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ 96 1/ 458 مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى 97 1/ 349-2/ 403-5/ 362، 365 ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه 103 4/ 224 إنما يعلمه بشر 103 2/ 112 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 لسان الذين يلحدون إليه أعجمي 103 2/ 102، 112-3/ 247-4/ 224 إلا من أكره وقلبه مطمئن 106 1/ 231، 475، 491، 501-3/ 9 فكلوا مما رزقكم الله 114 2/ 554 ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب 116 3/ 401 ثم أوحينا إليك أن اتبع 123 2/ 149-5/ 263 أدع إلى سبيل ربك بالحكمة 125 2/ 126-5/ 263 ولا تحزن عليهم ولا تك في 127 1/ 354 الإسراء: وجعلنا الليل والنهار آيتين 12 2/ 113 ولا تزر وازرة وزر أخرى 15 2/ 383 وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا 15 1/ 4-2/ 519-4/ 200 من كان يريد العاجلة عجلنا له 18 3/ 345 ولا تمش في الأرض مرحا 37 1/ 205 وتعالى عما يقولون علوا كبيرا 43 3/ 289 ولقد فضلنا بعض النبيين 55 2/ 61-3/ 546-5/ 291 أولئك الذين يدعون يبتغون إلى 57 4/ 179 ولقد كرمنا بني آدم 70 2/ 75 ولولا أن ثبتناك 74 2/ 431 وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ 79 3/ 143 عَسَى أن يبعثك ربك مقاما 79 2/ 167-2/ 423 وننزل من القرآن ما هو شفاء 82 4/ 186 ويسئلونك عن الروح 85 1/ 49 قل لئن اجتمعت الإنس والجن 88 2/ 121 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 ولقد آتينا موسى تسع آيات 101 4/ 412 وقرآنا فرقناه لتقرأه 106 4/ 201 الكهف: لينذر بأسا شديدا من 2 1/ 74 إنا جعلنا ما على الأرض 7 1/ 324 ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى 1 2 ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة 22 4/ 161 فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر 29 3/ 313، 359-4/ 200 واضرب لهم مثل الحياة الدنيا 45 5/ 358 المال والبنون زينة الحياة الدنيا 46 5/ 355 هذا فراق بيني وبينك 78 5/ 393 وما فعلته عن أمري 82 2/ 507 وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا 104 4/ 263 فمن كان يرجو لقاء ربه 110 1/ 325-2/ 355-3/ 10 مريم: إذا قال لأبيه يا أبت لم 42 5/ 415 وما كان ربك نسيا 64 2/ 106 وإن منكم إلا واردها 71 3/ 362 تكاد السماوات يتفطرن منه 90 4/ 160 فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به 97 4/ 145 طه: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى 1-2 2/ 433 الرحمن على العرش استوى 5 4/ 139 فاخلع نعليك 12 3/ 250-4/ 250 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 وأقم الصلاة لذكري 14 3/ 142 إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا 14 3/ 366 وألقيت عليك محبة مني 39 2/ 361 ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا 45 3/ 559 لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى 46 3/ 559 إن هذان لساحران 63 1/ 120 قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى 68 1/ 57 إنما صنعوا كيد ساحر 69 1/ 57 لا يموت فيها ولا يحيا 74 2/ 55 وعصى آدم ربه فغوى 121 3/ 332-4/ 229 وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها 132 1/ 5، 302، 333، 472-2/ 290، 310-3/ 143، 145، 551 لا نسئلك رزقا نحن نرزقك 132 5/ 243 الأنبياء: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا 22 1/ 70-3/ 247-5/ 421 لا يسئل عما يفعل وهم 23 2/ 260 أم اتخذوا من دونه آلهة 24 5/ 411 وما أرسلنا من قبلك من 25 1/ 74 وقالوا اتخذ الرحمن ولدا 26 2/ 154-4/ 195 بل عباد مكرمون 26 4/ 159 ونبلوكم بالشر والخير فتنة 35 2/ 45 خلق الإنسان من عجل 37 2/ 176، 189 بل فعله كبيرهم 63 5/ 411 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 وداود وسليمان إذ يحكمان 78 4/ 165 ففهمناها سليمان 79 4/ 165، 166 إنكم وما تعبد ون من دون الله 98 3/ 361 إن الذين سبقت لهم منا الحسنى 101 3/ 362-4/ 24، 31 كما بدأنا أول خلق نعيده 104 4/ 415 وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 108 2/ 12، 246 الحج: إن زلزلة الساعة شيء عظيم 1 4/ 415 يا أيها الناس إن كنتم 5 5/ 360 وأن الله يبعث من في القبور 7 5/ 360 ومن الناس من يعبد الله 11 3/ 140، 147-5/ 166 فليمدد بسبب إلى السماء 15 3/ 376 فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من 19 2/ 55 إن الذين كفروا ويصدون عن 25 4/ 388 وأطعموا القانع والمعتر 36 1/ 248 أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا 39 2/ 13 وما أرسلنا من قبلك من 52 2/ 91 ليدخلنهم مدخلا يرضونه 59 2/ 417 هو اجتباكم وما جعل 78 2/ 430 وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 78 1/ 68، 288، 520، 540، 541-2/ 72، 210، 216، 272-4/ 37، 5/ 104 ملة أبيكم إبراهيم 78 2/ 125، 129-366 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 المؤمنون: قد أفلح المؤمنون 1-11 4/ 271 الذين هم في صلاتهم خاشعون 2 3/ 342 فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما 24 4/ 271، 273 وقال الملأ من قومه الذين كفروا 33 4/ 273 ما هذا إلا بشر مثلكم 33 4/ 271 وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ 34 4/ 271 إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كذبا 38 4/ 271 ثم أرسلنا رسلنا تترا 44 4/ 271 أنؤمن لبشرين مثلنا 47 4/ 272، 273 وجعلنا ابن مريم وأمه آية 50 4/ 272 يا أيها الرسل كلوا من الطيبات 51 1/ 198-2/ 281-4/ 272 وإن هذه أمتكم أمة واحدة 52 4/ 272 فذرهم في غمرتهم 54-56 4/ 273 إن الذين هم من خشية ربهم 57 4/ 273 إن الذين هم من خشية ربهم 57-60 4/ 178، 272 ولو اتبع الحق أهواءهم 71 2/ 64، 291، 293 قل لمن الأرض ومن فيها 84-89 5/ 415 قل لمن الأرض ومن فيها 84 5/ 360، 403 سبحان الله عما يصفون 91 5/ 361 فلا أنساب بينهم يومئذ 101 3/ 214، 215 فسئل العادين 113 1/ 60 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا 115 2/ 293، 5/ 364 ومن يدع مع الله إلها آخر 117 5/ 411 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 النور: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا 4 3/ 360 إلا الذين تابوا من بعد ذلك 5 3/ 361 والذين يرمون أزواجهم 6 2/ 423 وقالوا هذا إفك مبين 12 5/ 306 لولا إذ سمعتموه ظن 12 5/ 305 إذ تلقونه بألسنتكم 15 4/ 263 ولولا إذ سمعتموه قلتم 16 5/ 306 ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة 22 4/ 172-5/ 249 ألا تحبون أن يغفر الله لكم 22 4/ 176 لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم 27 3/ 347 ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا 29 3/ 347 وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا 31 3/ 354 وتوبوا إلى الله جميعا 31 3/ 544 الله نور السماوات والأرض 35 5/ 202 كسراب بقيعة 39 5/ 364 والقواعد من النساء 60 3/ 354 لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ 61 1/ 479 وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بيوتكم 61 1/ 479 فليحذر الذين يخالفون عن أمره 63 3/ 229-4/ 322 الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ 4 4/ 159 فقد جاءوا ظلما وزورا 4 4/ 159 وقالوا أساطير الأولين 5 4/ 159 فلا يكن في صدرك حرج منه 2 2/ 433 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 قل أنزله الذي يعلم السر 6 4/ 159 وقال الظالمون إن تتبعون إلا 8 4/ 159 وقدمنا إلى ما عملوا من عمل 23 5/ 364 أنظر كيف ضربوا لك الأمثال 9 4/ 159 لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة 32 4/ 201 كذلك لنثبت به فؤادك 32 4/ 201 وكان الله غفورا رحيما 70 3/ 215 والذين يقولون ربنا هب لنا 74 1/ 86 واجعلنا للمتقين إماما 74 3/ 146 الشعراء: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا 3 1/ 354 ففرت منكم لما خفتكم 21 2/ 366 إذ قال لأبيه وقومه 70-71 5/ 410 هل يسمعونكم إذ تدعون 72-73 5/ 410 الذي خلقني فهو يهدين 78 2/ 167 واجعل لي لسان صدق 84 2/ 361 فكبكبوا فيها هم والغاوون 94 1/ 76 وما أسئلكم عليه من أجر 109 3/ 91 ما أنت إلا بشر مثلنا 154 4/ 215 قال إني لعملكم من القالين 168 4/ 263 وما أنت إلا بشر مثلنا 186 4/ 215 بلسان عربي مبين 195 2/ 102-4/ 145، 224 والشعراء يتبعهم الغاوون 224-226 2/ 122 والشعراء يتبعهم الغاوون 224-227 2/ 346 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 النمل: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم 14 1/ 84، 94، 96 وورث سليمان داود 16 4/ 232 صرح ممرد من قوارير 44 4/ 249 فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا 52 4/ 249 قل الحمد لله وسلام على عباده 59 2/ 431 أمن جعل الأرض قرارا 61 5/ 360 قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ 65 4/ 471 القصص: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى 50 1/ 97-5/ 165 وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم 55 2/ 382 ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار 73 2/ 374 العنكبوت: الم أحسب الناس أن يتركوا 1-3 1/ 507 أحسب الناس أن يتركوا 2 2/ 270 ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه 6 2/ 358 ومن الناس من يقول آمنا بالله 10 2/ 270 وقال الذين كفرو للذين آمنوا 12 2/ 382 أئنكم لتأتون الرجال 29 3/ 366 مثل الذين اتخذوا من دون الله 41 4/ 212 وتلك الأمثال نضربها للناس 43 1/ 92 إن الصلاة تنهى عن الفحشاء 45 2/ 12-3/ 142 وما كنت تتلو من قبله من كتاب 48 2/ 110 يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي 56 2/ 163 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 لنبوئنهم من الجنة غرفا 58 2/ 133 ولئن سألتهم من خلق السماوات 61 5/ 403 وما هذه الحياة الدنيا إلا 64 2/ 281-5/ 355 أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا 67 4/ 387 والذين جاهدوا فينا لنهدينهم 69 2/ 216 الروم: أولم يتفكروا في أنفسهم 8 5/ 365 ومن آياته أن خلق لكم من 21 1/ 540-2/ 374 ومن آياته منامكم بالليل والنهار 23 1/ 33 ضرب لكم مثلا من أنفسكم 28 5/ 404 ولا تكونوا من المشركين 31 5/ 152 وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا 36 4/ 217 الله الذي خلقكم ثم رزقكم 40 1/ 70-3/ 247-5/ 411 ظهر الفساد في البر والبحر 41 4/ 249 فانظر إلى أثر رحمة الله كيف 50 4/ 249 ولقد ضربنا للناس في هذا 58 2/ 122 لقمان: هدى ورحمة للمحسنين 3 3/ 512-4/ 135 ومن الناس من يشتري لهو الحديث 6 3/ 516-4/ 213، 215 إن الشرك لظلم عظيم 13 2/ 282-3/ 401، 402-4/ 24 وفصاله في عامين 14 2/ 154-4/ 193 يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف 17 3/ 240 إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ 18 2/ 191 وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ 21 5/ 263 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ 33 2/ 382 إن الله عنده علم الساعة 34 4/ 471 السجدة: يوم كان مقداره ألف سنة 5 4/ 281 قليلا ما تشكرون 9 4/ 220 جزاء بما كانوا يعملون 17 2/ 284 الأحزاب: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به 5 2/ 235-3/ 51 إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ 10-23 1/ 499 وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر 10-11 2/ 270 لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة 21 3/ 243-4/ 82، 93-5/ 260 رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه 23 2/ 270-4/ 86-5/ 269 إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس 33 3/ 373 وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى 36 4/ 191، 342 فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا 37 2/ 410، 411-3/ 242-4/ 93-5/ 260 زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يكون 37 4/ 75 مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا 38 1/ 520 وكان أمر الله قدرا مقدورا 38 3/ 559 الذين يبلغون رسالات الله 39 3/ 558 هو الذي يصلي عليكم 43 2/ 416 ولا تطع الكافرين والمنافقين 48 3/ 558 فما لكم عليهن من عدة 49 3/ 358 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي 50 2/ 408 خالصة لك من دون المؤمنين 50 3/ 241 ترجي من تشاء منهن 51 2/ 409، 420-4/ 426 والله لا يستحيي من الحق 53 4/ 201 إن الله وملائكته يصلون على النبي 56 2/ 416 إن الذين يؤذون الله ورسوله 57 2/ 429-4/ 179 إن الذين يؤذون الله ورسوله 57-58 4/ 172، 176 إنا عرضنا الأمانة على 72 3/ 403 سبأ: كلوا من رزق الله واشكروا له 15 5/ 362 وإنا أو إياكم لعلى هدى 24 2/ 167 وما أرسلناك إلا كافة للناس 28 2/ 407-3/ 242 بل مكر الليل والنهار 33 5/ 204 قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ 47 3/ 91 فاطر: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا 9 2/ 117 والعمل الصالح يرفعه 10 5/ 202 ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه 18 2/ 382 ون تدع مثقلة إلى حملها 18 2/ 382 إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ 28 1/ 75، 91-5/ 299 ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا 32 2/ 431 يس: ونكتب ما قدموا وآثارهم 12 1/ 361 والقمر قدرناه منازل 39-40 2/ 113 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ 47 4/ 165-5/ 166 إن أنتم إلا في ضلال مبين 47 4/ 165 وما علمنه الشعر وما ينبغي له 69 2/ 122 وما ينبغي له 69 4/ 441 مما عملت أيدينا 71 4/ 223 قل يحييها الذي أنشأها 79 1/ 70 أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر 81 3/ 247 الصافات: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون 27 3/ 215 إئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون 36 2/ 122 إلا عباد الله المخلصين 40-43 2/ 358 فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ 88-89 4/ 432 فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ 89 4/ 414 أتعبد ون ما تنحتون 95 5/ 415 والله خلقكم وما تعملون 96 1/ 306، 314، 321-3/ 313، 508 إني ذاهب إلى ربي 99 2/ 366 يا أبت أفعل ما تؤمر 102 2/ 481 ص: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ 4-8 4/ 159 أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلها واحدا 5 5/ 263 بل هم في شك من ذكري 8 4/ 159 يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ 26 2/ 290، 308-5/ 131 وما خلقنا السماء والأرض وما 27 2/ 294-5/ 364 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 كتاب أنزلنه إليك مبارك 29 4/ 145 ليدبروا آيته 29 1/ 58 وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بعدي 35 2/ 441 فطفق مسحا بالسوق والأعناق 33 4/ 196 لأغوينهم أجمعين 82 2/ 437 قل ما أسئلكم عليه من أجر 86 1/ 522-3/ 91-5/ 378، 389 الزمر: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ 2 1/ 74 فَاعْبُدِ اللَّهَ مخلصا له 2-3 1/ 325 ألا لله الدين الخالص 3 2/ 355، 309 خلق السماوات والأرض بالحق 5-6 5/ 403 وإن تشكروا يرضه لكم 7 3/ 423 ولا يرضى لعباده الكفر 7 3/ 423 أمن هو قانت آناء الليل 9 1/ 76، 91 إنما يوفى الصابرون أجرهم 10 1/ 503 فبشر عباد الذين 17-18 5/ 331 أفمن شرح الله صدره للإسلام 22 2/ 425 الله نزل أحسن الحديث 23 1/ 50، 91، 228-3/ 308، 520 مثاني تقشعر منه جلود 23 4/ 336 قل أولو كانوا لا يملكون شيئا 43 2/ 167 قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ 53 2/ 163، 283-4/ 170، 172 يا عبادي الذين أسرفوا 53 4/ 179 لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ 53 4/ 176، 177 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 إن الله يغفر الذنوب جميعا 53 3/ 361 وأنيبوا إلى ربكم 54 4/ 176 الله خالق كل شيء 62 1/ 306، 314 خالق كل شيء 62 4/ 20 لئن اشركت ليحبطن عملك 65 1/ 456 وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ 67 4/ 163، 164 وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قبضته يوم القيامة 67 4/ 223 فصعق من في السماوات ومن 68 3/ 215 سلام عليكم طبتم فادخلوها 73 2/ 56 غافر: ويستغفرون للذين آمنوا 7 3/ 356 إنما هذه الحياة الدنيا متاع 39 5/ 357 وقال ربكم ادعوني أستجب لكم 60 4/ 398 هو الحي لا إله إلا هو 65 1/ 75 فصلت: قرآنا عربيا لقوم يعلمون 3 4/ 145 أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض 9-11 3/ 215 اعملوا ما شئتم 40 2/ 157-3/ 313، 358، 376 ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا 44 2/ 102، 112-3/ 247-4/ 224 من عمل صالحا فلنفسه 46 1/ 357، 537-2/ 320 الشورى: ويستغفرون لمن في الأرض 5 3/ 356، 357 ليس كمثله شيء 11 2/ 141-4/ 223 وهو السميع البصير 11 4/ 223 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ 13 3/ 365-5/ 61 وما تفرقوا إلا من بعد ما 14 5/ 64 مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ 20 1/ 458-3/ 345 وما أصابكم من مصيبة 30 1/ 514-2/ 321 فمن عفا وأصلح فأجره على الله 40 3/ 103 ولمن انتصر بعد ظلمه 41 1/ 503 إنما السبيل على الذين يظلمون 42 3/ 59 ولمن صبر وغفر إن ذلك 43 1/ 503-3/ 103 الزخرف: إنا وجدنا آباءنا على أمة 22 5/ 315 بل هم قوم خصمون 58 4/ 223-5/ 392 لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون 75 2/ 55، 57 قل إن كان للرحمن ولد 81 2/ 167 وهو الذي في السماء إله 84 4/ 20 الدخان: يوم تأتي السماء بدخان مبين 10 4/ 152 وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ 38 2/ 294-3/ 513-5/ 364 ذق إنك أنت العزيز الكريم 49 2/ 157 فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون 58 4/ 145"ت"1   1 ليس من شرطنا في هذا الفهرس ذكر الآيات التي في الشرح أو التعليق، ولكن هذه الآية انفردت بها بعض النسخ، وأشرنا إليه في الهامش، فأثبتناه، فاقتضى التنويه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 الجاثية: الله الذي سخر لكم البحر 12 1/ 317 وسخر لكم ما في السماوات 13 1/ 183-2/ 76-3/ 541 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه 23 2/ 291، 264-5/ 165 إن نظن إلا ظنا 32 5/ 329 الأحقاف: أو أثارة من علم 4 1-60 جزاء بما كانوا يعملون 14 2/ 401 وحمله وفصله ثلاثون شهرا 15 2/ 154-4/ 193 أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا 20 1/ 176، 458-4/ 34، 244، 245 تدمر كل شيء بأمر ربها 25 4/ 21 فاصبر كما صبر أولو العزم 35 1/ 503-3/ 365 محمد: أفمن كان على بينة من ربه 14 2/ 264، 291 فيها أنهار من ماء غير آسن 15 5/ 362 الذين طبع الله على قلوبهم 16 2/ 291 فاعلم أنه لا إله إلا الله 19 1/ 75 أفلا يتدبرون القرآن 24 4/ 209 ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين 31 1/ 507-2/ 282-3/ 511 إنما الحياة الدنيا لعب ولهو 36 3/ 516 الفتح: ليغفر لك الله ما تقدم 2 2/ 417 ويتم نعمته عليك ويهديك 2 2/ 418 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات 5 2/ 417 فمن نكث فإنما ينكث على نفسه 10 1/ 537-2/ 321 الحجرات: واعلموا أن فيكم رسول الله 7 1/ 524-2/ 233-5/ 279، 321 يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا 12 5/ 305 قالت الأعراب آمنا 14 4/ 162 قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا 14 4/ 163 يمنون عليك أن أسلموا 17 2/ 284 أن هداكم للإيمان إن 17 2/ 285 ق: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم 6 1/ 55، 69-3/ 151-4/ 198 أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم 6-11 5/ 360 ونحن أقرب إليه من حبل 16 2/ 164 الذاريات: والذاريات ذروا 1-2 1/ 52 وفي السماء رزقكم 22 1/ 302-5/ 243 مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا 42 4/ 21 وما خلقت الجن والإنس إلا 56 2/ 12-3/ 422، 542-4/ 204 وما خلقت الجن والإنس إلا 56-57 2/ 290-3/ 551 وما خلقت الجن والإنس إلا 56-58 1/ 5، 472 ما أريد منهم من رزق 57 5/ 243 الطور: إنما تجزون ما كنتم تعملون 16 2/ 480 والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم 21 2/ 386، 397 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 وما ألتناهم من عملهم من شيء 21 2/ 397 وإن يروا كسفا من السماء ساقطا 44 4/ 225 واصبر لحكم ربك فإنك 48 2/ 433 النجم: وما ينطق عن الهوى 3-4 2/ 291 إن يتبعون إلا الظن وما تهوى 23 2/ 264 ويجزي الذين احسنوا بالحسنى 31 1/ 271 ألا تز وازرة وز أُخْرَى 38-39 3/ 191، 198 وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى 39 2/ 382، 399 وأن إلى ربك المنتهى 42 3/ 230 وأنه هو رب الشعرى 49 4/ 155 القمر: تجري بأعيننا 14 4/ 223 ولقد يسرنا القرءان للذكر 17 2/ 432 ولقد يسرنا القرءان للذكر 17، 22 4/ 145 الرحمن: الشمس والقمر بحسبان 5 1/ 60 والأرض وضعها للأنام 10-22 1/ 182 والأرض وضعها للأنام 10-22 3/ 517 رب المشرقين ورب المغربين 17 4/ 20 الواقعة: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ 27-30 2/ 125 فِي سِدْرٍ مخضود وطلح منضود 28-30 5/ 361 أفرأيتم ما تمنون 58-59 1/ 70، 305 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 أفرأيتم ما تحرثون 63 1/ 305 أفرأيتم الماء الذي تشربون 68-69 1/ 305-2/ 114 أفرأيتم النار التي تورون 71 1/ 305 ومتاعا للمقوين 73 5/ 212 وتجعلون رزقكم أنكم 82 2/ 114 فأما إن كان من المقربين 88-89 3/ 544 الحديد: هو الأول والآخر 3 5/ 34 آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا 7 3/ 25 والذين آمنوا بالله ورسله 19 3/ 423 إنما الحياة الدنيا لعب ولهو 20 5/ 355، 361 إنما الحياة الدنيا لعب ولهو 20 2/ 281 وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور 20 2/ 281-5/ 355 فما رعوها حق رعايتها 27 2/ 405 المجادلة: قد سمع الله قول التي تجادلك 1 2/ 421 ما يكون من نجوى ثلاثة إلا 7 2/ 164 يرفع الله الذين آمنوا منكم 11 4/ 26 رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك 22 4/ 463 الحشر: وما آتاكم الرسول فخذوه 7 3/ 229-4/ 182، 183، 322، 340، 341 للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من 8-9 4/ 449 ويؤثرون علي أنفسهم 9 2/ 322-3/ 68 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 والذين جاءوا من بعدهم يقولون 10 4/ 194 لأنتم أشد رهبة في صدورهم 13 4/ 213 ذلك بأنهم قوم لا يفقهون 13 4/ 214 لا يستوي أصحاب النار وأصحاب 20 4/ 403 الممتحنة: قد كانت لكم أسوة حسنة 4 5/ 260 الصف: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون 2 4/ 86-5/ 272 يا أيها الذين آمنوا لم تقولون 2-3 5/ 271 ومبشرا برسول يأتي من بعدي 6 2/ 427 الجمعة: هو الذين بعث في الأميين 2 2/ 109، 427 فاسعوا إلى ذكر الله 9 3/ 134، 404، 409، 413-3/ 131 وذروا البيع 9 2/ 156، 162-3/ 424 فإذ قضيت الصلاة فانتشروا 10 1/ 228، 317-2/ 306-3/ 414 فانتشروا في الأرض وابتغوا من 10 3/ 467 وابتغوا من فضل الله 10 3/ 493 وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا 11 1/ 228-3/ 515 المنافقون: إذا جاءك المنافقون قالوا 1 3/ 402-4/ 163 لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون 5 4/ 196 يقولون لئن رجعنا إلى المدينة 8 4/ 213 ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين 8 4/ 213 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 وأنفقوا من ما رزقناكم 10 3/ 298 التغابن: إنما أموالكم وأولادكم فتنة 15 2/ 284 فاتقوا الله ما استطعتم 16 3/ 357، 358 الطلاق: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء 1 4/ 395 يا أيها النبي إذا طلقتم النساء 1-2 1/ 201 إذا طلقتم النساء فطلقوهن 1-2 1/ 535 ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة 1 4/ 396 ومن يتعد حدود الله فقد ظلم 1 1/ 537 وأشهدوا ذوي عدل منكم 2 1/ 539-4/ 55-5/ 12 ومن يتق الله يجعل له مخرجا 2-3 1/ 532، 533-2/ 310-3/ 522 ومن يتق الله يجعل له مخرجا 2 1/ 302 ومن يتوكل على الله فهو حسبه 3 2/ 500-3/ 552 واللائي يئسن من المحيض من نسائكم 4 3/ 358 ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن 6 3/ 185 ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله 11 1/ 318 التحريم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لك 1 4/ 439 عسى ربه إن طلقكن 5 2/ 421 ومريم بنة عمران التي 12 4/ 201 الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ 2 1/ 324، 507-2/ 12-3/ 511 لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عملا 2 2/ 45-3/ 421 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح 5 2/ 113 أأمنتم من في السماء 16 4/ 155 هو الذي أنشأكم وجعل لكم 23 2/ 543 القلم: وإن لك لأجرا غير ممنون 3 2/ 432 وإنك لعلى خلق عظيم 4 4/ 186، 317 إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب 17 1/ 446-3/ 366 إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة 7-20 3/ 110 فأصبحت كالصريم 20 5/ 215 المعارج: يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 4 4/ 281 إلا المصلين الذين هم على 22-23 2/ 404 نوح: رب إنهم عصوني واتبعوا من 21-28 4/ 203 وقال نوح رب لا تذر 26 4/ 432-5/ 321 إنك إن تذرهم يضلوا عبادك 27 4/ 432 الجن: عالم الغيب فلا يظهر 26-27 4/ 471 المزمل: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا 5 2/ 331-5/ 329 وتبتل إليه تبتيلا 8 3/ 422-4/ 101 المدثر: عليها تسعة عشر 30 4/ 212 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة 31 4/ 213 قالوا لم نك من المصلين 43-44 4/ 161 القيامة: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم 13 1/ 361 إن علينا جمعه وقرآنه 17-19 2/ 432 الإنسان: إنا هدينه السبيل 3 5/ 97 ويطعمون الطعام على حبه 8 3/ 68 إنما نطعمكم لوجه الله 9 2/ 350 إنا نخاف من ربنا يوما 10 2/ 351 المرسلات: والمرسلات عرفا 1 2/ 139 والمرسلات عرفا 1-3 1/ 59 فالعاصفات عصفا 2 2/ 139 النبأ: ألم نجعل الأرض مهادا 6-7 3/ 512 وجعلنا الليل لباسا 10-11 2/ 374 وأنزلنا من المعصرات ماء 14 2/ 114 النازعات: بناها رفع سمكها فسواها 28-30 3/ 215 متاعا لكم ولأنعامكم 33 1/ 477 فأما من طغى 37-39 2/ 491 فأما من خاف مقام ربه 40-41 2/ 291 فيم أنت من ذكراها 43 1/ 45 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 عبس: عبس وتولى أن جاءه الأعمى 1-2 2/ 166 كلا إنها تذكرة 11 2/ 166 وفاكهة وأبا 31 1/ 49، 55، 57-2/ 139-4/ 281 التكوير: وإذا الموءودة سئلت 8 3/ 236 لمن شاء منكم أن يستقيم 28 3/ 359 وما تشاءون إلا أن يشاء الله 29 3/ 313 الانفطار: في أي صورة ما شاء 8 3/ 282 يوم لا تملك نفس لنفس شيئا 19 2/ 382 المطففين: كلا بل ران على قلوبهم 14 3/ 540 الانشقاق: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ 7-8 1/ 183 فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حسابا يسيرا 8 3/ 294-5/ 410 الطارق: إنهم يكيدون كيدا 15-16 2/ 260 الأعلى: سبح اسم ربك الأعلى 1 2/ 248 بل تؤثرون الحياة الدنيا 16 2/ 60 الغاشية: وجوه يومئذ خاشعة 2-4 2/ 334 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 أفلا ينظرون إلى الإبل كيف 17-18 3/ 151 البلد: وهديناه النجدين 10 5/ 97 الشمس: والشمس وضحاها 1 2/ 248 ونفس وما سواها 7 5/ 96 ونفس وما سواها 7-8 1/ 314 الليل: والليل إذا يغشى 1 2/ 248 فأما من أعطى واتقى 5 1/ 334 الضحى: والضحى والليل إذا سجى 1-10 4/ 172 ولسوف يعطيك ربك فترضى 5 1/ 334 الشرح: ألم نشرح لك صدرك 1 2/ 425-4/ 176 ألم نشرح لك صدرك 1-8 4/ 172 ورفعنا لك ذكرك 4 2/ 428 التين: لقد خلقنا الإنسان في أحسن 4 2/ 75 فلهم أجر غير ممنون 6 2/ 284، 432-5/ 365 العلق: خلق الإنسان من علق 2 4/ 195 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 علم الإنسان ما لم يعلم 5 4/ 269 كلا إن الإنسان ليطغى 6-19 4/ 172 إن الإنسان ليطغى 6-7 4/ 176 البينة: وما أمرو إلا ليعبد وا الله 5 2/ 355-3/ 9 الزلزلة: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا 7 3/ 420 التكاثر: ألهاكم التكاثر 1 1/ 114 الهمزة: ويل لكل همزة لمزة 1 4/ 175 ويل لكل همزة لمزة 1-9 4/ 172 الفيل: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب 1-5 4/ 172 الكوثر: إنا أعطيناك الكوثر 1 4/ 269 النصر: إذا جاء نصر الله والفتح 1 1/ 152-4/ 210، 227 ورأيت الناس يدخلون في 2 4/ 227 المسد: ما أغنى عنه ماله وما كسب 2 2/ 397 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 فهرس الأحاديث النبوية الشريفة : الحديث الرواي الجزء والصفحة ائتوني اكتب لكم كتابا ابن عباس 5/ 395ت آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سلمان وأبي الدرداء ابو جحيفة 2/ 247 ائذن لي في التخلف عن الغزو الجد بن قيس 1/ 515 أأكذب على امرأتي 4/ 438 أئمتكم شفعاؤكم 2/ 424 آية المنافق ثلاث أبو هريرة 2/ 282، 3/ 402، 4/ 74 ابتاع مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيرا جابر 5/ 206ت ابدأ بنفسك ثم بمن تعول 2/ 325، 329 ابدأ بنفسك فتصدق عليها جابر 2/ 326 أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين ابن عباس 2/ 470ت أبغض الحلال إلى الله 1/ 200، 2/ 190 أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم عائشة 5/ 392 أبوك حذافة 1/ 45، 5/ 376 "ت" أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو هريرة 2/ 431ت أتاني آت من ربي فقال صل في عمر 2/ 226ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 أتدري أي الناس أعلم ابن مسعود 5/ 121 أتدرون ما المفلس أبو هريرة 2/ 391ت أتريدون إن تقولوا كما قال أهل الكتابين أبو هريرة 1/ 93ت أتستطيع إن تعتق رقبة أبو هريرة 5/ 20ت أتصلي عليها وقد زنت عمر 1/ 461ت أتقاهم أبو هريرة 5/ 291 أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب عدي بن حاتم 3/ 299ت أتي النبي صلى الله عليه وسلم بروث   4/ 355 اثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ مَا هَذَا بشيطان خديجة 2/ 476 اجتنبوا كل مسكر   4/ 359ت اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها ابن عمر 3/ 488ت اجعلوا ائمتكم خياركم ابن عمر 2/ 424ت أحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم   1/ 526ت أحب العمل إلى الله ما دام عليه   5/ 277 أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه   1/ 526ت، 2/ 404، 5/ 321 أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه   2/ 178، 179، 184 أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه   2/ 189 أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ابن عباس 2/ 179ت احتجبي منه يا سودة عبد الله بن زمعة 4/ 366، 5/ 113ت احتجم النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني الدم الزبير 4/ 437ت أحجنا هذا لعامنا أم للأبد جابر بن عبد الله 1/ 46 أحجنا هذا لعامنا أم للأبد جابر بن عبد الله 1/ 275، 5/ 402 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 احفظ الله   2/ 434ت 437، 3/ 553 أحلت لنا ميتتان الحيتان والجراد ابن عمر 4/ 372 أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا   5/ 180، 191 أخاف عليهم من زلة العالم عمرو بن عوف 4/ 89، 5/ 132 اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي أبو هريرة 5/ 310 اختصاص أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق   2/ 409 اختلاف أمتي رحمة   3/ 408ت أخذ العهد على الذرية وأعجب آدم ابن عباس 4/ 409ت أخي يشتكي بطنه أبو سعيد الخدري 2/ 121 ادخروا ثلاثا ثم تصد قوا بما بقى عائشة 2/ 275ت ادرءوا الحدود بالشبهات   1/ 272ت ادع الله أن يعافيني عثمان بن حنيف 2/ 503ت ادع الله أن يوسع على أمتك عمر 3/ 522ت إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة جرير بن عبد الله 4/ 405 إذا اجتهد الحاكم فأخطأ عمرو بن العاص 5/ 66 إذا أحب الله قوما ابتلاهم   2/ 201ت إذا أرسلت كلابك المعلمة عدي بن حاتم 4/ 362 إذا ارسلت كلبك المعلم أبو ثعلبة 4/ 363ت إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله أبو ثعلبة 4/ 362 إذا استيقظ أحدكم من النوم فليغرف على يديه   3/ 193ت إذا استيقظ أحدكم من نومه أبو هريرة 2/ 153، 153ت إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة أبو هريرة 3/ 256ت إذا أقبل الليل من ههنا عمر بن الخطاب 2/ 143، 3/ 262ت إذا أقرض احدكم قرضا فأهدي إليه أنس بن مالك 3/ 117 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 إذا أمرتكم بشيء من أمور دنياكم   5/ 142ت إذا أنا مت فأحرقوني   5/ 205ت إذا أنشأت بحرية ثم استحالت شامية إسحاق بن عبد الله 2/ 116ت إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت   2/ 116 إذا أنعم الله عز وجل على عبد هـ يحب أن   1/ 207، 3/ 524ت إذا أوسع الله عليكم عمر بن الخطاب 1/ 207 إذا أوسع الله عليكم أبو هريرة 1/ 207 إذا تبايعتم بالعينة   3/ 116ت إذا توضأت فأسبغ الوضوء لقيط بن صبرة 1/ 268ت إذا تواجه المسلمان بسيفيهما أبو بكرة 2/ 394ت إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان عائشة 4/ 84 إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه أبوهريرة 4/ 337 إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة   1/ 494 إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب أبو هريرة 2/ 87ت إذا دبغ فقد طهر ابن عباس 4/ 22ت إذا ذكرت النجوم فأمسكوا   4/ 283ت إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته   2/ 252 إذا رأيتم الهلال فصوموا ابن عمر 2/ 144ت، 4/ 130ت، 5/ 258ت إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله   3/ 189 إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه عبد الرحمن بن عوف 1/ 449، 3/ 195ت إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم أبو أسيد 4/ 335 إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ابن عمر 3/ 114 إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم أبو هريرة 3/ 468 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 إذا قام أحدكم من النوم فليفرغ على يديه من وضوئه أبو هريرة 3/ 193ت إذا قتله ولم يأكل منه شيئا عدي بن حاتم 4/ 362 إذا كان لك كلاب مكلبة فكل أبو ثعلبة 4/ 363ت إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا   5/ 301 إذا وسع الله فأوسعوا أبو هريرة 1/ 207ت إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات أبو هريرة 3/ 196ت إذا مرض العبد أو سافر أبو موسى 2/ 392ت إذن تجعلها مثل هذه أبو هريرة 3/ 80ت إذن تكفي همك   2/ 367ت اذهب فاصبر جابر 1/ 533 أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا   أرى رؤياكم قد توطأت ابن عمر 4/ 466 أرأيت لو كان على أبيك دين 2/ 386، 399ت، 3/ 198 أريتم إن وضعها في حرام   1/ 463ت أرأيتم إن وضعها في حرام 1/ 461، 462ت أربع جائزات إذا تكلم بهن عمر 3/ 15 ارتبط فرسا في سبيل الله 2/ 392 أرحم أمتي بأمتي أبو بكر أبو قلابة 5/ 295، 296ت أرحنا بها يا بلال   2/ 240، 367ت أرخص في السلم ابن عباس 1/ 470 أرفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة أبو هريرة 2/ 461 الأرواح جنود مجندة عائشة 2/ 187 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 أرواحكم كطير خضر تسرح في الجنة ابن مسعود 4/ 408ت أريت ليلة القدر ثم أيقظني أبو هريرة 4/ 446 أسأل لربي أن تؤمنوا به عقبة بن عمرو 2/ 352ت إسباغ الوضوء على المكاره   2/ 217 استأذن حسان بن ثابت النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين عائشة 4/ 440ت استاذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد   2/ 464ت استعن بيمينك   5/ 260ت استعينوا في الصناعات بأهلها   3/ 289ت استفت قلبك وإن أفتاك المفتون   2/ 465ت أسفروا بالفجر رافع بن خديج 3/ 257 اسقه عسلا أبو سعيد الخدري 2/ 121ت اسق يا زبير وأرسل الماء إلى جارك عبد الله بن الزبير 4/ 320 اسق يا زبير-فأمره بالمعروف- وأرسل الماء عبد الله بن الزبير 2/ 285 اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة جابر بن عبد الله 5/ 206، 231 اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء عائشة 5/ 231 اشربوا فإني راكب وإني أيسركم أبو سعيد الخدري 4/ 88ت اشربوا في الظروف ولا تسكروا   4/ 359ت اشربوا ولا تسكروا عائشة 4/ 359ت أشد الناس عذابا يوم القيامة ابن عباس 1/ 79ت أشهد غيري   4/ 439 أصبح من عبادي مؤمن بي خالد الجهني 1/ 321، 2/ 115ت أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ابن عباس 2/ 115ت أصحابي كالنجوم   1/ 163ت، 4/ 452، 5/ 67، 81، 82 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 أَصْحَابِي مِثْلَ الْمِلْحِ لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إِلَّا به   4/ 450 اصرف بصرك جرير بن عبد الله 2/ 180ت أعتق رقبة   5/ 19ت أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت   4/ 400ت اعرضوا علي رقاكم عوف بن مالك 2/ 121ت أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن جابر 4/ 378ت أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي   2/ 407ت أعظم الناس أجرا في الصلاة أبو موسى 2/ 217ت اعقلها وتوكل   1/ 304، 304ت، 3/ 522ت أعلم الناس أبصرهم بالحق ابن مسعود 5/ 121 أعلنوا هذا النكاح عائشة 1/ 229 الأعمال بالنيات عمر 2/ 340، 4/ 156 اعملوا فكل ميسر لما خلق له علي بن أبي طالب 1/ 334 اعملوا فكل ميسر لما خلق له   3/ 556ت أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني   5/ 204ت أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها أبو ذر الغفاري 3/ 381 أفتان أنت يا معاذ معاذ 1/ 528، 2/ 235، 248، 5/ 37، 276 افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة عوف بن مالك 1/ 99 افترقت اليهود والنصارى أبو هريرة 5/ 145 أفرأيت لو كان على أبيك دين ابن عباس 2/ 386 أفضل الصدقة عن ظهر غنى حكيم بن حزام 2/ 325ت أفضل العبادة انتظار الفرج عبد الله بن مسعود 5/ 31 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 أَفْضَلُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا جابر بن عبد الله 3/ 498 أفطر صلى الله عليه وسلم في السفر   1/ 511 أفلا أكون عبدا شكورا عائشة 2/ 241، 3/ 556ت أفي شك أنت يا ابن الخطاب عمر 3/ 552ت اقتدوا بالذين من بعدي حذيفة 4/ 456ت، 5/ 297 اقدروا له قدره   2/ 479ت اقرأ عليها السلام من ربها ومني أبو هريرة 2/ 431 اقسم بيننا وبينهم النخيل أبو هريرة 2/ 325ت أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم ابن مسعود 1/ 270ت أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم   1/ 270 "ت" أقيلوا ذوي الهيئة عثراتهم عائشة 1/ 269، 269 "ت"، 270 اكتب من محمد رسول البراء 5/ 416 اكسوا العاري   1/ 248 اكسوهم ولا تعروهم   1/ 248 أكلت مع رسول الله لحم سفينة 4/ 357ت اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة أبو هريرة 3/ 404، 413 أكل عام يا رسول الله؟   1/ 255ت اكل ولدك نحلته مثل هذا؟ النعمان بن بشير 4/ 422 ألحقوا الفرائض بأهلها ابن عباس 4/ 385 الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي عمرو بن عوف 5/ 240ت الله الله في أصحابي! عبد الله بن المغفل 2/ 430ت، 462، الله أجعلني من أمة أحمد   2/ 429 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 اللهم ارحمم خلفائي   5/ 256ت اللهم اغفر لقومي! فإنهم لا يعلمون ابن مسعود 2/ 390 اللهم أكثر ماله وولده أم سليم 5/ 32ت اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم نارا علي 4/ 399 اللهم إني أبرأ إليك ما صنع خالد   4/ 55ت اللهم إني أحرم ما بين جبليها   4/ 387ت اللهم إني أعوذ بك من الجبن سعد 5/ 311ت اللهم إني اعوذ بك من علم لا ينفع زيد بن أرقم 1/ 80ت اللهم إني أعوذ بك من الكفر أبو بكرة 5/ 312 اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن أنس 5/ 311ت اللهم كثر ماله وولده ام سليم 2/ 449 اللهم هذا عملي فيما أملك عائشة 4/ 430 اللهم لا مانع لما أعطيت المغيرة 3/ 554 أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم أبو سعيد 2/ 152-153ت أليس هذا أحسن عطاء بن يسار 1/ 207 اليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم عطاء 1/ 207ت أما إنه لو جاءني لاستغفرت له   3/ 299ت أما إنه لم يكونوا يعبد ونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا عدي بن حاتم 3/ 273 أما تحتسبون خطاكم   2/ 226 أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون   5/ 264 أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن عضل المسائل عمر 5/ 380 أما كان معكم لهو عائشة 1/ 229 أما وجد هذا ما ينقي ثوبه جابر 1/ 208 أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله   5/ 407ت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق عمر 3/ 70ت، 71 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 أمره ان يتم ما كان لله طاعة   2/ 230 أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لا اثوب بلال 5/ 185ت اسمك عليك بعض مالك   3/ 70، 71ت، 5/ 35 أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس ابن عمر 5/ 261 اما أنا فأكثر ما ررأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف   3/ 501ت أما إنك ستلي أمر أمتي من بعدي معاوية 2/ 453ت أما بعد فإنه لم يخف على شأنكم عائشة 2/ 234 أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات   3/ 83، 83ت أمني جبريل جابر 3/ 256ت الأمير راع والرجل راع على أهل بيته ابن عمر 3/ 25 أن تعبد الله وكأنك تراه عمر 1/ 310 أنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام عائشة 4/ 93 أنا أغني الشركاء عن الشرك   2/ 355ت، 3/ 10، 395ت الإناء من الله والعجلة من الشيطان سهل بن سعد 3/ 394ت أناخذ عنك في الغضب والرضي عبد الله بن عمرو 2/ 241 أنا سيد ولد آدم أبو هريرة 5/ 294 أنا طيبت رسول الله ثم طاف في نسائه عائشة 1/ 186ت أنا العاقب وأنا النبي المصطفي   2/ 430ت أنا النذير العريان أبو موسى 1/ 7 أنا وكافل اليتيم كهاتين سهل بن سعد 3/ 294، 295ت أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة   5/ 33 إن استطعت إن تكون عبد الله المقتول   2/ 173ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 إن أكل فلا تأكل عدي بن حاتم 4/ 363ت أن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في ابن عمر 5/ 408ت أنت مع من أحببت   2/ 2002/ 450ت أنتم اليوم خير منكم يومئذ   2/ 450 إن انتظار الفرج بالصبر عبادة ابن عمر، ابن عباس، على، أنس 5/ 31ت أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا عليهم زمانا ابن مسعود 3/ 520ت أنزل القرآن على سبعة أحرف ابن مسعود 4/ 408 إن سركم إن تقبل صلاتكم مرثد بن أبي مرثد 2/ 425ت أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى سعيد بن جبير 2/ 192ت انفجنا أرنبا ونحن بمر الظهران انس 4/ 358 إن جاءت به على صفة ابن عباس 2/ 475/ 305ت إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله   5/ 342ت أن يشهد الرجل قبل إن يستشهد زيد بن خالد 3/ 554ت أن يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله ابن مسعود 2/ 464ت إن يكنه فلن تسلط عليه، وأن لم   2/ 464ت إن يكنه فلا تطيقه   3/ 554، 554ت انتبذ في سقائك أوكه واشربه حلوا أبو هريرة 5/ 31ت إن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه سهل بن سعد 1/ 186ت إن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد   3/ 69 إن إبليس لما رأي آدم أجوف   2/ 176 إن أحب الأعمال أدومها   2/ 404ت إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه أنس 3/ 142ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 إن أخت الربيع ام حارثة جرحت إنسانا   2/ 504ت إن أخوف ما أخاف على امتي عقبة بن عامر 4/ 326ت إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله بكم أبو سعيد الخدري 3/ 508، 534 إن أخوف ما أخاف عليكم عمرو بن عوف 1/ 176 إن أرواحهم في حواصل طير خضر ابن مسعود 4/ 408 إن الإسلام بدأ غريبا أبو هريرة 1/ 151، 153ت، 4/ 211ت إن أشد الناس عذابا يوم القيامة أبو الدرداء 1/ 95 إن الأشعرين إذا أرملوا في الغزو أبو موسى 2/ 324، 3/ 62، 63 إن أعرابيا بال في المسجد أنس 5/ 181ت، 191 إن أعرابيا جاء يلطم وجهه وينتف شعره أبو هريرة 5/ 20ت إن أعظم المسلمين جرما   1/ 275 إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما   1/ 256، 5/ 376 إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبو موسى 2/ 217ت إن أعظم الناس جرما سعد بن أبي وقاص 1/ 48 إن أفضل الضحايا أغلاها ثمنا   3/ 382ت إن أكثر ما أخاف عليكم أبو سعيد 2/ 281ت إن الأكثرين هم الأقلون أبو ذر 3/ 535ت إن الذي حرم شربها حرم بيعها ابن عباس 3/ 461 إن الله أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة أنس 2/ 434ت إن الله أجاركم من ثلاث خلال أبو مالك الأشعري 2/ 435 إن الله أختار أصحابي على جميع العالمين جابر بن عبد الله 4/ 451 إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ابن عباس 3/ 461 إن الله اصطفي كنانة من ولد إسماعيل واثلة بن الأسقع 2/ 430ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 إن الله تجاوز عن أمتي   1/ 236ت إن الله تجاوز لي عن أمتي ابن عباس 1/ 236ت إن الله تعال اتخذني خليلا   4/ 231ت إن الله جميل يحب الجمال ابن مسعود 1/ 207، 3/ 524 إن الله حرم من الرضاعة عائشة 4/ 386 إن الله خلق آدم على صورته   5/ 394ت إن الله رفيق يحب الرفق عائشة 2/ 150ت، 5/ 321 إن الله عز وجل إذا أحب عبد اأبو هريرة 2/ 199ت إن الله عز وجل كريم يحب الكرم سهل بن سعد 2/ 188ت إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني   1/ 173ت إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها أبو ثعلبة 1/ 253، 275، 5/ 375 إن الله قيض أرواحنا لتكون سنة لمن بعدكم   3/ 245ت إن الله قد صدقك يا زيد زيد بن أرقم 4/ 213ت إن الله كتب الإحسان على كل شيء شداد 1/ 217، 217ت، 3/ 396ت إن الله كتب الإحسان على كل شيء شداد 2/ 338 إن الله كتب الحسنات والسيئات ابن عباس 3/ 173ت إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزني   3/ 555 إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب   4/ 314ت إن الله ورسوله ينهاينكم عن لحوم الأهلية أنس 4/ 355ت إن الله ورسوله ينهيناكم عن لحوم الحمر أبوطلحة 4/ 192 إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض أبو أمامة 1/ 363ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 إن الله لا يجمع أمتي عمر 2/ 435ت إن الله لا يبض العلم انتزاعا عبد الله بن عمر 1/ 97، 140، 4/ 328، 5/ 11ت، 167 إن الله يبغض أهل البيت كعب 2/ 192ت إن الله يبغض الحبر السمين 2/ 191 إن الله يحب أن تؤتى رخصه ابن عمر 1/ 199، 472، 477ت، 480، 483، 506، 507 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عبد الله بن عمرو 1/ 207، 3/ 524 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ عائشة 5/ 321 إن الله يحب السخاء ولو بفلقة تمرة الزبير 2/ 186 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ حية الزبير بن العوام 2/ 186 إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سهل بن سعد 2/ 188 إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عائشة 3/ 191ت إن الله يستخرج به من البخيل   2/ 235 إن إمام هذه الأمة منها أبو هريرة 2/ 437 إن امتي لا تجتمع على ضلالة سمرة 2/ 435ت إن امتي لا تجتمع على ضلالة أنس 2/ 434، إن الأمير إذا ابتغي الريبة أبو أمامه 2/ 453ت أَنَّ أُنَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يسألوا أحدا عوف بن مالك 2/ 500، 245 إنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا أنس 2/ 351ت إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف أبو سعيد الخدري 3/ 546ت إن أول دم أضع من دمائنا جابر 5/ 270ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه أبو هريرة 4/ 35ت إن البقعة التي يجتمع فيها الناس   1/ 362 إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا جابر 2/ 393ت إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين فرقة عبد الله بن عمرو 5/ 146ت إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيها قذرا أبو سعيد الخدري 5/ 304ت إن الحلال بين وإن الحرام بين النعمان بن بشير 2/ 38ت إن حلالها حساب وحرامها عذاب ابن عباس 1/ 171 إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل عمر 501- 5/ 245 إن الخير لا يأتي إلا بخير أبو سعيد 3/ 153، 153ت إن الدين يسر أبو هريرة 1/ 165 ت إن رجلا أصاب من أمرأة قبلة ابن مسعود 2/ 251ت إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله عائشة 3/ 244ت، 4/ 83 إن رجلا ضرير البصر أتي النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن حنيف 2/ 503ت1/ 173 إن رجلا نذر أن يصوم ابن عباس 1/ 173 إن رجلين خرجا من عند أنس 2/ 439ت إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله   1/ 360، 360، إن رسول الله صلى الله عليم وسلم بعث بعثا وأمر ابن عمر 5/ 408ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان ابن عباس 4/ 88ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على مسرورا عائشة 4/ 76 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر عنده عمه أبو طالب   2/ 56ت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركب فرسا أنس 1/ 523ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحي بكبش اقرن أبو سعيد الخدري 3/ 382ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع عمر 5/ 359ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي م سلمة أم سلمة 3/ 117ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي إن يخلط التمر والزهور جابر بن عبد الله 3/ 69ت، 3/ 470، 470ت، 471ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب أبو ثعلبة 4/ 192ت، 355ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع حبل الحبلة ابن عمرو 3/ 417ت إن رسول الله صلى اله عليه وسلم نهي عن صيام يومين أبو سعيد الخدري 3/ 496، 470ت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن لبن الجلالة ابن عباس 4/ 356 إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة عائشة 4/ 386ت إن الرضاعة يحرم منها ما يحرم من الولادة   4/ 386ت إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه   2/ 150ت إن روح القدس نفث في روعي   4/ 465 أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما   2/ 201 إن العالم يستغفر له كل أبو أمامة 1/ 363 إن عبد الله برجل صالح لو كان يكثر الصلات   2/ 447ت، 488 إن العبد إذا أخطأ خطيئة أبو هريرة 3/ 540ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 إن عفريتا من الجن تفت على البارحة أبو هريرة 2/ 441ت إن العلماء همتهم الرعاية معاذ بن جبل 1/ 81، 81ت إن العلماء ورثة الأنبياء   5/ 253 إن العلم والإيمان مكانهما معاذ 5/ 297 إن فريضة الله أدركت أبي ابن عباس 2/ 386 إن في الجنة بابا يقال له الريان   3/ 144، 144ت إن في الجنة مئة درجة أعدها الله أبو هريرة 3/ 546ت إن في جهنم أرحاء تدور بعلماء السوء أبو هريرة 1/ 76 إن في المال حقا سوى الزكاة فاطمة بنت قيس 3/ 64، 5/ 243 إن في النفس الدية مئة من الإبل عمرو بن حزم 5/ 144ت إن فيك لخصلتين يحبهما الله أبو سعيد الخدري 2/ 184-185 إن القرآن يصدق ب عضها بعضا عبد الله بن عمرو 5/ 144ت إن كل بدعة ضلالة   5/ 221 إن كل خمر حرام   5/ 417 إن للشيطان لمة وللملك لمة ابن مسعود 5/ 96 إن لك ما احتسبت أبي بن كعب 2/ 225 إن لكل أمة أمينا   5/ 296ت إن لكل شيء إقبالا وإدبارا أبو أمامة 1/ 100 إن لكل شيء شره، ولكل شرة فتره   5/ 320 إن لكل عابدشره، ولكل شرة فتره عبد الله بن عمرو 3/ 522 إن لكم بكل خطوة درجة جابر 2/ 223 إن لنفسك عليك حقا   1/ 182-2/ 239، 255 إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله   4/ 333ت إن مثلي ومثل ما بعثني الله به أبو موسى 1/ 7ت إن المرء يكتب له قيام الليل والجها أبو موسى 2/ 392 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 إن المراء في القرآن كفر   5/ 392 إن المصلي يناجي ربه   3/ 142 إن المقسطين عند الله على منابر من نور عبد الله بن عمرو 5/ 32 إن الملائكة تنزل في العنان عائشة 2/ 92ت إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه   3/ 190ت إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه   4/ 313ت إن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس علي 2/ 180ت أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال جابر بن عبد الله 3/ 255 إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شيء يسره أبو بكرة 3/ 161ت إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس   3/ 258 إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر عائشة 1/ 76ت إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قد م مكة أتي رسم قبر بريدة 2/ 388ت إن النبي صلى الله عليه وسلم نهي إن يخلط الزبيب والتمر   3/ 79ت إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتبارين عكرمة 2/ 349ت إن الولد لوالديه ستر من النار   1/ 337 إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم سمرة 2/ 55ت إن مما ينبت الربيع أبو سعيد الخدري 1/ 176 إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة أبو هريرة 1/ 79 إن من أكبر الكبائر   3، 76-5/ 287 إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن أبو سعيد الخدري 5/ 148 إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره   2/ 505 إن من غرس غرسا أنس 1/ 337 إن من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة عبد الله بن عمر 5/ 256 إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم جندب بن عبد الله 3/ 81ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 إن منكم منفرين أبو مسعود الأنصاري 1/ 528-5/ 277 إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه سمرة 2/ 55ت أَنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أبي بن كعب 5/ 292 إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ لِخَيْرٌ مِنَ الدنيا وما فيها أبو هريرة 4/ 400 إن ملائكة السماء تستحي منه عثمان أبو موسى 2/ 439 إن إناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم أم الفضل بنت الحارث 2/ 253ت إن نفسا تقتل ظلما أبن مسعود 1/ 222 إن هذا الدين متين أنس 2/ 238ت إن هذا الدين متين عبد الله بن عمرو 2/ 237ت إن هذا الدين متين جابر 2/ 236ت إن هذا الدين متين عائشة 2/ 236ت إن هذا الدين متين   2/ 406 إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف عمر 3/ 40، 40ت إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ المبين ابن مسعود 4/ 184 إن هذا المال خضرة حلوة حكيم بن حزام 3/ 534 إن هذه الأقدام بعضها من بعض   4/ 434ت إن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين معاوية 5/ 146 إن هذه لرؤيا حق عبد الله بن زيد 4/ 467 إن وسادتك لعريض، إنا هو سواد الليل وبياض عدي بن حاتم 3/ 299ت أنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب أبو هريرة 5/ 258ت إنا نحد فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ به   5/ 34 إنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا أنس 2/ 351ت إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا أبو موسى 1/ 309ت إنك إن اتبعت عورات الناس معاوية 2/ 453ت إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم خديجة 3/ 66 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 إنك لا تهدي من أحببت   2/ 390ت إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم أبو هريرة 3/ 82 إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها   4/ 407 إنكم تتمون تختصمون الي، ولعل بعضكم أن أم سلمة 2/ 458 إنكم توشكون أن تكونوا في الناس كالملح سمرة 4/ 451ت إنكم ستلقون بعدي أثره أسيد بن حضير 2/ 454ت إنكم قد استقبلتك عدوكم أبو سعيد 2/ 254 إنكم محشورون إلى الله عراة ابن عباس 4/ 415 إنما أجلكم في أجل من خلال من الأمم ابن عمر 2/ 351ت إنما الأعمال بالنيات عمر 1/ 13، 17ت، 459-3/ 10، 44-4/ 156 إنما الماء من الماء   3/ 276 إنما الولاء لمن أعتق عائشة 1/ 340 إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون   3/ 245ت إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق أبو هريرة 1/ 41ت إنما جعل الإمام ليؤتم به عائشة 1/ 467، 523ت-3/ 294ت إنما ذاك أن تسأل وما عمر 1/ 501ت إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل عدي بن حاتم 4/ 399 إنما ذلك العرض عائشة 4/ 74 إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار عبد الله بن الزبير 4/ 416 إنما قولي لمئة امرأة كقولي لأمرأة واحدة   3/ 243ت إنما كان الذي أوتيته وحيا أبو هريرة 3/ 299 إنما نهيتكم لأجل الدافة عائشة 2/ 275ت-3/ 273 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 إنما نهيتكم من اجل الدافة عبد الله بن واقد 4/ 156 إنما هذا من أخوان الكهان أبو هريرة 5/ 386 إنما هو جبريل لم أره على صورته   3/ 191ت إنما هي أعمالكم أحصيها لكم أبو ذر 1/ 357-2/ 480 إنه باع جاري وولدها، ففرق بينهما   3/ 472ت إنه بلغني أنكم تريدوان أن تنتقلوا جابر 2/ 223 إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة ابن مسعود 2/ 454ت إنه صلى الله عليه وسلم استأذن في الاستغفار لأمه أبو هريرة 2/ 389ت إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يجد قوتا   3/ 557ت إنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظرك في صلاته ابن أبي أوفى 2/ 268ت إنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل سمين جعدة الجشمي 2/ 192ت أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله ابن عمر 3/ 300ت إنه عاشر عشرة في الجنة معاذ 5/ 297ت أنه عليه الصلاة والسلام خرج على أبي وهو يصلي   3/ 405 إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال على 2/ 167ت إنه من يأخذه بغير حقه أبو هريرة 1/ 310 إنه يكون بها "البصرة" خسف وقذف أنس 3/ 113ت إنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه خالد بن الوليد 4/ 357ت، 423 إنه ليس بدواء، ولكنه داء طارق بن سويد 2/ 121ت إنه ليس بذا كن ألا تسمع إلى قول لقمان أبن مسعود 4/ 24 إنه ليغان على قلبي الأغر المزني 3/ 544، 544ت إنها ألهتني نفا عن صلاتي عائشة 1/ 189ت إنها تكون بعدي رواة يروون عني الحديث علي 3/ 189ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 إنها ركس أنس 4/ 355 إنها صدقة تصدق الله بها عليك عمر، ابن عمر 1/ 199 أَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة أنس 2/ 439 إن أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني   3/ 246، 266 إني أحب الصلاة عليك   2/ 367 إني أحب العقيق سلمة بن الأكوع 2/ 225ت إني أحدث نفسي بالشئ لأن أكون   4/ 173ت إني أحرم ما بين لابتي المدينة سعد 4/ 387 إني اخاف على امتي من بعدي من أعمال ثلاثة عمرو بن عوف 4/ 89 إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك   2/ 448 إني أرسلت بحنيفة سمحة عائشة 2/ 211ت إني استأذنت ربي في زيارة أمي بريدة 2/ 389ت إني افعله   5/ 269 إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان عمر 3/ 39ت إني كانت لي دعوة دعوت بها على قومي   4/ 433 إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية أبو بردة بن نيار الأنصاري 4/ 359ت إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية ابن مسعود 4/ 360ت إني لأخاف على أمتي من بعدي   5/ 132 إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها   2/ 370ت إني أركم من وراء ظهري أبو هريرة 2/ 472، 472ت، 473ت إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله أنس 2/ 503، 5/ 269 إني لأسمع بكاء الصبي أنس 2/ 248، 370 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 إني لأعطي رجالا حديث عهدهم بكفر أنس -3/ 94 إني أعطي الرجل وغيره حب إلي منه سعد بن أبي وقاص 5/ 35ت 5/ 34 إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل عائشة 3/ 245ت-4/ 83ت إني لأنس أو أنسي لأسن   3/ 245 إني لست كهيئتكم أبو هريرة 1/ 486ت إني لست كهيئتكم، إني أبيت عائشة 2/ 239 إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية أبو أمامة 2/ 211ت إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا عقبة بن عامر 2/ 437 أهج المشركين؟ فإن جبريل معك   4/ 441ت اهجهم وجبريل معك   4/ 441 أوتيت القرآن ومثله معه   4/ 333ت أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم عمر بن الخطاب 5/ 343ت أو في شك أنت يا ابن الخطاب ابن عباس 4/ 35 أو في شك أنت يا ابن الخطاب عمر بن الخطاب 4/ 44ت أول الوقت رضوان الله أبو بكر الصديق 1/ 241 أول دم اضعه دمنا جابر 5/ 270 أول دم يوضع دم ربيعة جابر 5/ 270 أول دينكم نبوة ورحمة حذيفة 1/ 149 أول ربا اضعه ربا العباس 5/ 270 أول من تقربهم النار أبو هريرة 1/ 87 أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار أبو حميد الساعدي 3/ 547 ألا أخبرته أني أفعل ذلك   4/ 74 ألا اخبرتيه أني أقبل وأنا صائم   5/ 261 ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك أم سلمة 4/ 94، 117 ألا أخبركم بأفضل من درجة الصوم أبو الدرداء 5/ 153 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 ألا أخبركم بخير الشهود زيد بن خالد 5/ 342ت الا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا أبو هريرة 2/ 217ت ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة عائشة 2/ 439ت ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه   4/ 137ت ألا تحتسبون أثاركم انس 2/ 226ت إلا رجل يضفه الليلة يرحمه الله   3/ 68ت ألا فلا تتخذوا القبور مساجد جندب بن عبد الله 3/ 81ت ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ابو بكرة 4/ 77-5/ 254 ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع   5/ 271ت ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله   4/ 402 أي ابن عم! اتستطيع إن تخبرني بصاحبك   2/ 476 أي عم! قل: لا إله إلا الله   2/ 390ت أيأتي أ؛ دنا شهوته وله فيه أجر   1/ 462ت أيقضي شهوته، ثم يؤجر   1/ 461 إيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ ابو هريرة 5/ 26 أين الله معاوية بن الحكم   1/ 60ت أين المتألي على الله لا يفعل المعروف عائشة 5/ 247ت أينقص التمر إذ يبس سعد 3/ 202 أي الأعمال أفضل أبو هريرة 5/ 26 أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة أبو سعيد 5/ 27 أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء نفسه عائشة 5/ 28 أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون عبد الله بن عمرو 5/ 30 إياكم والبغضة! فإنها هي الحالقة أبو هريرة 5/ 153ت إياكم وكثرة السؤال الحجاج بن عامر 5/ 381 إياكم والوصال 1/ 486ت إيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها عائشة 3/ 47 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 إيما امرأة نكحت بغير أذن وليها   3/ 47-4/ 371-5/ 191 إيما امرئ ترك مالا فليرثه ابو هريرة 4/ 385ت إيما أهاب دبغ فقد طهر أبن عباس 4/ 22، 22ت، 40ت إيما رجل أدخل فرسه أبو هريرة 1/ 426ت إيما رجل مسلم قد لله عمرو بن عبسة 1/ 337 إيما رجل من أمتي سببته سبه سلمان 5/ 156 إيما عبد أبق من مواليه جرير بن عبد الله 4/ 404 بدأ الإسلام غريبا   5/ 240 بدأ هذا الدين غريبا   5/ 240 البر ما سكنت إليه النفس أبو ثعلبة الخشني 2/ 466ت بشرني بأن من مات لا يشرك بالله شيئا أبو ذر 4/ 295ت بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا وأمر أبو هريرة 5/ 246ت بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدا   2/ 368 بعثت إلى الأحمر والأسود   2/ 407 بعثت إلى أمة أمية   2/ 110 بعثت بالحنيفية السمحة جابر 2/ 211-5/ 99 بعثت بجوامع الكلم أبو هريرة 4/ 48 بعثت لأتمم مكارم الأخلاق   2/ 41، 124 بعثت إلى الأحمر والأسود جابر بن عبد الله 3/ 242 بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم أبو هريرة 3/ 130 بعهما جميعا أو امسكهما جميعا على 2/ 472، 472ت بل أنت سهل حزن بن أبي وهب 5/ 399 بل للناس عامة   3/ 244 بل هي للأبد سراقة بن مالك 1/ 47ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 بلغوا عني ولو أية عبد الله بن عمرو 1/ 65ت -2/ 130ت-5/ 254 بما أ؛ رم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   2/ 342 بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَإِنْ لم تجد؟ معاذ 4/ 298، 325 بني سلمة ديار كم تكتب جابر 2/ 223 بهذا أمرت   3/ 67، 258ت، 259 يؤمن ابن سمية تقتلك الفئة الباغية أبو سعيد 2/ 453ت بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبت فشربت عبد الله بن عمر 5/ 253 بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم ابن عباس 2/ 229ت بينا رسلو الله صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه أبو سعيد الخدري 5/ 304ت بينما موسي في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل أبي بن كعب 5/ 292 بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سعيد 3/ 63 البر ما سكنت إليه النفس ابو ثعلبة الخشني 2/ 466ت البينة على المدعي   2/ 468-5/ 15 البيع والمبتاع بالخيار عبد الله بن عمر 1/ 425 تتماري في الفوق   5/ 173 تجافوا عن عقوبة ذوي ابن عمر 1/ 269، 269ت تحاجت الجنة والنار   2/ 56ت تداووا اسامة بن شريك 1/ 217، 217ت تداووا؟ فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء أسامة بن شريك 2/ 262-3/ 250 تركت فيكم أثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما   4/ 135 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها العرباض بن سارية 4/ 135 تركتكم على الجادة على ابن أبي طالب 3/ 173 تزوجوا الولود الودود   1/ 383ت تحسرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة   3/ 84ت تسمعون ويسمع منكم ابن عباس 5/ 255 تضحية أبي بردة بالعناق الجذعة   2/ 274 تطعم الطعام وتقرأ السلام عبد الله بن عمرو 5/ 30 تعال يا ابن مسعود ابن مسعود 1/ 264 تعال يا عبد الله   3/ 405 تعالوا اكتب لك كتابا لن تضلوا بعده ابن عباس 5/ 394 تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن بعض الصحابة 1/ 81 تعوذوا بالله من جهد البلاء ابو هريرة 3/ 312ت تغدوا خماصا وتروح بطانا   1/ 304ت تفترق امتي   5/ 172 تفترق امتي على ثلاثة وسبعين فرقة ابو هريرة 4/ 449 تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا عائشة 4/ 309ت تلك صلاة المنافقين   1/ 244، 245ت تمكث إحدكن شطر دهرها لا تصلي   2/ 152-152ت تمكث الليالي ما تصلي ابن عمر 2/ 153ت تمكث شطر دهرها لا تصلي   4/ 193ت تنكح المرأة لأربع   1/ 383ت تهادوا تحابوا أبو هريرة 2/ 178 ثلاث إذا خرجن أبو هريرة 4/ 409 ثلاث جدهن وهزلهن جد أبو هريرة 36/ 14 ثلاث من اصول الإيمان أنس 2/ 28ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أنس 2/ 198-199 ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم أبو هريرة 3/ 389، 389ت ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم أبو موسى 1/ 534ت ثم ملو ملة فقالوا عون بن عبد الله "مرسلا"   1/ 50 جاء ابن مسعود يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب جابر 3/ 405 جاء الحارث الغطفاني إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو هريرة 1/ 499ت جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عطاء بن يسار 1/ 491ت جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله 1/ 533 جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف سعيد بن جبير 2/ 192ت جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة جابر 4/ 382 جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! أبن مسعود 4/ 163 جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة 1/ 431ت جبلت القلوب على حب من أحسن إليها   2/ 176 جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين   2/ 409ت جعلت امتي خير الأمم على بن أبي طالب 4/ 408ت جعلت قرة عينه صلى الله عليه وسلم في الصلاة   2/ 366 جعلت قرة عيني في الصلاة   2/ 232ت، 240-3/ 143 جف القلم بما أنت لاق   3/ 554 جف القلم بما هو كائن ابن عباس 1/ 315، 330 الجهاد واجب عليكم مع كل أمير   2/ 528 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 جهز النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ فِي جيش 1/ 504 حبب إلي 1/ 187ت حبب إلى من دنياكم 3/ 143ت حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء 2/ 332ت حبب إلي من دنياكم ثلاث 2/ 333، 240، 241ت حتى استأمر السعود ابو هريرة 1/ 499ت-5/ 407ت حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك 3/ 125 حدثوا الناس بما يع رفون على 5/ 168 حديث ابي هريرة في المفلس 2/ 391 حديث إذن النبي صلى الله عليه وسلم بلبس الحرير للحكة 4/ 12ت حديث استبشار النبي صلى الله عليه وسلم بقول المدلجي 4/ 434ت حديث إعراضه عن سماع غناء الجاريتين عائشة 4/ 424 حديث الأبرص والأقرع والأعمي ابو هريرة 4/ 417 حديث الإحلال من العمرة 4/ 78، 126-5/ 264، 304 حديث الأشعرين إذا أرملوا 5/ 247 حديث الاغتسال من التقاء الختانين عائشة 4/ 117 حديث الإفطار في السفر 4/ 87، 126 حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم جابر بن عبد الله 3/ 255، 259 حديث امرأة رفاعة 1/ 430، 3/ 163 حديث امرة صلى الله عليه وسلم لحسان بإنشاد الشعر 4/ 440 حديث عن الدنيا مخلقوة ليظهر فيها أثر القبضتين 2/ 543 حديث أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةٍ خَشِيَتْ أَنْ يُطْلِقَهَا النبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 صلى الله عليه وسلم ابن عباس 4/ 116 حديث تأخير السحور 3/ 485ت حديث تتريس أبي طلحة الني صلي الله عليه وسلم 3/ 92، 93 حديث تحريم صيام يوم العيد 4/ 100 حديث تحريم النبي لصلي الله عليه وسلم للعسل علي نفسه 4/ 438، 438ت حديث التحلل من لعمرة 4/ 87، 126-5/ 264، 304 حديث تركه صلي الله عليه وسلم للقيام في المسجد في رمضان عائشة 4/ 423-5/ 280 حديث التصرية في شراء الشاة 1/ 429 حديث تصريح النبي صلي الله عليه وسلم بلفظ الوطء 4/ 420 حديث تعذيب المرأ في هرة ربطتها 2/ 338 حديث الثلاثة الذي خلفوا 2/ 499 حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النار ابو هريرة 4/ 35 حديث الخميصة ذات العلم عائشة 1/ 189 حديث جابر بن عبد الله في تزوجه 1/ 383ت حديث جبريل حين صلي بالنبي صلي الله عليه وسلم 4/ 80 حديث جريج العابد ابو هريرة 4/ 417 حديث خيار المجلس ابن عمر 3/ 196 حديث دية الأطراف 4/ 275، 384ت حديث الذي وقصته الدابة 2/ 515ت حدث رجل أشجع 3/ 552ت حديث الرجل الذي أراد أن يفتك به صلى الله عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 وسلم 4/ 427 حديث رمي التراب في وجوه الكفار 2/ 479ت حديث الرؤيا الصالحة 4/ 391 حديث سبيعة الأسلمية 4/ 396، 397ت حديث سجود الشكر 3/ 161ت حديث سلمان وأبي الدرداء 1/ 182 حديث الشاة المسمومة أبو هريرة 2/ 461ت حديث شراج الحرة عبد الله بن الزبير 2/ 285 حديث صلح الحديبية البراء بن عازب 5/ 416 حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء عائشة 3/ 240 حديث العرايا جابر 3/ 201 حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ 3/ 39 حديث غناء الجاريتين 4/ 443ت حديث فاطمة بنت قيس 4/ 395 حديث فزع أهل المدينة 3/ 69 حديث القرعة 3/ 200 حديث قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير بالسقى عبد الله بن الزبير 4/ 320 حديث قيافة المدلجي وقصته مع أسامة وأبيه زيد 4/ 434، 437ت حديث المتلاعنين ابن عباس 2/ 470 حديث المرأة التي سمت الشاه 4/ 327 حديث المرأة السوداء التي كانت تصرع 2/ 262، 503ت حديث المرأتين المتظاهرتين عند النبي صلى الله عليه وسلم 4/ 35 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 حديث مسح النبي صلى الله عليه وسلم على عمامته 4/ 8ت حديث المصراة 1/ 429، 3/ 163 حديث معاذ في الاحتجاج بالسنة 4/ 405 حديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن 2/ 514ت حديث معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنات المهاجرات 4/ 22ت حديث منع بيع الرطب بالتمر 3/ 202 حديث من قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أعدل 4/ 426 حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار 2/ 325 حديث موسى مع الخضر 4/ 414 حديث الناذرللصيام قائما في الشمس 2/ 229 حديث نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم 2/ 479ت حديث النخلة 3/ 146 حديث نوم على مكان النبي صلى الله عليه وسلم 3/ 69 حديث وفاة موسى عليه السلام 4/ 417 حديث اليهودي الذي قتل الجارية 3/ 178 حسنات الأبرار سيئات المقربين 3/ 548، 548ت حفت الجنة با لمكاره وحفت النار بالشهوات أبو هريرة 1/ 164-2/ 45 حق الله على العباد أن يعبد وه معاذ 2/ 544 حق الله تعالى على العباد أن يعبد وه معاذ 2/ 538ت حق العباد على الله إذا عبد وه معاذ 2/ 538 حق عل كل من سمعه أن يشمته 1/ 252 حكمي على الواحد حكمي على الجماعة 3/ 241 حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسعون ألف درهم 3/ 67 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 الحمد لله أم القرآن 4/ 411 الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة أبو هريرة 4/ 173ت حلوه، ليصل أحدكم نشاطه أنس 1/ 528، 2/ 235 الحلال بين والحرام بين النعمان بن بشير 3/ 306، 540-4/ 138، 366 خبأت دعوتي شفاعة لأمتي جابر 5/ 310ت خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين أنس 4/ 441ت خذل عنا إن استطعت 4/ 441ت خذوا القرآن من أربعة عبد الله بن عمرو 4/ 152 خذوا عني مناسككم 3/ 246-4/ 75، 80ت، 82، 136، 5/ 216 خذوا من الأعمال ما تطيقون 2/ 280 خذوا من العمل ما تطيقون عائشة 1/ 525-2/ 40 4-4/ 101-5/ 320 خذي فرصة ممسكة 4/ 444 خذي ما يكفيك هند بنت عتبة 1/ 251-2/ 490ت الخراج بالضمان عائشة 3/ 204، 427، 430، 455 خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قباء يصلي ابن عمر 2/ 371ت خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ الفتح في رمضان 1/ 532ت-3/ 279ت خلق الله الماء طهورا أبو سعيد الخدري 4/ 40ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 الخوارج مجوس هذه الأمة ابن عمر 5/ 174ت خَوْفًا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابه 2/ 467 خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام أبو هريرة 5/ 292 خير دور الأنصار بنو النجار أبو أسيد الساعدي 2/ 59، 60-5/ 295 الخير عادة معاوية 1/ 512-2/ 150 خير القرون قرني عمران بن حصين 5/ 294 خير القرون قرني ابن مسعود 1/ 149 خيركم من تعلم القرآن وعلمه عثمان 5/ 31 الخيل لرجل أجر ولرجل ستر أبو هريرة 2/ 340 الخيل معقود في نواصيها الخير إلى اليوم القيامة عروة البارقي 2/ 28ت خيرني ربي عز وجل أن أكون نبيا 1/ 544، 544ت دب إليكم داء الأمم قبلكم الزبير 5/ 153ت دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد وحبل ممدود أنس 2/ 234 دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلي فاطمة على 5/ 398 دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندي جاريتان تغنيان عائشة 4/ 424ت دخلت امراة النار في هرة ربطتها 3/ 397ت دخلوا يزحفون على أستاهم أبو هريرة 4/ 397 دخلوا يزحفون على أوراكهم أبو هريرة 4/ 406 دعاء المرء لنفسه عائشة 5/ 28 الدعاء هو العبادة النعمان بن بشير 4/ 398 دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ أبو سعيد الخدري 2/ 335- الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 5/ 148 دف أهل أبيات من أهل البادية عائشة 2/ 275ت دماء الجاهلية موضوعة جابر 5/ 270ت الدين النصيحة 3/ 317 ذاك إبراهيم أنس بن مالك 5/ 294 ذبحت قبل أن أرمي 5/ 258ت الذاكرون الله كثيرا والذاكرات أبو سعيد 5/ 27 ذروني ما تركتكم أبو هريرة 1/ 47ت، 256، 275-5/ 376، 388 ذكاة الجنين ذكاة أمه أبو سعيد الخدري 4/ 376 ذلك فضل الله أبو هريرة 1/ 180 ذلك الوأد الخفي 3/ 155ت ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النار أبو سعيد الخدري 4/ 415 ذهب أهل الدثور بالأجور أبو هريرة 1/ 179 الذهب بالذهب والفضة بالفضة عبادة بن الصامت 4/ 380 رأي صلى الله عليه وسلم رجلا وسخة ثيابه جابر 1/ 280ت رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل القثاء بالرطب 3/ 419ت رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص عن نفسه عمر 4/ 127ت رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل القثاء بالرطب 3/ 419ت رأيت شابا وشابة فلم آمن على 2/ 180ت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه عمرو بن أمية الضمري 3/ 272ت ربا الجاهلية موضوع جابر بن عبد الله 4/ 380 رب اغفر لقومي ابن مسعود 2/ 390ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 الرجل إذا مات انقطع عمله أبو هريرة 2/ 386 رحم الله قسا إني لأرجو 2/ 126ت الراحمون يرحمهم الرحمن عبد الله بن عمرو 1/ 112 رد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ نَذَرَ أن يصوم قائما 2/ 228 رد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ عَلَى سعد بن أبي وقاص 2/ 228 الرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن عبد الله بن عمرو 1/ 353، 353ت رفع الله ع وجل عن هذه الأ مة أبو بكرة 1/ 236 رفع الله عن أمتي ابن عباس 1/ 236 رفع عن أمتي الخطأ والنسيان أبو بكرة 1/ 236 رفع عن أمتي الخطأ والنسيان 1/ 268ت، 3/ 15 رفع القلم عن ثلاث عائشة 1/ 237 ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا 1/ 523ت رؤيا المؤمن جزء أنس 4/ 391 الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين عبادة بن الصامت 2/ 419ت الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء أنس 4/ 391ت الرؤيا ثلاثة 4/ 391ت الرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن عبد الله بن عمرو 1/ 353، 353ت زادك الله طاعة عبد الله بن رواحة 3/ 406 الهد في الدنيا يريح القلب والبدن أبو هريرة 1/ 352 سئل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ البتع؟ فقال عائشة 2/ 522ت سئل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشهوة الخفية 1/ 88 سئل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخمر؟ فنهاه طارق بن سويد الجعفي 2/ 121ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 سألة الصَّحَابَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اليوم الذي كسنة 2/ 479ت سألت جابرا – رضي اله عنه: أنهي النبي صلى اله عليه وسلم محمد بن عباد 5/ 317ت سالت ربي عز وجل أربعا فأعطاني ثلاثا أبو بصرة الغفاري 2/ 436ت سألت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصلاة في بيتي عبد الله بن سعد 3/ 264ت سألت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نظر الفجأة جرير بن عبد الله البجلي 2/ 180ت سبب نزول {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا} 1 ابن عباس 3/ 514ت-4/ 212 سبب نزول {يا أيها الذين آمنوالا تقولوا راعنا} سعد بن عبادة 4/ 111 سبب نزول {ولله المشرق والمغرب} 4/ 147ت سبب نزول {واتخذامن مقام إبراهيم مصلى} 2/ 420 سبب نزول {قد نرى تقلب وجهك في السماء} 2/ 420 سبب نزول {إن الصفا والمروة من شعائر الله} عائشة 1/ 478ت سبب نزول {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود} عدي بن حاتم 2/ 143، 3/ 299ت، 4/ 398ت سبب نزول: {من الفجر} عدي بن حاتم 3/ 299ت، 4/ 398ت سبب نزول: {يسألونك عن الأهلة قل} 3/ 149، 149ت، 150،   1 الآيات مرتبة على حسب ورودها في القرآن الكريم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 5/ 376ت، 388 سبب نزول: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} البراء 1/ 44 سبب نزول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ ربكم} ابن عباس 1/ 475ت سبب نزول: {وقوموا لله قانتين} زيد ابن أرقم 3/ 341ت، 342ت سبب نزول: {لله ما في السماوات وما في الأرض} ابو هريرة 1/ 93ت سبب نزول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} ابو هريرة 1/ 93ت-4/ 36، 5/ 409 سبب نزول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} ابو هريرة 1/ 504-4/ 37 سبب نزول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ابو هريرة 3/ 352ت سبب نزول: {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} ابن عباس 4/ 32، 149 سبب نزول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} عبد الله بن الزبير 2/ 285-4/ 320 سبب نزول: {غير أولي الضرر} البراء 5/ 409ت سبب نزول: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ابن عباس 4/ 36 سبب نزول: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما} ابن عباس 4/ 116 سبب نزول: {اليوم أكملت لكم دينكم} عنترة بن عبد الرحمن "مرسلا" 4/ 211 سبب نزول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ} ابن عباس 1/ 524، 525ت سبب نزول: {يا أيها الذين أممنوا وعلموا الصالحات جناح فيما} أنس 1/ 158ت، 276 سبب نزول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 إن} أنس 1/ 45، 46، 257 سبب نزول: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} 3/ 348ت سبب نزول: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شيء} 3/ 349ت سبب نزول: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} ابن مسعود 1/ 93ت-2/ 282-3/ 401، 4/ 24، 5/ 409 سبب نزول: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قتادة "مرسلا" 3/ 75-76 سبب نزول: {الآن خفف الله عنكم} ابن عباس 1/ 510 سبب نزول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} ابن عباس 1/ 515 سبب نزول: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} 2/ 390 سبب نزول: {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} ابن عباس 3/ 223 سبب نزول: {وما كان للنبي والذين آمنوا أن} 2/ 388، 390ت سبب نزول: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} 2/ 270 سبب نزول: {وأقم الصلاة طرفي النهار} ابن مسعود 3/ 244ت-4/ 171 سبب نزول: سورة يوسف سعد 1/ 50، 50ت سبب نزول: {الر. تلك آيات الكتاب المبين..} سعد 3/ 520ت سبب نزول: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} ابو هريرة 3/ 342، 342ت سبب نزول: {والذين يرمون أزواجهم} 2/ 423 سبب نزول: {ولولا إذ سمعتموه قلتم} 2/ 442ت سبب نزول: {ولا يأتل أول الفضل منكم} عائشة 5/ 248 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 سبب نزول: {إنكم وما تعبد ون من دون الله حصب جنهم} ابن عباس 3/ 362ت، 4/ 24، 30 سبب نزول: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} ابن عباس 3/ 362ت، 4/ 24، 31 سبب نزول: {إن الشرك لظلم عظيم} ابن مسعود 1/ 93ت، 3/ 401-4/ 24 سبب نزول: {ترجي من تشاء منهن} 2/ 420 سبب نزول: آية الحجاب 2/ 421 سبب نزول: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} 1/ 361 سبب نزول: {الله نزل أحس الحديث} ابن عباس 1/ 50، 50ت-3/ 520ت سبب نزول: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على} ابن عباس 2/ 283، 283ت-4/ 170 سبب نزول: {وما قدروا الله حق قدره} ابن عباس 4/ 163 سبب نزول: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان} ابن مسعود 4/ 152 سبب نزول: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات} 2/ 417ت سبب نزول: {إذ يبايعونك تحت الشجرة} 1/ 143 سبب نزول: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم} سعد 1/ 51ت-3/ 520ت سبب نزول: {قد سمع الله قول التي تجادلك} 2/ 421 سبب نزول: {ويؤثرون على أنفسهم ولو} أبو هريرة 3/ 68ت سبب نزول: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} 4/ 22ت سبب نزول: {ومن يتق الله} جابر 1/ 533 سبب نزول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لك} عائشة 4/ 439 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 سبب نزول: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} ابن عباس 4/ 213 سبب نزول: {سبق المفردون} ابو هريرة 5/ 27ت سبب نزول: {ستفترق امتي على بضع وسبعين فرقة} 5/ 147 سبب نزول: {ستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة} عوف بن مالك الأشجعي 1/ 98 سددوا وقاربوا 5/ 277، 277ت سل هذه -لأم سلمة- عمر بن أبي سلمة 4/ 75ت سلوا الله من فضله ابن مسعود 5/ 31ت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عائشة 5/ 247ت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول عمر 2/ 226ت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الرطب بالتمر سعد 3/ 202ت سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ 2/ 425 سمعت الناس يقولون شيئا، فقلته اسماء 5/ 315 سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان عمر 3/ 39ت سمعتك تقول: اجلسوا عبد الله بن رواحة 3/ 406 سها، فسجد عمران بن حصين 2/ 516 سؤال الصَّحَابَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التجارة في الحج 1/ 475ت سيأتي على أمتي زمان يكثر القراء أبو هريرة 1/ 100 سيأتيك عني أحاديث مختلفة أبو هريرة 3/ 189ت سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان على 5/ 176 سيكون بعدي فتن كقطع الليل 2/ 172ت سيكون في أمتي ثلاثون كذابا 5/ 172ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 سيكون من أمتي رجل يقال له أويس ابن عباس 2/ 424ت شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع أبو هريرة 3/ 394ت شغلونا عن الصلاة الوسطي: صلاة العصر على 3، 409ت شكركم تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا على 2/ 115 شهادة خزيمة 2/ 58، 274، 409ت، 469-3/ 342 شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض أنس 2/ 346ت الشجاعة والجبن غرائز أبو هريرة 2/ 176، 185، 185ت الشرك باله وعقوق الوالدين وقول الزور أبو بكرة 4/ 401 شَهِدَتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأخ لي أحدا 3/ 560 الشهر هكذا وهكذا وهكذا ابن عمر 5/ 258، 258ت الشؤم في ثلاث: في الفرس والمرأة والدار ابن عمر 3/ 194ت صدق سلمان ابو جحيفة 2/ 248 صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته زيد بن ثابت 3/ 265ت الصلاة لأول وقتها 1/ 244 الصلاة لوقتها. قال ثم أي ابن مسعود 5/ 26 صلاة الوسطي صلاة العصر سمرة بن جندب 4/ 399 صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر بالمدينة أنس 1/ 523 صلى عليه الصلاة والسلام بابن عباس في بيت خالته 3/ 265 صلى عليه الصلاة والسلام بابن عباس في بيت مليكة ركعتين في جماعة 3/ 265 صل معنا هذين اليومين بريدة 3/ 256، 5/ 259ت صلوا كما رأيتموني أصلي 3/ 245، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 382ت، 4/ 75، 82، 296ت، 5/ 261 صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه 1/ 471، 471 ت الصيام جنة ابو هريرة 3/ 144 صيد البر حلال لكم جابر 3/ 10ت ضخ بالجذع من المعز 2/ 410ت الطهور ماؤه الحل مييتته 4/ 383 الطيرة في الفرس والدار والمرأة ابو هريرة 3/ 194ت عرض على ربي ليجعل لي 1544، 544ت على رسلك حتى تنزل بساحتهم على 1/ 212ت العلماء ورثة الأنبياء 4/ 77ت عليك بالصوم فإنه لا مثل له أبو أمامة 5/ 27 عليكم بسنتني وسنة الخلفاء الراشدين العرباض بن سارية 4/ 133، 293، 449، 456ت عليكم من الأعمال ما تطيقون 2/ 234 عليك من العمل ما تطيقون 5/ 277 عناق أبي بردة 2/ 58، 410، 3/ 242 غرس غرسا أو زرع زرعا انس 2/ 391 الغني اليأس عما في أيدي الناس ابن مسعود 3/ 489ت فأخاف أن تفتني عائشة 1/ 189ت فإذا اختلط بكلابك كلب عدي بن حاتم 4/ 367 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 فإذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك 3/ 276ت فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ عائشة 5/ 143، 165 فإذا غم عليكم فاقدروا ثلاثين 1/ 144ت، 2/ 144ت فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا 5/ 301 فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها أبو هريرة 2/ 431ت فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك كعب بن مالك 5/ 248ت فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصبح جنبا عائشة 4/ 94 فأقرئها من بها السلام 2/ 431ت فأقضي له على نحو ما أسمع 2/ 459ت فأكملوا العدة ثلاثين 2/ 144ت فأما المؤمن فيقول له ربه: ألم تفعل كذا 3/ 353ت فإن أكل فلا تأكل عدي بن حاتم 4/ 362 فانتبذوا في كل وعاء بريدة 4/ 360ت فإن أحداهن تقعد ما شاء الله ابن مسعود 2/ 153ت فإن الله لا يجمع امة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة أبو مسعود 2/ 436ت فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم أبو هريرة 4/ 383 فإنه لم يخف على شأنكم عائشة 4/ 423ت فأولئك الذي سمي الله فاحذروهم 5/ 402ت فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعا قد سبقهم إلى الصوت 3/ 69 فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لها النساء 4/ 73 فحرفها كأنه يريد القتل أبو هريرة 5/ 259، 259ت فذروني ما تركتكم 1/ 47، 5/ 374 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 367، 388 فر من المجذوم فرارك من الأسد 1/ 323، 3/ 195ت فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصوت 3/ 69 فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بدت نواجذه ابن مسعود 4/ 164 فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين العرباض بن سارية 4/ 449 فعن معادن العرب تسالوني ابوهريرة 5/ 292 فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: ماذا قلت جابر 2/ 342 فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود 2/ 54ت فكن عبد الله المقتول خباب 2/ 173ت فلما كبرت رددت أني كنت قبلت عبد الله بن عمرو 2/ 240ت فليأت أهله فإن معها الذي معها جابر 2/ 253ت فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا انس 4/ 388 فمن أعدي الأول 1/ 314، 323 فمن قضيت له من حق أخيه شيئا 3/ 107ت فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله عمر 2/ 355، 3/ 297 فمن وافق علمه علم 1/ 62ت فهما في الأجر سواء 2/ 393 فهما في الوزر سواء 2/ 393 فوالله لئن قدر الله على ليعذبني 5/ 205ت، 206 فولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: وكان الإنسان على 5/ 398 في أربعين شاة شاة 3/ 411، 411ت فيعرفونهم في النار فيعرفونهم بأثر السجود أبو هريرة 2/ 54ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 في كل دور الأنصار خير أبو أسيد الساعدي 3/ 547 في كل ذنب كبد رطبة أجر 2/ 338 فيما سقت السماء العشر ابن عمر 2/ 155 فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر 3/ 162 فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابو هريرة 5/ 291 قالت الله اليهود حرمت عليهم جابر بن عبد الله 1/ 447، 3/ 112 قاتل الهل اليهود حرمت عليهم الشحوم ابن عباس 3/ 461 القاتل لا يرث 1/ 405، 2/ 521، 3/ 118، 186ت، 3/ 206ت، 207 قال الله تبارك وتعال للجنة: أنت رحمتي أبو هريرة 2/ 56ت قال الله تعالى: قد فعلت أبن عباس 2/ 210، 4/ 37 قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل أبو هريرة 2/ 325ت قال تعالى: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم أبو ذر 1/ 357، قال صلى الله عليه وسلم: أئمتكم شفعاؤكم عند الله 2/ 480 قال: قد فعلت ابن عباس 3/ 51، 4/ 37 قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء أبو سعيد 4/ 88ت قالا: حبة في شعره أبو هريرة 4/ 406 قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا أبن عباس 1/ 50ت قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ولأن أصلي في بيتي عبد الله بن سعد 3/ 264ت قد حرمت عليه 2/ 421 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 قد فضلكم على كثير أبو أسيد 3/ 847 قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع 1/ 164ت قدم عبد الرحمن بن عوف فآخي النبي صلى الله عليه وسلم أنس 2/ 325ت قد نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صلاة بعد العصر ابن عباس 4/ 341 قراءة الإمام قراءة المأموم جمع من الصحابة1 5/ 352ت قصة ابن عمر في طلاق زوجته ابن عمر 3/ 300 قصة الخضر 2/ 461، 463، 463ت، 464ت، 507 قصة كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ 2/ 271 قصة اليهودي الذي قتل الجارية على أوضحا لها 2/ 178ت القصد القصد تبلغوا أبو هريرة 2/ 208 قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد 4/ 389، 389ت قل ربي الله ثم استقم سفيان بن عبد الله الثقفي 3/ 295 قَلِيلٌ تُؤَدِي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تطيقه 2/ 448، 3/ 534، 5/ 32 قولوا سمعنا وأطعنا أبن عباس 4/ 37 قوموا إلى سيدكم أبو سعيد الخدري 3/ 268ت قوموا لسيدكم أبو سعيد الخدري 3/ 268 قوموا فانحروا ثم احلقوا 4/ 87ت   1 منهم: جابر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعلي وأبو الدرداء رضي الله عنهم جميعا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان في المسجد 3/ 259 قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان في المسجد 3/ 259 قيل لبين إسرائيل: {ادخلوا الباب سجدا} أبوهريرة 4/ 397ت قيل من الغرباء يا رسول الله أبوهريرة 1/ 151 قيدها وتوكل 1/ 334، 2/ 507 كان أبو بكر يخافت وكان عمر يجهر أبو قتادة 5/ 33 كان أبوطلحة يتترس مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بترس واحد أنس 2/ 174ت كان أحب العمل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشة 2/ 404ت كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين 3/ 256ت كَانَ إِذَا اضْطَرَّ أَهْلُهُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ ورزقه 3/ 146 كان إذا صلى صلاة دوام عليها عائشة 2/ 405ت كان إذا عمل أثبته 4/ 122 كان خلقه القرآن عائشة 2/ 332، 4/ 186، 318 كان رجل من الأنصار يبرد 1/ 186 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس بالخير ابن عباس 3/ 66 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أنس 3/ 256ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أصابه ثابت البناني 1/ 333ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى رفع رأسه 3/ 342 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزلت عبد الله بن سلام 1/ 333ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يفضل بعضنا على بعض عائشة 4/ 431 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا: ل البطيخ بالرطب 3/ 419ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الحلواء عائشة 1/ 185-2/ 332، 5/ 331 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرى في الظلمة عائشة 2/ 443ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرى في الظلمة ابن عباس 2/ 443ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشفي به وبدعائه 2/ 503 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل وهو صائم 4/ 74ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بين نسائه ابو قلابة 4/ 430 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس خاتما من ذهب فنبذه ابن عمر 5/ 303ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينبذ له الزبيب في السقاء ابن عمر 3/ 79ت كان الصحابة مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية فأدركتهم الصلاة 4/ 147ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ي غير على قوم حتى يصبح 1/ 211 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبه ويأتيه "وداي العقيق" 2/ 225 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ من علم لا ينفع زيد بن أرقم 1/ 80 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ابن مسعود 5/ 316ت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم حتى تفطرت قدماه 2/ 246 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره الضب خالد بن الوليد 4/ 115 كان عاصم بن ثابت أعطي الله عهدا 5/ 246ت كان عندي غلامان أخوان على 3/ 472، 472ت كَانَ فِي غَزْوِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى الْعَدُوِّ 3/ 69 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 كان ناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم هموا بالخصاء 1/ 525ت كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ابن عباس 3/ 66، 66ت كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع جابر 2/ 268ت كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يدخر شيئا لغد أَنَسٌ 3/ 67 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايع النساء بالكلام بهذه الآية عائشة 2/ 504، 504ت كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنتهم 3/ 68 كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره كثرة 1/ 256، 258ت كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن قيل وقال المغيرة بن شعبة 1/ 47ت كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر السحور 3/ 485ت كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة 2/ 463ت كان نبي يخط في الرمل معاوية 1/ 60 كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح جابر بن سمرة 4/ 444ت كان يأكل اللحم ويختص بالذراع أبو هريرة 1/ 185 كان يأمر أهله بالصلاة إذا لم عبد الله بن سلام 1/ 333 كان يتحصن بالدرع والمغفر 2/ 506 كان يتطيب بأطيب ما يجد 1/ 186ت كان يحب الحلواء والعسل 1/ 185-2/ 332-5/ 311 كان يحب الدباء 5/ 311 كان يحب الذراع 2/ 322، 1/ 185 كان يحب الطيب والنساء 2/ 332-5/ 310 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 كان يستعذب له الماء انس 1/ 185، 185ت-2/ 332 كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ابن مسعود 5/ 316ت كان يصوم يوما ويفطر يوما 2/ 249، 249ت كان يقوم بالركعة الأولى 2/ 370ت من كان ينقع له الزبيب عائشة 1/ 186، 186ت كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش عائشة 3/ 240ت الكبر بطر الحق وغمط الناس ابن مسعود 1/ 67 كتاب الله القصاص أنس 2/ 504 كثرة الخطا إلى المساجد 2/ 216 كذبت بقولك الأول 1/ 431ت كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ النعمان بن بشير 2/ 38 كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ النعمان بن بشير 3/ 541 كره إن تعري المدينة قبل ذلك 2/ 225 كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسائل وعابها سهل بن سعد 5/ 382ت كل فإني أناجي من لا تناجي 4/ 423ت كل ما أصميت ودع ما أنميت 4/ 369 كل بدعة ضلالة جابر بن عبد الله 3/ 38 كل داء أصله البردة أنس، أبن عباس، أبو سعيد الخدري 3/ 505ت كل شراب أسكر فهو حرام عائشة 2/ 522ت كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل بريدة 5/ 207 كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ 3/ 45 كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ 3/ 44 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته 3/ 25 كل لهو باطل ابو هريرة 1/ 228 كل لهو باطل إلا ثلاثة ابو هريرة 1/ 202، 202ت، 205، 3/ 516، 519 كل مسكر حرام جابر 2/ 522، 522ت، 4/ 360، 360ت5/ 22ت كل مسكر خمر ابن عمر 1/ 71ت، 4/ 360ت، 5/ 418 كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ابن عمر 2/ 522ت، 4/ 360ت كلوا فإن ليست كأحدكم أم أيوب 4/ 115 الكمأة من المن سعيد بن زيد 5/ 211، 211ت كمل من الرجال كثير أبو موسى 5/ 293 كنت أصلي فمر بي رسول الله صل الله عليه وسلم فدعاني ابو سعيد بن المعلي 3/ 298ت كنت أطيب النبي صلى اله عليه وسلم قبل أن يحرم عائشة 1/ 186ت كنت في المسجد فدخل رجل يصلي أبي بن كعب 3/ 40ت كنت سابع سبعة مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر 3/ 382ت كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذا ابو بردة بن نيار 4/ 358 كن عبد الله المقتول 2/ 172 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 كنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي الحليفة من تهامة رافع بن خديج 3/ 198ت كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سير فنفدت أزواد القوم أبو هريرة 2/ 325ت كنا ندع ما لا بأس به عطية السعدي 1/ 179، 190 كنا نرقي في الجاهلية عوف بن مالك 2/ 121ت كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصلاة عائشة 2/ 526 كنا والله إذا احمر البأس نتقي به البراء 3/ 93ت كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ أبو هريرة 5/ 386 أبو هريرة 2/ 437ت كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر 1/ 158ت كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا ذ عقبة بن الحارث 4/ 369 كيف تقضي إذا عرض لك قضاء 2/ 514ت كَيْفَ تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِذَا وَضَعَ الله السماوات على ذه ابن عباس 4/ 163 لابن آدم لمتان: لمة من الملك ابن مسعود 5/ 96ت لاستغفرن لك ما لم أنه عنك 2/ 390، 390ت لأعطين الراية غدا رجلا سهل بن سعد 2/ 449 لئن قدر الله على أبو هريرة 5/ 205ت، 206 ليس النبي صلى الله عليه وسلم خميصة ذات عائشة 1/ 189 لتأخذوا مناسككم فإني لا ادري لعلي 3/ 246ت لست من دد ولا دد مني أنس 4/ 425، 433ت لعل الله أن يقمصك قميصا عائشة 2/ 449 لعلك شربته 4/ 437ت لعلنا أعجلناك 3/ 276ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة أبو سعيد 2/ 56ت لعن الله الراشي والمرتشي عبد الله بن عمرو 3/ 116 لعن الله السارق أبو هريرة 2/ 39 عن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده 3/ 539ت لعن الله المحلل والمحلل له ابن مسعود 1/ 398ت، 429ت، 3/ 116 لعن الله الواشمات والمستوشمات ابن مسعود 4/ 182، 340 لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم جابر 3/ 460، 4/ 65 لعنة الله على اليهود والنصارى 3/ 82ت لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السمائل وعابها سهل بن سعد 5/ 382ت لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرق بين الوالدة وولدها 3/ 471، 471ت لقد اختبأت عند ربي عشرا عثمان 5/ 245ت لقد تابت توبة لو قسمت عمر 1/ 461ت لقد رأيتنا وما يختلف عن الصلاة ابن مسعود 4/ 156، 156ت لعد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة أبو هريرة 3/ 68ت لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حطبا أبو هريرة 4/ 110 لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس أبو هريرة 1/ 211، 211ت لكل أمة أمين أنس 5/ 296ت لكل نبي دعوة دعا دعا بها في أمته 5/ 314 لكل نبي دعوة دعاها لأمته 5/ 314 لكل نبي دعوة مستجابة أبو هريرة 5/ 310، 312، 314 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 لكني أكرهه من أجل ريحه أم أيوب 4/ 115 للأبد ولو قلت نعم لوجبت 1/ 46 لما حضرت أبا طالب الوفاة المسيب بن حزن 2/ 389ت لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ من ظهره ابن عباس 4/ 409 لما صور الله آدم في الجنة أنس 2/ 176ت لما كان يوم حنين أثر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود 5/ 35ت لما نزلت: {لا يستوي القاعدون} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء 5/ 409ت لم ترع نعم الجر أنت لو تكثر الصلاة 2/ 447ت لم يؤذن لي 5/ 237ت لم يبق من النبوة إلا المبشرات أبو هريرة 4/ 391ت لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح عائشة 2/ 250ت لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات أبو هريرة 4/ 11، 431، 433 لم يكذب إبراهيم في شيء قط أبو هريرة 4/ 414 لم يكن بأرض قومي خالد بن الوليد 4/ 115 لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى كعب بن مالك 4/ 442ت لم يكن النبي صلى اله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا أنس 4/ 441ت لن تجزئ عن أحد بعدك البراء بن عازب 2/ 410، 410، 410ت لن تراعوا انس 3/ 69 لن يبرح الناس يتساءلون 2/ 142 لن ينجي أحد منكم عمله 2/ 208ت لو أنكم تكونون كما تكونون عندي حنظلة الأسيدي 1/ 146 لو تأخر الشهر لزدتكم أبو هريرة 1/ 526 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 لو تركته لكانت زمزم عينا معينا 5/ 396 لو توكلتم على الله حق توكله عمر 1/ 303، 3/ 552، 3/ 552ت لَوْ رَخَّصْتُ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنَّ تَجْعَلُوهَا 3/ 80 لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بعوضة سهل بن سعد 5/ 356 لو كان هذا في غير هذا جعدة الجشمي 2/ 192ت لو كنت متخذا خليلا غير ربي ابن مسعود 4/ 231 لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك 4/ 424 لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة ابن عباس 4/ 424 لولا أن قومك حديث عهدهم الجاهلية عائشة 4/ 428 لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر عائشة 5/ 181 لولا الإيمان لكان لي ولها شأن ابن عباس 2/ 470 لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ابن عباس 2/ 470ت لَوْ مُدَّ لَنَا فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا أنس 1/ 527، 3/ 415ت، 5/ 264 لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال ابن عباس 2/ 468ت، 5/ 15 ليتني أري النبي صلى اله عليه وسلم حين ينزل عليه يعلي 3/ 83ت ليخرجن من النار بشفاعة رجل 2/ 424ت ليدخلكم الجنة ابو الدحداح 4/ 218 ليدخلن الجنة بشفاعة رجل عبد الله بن أبي الجدعاء 2/ 423ت ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين أبو إمامة 2/ 423ت لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ 2/ 190 ليس بالكذاب الذي يصلح بين أثنين 4/ 441 ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر 3/ 294ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ أبو هريرة 5/ 28 ليس في شيء من الثمر قطع 4/ 310ت ليس لقاتل ميراث 1/ 403ت ليس للقاتل شيء وأن لم يكن له وارث 2/ 521ت لي للقاتل من الميراث شيئ 2/ 521ت ليس من البر الصيام في السفر جابر 1/ 494، 514ت، 517، 529، 2/ 230، 3/ 510 ليس من عمل اليوم إلا وهو يختم عليه عقبة بن عامر 2/ 393ت ليشربن ناس من أمتي الخمر ابو مالك الاشعري 1/ 447، 447ت، 3/ 113 ليكونن أقوام من أمتي أبو عامر 1/ 448 ليكونن أقوام من أمتي أبو مالك الأشعري 1/ 448 ما أبقيت لأهلك عمر 3/ 71ت مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أبو هريرة 4/ 329 مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ أبو هريرة 3/ 282، 282ت، 283 ما أجهلك بلغة قومك 4/ 30، 31 ما أحل الله شيئا أبغض إليه معاذ 1/ 201ت ما أحل الله في كتابه فهو حلال 1/ 229ت ما أخاف عليكم أن تشركوا 2/ 434ت ما أسكر كثيره فقليله حرام جابر 4/ 361 ما أعددت لها أنس بن مالك 1/ 45، 2/ 200ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وبطن الحسن البصري مرسلا 4/ 208 ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء أبو هريرة 2/ 263ت ما أنزل الله في التوراة والأنجيل أبو هريرة 4/ 412 ما بال أقوام يتنزهون عن عائشة 1/ 471ت ما بال الهلال يبدو رقيبا كالخيط 3/ 149، 5/ 376، 5/ 388 ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة ابوسعيد الخدري 3/ 555ت ما ترددت في شيء أنا فاعله أبو هريرة 2/ 256 ما تركت شيئا مما أمركم اله به إلا وقد أمرتكم به المطلب بن حنطب 4/ 136 ما تقرب إلى عبد ي بشيء ابو هريرة 3/ 540، 3/ 541ت مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مشرف له عمر بن الخطاب 1/ 309، 4/ 352ت ما خير بين شيئين 2/ 211 ما خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين عائشة 1/ 526 ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله 3/ 39 مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي سبحة الضحي قط عائشة 3/ 260 ما رأيت من ناقصات عقل ودين ابن عمر 4/ 389 ما رأيته صلى الله عليه وسلم مفطرا يوم الجمعة ابن عمر 5/ 316ت ما سَبَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَةَ الضحي قط عائشة 4/ 101 ما سكت عنه فهو مما عفا عنه سلمان 5/ 114ت مَا سَلَكَتَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا سعد بن أبي وقاص 2/ 439 ما شانك ... زادك الله طاعة عبد الله بن رواحة 1/ 265 ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا قط ابن عباس 3/ 414ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل 2/ 433ت مَا عِنْدِي شَيْءٌ وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ فَإِذَا جاءنا شيء 3/ 67 ما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح عائشة 2/ 250ت ما قعد قوم مقعدا لا يذكرون الله عز وجل ابو هريرة 3/ 545ت ما كان حديث بلغني عنكم أنس 56/ 35 ما كلفك الله مالا تقدر عليه عمر 3/ 67 مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ إِنَّمَا خَصَصْتُ بِهِنَّ الْمُنَافِقِينَ 3/ 402 مالي وللدنيا ابن مسعود 5/ 358 ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط 2/ 504ت ما المسؤول عنها بأعلم من السائل أبو هريرة 1/ 47 مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله عبادة بن الصامت 4/ 258 ما من أحد يموت إلا ندم أبو هريرة 3/ 545ت ما من امرئ تكون له صلاة بليل عائشة 2/ 393ت مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيات ما مثله 4/ 199 ما من بقعة يذكر الله عليها أنس 1/ 363ت مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْضَلَ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ ابو الدرداء 5/ 29 ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم 3/ 397ت ما من عبد يسترعيه الله رعية معقل بن يسار 2/ 308ت ما منعك إن تجيبني إذا دعوتك ابو سعيد بن المعلي 3/ 298 ما من غازية تعزو في سبيل الله 2/ 372ت ما منكم من نفس على ابن أبي طالب 1/ 334 ما من مسلم يغرس غرسا أنس 1/ 337، 2/ 392ت مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِي من الآيات أبو هريرة 4/ 180 ما من نفس تقتل ظلما ابن مسعود 1/ 336، 2/ 386 ما نقض قوم العهد قط إلا كانوا بريدة 1/ 370ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 ما وجد هذا ما يسكن 1/ 208 ما يبكيك عمر بن الخطاب 1/ 153 ما يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة معاذ بن جبل 3/ 545 مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ عائشة 2/ 220 ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ابو سعيد الخدري 1/ 509 متى بايعت فقل لا خلابة حبان بن منقذ 1/ 430ت المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما أبو هريرة 2/ 349ت المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ابن عمر 5/ 216ت المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا 3/ 197ت مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء 4/ 455 مثلكم ومثل أهل الكتابين ابن عمر 2/ 351ت مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ ابن عمر 2/ 351 مثلكم المسلمين اليهود والنصاري كمثل رجل أبو موسى 2/ 351ت مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر أبو كبشة الأنصاري 2/ 393ت مجوس هذه الأمة 5/ 174ت محاش النساء عليكم حرام ابن مسعود 1/ 164ت مخافة أن تفتن أمة 2/ 369ت مررت برسول الله صلى الله عليه وسم فجبذ عمامتي بيده الزبير بن العوام 2/ 186ت مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها انس 2/ 436ت مرة فليتكلم وليستظل وليقعد ابن عباس 2/ 229ت مرة فيراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ابن عمر 3/ 300ت، 4/ 395 مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي: حدثنا يا يهودي ابن عباس 4/ 163 مسح بناصيته وعلي العمامة المغيرة 3/ 272ت المسلمون تتكافأ دماؤهم 1/ 401ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم السعدين في مصالحة الاحزاب 5/ 407 مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في امر عائشة 5/ 407 مطرنا بنوء كذا وكذا 4/ 283ت المعصوم من عصم الله أبو سعيد الخدري 3/ 555 المكثرون هم الأقلون يوم القيامة أبو ذر 3/ 535 مل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ملة 1/ 50 مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارِبَةِ 1/ 117، 2/ 311، 2/ 430 من آذاني فقد آذني الله 2/ 429 من ابتاع عبد افماله للذي باعه 3/ 438ت من باع عبد اوله مال فماله للذي باعه 3/ 439ت من ابتلي منكم من هذه القاذورات بشئ من أبي؟ ابن عمر 3/ 488 من أبي؟ حذافة 5/ 376ت، 377، 5/ 387 من أتي عرفا فسأله عن شيء 2/ 201ت من اثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة أنس 2/ 436ت مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عنه 1/ 257، 5/ 377 مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ عبادة بن الصامت 3/ 294 من أحدث في أمرنا هذا 3/ 45ت من أخلص لله أربعين صباحا 3/ 148 من أدخل فرسا بين فرسين أبو هريرة 3/ 112، 1/ 425 مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تطلع الشمس أبو هريرة 3/ 257 من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة أبو هريرة 5/ 157ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 من ارتبط فرسا في سبيل الله 2/ 392 من استطاع منكم الباءة فليتزوج 3/ 143 من اسلف فليسلف في كيل ابن عباس 1/ 470ت من اشترى مصراه فهو بالخيار 1/ 429ت مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عائشة 1/ 340، 1/ 427 مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الجهل أنس 4/ 78 من أطاع اميري فقد أطاعني 2/ 433 من اعتق شركا له في عبد وكان له مال ابن عمر 2/ 156، 156ت من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى أبو قتادة 3/ 482ت من اقتطع مال امرئ مسلم 1/ 428 من اقتطع مال امرئ مسلم 1/ 428ت مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ 4/ 60 من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ابو هريرة 4/ 98ت من أكرم الناس ابو هريرة 5/ 291 من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا 4/ 429 من أمرك إن تشرب الدم الزبير 4/ 437ت من انفق زوجين في سبيل الله 3/ 144ت مِنَ الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي الله 2/ 189 من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا 3/ 128 من باع عبد اوله مال فماله لسيده ابن عمر 3/ 438، 438، 439ت مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ ابن عمر 3/ 438 المنبت لا أرضا قطع ولا عائشة 2/ 236ت من بدل دينه فاقتلوه 2/ 236ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 من بين لله مسجدا ولو لمفحص قطاة 2/ 39ت من ترك الجمعة ثلاث مرات أبو الجعد الضمري 1/ 213 من ترك ثلاث جمع تهاونا أبو الجعد 1/ 213ت من تركها استخفافا بحقها 1/ 214 مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الله 1/ 88 من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ركع 4/ 80ت مَنْ جَعَلَ هَمَّهُ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ 1/ 351 من جعل الهموم همه هما واحدا كفاه الله ابن مسعود 1/ 351ت من حوسب يوم القيامة عذب عائشة 1/ 184ت من ذا الذي تآلي على الله عائشة 5/ 247 من رغب عن سنتي فليس مني أنس 1/ 522، 2/ 228، 284، 544 من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص أبو موسي الأشعري 3/ 148ت من سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين عبد الله بن عمرو 4/ 310ت من سلم المسلمون من لسانه ويده عبد الله بن عمرو 5/ 30 من سن سنة حسنة جرير 1/ 222، 222ت، 336، 360، 361، 2/ 385، 4/ 70 من سن سنة سيئة جرير 2/ 343 من سن في الإسلام سنة حسنة جرير 1/ 222ت من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتم منها ابن عمر 2/ 57ت من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال 4/ 106ت من صام رمضان أتبعه ستا من شوال 3/ 199ت من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم الكتاب جابر بن عبد الله 5/ 353ت مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ لَمْ يَزَلْ فِي ذِمَّةِ الله جندب بن عبد الله 3/ 143 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 من طلب العلم تكفل الله برزقه زياد بن الحارث 2/ 310 من طلق أو نكح لاعبا فقد أجاز 3/ 15ت من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز أبو ذر 3/ 15ت من عمل عملا ليس عليه أمرنا 3/ 45ت من غرس غرسا أو زرع زرعا 2/ 391 من غشنا فليس منا أبن مسعود 1/ 429ت من غصب قيد شبر طوقه الله من سبع أرضين 3/ 390ت مِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حرج 4/ 98 مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ابو موسى الأشعري 3/ 10 من قال حين يصبح وحين يمسي أبو هريرة 5/ 28ت مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أخطأ جندب بن عبد الله 4/ 252 من قال في القرآن بغير علم ابن عباس 4/ 252 من قال لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له أبو هريرة 5/ 28ت من قتل عصفورا عبثا 2/ 238ت من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها أبو هريرة 3/ 387ت من قتل نفسه بشيء ثابت بن الضحاك 3/ 387ت من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة أبو أمامة 5/ 257ت من قرآ ربع القرآن فقد أوتي ربع النبوة أبو أمامة 5/ 257ت من قرأ القرآن فقد أوتي النبوية غير أنه لا وحي أبو أمامة 5/ 257ت من قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها أبو أمامة 5/ 257ت من كانت الدنيا همه زيد بن ثابت 1/ 351ت من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها عمر 4/ 157ت من كان له فضل ظهر فليع به على من لا ظهر له 5/ 247 من كان معه فضل ظهر أبو سعيد الخدري 3/ 63 مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ عبادة بن الصامت 3/ 298 من ماء 4/ 414ت من مات مسلما دخل الجنة 4/ 70 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 من مات وعليه صوم 2/ 398، 3/ 198 من مات وعليه صوم نذر 3/ 227ت مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله عثمان بن عفان 4/ 258 من مات لا يشرك بالله شيئا جابر 1/ 17ت، 4/ 70ت من مات يشرك بالله شيئا دخل ابن مسعود 4/ 70ت من مس ذكره فليتوضأ 2/ 534ت من مشي منكمز إلى ط مع فليمش رويدا 3/ 489، 489ت من نام عن صلاة أو نسيها 5/ 353ت من نام ونيته أن يقوم أبو الدرداء 2/ 392ت من نذر أن يطيع الله فليطعه عائشة 1/ 173 من نكح لاعبا أو طلق لاعبا 3/ 15 من نوقش الحساب عذب عائشة 1/ 183، 3/ 293، 297، 5/ 409 من هم بحسنة فلم يعملها ابن عباس 2/ 394 من وجد من ذلك شيئا فليقل ابو هريرة 5/ 34 من لا يرحم لا يرحم ابو هريرة 1/ 113 من لا يرح م الناس لا يرحمه الله جرير 1/ 113 مَنْ يَأْخُذُ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ حكيم بن حزام 1/ 309 من يشاد هذا الدين يغلبه ابو هريرة 2/ 251، 406 من يشهد لي؟ فشهد له خزيمة 2/ 469 من يصبر يصبره الله أبو سعيد 1/ 509 من يطع الرسول فقد أطاع الله 2/ 433 مهلا يا خالد فقد تابت توبة 1/ 460ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 المؤمن القوي خير وأحب إلى الله أبو هريرة 2/ 61 المؤمن القوي خير وأحب إلى الله أبو هريرة 1/ 356، 2/ 187-188 المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص أبو موسي 3/ 65 الممنون كالجسد الواحد النعمان بن بشير 3/ 65 المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه أنس 3/ 65 الميت يعذب ببكاء الحي عليه 2/ 385 ناولني ذراعا أبو عبيد 5/ 396 نبدأ بما بدأ الله به جابر 4/ 398 نجوا جمعيا 3/ 57 النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم ابو موسى 4/ 455ت نحري دون نحرك أبو طلحة 3/ 92 نحن أحق بالشك من إبراهيم أبو هريرة 4/ 410ت نحن أمة أمية عمر 1/ 56-2/ 109ت نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ابن عمر 2/ 110، 144، 428-5/ 258ت نحن من ماء 4/ 442 نزل بمكة: ",إذا رأيت الذين يخوضون.." فشكا المسلمون 3/ 348ت نضر الله أمرا سمع منا 1/ 351- نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة 2/ 447 نعم صاحب المسلم هو من أعطى أبو سعيد 1/ 310 نعم ليدخلكم الجنة أبو الدحداح 4/ 218 نعم المال الصالح للرجل الصالح 1/ 179 نلتفت هكذا وهكذا ونفعل ما 3/ 501 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 نهي إن يذبح للجن 2/ 346 نهي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ تتلقي الركبان ابن عباس 3/ 567ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اكل لحم الجلالة ابن عمر 4/ 356 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضاعة المال 3/ 102 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الاغلوطات 5/ 379 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اكل لحوم الضحايا عبد الله بن واقد 2/ 275ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أن يتقدم رمضان 4/ 100 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيع الثمرة حتى يبدوا صلاحها 3/ 417ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيع الحصاة ابو هريرة 2/ 522ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيع الحصاة وعن بيع الغرر 3/ 417ت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بيع الغرر 5/ 117 نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بيع الغرر وشرط 5/ 231 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التبتل 4/ 101 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخليطين أنس 3/ 97 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدباء والحنتم والنقير 4/ 358ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طعام المتبارين ابن عباس 2/ 348 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قتل ابن عباس 1/ 218ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قيل وقال المغيرة بن شعبة 1/ 47 نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب ابن عباس 4/ 355ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لحوم الأضاحي عبد الله بن واقد 3/ 272 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الوصال 4/ 101 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وفد عبد القيس حين قدموا ابو هريرة 3/ 80 نهي عن الانتباذ في الأوعية التي 3/ 80 هي عن بناء المساجد على القبور 3/ 81 نهي عن بيع الغرر ابو هريرة 2/ 522-5/ 117 نهي عن بيع ما ليس عندك عبد الله بن عمرو 1/ 469، 469ت نهي عن بيع وسلف 1/ 427 نهي عن البيع والسلف 3/ 84 نهي عن بيع وشرط 3/ 427 نهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أبو هريرة 3/ 82، 355، 4/ 383 نهي عن الخديعة 1/ 430 نهي عن الخلابة 1/ 430 نهي عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت بريدة 4/ 359ت نهي عن سرد الصيام 3/ 510 نهي عن سلف وبيع 1/ 469 نهي عن شرب النبيذ بعد ثلاث ابن عباس 3/ 79 نهي عن شرطين في بيع 1/ 427 نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ابو هريرة 2/ 516، 516ت نهي عن صوم يوم عيد الفطر 3/ 84 نهي عن الغش 1/ 429 نهي عن معاقرة الأعراب 2/ 347 نهي عن ميراث القاتل 3/ 84 نهي عن هدية المديان 3/ 84، 117 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الاختصاء ابن مسعود 1/ 525ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اختناث ابو سعيد 1/ 219 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أكل كل ذي ناب أبو ثعلبة 4/ 355 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصلاة بحضرة 1/ 494 نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طعام المباهاة ابن عباس 2/ 349ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ المخابرة والمحاقلة 3/ 201ت نهي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النجش 1/ 430 نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال 5/ 381 نهاهم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الوصال لحمة لهم عائشة 2/ 239 نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عن شيء أنس 5/ 385 نهينا عن التكلف عمر 1/ 49، 49ت نهيتكم عن زيارة القبور بريدة 4/ 359ت هدايا الأمراء غلول 3/ 118ت2/ 308ت هذا المال خضرة حلوة 1/ 310ت هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها عائشة 2/ 234 هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابن عباس 2/ 262ت هكذا أنزلت عمر 3/ 40 هل تدرون ما أنقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 186ت هل رأى أحد منكم رؤيا 4/ 391 هل على غيرهن قال: لا طلحة بن عبيد الله 4/ 100 هلك المتنطعون 1/ 522، 2/ 228 هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي ابن عباس 5/ 295ت هلموا إلى 4/ 466ت هل يسب الرجل والديه 4/ 60 هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع عائشة 5/ 154 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة أبو هريرة 5/ 155ت هو خبيثة من الخبائث أبو هريرة 4/ 355 هو الطهور ماؤه الحل ميتته 4/ 371 هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ابو الدرداء 5/ 153ت هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن حمزة بن عمرو الاسلمي 4/ 99ت واجتنبوا كل مسكر 4/ 359ت5/ 113ت، واحتجبي منه يا سودة عبد الله بن زمعة 4/ 366 واعجبا لك يا ابن العاص لئن كنت تجد ثيابا 4/ 109 والذي اصطفي محمدا على العالمين 5/ 293 والذي بعثك بالحق إني لصادق هلال بن أمية 2/ 442 والذين نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ 1/ 258، 5/ 377 والذين نفسي بيده لو تدومون على حنظلة الأسيدي 1/ 146ت والذين نفسي بيده لو سرقت فاطمة عائشة 5/ 271 والذين نفسي بيده لو سكت لأع طين أضرعا ابو عبيد 5/ 396 والذين نفسي بيده لو قلتها لوجبت 1/ 257ت، 5/ 374 والذين نفسي بيده ليخرجن أبو هريرة 1/ 152 والذين نفسي بيده ما لقيك سالكا فجا سعد 4/ 473ت والذين نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سعد بن أبي وقاص 2/ 439ت والله إني لأرجوا أن أكون أخشاكم لله 5/ 269 والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه أبو هريرة 3/ 543 والله ما صليتها 3/ 408ت وما أعطي احد عطاء أبو سعيد الخدري 5/ 30 وما جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ له 4/ 352ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 وأنا أصبح جناب وأنا أريد الصيام عائشة 4/ 93 وأنا حينئذ أعمل أني بريئة عائشة 2/ 422 وأنا العاقب وأنا النبي المصطفي 2/ 422ت وإن أكل فلا تأكل عدي بن حاتم 4/ 363ت وأنتم اليوم خير منكم ويومئذ 2/ 450 وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعَ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ عائشة 3/ 260 وإن أحب الأعمال إلى أدومها 2/ 404ت وإن أول دم أضع من دمائنا جابر بن عبد الله 5/ 270ت وإن بين إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة عبد الله بن عمرو 5/ 146 وإن في النفس الدية مئة من الأبل عمرو بن حزم 4/ 384ت وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله 4/ 333ت وإنما قولي لمئة امرأة كقولي لأمرأة واحدة 3/ 243ت وغنما كان الذي أوتيته وحيا أبو هريرة 3/ 229 وإ ن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد جندب بن عبد الله 3/ 81ت وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ معاوية 5/ 146 وإن من يأخذه بغير حقه أبو هريرة 1/ 310 وَإِنَّى وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا عقبة بن عامر 2/ 437 وأول د م أضعه دمنا جابر 5/ 270 وأول دم يوضع دم ربيعة جابر 5/ 270ت وأول ربا أضعه ربا العباس 5/ 270 وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة أبو هريرة 5/ 531 وإيما رجل مسلم قدم لله عمرو بن عبسة السلمي 1/ 337 وتتماري في الفوق 5/ 173 وجبت محبتي للمتحابين في معاذ 2/ 187 وجعلت قرة عيني في الصلاة 3/ 143 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 2/232، 2/240ت وجعل شهادة خزينة بن ثابت بشاهدتين جابر 2/409ت وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي أبو هريرة 5/310ت وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي 5/310 والخير في يديك والشر ليس إليك 2/166 وددت أني أقتل في سبيل سبيل الله ثم أحيا أبو هريرة 3/60 ودماء الجاهلية موضوعة جابر 5/270ت وربا الجاهلية موضوع جابر بن عبد الله 4/380 وَرَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ نذر أن يصوم قائما ابن عباس 2/228 وَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ على سعد بن أبي وقاص 2/228 والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن عبد الله بن عمرو 1/353 والرؤيا ثلاثة فرؤيا الصالحة بشرى 4/392ت وسكت عن أشياء رحمه لكم 5/388 وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل العقبة عقبة بن عمرو 2/352ت وعن حب أهل البيت ابو برزة 1/77ت الوقت ما بين هذين 5/259 وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء 2/437 وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك 2/225 وكل خمر حرام 5/421 وكن شجاعات فإن الله تعالى يحب الشجاع على 2/186ت ولقد رأيتنا ما يختلف عنها إلا منافق ابن مسعود 4/156ت ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم أبو سعيد 2/55ت ولكن ينتزعه مع قبض العلماء 1/151 ولم تحل لأحد قبلي 2/21ت وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلِ مِمَّا جَاءَ بِهِ أبو هريرة 5/27 ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 الصباح عائشة 2/250ت ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ير يد غزوة إلا ورى كعب بن مالك 4/442ت ولن تجزئ عن أحد بعدك 2/410 وليس في شيء من التمر قطع 4/310ت وليكن عبد الله المقتول ولا يكن 2/172ت وما تقرب إلى عبدي بشيء أبو هريرة 3/541 وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا 2/211 وَمَا سَبَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبحة الضحى قط عائشة 4/101 وما سكت عنه فهو مما عفا عنه سلمان 5/114ت وما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح عائشة 2/250ت والمتجالسين في والمتازورين في معاذ 2/187ت ومسح بناصيته وعلي العمامة وعلي خفيه المغيرة 3/272ت والمسلمان يلتقيان بسيفيهما ابو بكرة 2/394 ومن سن سنة سيئة 2/343 ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة ثابت بن الضحاك 3/387ت ومنا رجال يخطون قال 1/61ت ومن يشاد هذا الذين غلبه ابو هريرة 1/165 وهب لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلامين أخوين على 3/472ت وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم 4/60 ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ابن عمر 2/517ت ولا عليكم أن تفع لوا فإنه ليست نسبة ابو سعيد الخدري 3/555 ولا يحل له أن يفارقه خشية 1/433 ولا يريد أحد أهل الم دينة سعد 4/388 ولا يكتوون وعلي ربهم يتوكلون ابن عباس 2/262 ويحب الشجاعة ولو على قتل حية عمران بن حصين 2/186 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 ويح عمار تقتله الفئة الباغية أبو سعيد الخد ري 2/453ت ويل للأعقاب من النار 3/297 واليمن على المدعي عليه 5/15ت لا أقدروزا له قدره 2/479ت لا ألفين احدكم متكئا على أريكته ابن المنكدر مرسلا 4/323 لا ألفين احدكم متكئا على أريكته المقدام بن معدي كرب 4/190 لا تبشرهم فيتكلوا معاذ بن جبل 5/168 لا تبع ما ليس عندك 1/469 لا تجتمع أمتي على ضلالة 3/41، 3/227ت، 2/433، 434، 437 لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة عبد الله بن عمرو 4/65 لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين طلحة بن عبد الله 4/65 لا تحاسد ولا تدابروا انس 5/152 لا تحد امراة على ميت فوق ثلاث 3/83، 3/83ت لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ابن عمر 2/517ت لا تخصوا ليلة الجمع بقيام من بين الليالي أبو هريرة 4/98ت لا تخيروني على موسى أبو هريرة 5/290ت، 5/293 لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صورة أبو طلحة الأنصاري 4/255 لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصاري 3/112 لا تزال أمتي بخير ما عجلوا أبو ذر 3/84ت لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق جابر 2/438ت لا تزرموه أنس 5/181 لا تزول قدما العبد يوم القيامة أبن مسعود 1/77 لا تسأل الإمارة فإنك أن عبد الله بن سمرة 1/281، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 281ت لا تسال المراة طلاق اختها لتستفرغ صفحتها ابو هريرة 3/55 لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم انس بن مالك 1/45 لا تسبوا الدهر فإن الله 1/350 لا تستبطؤا الرزق جابر 4/466ت لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يُصِيبُوكَ أَبُو طَلْحَةَ 2/173-174 لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ يصيبك سهم من سهام القوم 3/69 لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا صفوان بن عسار 4/413ت لا تصروا الإبل والغنم للبيع 1/429ت لا تصروا الإبل والغنم من اتباعها ابو هريرة 3/204ت لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها أبو مرثد 3/82ت لا تصوموا حتى تروا الهلال 2/144، 4/130 لا تصوموا الدهر 3/414 لا تصوموا يوم الفطر ولا يوم الأضحي أبو سعيد 3/405ت لا تصوموا يوم النحر 3/413 لا تصوموا يومين: يوم الفطر ويوم النحر أبو سعيد 3/405ت لا تطلب الإمارة فإنك إن طلبتها عبد الرحمن بن سمرة 2/308 لا تعلموا العمل لتباهوا به العلماء جابر بن عبد الله 1/87 لا تغضب 3/295، 3/296ت لا تفضلوا بين الأنبياء أبو هريرة 5/290، 5/293، 5/298 لا تفضلوا بين أنبياء الله أبو هريرة 5/290ت لا تفضلوا بين أولياء الله أبو هريرة 5/290ت لا تفضلوا على موسى 5/290 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين أبن عباس 3/84، 3/84، 3/469ت لا تقروه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا 2/515ت لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا عائشة 4/309ت لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان 3/186ت لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود 3/186ت لا تكذبوا على فإنه من كذب على 3/397ت لا تمراوا في القرآن فإن المراء فيه كفر 3/40 لا تمت وأنت ظالم 2/172-173 لا تمنعوا إماء الله مساجد الله عبد الله بن عمر 4/105 لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؟ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تطيقون عائشة 1/275 2/234، لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت أنس 3/80 لا تواصلوا 3/413 لا تولين مال يتيم أبو ذر 3/295 لا حتى تذوقي عسيلته 1/431ت لا حرج عبد الله بن عمرو 4/ 100، 5/258ت لا حسد إلا في اثنتن: رجل أتاه الله مالا ابن مسعود 4/77 لا خير في الكذب عطاء بن يسار 1/491 لا شخص أغير من الله 2/190-191ت لا شهادة لخصم ولا ظنين طلحة بن عبد الله 4/65ت لا صام من صام الأبد 3/414ت لا صلاة إلا بفتحة الكتاب عبادة بن الصامت 5/352ت لا صلاة لمن لم يقرأ عبادة بن الصامت 5/352ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 لا صلاة بحضرة الطعام عائشة 1/489ت لا ضرر ولا ضرار 2/72، 73ت، 520، 3/55، 61، 185، 207، 4/70، 393، 5/104 لا ضرر ولا ضرار في الإسلام 3/55، 56ت، 61 لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله أبو سعيد الخدري 2/74ت لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يجعل ابن عباس 2/73ت لا فلا يحب الله الكذب 1/491ت لا عدوي ولا طيرة ولا هامة 3/195ت لا عدوي ولا طيرة ولا هامة 1/314ت لا عقر في الإسلام أنس 2/347 لا نكاح إلا بولي 3/49ت لا نكتب ولا نحسب 5/258ت لا ولكني أكرهه من أجل ريحه ام أيوب 4/115 لا ياتي الخير إلا بالخير ابو سعيد الخدري 3/534 لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه أنس 1/150 لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى عطية السعدي 1/189 لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين 1/190ت لا يبولن أحدكم في الماء الدائم 3/411ت لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ جابر 2/2/468، 2/505، 4/428 لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا فِي صِلَاتِهِ ابن مسعود 3/500، 4/95 لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبدا ابن عباس 2/435 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 لا يجمع بين متفرق انس 3/112 لا يجمع بين متفرق انس 1/443 لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع عبد الله بن عمرو بن العاص 1/428ت، 1/469ت، 1/469، 3/118ت، 3/128، 3/468، 468ت، 478 لا يحل له أن يفارقه خشية 1/433 لا يخلون رجل بأمرأة إلا ومعها محرم ابن عباس 3/81ت، 3/81 لا يدخل النار إن شاء الله تعالمن أصحاب الشجرة أحد 3/363ت لا يرث المسلم الكافر اسامة بن زيد 1/294 لا يريد أحد من أهل المدينة سعد 4/388 لا يزال الدين ظاهرا ما جعل الناس الفطر أبو هريرة 4/130ت لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ سهل بن سعد 3/84ت3/84ت، 4/129 لا يشرب الخمر رجل من أمتى عبد الله بن عمرو 2/202ت يصبر على لولاء المدينة وشدتها 4/387ت لَا يُصَلِّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قريظة ابن عمر 1/266، 1/266ت، 3/407-5/77 لا يصم أحدكم يوم الجمعة أبو هريرة 5/317ت لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم 3/469، 469ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 لا يصم احدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله 3/469ت، 3/469ت لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث أبو هريرة 2/516 لا يقض القاضي وهو غ ضبان ابو بكرة 1/132، 1/411، 2/239، 2/245، 2/242، 2/231، 2/520، 1/320 لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز أبو هريرة 5/247 لا يمنع فضل الماء لايمنع به الكلأ أبو هريرة 1-409 لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب عثمان بن عفان 3/83، 3/83ت لا يهلك على الله إلا هالك 3/173 لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أنس 3/65ت يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى خَصْلَتَيْنِ أنس 5/29 يا أبا ذر إن أراك ضعيفا أبا ذر 1/280، 5/32 يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا عبيد بن جريح 5/261ت يا ابن آدم ما تصنع الدنيا أبن عباس 1/177 يا ابن الخطاب إني رسول الله عمر بن الخطاب 1/242 يا أبي أرسل إلى أن أقرأ القرآن على حرف أبي بن كعب 3/40ت يا أبي ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك 3/405 يا أهلاه يا أهلاه! صلوا 1/333ت يا أيها الناس توبوا إلى الله أبو هريرة 3/543 يا أيها الناس توبوا إلى الله ابن عمر 3/543 يا أيها الناس خذوا مناسككم 3/346ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 يا بني سلمة ألا تحتسبون خطا كم أنس 2/226ت يا بني فلان إني لا أملك لك م 2/383 يا بني ن قدرت أن تصبح وتمسي انس 4/108 يا بني وذاك من سنتي ومن أحيا سنتي انس 4/108 يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة جابر بن عبد الله 5/36ت يأتي الشيطان أحكم فيقول من خلق كذا ابو هريرة 2/142ت يأتي على الناس زمان يستحل فيه الأوزاعي 1/448 يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمس أشياء ابن عباس 3/113 يا جبريل إني بعثت إلى أمية أميين ابي بن كعب 2/138 يا خالد إنها ستكون أحداث واختلاف وفتن خالد بن عرفطة 2/173ت يا رسول الله أجد بين قوة على الصيام في السفر حمزة بن عمرو الأسلمي 4/99ت يا رسول الله أصابني الجهد أبو هريرة 3/68ت يا رسول الله أليس قد قلت لي عمر 1/501ت يا رسول الله أنا كنا بشر فجاء الله بخير حذيفة 2/172ت يا رسول الله إن أمي باتت وعليها 2/387ت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي 3/71ت يا رسول الله أني أجعل تحت وسادتي عقالين عدي بن حاتم 3/299ت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت أبو هريرة 3/554ت يا رسول الله أيأتي الخير بالشر أبو سعيد الخدري 3/153ت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَبَعَثْتَ أبا هريرة عمر 5/169 يا رسول الله حدثنا فأنزل الله عزل وجل 1/50، 3/520ت يا رسول الله ذكرنا 1/51ت يَا رَسُولَ اللَّهِ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا 5/337 يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه سفيان بن عبد الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 الثقفي 3/295 يا رسول الله لم خلقت الأهلة 3/149ت يا رسول الله لو حدثتنا ابن عباس 1/50ت يا رسول اللهما كدت أصلي العصر حتى كادت عمر 3/408ت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع جابر 4/378ت يا زبير إن باب الرزق مفتوح الزبير بن العوام 2/186ت يا عائشة إ ن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا عائشة 5/154 يا عبادي إنما هي أعمالكم أبو ذر 2/321 يا عدي أطرح عنك هذا الوثن عدي بن حاتم 3/299ت يا عمرو نعم المال الصالح 1/179ت يا غلام ألا أعلمك شيئ ينفعك ابن عباس 1/315ت يا غلام ألا تحسن صلاتك 4/468 يا كعب فقال: لبيك يا رسول الله كعب بن مالك 5/248ت يَا مُعَاذُ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العباد معاذ بن جبل 5/168 يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله وأعدل سعيد بن عمرو بن العاص 2/452ت يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ ابن مسعود 2/267، 3/143 يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن ابن عمر 1/369ت يا موسى إني على علم من علم الله علمينه الله 2/463ت يا يهودي حدثنا ابن عباس 4/163 يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة أبو هريرة 2/446ت يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقي في النار أسامة بن زيد 1/76ت يجزيك من ذلك الثلث 3/71ت يحل الله نبيه ما شاء 2/503 يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم أبو سعيد الخدري 5/173ت يدخل الجنة بشفاعة أويس عمر 2/424 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 يدعي نوح فيقال: هل بلغت أبو سعيد الخدري 4/406 يدفع حر هذا برد هذا 3/419ت يرحم الله أخي موسى ابن عباس 1/546 يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا 5/393 يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شديد أبو هريرة 4/410 يسب أبا الرجل فيسب أباه 4/60 يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: قد دعوت ربي أبو هريرة 3/394ت يسروا ولا تعسروا 1/526ت، 2/211ت يشفع في مثل ربيعة ومضر 2/423 يصلون لكم فإن أصابوا فلكم أبو هريرة 2/29ت يقبض العلم ويظهر الجهل يُعَذَّبُ فِي جَهَنَّمَ بِمَا قَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ 3/386 يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان 5/164 يقول الله: يا أدم فيقول لبيك وسعديك أبو سعيد 2/166ت يكون بين يدي الساعة فتن 1/48ت يمرقون من الدين كما يمرق السهم على 2/335 اليمين على المدعي عليه 5/15ت اليمين على نية المستحلف أبو هريرة 1/428 ينزل ربنا إلى سماء الدنيا أبو هريرة 4/10ت، 4/139، 5/144ت ينزل ربنا تبارك وتعالي كل ليلة أبو هريرة 2/445ت ينهي عن صيامين وبيعتين أبو هريرة 3/404ت يوسف نبي الله ابن نبي الله أبو هريرة 5/291 يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا ابو سعيد الخدري 3/530 يُوشِكُ بِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ جابر 4/322 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ المقدام بن معدي كرب 4/323، 4/402 يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى 2/253ت يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله أبو مسعود الأنصاري 4/187 ويل للناس منك الزبير 4/437ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 فهرس الآثار : إبراهيم بن أدهم لو علم الملوك ما نحن عليه 1/352، 2/298 إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع كنا نستعين على طلب الحديث بالصوم 1/102ت إبراهيم بن إسماعيل بن إسماعيل لو أهرقت عليها دما 2/346 إبراهيم النخعي إن عمر وزيدا وابن مسعود كانوا 5/162ت كانا أصحابنا يتقون التفسير 4/282 لم يدخر لكم شيئ في خبئ على القوم 4/459 أبن أبي ذئب فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى 2/438ت ابن جريح يا أ/ير المؤمنين ما زلت أصليها 4/103ت ابن جني فقلت: أنشدتني: "من بائس " 2/133 ابن خلدون إن الإمارة ليست بمذهب 3/309ت ابن سيرين اتق الله وعليك بالسداد 4/282 سألت عبيدة عن شيئ من 4/153 ابن شهاب أعيا الفقهاء وأعجزهم 3/278 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 إن إبراهيم بن هشام أجري عينا 2/346 إن عمر بن عبد العزيز أخر 3/259ت ابن عبد البر هذ اجماع لا أعلم فيه خلافا 5/135 ابن عجلان إذ أخطأ العالم 5/326 ابن العربي إنه كان يحكم بالفراسة 2/460 فهذا يرجل عاهد الله 2/500 كان قاضي القضاة الشاشي ابن عطاء 2/460 العيش مع الله والإعراض 1/350 ابن عيينة أجسر الناس على الفتيا 5/123 ابْنُ الْقَاسِمِ كَانَ مَالِكٌ لَا يَكَادُ يُجِيبُ 5/332 ليس بعد أهل المدينة اعلم 5/330 ابن الكواء سأل أبو الكواء على بن أبي طالب 1/52 ابن مجاهد أينفي العلم إفساد ما 4/196 هؤلاء قوم كفرة 3/97 ابن النحاس هذا لا يقع فيه ناسخ ولا 3/256 ابن هرموز ينبغي أن يورث العالم جلساءه 5/327 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 ابن وهب سمعته يع يسب كثرة الجواب 35/332 فكان الناس ينتظرون الرحمة 2/250 قال لي مالك: أدركت أهل هذه البلاد 1/83ت قل لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب 5/382 وقال لي مالك: إنما كان 1/83ت أبو إدريس الخولاني إن للإسلام عرى 1/152 ابوب الأنصاري كنا نضحي عن النساء 4/104 أبو بكر بن سليمان إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي 2/250ت أبو بكر بن محمد بينما عبد الله بن عباس جالس 3/312ت أبو بكر الصديق أراها جارية 4/472 أقول فيه برأيي فإن كان صوابا 4/276 ألم تر أنه نزلت آية 3/398 إن أبا بكر رضي الله عنه أنفد وصية رجل 2/458 إنما هما أخواك وأختاك 2/454 أي سماء تظلني وأي 5/161ت الجد أب 4/250، 276، 281 رضوان الله أحب إلينا 1/242 فتوى أبي بكر "أن الجد يحجب الأخوة" 5/161ت قضي أبو بكر ببيع أم الولد 5/162ت قضية أبي بكر مع ابنته 4/469 لو لعبت الكلام بخلاخيل 1/504 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 نهي أبو بكر عن تولي الإمارة 1/281 والله لا أنفق عل مسطح شيئا 5/248 والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة 5/407ت والله لأقاتلنهم حتى 1/500 وإنما هما أخواك وأختاك 4/469 أبو ترات النخشبي كل معنا يا فتي 5/400 أبو جحيفة فزار سلمان أبا الدرداء فرأي 2/347 أبو جعفر بن تركان كنت أجالس الفقراء 2/473 أبو الحسن المنتاب كنت يوما عند القاضي أبي أسحاق 2/91 لم جاز التبديل على أهل التوراة 2/91-92 أبو الحسين النوري أوثر أصحابي بحياة ساعة 3/93 أبو حفص المعاصي بريد الكفر 3/539 أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين 2/497ت رب إن هؤلاء عاهدوا 2/500 قصة أبي حمزة حين وقع في البئر 2/497 أبو الخير البصري كان بعبادان رجل أسود 1/548 أَبُو الدَّحْدَاحِ إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ اسْتَقْرَضَ مِنَّا 4/218 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 يا أم الدحداح! قالت: لبيك 4/218ت أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ: زَلَّةُ عالم 4/327 إِنَّمَا أَخَافَ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ 1/78، 1/78ت قول أبي الدرداء وعبادة بن الصامت في الآية: {وطعام الذين أوتوا الكتاب..} 3/354 كل ما تسال عنه تعمل به؟ 1/82 لا تكون تقيا حتى تكون عالما 1/101 أبو رجاء العطاردي مَالِي أَرَاكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَخَفِّ الناس صلاة 5/37 أبو سفيان لا ترد على من قبلك فيرد عليك 1/266ت ابو سليمان الداراني تعرض على النكتة من 1/536ت أبو سعيد الخدري إن الصحابة أنكروا أنفسهم 1/145 وكيف لا ننكر أنفسنا 1/146ت أبو طلحة الأنصاري إن أبا طلحة الأنصاري أكل بردا 3/274 إنما هو برد ن زل من السماء 3/274 أبو العالية يا رسول الله! لم خلقت الأهلة 1/44 أبو العباس بن البناء سئل أبو العباس عن الباء 1/120 ابو العباس الإبياني أتيتك زائرا ومودعا 1/332 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 أبو العباس الشرفي كنا مع أبي تراب النخشبي 1/549 أبو عبيد قول أبي عبيد في قوله طولا تقبلوا 3/360 أبو عبيدة أفرارا من قدر الله 3/194-3/195ت أبو على الجوزجاني كن طالبا للاستقامة 1/480ت أبو على الدقاق لما سعي غلام الخليل بالصوفية 3/93ت ابو مسعود الأنصاري أليس قد علمت أن جبريل 3/259ت إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة 3/258 إني لأ تأخر عن صلاة الغداة 1/528 إني لأدع الأضحي 4/59 أبو منصور الشيرازي الصوفي أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح 2/362 أبو موسي دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم 1/308ت كان أبو موسى لا يشرك الأشقاء مع الأخوة 5/162ت لقضاء قضاء الله على نفسه 2/223 لا يجب الغسل إلا من الدفن 1/268 يا أهل السفينة قفوا 2/223 ابو ميسرة المالكي تملأ من وجهي يا أبا ميسرة لأنا ربك الأعلى 2/475 أبو هريرة بعثت قريش إلى عاصم 5/247ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 ذهب أهل الدثور بالأجور 1/179 ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه 3/68ت كان عاصم بن ثابت أعطي 5/246ت لما نزلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/93ت نزلت في هذه الأمة 5/155ت والذي اصطفي موسى على البشر 5/290 لا يضرب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال 3/193 أبو الوليد الطيالسي سمعت ابن عيينة منذ 1/104 أبو يزيد البسطامي حكاية أبي زيد البسطامي في 1/536 لو نظرتم إلى رجل أعطي 1/536 أبو يزيد النخشبي قصة أبي يزيد مع خديمة 2/497/2/505 ابو يوسف سأل أبو يوسف عن الأذان 3/271 أبي بن كعب أي هؤلاء! ما حديث 4/336 كان أبي بن كعب لا يترك الأشقاء مع الأخوة 2/162ت كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ في المدينة 2/224 كنت في المسجد، فدخل رجل 3/40ت أحمد بن حنبل كان يرى من خلقه كما يرى 2/472ت ما أجسر على هذا أن أقوله 4/345 من أنت؟ فقال: أخت 5/249 أحمد بن عبد البر أَنَّ قَاضِيًا مِنْ قُضَاةِ قُرْطُبَةَ كَانَ كَثِيرَ 5/86 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 أحمد بن يحيى ليس هكذا أنشدتنا، وإنما 2/134 أسامة بن زيد أهلك، ولا نعلم إلا خيرا 5/407ت اسد بن الفرات كان أبو القاسم وغيره من 5/385 اسماء بنت أبي بكر أتيت عائشة -0 رضي الله عنها – زوج 5/259ت إسماعيل القاضي إِنَّمَا التَّوْسِعَةُ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم 5/75 شرف نفر من أهل الشام الخمر 14/151 الأسود بن يزيد كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة 2/244 أشهب إن أبا بكر الصديق ت فيما يذكرون 3/158 رأيت في النوم قائلا يقول 5/333 كان مالك يكثر من قول 5/333 ورآني أكتب جوابه في 5/332 الأصمعي وجدت شعره كله جيدا 2/135 أم يعقوب ما حديث بلغ ني عنك أنك 4/183 أنس بن مالك إن بني سلمة أرادوا أن 2/226ت {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} قال: الحديبية 2/417ت سئل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الساعة 1/45 قالوا: حبل لزينب تصلي 1/528 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 كان أبو طلحة أكثر أنصاري 1/185ت كان أنس ينفتل عن يمنه 3/501ت كنا عند عمر، فقال 1/49ت-2/142ت الْأَوْزَاعِيُّ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ 5/383 الكتاب أحوج إلى السنة من 4/345 أويس القرني بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا 2/243 كان اويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح 2/243 إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الفقيه 5/315، 318 أيوب السختياني أجلس الناس على الفتيا 5/123 البراء بن مالك نزلت هذه الآية فينا 1/44 بعجة بن عبد الله الجهني أتي عثمان بن عفان بأمرأة 4/193ت بكير كيف كان رأي عمر في الحرورية 4/149-149ت بِلَالٌ لَا أُبَالِي أَنْ أُضَحِّيَ بِكَبْشٍ أَوْ بديك 4/103 بلال بن عبد الله بن عمر إنا نكون في السفر فيكون 1/199ت تميم الداري استأذن تميم الداري عمر بن الخطاب 1/281 الثوري العلم يهتف بالعمل 1/102 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 العلماء إذا علموا عملوا 1/201 إنما يطلب الحديث ليتقي به الله 1/82 إنما يتعلم العلم ليتقي الله 1/77 كنت أغيظ الرجل يجتمع 1/104 كنا نطل بالعلم للدنيا 1/104 جابر خلت البقاع حول المسجد، فأراد 2/223 كانت ديارنا نائية عن المسجد 2/223 جابر بن سمرة كم من عزق معلق أو مدلي 4/220ت الجارود إن قدامه شرب، فسكر 4/150 الجد بن قيس إئذن لي في التخلف عن الغزو 1/515 جعفر بن محمد هي المعرفة بالله وصدق المقام 1/350 جندع بن ضمرة إني لا حيلة فلا أعذر 3/559 "الإمام" الجنيد مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة 1/536ت الحارث بن يعقوب الفقيه كل الفقيه: من فقه القرآن 5/37 الحارث المحاسبي 2/461 حامد بن العباس حكى أن حامد بن العباس سأل 3/288ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وليس لنا 1/103 حزن بن أبي وهب لا اغير اسما سماني به أبي 5/399 حسان بن عطية كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 4/344 الحسن البصري اعتبروا الناس بأعمالهم 1/82 إن شرار عباد الله الذين يجيئون 5/383 إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا 4/459 أهلكتهم العجمة 3/321ت الذين يفوق الناس في العلم 1/102 العام الذي وافق علمه عمله 1/101 علمتم، فعلمتم، ولم تعملوا 1/102 كنا نطلب العلم للدنيا 1/103 لقد طلب أقوام العلم 1/104 ما أنزل الله آية إلا وهو 4/153 منسوخ بالزكاة 3/350، 2/247 هي حياة الآخرة ونعيم الجنة 5/365ت والله! لولا ذكر الله من 4/166، 1/330 وكانوا يرونه أنه عثمان 2/424ت الحسن بن عرفة رأيت يزيد بن هارون بواسط 2/247 الحسن بن نصر السوسي يا أبت اشتر طعاما 1/330 حصين رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته 4/94 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 يا ابن عباس أتتكلم بالرفث 4/94 حذيفة بن اليمان اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا 4/461 اتقوا الله يا معشر القراء 4/459 حذيفة بن أسيد "أبو سريحة الغفاري" رأيت أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما 4/59ت شهدت أبا بكر وعمر، وكانا 4/103 ما أدركت أبا بكر 4/59ت الحكم بن عتبة لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا يُؤْخَذُ 5/134 حمزة بن محمد الكناني خرجت حديثا واحدا عن النبي 1/114 حماد بن ابي أيوب إني أتكلم، فترفع عني التوبة 3/60 حميد بن عبد الرحمن إن تميما الداري استأذن عمرا 1/282ت حنضلة الأسيدي شكا حنظلة إلى رسول الله 1/145 خالد بن أسلم خرجنا مع عبد الله بن عمر 3/357ت خالد بن خراش قدمنا من العراق على مالك 5/327 الخليل بن أحمد زلة العالم مضروب بها الطبل 5/136 داود الأودي أحفظ عني ثلاثا لها شأن 5/384 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 ربعي بن خراش قصة ربعي بن خراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله 2/469، 499 الربيع بن خثيم من كل شيء ضاق على الناس 1/533 يا عبد الله ما علمت الله في 5/37 ربيعة بل عالم متثبت أو جاهل متعلم 5/387 نقص عقلاه 5/387 الروذباري في استقصاء في امر الطهارة 2/474 كان ليس استقصاء في امر الطهارة 2/474ت الزبرقان بن بدر أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني 5/288 زبيد اليامي اسكتني كلمة ابن مسعود 1/82ت الزبير بن عدي أتينا أنس بن مالك، فشكونا 1/150ت الزبير بن العوام تبادر الوسواس 5/37 الزهري جاء القرآن بالجزاء على العامد 4/365 زياد لست آمن أن يطول الزمان 4/112 زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل 3/341ت كنت في غزاة فسمعت عبد الله 4/213ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 زيد بن ثابت فتوى زيد في إرث الأخوة مع الجد 5/161ت كان زيد يعطي الزوج النصف 5/162ت والله! يا أمير المؤمنين ما أفتيت 3/275 وجري بيني وبين عمر كلام 5/161ت زيد بن عمرو بن نفيل الشاة خلقها الله تعالى 3/43ت سحنون أما ما في كتاب أو سنة 5/373ت سرقة بن مالك أرأيت متعتنا هذه 1/47ت السدي سألت أنسا: كيف أنصرف 3/501ت سعد أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم 3/501ت يا رسول الله ذكرنا 3/501ت سعد بن أبي وقاص يطبع المؤمن على كل خلق 2/177، 189 سعد بن عبادة لا والله ما أعطينا في أنفسنا الدنية 5/407ت يا أعداء الله! عليكم لعنة الله 4/111ت سعد بن معاذ لا والله ما أعطينا في أنفسنا 5/407ت سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ الاختلاف فلا 5/123 سعيد بن المسيب أربع جائزات، إذا تكلم بهن 3/15 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 أعراقي أنت؟ 5/387، 390 أنا لا أقول في القرآن شيئا 4/281 لن يزالوا – أهل الشام –ما عجلوا الفطر 4/129ت من أدخل فرسا 1/426ت نسخة الميراث والوصية 3/350 هي السنة يا ابن أخي 2/526و5/387، 390 لا تسألني عن القرآن وسل 4/282 سعيد بن جبير ما لم يعرف البدريون فليس من 4/458 سعيد بن يحيى البصري أتيت عبد الرحمن بن زيد 1/548 سفيان1 سمعت رجلا يسأل جابر الجعفي 3/317 سلمان الفارسي إن لربك عليك حقا 2/248 حذيفة أعلم بما يقول 5/156 كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم 4/90، 5/134 سلمة بن الأكوع غزونا فزارة وعلينا أبو بكر 3/471ت سليمان الأحول مَا ذَكَرَ اللَّهُ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا ذمه 2/291ت سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ إِنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ 5/135 سهل بن حنيف أيها الناس! اتهموا رأيكم 1/143   1 وانظر: "الثوري" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 جاء يرسف في قيوده 1/143ت يا أيها الناس! اتهموا الرأي 5/399 سهل بن عبد الله أكان شاكا حين سأل ربه 162 الشافعي ذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع 5/61 كيف اترك الحديث لقول من 4/458 وما سن رسول الله فيما ليس 4/394ت الشبلي قصة الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل 2/460 شريح وليت القضاء وعندي أني لا أعجز 5/16 الشعبي غشي على مسروق في 2/244 كنا نستعين على حفظ 1/102 ما أشبه تفسير الروافض للقرآن 4/234 ما كلمة أبغض إلى من 5/383 والله! لقد بغض هؤلاء 5/383 الضحاك بن عثمان إياك والشعر! 5/288 طاوس كان يصلي ركعتين بعد العصر 4/341 مَا ذَكَرَ اللَّهُ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا ذمه 2/291ت عائشة أبلغني زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده 1/456، 3/118 أحروريه أنت 2/526، 526ت-5/171، 386 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 أخبري زيد بن أرقم أنه قد 4/66ت أطعموا عنها 3/277 أنا طيب رسول الله 1/186ت أن ابن الزبير بعث لها 2/322 إن مسكينا سال عائشة وهي صائمة 2/322 أنها قسمت سبعين ألفا 2/323 إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث 3/194 بئس ما قلت يا ابن أختي 1/478ت، 4/282ت بئس والله ما اشتريت 4/66ت ثلاث من تكلم بواحدة منهن 3/191ت حديث ام ولد زيد بن أرقم 4/66 فرضت الصلاة ركعتين ركعتين 1/483 فكيف يصنع بالمهراس 3/192، 193ت كان فيما أنزل من القرآن 3/200ت كانت عائشة تتصدق بمالها 1/188 كنا نسافر مع رسول الله 1/476 كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم 1/186ت لو نشر لي أبواي ما تركتها "سبحة الضحي" 3/261 ليتني كنت حيضة ملقاه 4/367ت ما أرى الله إلا 1/545 من قرأ القرآن فليس فوقه أحد 4/187 وأنا حينئذ أعلم أني 2/422 ومن زعم أن محمد يعلم 4/471 ومن زعم أنه يخبر بما يكون 4/471ت لا تعنيني 1/188، 191 يا أم المؤمنين 1/456ت يا عبد الرحمن أترغب عما 4/93 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 يرحم الله عمر 3/191ت عاصم بن ثابت قصة حمي الدبر 5/245 العالية بنت أيفع يا أم المؤمنين! كانت لي جارية 4/66ت عبد العزيز بن المهتدي قصة عباس بن المهتدي حين تزوج المرأة 2/460 عبد الله بن أبي قتادة دخل على أبي وأنا أغتسل 3/482ت عبد الله بن الزبير الجد أب 5/161ت إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عليه جبار 4/417 لا أدري 5/329 عبد الله بن أم مكتوم إني أعمي لا استطيع 3/559 عبد الله بن عباس أتركها، فقال: إنما نهي عنهما 4/341 أتي رجل النبي صلى الله عليه وسلم لقال 1/525 أرأيت إن كان حوضا 3/193ت أرأيتم حين ذكر الله الذباب والعنكبوت 3/514ت الجد أب 5/161ت أنت لم تتق الله، فلم أجد لك 1/535 أنا من ذلك القليل 4/162 إلى سبع مئة اقرب منها 1/510ت إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام 2/464ت إن آلف الله ولام جبريل 4/235 إن الرزية كل الرزية ما حال بين 5/395ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 إن عمي طلق امرأته ثلاثا 1/533 إن عمك عصى الله 1/533 إن قوما ما يحسبون أبا جاد 4/239ت إن ناسا من أهل الشرك كانوا 4/170 إن ناسا يزعمون أن هذه الآية 3/350ت إنما الرفث ما روجه به النساء 4/94 إنما ذلك سعة الإسلام 2/272 إنها في أناس كانوا يستحيون 4/38 أولستم العرب؟ ثم قال: أدع لي 2/272 أي آية أرجى في كتاب الله 4/172 تفسير ابن عباس للآية {لا يكلف الله..} 3/532 الجد أب 5/161ت سئل ابن عباس: عن الشيء 5/255 سئل ابن عباس: كم الكبائر؟ 1/210ت فتوى ابن عبسا "إن الجد يحجب الأخوة" 5/161ت فكيف يصنع بالمهراس 3/192، 193ت فلما خفف الله عنهم من العدة 1/510ت فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله 3/61ت فهذا لما يعترض في الصدور 4/173 قصة بقرة بين إسرائيل 2/461 كان ابن عباس يشترى لحما 4/103 كان ابن عباس إذا سئل عن شيء 4/308 كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 4/210 كان هذا، ثم نسخ بعد مادة طويلة 3/355ت كونوا ربانيين حلماء فقهاء 5/36 لما نزلت {إنكم وما تعبدون} 3/362 لما نزلت {وإن تبدوا ما} 3/352ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 لما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة 3/191 لو أخذوا أدني بقرة 1/46ت لو ذبحت ب قرة ما لأجزأتهم 5/377 لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم 1/45، 522 ليس في القرآن عام إلا مخصص 4/48 ما ذكر الله في كتابه الهوى إلا ذمه 2/291 ما رأيت قوما خير من 1/254-5/375 ما ظهر الغلول في قوم قط 1/369 ما لكم ولهذه الآية، إنما 4/32، 149 ما لم يذكر في القرآن فهو 1/255 من يتق الله ينجه 1/534 نزلت في كتمان الشهادة 3/353ت نقص من الصبر بمقدار ما نقص 1/509 هذا لك، وهذا لرسولك 3/559 هما يومان ذكرهما الله 4/281 هو نبت الأرض مما يأكله الدواب 1/49ت ويل للأتباع من عثرات العالم 4/90-5/134 لا عام إلا مخصص 3/309، 312 لا يصم أحد عن أحد 3/277 يا أمير المؤمنين! إنا أنزل علينا 4/148 يرثني ابن ابني دون أخوتي 5/161ت عبد الله بن عمر أذهب إلى العلماء وسلهم 5/328ت أرأيت لو تصدقت بصدقة 1/199 أما الأركان فإني لم 5/261ت أنظر ما يقول هؤلاء 4/113 إنها بدعة "أي: صلاة الضحى" 4/104 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 إني لأجعل بيني وبين الحرام 2/39 إني لأدع بيني وبين الحرام 1/189، 189ت سئل ابن عمر عن القنفذ 4/355 في مالك حق سوى الزكاة 3/64ت كنا نخير بين الناس 5/294 لما نزلت هذه الآية 1/503 لا أدري "ميراث العمة" 5/328 لا تسألوا عما لم يكن 5/378 وقع في نفسي أنها النخلة 2/361 عبد الله بن عمرو من جمع القرآن فقد حمل أمرا 4/188 لأن أكون قبلت الثلاثة أيام 2/240ت ليتني قبل رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! 2/240 من قرأ القرآن فقد اضطربت 4/189 يا ليتني قبل رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/527، 3/266 عبد الله بن المبارك كنا في الكوفة، فناظرني في 5/137 عبد الله بن محيريز تذهب السنة: سنة سنة 1/152 عبد الله بن مسعود اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا 4/461 أتدرون كيف ينقص الإسلام 1/152 إذا أردتم العلم 4/178 أنذرتكم صعاب المنطق 5/380ت إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى 5/255ت إن الله يبغض القارئ السمين 2/192-193ت إن الرجل يحب أن يكون 1/208 إن الناس أحسنوا القول 1/82 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 إن رجلا أصاب من امرأة قبلة 4/171ت إن في النساء خمس آيات 4/171 إن كل مؤدب يحب إن يؤتي 4/186 إنك في زمان كثر فقهاؤه، قليل قراؤه 2/295 إِنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَضَلُّ 4/461 إن للشيطان لمة وللملك 5/96ت إنه يشغلني عن قراءة القرآن 2/249 إن طلقت امرأتي ثماني تطليقات 1/535 إني لأترك أضحيتي وإني 4/104 إينا لم يلبس إيمانه بظلم 3/402 جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: 4/152 جاء رجل إلى ابن مسعود يوم الجمعة 1/264 ستجدون أقوما يدعونكم إلى كتاب الله 4/280، 328 فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مَا قَرَأَهُمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ 4/173 قد نيهنا عن التجسس 1/219 كل داء أصله البردة 5/505ت كنا نغزو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/525ت كونوا للعلم رعاة 1/101 لقد رأيتنا ومما يتخلف عن الصلاة إلا 4/156، 156ت لقد قمنا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/504ت لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} 1/93ت ليس العلم عن كثرة الحديث 1/102 ليس عام إلا الذين بعده شر منه 1/150 ليس عند ربكم ليل ولا نهار 5/204ت ما رآه المسلمون حسنا فهو 3/39، 41 مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فيها 4/178 مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يعلم 4/152 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 من عرض له منكم قضاء، فليقض 4/307 من كان منكم متأسيا 4/459 من مات لا يشرك بالله شيئا 4/70ت والله الذي لا إ له إلا هو ما نزلت سورة 2/353ت وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم 4/153 والذي لا إله غيره ما أنزل سورة 4/153 وأينا لم يظلم، فنزلت {إن الشرك} 3/401 ولقد رأيتنا وما يختلف عنها إلا منافق 3/156 وما لا لا ألعن من لعنة الله! وهو 4/341 لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم أم بأيسارنا 4/475 ستدراك لا يجعل أحكم للشيطان شيئا من صلاتة 3/501ت عبد الله بن مغفل أصبت جرابا من شحم يوم خيبر 4/437 عبدة بن أبي لبابة وَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ! 5/381 عبد الرحمن بن حرملة إن الناس رأوا هلال الفطر حين 4/131ت عبد الرحمن بن زيد ربي اعلم بمصالح عباده 4/548 لا خير في الدنيا إلا للآخرة 1/548ت، 549 عبد الرحمن بن زيد سألنا حذيفة عن رجل قريب 5/296 عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعلها كأخف الحدود 4/461ت لو شهدت أمير المؤمنين أتها رجل 5/169 عبد الصمد بن عبد الوارث وجدت في كتاب جدي: أتيت مكة 5/6، 231 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 عبد العزيز بن عبد الله بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ استأدي على مولي لي جرحته 1/269 عبد العزيز بن عبيد الله استأدي على مولي لي 1/269 عبد القادر الكيلاني يا فلان أنا ربك قد أحللت لك المحرمات 2/473 يحكي أنه عطش عطشا شديدا فإذا سحابة 2/475 عبد الملك بن حبيب قول عبد الملك بن حبيب فيق قوله: "أعملوا ما شئتم" 3/358 عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز مالك لا تنفذ الأمور 2/148 عبيد الله بن عدي بن خيار إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى 2/29ت عبيد الله بْنُ عُمَيْرٍ أَحَلَّ اللَّهُ حَلَالًا وَحَرَّمَ حَرَامًا 1/255 عثمان بن عفان إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت 5/295 إن القصر سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه 4/103 إني إمام الناس، فينظر إلى الأعراب 4/102 الصلاة أحسن ما يعمل الناس 2/29ت كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة 2/242 كان عثمان يعطي للزوج النصف 5/162ت كان عمر بن الخطاب وعثمان يصليان المغرب قبل 4/129 مَا مَسَسْتُ ذَكَرِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا 5/245 عثمان بن مظعون قصة عثمان بن مظعون بعد رجوعه من الحبشة 1/503، 503ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 عروة بن الزبير إنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز 3/258 إن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة 3/259ت سألت عائشة – رضي الله عنها- 1/478ت تأولت ما تأول عثمان 1/476ت عطاء أضعف العلم: الرؤية 5/315 أضعف العلم: علم النظر 5/315ت قول عطاء في قوله تعالى: {ومن يولهم دبره} 3/355 لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ حَتَّى 5/122 عكرمة أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا 4/36 ما أحل لكم من النساء 2/272 مَنْ سَأَلَكَ، فَقُلْ: هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ 4/104 هن أحرار 4/342 علقمة ويحك! لم تعذب هذا الجسد 2/344 على بن أبي طالب إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي 4/349ت أرأيت لو اشترك جماعة في سرقة 3/178ت إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله 2/130ت أما إذا أوسع الله فأوسعوا 1/207ت إن أقل الحمل ستة أشهر 4/193 إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ 5/398 إياكم والاستنان بالرجال، فإن 4/460-5/36 حدثوا الناس بما يفهمون 1/123-5/168 حلال حساب وحرامها النار 1/187ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان 5/176ت فتوي على في إرث الأخوة من الجد 5/161ت قضى على ببيع أم الولد 5/162ت كان علي لا يشرك الأشقاء مع الأخوة 5/162ت لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير 5/407ت ما عندنا إلا كتاب الله 4/324، 403 نرى أن تجلده ثمانين؛ لأنه 4/291ت هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا 4/192، 208 وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ الله 4/324 وإن لا أطور به ما سمر سمير 4/473ت ويلك! سل تفقها، ولا تسأل تعنتا 1/52 لا نبالي أبدأن بأيماننا أم بأيسارنا 4/120ت، 475 استدراك لا يصلح الناس إلا هذا 4/291ت يا حملة العلم، اعملوا به 1/101 عمران بن حصين إنك امرؤ أحمق! أتجد في كتاب 4/344 وقد كان يسلم على حتى أكتويت 2/328 عمر بن الخطاب أحرج بالله على كل امرئ مسلم سأل 5/378-، 382 أحرج عليكم أن تسألونا عما 5/378ت أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا 4/34 أخشى أن تعجل طيباتي 2/455 ادع الله أن يوسع على أمتك 4/35 إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ فَاقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ الله 4/306 إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهَ 1/158-4/150 إذا وجدت شيئا في كتاب الله 4/307 أعزلوا عني حسابها 1/177، 178ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 أعوذ بالله من كل معضلة 5/381ت اللهم! بين لنا في الخمر 2/67ت أنزلت نفسي من مال الله منزلة 2/324ت انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ 4/307 إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نشاء 4/119 إن رسول الله قد غلبه الوجع 5/395ت إن الزكاة حق المال 1/500ت إنما أخاف عليكم رجلين 4/280 إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين 4/364ت إني لأجهز جيشا وأنا في الصلاة 3/94ت إني وإياكم في حال الله 2/324ت إياك والشعر! 5/288 أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} 4/244 أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم 2/240 بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر 4/89 بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تُفْتِيَ النَّاسَ بِالْغُسْلِ من الجنابة 3/275 تأديب عمر لصبيغ 1/56-5/171 تقول بنو فلان خير من 5/288 تمعددوا واخشوشنوا 4/115 ثلاث يهدمن الدين 4/89، 328-5/133 خَلَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ، كيف تختلف 4/148 سأل عمر بن الخطاب ابن عباس عن الأب 1/49ت سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ 3/39ت سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات 4/327 الشجاعة والجبن غرائز 2/185 ضر بعمر بن الخطاب صبيغا، وشرد به 5/171 فتوى عمر في إرث الأخوة مع الجد 5/161ت قضي عمر بعدم بيع أم الولد 5/162ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 قضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية 4/469 كان- رضي الله عنه –يجمع الشباب، فيستشيرهم 5/329ت كان عمر بن الخطاب وعثمان يصليان المغرب قبل 4/129 كان عمر يعطي للزوج النصف 5/162ت كان عمر يكره الكتابة 1/147 كم بقي من نوء الثريا 2/117 كنت مع الآية الممحوة 2/455 كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله 5/407ت لأقومن العيشة، فأحذر هؤلاء الرهط 5/169 لَئِنْ أُخْبِرْتُ بِأَحَدٍ يَفْعَلُهُ ثُمَّ لَا يَغْتَسِلُ لأنهكنه عقوبة 3/276 لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة 2/250ت لن تكون قتلها أحب إلي 1/68، 3/146 لقد تركنا تسعة أعشار الحلال 2/39ت لما اجتمعنا للهجرة 2/283ت لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم 3/178ت لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا 3/178ت لو فعلتها لكانت سنة، بل 4/120 مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنٍ 4/280 ما أرى إلا أنه على ما ينتقصون من 1/58ت ما الأب؟ 1/79-2/139-5/171 ما بعد الكمال إلا النقصان 4/210 مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين لنا آية الربا 4/134 ما رأيت كاليوم إناء أحسن 1/178ت مشاورته للشباب وأهل بدر 5/329ت نعم، نفر من قدر إلى قدر الله 1/450ت-3/194، 195ت نكاح عمر لأم كلثوم 3/139 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 نهينا عن التعمق والتكلف 1/49، 49ت-2/139 هذه الفاكهة، فما الأب 1/49 هل تقرأ سورة المائدة 4/364ت واعجبا لك يا ابن العاص لئن كنت تجد 3/502، 502ت وافقت بربي في ثلاث 1/146-2/420 وإن الله ليبغض الحبر السمين 2/192ت والله! ليمرن به ولو على بطنك 5/248 والله! ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها 1/145ت لا تقض بقضاءين في أمر واحد 5/85 لا حكرة في سوقنا 3/564ت لا نبالي أبدنا بأيماننا أم بأيسارنا 4/120 لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة 4/396ت لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن 5/378ت يا أيها الناس! تمسكوا بديون شعركم 1/58 يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ، وَهُمْ على باطل؟ 1/242 يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ 1/152 يا سارية! الجبل 2/454-4/479، 472 يا صاحب الحوض لا تخبرنا 5/389 يا قدامة إني جالدك 4/150 عمر بن عبد العزيز أخرن الصلاة شيئا 4/100 إذا رأيتموني فلا تقوموا 3/268ت أن تقوموا نقم 3/267 إن ثيابي غسلت 4/10 إن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما 3/259ت تلك دماء كف الله عنها يدي 5/391 توقف عمر بن عبد العزيز عن إكراه من منع الزكاة 2/496، 499 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة 3/268ت سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وولاة الأمر من بعده 3/29-4/460 لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة قاموا له 3/267 مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم 5/76 مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرَ النَّعَمِ 5/68، 76 من جعل دينه عرضا للخصومات 5/391 هذه غرتني بك، ولولا أني 4/111 لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الخمر 2/148 عمر بن يزيد كان يَقُولُ فِي أَكْثَرِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ: لَا أدري 5/327 عمرو بن أبي قرة حديث سلمان مع حذيفة 5/170 كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء 5/156 عمرو بن العاص إن الوكاء قد يتفلت 5/198 عياض إن أبا عبد الله- يعني: نفسه- لا يغسل يده 4/114 بعث عضد الدولة فناخسر والديلمي إلى أبي بكر 3/96 قصة محمد بن يحيى بن لبابة 5/86 كان الفقيه أبو ميسرة المالكي ليلة بمحرابه يصلي 2/475 العز بن عبد السلام ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا 2/63 فاطمة بن قيس طلقني زوجي ثلاثا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم 4/396ت الفخر الرازي مر بعض العلماء بيهودي 1/55 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 الفراء النحوي من برع في علم واد سهل عليه كل علم 1/117 الفضيل بين دكين ما رأيت احد أكثر قولا لـ "لا أدري" من مالك! 5/327ت الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ جُعِلَ الشَّرُّ كُلُّهُ فِي بيت 1/192 القاسم بن محمد أدركت الناس وما يعجبهم القول 1/82 أَيَّ ذَلِكَ أَخَذْتَ بِهِ لَمْ يَكُنْ فِي نفسك منه شيء 5/67 لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم 5/67 قَبِيصَةَ بْنِ عُقْبَةَ لَا يُفْلِحُ مَنْ لَا يعرف اختلاف الناس 5/123 قتادة قول قتادة في قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} 3/357 قول قتادة في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} 3/358 لماذا ذكر العنكبوت والذباب 3/514ت من لم يعرف الاختلاف لم يشم 5/122 قدامة بن مظغون إِنْ كُنْتُ شَرِبْتُهَا فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي 1/272 القشيري لا تنتهي الكرامة إلى خلق 1/542ت قيس بن أبي حازم رأيت يد طلحة التي وقر بها النبي صلى الله عليه وسلم 3/69ت الْكَتَّانِيُّ الصُّوفِيُّ الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يُخَالِفُ فِيهِ 1/192 كعب بن مالك إنه تقاضي ابن أبي حدرد دينا كان له عليه 5/248ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 الكلبي إن ربيعة بن الحارث لم يقتل 5/271ت الليث بن سعد مالك- والله – أقوى من الليث 5/326 مالك بن أنس1 أتق هذا الإكثار وهذا السماع 5/332 أَحَبُّ الْأَحَادِيثِ إِلَيَّ مَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ 3/270ت، 278 أَخْبِرِ الَّذِي أَرْسَلَكَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لِي بها 5/325 الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة 5/391 أما كان أحد يعرف التشهد؟! 4/271 أما كثرة السؤال 5/281 أنا أحدث الناس بكل ما سمعت؟ 5/330 أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا تجعل هذا البيت 4/113، 5/181 إِنَّ الْحِكْمَةَ مَسْحَةُ مَلَكٍ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ 5/24 إِنَّ الْحِكْمَةَ مَسْحَةُ مَلَكٍ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ 5/24 إنما أنا بشر أخطئ وأصيب 5/331 إنما أهلك الناس العجب وطلب الرياسة 5/329 إنما نتكلم فيم نرجو بركته 5/332 إنه "تخليل الأصابع" تعمق في الوضوء 5/219ت أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا نَازِلًا بِالْعَقِيقِ، ثُمَّ نَزَلَ إلى المدينة 2/225 إني لأحدث في كذا وكذا حديثا 5/330 إني لأفكر في مسألة منذ بضعة عشرة سنة 5/323 أيحب أن يذبح 4/119 بلغني أن الهلال رؤي في زمان عثمان 4/131ت تسعة أعشار العمل الاستحسان 2/523-5/198   1 أنظر "مطرف بن عبد الله" فذكر أقوالا وأحوالا عن مالك، رحم الله الجميع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم 1/47 الْحِكْمَةُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ 5/24 الحكم والعلم نور يهدي به 1/105 الْحَلَالَ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامَ مَا حرماه 5/325 رُبَّمَا وَرَدَتْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةُ تَمْنَعُنِي مِنَ الطَّعَامِ 5/323 ربما ودرت على المسألة فأفكر فيها ليالي 5/323 سئل عن ثمان وأربعين مسالة 5/326 سُئِلَ عَنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي الْمُفَصَّلِ 3/278 سئل مالك عن قوم يقال لهم الصوفية يأكلون 2/413ت سئل مرة عن نيف وعشرين مسألة 5/327، 327ت سئل من العراق عن أربعين مسألة 5/326 سأله آخر، فلم يجبه فقال له 5/326 سأله رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا أَهْلُ الْمَغْرِبِ 5/325 سَلْ عَمَّا يَكُونُ، وَدَعْ مَا لَا يَكُونُ 5/332 سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة 5/330 قَدِ ابْتُلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ 5/329 قَدْ فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلي المسلمين بعده 3/158، 273 قصة مالك مع سفيان في المعانقة 3/269 قصة مع أبي يوسف في المد والصاع 5/219ت كان إِذَا جَلَسَ نَكَّسَ رَأْسَهُ وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ يَذْكُرُ الله 5/323 كان إذا سئل عن المسألة قال للسائل 5/323 كان عمر إذا أكل مسح يده بباطن يديه 4/114 كان مالك يكره ذلك "الكتابة" 1/147 كان يكثر من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" 5/329 الكلام في الدين أكره ... 2/143 ليس العلم بكثرة الرواية، ولكنه نور 1/140 مَا أَدْرِي مَا أَذَانُ يَوْمٍ، وَمَا صَلَاةُ يوم 3/271 ما أعلمها أنا، فكيف يعلمونها!؟ 5/330 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 ما حاجتك إلى ذلك؟ فعجبا من 3/271 ما سمعت ذلك، وأري أن كذبوا على ابي بكر 3/272 مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُسْأَلَ عن 5/324 مسألة سجود الشكر 3/158، 273 من أحب أن يجيب عن مسالة، فيعرض نفسه 5/524 من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم 5/24 من قَعَدَ إِلَيْهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ قِرَاءَةَ سَجْدَةٍ قام عنه 3/499 لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء 4/121 لَا تَجُوزُ الْفُتْيَا إِلَّا لِمَنْ عَلِمَ مَا 5/123 لا تكتبها، فإني لا أدري 5/332 لا تكتبوا "يعني: ما يفتيهم به" 1/147ت لا أردي إنما هو الرأي 5/331 لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ 5/249 لا ينبغي لأحد أن يجاوز 2/226ت لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا يُؤْخَذُ من 5/134 لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ فاضلا يتبع 5/331 لَيْسَ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم سعة 5/75 ليس في العلم شيء خفيف 5/329 لَيْسَ نُبْتَلَى بِهَذَا الْأَمْرِ، لَيْسَ هَذَا بِبَلَدِنَا 5/325 لَكَأَنَّمَا مَالِكٌ- وَاللَّهِ! - إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ 5/324 من شأن ابن آدم إن لا يعلم ثم يعلم 5/24 هذه سليسلة بنت سليسلة 5/385، 400 وَكَانَ إِذَا شَكَّ فِي الْحَدِيثِ طَرَحَهُ كُلَّهُ 5/331 ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت 5/390 وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله 3/277 الوضوء: مرتان مرتان، أو 4/120 ولم يكن في أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا 5/324 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة 3/499 ويحك!! أعرفتني ومن أنا! وأيش منزلتي 5/328 يا عبد الله! ما علمته فقل به 5/382 يَرْجِعُ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى شَامِهِمْ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إلى 5/327 يَقَعُ بِقَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ: الْفِقْهُ فِي دِينِ الله 5/24 مالك بن دينار قرأت في الحكمة: إن الله يبغض كل حبر سمين 2/192 مجاهد دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد 4/104ت لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا يُؤْخَذُ من المحاسبي إن المأمون فاسق لا يح ضر مجلسه 5/134 مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ دَخَلَ صَوَامِعَ الْمُنْقَطِعِينَ ومواضع المتع بدين 4/97 محمد بن عبد الرحمن قطع على أهل المدينة بعث فاكتب 2/249 محمد بن كعب القرظي هُوَ الْقُرْآنُ لَيْسَ كُلُّهُمْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم 4/186 المدلجي إن هذه الأقدام بعضها من بعض 4/434 مروان أذهب يا رافع إلى ابن عباس 4/32 قُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بما 4/194 مسروق اتَّقُوا التَّفْسِيرَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ 4/282 فمن اضطر إلى شيء مما حرم الله 1/328 كان يصلي حتى تورمت قدماه 2/344 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 كنت متكئا عند عائشة فقالت 3/191 وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ 1/328 يَا بُنَيَّةُ! إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِنَفْسِي فِي يوم كان مقداره 2/244 مسلم بن أبي بكرة كان أبي يقول في دبر الصلاة 5/311ت المسيب بن حزن لما حضرت أبا طالب الوفاة 2/289ت مطرف بن عبد الله بن الشخير سمعت مالكا إذا ذكر عنده فلان من أهل الزيغ 3/30 كَانَ مَالِكٌ يَسْتَعْمِلُ فِي نَفْسِهِ مَا لَا يفتي به الناس 5/249 كان مالك إذا حدث بها ارتج سرورا 3/30 لا تحدثونا إلا بالقرآن 4/344 مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تعلموا 1/80 إياكم وزيغة الحكيم 5/133 أيها الناس! لا تعجلوا بالبلاء قبل وقوعه 5/372ت هي كلمة تروعكم وتنكرونها 5/133 وإياكم وزيغة الحكيم 5/133 يا معشر العرب! كيف تصنعون بثلاث 4/89 معاذة لم تقض الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة 5/171 معاوية بن الحكم لما رجعت من الحبشة 1/64ت المعتمر بن سليمان رآني أبي وأنا أنشد الشعر 5/134 معمر كان يقال: من طلب العلم 1/103 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 المغيرة بن حكيم إن أربعة قتلوا صبيا 3/178ت مكحول من أخلص لله أربعين صباحا 1/347ت موسى بن داود ما رأيت أحد من العلماء أكثر أن يقول 5/325 مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ كُنْتُ عِنْدَ الْبُهْلُولِ بْنِ راشد إذا أتاه 5/84 ميمون بن مهران إن القاص المتكلم ينتظر المقت 5/272 دخل نافع بن الأزرق المسجد 3/214ت الرد إلى الله، الرد إلى كتابه 4/191 المرزباني دخل أبويوسف على الرشيد والكسائي 1/118 المغيرة تعالوا نجتمع ونستذكر كل ما بقى علينا 5/328 نائلة زوج عثمان إن تدعوه أو تقتلوه فهو كان 2/243ت نافع ما كان ابن عمر يبالي على أي ذلك انصرف 3/501ت وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق 4/149ت يراهم شرار خلق الله 4/149 نافع بن الأزرق إنا نريد أن نسألك عن أشياء في كتاب الله 3/213ت إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ 3/214 قم بنا إلى هذا الذي يجترئ 3/213ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 النوري خرج النوري ليلة إلى شاطئ دجلة 1/548 هشام بن عروة مَا سَمِعْتُ أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله 4/882 الهيثم بن جميل الرجل يكون عالما بالسنة 5/390، 390ت وَاسِعُ بْنُ حِبَّانَ انْصَرَفْتُ مِنْ قِبَلِ شِقِّيَ الأيسر 4/98 كنت أصلي وابن عمر يسند ظهره إلى جدار القبلة 3/501ت وهب بن منبه قول وهب بن منبه في قوله تعالى: {ويستغفرون لمن في الأرض} 3/356 يحيى بن أبي إسحاق الهنائي الرج لمنا يقرض أخاه المال، فيهدي له 3/117ت يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ كانوا يقولون إذا أراد الله 5/384 يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يع رف الاختلاف أن يفتي 5/123 يونس الصدفي ما رأيت أعقل من الشاف عي 5/220ت المبهمون من الصحابة احبس أسامة بجيشه نستعين به 1/504 رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا 2/81ت شَهِدَتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأخ لي أحدا 3/560 المبهمون من السلف اللهم أجعلني من أئمة المتقين 1/86 ترك المعاصي "دواء الحفظ" 3/153 كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُثَابِرُونَ عَلَى إحضار النيات 2/537 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 المبهمون إن العلم في صدور الرجال 1/140، 147 حب الرياسة أخر ما يخرج 2/334 حسنات الأبرار سيئات المقربين 3/548، 548ت-4/246، 430 عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك 2/499 قصة أصحاب الجنة 3/110ت قصة أصحاب السبت 3/110ت كان العلم في صدور الرجال 1/140، 147 كنا ندع ما لا بأس به 1/179، 191/800 من حجب الله عنه العلم عذبه به على الجهل 1/80 مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ فَالْقَلِيلُ مِنَ الْعِلْمِ يكفيه 1/352 من يتق الله والمعصية 1/534 هذا أخلص للحكمة، ولم يخلص لله 3/149 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 فهرس الأعلام الأسم الجزء والصفحة أدم – عليه السلام 2/425-4/168، 409، 415، 245-5/294 إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي 2/245 إبراهيم التيمي 4/148 إبراهيم- عليه السلام - 1/87، 274، 277، 546-2/524، 481، 167، 146، 118، 125، 361، 366، 425-3/239-4/11، 27، 113، 162، 168، 23، 233، 256، 386، 387، 391، 414، 428، 431، 432، 433 إبراهيم النخعي 4/282، 459، 5/138 إبليس- عليه لعنة الله- 2/476 ابن أبي ليلى 5/206، 231 ابن أبي 2/390 ابن إسحاق 3/316 إبن الأعرابي 2/134 ابن بشكوال 2/367 ابن بقي "القاضي" 5/87 ابن جني 2/133 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 ابن الجويني 1/21-3/311 ابن حبيب 1/184، 214، 2/345-3/50 ابن حزم الظاهري 1/244-4/189-5/82 ابن خروف 4/20 ابن رشد 2/457-4/110-4/198 ابن الزبعري 4/30 ابن زيد 3/357 ابن سريج 3/420 ابن السيد 5/140، 201، 209 ابن سيرين 4/153، 282-5/33، 134 ابن شبرمة 5/206، 231 ابن شعبان 3/429 ابن شهاب 2/345، 346-3/279، 357-5/330، 333 ابن الطيب "القاضي" 1/20، 23-3/96، 97-5/68 ابن عبد البر 3/203-4/345-5/75، 86، 135 ابن عبد السلام 2/87، 90 ابن عتاب 2/349 ابن عجلان 5/326 ابن عربي 1/121، 288، 388-2/273، 276، 361، 362، 363، 366، 398، 415، 460، 500-3/71، 146، 199، 201، 340، 527، 4/195-5/182، 196 ابن عطاء 1/350-4/250 ابن عيينة 5/123، 330 ابن الفخار القرطبي 4/195 ابن القاسم 1/11، 387، 397-3/431، 499-276 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 5/123، 189، 330، 332، 385 ابن قتيبة 2/170-4/266، 231، 234-5/150 ابن الكواء 1/52 ابن الماجشون 1/214 ابن مجاهد 4/196 ابن المواز 5/85 ابن نافع 3/158 ابن النحاس 3/340، 356 ابن هرمز 5/337 ابن وهب 2/250-3/429-4/149-5/75، 330، 382 أبو إدريس الخولاني 1/152 أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق 2/91 أبو الأسود الدؤلي 5/274 ابو اسيد 4/335 أبو أمامة 5/27 أبو أيوب الأنصاري 4/104، 115 أبو بردة بن دينار 2/58، 274، 409-3/242 أبو بكر بن داود الأصهاني 3/420 أبو بكر بن زرب 2/367 أبو بكر بن عبد الرحمن 2/242-4/93 أبو بكر بن مجاهد 3/96، 97 أبو بكر الشبلي 4/196، 250 أبو بكر 2/458 أبو بكر الصديق 1/241، 243، 246، 281، 374، 499، 504-3/70، 71، 260، 271، 272، 398-4/103، 176، 250، 276، 281، 277 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 451، 456، 469، 471-5/13، 33، 160، 294، 295، 297، 407 أبو تراب النخشبي 1/549-2/497-5/400 أبو جحيفة 2/247 أبو جعفر بن تركان 2/473 أبو جعفر محمد بن على 1/76 أبو جعفر المنصور 4/112، 113 أبو جهل 4/212 ابو الحسن بن المنتاب 2/91 أبو الحسين النوري 548-3/93 أبو حمزة الخراساني 1/502-2/497، 499، 500 أبو حميد 4/335 أبو حنيفة 1/11، 386، 417-2/400-3/20، 200، 201، 202، 203-4/68، 105-5/44، 52، 162، 188، 197، 206، 231 أبو الخير البصري 1/548 أبو داود 1/264-2/348-3/405-4/356-5/146، 156 أبو الدحداح- رضي الله عنه 4/218 أبو الدرداء 1/78، 82، 101، 182-2/247، 248-3/354-4/89، 357-2/448-3/295-5/29، 32 أبو رجاء العطاردي 5/37 أبو زيد 1/273 أبو سعيد 3/63 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 أبو سعيد بن المعلي 3/405 ابو طلحة 2/173-3، 96، 92، 93، 274، 275 أبو العباس 2/133 أبو العباس بن البناء 1/120 أبو العباس الإبياني 1/332 أبو العباس الشرفي 1/549 أبو عبد الرحمن السلمي 2/242 أبو عبد الله المحاملي 2/92 أبو عبيد 1/51-3/360-4-172 أبو عبيدة 3/194-4/264، 374-5/54 أبو عبيدة بن الجراح 1/184-5/295 أبو على الحداد 2/367 أبو عمران الفاسي 5/108 أبو عمرو بن عبد البر 1/114 ابو عمرو الداني 2/91 أبو كبشة 4/155 أبو لبابة 3/70 أبو مسعود الأنصاري 3/258، 259 ابو المعالي 1/22، 23 أبو منصور 4/226 أبو منصور الشيرازي الصوفي 2/361 أبو الوليد الطيالسي 1/104 أبو موسى 1/534 أبو موسى الأشعري 2/223، 227، 242، 324 أبو ميسرة المالكي 2/475 أبو ها شم 1/364، 366، 374 أبو هريرة 1/76، 78، 152-2/391-3/192 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 4/150، 355، 397، 400-5/145، 146، 154، 169 ابو يزيد 2/497 ابو يزيد البسطامي 1/536، 549-5/400 أبو يعزي 2/505 ابو يوسف "القاضي" 1/118، 119، 268-3، 271-4/154-5/52، 126 ابي بن كعب 2/138، 224-3/40، 275، 405-4/173، 336، 5/295 أحمد بن حنبل 1/449-2/398-3/97، 431-4/345-5/249 أحمد بن عبد البر 5/86 أحمد بن محمد 3/357 أحمد بن يحيى 2/134 الأخفش 5/53 اسامة بن زيد 1/504-4/437-5/408 إسحاق –عليه السلام 4/233 أسد بن الفقرات 5/385، 400 إسماعيل –عليه السلام 2/118 إسماعيل "القاضي" 1/272، 533-4/94، 151، 378-5/75 الأسود بن يزيد 2/242، 244 أسيد بن حضير 2/439، 442 أشج "عبد القيس" 2/184 أشهب "المالكي" 3/429، 158-5/126، 332 أصبغ 3/432 الأصمعي 2/135-4/283-5-54 أم سلمة 4/94 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 أم قيس 4/157 أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ 3/139 أم يعقوب "أمرأة من بني أسد" 4/182 أنس بن سيرين 2/244 أنس بن مالك 1/81-2/449-3/67-4/108، 400-5/32، 385 الأوزاعي 4/344، 345-5/380، 383 أويس 2/423، 242 أويس القرني 2/243 أياس بن معاوية 2/460-5/315 أيوب السختياني 5/123 الباجي 4/109-5/89، 90، 109، 111، 112، 421 البخاري 2/397-3/407، 405-4/36 بريرة 1/427، 455 البشر 4/224 بشر بن البزار 4/461 بشر الحافي 5/249 بكير 4/149 بلال 3/271، 143-4/103 البهلول بن راشد 5/84 البويطي 5/52، 126 بيان بن سمعان 3/333-4/225، 226 الترجيلي 2/367 الترمذي 2/138، 3/36، 67-4/163، 171-5/37، 29، 31، 146 تميم الداري 1/281، 282 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 ثعلبة بن حاطب 2/448-3/534-5/32 جابر 2/223-4/398 جابر بن زيد 5/138 جابر بن عبد الله 5/231 جابر بن يزيد الجعفي 3/317 الجارود 4/150 جبريل عليه السلم - 1/47، 48-2/138، 431-3/66، 255، 259-4/80، 235-5/385 الجد بن قيس 1/515 الجرمي 4/53، 55 جريج العابد 4/417 جعفر 3/268 جعفر بن برقان 5/272 جعفر الصادق 1/350/ جندع بن ضمرة 3/559 الجويني1 2/90 حاتم 2/81 حاتم الطائي 1/29 الحارث بن الخزرج 2/59 الحارث بن يعقوب 5/37 الحارث المحاسبي 2/461 حبيب بن أبي ثابت 103 حبيب بن زياد 5/87 الحجاج 2/496، 499 حذافة 1/47   1 أنظر "أبو المعالي". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 حذيفة 4/459، 461-5/156، 170، 296 حذيفة بن أسيد 4/103 الحريري 3/288 حزن "جد سعيد بن المسيب" 5/399 حسان بن عطية 4/344 الحسن 3/47، 350، 351، 5/134-383 الحسن البصري 1/82، 101، 102، 103، 104-4/153، 166، 208، 209، 459-5/85 الحسن بن عرفة 2/247 الحسن بن نصر السوسي 1/330 الحطيئة 2/135-5/288 الحكم بن أبان 4/342 الحكم بن عتيبة 5/134 حكيم بن حزام 3/39، 534 حماد بن أبي أيوب 3/605 حماد بن أبي سليمان 3/600 حمزة بن محمد الكناني 1/114، 115 الحميدي 3/317 حنظلة الاسيدي 1/145 الحولاء بنت تويت 1/527-2/234-5/280 خديجة 3/66 خديجة بنت خويلد 2/430، 476 خزيمة 2/58، 274، 409-3/242 خزيمة بن ثابت 2/469 الخضر- عليه السلام 1/546-2/461، 463، 467، 507-4/161، 414-5/393 الخطأبي 5/93 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 الخليل 5/53، 54، 56 داود الأودي 5/384 داود- عليه السلام 2/249-4/165 داود الظاهري 3/420-5/280، 286 الداودي 1/184-3/59 ذو الخويصرة 2/335 والرمة 2/133 الرازي 1/41، 55-2/9، 12، 66، 72، 486-4/198 رافع "بواب مروان" 4/32 ربعي بن خراش 2/486، 499 الربيع 2/504 الربيع بن أنس 3/357 الربيع بن خيثم 1/377-2/242-5/377 ربيعة 2/361، 423-5/387 الرشيد 1/118، 119 رفاعة 3/163 رفاعة بن رافع 3/275 رفاعة بن القرظي 1/430 الروذباري 2/474 الزبقان بن بدر 5/288 الزبير 2/285-4/320 الزبير بن العوام 5/37 زور بن حبيش 2/242 الزهري 4/365 زهير 4/230 زياد بن حصين 4/94 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 زيد بن أرقم 1/456-378، 118-4/66 زيد بن ثابت 3/275-5/295 زيد بن حارثة 4/437 زينب 1/528-2/235 سارية 4/469، 472 سالم بن أبي الجعد 1/533 سبيعة الأسلمية 4/396 سحنون 1/283-3/59 السدي 3/350، 357 سعد بن عبادة 2/60-3/547 سعيد 5/387، 390 سعيد بن أبي عروة 5/123 سعيد بن جبير 4/458-5/138 سعيد بن العاص 5/295 سعيد بن عامر 2/242 سعيد بن المسيب 2/242، 536-3/350-4/281-5/399 سعيد بن يحيى البصري 1/548 سفيان 3/269، 317 سفيان الثوري 1/77، 82، 102، 104-5/330 سلام البربري 1/269 سلمان الفارسي 1/182، 184-2/247، 248-5/134، 156، 157، 170، 297-4/90، 224 سليمان التيمي 5/135 سليمان – عليه السلام 2/441-4/233 سمرة بن جندب 4/399 سهل بن حنيف 1/243 سهل بن عبد الله 4/162، 242، 245 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 سودة بنت زمعة 4/116، 366 سيبويه 4/28، 43-5/53، 54، 56 الشاشي المالكي القاضي 2/460 الشافعي 1/33، 245، 417-2/104، 153، 161، 245، 273، 274، 277، 398-3/77، 162، 201، 321-4/66، 106-5/44، 46، 52، 58، 61، 184، 185، 126، 198، 419، 420 الشبلي 2/460 شريح 4/306 الشعبي 1/102-2/244-5/138، 383 شعيب – عليه السلام 4/274 شقيق البلخي 2/497-5/400 الشيرازي 5/109 صالح- عليه السلام 4/274 صبيغ 5/171 الضحاك 3/350 طاوس 4/341-5/138 الطبري 3/340 الطحاوي 1/534-3/274-4/335، 336، 337 عائشة 1/191، 270، 478، 483، 545-2/422، 234، 236، 239، 322، 323، 398، 526، 260، 262، 264، 276، 277، 294-4/74، 93، 101، 117، 176، 186، 187، 428، 469، 471-5/154، 159، 171، 231، 386، 407، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 409 عامر بن قيس 2/242 عباد بن بشر 2/329، 442 عبادة بن الصامت 3/354 العباس 2/117 عباس بن سهل 4/336 العباس بن عبد المطلب 4/380 عباس بن المهتدي 2/460 عبد الأشهل 2/59 عبد الله 3/146 عبد الله بن أم مكتوم 3/559 عبد الله بن حذافة 5/337، 387 عبد الله بن رواحة 1/265-3/406 عبد الله بن الزبير 2/322، 113-5/295 عبد الله بن زمعة 4/366 عبد الله بن زيد 4/367 عبد الله بن سلام 5/297 عبد الله بن عباس 1/45، 254، 255، 522، 533، 534، 535-2/272، 398-3/113، 192، 213، 215، 265، 276، 277، 309، 312، 345، 346، 352، 361، 402، 4/32، 36، 38، 48، 49، 90، 94، 103، 131، 148، 149، 150، 162، 163، 172، 173، 210223، 235، 281، 308، 341-5/34، 134، 150، 169، 214، 327، 375، 377 عبد الله بن عمر 1/199-2/243، 261، 447، 448 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 3/146، 194، 198، 300402-4/98، 104، 113، 131، 149، 172، 355، 395-5/261، 294، 378 عبد الله بن عمرو بن العاص 1/527-2/240-4/188 عبد الله بن المبارك 5/134، 137، 138 عبد الله بن مسعود 1/82، 101، 102، 104، 150، 153، 264، 535، 2/249، 295-3/40، 405، 351-4/152، 156، 173، 174، 178، 182، 186، 280، 307، 328، 340، 459، 461-5/137، 297، 121 عبد الله بن مغفل 4/437 عبده بن أبي لبابة 5/381 عبد الرحمن بن الحارث بن هشام 5/295 عبد الرحمن بن الزبير 1/430 عبد الرحمن بن زيد 1/548 عبد الرحمن بن عوف 4/210-5/169 عبد الرحمن بن غنم 1/81 عبد الرحمن بن مهدي 4/331 عبد الرحمن بن يزيد 4/341-5/296 عبد الصمد بن عبد الوارث 5/231 عبد العزيز بن عبد الله بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ 1/269 عبد الغني 3/60 عبد القادر الكيلاني 2/475 أشج عبد القيس 2/184 عبد الملك 3/429 عبد الملك بن حبيب 3/358 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 اختلاف التعدد: 5/ 209 الاعتداد بخلاف أصحاب الأهواء: 5/ 221، 222 اتفاق أهل الأهواء مع أهل الحق: 5/ 223 لا تجتمع الأمة على خطأ: 4/ 45 عمل أهل المدينة: 3/ 227، 271 القياس: 1/ 24، 29، 33، 131، 133-2517، 531-3/ 75، 242-4/ 98، 99379، 391، 392، 393-5/ 193، 194، 197، 512 معنى القياس عند أهل النظر: 5/ 422 القياس عند الشافعي: 5/ 196 معنى حَدِيثِ مُعَاذٍ: "بِمَ تَحْكُمُ" قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ ... ": 4/ 305 معنى حَدِيثِ مُعَاذٍ "بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ ... " عند الشيخ عبد الغني عبد الخالق، والرد على من فهمه على غير معناه: 4/ 308 كلام طويل على حديث معاذ هذا، رواية ودراية: 4/ 298-306 القياس نفيا وإثباتا: 5/ 229 مذهب من نفى القياس مطلقا: 5/ 229 الظاهرية والقياس: 2/ 81 الاقتصار على محال النصوص ظاهرية: 1/ 263 القياس وحجيته: 4/ 15، 62، 64 إثبات القياس بعموم الرسالة: 2/ 412 من أدلة إثبات القياس الدقيقة: 1/ 319 القياس الجلي: 2/ 156، 162 الأصول والفروع: 1/ 32 الأصل الاستعمالي والأصل القياسي: 4/ 19 المقدمات العلمية: 5/ 47 الفرع مبني على أصله: 3/ 322 التبع يجوز فيه ما يجوز بالأصل: 2/ 318 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 عمران بن حصين 2/328-4/344 عمر بن الخطاب 1/48، 49، 50، 55، 57، 58، 59، 86، 146، 147، 153، 158، 184، 188، 199، 242، 243، 269، 272، 281، 314، 505-2/117، 139، 140، 242، 361، 420، 439، 442، 454-3/45، 39، 47، 67، 70، 71، 94، 139، 146، 194، 259، 260، 275، 398، 399، 502، 554-4/34، 35، 103، 109، 110، 114، 115، 119، 120، 129، 131/134، 148، 150، 210، 244، 280، 206، 327، 328، 342، 395، 451، 456، 367، 369-5/33، 85، 133، 156، 160، 169، 171، 248، 253، 288، 294، 295، 297، 324، 377، 378، 382، 289، 407، 389 عمر بن عبد العزيز 2/148، 496-3/29، 258، 278، 267، 357-4/110، 111، 460-5/68، 76، 150، 391 عمر بن يزيد 5/327 عمرة 1/269 عمرو بن أبي قرة 5/156 عمرو بن شعيب 5/231 عمرو بين العاص 1/314-3/502-4/109، 120-5/198 عمار 2/452 عمار بن ياسر 1/184 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 عيسي بن عمر 2/133 عيسي- عليه السلام 2/165، 425، 437-3/316-4/231 عياض 1/330، 332-2/250، 475-3/96، 420-4/114-5/87، 89، 290 الغزالي 1/121، 194، 2092/212، 220، 328، 361، 452-2/30، 254، 362، 363، 355، 359، 501-4/22، 206، 252-3/329، 542، 527-5/54، 136، 289 فاطمة 5/398 فاطمة بن قيس 4/395 فخر الإسلام أبو بكر الشاشي 2/460 الفخر الرازي 1/41، 55 الفراء النحوي 1/117، 118 فرعون 4/272 الفضيل بن عياض 1/192 فناخرو الديلمي 3/96 القاسم بن محمد 1/82-5/67، 68 قبيصة بن عقبة 5/123 قتادة 1/75-3/357، 358-5/112 قدامة بن مظعون 1/272-4/150 القرافي 1/390، 395-2/68، 70، 86، 444-4/65، 106 قس بن ساعدة 2/126 القشيري 1/193، 502، 548، 549-5/399 الكتاني الصوفي 1/192 الكسائي 1/118، 119 كعب بن مالك 2/270-3/70، 270 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 الكعبي 1/175-3/220، 424 اللخمي 1/243، 379، 388، 437-4/121 لقمان 3/402 لوط – عليه السلام 4/274، 410 الليث بن سعد 5/206 المازري 1/21-3/476، 464-5/100، 420 المازني 5/53 مالك 1/32، 53، 82104، 147، 173، 242، 245، 246، 164، 268، 273، 282، 346، 379، 386، 387، 388، 397، 416، 417، 439، 454، 496، 535-2/27، 142، 225، 226، 230، 243، 245، 250، 254، 274، 322، 361، 369، 398، 400، 459، 519، 523، 527، 541-3/16، 50، 59، 77، 126، 147، 158، 159، 161، 162، 174، 195، 197، 198، 201، 204، 205، 138، 260، 265، 269، 270، 271، 277، 285، 288، 321، 387، 428، 429، 430، 431، 444، 445، 376، 480، 482، 497، 499، 529-4/65، 68، 95، 105، 107، 109، 112، 113، 114، 118، 119، 121، 131، 194، 311، 461، 463-5/24، 46، 75، 85، 88، 90، 101، 103، 126، 134، 158، 185، 194، 196، 197، 198، 216، 316، 317، 323، 325، 326 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 330، 332، 333، 347، 381، 382، 385، 390، 391، 400 المأمون 3/97 الماوردي 4/110 مجاهد 5/134 مجزر المدلجي 4/75، 437 محارب بن دثار 5/321 المحاسبي 3/97 مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزام 1/269 محمد بن الحسن 5/52، 162 محمد بن الحسن القاضي 1/118 محمد بن صالح 2/249 محمد بن عبد الحكم 1/212 محمد بن عبد الرحمن 4/36 محمد بن كعب القرظي 4/486 محمد بن مسلمة 5/248 محمد بن يحيى بن لبابة 5/86 المدلجي 4/75، 437 مروان 4/32، 149 مريم- عليها السلام 3/316 المزني 5/52، 61، 126 مسروق 1/328-2/242، 244-4، 282 مسعود بن حكيم 5/231 مسلم 2/397، 3/63، 317، 4/402-5/30 مطرف بن عبد الله 1/214-4/344-5/249 معاذ 2/235، 248-5/37، 168، 276 معاذ بن جبل 1/80، 528-4/89، 298، 311، 325، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 معاوية 404-5/133، 137، 295، 297 المعتمر بن سليمان 5/134 معمر 1/103 المغيرة بن شعبة 3/258، 259 مكحول 1/274 مكي بن أبي طالب 3/346، 363 منذر بن سعيد 4/195 منصور بن زاذان 2/242 موسيى بن داود 5/325 موسيى بن عقبة 5/84 موسى – عليه السلام 1/56، 57، 91، 546-2/508، 366، 425، 429-3/161، 366، 497، 498، 499، 599-4/12، 13، 161، 231، 233، 272، 272، 274، 414، 417-5/290، 292، 393 ميمون بن مهران 1/191-5/272 نافع 4/149 نافع بن الأزرق 3/213 النجار 2/59 النسائي 4/36، 171-5/27، 28 النضر بن الحارث 4/213 النعمان بن بشير 4/398 نوح – عليه السلام 3/372-4/271، 273، 274، 431، 433 النوري = أبو الحسين النووي 3/70 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 هارون – عليه السلام 3/559-4/272، 274 هشام بن حكيم 3/39 هشام بن عبيد الله الرازي 5/122 هشام بن عروة 4/282-5/231 هشيم 2/242 هلال بن أمية 2/422 هود-عليه السلام 2/500-3/559 وكيع بن الجراح 1/102 وهب بن منبه 3/356 يحيى بن أيوب 5/384 يحيى بن سلام 5/123 يحيى بن عمر 3/60 يحيى بن معين 1/114، 115-5/86 يزيد بن أبي سفيان 4/151 يزيد بن هارون 2/242، 247 يوسف – عليه السلام 3/70، 317-4/152، 391-5/291 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 فهرس الكتب ... فهرس الكتاب: الكتاب المؤلف الجزء والصفحة أحكام إسماعيل بن إسحاق إسماعيل بن إسحاق 25/33 أحكام الفصول الباجي 5/421 أحكام القرآن ابن العربي 5/196 أحياء علوم الدين الغزالي 1/361، 362، 458، 2/356، 3/527، 542، 4/252، 255 الإرشاد أبو المعالي الجويني 3/537 الإكمال 1 القاضي عياض 2/398 إلجام العوام الغزالي 3/329 الأموال الداودي 1/184 البرهان الجويني 1/364   1 اسمه "إكمال المعلم بفوائد مسلم": كمل به القاضي عياض كتابي "المعلم" للمازري، و"تقييد المهمل" للجياني، فأدخل جميع كلام المزري- عدا تراجم الأبواب- وجزء العلل الواقعة في أسانيد كتاب مسلم من "تقييد المهمل" للجياني، وشرح ما لم يتعرضا له، وأسهب في ضبط الألفاظ، وبيان المعانين واستنباط الأحكام الفقهية والفوائد المختلفة مع استدراك وتعقيب وتصحيح –عند الحاجة- للمازري والجياني، وأنظر: "منهجية فقه الحديث عند القاضي عياض في إكمال المعلم" للدكتور حسين شواط، نشر دار ابن عفان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 بعض كتب الغزالي 1 الغزالي 5/289 بعض التأليف في المفاضلة بين الصحابة مجهول 5/298 التبيين لسنن المهتدين الباجي 5/89 التنقيح الرازي 2/76 جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري الإسماعيلي 2/139 جزء في الرد على قاضي القضاة الشاشي في الحكم بالفراسة أبو بكر الشاشي 2/460 الجهاد ابن حبيب 1/184 جواهر القرآن الغزالي 4/255 درة الغواص الحريري 3/288 الدلائل ثابت 5/231 الرسالة الشافعي 2/104، 5/56 سنن أبي داود أبو داود 1/264، 2/348، 3/405، 4/356، 5/146، 156 سنن الترمذي الترمذي 2/138، 3/36، 67، 4/163، 171، 5/27، 39، 31، 146 سنن النسائي النسائي 4/36، 171، 5/27، 28 شرح الرسالة عبد الوهاب 3/127 شفاء الغليل الغزالي 5/20 الصحيح 1/151، 356، 509،   1 لم أفز بتحديد اسم الكتاب مع مروري على كتب الغزالي التي في مكتبتي باحثا فيها عن النص الذي نقل منه هنا، ولكن.. على وجه السرعة!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 3/68، 76، 405، 4/32، 35، 182، 190، 404، 417، 468، 5/26، 27، 30، 34، 143، 145، 168-5/253، 285 صحيح البخاري البخاري 2/397، 3/405، 407، 4/36 صحيح مسلم "المسند الصحيح" مسلم 2/397، 3/63، 317، 4/402، 5/30 العتبية لمحمد التعبي القرطبي 2/361-3/147، 158، 271-4/110-5/198 فصل الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنَ الِاتِّصَالِ ابن رشد 4/198 فضائل القرآن أبو عبيد 1/51 فوائد الأخبار الإسكاف 2/333 الكافي ابن عبد البر 1 1/387 الكامل المبرد 4/283 كتاب البر والصلة من كتب المحدثين 5/154 كتاب سيبويه سيبويه 5/54 كتاب الشكر 2 الغزالي 1/362 كتاب الكسب 2 الغزالي 1/361 كتاب الحنفية 3/131   1 لم أظفر بالنقل الذي أورده الشاطبي فيه، فلعله لغيره!! ولم يذكر المصنف اسم مؤلفه. 2 من "إحياء علوم الدين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 كتب الشافعية 3/131 كتب المتقدمين 1/148، 153 المبسوطة 1/386، 387 المحصول الرازي 2/76 مختصر ما ليس في المختصر 1 محمد بن القاسم 1/273 المدارك عياض 3/84، 5/96 المدونة مالك 1/387، 3/498 المستظهرية2 الغزالي 2/30، 5/78 مسند البزار البزار 5/28، 29 مشكاة الأنوار الغزالي 4/255 مشكل الآثار 3 الطحاوي 2/398 مشكل الحديث الطحاوي 4/335 مشكل الحديث القتبي 4 5/150 مشكل القرآن القتبي 4 5/150 مقدمات ابن رشد ابن رشد 1/187 المنقد من الضلال الغزالي 5/402 المؤتلف والمختلف عبد الغني 3/60 الموطأ مالك 2/116، 295، 4/112، 131، 320 الموازية ابن المواز 5/85 الناسخ والمنسوخ ابن العربي 1/388، 3/340 نوازل ابن رشد ابن رشد 5/100   1 أنظر عنه: "دارسات في مصادر الفقه المالكي" ص177. 2 وهو "فضائح الباطنية". 3 هو والذي يليه واحد. 4 هو ابن قتيبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 فهرس الأشعار : البيت القافية الشاعر الجزء والصفحة كسر الجرة عمدا شرابا 4/263ت قلت لما غاب عقلي ترابا 4/263ت بلاد به نيطت على ترابها ابو تمام 5/22ت أحب بلاد الله ما بين سحابها ابو تمام 5/22ت دع عنك لومي فإن اللوم الداء أبو نواس 3/289ت وللعقول قوي تستن اضطرابات 2/134 بالخير خيرات وإن شرا إن تا لقيم بن أوس 4/237 وأنت زنيم نيط في آل هاشم الفرد حسان بن ثابت 5/21 يجود بالنفس إذا ضن الجود مسلم بن الوليد 3/70 وظاهر لها من يابس سترا ذو رمة 2/133-5/251 وهن يمشين بنا هميسا لميسا ابن عباس 4/94 وموضع زين لا أريد أنس ابن الأعرابي 2/134 هيهات لا تتكلفن في الهوى المطبوع الشريف الرضي 4/132 ناداهم ألا الحموا ألا تا الافا الوليد بن عقبة 4/237 قلت لها: قفي، فقالت الإيجاف الوليد بن عقبة 4/236 أهابك أن أبدي إليك طرفي ابو حمزة الخراساني 2/497ت نهاني حيائي منك أن الكشف ابو حمزة الخراساني 2/497ت تلطفت في أمري فأبديت باللطف ابو حمزة الخراساني 2/497ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 تراءيت لي بالغيب حتى الكف ابو حمزة الخراساني 2/497ت أراك بوبي من هيبتي وبالعطف ابو حمزة الخراساني 2/497ت وتحيي محبا أنت في الحتف ابو حمزة الخراساني 2/497ت ما لي بأمرك كرسي أكاتمه مخلوق "مجهول" 4/229 بيت زرارة محتب بفنائه نهشل "مجهول" 4/234 شعور فعلم فاتحاد فقوة آمل 3/116ت خلوا بين الكفار عن سبيله تنزيله عبد الله بن رواحة 4/440ت لنا الجفنات الغر يلمعن دما حسان بن ثابت 4/261ت وإن أتاه خليل يوم مسألة حرم زهير 4/230 هب البعث لم تأتهنا رسله تضرم 2/354 أليس من الواجب المستحق المنعم 2/354 بعيدة مهوى القرط إما لنوفل وهاشم عمر بن أبي ربيعة 3/419ت ابدأ بنفسك فأننها عن غيها حكيم أبو الأسود الدؤلي 5/274 فهناك يسمع ما تقول وتقيدي التعليم أبو الأسود الدؤلي 5/274 لا تنه عن خلق وتأتي مثل عظيم أبو الأسود الدؤلي 5/274 يا أيها الرجل المعلم غيره التعليم أبو الأسود الدؤلي 5/274ت فهناك تعذر إن وعظت ويقتدي التعليم الأفوه الأودي 5/274ت تخوف الرحل منها تامكا قردا السفن ذو الرمة 1 1/58-2/140 وكأس شربت على لذة بها الأعشى 3/289ت   1 وعزي لغيره، كما بيناه في موطنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 فهرس الفرق والطوائف والجماعات والمذاهب والملل : الفرق والطوائف الجزء والصفحة الآباء 3/18ت الآدميون 1/182، 437، 438، 2/546 ت الأخرون "المتأخرون" 1/4، 126ت، 3/23ت، 190ت، 280، 281، 321، 324، 3/329 الأئمة 1/4، 159، 159ت، 238ت، 346ت، 528ت، 2/153ت، 179ت، 196ت، 198ت، 199ت، 266ت، 359، 424، 2/424ت، 500، 3/49ت، 128ت، 129ت، 131، 190ت، 263، 548ت، 4/33ت، 105، 109، 137ت، 144، 248، 283ت، 330ت، 376ت، 4/416ت، 454ت، 457، 5/45، 46، 53، 56، 60ت، 66، 78، 88، 126، 210، 23ت، 5/241، 283، 286 الأئمة الأربعة 3/350ت، 399ت، 5/46، 66ت، 127ت أئمة البصرة 4/416ت أئمة الجرج والتعديل 1/252ت أئمة الجور 2/27ت أئمة الحديث 3/115ت، 190ت الأئمة السبعة 4/233 أئمة اللغة 1/132ت، 4/240ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 أصحاب الأئمة المجتهدون 5/126 الأئمة المضلون 4/89*91*5/133 أئمة النقل 3/203-- أئمة الهدى 3/125 الأبرار 3/548،548ت أتباع الحق 2/94 الأتقياء 2/366ت الأجانب 1/393، 420، 420ت، 2/252، 252ت الأحبار 1/13، 3/349ت الأحرار 1/444 الأحزاب 5/407ت الآخرون "المتأخرون" 1/4 126ت، 3/23ت، 190ت، 280، 281، 321 أرباب الأجتهاد المجتهدون المجتهدون أرباب الأحوال 2/224، 225ت، 227، 232، 251، 322، 324، 3/151، 536، 4/254، 5/320 أرباب التصريف بالهمم 2/444 أرباب التفسير المفسرون أرباب الحظوظ 2/251، 254 أرباب الديون 5/100 أرباب الصنائع 2/490 أرباب العادات 2/214 أرباب العربية 2/135 أرباب العقول 5/234 أرباب العوائد 3/439، 486 أرباب القضية 2/301ت أرباب الكلام 4/227 أرباب المذاهب 5/288 أرباب المروءات 3/90ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 أرباب المكاشفات والكرامات 2/460 الأزارقة 3/251ت الأسرى 3/54ت، 60 الأشاغرة 1/40ت، 126ت، 127ت، 128ت، 129ت، 2/10ت، 50ت، 70، 71، 71ت، 76ت، 88ت، 518ت، 3/28ت، 377، 440ت، 4/229ت، 5/207ت الأشعريون 2/324، 3/62، 63، 5/247 أصحاب الأئمة الأربعة 3/350ت، 5/52ت أصحاب ابن جريج 1/265ت، 3/406ت أصحاب ابن شهاب 1/426ت أصحاب ابن مجاهد 3/97 أصحاب أبي الحسين النوري 3/93، 93ت أصحاب أبي عبيدة بن الجراح 3/195ت أصحاب الأحوال 2/224، 225ت، 322 أصحاب الأخلاق السافلة 3/90ت أصحاب البدع المبتدعة أصحاب البدع العظمي 2/336ت، 5/175ت أصحاب البقرة 1/258، 377، 394، 402 أصحاب الجرائم 5/103ت أصحاب الحاجات 5/37ت أصحاب الحظوظ 2/254 أصحاب الحكمة 3/98ت أصحاب الخوارق والكرامات 2/504، 505، 4/473 أصحاب داود الأصفهاني 1/131ت أصحاب الرأي 5/231ت، 280 أصحاب الزهري 1/426ت، 427ت أصحاب السنن أهل السنن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 أصحاب السير 4/238 أصحاب الشجرة 3/363ت أصحاب شعبة 1/534ت أصحاب الشمال 3/544 أصحاب الضلالات 5/154، 160 أصحاب عبد الله بن أبي 4/213ت أصحاب عبد الله بن مسعود 3/193ت أصحاب عطية الجزري 1/332 أصحاب العقول 4/276ت أصحاب عيسى الاصفهاني 5/61ت أصحاب الكبائر 3/547 أصحاب الكتب 4/336ت أصحاب الكهف 4/161 أصحاب معاذ 4/298ت، 299ت، 300ت، 302ت، 303، ت306 أصحاب النار أهل النار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أصحاب النظر 3/475ت أصحاب النفوس الفاسدة 3/513ت أصحاب الهوى أهل الهوى أصحاب اليمين 3/544، 544ت الأصفياء 2/462ت، 3/147، 147ت، 4/210ت الأصوليون 1/30، 35، 40ت، 127، 131، 132، 133ت، 134، 195، 1/195ت، 256، 262، 278ت، 299ت، 411ت، 412ت، 1/415، 416، 442، 451ت، 462ت، 464ت، 466ت، 1/518ت، 2/11ت، 101، 171، 275ت، 416، 510، 532، 3/34، 57، 136ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 207، 207ت، 243ت، 253ت، 254، 3/259ت، 270ت، 283، 286، 305ت، 309ت، 341، 344، 3/346ت، 364، 365، 365ت، 373، 373ت، 380، 3/490، 4/9، 11، 14ت، 18، 21، 22، 23، 26، 43، 44، 4/45، 47ت، 57، 64، 69ت، 75، 83ت، 140، 157ت، 4/161، 293ت، 310، 312، 312ت، 373ت، 374ت، 4/419، 419ت، 454ت، 5/11ت، 12ت، 26، 411، 42، 54، 55ت، 63، 79ت، 5/95ت، 132، 197ت، 262، 265، 267، 285، 303، 334، 5/334ت، 347ت، 418، 419ت الأطباء 1/216ت، 2/365ت الأطفال 1/237، 2/93، 411، 3/87 أعداء الله 4/206 أعداء الدين 3/108ت الأعراب 5/385 الأعراب 1/223-، 2/276ت، 347، 347ت، 4/102، 162 الأغبياء 2/414ت، 465ت الافذاذ 1/9 الأقارب 1/251، 2/307 الأقدمون 1/71 الأماء المؤمنات 3/364 الإمامية 1/140 الأمراء 2/29ت، 308، 433، 454، 454ت، 3/118، 118ت الأمراء المؤخرون للصلاة 2/454، 454ت الأمم 1/4، 2/78ت، 124ت، 351ت، 485، 489، 3/116ت الأمة "أمة محمد صلى الله عليه وسلم" 1/56، 56ت، 68، 98، 99ت، 100، 196، 219ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 260، 271ت، 1/279ت، 280، 281ت، 310، 355، 447، 448، 499، 501، 1/520ت، 2/48ت، 144، 162، 212، 292ت، 336ت، 390، 393ت، 415، 415ت، 416، 2/418، 419، 420ت423، 425، 426، 427، 427ت، 428، 429ت، 430، 432، 432ت، 433، 433ت، 2/434، 434ت، 2/447، 449، 453ت، 459ت، 462ت، 469، 485، 535ت، 538-، 3/39، 40ت، 41، 51، 82ت، 84ت، 112ت، 113، 113ت، 119، 127ت، 163، 240ت، 244ت، 247، 281، 325ت، 329، 414ت، 497، 526، 548ت، 552ت، 557ت، 4/35، 82ت، 89، 91، 102، 144، 148، 228ت، 239ت، 248، 259، 280، 304، 316ت، 317ت، 326، 349، 387ت، 408ت، 429، 449، 451ت، 459، 470، 472، 5/61، 88، 93، 98ت، 109، 120، 120، 132، 145، 147، 151، 152، 154، 155ت، 157، 159، 172، 172ت، 173، 173ت، 175ت، 186ت، 253، 253ت، 257ت، 258ت، 295، 296ت، 310ت، 313، 351ت الأمم السالفة "الماضية" 1/472، 2/21ت، 117، 137، 427ت، 4/161 الأمم الغافلة 1/361 أمهات المؤمنين 2/421 أموات المسلمين 2/401ت الأميون 1/56ت، 65، 8ت، 131، 138، 147ت الأنبياء 1/4، 61ت74، 83، 85، 94، 120، 140، 256، 537، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 545، 546ت، 2/58، 61، 61ت، 191ت، 198ت، 419ت، 427، 427ت، 2/430، 437، 437ت، 462، 463ت، 465ت، 485، 3/81ت، 82ت، 112، 186ت، 362، 365، 460، 461ت، 556، 4/10، 11، 13، 76، 77ت، 86، 161، 180، 199، 206، 4/207، 272، 274، 417، 472-5/253، 270، 270ت، 290، 290ت، 293، 294، 298، 312 الأنصار 1/218ت، 223ت، 229ت، 268، 268ت، 478ت، 500ت، 2/59، 59ت، 60، 60ت، 224، 225، 285، 2/325، 352ت، 3/12، 12ت، 67، 68ت، 193، 195ت، 257ت، 342، 3/362ت، 547، 547ت، 5/35ت، 170، 214، 219ت، 241، 295 أنصار الله ورسوله 2/10ت أهل الإجماع 5/119، 302، 308ت أهل الأخبار 5/56ت أهل الأدب 4/234 أهل الأرض 2/ 301 أهل الاستقلال 5/283ت أهل إسقاط الحظوظ 2/255 أهل الإسكندرية 3/282ت، 497 أهل الإسلام المسلمون أهل الأصنام 4/244 أهل الأصول الأصوليون أهل الأعذار 1/498، 515 أهل الأعصار 2/509 أهل الاقتداء 5/302، 316 أهل الأمصار 2/254ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 أهل الانتماء إلى الإسلام 3/211 أهل الأندلس 1/11ت أهل الأهواء أهل الهوى أهل الأوثان 5/148، 150، 164 أهل الإيمان 1/193، 4/244، 337 أهل البادية "البدو، البداوة" 1/492ت، 2/275ت، 4/102، 5/100، 385 أهل بدر 4/458-5/329ت أهل البدعة المبتدعة أهل بريرة 1/455ت أهل البصائر 4/245ت أهل البصرة 4/194ت أهل البلد 2/59، 143ت أهل بلد إسماعيل بن عياش 5/381ت أهل البيان 4/217 أهل البيت 1/77ت، 252ت أهل البيت اللحميون 2/192ت أهل بيت النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم 1/179ت أهل التأويل 4/279ت أهل التجارب 5/46 أهل التحقيق بالسلوك 4/253، 255ت أهل التشبيه 4/223 أهل التصوف 1/116، 5/240 أهل التعديل النجومي 1/60 أهل التعطيل 2/198ت أهل التفريع والبسط للمسائل 3/302 أهل التفسير المفسرون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 أهل التقوى 2/311، 366ت أهل التواتر 2/79 أهل التواتر 2/92 أهل الثقة والعدالة 2/94 أهل الجاهلية 2/524، 3/194-، 417ت أهل الجحيم 5/178 أهل الجزم من العلماء 3/526 أهل الجفاء 1/492ت أهل الجنان 2/54 أهل الجنة "أصحاب الجنة " 1/446، 2/54، 359ت، 444ت، 3/110، 399، 399ت، 3/545ت، 546ت، 4/167 أهل الجهالة والجفاء 4/105ت أهل الحجاز 3/360ت أهل الحديث 1/305ت، 2/521، 3/203، 259ت، 505ت، 4/252ت، 302ت، 303ت، 4/365ت، 374ت، 5/386ت أهل الحرب 3/54، 54ت، 5/417ت أهل الحصن 3/268ت أهل الحظوظ 2/327 أهل الحق 2/197ت، 336ت، 5/175ت، 289 أهل الحكمة الفلسفية 2/524 أهل حمص 4/298ت، 302ت أهل الخصوص 2/465ت أهل خط الرمل 1/60 أهل الخلود في النيران 2/54 أهل الخوارق والكرامات 1/545 أهل الدراهم 5/381 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 أهل الدين 2/32، 3/93، 93ت، 109، 5/267 أهل الذكر 2/525ت، 5/337 أهل الذمة 1/176ت، 255، 300ت أهل الرتبة 3/287 أهل الردة المرتدون أهل الرفض 4/227ت أهل الزيغ 1/64ت، 3/30، 313، 5، 145، 165 أهل السفسطة 1/122 أهل السفينة 2/223 أهل السلوك 4/253، 255ت أهل السماء 1/349، 363ت، 2/199ت، 311، 354، 4/455ت أهل السماوات والأرض 2/354، 5/203ت أهل السنة 1/40ت، 62ت، 64ت، 316ت، 358ت، 522ت، 2/28ت، 336ت، 519ت، 3/210ت، 281، 369ت، 373ت، 4/13، 259، 278ت، 448، 5/175ت، 208ت، 242، 391ت أهل السنن 1/294ت، 2/28ت، 468ت، 4/368ت، 5/15ت أهل السوق 3/567، 567ت أهل الشام 2/455ت، 4/133ت، 134ت، 151، 5/327 أهل الشبهات 5/155ت أهل الشرائع 5/422ت أهل الشرع "الشريعة " 1/56، 355، 2/81، 146، 4/144، 5/241 أهل الشرك 1/294ت، 4/170 أهل الشهادتين 4/259 أهل الشورى 5/86 أهل صفين 5/391 أهل الصلاح والتقوى 2/498 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 أهل الصناعات 3/289ت أهل صنعاء 3/178ت أهل الصيام 3/144، 144ت أهل الطائف 2/249ت أهل الطاعة 2/150، 3/371، 515ت أهل الظاهر الظاهرية أهل الظواهر الظاهرية أهل العادات الجارية 2/501 أهل العدالة 1/209، 539، 540 أهل العدد 1/60 أهل العراق 3/204، 360ت، 4/130ت، 5/88، 327 أهل العربية 2/103، 138، 4/18، 44 أهل العرف 2/268ت، 274ت أهل عرفة 2/253ت، 254ت أهل العزائم 1/547 أهل العصر الأول 2/29ت أهل العفاف 2/374 أهل العلم العلماء أهل العلوم العقلية والنقلية 4/57 أهل العلوم والطبيعية 1/59 أهل العوائد الظاهرة 2/501 أهل العينة 1/381 أهل الغرف 3/546ت أهل الغناء 2/249 أهل القبلة 2/173ت أهل القدر 2/336ت أهل القراءات 2/132 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 أهل القرآن 2/92 أهل القرية 2/158 أهل الفترات "الفترة" 2/77، 518، 3/44 أهل الفقه 4/301ت أهل الكتاب "الكتابين 1/93ت، 96، 2/92ت، 129، 264، 351ت، 444ت، 3/354، 4/32ت، 5/207ت أهل الكفر الكفار أهل الكلام المتكلمون أهل الكيمياء 1/60 أهل اللسان 2/135، 228ت، 264 أهل اللغة 2/105، 526ت، 4/274ت أهل المحبة 2/337 أهل المدينة 1/242ت، 461ت، 3/69، 92ت، 190ت، 203ت، 227ت، 253ت، 270ت، 271ت، 4/36، 367ت، 387ت، 388، 5/216ت، 302ت، 308ت، 330، 333ت، 413 أهل المذاهب 3/131، 5/288 أهل المذاهب 3/429 أهل المذهب المطعون عليه 5/287 أهل المرأة 1/383 أهل المروءة 1/213 أهل المشرق 2/489، 4/129ت أهل مصر 3/418ت، 5/327، 330 أهل المصر 1/211 أهل المعرفة بالحديث 2/452ت أهل المعصية 3/371 أهل المغرب 2/489-5/325 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 أهل المكاشفات والمخاطبات 2/462ت أهل مكة 4/194ت، 234 أهل الملل 4/350ت أهل المنطق 1/60، 5/413ت، 418، 419ت، 420، 421 أهل النار 1/76ت، 536ت، 2/56، 444ت، 3/399، 399ت، 545ت، 4/167 أهل النبي صلى الله عليه وسلم 2/158ت، 198ت، 3/68ت، 146 أهل النسب العددية 1/60 أهل النظر 1/163ت، 2/462ت، 5/422ت، أهل النعيم 5/178 أهل النقل 4/301ت، 305ت أهل الهندسة 1/60 أهل الهوى 1/112ت، 502ت، 2/94، 264، 325، 336ت، 475ت، 5/154، 155ت، 175ت، 221، 222 أهل الوعظ والتذكير 2/126 أهل الولاية 1/117 أهل اليمامة 4/458ت أهل اليمين 2/435ت أولاد زيد 4/373ت أولو العزم من الرسل 1/503 ألو العلم 1/92 الأولون 1/11، 30، 40ت، 74ت، 113ت، 126ت، 131، 148، 148ت، 149، 150ت، 153، 153ت، 170، 259ت، 452، 2/105، 110، 120، 127، 137، 195ت، 244، 426، 510، 3/23ت، 38، 78ت، 209، 252، 253، 265، 279، 280، 281284، 285، 286، 287، 288، 289، 319، 344، 364، 4/38ت، 161، 304ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 306ت، 5/39، 126ت، 130، 157، 158 أولياء الله "الأولياء" 1/473، 485، 501، 542، 543، 546، 2/198ت، 224، 428، 439، 456، 462، 462ت، 465ت، 466، 469، 2/471، 485، 501، 504، 506، 3/140، 530، 4/161، 206، 207، 469، 473، 5/203ت أولياء الشيطان 5/163 البائعون 1/424ت، 434 الباحثون 2/128ت، 142، 265ت، 5/54، 176ت الباطنية 1/121، 122-2/127ت، 465ت-4/232، 243ت، 249، 252، 254، 261، 265ت البخلاء 4/43ت البدريون أهل بدر البصريون 1/115ت، 116ت-4/365ت البغداديون 2/400ت البلغاء 4/144، 181ت بنات الاصفر 1/515 بنو إسرائيل 397ت، 406ت، 5/146، 151، 211، 292، 388 بنو أمية 2/29ت-4/254ت بنو تميم 2/423ت-4/234 بنو الحارث بن الخزرج 2/59-5/295 بنو الديل 4/190ت بنو ساعدة 2/59-5/295 بنو سعد 5/271ت بنو سلمة 2/223، 226ت بنو عبد الأشهل 2/59، 59ت-5/295 بنو عبيد بن عدي 4/190ت بنو النجار 2/59، 59ت-5/295 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 البيانية 4/226، 226ت التابعون 1/7، 55، 73، 74ت، 114، 144، 149، 163ت، 184، 187، 189ت، 193، 448ت-2/29، 94، 127، 142، 145، 159242، 286ت، 315، 342، 410، 440ت، 447ت، 504-3/119، 260، 270، 271، 280، 328، 560-4/67ت، 132ت، 248، 277ت، 279، 278ت، 284، 303ت، 384ت، 457-5/37، 140ت، 162، 198ت، 235، 423ت التلاميذ 1/123ت تلامذة الصوفية 1/517 ثقيف 1/500ت الجاهلون 3/392 جماعة المسلمين 1/9 جماعة من التابعين 1/408 ت جماعة من الحفاظ 1/486 ت جماعة من الصحابة 1/347 ت جماعة من العلماء 1/466 ت الجماهير 3/13 الجمهور 1/20، 39، 40ت، 41ت، 67ت، 68، 70، 85، 117، 140، 202ت، 216ت، 251ت، 365، 365ت، 370ت، 387، 400، 401ت، 403ت، 412ت، 444ت، 469ت، 486ت، 492، 501-2/72ت، 75ت، 81109ت، 113، 136، 137، 141، 143، 145، 146، 146ت، 147، 147ت، 150، 168، 286ت، 413، 434ت، 490، 506، 532-4/40ت، 46ت، 47ت، 122، 196ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 419ت-5/11ت، 119ت، 162ت، 173ت، 176ت، 214ت، 236ت، 241، 268ت، 269ت، 276، 280 الجمهور "جمهور الأئمة" 14ت، 16ت، 20ت، 56ت، 73، 128ت، 138، 138ت، 155ت، 210، 307، 362ت، 369ت، 431، 482ت، 492ت، 493ت، 518ت، 564ت جمهور اهل السنة 1، 542ت جمهور الخلق 2/109ت جمهور مصنفي السير 2/191ت جمهور الناس 2/130ت جند الإسلام 2/95 الجن 2/346، 347ت جهابذة الجرح والتعديل 1/426ت-4/300ت جهابذة الحديث 4/304ت جهابذة الفلسفة 2/78ت جهال أهل الحق 5/289 الجهال 1/358ت الجهلة 2/221ت الجهمية 1/62ت، 63ت، 2/158ت الجيش 2/479ت-3/57ت، 94 جيش أسامة 1/504، 504ت جيش العدو 2/341ت الحروية "الحرويون" 2/336، 337ت، 526ت-4/149، 149ت، 221ت-5/175ت، 176ت حزب الله 2/10ت حفاظ الحديث 3/49ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 الحكماء 1/80-2/126-3/152 الحكماء المتقدمون 3/152 حماة الدين 2/95 الحمقى 5/309 الحنابلة 1/390ت-2/401ت، 402ت-3/23ت، 271ت، 129ت-4/12ت-5/11ت الحنفية "أصحاب أبي حنيفة" 1/128ت، 300ت، 380، 444ت، 453ت، 455، 2/19ت، 161، 171ت، 199ت، 402ت، 402ت، 534ت-3/19ت، 23ت، 32، 126ت، 129ت، 131، 138، 200ت، 201ت، 23ت، 205ت، 249ت، 466ت، 501ت، 519ت-4/678ت، 76ت، 103، 106ت، 134ت، 308، 434ت-5/217ت، 223ت، 275ت، 412ت الخاشعون 2/234ت، 406ت خاصة الناس 2/130ت خزاعة 4/155 الخصماء 4/199 الخطابية 5/119ت، 120ت الخلطاء 3/59 الخلف 4/305ت، 5/144ت الخلفاء 4/109-5/256ت الخلفاء الأربعة "الراشدون" 3/253ت، 271-4/133ت، 135ت، 291، 293، 449، 456، 456ت الخوارج 3/313ت، 317-4/91، 221، 223، 331-5/119ت، 148155، 157157ت، 158، 164، 172، 174، 174ت، 176، 323ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 الخواص 1/9، 121-2/109ت، 1/9، 121-2/109ت، 141، 145، 147، 414 الخلافيون 2/517 الدافة 2/275، 276ت-4/156 الديلم 3/97 ذوو الأرحام 3/473 ذوو الأفهام 5/422ت ذوو الصلاح 1/269، 296ت ذوو المروءة 1/269، 269ت ذوو الهيئات 1/269، 269ت، 270، 27ت، 271ت العلماء الراسخون 1/121، 426ت-2/71، 78ت-3/216، 323ت، 324ت، 326ت-4/40، 135ت، 138-5/145 الرافضة 3/281-4/226ت، 234 ربانيو العلماء 1/285 الربانيون 5/36ت رجال من أهل العلم 1/426ت الرسل 1/145ت، 181، 198، 204ت، 2/12، 198ت، 366، 463ت، 465ت-3/558ت الرهبان 2/333، 334 رهبان النصارى 2/333 الرواة 1/21-3/49ت الروافض 4/227ت-5/119ت الرؤساء 2/348 الروم 4/35 الزائغون 3/323-4/210ت-5/71 الزنادقة 2/413، 414ت، 465ت، 507ت، 3/93ت، 548ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 زنادقة الباطنية 2/465ت الزهاد 1/352-2/464ت السابقون 1/4-2/244-3/544، 544ت الساعون على الإسلام 2/261 السالكون طرق الأعمال 2/298 السحرة 1/57، 91، 91ت السعود 1/499ت-5/407ت السفراء 2/465ت السفهاء 1/81، 87، 534، 535 السلف الصالح "السلفية، السلفيون" 1/13، 55، 70، 71، 71ت، 77ت، 84، 86، 99ت، 100، 117ت، 129، 142، 144ت، 150ت، 100، 117ت، 129ت، 142، 144ت، 150ت، 174، 191، 358ت، 389، 424ت، 450، 452-2/62، 94127، 127ت، 130ت، 132، 195ت، 196ت، 198ت، 199ت، 216ت، 218ت، 247، 250ت، 257ت، 262، 320، 323ت، 336ت، 401ت، 456، 465ت، 498، 506، 519-3/39، 41، 58، 90، 128، 128ت، 143ت، 157، 158، 162ت، 190، 195، 252، 253ت، 262ت، 264/265، 270ت، 280، 281، 281ت، 282، 283، 284، 290، 318321، 323ت، 423ت، 325ت، 328، 329، 401، 407ت، 414، 499، 529، 530، 421-4/23ت، 33ت، 34، 40، 4859، 79، 96، 108، 137ت، 144، 147ت، 183، 198، 223ت، 227ت، 235، 235ت، 248، 250، 253، 259، 261، 265ت، 274ت، 276ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 277ت، 279، 279ت، 283ت، 284، 305ت، 308، 350، 401، 457، 458-5/139، 175ت، 184ت، 200، 210، 216، 266، 266ت، 267، 276ت، 280، 298، 315، 317، 324، 374، 391، 423 السوفسطائية 5/402 السوفسطائيون السلاطين 1/111 الشافعية 1/251ت، 343ت، 380ت، 412ت، 457ت-2/400، 401ت، 490ت، 517ت-3/16ت، 23ت، 131، 200ت، 249ت، 262ت، 466ت، 429ت، 501ت-4/65، 76ت، 434ت-5/14ت، 79ت، 80ت، 171ت، 184ت، 197، 216ت، 275ت الشاميون 1/49ت-2/521ت-3/117ت، 118ت-4/280ت الشعوب الإسلامية 1/280ت، 332ت الشمعونية 5/61ت الشهداء 1/83-2/415ت شياطين الإنس 5/155ت الشيعة 5/21ت الشيوخ 1/142، 144، 515 شيوخ الصوفية 1/517 شيوخ العصر 1/159 الشيوخ المتقدمين 1/159 شيوخ المغرب 1/160 الصائمون 3/144ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 الصالحون 2/250ت، 299، 415ت، 498ت-5/365ت الصبيان 1/466، 466ت، 541-2/408 الصحابة 1/7، 14، 50ت، 73، 73ت، 74، 8193، 114، 142، 144،145، 149، 156ت، 157ت، 163ت، 184، 187، 193، 228، 238ت، 314ت، 334، 374، 458ت، 499، 500ت، 501، 501ت، 503، 504ت، 509، 517ت، 523، 523ت، 525، 545-2/81، 94، 109ت، 126ت، 127، 142، 145، 159ت، 227ت، 240، 242، 284، 286ت، 315، 317ت، 342، 409ت، 410، 412، 417، 417ت، 425، 430ت، 439، 440ت، 441ت، 447ت، 454، 461، 467، 468ت، 469ت، 478ت، 479ت، 498، 503، 504، 505، 507516ت، 517ت، 543ت، 544-3/11ت، 49، 50، 68، 76، 76ت، 82ت، 83ت، 119، 126ت، 191ت، 195ت، 200ت، 227ت، 253ت، 254ت، 255ت، 257ت، 260، 262ت، 263، 264، 267ت، 270، 271، 279ت، 280، 281، 286ت، 287ت، 298ت، 328، 352ت، 353ت، 401، 402ت، 407ت، 415، 499، 520، 535، 555ت، 560، 561، 566ت، 567-4/23ت، 26، 33، 60، 66، 87، 88ت، 102، 105ت، 107، 107ت، 110، 116، 122، 126ت، 127، 131، 132ت، 134، 136ت، 147ت، 153، 179، 190، 192ت، 164، 195ت، 210، 211، 243ت، 248، 276، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 277ت، 278، 278ت، 279ت، 284، 290، 290ت، 291ت، 292ت، 293، 293ت، 314ت، 337ت، 398ت، 423ت، 424ت، 428، 439ت، 442ت، 446، 446ت، 447، 447ت، 448، 448ت، 450ت، 451ت، 452، 452ت، 455ت، 456، 457، 457ت، 458، 458ت، 459، 461، 462ت، 463، 468ت، 490ت، 491ت-5/37ت، 53، 54ت، 59ت، 60ت، 67، 68، 75، 76، 79ت، 81، 82، 104، 123، 137ت، 138، 139، 140ت، 146، 147، 147ت، 150، 156، 160، 161ت، 162ت، 170، 181، 193ت، 196ت، 197، 198ت، 211، 240، 244، 145ت، 247، 248، 276، 276ت، 298، 303، 304، 304ت، 324، 343ت، 352ت، 357ت، 366، 375، 375ت، 380ت، 385، 395، 407، 407ت، 408ت، 409، 410ت، 423ت الصديقون 2/334، 415ت الصناع 1/367-3/157، 157ت-4/291، 291ت الصوفية 1/116، 191، 210ت، 358، 358ت، 536ت-2/127ت، 130ت، 359، 405، 405، 413، 413ت، 507، 3/70، 93ت، 153، 250ت، 325ت، 536، 544-4/122، 196، 200ت، 206ت، 3235ت، 243ت-5/240، 241ت، 246، 399 الضعفاء 1/64، 80ت، 98ت، 122ت، 534ت-2/326ت-3/149ت الطائعون 1/299ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم 2/438ت الطاعنون 3/214ت، 216 الطالبون لحظوظهم 2/320 الظالمون 3/393 الظاهرية 1/131-2/9ت، 10ت، 81-3/133، 138، 227ت، 404ت، 408ت، 411ت، 420ت-4/189، 189ت، 227ت-5/21ت، 149ت، 162ت، 230، 231 العارفون 2/94-3/250ت العارفون بالسنة 2/243ت العالمون 1/92-2/309 العامة 1/59-2/10ت، 107414، 465ت العاملون 1/332ت العباد 1/116ت، 310-2/8ت، 9، 10ت، 11، 10ت، 11ت، 12، 232، 249، 464ت، 475ت- العباد المخلصون 3/548ت العجم 3/147 العدو 1/4-2/102، 103، 104، 104ت، 105، 106، 198ت العراقيون 1/368-3/116ت العرب 4/457ت 1/39، 43ت، 59، 65، 65ت، 68، 212، 350ت، 485، 499، 499ت، 500ت، 2/93، 101، 102، 103، 104، 104ت، 105، 107109ت، 111، 111ت، 112، 114، 114ت، 116ت، 117، 117ت، 118ت، 120، 122، 124ت، 126، 127، 128، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 128ت، 129، 130، 130ت، 131، 131ت، 133، 135، 136، 137، 138، 140، 144، 145/152، 158ت، 194، 198ت، 209، 218، 257، 272، 397، 399ت، 489-3/172ت، 173ت، 180ت، 214ت، 249، 249ت، 250، 321، 321ت، 329، 346، 383، 419، 435ت، 460، 471ت، 494-4/1920، 2122، 23، 24، 25ت، 26، 27، 31، 33، 34، 48، 89، 132ت، 138، 144، 146، 154، 154ت، 155، 227، 227ت، 228ت، 229، 232، 236، 238، 239ت، 240ت، 241، 247، 248، 250، 261، 262، 263، 263ت، 264، 265ت، 277، 277ت، 278ت، 283، 375ت، 401-5/48ت، 53ت، 54، 54ت، 56، 56ت، 62ت، 292، 401، 403، 404، 418 عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم 2/383 عصاة المؤمنين 5/158 العقلاء "أهل العقول" 1/64، 64ت، 65ت، 140، 311، 423ت، 537-2/10ت، 204، 214، 287، 518، 523ت، 529، 3/73، 90، 180، 208، 209، 376ت، 386ت، 385، 389418، 418ت، 438ت، 440، 440ت-4/71ت، 112، 376ت، 474-5/42ت، 110ت، 120، 165، 234، 274، 285، 285ت عقلاء العرب 2/112 العقلانيون 1/65ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 العلماء 1/11، 13، 54، 55، 65ت، 7581، 81ت، 93، 84، 84ت، 85، 87، 91، 92، 94، 104، 115، 126ت، 142ت، 143، 144، 144ت، 145، 147، 148، 148ت، 164، 184، 187، 205، 213، 216ت، 221، 238ت، 251ت، 277، 278، 280، 280ت، 282، 292، 332، 346ت، 361ت، 387، 389، 389ت، 398، 398ت، 403، 416ت، 417، 426ت، 427ت، 442ت، 446ت، 480، 486ت، 492ت، 494، 495، 508، 513-2/27، 58، 68، 76ت، 78ت، 79، 92، 95، 110، 145، 150ت، 204، 204ت، 221ت، 250ت، 286ت، 313، 316، 364ت، 387، 395، 398ت، 399، 410، 429، 430، 439، 456، 459ت، 463، 468ت، 473ت، 478ت، 490ت، 507، 507ت، 512، 3/13، 17، 38، 39، 49ت، 70، 90، 9192ت، 96، 97ت، 98ت، 125، 126، 130ت، 134، 148ت، 161ت، 163ت، 173ت، 181، 186ت، 187ت، 190ت، 203، 206ت، 207، 210، 212، 248، 263، 271ت، 281، 324ت، 325ت، 326ت، 340، 347ت، 351ت، 356، 359ت، 389ت، 420، 426، 427، 436، 439، 451، 472ت، 485، 475ت، 480-4/39، 69، 70، 76، 77ت، 78، 78ت، 86، 88، 90، 100، 105ت، 109، 111، 114، 123ت، 134، 138155، 174، 189، 198، 204، 226، 235، 241ت، 257، 261، 262، 263، 276ت، 277ت، 284، 291ت، 299ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 302ت، 305ت، 308، 309، 325، 328، 343، 345ت، 365ت، 393ت، 401، 403، 435، 437، 456، 457، 460، 461ت-5/15ت، 37، 38، 47، 66، 67، 69ت، 76، 82ت، 88، 93، 98ت، 111ت، 117، 123، 127، 132ت، 135ت، 139، 142ت، 143، 149، 159، 161ت، 162ت، 163ت، 165، 167، 173ت، 174، 176ت، 182، 186ت، 207ت، 214، 221، 234، 241، 269، 272، 276، 278، 286، 289، 291، 298، 312ت، 316، 316ت، 317، 317ت، 324، 325، 328ت، 333، 384، 413 علماء الأصول 1/466 علماء الأمصار 1/244ت علماء التخلق 1/452 علماء التفسير 3/324ت-4/235ت علماء الحديث 4/302ت-5/32ت علماء السلف 1/90ت، 492ت علماء السوء 1/76، 95، 103 علماء صقلية 2/110ت علماء الطبيعة 3/151ت علماء العجم 4/30ت علماء العصر "أو القطر" 2/268ت-3/188ت علماء الفقه 1/452-3/324ت علماء الكلام 3/324ت العلماء اللغة 1/132ت علماء المتأخرون 1/90ت علماء الملة 4/69 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 العلماء من الخلق 1/492ت علماء الناسخ والمنسوخ 3/305 العلمانيون 1/65ت العميان 1/515 العنانية 5/61ت العيسوية 5/61ت الغالون في مذهب الإباحة 2/506 الغرباء 1/151-4/211ت-5/240ت الغصان 3/18 الغلمان 2/464ت الفئة الباغية 2/452، 453ت الفاسقون 1/209-2/414ت-3/515-4/112-5/70ت فرس 4/35 فرق الإسلام 1/549ت الفرق الإسلامية 1/98ت الفرنجة 3/388ت فريق من أهل العلم 1/492ت الفصحاء 4/144، 199 الفضلاء 2/299، 2/315، 2/504، 3/149، 3/263، 4/252، 5/283ت الفقراء 2/21ت، 2/123، 2/473، 3/365ت، 3/392، 4/194ت، 5/234 فقراء المؤمنين 2/426 الفقهاء 1/40ت، 100، 109ت، 114ت، 124ت، 153ت، 166ت، 216ت، 220ت، 225، 247ت، 252، 299ت، 328، 331، 344، 367، 378، 378ت، 424ت، 2/152ت، 153ت، 207، 254، 268ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 295، 296، 475، 479ت، 490ت، 505، 3/13، 14ت، 56ت، 73، 74ت، 85ت، 97، 138ت، 190ت، 243ت، 263، 279، 281ت، 325ت، 411ت، 425، 454، 483ت، 503، 4/207، 255ت، 305ت، 373ت، 374ت، 454ت، 5/66ت، 72ت، 79ت، 84، 84ت، 86، 87، 88، 90، 91، 5/122، 161ت، 5/162ت، 188، 232ت، 238، 239، 244، 246، 422ت فقهاء الأمصار 5/162ت فقهاء الشافعية 5/184ت فقهاء الكوفة 5/231 فقهاء المالكية 1/219ت، 1/330 الفقهاء المتأخرون 2/11 الفلاسفة "أهل الفلسفة" 1/54، 1/55، 1/71، 1/316، 2/49، 50، 413، 2/446، 3/152، 282ت، 4/199، 200، 5/422، 422ت القائلون بإعجاز القرآن بالفصاحة 4/217 القائلون بأن العلم عقب النظر 2/182ت القائلون بتأثيم المخطئ 1/259ت القائلون بالقياس 2/529ت القائلون بالمفهوم 5/213، 213ت القائلون بأحكام السنة 2/506 القبائل 1/500ت قبائل العرب 1/500ت القبائل المرتدة 1/504ت القبيلة 1/100 القدرية 1/316ت، 5/174 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 القراء 1/100، 94، 2/295، 2/296 القراء الأكابر 2/93 القرشيون 5/295 قريش 1/279ت، 1/500ت، 2/110ت، 2/430ت، 3/240ت، 4/152، 292ت، 5/35ت، 246ت، 5/295، 5/332، 332ت قضاة أهل الشام 2/455ت الكبراء 2/387 الكذابون 1/242ت الكفار "أهل الكفر " 1/41، 85ت، 120، 255ت، 330، 444ت503، 2/64، 158، 261، 282، 352ت، 415ت، 444ت، 479ت، 486، 3/54ت، 57، 3/60، 61، 69، 76، 209، 349، 355، 392، 394، 3/397، 422، 547، 4/20، 21، 22ت، 24، 35، 36، 4/38، 39، 39ت، 40، 149، 161، 167، 176، 179، 4/201، 202ت، 206، 207، 212، 215ت، 222، 223، 243ت، 4/245، 255ت، 270، 272، 274، 5/130، 164، 164ت، 240ت، 275ت، 5/399ت، 403، 415 كفار قريش 4/31ت كنانة 2/430ت الكوفيون 1/115ت، 1/116ت، 4/365ت الماتريدية 2/518ت المارقون 2/462ت المالكون 1/375ت المالكية "أصحاب مالك" 1/251ت، 292ت، 339ت، 380، 412ت، 435ت، 1/492ت، 2/490ت، 492، 524ت، 3/14ت، 23ت، 47ت، 53ت، 205ت، 429، 466ت، 4/65، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 5/13ت، 14ت، 5/90، 101، 5/163ت، 184ت، 186ت، 187ت، 193ت، 5/195ت، 196، 216ت، 217ت، 218ت، 332، 385، 5/400ت، 412ت المأمورون 2/305ت، 308 المأمومون 1/470 المبتدعة "أصحاب البدع، أهل البدع" 1/52ت، 1/64ت، 2/94، 120ت، 335، 336ت، 3/281، 4/228ت، 278ت، 329، 5/154، 155ت، 156، 157، 157ت، 159، 160، 174، 175ت، 263ت، 5/331 المتأخرون 1/38، 1/112، 132ت، 1/148، 148ت، 149، 153، 161، 1/259ت، 2/86، 103، 107، 127، 153ت، 510، 4/121ت، 137ت، 157ت، 304ت، 331، 5/147، 216ت، 420 المتبتلون 2/475ت المتبوعون 2/508 المتخاصمون 2/301ت المتحاكمون 1/540 المتعاقدون 2/462ت المتبارون 2/348، 349ت المتجالسون في الله 2/187ت المتحابون في الله 2/187ت المتحكمون 2/187 المترخصون 1/122 المتردون 1/540 المتزاورون في الله 1/506ت المتعاقدون 2/187ت 1/408ت، 410ت، 2/40 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 المتعمقون 3/415ت المتعمقون في القياس 3/133 المتفقهة 2/216ت المتفقهون 5/140 المتقدمون الأولون المتقون 1/64ت، 74، 76ت، 86، 97، 160، 189، 1/190ت، 3/515، 5/66 المتكلمون 1/127ت، 2/105، 2/216ت، 4/231، 518ت، 5/422ت المتنازعون 1/259ت، 2/293 المتنبؤون من العرب 1/500ت، 501ت المتوكلون 1/328، 330 المجانين 1/237، 515، 2/408، 411، 3/87 المجاهدون 3/546ت، 293، 4/394ت المجتهدون "أهل الاجتهاد" 1/17ت، 163ت، 165، 268، 359، 373، 377، 1/380، 397، 405، 3/39، 44ت45، 180، 3/173ت، 180، 190ت، 286، 287، 287ت، 321ت، 3/475، 4/33ت، 132، 134، 147ت، 278، 284، 316ت، 317، 4/344ت، 382، 390، 5/51، 5/59، 5/60ت، 65ت، 66ت، 5/68، 68ت، 73، 73ت، 74، 74ت، 77ت، 79ت، 81، 5/81ت، 91ت، 98ت، 116، 116، 116ت، 124ت، 125، 126، 127ت، 5/139، 140، 142، 180ت، 189ت، 218، 219، 219ت، 220، 220ت، 5/223، 229، 255ت، 334ت، 336، 337، 341، 346ت، 408ت المجوس 1/122ت مجوس الأمة 5/174ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 المجهولون 1/242ت المحاربون 2/261، 3/54ت، 60 المحافظون على اتباع السنة 2/506 المحبون 2/247ت264ت337ت358 المتحاجون 1/247، 2/123، 5/234 المحدثون 1/450ت، 2/462ت، 3/190ت، 4/30ت، 4/157ت، 5/154 المحرضون 4/210ت المحسنون 1/242 المحصنات 1/200 المحققون 1/211ت، 216ت، 384، 434ت، 464ت، 2/92ت، 2/182، 294، 364ت، 532، 529، 3/73ت، 5/32ت، 123 المخاطبون 2/462ت المخالفون 2/27ت، 95، 158ت، 221 المخبرون 2/82 المخلدون 2/56، 57 المخلصون 2/356، 434ت المخلوقون 2/197ت المدعون "للاجتهاد" 3/183ت، 1/358ت المدينون 2/400ت، 3/15ت المذنبون 5/151 المراؤون 2/373، 3/109، 124، 140، 5/188 المرتدون 1/500ت، 2/336ت، 5/408 المرجئة 4/259 المرسلون 1/130ت، 181، 184 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 المسافرون 1/242،388،483،523،523،524ت،527ت،1/528ت،5/212 المساكين 1/433،446،2/123،3/22ت، 110، 110ت، 3/121، 122، 122ت، 392، 567، 5/234 المسئولون 2/67ت المستشرقون 1/85ت، 2/130ت المستضعفون 2/365ت المسلمون "أهل الإسلام" 1/54، 85، 112ت، 122ت، 129ت، 143، 156ت، 1/157، 187ت، 205ت، 223ت، 256، 275، 281ت، 286، 294، 329ت، 401ت، 443، 481ت، 500ت504، 510، 2/107، 168ت، 198، 205ت، 253ت، 282، 2/315ت، 325ت، 327ت، 335، 336ت، 341، 341ت، 2/351، 364ت، 413، 464ت، 486، 490ت، 3/23، 39، 41، 3/33، 57، 57ت، 65، 65ت، 90، 93، 101، 3/101ت، 116، 116ت، 125، 128ت، 131، 158، 162، 190، 224ت، 239ت، 3/272، 289، 326، 348ت، 355، 359، 360، 407، 408، 430، 3/522، 531، 547، 560، 566، 567، 4/36، 243ت، 244، 4/22ت، 36، 36ت، 102، 105، 130، 165ت، 214ت، 221، 259، 4/277ت، 292ت، 293ت، 317ت، 321ت، 324، 325ت، 5/148، 150، 155ت، 164، 164، 165، 174، 175ت، 5/186ت، 191ت، 192، 201ت، 221ت، 235، 240، 241، 5/242، 245ت، 263ت، 293، 341، 376، 407، 422ت، 423ت المشبهة أهل التشبيه المشركون 1/466، 533، 2/264، 444ت، 3/43ت، 3/215، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 236ت، 349ت، 355، 356ت، 514ت، 4/36، 46ت، 202ت، 212ت، 256ت، 440ت، 441ت، 4/256، 5/180ت، 245ت مشيخة قريش 3/195ت المصنفون 3/302، 147ت المصوبة 5/71ت مضر 2/423، 423ت، 424ت المطروحون في قواعد الدين 2/499 المطلعون 2/128ت المعاندون 1/500ت المعتبرون في الدين 2/286 المعتزلة 1/39، 39ت، 40ت، 41ت، 128ت، 1/129ت، 316ت، 322ت، 542ت، 549ت، 2/11، 49، 50ت، 71، 71ت، 76ت، 77ت، 2/88ت، 89ت، 90، 90ت، 171ت، 198ت، 2/206، 294، 518ت، 3/96، 210ت، 249ت، 3/313، 317، 369ت، 373ت، 376ت، 377ت، 42ت، 4/56، 339ت، 5/21، 66ت المعذبون 2/55ت المعطلة أهل التعطيل المغاربة "أنظر أهل المغرب" 2/400ت المغفلون 2/499ت5/309 المفتون المتأخرون 5/81 المفردون 5/27ت المفرطون 1/241 المفسرون 1/92ت، 96ت، 2/129، 284ت، 427ت، 3/305، 329، 349ت، 518ت، 4/311، 315ت، 4/426، 5/160، 210، 211، 215، 312، 236ت، 237ت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 5/362ت، 365ت المقاتلة من المؤمنين 1/504ت المقربون 3/544ت، 548، 548ت المقسطون 5/32 المقصرون 1/241، 242 المقلدون 5/76، 140 المكلفون 1/43ت، 181، 196، 219، 251، 252، 253، 1/259، 261، 274ت، 278ت، 372، 464، 498، 1/505، 507، 543، 2/21، 21ت، 32، 45ت، 2/62، 62ت، 63، 65، 142، 144ت، 205ت، 2/261، 274، 364ت، 400ت، 407، 475، 483، 2/527، 3/24ت، 27ت، 123ت، 208، 3/222، 232، 241، 308، 401، 440، 477، 3/511، 544، 4/91، 140، 253، 256، 257ت، 406، 5/17، 22ت، 23ت، 25، 78، 179، 5/187، 195، 228، 229ت، 230، 232، 5/234، 257، 269 المكلمون من الصوفية 2/507 الملائكة 1/92، 93ت، 148، 148ت، 177ت، 1/349، 362، 363ت، 2/155، 393، 413، 428، 439، 445، 446، 3/147، 152، 282ت، 283ت، 320ت، 356ت، 3/362ت، 4/24، 31، 31ت، 271، 4/324، 325، 388، 5/393، 393ت الملاحون 2/113ت الملازمون لطرق الخير 2/298 الملحدون 3/97ت، 282ت ملحدوا هذا العصر "القرن العشرين" 3/89ت الملهمون 2/462 ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 الملهوفون 1/247 الملوك 2/298، 348 الممتنعون 2/449 المخرقون 3/188ت المنافقون "أهل النفاق" 1/87، 244، 503ت، 2/59، 168، 168ت، 2/373، 415ت، 467، 505، 3/31، 76، 3/109، 110، 124، 140، 188ت، 349ت، 3/402، 515ت، 548ت، 4/38، 76، 4/110ت، 156، 213، 326، 426، 4/428، 5/180ت، 188، 191 المنتسبون إلى العلم 4/241 المنجمون 1/122ت، 2/144ت المنصورية 4/226، 226ت المنقطعون 2/232، 249 المهاجرون 1/268ت، 369ت، 2/325، 3/194، "الأولون"3/195، المهاجرون 4/194ت، 5/170، 214 المهتدون 2/434ت المهندسون 2/346، 365ت المؤلفون 4/42ت المؤمنون "أهل الإيمان" 1/74، 115ت، 184، 193ت، 278، 456ت، 2/168، 198ت، 284، 415ت، 436ت، 444ت، 2/464ت، 3/65، 66، 76، 342ت، 355، 356، 3/364، 364ت، 39ت، 40، 40ت، 66ت، 112ت، 113، 148، 149، 151، 4/179، 215، 222، 282ت، 326، 364ت، 5/305ت، 5/204ت الموحدون 2/54، 55ت المؤذنون 3/421ت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 المولدون 3/421ت المؤمنات 1/200، 4/22ت الميمونية 5/151ت الناظرون "أهل النظر" 1/388ت، 2/109ت، 127، 366ت، 2/34ت، 420ت، 3/317، 5/210ت النجدات 5/151ت نساء أهل المدينة 1/504 نساء النبي صلى الله عليه وسلم 2/420ت، 421، 3/68ت النساخ 4/303ت النصاري 1/85، 99ت، 2/20ت، 345، 351، 2/351ت، 3/82ت، 112، 126، 289، 3/362، 4/101ت، 130ت، 5/60ت، 5/145ت، 222 نصاري نجران 3/211، 213ت النظار 1/13، 506ت، 125، 230 النهروان 4/426ت هذيل 5/271ت هوازن 5/35ت الواقفية 3/494 ولاة الأمر 3/29 ولاة الجور 2/27 ولد إسماعيل 2/430ت اليتامي 2/308 اليزيدية 5/151ت اليهود 1/85، 99ت، 447، 2/345، 351، 351ت، 4/32، 39، 39ت، 65، 111ت، 130، 130ت، 149، 4/218، 238، 238ت، 240ت، 412، 413، 5/60ت، 61ت، 145، 145ت، 222، 5/293 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 فهرس الجرح والتعديل : إبراهيم بن إسماعيل: 2/73 إبراهيم بن الاشعث: 1/353 إبراهيم بن زياد: 3/490 إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى: 2/116 إبراهيم بن مسلم الهجري: 4/185 إبراهيم الملطي: 4/188 إبراهيم بن ميمون: 2/435 ابن ابي مالك: 1/369 ابن جريح: 3/406، 4/465 ابن حميد: 2/192 ابن القاسم: 1/11 أبو الأحوص: 4/359 أبو الأسد أو أبو الأشد 3/382 أبو إسحاق السبيعي: 4/187 أبو بكر بن عياش: 2/74 أبو بكر بن محمد: 1/199 أبو بكر بن نافع مولى آل زيد بن الخطاب: 1/270 أبو جعفر الرازي "عيسي بن ماهان: 1/44، 3/149، 5/255 أبو جعفر المنصور 4/113 أبو حمزة ميمون الأعور: 3/64، 5/243 ابو خلف الأعمي البصري: 2/434 أبو الزبير: 4/465 أبو شيبة الخراساني: 1/210 أبو صالح باذام، مولي أم هانئ 1/533، 4/239 أبو عباد الزاهد: 1/178 أبو عبد الله الأسدي أو أبو عبد الرحمن السلمي أبو عبد الرحمن الخرساني إسحاق بن أسيد: 3/115 أبو عقيل: 2/237 أبو عمر صالح بن إسحاق البجلي: 5/53 أبو عون الأنصاري: 2/436 أبو قرة مولى أبي جهل: 1/152 أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن 2/431، 5/356 أبو المليح الهذلي: 3/399 أبو منصور العجلي: 4/226 أبو هارون عنترة بن عبد الرحمن 4/221 أبو الوداك 4/376 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 أحمد بن رشدين: 2/73 احمد بن الفرج الحمصي: 1/353 إسحاق بن إبراهيم الحنيني: 3/67 إسحاق بن إبراهيم بن سعيد الصواف: 2/74 إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني: 3/115 إسحاق بن بشر: 1/210 إسحاق بن عبد الله: 2/116 إسحاق بن عبيد الله بن أبي فروة: 2/521 إسحاق بن وهب: 1/534 إسحاق بن يحيى بن الوليد: 2/73 أسد بن موسى: 3/488 أسماعيل بن إبان: 2/177 إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر: 2/452 إسماعيل بن رافع: 1/99، 5/256 إسماعيل بن عياش: 2/521، 3/117، 118، 5/381 إسماعيل بن بن قيس: 4/221 إسماعيل بن مسلم المكي: 4/450 أشعث بن براز: 1/352، 353 الأعمش: 3/115 أم محبة: 1/457 الأوزاعي: 1/448 أيوب: 2/349 أيوب بن سويد: 2/323 بسام بن خالد: 4/338 بشار بن الحكم: 5/29 بشر بن نمير: 4/188، 5/257 بشر بن إبراهيم: 1/210 بشير بن المهاجر: 1/370 بقية بن الوليد: 1/353، 2/436، 4/322، 5/155 بكر بن خنيس: 1/81، 353 بكر بن عمرو: 1/303 بلال بن يحيى: 1/447 بيان بن سمعان: 4/225 تمام بين نيح: 3/550 ثويبر بن أبي فاختة: 1/101 جعفر بن جسر: 1/236 جعفر بن سعد: 4/399، 451 جسر والد جعفر بين جسر: 1/236 الحارث بن عمرو: 4/299 حبيب بن أبي ثابت: 5/359 الحجاج بن أرطأة: 3/16 حجاج بن محمد الأعور: 3/520 الحسن البصري: 2/435، 4/416 الحسن بن جابر: 4/191 حسين بن الحسن الأشقر: 1/77 الحسين بن عمرو: 1/51، 3/521 حسين بن قيس: 1/77 حسين بن نصر: 2/424 حصين الحبراني: 4/99 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 حفص بن غيلان: 1/370 حكيم بن جبير: 5/31 حماد بن واقد: 5/31 حمزة النصيبيب: 1/81، 4/454 حميد الأعرج: 4/ 218 خالد بن عبد الله الواسطي: 2/352 خالد بن نجيح: 4/452 خالد بن يزيد بن عبد الرحمن "ابن أبي مالك: 1/369 خبيب بن سليمان: 4/399 خلاد: 1/51، 3/521 خلف أبو الربيع: 2/238 خلف بن خليفة: 4/219 خلف بن مهران: 2/238 الخليل بن مرة: 5/260 داود بن الحصين: 2/73 داود بن عمرو: 4/363 دراج بن سمعان: 4/326، 5/27 الدراوردي: 2/74 الربيع بن صبيح: 1/103 الربيع بن نعمان: 2/429 رزين: 3/173 رشد بن سعد: 3/29 روح بن صلاح: 2/73 الزبير أبو عبد السلام: 2/466 زكريا بن منظور: 5/256 زمعة بن صالح: 2/426 زيد أبو عياش: 3/203 السدي: 1/44، 3/149 سعيد بن أبي أمية الثقفي: 4/465 سعيد بن رزبي: 2/435 سعيد بن محمد بن ثواب: 1/476 سفيان بن حسين: 1/426 سفيان بن وكيع: 1/58 سلام بن سليم" الأحوص": 359 سلام بن سليمان: 2/424 سلمة بن رجاء: 1/363 سلمة بن صالح: 4/361 سلمة بن وهرام: 2/426 سليم بن مسلم المكي: 4/329 سليمان بن أبي كريمة: 4/452 سليمان بن الحجاج: 2/349 سليمان بن داود الشاذكوني: 5/380 سليمان بن سفيان: 2/435 سليمان بن موسي: 2/521 سهيل بن أبي حزم: 4/252 سوار بن مصعب: 3/148 سويد بن سعيد: 2/452 سويد بن عبد العزيز: 1/202 شرحبيل بن مسلم: 5/381 شهر بن حوشب: 2/173، 5/396 صالح بن إسحاق البجلي "أبو عمر": 5/35 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 صالح المري: 4/329 صالح بن موسى: 3/189 طرفة الحضرمي: 2/369 عاصم بن بهدلة: 3/362 عاصم بن هلال: 2/349 الالية بنت أيفع: 1/457 العلاء بن الحارث: 2/29 العلاء والدهلال: 2/186 عباد بن عبد الصمد: 1/81 عباد بن كثير: 5/155 عباد بن منصور: 1/46 عباد بن يعقوب: 1/533 عبد الحميد بن بهرام 3/173 عبد الحميد بن سليمان: 5/256 عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة: 2/116 عبد الرحمن بن أسلم: 4/372 عبد الرحمن بن أنعم الأفريقي: 2/451، 4/450 عبد الرحمن بن حبيب: 3/15 عبد الرحمن بن زياد: 2/430 عبد الرحمن بن عبد الله 2/430، 4/462 عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة" المسعودي": 1/50، 3/520، 5359 عبد الرحمن بن ميسرة: 2/423 عبد الرحيم بن حماد الثقفي: 1/80 عبد الرحيم بن زيد: 4/454 عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ الله 1/242، 270 عبد الغني بن سعيد الثقفي: 3/514، 4/212 عبد الله بن أذينة: 2/2/346 عبد الله بن حافظ: 4/336 عبد الله بن الحسن بن على بن أبي طالب: 2/477 عبد الله بن الحسين المصيصي: 3/545 عبد الله بن زيد: 4/373 عبد الله بن سعد بن فروة: 5/379 عبد الله بن سلمة: 4/413 عبد الله بن سليمان النوفلي: 2/180 عبد الله بن شبيب: 3/67 عبد الله بن صالح: 4/416 عبد الله بن عبد الرحمن: 2/430 عبد الله بن غالب: 1/103 عبد الله بن قيس اللخمي: 2/450 عبد الله بن لهيعة: 1/100 عبد الله بن محمد بن المغيرة: 2/443 عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة: 2/186 عبد الله بن موسى: 2/425 عبد الله بن مولي عثمان: 1/242 عبد الله بن نافع الصائغ: 1/282 عبد الله بن يزيد الدمشقي: 1/190 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 كلثوم بن جبر: 4/409 ليث بن أبي سليم: 1/78، 3/115، 5/316 مالك بن ابي مريم: 3/113 مالك بن الخير الزبادي: 4/327 ماهان والد أبي جعفر الرازي: 1/44، 3/149 المبارك بن حسان: 5/29 مبشر بن عبيد الدارسي: 1/210 مجالد بن سعيد: 1/150، 2/352، 4/362، 376، 5/154 محفوظ بن مسور: 4/323 محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت: 4/239 محمد ابن إسحاق: 2/117، 284، 3/276، 5/36 محمد بن إسماعيل الجعفري: 4/426 محمد بن خالد الوهبي: 1/200 محمد بن راشد: 2/521 محمد بن السائب: 4/249 محمد بن سعيد المصلوب: 2/467 محمد بن سليمان بن مشمول: 4/369 محمد بن عبد العزيز: 1/269 محمد بن عبيد الثقفي: 4/298 محمد بن عمار بن حفص المديني: 5/356 محمد بن عمرو: 1/499، 3/153، 273، 4/400، 411 محمد بن مسلم الطائفي: 1/353 مروان بن رؤبة التغلبي: 4/191 مسلم بن عبدربه: 2/211 مسلم بن على: 3/505، 5/257 مصعب بن إبراهيم: 2/434 معان بن رفاعة: 2/434، 448 معروف بن خربوذ: 1/77 معدي بن سليمان: 2/185 المعلي بين هلال: 2/443 معمر بن عبد الله: 2/422 المغيرة بن أبي قرة: 1/304 موسى بن علقمة المديني: 3/67 موسى بن عبيدة الربذي: 1/363، 2/451 موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي: 2/225 ميمون بن أبي شبيب: 3/472 ميمون الاعور "أبو حمزة": 3/64، 5/243 نافع بن عبد الله: 1/369 نجيح بن عبد الرحمن أبو معشر: 2/431، 5/356 نعيم بن حماد: 1/98، 99، 152 نهشل بن سعيد: 1/352 هشام بن سعد: 3/67 هشام بن عمار: 3/406 هشام بن يوسف 2/179 هلال بن أبي ميمونة 1/62 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 هنيد ببن القاسم: 4/437 الواقدي: 2/74، 116 الوضين بن عطاء: 4/329 الوليد بن مسلم: 3/406، 5/380 وهب بن حفص: 2/424، 5/154 يحيى بن أبي إسحاق: 3/117 يحيى بن بسطام: 1/352 يحيى بن الحماني: 1/515 يحيى بن سلام: 5/353 يحيى بن عبيد الله: 3/545 يحيى بن محمد بن قيس: 4/425 يحيى بن هلال: 1/62 يحيى بن يعلى الأسلمي: 2/424 يحيى بن أبي زياد: 3/353 يزيد- بن أبي نشبة السلمي: 2/28 يزيد الرقاشي: 1/363 يزيد الواسطي: 3/148 يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري: 1/304 يعقوب بن عطاء: 2/74 يعقوب بن الوليد المدني: 1/242 يوسف بن عطية: 3/148 يونس بنن عطاء: 2/310 المبهمون ابن أخت عبد الرازق: 2/177 ابن العالية بنت أيفع: 1/457 زوج العالية بنت أيفع: 1/457 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 فهرس الفوائد العلمية التوحيد ... التوحيد: دلائل التوحيد: 2/125 تقرير التوحيد من القرآن: 2/13، 269 أسماء وصفات الله تعالى: 2/257، 4/10، 11، 137، 139، 205، 223، 5/120 الصفات والتنزيه: 4/164 الصفات المعنوية: 4/60 مسائل الصفات: 5/176، 222 آيات الصفات: 5/143-144 معرفة صفات الله والجنة والنار: 4/204 المكر والخديعة والاستهزاء: 1/536 نسبة الأفعال إلى الدهر. 1/350 حكم اعتقاد السبب هو الفاعل؟ 1/328 إضافة الصفات لله: 5/120 الحكمة في صفات الباري عز وجل: 3/28 مسألة إثبات الصفات: 5/176، 222 مذهب السلف في الأسماء والصفات: 3/318-319 المذاهب في الصفات ومسألة التفويض: 323 موقف ابن تيمية من المتشابه ورده على مفوضه المعنى: 3/327 علم ذات الله وصفاته في القرآن: 4/205 تعليق على جملة "التخلق بصفات الله": 4/200 التخلق بأخلاق الله: 4/203-204 هل الصفات من المتشابه؟ 3/324-325 تعقب المعلق درازا في مسألة الصفات: 4/137 النور صفة فعل وذت: 5/204 تعقب الإمام النووي في صفة النور: 5/204 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 تعقب للمحقق على الشيخ دراز في مسالة تأويل أو تفويض الصفات: 5/144 الرد على الإمام النووي في مسألة تفويض الصفات: 3/323 علم الله بنفسه وصفاته وسائر المحدثات: 4/20 بطلان احتجاج الكفار بقولهم: "أنطعم من لو يشاء الله أطعمه": 4/165 قصة قتل خالد القسري للجعد بن درهم: 4/226 معنى الخلة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} : 4/230 سنة الله في التشريع موافقة ومناسبة لسنته في التكوين: 3/240 أهل التشبيه: 4/223 التنزيه: 4/10-11، 5/144 التأول في العقيدة: 5/206 الاستهزاء بآيات الله: 3/30 سب الدهر: 1/350 نزول الرب: 4/10 خلق أدم على صورة الرحمن: 5/394 تواتر أحاديث القبضتين: 2/543 رؤية الله: 4/196 قدرة الله وإثبات القبضة له والأصابع: 4/163-164 رحمه الله: 3/19 عقيدة علو الله: 1/64، 4/155 إثبات الفوقية لله: 4/155 اعتراض إبليس على رب العالمين: 5/394 العقل والأحكام عند المعتزلة والأشاعرية 5/71 أفعال العباد وإرادة الله عند الأشاعرة: 2/50 الكرسي: 4/229 الإيمان: 2/47-48 الإيمان يشترط فيه التصديق: 1/70 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 الإيمان عمل القلب وهو التصديق 1/ 84 عمل الجوارح والقلب: 1/ 41، 43 زيادة الإيمان بالتفكر 1/ 43 تقوية الإيمان واليقين: 1/ 546 التوحيد والشرك4/ 27 السور المكية تقرر وحدانية الله: 4/ 269 توجيه قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} 3/ 402 نسيان التوحيد: 5/ 205 تعظيم الشركيات: 2/ 345 الذبح للجن: 2/ 346 شرك الألوهية: 5/ 403 الرياء: 1/ 349، 456-2/ 299، 353، 360، 362، 373-3/ 30، 37، 395-4/ 358 الرياء في العبادات: 3/ 30 الرياء في الصلاة: 2/ 361-3/ 31 الرياء والنفاق: 3/ 140 العبادة من أجل الاطلاع على عالم الأرواح وما شابه: 3/ 147 العمل من أجل المصلحة لا من أجل التعبد3/ 121 معنى الند في قوله تعالى: {ولا تجعلوا لله أندادا} : 4/ 242 حظوظ النفس والأنداد لله: 4/ 242 عبادة الأنداد: 3/ 299 ذكر بعض ضلالات النصارى: 3/ 316 المسيح وقتله: 5/ 202 الجوهر والعرض: 1/ 69، 3/ 136 تحريف الكلم: 4/ 406 تحريف الإنجيل والتوراة: 2/ 92 التثليث عند النصارى: 3/ 211 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 دفع الشكوك عن العقيدة: 5/ 225 المشاركة في أعياد الكفار: 2/ 354 تعقب محقق "الاعتصام"1 في وصف عقيدة المؤلف: 5/ 203 كلام للمحقق حول عقيدة المؤلف: 5/ 203 التوسل بالممنوع شرعا: 3/ 565 الاعتقاد في القبور والأولياء: 2/ 504 إظهار علم التوحيد لإحراز الدم والمال: 3/ 31 اضطرابات كثيرة للرازي: 2/ 11 الكهانة: 2/ 118-119 العدوى: 1/ 314، 316، 3/ 194 الضرب بالرمل: 1/ 60، 2/ 118-119 الطيرة والفأل: 2/ 118-119، 3/ 194، 4/ 95 العيافة: 2/ 118-119 علم الغيب: 4/ 471، 472 مسألة الكشف والاطلاع: 4/ 469 فقه الأخبار بالمغيبات: 2/ 472 الاطلاع على المغيبات: 2/ 450 التنجيم: 1/ 55، 112 علم النجوم عند العرب: 2/ 112-113 المتعاملون مع النجوم والفلك: 2/ 444 علم الأنواء: 2/ 113، 114 السحر والشعوذة: 1/ 54، 56، 122، 2/ 446-447 حكم من أتى عرافا: 2/ 201-202 ثبات سحرة فرعون بمجرد تحققهم على صدق موسى عليه السلام: 1/ 91 الاعتماد على الأسباب: 3/ 553   1 طبعة دار ابن عفان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 سبب الرزق: 3/ 551 التوكل: 1/ 328، 330، 2/ 321، 500 التوكل على الله في الرزق: 1/ 302-3/ 552 حكم طلب الرزق2/ 306 الرزق والأجل: 3/ 551 الرزق والتقوى: 3/ 552 الطاعات والرزق: 2/ 310 الرزق والدعاء والعمل له: 4/ 466 قاعدة تقديم الوسيلة بين يدي الطلب: 4/ 203 الإخلاص: 1/ 346-2/ 328، 332، 337-3/ 145، 154، 356-358 الإخلاص والتفويض والتوكل: 1/ 347، 2/ 366 تنبيه على التوكل والكسل: 1/ 332 دخول الصحراء بغير زاد/ مثل الصوفية: 1/ 331 الصوفية/ التوكل/ إلقاء اليد إلى التهلكة: 1/ 331 الإخلاص وقصد الجنة بالعمل: 2/ 358 الإخلاص والتشريك في الأعمال: 2/ 345 كيفية حصول الإخلاص في العمل: 1/ 310 الفراسة والإلهام والكشف: 2/ 446 الفراسة والوحي: 2/ 449 هجرة المؤمن من بلد الكفر: 4/ 22 الإيمان: 4/ 444 الإيمان شرط في صحة العبادة: 3/ 444 قوة الإيمان "المؤمن القوي": 2/ 118 إجابة الله ورسوله: 3/ 405 جمع المصحف: 3/ 41 توحيد عثمان للمصاحف: 4/ 292 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 الإيمان عند العالم: 1/ 84 الإيمان شرط في صحة العمل: 1/ 83 الإيمان شرط في صحة العبادات: 1/ 414 كمال الدين وإتمام النعمة: 4/ 136 كمال الدين ونقصانه: 4/ 211 قاعدة عدم المؤاخذة قبل الإنذار: 4/ 200 لم يكلف لما يجري في النفس من الخواطر: 4/ 37 الطاعات: 1/ 299 عمل الجوارح والقلب: 1/ 41، 43 العمل على وفق السنة: 3/ 421 التحريض على العمل بالحظ: 2/ 350 السكون لغير الله: 4/ 247 المعاني في المعاملات والتعبد فيها: 2/ 525 حكم أهل الفترات: 1/ 4، 2/ 518-519 أهل الفترات وعباداتهم: 3/ 43 قاعدة الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خوطب به الخلق: 4/ 200 الاحتجاج على الكفار بما أقروا به: 5/ 415 خلق الإنسان: 2/ 271 غاية خلق الإنسان: 3/ 24 معرفة الله: 3/ 150 الاحتجاج على الكفار بالعمومات المتفق عليها: 5/ 403 اجتهاد الكافر وشرطية الإيمان: 5/ 48-49 الحسنات والسيئات: 4/ 430 التوبة وتبديل الحسنات والسيئات: 1/ 363 مغفرة الذنوب: 3/ 361، 4/ 178 تكفير الذنوب: 4/ 436 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 تفاوت المعاصى: 3/ 395 الوعيد على المعاصي دليل على كبرها: 2/ 511 الذنب من أول مرة: 4/ 200 الاستغفار للغير: 2/ 388 الاستغفار للكفار: 3/ 256 الاستغفار للأحياء من المشركين: 2/ 390 كبر الطاعة أو المعصية بحسب الأثر الناشئ عنها: 2/ 511 مرتكب الكبيرة والجاهل للحكم: 5/ 150 أصول الطاعات وكبائر الذنوب: 2/ 343 الإصرار على الصغيرة: 1/ 212 المداومة على الصغائر: 1/ 214-215 الكبائر والصغائر: 1/ 209، 3/ 537 الكبائر: 4/ 401 أخذ العرب عن ملة إبراهيم: 2/ 524 عادات وعبادات العرب قبل الإسلام: 1/ 277 الإسلام وما يترتب عليه من الأحكام: 1/ 41 مس الشيطان: 4/ 216 وجود الجن: 2/ 346 الرؤى: 1/ 114 أوجه جواز العمل بالرؤى: 2/ 458، 471 تنفيذ أحكام برؤىً ومنامات: 2/ 458 الرؤى المضادة للشرع: 2/ 471 آيات الله في الأرض: 1/ 65 الستر على المعاصي: 5/ 166 هل تقع المعاصي دون مفاسد؟ 3/ 36 ترك المعاصي لعدم القدرة أو الاستحياء من الناس: 1/ 460 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 المعاصي لا ثمرة لها في الدارَيْن: 1/ 153 الدخول في المعاصي: 1/ 216 الفرق بين الكبائر والصغائر: 1/ 338 علامات المؤمن: 3/ 403 التعاون على الإثم والعدوان: 5/ 185 اتباع الهوى: 5/ 165 الوحي والهوى: 2/ 291 العمل مع الخوف والرجاء والمحبة: 2/ 245 المصايب والرضا: 2/ 201، 221 التكفير والأجور على المصايب: 2/ 221 الشكر والكفر والإيمان: 4/ 220 الكفر والإلحاد: 1/ 4، 2/ 47-48 تكفير المسلم: 1/ 4 مبطلات الأعمال: 1/ 456 الأمر بالقتل لا يدل على الكفر: 5/ 176 الطواغيت: 4/ 247-248 الحكم بغير ما أنزل الله: 4/ 39 الضلال والكفر: 3/ 513 الشرك: 2/ 358، 4/ 178 الخطأ والنسيان في الشرك والإكراه على الكفر: 4/ 154-155 الكفريات/ المكفرات: 3/ 395 من يعبد من دون الله: 3/ 361-362 النطق بكلمة الكفر: 1/ 475، 489، 419-3/ 124، 126 معنى التوحيد والشرك في القصد: 1/ 325 النطق بالإكراه كفرًا أو كذبًا: 1/ 288 العذر بالجهل: 5/ 151، 206 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 شرح حديث: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروا ... ": 5/ 205 الكفر وقبول الطاعات: 1/ 300-301 وجوب وقوع الوعيد والوعد: 2/ 69 القنوط: 4/ 217 عذاب الموحدين: 2/ 54 درجات الجنة ودركات النار: 2/ 56 فناء الجنة والنار: 2/ 158-159 نعيم الجنة وعذاب جهنم: 2/ 54 حرمان بعض أهل الجنة من بعض النعم: 2/ 58 هل نعيم الجنة محض أم نسبي؟ 2/ 57 حقوق الله وحقوق العباد: 1/ 546-547/ 2/ 538-539، 545، 3/ 101، 549، 562-563 ما هو حق الله: 2/ 535، 3/ 549 التعبد ومعانيه: 2/ 539، 3/ 98-99 معنى العبادة: 1/ 415-2/ 290 العبادة/ العبودية: 3/ 121-140 العبودية: 3/ 14، 98، 204، 205 أعبد الناس مسقط حظ نفسه: 2/ 255 أفضل القربات والعبادات: 3/ 384 أقسام العبادات: 2/ 357 إتمام العبادات: 3/ 382 ترك العبادة كسلا: 1/ 382 الأمانة التي خُلق الإنسان لأجلها فقط هي العبادة: 1/ 5 ما يدخل في العبادة من الأعمال: 1/ 315-321 التعبد وعدم الاشتغال بالأسباب: 1/ 35 الله معبود في السماوات والأرضين وما بينهما: 4/ 20 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 العبودية والكفر: 4/ 404 مراتب حقوق الله: 3/ 561 تعارض حقوق الله وحقوق العباد: 3/ 551 تفسير حق الله وحق العباد: 2/ 537-538 العبودية لله الحق: 4/ 218 حق الله أعظم من حق العبد: 3/ 562 وجوب أداء حقوق الله: 3/ 101 التحليل والتحريم حق الله: 3/ 103 أخبار معاذ بحديث: "ما حق الله على العباد.." عند موته تأثما: 5/ 168، 169 الملائكة: 1/ 67، 68، 413 عبودية الملائكة: 2/ 154-155 ملك الحسنات: 2/ 403 إبطال قصة إحراق الله الملائكة الذين قَالُوا: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء": 5/ 393 والدا النبي صلى الله عليه وسلم: 1/ 53 هبة الثواب: 2/ 400 علوم العرب وعاداتهم: 2/ 112 عجائب الخلق: 3/ 151 لا إكراه في الدين هل هو خبر حقيقي؟: 5/ 207 الحب والبغض للصحابة: 4/ 462 حب الإيمان وكره الكفر: 5/ 362 محبة المسلمين: 3/ 66 الحب لله عبادة: 2/ 189، 194، 4/ 196 أحوال المحبين: 2/ 337 تعلق الحب بالأفعال: 2/ 190 الحب والبغض من الله: 2/ 195 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 قتل المسلمين: 5/ 150 الانضمام إلى الكفار ضد المسلمين: 2/ 241 فهم عائشة لحديثك "من أحب لقاء الله": 3/ 294 مآل الأفعال في الأخرة: 5/ 178 الشفاعات يوم القيامة: 2/ 423 إكرام العباد في الآخرة ودرجاتهم: 4/ 271 هل رأي النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟: 3/ 191-192 العفو الأخروي: 1/ 271 الهم والخواطر: 1/ 384، 3/ 351-353 الإنذار والمؤاخذة وإقامة الحجة: 4/ 200 الهداية: 4/ 974/ 97 التحذير من الأئمة المضلين: 4/ 91 تحري الأوقات المخصوصة في الدعاء وغيره: 2/ 445 مناقشة الحساب: 3/ 293-294 إثبات العبث: 4/ 270 يوم القيامة والموت: 4/ 250 علامات يوم القيامة- الدخان: 4/ 152 الملاحم والفتن وأشراط الساعة: 3/ 186 الساعة وأشراطها: 1/ 8، 40 الموت وما بعده في القرآن: 4/ 205 السور المكية فيها إثبات أمر البعث والدار الآخرة: 4/ 270 الظلم: 4/ 7، 28 اختلاط الظلم بالإيمان: 4/ 27 كفر النعم: 4/ 221 كفر النعم بالمعاصي: 1/ 362 تحريم التماثيل1/ 112 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 احتجاجات القرآن وأدلته يقر بها الخصم: 5/ 416 الإحسان: 2/ 252 تخفيف الله عن العباد: 1/ 472 من عزم على حرام ففعله لكنه لم يقع إلا على ما يحل: 1/ 384 الوعيد والوعد: 3/ 397 رفع الأعمال: 5/ 202 بنيان الكعبة: 4/ 416، 428، 5/ 191 الكرامات والخوارق: 1/ 333، 542، 550، 2/ 427، 438، 3/ 147، 150، 152، 4/ 199، 240، 473 جواز خرق العادة لبعض الأولياء: 3/ 147 مقامات الأولياء ومقامات غيرهم: 1/ 473 طلب الخوارق بالدعاء: 3/ 150 العبادة لأجل الاطلاع على الخوارق: 3/ 147 الخوارق بموافقة الشرع: 2/ 475 الشريعة حاكمة على الخوارق: 2/ 475 مخالفات الخوارق للشريعة: 2/ 457، 475، 505 هل الخوارق مكتسبات؟ 2/ 477 تقصد الكرامات: 2/ 479-480 رد أو قبول الكرامات: 2/ 444، 481 الخوارق للعادات واستقرار العادات والتحدي: 2/ 484 الصوفية والكرامات: 2/ 478 الخوف من الكرامات: 2/ 469 إلزام الأولياء بمضمون الكرامات: 2/ 462 قاعدة جامعة في الكرامات: 2/ 443-444 علامة الكرامة الحق: 2/ 438 أصناف من الخوارق: 2/ 446 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 كرامات الأمة من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 438 صور من كرامات الصحابة وغيرهم: 2/ 438 الفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الاولياء: 2/ 441-442 الصوفية والولاية: 1/ 536 دعاء الله طلب ورغب: 2/ 164 الدعاء: 2/ 445-446 قاعدة الدعاء: 2/ 395 المؤمنون بين خوف ورجاء: 4/ 40 الخوف والرجاء: 4/ 179 تعقب للشيخ دراز على المؤلف في مسألة هل "الفرق" من أمة الإجابة أم لا؟ 5/ 172 الرد على المرجئة: 4/ 259 الظاهرية: 5/ 149 العيسوية: 5/ 61 القدرية: 5/ 174 الشمعونية: 5/ 61 قصة القاضي ابن الطيب في مناقشة المعتزلة: 3/ 97 دخول العقل في الأحكام عند المعتزلة: 2/ 69 التفسير الباطني الذي تشهد له الأدلة: 4/ 242 الباطنية وقدحهم في النصوص: 3/ 113 الباطنية وتفسيراتهم للقرآن: 4/ 232 بعض عقائد الباطنية: 1/ 121 أمثلة من ضلالات الباطنية في التفسير: 4/ 233 الزعم بأن للقرآن ظاهرا وباطنا: 4/ 208 الرأي: 5/ 149 الحسن، والقبح العقلي عند الأشاعرة: 3/ 28 الرافضة وشتم الصحابة: 4/ 194 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 دعوى الرافضة أن عليا هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: 3/ 281 الرافضة -عقائدهم: 5/ 119-120 الخطابية وبعض أقوالهم: 5/ 119 الخوارج والروافض: 5/ 119 ذكر بعض آراء الخوارج: 5/ 150، 151 استدلال الخوارج بآية التحكيم: 3/ 313 اعتراض المبتدعة من الخوارج على علي: 4/ 221، 222، 223 علامات الخوارج: 5/ 148 صور من بدع الخوارج: 5/ 150، 151 الفرقة بين الخوارج: 5/ 164 فتنة الخوارج على الأمة: 4/ 91 قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان من صفات الخوارج: 5/ 150 الأزارقة من الخوارج: 3/ 215 هل الخوارج كفار؟: 5/ 174 تكفير الخوارج: 2/ 336 الإرجاء والخوارج وأهل السنة ورأيهم في المعاصي: 4/ 259 ضلالات البيانية والكشفية والفاطمية: 4/ 225-227 الصوفية وبدعهم الكفرية: 4/ 220 الصوفية وعموم الرسالة: 2/ 412-413 الصوفية والتجلي: 5/ 394 الصوفية والأوراد: 2/ 405 الصحابة والصوفية والتوكل: 2/ 507 الصوفية والاعتراض: 5/ 339 الحظوظ وأرباب الأهوال من الصوفية: 5/ 320 تعقب على المعلق "مخلوف" في عبارة صوفية: 5/ 394 جَعَلَ الصُّوفِيَّةُ بَعْضَ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ إِذَا اقْتَصَرَ السَّالِكُ عَلَيْهَا دُونَ مَا فَوْقَهَا نَقْصًا وَحِرْمَانًا: 3/ 544 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 الكشف: 4/ 468، 472 التمييز بين أصول الدين وفروعه: 1/ 338 أهل الزيغ ضلال في الدين: 4/ 12 المبتدع: 5/ 119 هل المبتدع مخلد في النار؟ 5/ 158 قتال أهل البدع: 5/ 159 من ثبت له عقد الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين: 5/ 173 تكفير أهل البدع: 5/ 174 افتراق الأمة: 5/ 146 السؤال عما شجر بين السلف: 5/ 391 البدع المكفرة وغير المكفرة: 5/ 119 أوصاف أهل البدع: 5/ 148 اتباع المتشابه: 5/ 142-143 علامات عامة لأهل البدع: 5/ 149، 159 علامات أهل البدع التفصيلية: 5/ 166 الهوى والبدع: 5/ 142 من عمل أهل البدع والانحراف تنزيل الدليل على وفق الغرض: 5/ 142-143 من علامة البدع تأخر ظهورها: 5/ 149 تكفير الصحابة وغيرهم: 5/ 150 التكفير للرعية تبعًا للإمام: 5/ 151 المحرمات عند أهل البدع: 5/ 150 تعيين أهل البدع: 5/ 223 هجر أهل البدع واجتناب البدع: 5/ 157 تفاوت مراتب البدع: 5/ 158 أقسام البدع: 5/ 158 تأديب أهل المعاصي والبدع: 5/ 159 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 رد الفعل على أهل البدع: تعيين فرق أهل البدع: 5/ 167 هل قتل المحارب والمبتدع تكفير له؟: 5/ 176 هل تكفر الفرق البدعية: 5/ 172 كلام حول: "كلها في النار إلا واحدة": 5/ 146 المشيئة: 3/ 358-359 معنى الإرادة: 3/ 372 الإرادة والمشيئة: 3/ 369 معاني الإرادة في الشريعة: 3/ 369-370 الإرادة الشرعية ضلال الفاسقين: 5/ 70 التفريق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية والصلة بينهما: 3/ 371، 373، 515، 5/ 69-70 الإرادة في الأوامر: 3/ 369 الطلب غير الإرادة: 3/ 369 الأسباب والتسبب: 3/ 556 الأخذ بالأسباب والألقاء باليد إلى التهلكة: 2/ 500-501 اتخاذ الأسباب: 3/ 561 إسقاط الأسباب: 3/ 562 ترك الاعتماد على الأسباب: 3/ 553 تحريف كلام الله وعدم الطاعة: 4/ 397 رد على دعوى أن كلام الله معنى قائم بالنفس: 4/ 274 هل يجوز عقلا أن يتكلم الله بكلام لا معنى له عند المخاطب: 3/ 325 القدر: 1/ 324، 334، 356 القضاء والقدر: 2/ 262 الرزق والقدر: 3/ 555 الصدقات والاحتجاج بالقدر على منعها: 4/ 165 علم الله والتكليف: 2/ 273 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 جواز تعذيب الطائع وتنعيم الكافر: 2/ 486 الجبر والقدر والكسب: 5/ 207 تواتر أحاديث القبضتين: 2/ 543 النفاق: 4/ 220-221 المنافقون: 2/ 168 الصلاة والنفاق: 5/ 188 النفاق والرياء: 3/ 140 علامات المنافق: 3/ 402-403 هرب المنافقين من سماع الوحي: 4/ 214 الكف عن قتل المنافقين: 3/ 76 قتل المنافقين: 5/ 180، 191 الحياء والنفاق: 4/ 38-39 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 النبوة والأنبياء : النبوة 1/ 43، 2/ 331 الوحي والإلهام: 4/ 464 بعث الرسل: 2/ 12 دعوة الناس إلى الإسلام أساس بعثة الأنبياء: 1/ 6-7 النبوة والقرآن: 4/ 189 عموم الرسالة: 1/ 65 تقرير النبوة: 4/ 270 النبي يُبعث بلغة قومه: 1/ 4 إرسال الرسل والعقاب والثواب: 1/ 298 معجزات الأنبياء: 4/ 18 مراتب النبوة: 3/ 54 تبليغ الدعوة من الأنبياء: 3/ 557 الأنبياء والتفاني في الدعوة: 3/ 556 العلماء والأنبياء: 1/ 83 لوم الأنبياء: 4/ 431 الرؤيا الصادقة والنبوة: 2/ 419 الرؤى: 1/ 10، 11، 114-4/ 391، 392، 466 الرؤيا الصالحة: 4/ 391 الرؤيا الصالحة والفراسة والإلهام: 2/ 119-120 دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: 3/ 209، 5/ 263 النبي وصفاته: 1/ 541 خصائص النبي: 1/ 4-5، 415، 4/ 48، 180، 469 خصوصيات في زمن النبوة: 2/ 274، 409 طهارة دم النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 437 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه: 20/ 472 مكارم الأخلاق النبوية: 4/ 426 خلق النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 318 طاعة النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 320 وصايا نبوية: 4/ 412-413 صدق النبي: 4/ 464 التصديق بالنبي: 2/ 484 تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الدنيا: 5/ 310 ابتداء الوحي: 2/ 476 عصمة النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 470 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الظلام ومن خلفه: 2/ 442-443 معجزة النبي صلى الله عليه وسلم: 3/ 229، 5/ 396-397 من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: 5/ 396-397 الفرق بين معجزات النبي وكرامة الأمة: 2/ 441-442 هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متعبد بشرع؟: 1/ 38 إظهار شعائر الدين: 2/ 24 ما يساعد على نشر الدين: 2/ 150 إتباع المعصوم: 5/ 302 التفضيل بين الرسل: 2/ 60-61، 5/ 290، 293 التفضيل على سبيل تنقيص المرجوح: 5/ 298 التفضيل الذي له مستند لا مانع منه: 5/ 291، 293 دعوة سليمان في ملك خاص: 2/ 441 آدم والملائكة: 5/ 393-394 علوم آدم: 5/ 208 نسبة العصيان إلى آدم: 4/ 246 نبوة الخضر: 2/ 508 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 تقرير أن الأنبياء بشر: 4/ 272 عصمة الأنبياء: 4/ 10-11، 12-13، 88، 245، 470، 5/ 270، 305 وراثة الأنبياء: 4/ 76، 125 وظيفة العالم في مقام التبليغ: 4/ 76-77 دعوة النبي العامة – دعوة نوح: 5/ 312 كلمة للمحقق عن لفظ "وأمته" في حديث: "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته" من جهة المعنى والرواية: 5/ 314 إبراهيم عليه السلام هل كان فقيرا؟: 3/ 332 الشك والاطمئنان وقصة سيدنا إبراهيم: 4/ 162 التوحيد- خلة إبراهيم: 4/ 230، 256-257 قصة موسى والخضر: 1/ 546، 2/ 461-462-464، 4/ 414 عقيدة ختم النبوة: 1/ 4 من لوازم تصديق النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 409 السور المكية تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: 4/ 270 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 علوم القرآن : القرآن الكريم ولغة العرب والقراءات: أقسام علوم القرآن: 4/ 206-207 تقسيم الغزالي لعلوم القرآن: 4/ 206 العلوم المعينة على فهم القرآن: 4/ 198 علوم القرآن واللغة العربية: 4/ 224 اللغة العربية والقرآن: 4/ 144 فهم القرآن بلغة العرب: 1/ 43، 65، 68-2/ 101-4/ 24، 224، 261 التفسير على غير لسان العرب: 1/ 59 التفسير بما لا يعرفه العرب ولا السلف الصالح: 4/ 247، 248، 250 أهمية الشعر وكلام العرب في التفسير: 2/ 140 تفسير القرآن بالشعر الجاهلي: 1/ 58، 59 اشتمال القرآن على المحاسن الأدبية: 4/ 200 هل في القرآن كلام أعجمي؟ 1/ 39، 2/ 101-3/ 326 اختصار الكلام عند العرب بحرف واحد: 4/ 236 الجهل بعادات الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَمَجَارِي أَحْوَالِهَا حَالَةَ التنزيل يوقع في الشبه والإشكالات: 4/ 154 عادات العرب وتفسير القرآن: 4/ 154 تحميل القرآن معاني لا يحتملها: 2/ 128 فضل علم القرآن على سائر العلوم: 4/ 184 النبوة والقرآن: 4/ 189 القرآن في الدعوة: 1/ 6 القراءات: 2/ 132-3/ 39، 40-5، 214 اختلاف القراءات: 5/ 214، 215 القراءة الليثية/ الإدارة: 3/ 297 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 قراءة قوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصلحا..} : 4/ 116 قراءة قوله تعالى: {فسنؤتيه} : 1/ 537 قراءة الوقوف في قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله ... } : 3/ 324 القرآن الكريم وقطعية نصه وتاريخ توثيقه: القرآن الكريم كلام الله تعالى: 4/ 274 الأساسيات المكية والمدنية: 4/ 257 فهم السور المكية والمدنية: 4/ 256 مواضيع السور المكية: 4/ 269 أسماء القرآن: 4/ 190 علوم القرآن والفاتحة: 4/ 255 ترجمة القرآن: 2/ 106 طبقات الناس في علوم القرآن: 4/ 283 القرآن فيه الهِداية: 1/ 5 نفي أن القرآن نزل لهداية أناس وإضلال أخرين: 3/ 515 نزول القرآن هدىً ورحمة وشفاء لما في الصدور: 3/ 512 جمع القرآن: 4/ 292 حادثة جمع المصحف: 1/ 32 إحداث السلف جمع المصحف: 3/ 157 توحيد عثمان رضي الله عنه للمصاحف: 4/ 292 كتابة المصحف ولغة قريش: 4/ 293 جمع المصحف وحروف القرآن: 4/ 292 ترتيب الوحي لسور القرآن: 4/ 267 أسباب النزول: 1/ 44، 3/ 296، 298-4/ 146 أهمية معرفة أسباب النزول: 1/ 478-4/ 146، 147، 148، 152، 153 نزول القرآن وقضاياه: 4/ 266 الْجَهْلَ بِأَسْبَابِ التَّنْزِيلِ مُوقِعٌ فِي الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالَاتِ: 4/ 146 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 سبب نزول قوله تعالي: {إن الله لا يستحيي أن ... } البقرة26: 3/ 514 سبب نزول آخر سورة البقرة: 4/ 37 سبب نزول آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء..} : 5/ 375 سبب نزول سورتي المائدة والأنعام: 3/ 354 سبب نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمشركين..} "التوبة: 113": 2/ 388-390 سبب نزول قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ... } "النور: 60" 2/ 423 سبب نزول قوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} "لقمان: 13": 4/ 24 سبب نزول قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث..} "الزمر: 23": 3/ 520 سبب نزول قوله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات ... } "الفتح: 5": 1/ 417 سبب نزول قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك ... } "المجادلة: 1": 2/ 421 وانظر جميع أسباب النزول في فهرس الأحاديث فقد رتبناها على وفق ترتيبها حسب المصحف هناك. فواتح السور: 3/ 210، 212، 326 فواتح السور وهل يعقل معناها؟ 3/ 213 الأحرف المقطعة، وفواتح السور: 4/ 235 السحرة وفواتح السور: 4/ 238-241 معرفة ابتداء السور وانقضائها: 4/ 275 رد النسخ في قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} : 3/ 358 بطلان القول بأن آية: {ويستغفرون لمن في الأرض} منسوخة: 3/ 356 كلام لابن العربي على نسخ آية: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} : 3/ 359 نسخ قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين} : 3/ 355 النسخ في آية: {وإذا رأيت الذين يخوضون ... } : 3/ 349 رد النسخ في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} : 3/ 363 وانظر مبحث النسخ في فهرس أصول الفقه من هذه الفهارس. الإعجاز، وقوعه، ومعناه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 إعجاز القرآن: 4/ 144، 146، 199، 217، 267 مظان مسألة تفسير الحروف في أوائل السور: 4/ 235 إخراج المعجزات العلمية من القرآن: 2/ 114 أسلوب القرآن والسنة في النوازع الطبيعية وتنميتها: 2/ 307، 308 إعجاز الفصاحة في القرآن: 4/ 217 الأسلوب القرآني في البلاغ: 4/ 268 أعظم المعجزات هي معجزة القرآن: 3/ 229 معنى المحكم: 3/ 305 المحكم أكثر من المتشابه: 3/ 307 كلام للمحقق عن المحكم والمتشابه: 3/ 324 المتشابه: 4/ 138، 139-5/ 114، 115، 116، 144، 165، 345-390 القرآن والحروف المقطعة: 2/ 129، 130، 235، 241 المتشابه وفواتح السور: 4/ 237 موضع المتشابه: 5/ 144 دخول السلف في المتشابه: 3/ 328 المتشابه الإضافي: 3/ 327 المتشابه الحقيقي والإضافي: 5/ 116 المتشابهات العقول عَنْهَا مَصْدُودَةٌ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ لَا لِمُخَالَفَتِهِ لَهَا: 3/ 213 اتباع المتشابه "البدع": 4/ 221 من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات .... : 3/ 312 إنزال المتشابهات: 5/ 65 التشابه واقع في الفروع: 3/ 323 الْغَفْلَةَ عَنْ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ تُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ عن المقصود بالآيات: 4/ 151 العالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة: 4/ 187 الأحكام التفصيلية ليست جميعها في القرآن: 4/ 181 تضمن القرآن كليات الشريعة على الكمال: 4/ 182 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 معنى الكلية في القرآن: 4/ 180 كلام على قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} ككلية بينت بالسنة: 4/ 318 من أساليب القرآن: ذكره الباطل ورده: 4/ 158 تغليب التخويف على الترغيب أو بالعكس لحاجة: 4/ 170 الترغيب والترهيب في القرآن: 4/ 167 ذكر التخويف أكثر من الترجية في سورة الأنعام: 4/ 170 قصص القرآن: 4/ 161 اختلاف مساق القصص القرآن: 2/ 106 جمع من قصص الماضين: 2/ 118 قصص الأنبياء والماضين: 4/ 271 سبب إيراد قصص الأنبياء والمرسلين: 4/ 272، 273، 274 قصص بني إسرائيل: 3/ 186 قصة البقرة في بني إسرائيل 1/ 45-46، 258-2/ 461 قصة موسى مع الخضر- عليهما السلام: 1/ 546، 461-464 أهل الكهف وعددهم: 4/ 161 قصة بني قريظة: 3/ 407-408 قصة الذين خلفوا: 1/ 504-2/ 499 ضرب مثل العنكبوت في القرآن: 3/ 514 القرآن يشتمل على أنواع من القواعد الأصولية ... : 4/ 200 احتواء القرآن لثلاثة أجناس من العلوم: 4/ 204 اتحاد الموضوع في السورة: 4/ 266 القرآن وكلية الشريعة: 4/ 144 هل في القرآن شعر وموسيقى؟: 2/ 122 هل في القرآن إضلال؟: 3/ 512 إِذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ التَّرْغِيبُ قَارَنَهُ التَّرْهِيبُ ... 4/ 167 هل الوقف في قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله ... } على لفظ الجلالة؟ 3/ 324 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 ذكر النعم في القرآن: 3/ 325 جمع الكتاب والسنة للأحكام: 4/ 144 ميزان القرآن: 4/ 144 التدبر والتفكر في القرآن الكريم: 4/ 279 من ترك النظر في القرآن واعتمد على تقدمه: 4/ 284 معنى أسباب الإجمال: 4/ 73 من أسلوب القرآن "الالتفات": 2/ 165 الأسلوب القرآني إجراء الأمور على العادات ... : 2/ 167 أسلوب النداء في القرآن: 2/ 163 التهديد القرآني: 2/ 357 كثرة مجيء النداء باسم الرب..: 4/ 203 المجاز: 2/ 258، 259-5/ 202 الحمل على الحقيقة والمجاز في قوله تعالى: {فأصبحت كالصريم} : 5/ 215 الحمل على الحقيقة والمجاز في قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} : 5/ 215 رفع الحرج عمن تكلم في القرآن بما يعلم: 4/ 283 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 علم التفسير : علم التفسير: 1/ 55 الاشتغال بالأقاويل الصحيحة في التفسير؛ سدًا لأبواب الفتنة: 4/ 278 لا يلزم في جميع تفسير القرآن التوقف: 4/ 278 قد لا يدرك معنى الخطاب إلا من خلال معرفة الواقعة: 4/ 146 الاحتجاج بقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه ... } على الأخذ بالسنة: 4/ 340، 341 أهمية السنة في تفسير القرآن وبيانه: 4/ 183 رد أول الكلام على آخره وآخره على أوله في التفسير: 4/ 166 السور المشتملة على قضايا كثيرة هل ينظر فيها إلى ترتيب السورة ... : 4/ 265 هل يفيد النظر فيما بين السور بعضها مع بعض في التفسير؟: 4/ 265 علوم يحتاج إليها المفسر للقرآن: 4/ 198 فهم ظاهر القرآن وباطنه: 4/ 210 بيان القرآن بعضه بعضا: 4/ 275 المفسر بلسان بيانه يقول: هذا مراد الله في هذا الكلام: 4/ 285 الاعتبار الوجودي في تفسير القرآن: 4/ 254 الزعم بأن للقرآن ظاهرًا وباطنًا: 4/ 208 تفسيرات الصوفية والباطنية: 2/ 127-4/ 261 تأويلات أهل البدع: 4/ 149 الظاهر والباطن في القرآن: 4/ 208، 214 الباطنية وتفسير القرآن: 3/ 250، 251-4/ 232 شرط صحة القول بالباطن: 4/ 231 أسرار علوم القرآن: 4/ 258 المذهب الصحيح في تفسير القرآن: 4/ 261 الإفراط والتفريط في تفسير القرآن: 4/ 261 الخوض في آيات الله: 3/ 348-349 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 تأويل القرآن بالرأي: 4/ 326 إعمال الرأي في التفسير: 4/ 276 معنى: "إن التفسير الذي لم يكن منقولا عن السلف فهو التفسير بالرأي: 4/ 277 ذم التفسير بالرأي: 4/ 280 التكلف في تفسير القرآن: 4/ 262 خطر الإفراط في فهم القرآن: 4/ 263 تعيين تأويل من غير دليل: 3/ 328 كلام الله تعالى والتفسير: 4/ 274 التحفظ في القرآن وتفسيره: 4/ 283 تعقب سيد قطب في "الظلال" حول تفسيره الكرسي بالملك: 4/ 229 تفسيرات سهل التستري للقرآن: 4/ 242 الضابط في التفسير القرآني: 4/ 265 التأويل: 4/ 45 معنى التأويل: 5/ 216 التأويل الصحيح: 3/ 333 التأويل عند الصحابة: 4/ 277 الاتفاق على أصل التأويل: 5/ 216 اعتبار صحة التأويل: 3/ 330 قد يخفى التأويل الواضح الصحيح على الناس: 3/ 307 التفسيرات المشكلة في القرآن: 4/ 235 احتمال الموضع لأكثر من تفسير: 3/ 269 النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر كل القرآن: 4/ 278 الطريقة الوسط لفهم القرآن: 4/ 265 الخلاف في تنزيل المعنى الواحد: 5/ 215 تَفْسِيرُ الْآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِ الْوَاحِدِ على أوجه من الاحتمالات: 5/ 215 التفسير اللغوي والتفسير المعنوي: 5/ 212 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 التفسير المعنوي: 5/ 212 ترتيب فهم القرآن علي حسب تنزيله: 4/ 256 التفسير العلمي للقرآن: 2/ 128 التفسير الإشاري: 4/ 245 ما تضمنته الفاتحة: 4/ 255 ميزات سورة البقرة: 4/ 257 النظم في سورة البقرة: 4/ 268 بيان تفصيلي لما احتوته سورة "المؤمنون" من معانٍ: 4/ 270، 271 تفسير نزول القرآن علي سبعة أحرف: 2/ 136 تفسير ابن مسعود من أكبر علمائه: 23/ 353 كلام عن سورة براءة: 3/ 359 تقسيم سورة الرحمن: 4/ 170 ورع الأصمعي في التفسير: 4/ 283 معنى قول ابن عباس: "إن في النساء خمس آيات ... ": 4/ 178 معنى "أم الكتاب": 3/ 307 معنى الند في قوله تعالى: {ولا تجعلوا لله أندادًا} : 4/ 242 معنى الأسماء في قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} : 5/ 208 معنى قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} : 4/ 245 معنى "المن والسلوى" الذي أنزله الله علي بني إسرائيل: 5/ 211 ذكر ابن عباس للرفث في الحج: 4/ 94، 95 معني الطمأنينة في قوله تعالى: {ولكن ليطمئن قلبي} : 4/ 162 الإضرار في قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} : 5/ 201 معنى قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} : 5/ 283 معنى قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} من كلام ابن عباس: 3/ 352 معنى قوله تعالى: {ربانيين} : 5/ 36 معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} : 4/ 247 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 معنى الاختلاف في قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيه اختلافا كثيرا} : 5/ 955/ 59 معنى الرد فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله والرسول} : 4/ 321 تأويل لَفَظَ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبراهيم خليلا} بالفقير: 3/ 332 معنى الخلة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} : 4/ 230 معنى قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} : 4/ 319 معنى "أشياء في قوله تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تسؤكم} : 5/ 374 معنى قوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة} : 5/ 69 بيان معنى الكنز في قوله تعالى: {إن الذين يكنزون الذهب والفضة ... } : 3/ 357 معنى المخالفة في قوله تعالى: {وما أريد أن أخالفكم إلى..} : 5/ 269 معنى قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} : 5/ 70 توجيه قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} : 3/ 402 معنى قوله تعالى: {تصيبهم بما صنعوا قارعة} : 5/ 212 تفسير قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لحافظون} : 1/ 22 معنى السكر في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ورزقا حسنا} : 3/ 518 معنى الحياة الطيبة في قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} : 5/ 365 معنى قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خيرا} : 5/ 305 تفسير قوله تعالى: {خاتم النبيين} : 1/ 4 تفسير قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات و ... } : 1/ 65 معنى قوله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} : 5/ 202 السابقون في قوله تعالى: {والسابقون السابقون} : 3/ 544 تفسير قوله تعالى: {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} : 1/ 305 معنى قوله تعالى: {متاعا للمقوين} : 5/ 212 تفسير قوله تعالى: {فانتشروا في الأرض وابتغوا ... } : 1/ 317 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 معنى "الران" في قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : 3/ 504 اعتبار خارجي لتفسير قوله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} : 4/ 254 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 أصول الفقه : أصول الفقه: 1/ 24 رد أصول الفقه إلى أصول علم المنطق: 5/ 420 الأصولي: 1/ 24 الفرق بين أصول الفقه وعلم أصول الفقه: 1/ 18 علم الكلام وأصول الفقه: 1/ 40 التفريق بين مباحث الأصول وبين الطارئ عليها: 1/ 26 علوم ليست أساسية في أصول الفقه بل هي من متمماته: 1/ 37 أصول الفقه، إخراج مسائل لا ينبني عليها فقه أو أدب أو خلاف من الأصول: 1/ 37- فما بعد معاني الأصول الشرعية: 1/ 17-18 الفقه: 1/ 24 الأحكام الشرعية: 1/ 169 الكتاب والسنة والإجماع والقياس: 3/ 227-228 جمع الكتاب والسنة للأحكام: 4/ 144 تخريج الأحكام على صورتين: 1/ 364-365 أصول الأدلة: 4/ 180 أنواع الأدلة: 3/ 227 الأصول المدنية والمكية: 3/ 236 الفترة المكية والفترة المدنية: 3/ 335 الأصول المكية: 3/ 239 الأحكام المكية: 5/ 238 المشروعات المكية: 5/ 234 الأحكام المدنية: 5/ 238 الأدلة الشرعية من حيث القطع والظن. الأدلة: 3/ 165 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 القطع: 1/ 19 القطعي: 1/ 17 القطعيات: 1/ 108 القطع في دلالة الألفاظ: 1/ 27-28 أنواع الأخبار القطعية: 1/ 25 تعارض القطعيات: 5/ 353 كُلَّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ فَإِمَّا مَقْطُوعٌ بِهِ، أَوْ راجع إلى مقطوع به: 4/ 197 قطعية الكتاب وظنية السنة: 4/ 294 أصول الدين قطعية: 1/ 17 القضايا الكلية قطعية: 4/ 8 توافي شروط حصول القطع: 1/ 4 الأدلة النقلية النصية المتواترة: 2/ 79 معنى النص: 5/ 401 الأدلة القطعية والظنية: 3/ 184 الظن والعلم: 3/ 75 المعارضة لأصل قطعي: 2/ 400 إعمال الدليل الظني الراجع إلى أصل قطعي: 3/ 184 الخاص الظني لا يعارض العام القطعي: 5/ 230 الدليل الظني المعارض لأصل قطعي: 3/ 186 الظن الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ وَلَا يعارض أصلا قطعيا: 3/ 206 تعارض الدليل الظني والقطعي: 5/ 350 القياس- ظني أم قطعي؟: 3/ 184 الظن المعتبر شرعا: 4/ 473 مقدمات ظنية يتوقف عليها فهم النصوص: 1/ 28 الظن في أبواب العمليات: 3/ 75 الظن- الشك- الوهم: 1/ 17 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 الظن والشك في الكليات الشرعية: 1/ 20 أكثر الأدلة الشرعية ظنية في الثبوت أو الدلالة: 2/ 80 الأحكام الشرعية عند طائفة لا تثبت بالظن: 1/ 20 الدليل الظني في فروع الشريعة: 1/ 519 التعبد بالظن في الفروع: 1/ 20 الظن والجزئيات: 1/ 19 الظني لا ينبني عليه إلا ظني: 1/ 28 - خبر التواتر والآحاد: التواتر: 3/ 184 توقف النصوص المتواترة وغيرها على مقدمات عشرة هي ظنية: 2/ 79-80 خبر الواحد أو التواتر ونسخ القرآن: 3/ 339 خبر الآحاد: 1/ 20، 24، 27، 29221-3/ 311-4/ 11، 197 أعمال خبر الواحد: 3/ 74-75 خبر الواحد وعرضه على الكتاب: 3/ 189 معارضة خبر الواحد للقرآن: 4/ 295 تعارض خبر الآحاد مع المعنى القرآني القطعي: 4/ 313 خبر الآحاد المعارض لقاعدة: 3/ 201 خبر الو احد ومعارضة أصل قطعي: 2/ 400 رجوع خبر الآحاد لأصل قطعي: 4/ 312 أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة: 3/ 311 أخبار الآحاد وعودتها إلى أصل قطعي: 3/ 186 عمل الصحابة وحديث الآحاد: 3/ 270 العمل بالقياس وخبر الواحد والترجيح: 2/ 486-487 العمل بخبر الواحد والقياس: 3/ 207 عرض خبر الآحاد على القياس: 3/ 190، 4/ 15 خبر الآحاد والقياس: 3/ 190 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 مظان مسألة نسخ القرآن بخبر الواحد: 3/ 339 خبر الواحد لا ينسخ القرآن: 3/ 339 الرد على من لم يقبل خبر الواحد لمخالفته القياس: 3/ 190 - الأدلة المتفق عليها: الكتاب: القرآن مصدر القواعد: 4/ 316 المخصصات في القرآن: 4/ 48 الأسلوب القرآني في البلاغ: 4/ 268 استدلالات قرآنية غريبة: 4/ 193 نسخ في القرآن: 4/ 38 الإعجاز في القرآن: 5/ 53 القرآن أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعرف بمفاسدها دفعا لها: 4/ 346 من نوادر الاستدلال القرآني: 4/ 193 التجربة دليل على أن كل مسألة لها أصل في القرآن: 4/ 189 جميع الأحكام التفصيلية غير موجودة في القرآن: 4/ 181 معارضة خبر الواحد للقرآن: 4/ 295 تعارض خبر الآحاد مع المعنى القرآني القطعي: 4/ 313 الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة: 4/ 294 قطعية الكتاب وظنية السنة: 4/ 294 شرح مقولة الشاطبي: "أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وَيَنْبُوعٌ لَهَا": 4/ 316 دعوى حصر علة إنزال الذكر في التبيين: 4/ 315 الرد على دعوى: إن القرآن قد نص على كل حكم جاءت به السنة ولو على سبيل الإجمال: 4/ 394 - المحكم والمتشابه: 3/ 339 معنى المحكم: 3/ 305 المتشابه: 1/ 293 كلام للمحقق عن المحكم والمتشابه: 3/ 324 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 أتباع أم الكتاب المحكمات: 5/ 145 المتشابه قليل والمحكم هو الأمر العام الغالب: 3/ 307، 321 السؤال عن المتشابهات: 5/ 390 المتشابهات: 2/ 145-146، 3/ 211، 3/ 212-306، 5/ 69، 75-76 إنزال المتشابهات: 5/ 65 التشابه: 3/ 37 المتشابه الحقيقي والإضافي: 5/ 116 التشابه والمشتبه: 4/ 139 اتباع أم الكتاب والمتشابه: 5/ 145 التشابه في القواعد الكلية: 3/ 322 التشابه واقع في الفروع: 3/ 322 الأمور المشتبهات: 4/ 366 التكليف بالمتشابه: 4/ 128 الأحكام والمتشابه: 3/ 305 التأويل والمتشابه: 3/ 328 الحق واحد في المتشابه: 5/ 71 المتشابهات والاجتهاد: 5/ 65 من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا: 3/ 312 - الحقيقة والمجاز: 4/ 44-45 الحقيقة اللغوية: 4/ 24-25 الحقيقة العرفية: 4/ 25 الحقيقة الشرعية: 4/ 25، 27 المجاز: 5/ 202، 212 استعمال اللفظ للمعنى الحقيقي والمجازي معًا: 3/ 249 أمثلة لا يستقيم فيها حمل اللفظ على معناه الحقيقي والمجازي معا: 3/ 250 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 الحمل على الحقيقة والمجاز في قوله تعالى: {فأصبحت كالصريم} : 5/ 215 العام إذا خص هل يكون مجازا، أم لا؟ 4/ 46-47 - السنة: معنى السنة: 4/ 289 أقسام السنة: 4/ 419 السنة المتواترة والآحاد: 4/ 294-295 العمل بالسنة: 3/ 229 الاحتجاج بقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه ... } على الأخذ بالسنة: 4/ 340، 341 طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: 4/ 321 عصمة النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 470 قطعية الكتاب والسنة: 4/ 294 أفعال النبي صلى الله عليه وسلم: 1/ 523 الفعل مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى مطلق الإذن فيه ما لم يدل على غيره: 4/ 420 فعل النبي صلى الله عليه وسلم للمكروه: 4/ 93 بيان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة: 2/ 127-128 الجبلية وتكليف ما لا يطاق: 2/ 175 بيان السنة للقرآن: 4/ 136، 180، 258 أهمية السنة في تفسير القرآن وبيانه: 4/ 183 تعارض الكتاب والسنة وقضاء السنة على الكتاب: 4/ 297، 309 لا تناقض بين السنة والكتاب: 4/ 335 السنة وتوضيح الكتاب: 4/ 333 السنة مبينة للكتاب: 4/ 144، 296، 309، 393، 394، 414-4/ 401 هل مهمة السنة فقط بيان الكتاب؟: 4/ 297 معنى مقولة: "إن السنة بيان للكتاب": 4/ 332 السنة واللغة وتفصيل ما في القرآن: 4/ 393 السُّنَّةَ إِمَّا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذلك: 4/ 296 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 مثاله: قطع يد السارق: 4/ 309، 311 أفعال المكلفين وبيان السنة: 4/ 406 كلام على قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} كلية بينت بالسنة: 4/ 318 رد الشيخ عبد الغني عبد الخالق على قول المصنف إن السنة بيان للكتاب، فَهُوَ ثانٍ عَلَى الْمُبَيَّنِ فِي الِاعْتِبَارِ؛ إِذْ يلزم من إسقاط المبين سقوط البيان: 4/ 296، 297 الحكم في القرآن إجمالي وهو في السنة تفصيلي: 4/ 333 بعض الأحاديث التي أوضحت الغرض من بعض الآيات: 4/ 312 بيان ما أجمل ذكره من الأحكام في القرآن: 4/ 343 الرسول صلى الله عليه وسلم مبين لكليات القرآن ابتداء ومؤسس لهذه التفاصيل لا مؤكد لها: 4/ 317 استنباط النبي صلى الله عليه وسلم جزئيات معانيها الكلية في الكتاب: 4/ 393 فائدة التمسك بالكليات: 4/ 12 اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب: الرد على من زعم أن السنة جاءت للتفصيل لا للتأصيل: 4/ 346 السنة فيها زيادة على حكم الكتاب: 4/ 192 استقلال السنة بأحكام ليست في الكتاب: 4/ 343 استقلال السنة ببعض الأخبار: 4/ 417 يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ السُّنَّةُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مخالفة ولا موافقة للكتاب: 4/ 335 معنى قضاء السنة على الكتاب: 4/ 311 أدلة من قال: "إن السنة قاضية على الكتاب": 4/ 309 اشتملت السنة على أمور لا يوجد أصلها في القرآن: 4/ 333 رد الإمام الشاطبي على من قال بأن السنة قد تستقل بأحكام لم تذكر في القرآن ولو على سبيل الإجمال: 4/ 402 الرد على ادعاء عدم قيام دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي السُّنَّةِ لَيْسَ في الكتاب: 4/ 332 الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهَا فِي القرآن: 4/ 323 الاستقراء في الشيء: 2/ 12، 13 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 الاستقراء بمعنى الأعم الأغلب: 1/ 19 ليس هناك دليل على أن السنة راجعة إلى الكتاب: 4/ 339 فعل النبي صلى الله عليه وسلم للمكروه: 4/ 93 الفعل أَبْلَغُ فِي بَابِ التَّأَسِّي وَالِامْتِثَالِ مِنَ الْقَوْلِ المجرد: 4/ 420 إقرار النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 434 سكوت الشارع: 3/ 156 اختلاف التقرير والفعل واختلافه والقول: 4/ 443 خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 503 خصوصيات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 409 مطابقة القول للإقرار: 4/ 445 المسكوت عنه في الشرع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة: 3/ 160 النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت عما يراه أو سمعه من الباطل حتى ... : 4/ 166 إبطال إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الباطل: 2/ 399 أحكام جاهلية أُقرت في الإسلام: 2/ 524 - الإجماع: الإجماع: 1/ 24، 35، 3/ 184، 310، 4/ 38، 45-5/ 193 حجيته: 4/ 38، 227، 340 الإجماع السكوتي: 4/ 291-5/ 119 إجماع الصحابة: 3/ 281 اشتراط عدالة المجتمعين "أي أصل الإجماع": 5/ 223 العلم الإجماع: 5/ 122 الإجماع قطعي: 1/ 29 الإجماع ذو المستند الظني: 2/ 81 الإجماع فيما لم يرد فيه نص قاطع: 1/ 4 الإجماع والخلاف: 2/ 86-87 أصول الخلاف الذي لا يعتد به: 5/ 210 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 اختلاف التعدد: 5/ 209 الاعتداد بخلاف أصحاب الأهواء: 5/ 221، 222 اتفاق أهل الأهواء مع أهل الحق: 5/ 223 لا تجتمع الأمة على خطأ: 4/ 45 عمل أهل المدينة: 3/ 227، 271 القياس: 1/ 24، 29، 33، 131، 133-2517، 531-3/ 75، 242-4/ 98، 99379، 391، 392، 393-5/ 193، 194، 197، 512 معنى القياس عند أهل النظر: 5/ 422 القياس عند الشافعي: 5/ 196 معنى حَدِيثِ مُعَاذٍ: "بِمَ تَحْكُمُ" قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ ... ": 4/ 305 معنى حَدِيثِ مُعَاذٍ "بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ ... " عند الشيخ عبد الغني عبد الخالق، والرد على من فهمه على غير معناه: 4/ 308 كلام طويل على حديث معاذ هذا، رواية ودراية: 4/ 298-306 القياس نفيا وإثباتا: 5/ 229 مذهب من نفى القياس مطلقا: 5/ 229 الظاهرية والقياس: 2/ 81 الاقتصار على محال النصوص ظاهرية: 1/ 263 القياس وحجيته: 4/ 15، 62، 64 إثبات القياس بعموم الرسالة: 2/ 412 من أدلة إثبات القياس الدقيقة: 1/ 319 القياس الجلي: 2/ 156، 162 الأصول والفروع: 1/ 32 الأصل الاستعمالي والأصل القياسي: 4/ 19 المقدمات العلمية: 5/ 47 الفرع مبني على أصله: 3/ 322 التبع يجوز فيه ما يجوز بالأصل: 2/ 318 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 الاجتهاد والقياس بالنسبة للسنة: 4/ 352، 473 القياس- العلة: 2/ 86-5/ 419 حكم لتحريم الخمر: 4/ 358 القياس والعلل: 2/ 539، 3/ 311 العلة والنص: 4/ 353 العلة في القياس: 2/ 531-5/ 125، 126 علل مسائل الفقه وحِكَمُ التشريعات: 5/ 171 قياس العكس: 1/ 462 القياس وأخبار الآحاد: 4/ 473 القياس الاستثنائي: 5/ 49 القياس الشرطي: 5/ 411 القياس الاقتراني الشرطي: 5/ 49 قياس المجاورة: 1/ 134 القياس والرأي: 1/ 15-5/ 230 القياس والمتشابه: 3/ 326 القياس وسد الذرائع: 4/ 67 القياس من مقدمة واحدة: 5/ 421 بناء القياس على مقدمتين عند المناطقة: 5/ 421 الاعتراض على القياس: 3/ 75 أهم اعتراضات القياس: فساد الاعتبار وفساد الوضع: 5/ 125 التحرج من القياس: 4/ 284 مذهب من أعمل القياس وترك النصوص على الإطلاق: 5/ 229 دعوى قياس النبي تحريم المدينة بتحريم مكة: 4/ 388 القياس على قول إمام المذهب: 1/ 343 القياس وإلحاق المسكوت بالمنطوق: 4/ 64 القياس في السبب: 3/ 178 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 القياس في الكفارات: 5/ 21 المقدمة النقلية والمقدمة النظرية: 3/ 232 الاعتماد على مسلمات في التعريف: 1/ 69 علتا النطق والاستنباط: 5/ 109 من أساليب الاستدلال: إبطال النقيض: 1/ 19 دليل منطقي مؤلف من صغرى وكبرى، ثم النتيجة: 3/ 27 المعقول: إن الدال هو الذي يبين ما اشتمل عليه المدلول ... : 4/ 343 أخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا ... : 3/ 292 خبر الآحاد والقياس: 4/ 15 عرض خبر الأحاد على القياس: 3/ 190 العمل بخبر الواحد والقياس: 3/ 207 العمل بالقياس وخبر الواحد والترجيح: 2/ 486-487 الدليل غير المعتبر: 5/ 141 اعتياد الاستدلال لمذهب واحد: 3/ 131 - العلة: 4/ 16 العلل: 3/ 135 العلة في الأصول: 1/ 21 علل الأحكام: 2/ 218 كيفية تلقي العلل في الأحكام: 2/ 11 النهي لعلة: 2/ 239 مسالك العلة: 2/ 517، 523، 534، 3/ 135 العلل: مسالك المناسبة: 3/ 139 وضع العلة: 1/ 408 المناسب: مسالك العلل: 2/ 529 من مسالك العلة الطرد والعكس: 5/ 110 ثبوت العلة بالنص أو الإيماء: 5/ 125 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 ثبوت العلة بالسبر والتقسيم: 5/ 21، 125، 419 استنباط العلة: 5/ 110 المعاني والظواهر في الشريعة: 3/ 132 المعاني مجردة عن اللفظ: 5/ 125 النظر في معاني الأحكام: 2/ 529-3/ 411 المعاني في العادات والعبادات: 3/ 138 الدلالة الإشارية: 4/ 243 انتزاع الدلالة من سياق لا يقتضيه أو غير مقصود: 2/ 152 بقاء الصفة من بقاء الموصوف: 2/ 34 كون النقص قادحا في الوصف المدعى عليته: 5/ 197 مظان مسألة: كون النقص قادحا في الوصف المدعى عليته: 5/ 197 التبع يجوز فيه ما يجوز بالأصل: 2/ 318 العلة لقرينة: 1/ 410 العلة والحكمة: 1/ 485، 2/ 523 التعليل في الأحكام: 2/ 9-11، 273 المعاني في العبادات: 3/ 138 الحكم على الواقعة: 2/ 90 ثبوت الحكم قبل العلة: 5/ 111 الحكمة: 1/ 392 الشرائع والحكمة فيها: 2/ 393 التعليل في العبادات: 2/ 513 القوادح العشرة في الأدلة: 3/ 310 علة شرع العبادات: 2/ 525 حكم العبادات: 2/ 295 علة تحريم الخمر: 4/ 458-5/ 18، 21 علة قطع يد السارق: 5/ 12 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 تعريف كلمة مناط لغويا: 5/ 21 تخريج المناط: 1/ 17-5/ 21، 22 تعريف تخريج المناط: 5/ 21، 22 ثبوت العلة بتخريج المناط: 5/ 125 مظان مبحث تخريج المناط: 5/ 22 تحقيق المناط: 1/ 27-3/ 311-4/ 56-5/ 12، 18، 19، 20، 21، 24، 26، 37، 125 تعريف تحقيق المناط: 3/ 231، 5/ 12 الفرق بين اجتهاد تحقيق المناط وغيره: 5/ 38 مقدمة تحقيق المناط والاختلاف فيها: 5/ 414 أدلة تحقيق المناط الخاص: 5/ 26 عدم تسليم الخصم لمقدمة تحقيق المناط: 5/ 417 الاجتهاد في تحقيق المناط: 5/ 128 كلام حول شرط العربية وفهم مقاصد الشرع في اجتهاد تحقيق المناط: 5/ 129 بعض أمثلة ليست من المناط الخاص: 3/ 296 أمثلة على تحقيق المناط: 3/ 232، 5/ 12، 128 تحقيق المناط يرجع إلى تحقيق اندراج الأصغر في الأوسط: 3/ 232 توافق الآمدي مع المؤلف في بعض صور تحقيق المناط: 5/ 18 ضرورة الاجتهاد في تحقيق المناط: 5/ 16 تحقيق المناط الخاص: 5/ 23، 24 تحقيق المناط في الأعيان: 5/ 23 تحقيق المناط قياس خاص: 5/ 12 السؤال عن المناط المعين وغير المعين: 3/ 302 اعتبار المناط المعين: 3/ 301 مظان مبحث تحقيق المناط من كتب الأصول: 5/ 12 الاشتباه في مناط الأدلة: 3/ 318 تنقيح المناط: 1/ 27 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 تعريف تنقيح المناط: 5/ 19 الخلاف في جواز تنقيح المناط: 5/ 21 الفرق بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم: 5/ 21 أقسام تنقيح المناط: 5/ 20 مثال تنقيح المناط: 5/ 19 مظان مبحث تنقيح المناط: 5/ 19 - الاستصحاب: 1/ 18، 24 - مذهب الصحابي: 3/ 228 عدالة الصحابة: 4/ 448 الصحابة- علمهم وعملهم: 1/ 7 عمل الصحابي: 4/ 446 السنة قامت على اعتبار عمل الصحابي: 4/ 290 قول الصحابي: 5/ 74 اقْتِدَاءِ الصَّحَابَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 3/ 245 ترك الصحابة قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعله: 4/ 87 ترك الصحابة بعض المباحات لغيرها: 4/ 87 أخذ الصحابة التشريع قبل الهجرة وبعدها: 5/ 241 الأفضل ما كان عليه الصحابة: 1/ 334 اتباع الصحابة: 4/ 132 توجيه حديث: "أصحابي كالنجوم" ... : 5/ 81 تقليد الصحابة: 4/ 457 تقليد الصحابي وحجية مذهبه: 2/ 227، 4/ 132، 457، 5/ 67، 74 عمل الصحابي من السنة: 4/ 290 إجماع الصحابة: 4/ 490 بعض صور اختلاف الصحابة: 5/ 160، 162، 163 عمل الصحابة وحديث الآحاد: 3/ 270 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 مذهب الصحابي والقياس: 4/ 134 النظر المصلحي عند الصحابة: 4/ 292 بيان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة: 2/ 127-128 أسباب ترجيح بيان الصحابة على غيرهم: 4/ 128 مظان مسألة بيان الصحابة: 4/ 128 - شرع من قبلنا: 3/ 228، 4/ 160 شرع من قبلنا والعمل به: 2/ 461-3/ 110 سد الذرائع: 3/ 528، 564-4/ 358-5/ 177، 178، 182، 183، 186، 187 قاعدة سد الذرائع: 3/ 85 سد الذرائع وتحريم الوسائل: 5/ 287 الوسائل: 1/ 292 إسقاط الشافعي لحكم سد الذرائع5/ 184، 185 الشريعة مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَالتَّحَرُّزِ مِمَّا عسى أن يكون طريقًا إلى مفسدة: 3/ 85 النظر في مآلات الأفعال: 3/ 120-5/ 177 سب آلهة الكفار: 3/ 75-76، 131-5/ 185 سب الآباء: 3/ 131 بيع الأدوات لمن يستعملها في حرام: 3/ 54-55 بيع السلاح للفتن أو لقطع الطريق: 3/ 23 بيع العنب للخمارة: 3/ 23 بيع الجارية للفساق: 3/ 23 قطع الأعضاء للضرر: 2/ 51 ترك العبادة جملة: 2/ 96 ترك المتبوع بعض السنن خوف فهم الوجوب: 4/ 8 منع جمع المتفرق وتفريق المجتمع؛ خشية الصدقة: 1/ 405 ترك من واقع نهيا لما يترتب عليه من أمر زائد بحكم التبعية، لا بحكم الأصالة: 5/ 190 ترك المندوبات بالكل يؤدي إلى الإخلال بالواجب: 4/ 108 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 فتح باب الاحتمال في النصوص: 5/ 401 سقوط اعتبار المقصد بسقوط الوسيلة: 2/ 35 الاستحسان: 1/ 33، 2/ 523 تعريف الاستحسان: 5/ 193، 233 تفهم المؤلف للاستحسان: 5/ 199 أمثلة على الاستحسان: 5/ 193 تفسير ابن العربي للاستحسان: 5/ 196 الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة: 5/ 198 الاستحسان العقلي: 1/ 28 مظان الاستحسان: 5/ 199 الاستحسان والمصالح المرسلة: 3/ 228 الاستحسان والمصلحة: 1/ 33 الاستحسان وخبر الواحد: 1/ 33 الظاهر والاستحسان: 1/ 33 المصالح المرسلة: 1/ 18، 2/ 523، 3/ 41، 160، 283، 285، 4/ 73، 5/ 114، 196، 392، 491 المصالح المرسلة والاستحسان: 3/ 138 التمييز بين البدعة والمصالح المرسلة: 3/ 183 المصالح المرسلة لا تدخل في التعبدات: 3/ 285 جمع المصحف: 3/ 39-41 المصالح: 3/ 504، 528، 549-5/ 195 المصالح في الشرع معناها: 1/ 375، 532 المصالح والمفاسد الدنيوية والأخروية: 3/ 124 المصالح والمفاسد: 1/ 299-2/ 44-3/ 28، 35، 53، 477، 552-4/ 53، 54-5/ 48، 124 المصالح الشرعية: 1/ 35 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 وضع الشريعة لمصالح العباد: 1/ 318، 2/ 364، 408، 520-3/ 23، 24، 457-5/ 42، 179 المصالح في الأحكام: 3/ 120، 409، 410، 412، 413، 415 المصالح والفوائد لا بد أن يشهد لها الشرع بذلك: 1/ 53 المصالح والأحكام: 3/ 171، 4/ 140 مراعاة المصالح في الأحكام: 4/ 56 قاعدة مراعاة المصالح لتعيين الراجح: 2/ 87 القيام على مصالح العامة: 2/ 342 هل وضعت الشرائع لمصالح العباد؟: 2/ 9 الشريعة تشمل مصالح كلية وجزئية: 5/ 77 نشر المصالح: 2/ 120، 353 المصالح والمنافع: 3/ 435-440 المصلحة العامة: 3/ 565 المصلحة العامة والخاصة: 3/ 89، 92 النظر المصلحي عند الصحابة: 4/ 292 المصالح والعلل: 3/ 404 التكليف بالمصالح والمفاسد: 2/ 69 الشريعة مبنية على المصالح: 5/ 42 هل يشترط في الامتثال ظهور المصلحة: 1/ 335 دخول أفراد المصلحة في القاعدة الكلية: 3/ 126 ابتداع المصالح: 3/ 120 المصالح وتغليب العادة فيها: 2/ 63 مصالح قيام حياة الإنسان: 2/ 44 مصالح الخلف ووضع الشريعة: 2/ 50 مصالح النفسية ومصالح الغير: 3/ 86، 87 اختلاط المنافع والمفسدة: 2/ 64، 68 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 ذكر المضار لا يعني التحريم: 2/ 67 مسألة اختلاط المصلحة والمفسدة: 2/ 45 مصلحة ترك بناء الكعبة على أساس إبراهيم: 5/ 181 المصالح في نظر الناس: 4/ 63 المصالح والمفاسد من صفات الأعيان: 2/ 89 مقاصد الشرع في بث المصالح: 2/ 86 حكم الأصل في المنافع والمضار: 2/ 66 تعارض المصالح والمفاسد: 2/ 64 درء المفاسد وجلب المصالح: 3/ 465 قاعدة: اعتبار المصالح في الأحكام: 1/ 432 مصالح العباد هل هي من الله تفضلا أم وجوبا؟: 2/ 294 المنافع والمضار الإضافية: 2/ 65، 66 المصالح والمفاسد الدينية تفهم على الغالب: 2/ 45 المصلحة الراجحة والمفسدة المرجوحة والعكس: 2/ 46 إقامة المصالح ونزع المفاسد ... : 2/ 62 المفسد النادر: 3/ 74 اختلاط العمل الصالح بالسيء: 3/ 140، 402 جلب المصالح في الأمور الضرورية: 5/ 199 كيفية تعرف المصالح في الدنيا والآخرة: 2/ 77 الضرر العام: 3/ 53 الضرر العام والمصالح الخاصة: 3/ 57 درء المفسدة عن الجماعة: 3/ 64 الإخلال بالمصالح العامة إضرارا بالخاصة: 2/ 320 محافظة العقلاء على المصالح: 3/ 180 مصالح الغير والضرر: 3/ 89 الإضرار بالناس: 3/ 131 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 المال والتكسب عبادات فيها مصالح عامة: 2/ 315 القيام بمصالح الغير: 3/ 88 الإضرار والمفاسد: 3/ 56، 85 أقسام الإضرار: 3/ 55 توقع المفاسد: 3/ 95 المفسدة القطعية: 3/ 72 المفسدة المتوسطة: 3/ 77 اعتبار المصالح: 3/ 415 الجهل بالمصلحة على التفصيل: 3/ 410 ضابط المصلحة: 5/ 42 تعيين المصلحة والمفسدة من الشارع: 3/ 29 تعارض المفسدتين: 4/ 433، 434 المشروعات وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد..: 3/ 28 مفاسد انخرام قانون السياسة الشرعية: 5/ 103 إذا كانت المصلحة عامة: 3/ 89 تعاطي السبب الذي تنشأ عنه المفسدة: 3/ 36 جلب المصلحة أو دفع المفسدة: 3/ 55 العمل من أجل المصلحة لا من أجل التعبد: 3/ 121 عمل العبد لمجرد مصلحته لا على قصد التعبد: 3/ 99 الترجيح بين المصلحة والمفسدة: 3/ 96 تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة: 3/ 95 مصالح العباد: 5/ 230 ضرر إهمال اعتبار المصلحة: 3/ 415 جاء الشارع باعتبار المصلحة: 3/ 180 جلب المصالح ودرء المفاسد: 3/ 538-5/ 142، 300 المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية .... : 3/ 94 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 طلب المصلحة بالفعل المشروع: 5/ 179 اشتمال الشريعة على مصلحة كلية في الجملة: 3/ 123 اشتراط العلم بمقاصد الشرع عند المجتهد: 5/ 124 تحذير السلف مما يجر إلى المفاسد: 3/ 529 فهم المعنى المصلحي للحكم على وجه التفصيل: 3/ 412 كُلُّ مَنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، فَعَلَى غيره القيام بمصالحه: 3/ 87 العلم الإجمالي بالمصلحة: 3/ 409 الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها: 3/ 236 الضروريات: 1/ 20 الضروريات الخمسة: 1/ 31، 3/ 436 ترتيب الضروريات الخمسة: 2/ 65، 511 حفظ الضروريات: 1/ 403، 2/ 18، 3/ 24، 177، 338-4/ 347 المحافظة عند الأصوليين: 2/ 18 حفظ جانب الوجود وجانب العدم: 2/ 18 حفظ ما يحتاج إليه الناس: 4/ 16 اتفاق الشرائع على حفظ الضروريات: 3/ 365 الضروريات والحاجيات والتحسينات: 3/ 487 دَوَرَانَ الْحَاجِيَّاتِ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَالتَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ: 4/ 350 التحسينات وبعض أمثلتها: 4/ 352 المحافظة علي الضروريات والحاجات والتحسينات: 3/ 171 مقولات لبعض العلماء في إبطال حديث: "مَا أَتَاكُمْ عَنِّي، فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ... ": 4/ 330 الفرق بين الضروريات والحاجات: 1/ 338-339 حفظ القواعد الكلية: 3/ 365 كليات الشريعة: 5/ 14 حفظ الدين: 2/ 91، 3/ 219، 4/ 347 معاني حفظ الدين: 4/ 347 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 الجهاد لحفظ الدين: 2/ 81-19 مكملات لحفظ الدين: 3/ 239 حفظ الدين وحفظ غيره: 2/ 265 حفظ الدين وحفظ النفس والعقل وحفظ النسل والمال: 2/ 18-19 أصول العبادات وحفظ الدين: 2/ 18 العادات وحفظ الدين: 2/ 19 المعاملات وحفظ الدين: 2/ 19 مضار الإفراط والتفريط: 5/ 277 حفظ النفس: 4/ 347 إحياء النفوس: 4/ 64 إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام: 3/ 102 صيانة النفوس: 3/ 236 حق النفس: 2/ 249 حرمة حفظ النفس كلي يندرج تحته حفظ العقل نفسه: 3/ 237 طرق حفظ النفس: 4/ 348 حفظ العقل: 4/ 17، 389 حفظ العقل وتحريم الخمر: 3/ 237-238 حفظ النسل: 4/ 17، 348 حفظ العرض: 4/ 349 معاني حفظ النفس "النسل": 4/ 347 حفظ النسل وتحريم الزنا: 3/ 238 حفظ المال: 4/ 348 حفظ المال وتحريم الظلم والمال الحرام: 3/ 238 العرف: 2/ 490 العرف والعادة: 1/ 159 - الحيل: 5/ 182 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 تعريف الحيل: 3/ 108 إبطال الحيل: 3/ 8 تعريف وشروط الحيل المذمومة: 3/ 110 قاعدة الحيل: 5/ 187 الحيل الممنوعة: 3/ 108 بيان لابن القيم في أن الحيل لا تمشي على أصول الأئمة..: 3/ 129 الحيل وأدلة تحريمها: 3/ 108، 109 مذهب أبي حنيفة في الحيل: 5/ 184 إجازة أبي حنيفة للحيل: 5/ 188 جواز الحيل للإكراه: 3/ 124 الحيل فيها مخالفة لعمل الأمة: 3/ 116 أمثلة على الحيل: 3/ 107 عمل أصحاب السبت من الحيل: 3/ 110 الحيل في الزكاة: 3/ 32، 122، 344-4/ 226-5187، 188 حيل المنافقين والمرائين: 3/ 124 الحيل في الأيمان: 1/ 449 السفر بقصد الفطر: 1/ 379، 437 بيوع الآجال والحيل: 3/ 127 القتل باسم السياسة: 3/ 114 - النسخ: تعريف النسخ: 3/ 341-5/ 208 الناسخ والمنسوخ: 5/ 61-92، 144 معاني النسخ عند السلف: 3/ 344 من معاني النسخ عند المصنف: 343 أمثلة على معاني النسخ عند السلف: 3/ 305 المُحكم والمتشابه والمنسوخ: 3/ 339 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 أمثلة على النسخ عند المتقدمين: 3/ 345، 346، 347 وقوع النسخ: 5/ 61 النسخ في مكة: 3/ 336، 338 وقوع معظم النسخ في مكة: 3/ 336 معرفة الناسخ والمنسوخ: 3/ 278 الخلاف العارض في دعوى النسخ وعدمه: 5/ 208، 209 النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْكُلِّيَّاتِ وُقُوعًا وَإِنْ أمكن عقلا: 3/ 338 النسخ في الكليات: 3/ 338 النسخ في الجزئيات: 3/ 365 دخول النسخ في الفروع الكلية المكية قليل: 3/ 339 النسخ دليل على أن الشريعة ترجع إلى قول واحد: 5/ 62 دخول النسخ في الأخبار: 3/ 345-346، 356 لا يجوز النسخ في الأخبار: 3/ 345 النسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 489 المتشابه والنسخ: 3/ 325-326 الأحكام والنسخ: 3/ 335 النسخ بالإقالة: 3/ 32 منهج "تفسير الجلالين" في النسخ: 3/ 340 أكثر تشريع القرآن رفع ونقض لما كانوا عليه: 3/ 343 خبر الواحد لا ينسخ القرآن: 3/ 339 مظان مسألة نسخ القرآن بخبر الواحد: 3/ 339 الأخذ بالأحدث من السنة: 3/ 278 النسخ في القرآن: 4/ 38 النسخ في آية: {وإذا رأيت الذين يخوضون} : 3/ 349 نسخ قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين} : 3/ 355 بطلان القول بأن آية: {ويستغفرون لمن في الأرض} منسوخة: 3/ 356 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} ليست منسوخة: 3/ 358 رد النسخ في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} : 3/ 363 كلام لابن العربي عن نسخ آية: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} : 3/ 359 نسخ الكلام في الصلاة: 3/ 341 المستثنيات من القواعد العامة: 3/ 179-5/ 229 الاستثناء في القرآن: 4/ 19-21 الاستثناء عند ابن عباس: 3/ 346 التخصيص والنسخ: 4/ 44 - التعارض والترجيح: التعارض: 4/ 9 تعريف التعارض: 5/ 344، 345 التعارض والترجيح: 1/ 412، 3/ 252، 5/ 63، 68-69، 73، 232، 341 التعارض في الأدلة الشرعية تعارض ظاهري: 5/ 67، 73 قاعدة تعارض الأصل والغالب: 1/ 292 سبب التعارض بين الأدلة: 5/ 341 تعارض النصوص والقواعد عند الظاهرية: 3/ 188 التعارض راجع إلى التطبيق وتحقيق المناط: 5/ 341، 342، 344 تعارض العمل الأكثري مع غيره: 3/ 252 تعارض الأدلة: 3/ 331-332 التعارض باعتبار الدلالة الظنية: 5/ 349 المعارضة بين الظني والقطعي: 4/ 310 تعارض الكلي للجزئي: 1/ 291 عدم توارد دليلين على محل التعارض: 5/ 350 تعارض المنع بتكليف ما لا يطاق وتقديم المصلحة العامة على الخاصة: 3/ 93 معارضة الفعل للإقرار: 4/ 443 الْأَعْمَالَ الْمُتَعَارِضَةَ الْأَحْكَامِ لَيْسَتْ بِمُتَلَازِمَةٍ لِحُصُولِهَا فِي زمانين وفي حالتين: 3/ 223 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 تعارض الأعمال الفاضلة: 2/ 250 الوقوع الفعلي والترجيح: 2/ 51 الترجيح: 1/ 93، 141-2/ 52 التجريح بين المتعارضين: 4/ 83 متى يكون الترجيح: 5/ 342 قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس ومضارهم: 3/ 53 وجوه التعارض مع العجز عن الترجيح: 5/ 68 إبطال أحد الدليلين المتعارضين: 5/ 286، 347 طرق التخلص من معارضة دليل راجح وآخر مرجوح: 3/ 331 التعارض مع عدم إمكان الجمع: 5/ 344 الجمع بين الدليلين والخروج بقول ثالث: 5/ 112 الجمع بين النصوص: 3/ 340-5/ 112 النظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالات كثيرة: 3/ 288 الْأَفْعَالَ الْمُتَلَازِمَةَ إِمَّا أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهَا وَصْفًا للآخر أم لا: 3/ 225 مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول: 5/ 270 التوجه إلى الفعل ترجيحا للقول: 5/ 264 ارتكاب خير الشرين: 5/ 266 تركة صلى الله عليه وسلم دال على مرجوحية الفعل: 4/ 421 وجوه الترجيح: 5/ 346 الترجيح بالأمر الخارج: 3/ 253 مظان مسألة الترجيح: 5/ 342 القضاء بالراح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية: 5/ 113 الترجيح بالمتن واشتراط العربية له: 5/ 128 لا معارضة إلا عند التساوي: 4/ 9 التناقض والاختلاف في الشريعة: 3/ 216 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 -التكليف: معناه لغة: 2/ 209 المعنى التكليفي: 4/ 421 القول التكليفي: 5/ 260 خطاب التكليف: 1/ 421 خطاب الوضع وخطاب التكليف: 1/ 235-3/ 17 وضوح الخطاب وخفاؤه: 5/ 114، 115 عموم التكليف: 1/ 543-2/ 407 مخاطبة الجميع بكلام واحد: 2/ 136-137 النفي والإثبات في الخطاب الشرعي: 5/ 116 تساوي المرأة مع الرجل في التكليف، وذكر الاستثناء بينهما: 4/ 63 كيفية معرفة اشتراك المكلفين في الحكم: 3/ 241 التكليف والابتلاء: 2/ 261-262 التكليف بفعل وغيره: 1/ 38 شرط بعض العبادات: 1/ 542 التدرج في التكليف: 2/ 279 وسطية الشريعة في التكليف: 2/ 78 حمل المكلفين على الشريعة: 2/ 65 من شروط التكليف: العلم: 1/ 250 حصل الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ، أم لا؟ 5/ 275 البلوغ والرشد: 1/ 298 شرط صحة التكليف: القدرة: 2/ 171 الاستطاعة في الحج: 3/ 55 القدرة في التكليف: 2/ 171 القدرة على الفعل في التكليف: 2/ 204-206 العقل شرط في التكليف: 1/ 414 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 مورد التكليف هو العقل: 3/ 209 من مميزات الشريعة أن تكاليفها تفهم من الأمي: 2/ 141 التكليف والبلوغ: 1/ 298 العلم بالمكلف به شرط التكليف: 5/ 334 لا تكليف إلا بدليل: 5/ 337 التكليف بمرتبط بالمصالح: 2/ 218 علم المصلحة في التكليف: 3/ 98 مبني التكليف استقرار العادات: 2/ 483 النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه: 5/ 25 أعمال المكلف في نفسه5/ 25 إرجاع الشرع بعض الأمور لنظر المكلف: 3/ 235 توكيل أمور إلى نظر المكلف: 3/ 401 ما يرد إلى أمانات المكلفين: 2/ 527 الأخذ بأخف القولين يؤدي إلى إسقاط التكليف: 5/ 105 تخير المكلف بين أقوال العلماء: 5/ 79 نقض القول بأنه إذا تعارضت الأدلة على المكلف تخير: 5/ 77 يسقط التكليف عن المجتهد عهد تعارض الأدلة: 5/ 334 التكليف بالمطلق عند العرب: 3/ 383 من يسقط عنه التكليف: 2/ 408، 411 تكليف المعتوه والصبي والنائم: 3/ 209 تكليف المجنون: 1/ 299 الاحتلام والعقل: 1/ 396 المرض والجنون والتكليف: 2/ 481 حكم الساهي والنائم والمجنون: 3/ 385 مسببات زوال العقل: 1/ 442 البلوغ للغلام والجارية: 5/ 17 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 حكم فعل المجنون والصبي والنائم والمغمي عليه: 1/ 235 نهي غير العاقل: 1/ 290 النيات في التكليف: 2/ 536 الإرادة لفعل الطاعة عند المكلف: 3/ 35 الهدي والتكليف: 5/ 77 التكاليف وضعت للابتلاء والاختيار: 3/ 511 تكليف العجماوات والجمادات: 1/ 414 تكليف الكفار بالفروع: 1/ 41، 255، 414، 415-4/ 161-5/ 275 الثواب والعقاب مع التكليف: 2/ 201 الثواب على ما لا يكلف به: 2/ 193 الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا: 2/ 193 أقسام حظوظ المكلف: 2/ 312 الثواب على قدر المشقة: 2/ 222 محك أهل التقوى التكاليف الشاقة: 2/ 332 تكليف ما لا يطاق ممنوع عقلا وشرعا: 2/ 131 تكليف ما لا يطاق واستمرار العوائد: 2/ 494، 495 تكليف ما لا يطاق: 1/ 237، 280، 364، 505، 2/ 48، 204، 3/ 92، 94، 95، 3/ 366، 377، 379، 434، 559-5/ 334 التكليف بالشاق: 1/ 505، 2/ 204 التكليف ما ليس بوسع المكلف: 3/ 504 إسقاط العبادات: 3/ 101 التكليف بالمحال: 5/ 18 التكليف بالمحال عند الأشاعرة: 5/ 18 الْأُمُورَ الذِّهْنِيَّةَ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ تُعْقَلُ وما لا تعقل لا يكلف به: 3/ 222 الفعل أَبْلَغُ فِي بَابِ التَّأَسِّي وَالِامْتِثَالِ مِنَ الْقَوْلِ المجرد: 4/ 420 الاكتفاء بالقول دون الفعل: 4/ 438 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 الثواب والعقاب مترتبات على الفعل: 1/ 338 -مباحث الترك: هل الترك فعل؟ 4/ 419 مظان مسألة أن الترك المقصود فعل: 4/ 419 ترك لِمَا لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ مَنْهِيٌّ عنه بالكل: 4/ 424 الفعل والترك مع المخالفة: 3/ 14 التروك من حيث هي تروك لا تستلزم فِي الْخَارِجِ وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ مَعَ التُّرُوكِ، إِلَّا أن يثبت تلازمها شرعا: 3/ 225 الحقوق في الأفعال والتروك: 1/ 182 الترك خوف الافتراض: 4/ 423 الترك للكراهة طبعا: 4/ 423 الترك للحق الغير: 4/ 423 الأوامر والنواهي: 3/ 219، 369-5/ 301 الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا، بَلِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا إنما طولب بِهَا الْعَبْدُ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عليه: 4/ 220 الاختلاف في معنى الأمر: 3/ 309 صيغة الأمر: 3/ 537 الأمر في أصول الفقه: 2/ 492-493 الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم: 3/ 229 مبحث الأمر: 2/ 157-158 الأمر للوجوب: 1/ 26 امتثال الأمر "الأوامر": 2/ 529-3/ 99 التزام الأمر والنهي: 1/ 498 الأمر للوجوب وكيفية إثباته: 1/ 91 تمهيد الأمر: 1/ 91 أمر التعجيز والتهديد: 3/ 376 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 أمر المعدوم: 1/ 38 دلالة الأمر على الطلب: 3/ 376 الأمر والنهي: 3/ 219 مخالفة الأمر وعدم مطابقته مبطل للعمل: 2/ 539 اجتماع الأمر والنهي على المكلف: 3/ 434 الأمر والنهي التبعيان غير منحتمين: 3/ 429 ما جاء في صورة النهي: 2/ 172 الزجر: 2/ 118-119 المعصية والعقاب مرتبطان بالنهي: 1/ 365 الأمر عند الأشاعرة والمعتزلة: 3/ 376-377 التفريق بين مراتب الأوامر ومراتب النواهي: 3/ 419 امتثال الأوامر: 1/ 338 تساوي الأوامر والنواهي في الامتثال: 3/ 542 مظان مسألة الأمر للوجوب: 3/ 492 -الواجب والفرض: 1/ 215، 513 الفرض والواجب عن الحنفية: 5/ 217 تفريق الحنفية بين الفرض والواجب: 4/ 308، 309، 5/ 217، 218 مظان مسألة الفرض والواجب عند الحنفية: 4/ 308 أشكال الفرض: 2/ 234 الإجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم: 3/ 298، 405 فرض الكفاية: فرض العين: 1/ 252، 283، 2/ 305، 308-309-4/ 205 فرض العين: 1/ 280 استقرار الواجب: 4/ 124 فرض طلب/ الكفاية: 1/ 278 أمثلة على فرض الكفاية: الصناعات المختلفة التي لها أثر على العمران: 1/ 252 الواجب المخير: 1/ 39-40، 240، 245، 539، 3/ 384 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 الأمر بما لا يطاق: 3/ 375 الأمر والنهي والاقتصاد فيهما: 2/ 51 الإذن مضاد للأمر والنهي معا: 2/ 49 فرق بين طلب الحصول وطلب التحصيل: 3/ 377 عدم التفريق بين أمر وأمر ونهي ونهي: 3/ 542 مرجع الوجوب والتحريم: 1/ 41 الْأَوَامِرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَجْرِي فِي التَّأْكِيدِ مجري واحدا: 3/ 492 المشتقات والأوامر: 2/ 220 الأمر بالمطلق: 3/ 217، 218 تَوَارُدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِهَا فِي نفسها واعتبار تفاصيلها وجزئياتها وأوصافها: 3/ 487 توارد الأمر والنهي من جهتين كأنهما جهة واحدة: 1/ 366 الأمران أحدهما تابع والآخر متبوع: 3/ 484 ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب: 1/ 230، 3/ 427 مسالة هل يكون الشيء الواحد واجبا وحراما من جهة واحدة: 3/ 217 الأمر الذي يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا: 3/ 74 تفاوت تأكيد الأوامر: 3/ 492 الأمر والنهي والإباحة: 3/ 414 الأمر قد يكون للإباحة: 3/ 467 الأمر والنهي الابتدائي التصريحي: 3/ 134 الأمر المطلق والمقيد: 3/ 374 الإرادة في الأمر: 3/ 39 الطلب غير الإرادة: 3/ 369 الأمر والنهي هل يستلزمان إرادة الوقوع: 2/ 50 الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء: 3/ 376 اجتماع الأمر والنهي على المكلف: 3/ 434، 468 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 التفريق بين الواجب والمندوب في الفعل وبين الحرام والمكروه في الترك: 3/ 536 وجوب ترك التسوية بين المندوب والواجب: 4/ 97 لا يلزم من كون الأمر مقيدا أن يكون معينا: 3/ 380 فائدة: الأمر الذي ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك: 5/ 210 أقسام المنهيات: 3/ 388 النهي عن الشيء هل هو نهي عن ضده .... : 1/ 230، 3/ 424، 427 النهي يقتضي الفساد: 2/ 536، 2/ 540 التحليل والتحريم حق الله: 3/ 103 تحريم الأشياء مطلقا بلا قيد 3/ 106 ترك الحرام: 3/ 220 استقرار الحرام: 4/ 124 التَّرْكُ لِمَا لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ منهي عنه بالكل: 4/ 424 عدم التفريق بين الواجب والمندوب في الفعل وبين الحرام والمكروه في الترك: 3/ 536 - المباح: 1/ 43، 171، 480، 484، 490، 497، 2/ 407، 3/ 375، 506-507، 528، 4/ 58، 87-5/ 309 الإباحة: 1/ 38، 292، 2/ 76-77 سكوت الشارع: 3/ 273 فعل المباح على مقتضى إذن الشارع: 2/ 319، 320 تدرج الناس في المباح إلى أعلي منه: 3/ 80 طلب المباح: 3/ 531 العبادات والعادات والأصل فيهما: 2/ 523 الاستمتاع بالطيبات: 1/ 197-198، 206، 225 مظان مسألة كون المباح مأمورا به: 3/ 424 تَرْكُ الْمُبَاحِ الصِّرْفِ إِلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ: 4/ 426 عد المباحات رخصا: 3/ 543 التسوية بين المباحات: 4/ 108 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 المباح بالجزء المطلوب بالكل: 3/ 476 المباحات وتسويتها بالمكروهات والمندوبات: 4/ 108 النيات مع المباحات: 2/ 314 التعبد بالمباح: 2/ 339 قلب المباح عبادة: 2/ 356-3/ 531، 532 التأسي والاقتداء: 4/ 320-5/ 302، 307-309 المباحات والمفاسد: 3/ 526 تناول المباح على غير الجهة المشروعة: 3/ 507 التوسع في المباح: 5/ 244 خطر التوسع في المباحات: 3/ 527 ترك الصحابة بعض المباحات لغيرها: 4/ 87 المباح طريق الحرام: 3/ 527 الإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 434 تَحْرِيمَ مَا هُوَ مُبَاحٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لَيْسَ نسخا: 3/ 341 الأمر قد يكون للإباحة: 3/ 467 الأمر والنهي والإباحة: 3/ 414 - المكروه: ضرر المداومة على المكروهات: 4/ 118 المكروهات أبواب وروائد للمحرمات: 3/ 539 المكروه والمحرم: 3/ 537، 538 الترك للكراهة طبعا: 4/ 423 فعل النبي صلى الله عليه وسلم للمكروه: 4/ 93 بعض أحوال الصوفية من عدم التفريق في الترك بين الحرام والمكروه: 4/ 122 المكروهات في المواطن الجهورية: 4/ 118 المباحات وتسويتها بالمكروهات والمندوبات: 4/ 108 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 المندوب: 4/ 92 المندوب وا لامتثال: 3/ 381 ترك المندوب: 3/ 254 المندوب: اشتراك الناس في تركة: 1/ 220 وجوب ترك التسوية بين المندوب والواجب: 4/ 97 الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال: 3/ 280 معنى التأسي: 5/ 261 اقْتِدَاءِ الصَّحَابَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 5/ 303 مُطَابَقَةَ الْفِعْلِ الْقَوْلَ شَاهِدٌ لِصِدْقِ ذَلِكَ الْقَوْلِ: 5/ 299 - الأحكام الوضعية: 2/ 407 ابتداء الوضع: 1/ 38 خطاب الوضع: 1/ 169، 297، 421، 4/ 126 خطاب الوضع وخطاب التكليف: 1/ 237-3/ 17 الأصل في الأحكام الموضوعية شَرْعًا أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَالُّهَا حَتَّى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي: 3/ 136 السبب: 1/ 298-299 تعريف السبب: 1/ 410 حكم الدخول في الأسباب: 1/ 327 دخول المكلف في الأسباب: 3/ 26 تعاطي الأسباب وتأثيرها: 1/ 366 الباعث/ القصد: 3/ 23 نظرية الباعث أو الدافع: 3/ 7، 23-24 مانع السبب: 1/ 4121/ 412 الالتفات إلى الأسباب- هل هو شرط في الدخول إلى الأعمال؟ -هل يَقْدَحُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي جَرَيَانِ الثواب والعقاب؟ 1/ 310 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 المسبب والتكليف: 1/ 316 الاعتقاد في المسبب: 1/ 323 حكم الالتفات إلى المسببات: 1/ 308، 367 ترك القصد إلى المسبب: 1/ 313 السبب والمسبب: 1/ 328 السبب والمسبب عند أهل السنة والمعتزلة: 1/ 316 أقسام ارتباط السبب بالمسبب من ناحية المكلفين: 1/ 319 إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب: 1/ 335، 366 قاعدة "إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب": 1/ 362 إيقاع المسبب بمنزلة إيقاع السبب: 1/ 238، 307، 366 المسببات علامة صحة الأسباب أو فسادها: 1/ 366 وَضْعُ الْأَسْبَابِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْوَاضِعِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ: 1/ 311 تعاطي الأسباب والألتفات إلى المسبب: 1/ 367، 3/ 26-27 اعتبار المسببات عند مباشرة الأسباب: 5/ 178، 179 وقوع المسببات عند السبب أم بالسبب؟ 1/ 314 المسبب عن سبب شرعي قد لا يأخذ حكمه وقد يكون غير داخل في تكليف العبد: 1/ 301 السبب- والمسبب: الأمر بالبيع لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع: 1/ 302 الأسباب الممنوعة غير متعد بها شرعا ومسبباتها كذلك: 1/ 307 قصد المسببات في العاديات والعبادات: 1/ 319 المعاني: العلل/ المسبب/ في الأحكام الشرعية: 1/ 319 المقامات السنية بترك الألتفات إلى المسببات: 1/ 348 إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد: 4/ 147 لا يصح إخراج محل السبب بالتخصيص إلى مقطوع به: 4/ 197 مراتب ترك الالتفات إلى المسبب: 1/ 323 التسبب من سنة النبي صلى الله عليه وسلم: 1/ 334 القتل عند المصنف/ هل هو سبب أم مسبب؟: 1/ 336 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 -الشرط/ معناه: 1/ 406 مفهوم الشرط: 1/ 532 الشروط العقلية والشرعية: 1/ 414 السبب والشرط: 1/ 299 -المانع: 1/ 409 المانع/ تعريفه: 1/ 411، 441 أنواع المانع: 1/ 406 مانع الحكم: 1/ 411 زوال المانع: 3/ 415 الفعل كثير الشروط والموانع: 1/ 182 الصحة والبطلان/ تعريفه: 1/ 297، 451-3/ 73 الصحة والبطلان في التصرفات:: 2/ 379 الباطل: 1/ 452 متى يكون العمل باطلا؟: 1/ 434 إبطال الأعمال المخالفة: 2/ 45 الفساد والبطلان عند الحنفية: 1/ 453، 455 دعوى صحة العبادة وإجرائها لا يستلزم الثواب عليها وقبولها عند المحققين: 3/ 73 القبول والإجزاء والصحة: 3/ 73-74 الكافر هل تصح عبادته؟: 1/ 444 -العزيمة: 1/ 496، 497، 3/ 510 الرخص والعزائم: 1/ 263، 264، 444-2/ 72، 286، 3/ 179، 60 العزائم: 3/ 503 الأخذ بالعزائم: 5/ 235 الإثم والعزائم: 4/ 52 الأعذار والعزائم4/ 52 الاحتياط في الدين: 2/ 412 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 الرخصة: 1/ 20، 159، 199-200، 2/ 36، 207، 212، 251، 274، 496، 507، 3/ 336، 4/ 126-5/ 193، 328، 559 أصل كلمة رخصة: 1/ 477 الفرق بين الأمر والرخصة: 1/ 481 من شروط الرخص: 1/ 489 الرخص: 3/ 293 الأخذ بالرخص: 2/ 499 إتباع الرخص: 1/ 529 بعض صور الرخص: 1/ 474 الرخص في الطهارة والصلاة: 4/ 350 المسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع: 4/ 58 الصلاة إِلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ لِعُسْرِ اسْتِخْرَاجِ الْقِبْلَةِ: 4/ 58 الرخص في السفر والمرض: 2/ 21-3/ 178، 378 ترخص العاصي في السفر: 1/ 273 العفو في الصيام للعسر: 4/ 58 رخص المريض والسفر: 2/ 207 الرخص في الجهاد: 3/ 559 الرخص في أمور الدين: 4/ 350 الرخص في حفظ العقل: 4/ 351 الرخص في أحكام المال والقروض والبيوع: 4/ 351 الرخص في التناسل: 4/ 350 الرخص في حفظ النسل: 4/ 350 الرخص في إباحة الميتة وغيرها عن خوف التلف: 4/ 58 الرخص وانحراف العوائد: 2/ 495-496 العوائد: 2/ 489 العوائد المستمرة: 2/ 488 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 العوائد الشرعية والعادية: 2/ 59 مناط اختلاف العلماء في العوائد: 2/ 491، 492 العوائد الشرعية والعادية: 2/ 59 تتبع رخص المذاهب: 3/ 123 الرخص وتتبعها: 5/ 278 الأخذ بأخف القولين يؤدي إلى إسقاط التكليف: 5/ 105 الأخذ بأخف القولين أو أشدهما: 5/ 104 الرخص عند الصوفية: 1/ 517-4/ 122 تشابه المباحات والرخص: 1/ 473 الخطأ والعزائم والرخص: 4/ 53 التشديد والترخيص: 2/ 286 تتبع الرخص: 5/ 82، 98 الهوى وتتبع الرخص: 5/ 99 طريقة ذكرها ابن حزم في تتبع الرخص: 5/ 84 مثال على تتبع الرخص: 5/ 103 تتبع الرخص في حالة الاضطرار: 5/ 99 قصة متتبع الرخص: 5/ 84 قصة عن تتبع الرخص للأصدقاء: 5/ 90 تتبع الرخص والأهواء: 5/ 84 كلام الإمام الذهبي عن تتبع الرخص: 5/ 98 ذكر بعض من أجاز تتبع الرخص: 5/ 102 مفاسد إتباع الرخص: 5/ 102 تتبع الرخص مضاد لقول الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ورسوله} : 5/ 99 التحسينات: 1/ 20-2/ 22 القبيح والحسن عند المعتزلة: 2/ 89-90 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 - المشقة: لغة واصطلاحا: 2/ 206-207 المشقة: 1/ 484 المشقات: 2/ 263، 3/ 192 مشاق اشرع: 3/ 29 المشقات العامة والخاصة: 2/ 266 المشقة الواقعة على المكلف من الخارج: 2/ 260 أقسام المشاق: 2/ 214 لا يوجد ضابط مخصوص للمشقة المعتبرة: 1/ 485 المشقة والثواب: 2/ 216 المشاق والعنت: 2/ 210 المشقة والتوسعة: 5/ 104 المشقة والحرج: 2/ 83 المشقات والرخص: 3/ 422 المشقات نسبية مع تمثيل متعدد لها: 1/ 485، 2/ 269 المشقة والرفق: 3/ 416 المشقة والهوى: 2/ 263، 264 الحرج والمشقة والتوسعة: 2/ 21 الحرج والعنت والمشقة: 2/ 41 مفهوم ثقل حمل الشريعة: 2/ 331 رفع المشقة حق لله أم حق للعبد؟: 2/ 246 فضل الأمة بوضع المشقة عنها: 1/ 471 تحديد المشقة عرفا: 2/ 268 أحوال ودرجات المشقة: 1/ 485، 2/ 271 المشقات في السفر: 2/ 274-275 سفر الملك المترفة والمشقة: 1/ 391 القصر في السفر والمشقات: 3/ 74 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 أنواع المشقات والتشديد: 2/ 229 التشدد: 1/ 529 التشديد في العبادة: 1/ 486، 5/ 224 التشديد والترخيص: 1/ 289 الإلقاء باليد إلى التهلكة: 1/ 328-329، 2/ 498 الوزر: 2/ 153 الحرج والنوازل: 2/ 273 الحرج والتوبة والكفارات: 2/ 272-273 الحاجيات: 1/ 20، 467، 2/ 21 -الحرج: 1/ 1/ 288، 290، 3/ 529، 565-5/ 194 رفع الحرج: 1/ 229-2/ 223-3/ 421، 526-4/ 58، 69 رفع الحرج والإثم والآثار الناتجة عن الحرام في الخطأ: 4/ 54 قاعدة رفع الحرج: 1/ 540 رفع الحرج عن المكره: 4/ 351 التوسعة ورفع الحرج: 4/ 350-5/ 182، 196 الحرج والشدة: 5/ 277 عدم الحرج: 4/ 434 الرخص والحرج: 3/ 558 أمثلة على أصل رفع الحرج: 4/ 58 نفي الحرج: 4/ 95 الحرج والمشقة والتوسعة: 2/ 21 الحرج والعنت والمشقة: 2/ 41 الأنفكاك عن الحرج: 2/ 278 رفع الجناح: 1/ 230-231 دفع الضرر: 2/ 261 فضل الأمة برفع الحرج عنها: 1/ 520 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 المضطر: 3/ 62 حكم المضطر إذا احتاج إلى الأكل: 1/ 328 أكل الميتة والمحرمات للاضطرار: 3/ 58 أكل الميتة والنجاسات والخبائث: 2/ 51 -الإكراه: 1/ 260، 3/ 210، 5/ 85 المكره: 3/ 32 الإكراه على الأعمال شرعا: 3/ 12 الإكراه في العبادات: 3/ 18 النطق بالإكراه كفرا أو كذبا: 1/ 288 الإكراه على كلمة الكفر: 3/ 33 الإكراه على الزنا: 2/ 512 أعمال المكره والنائم والمجنون: 3/ 17 الإكراه في الدين: 5/ 207 الإكراه على الواجبات: 3/ 18 رفع الحرج عن المكره: 4/ 351 هل تنعقد تصرفات المكره: 3/ 32 -الجهل غير الكفر: 1/ 84 معاملة الجاهل معاملة الناسي: 3/ 50 جاهلة التحريم: 1/ 267 الجهل والخطأ في الأحكام: 5/ 192 الجهل والنسيان في العبادات: 3/ 50 السهو سمة البشر: 1/ 389 المؤخذة والخطأ: 3/ 51 من فعل المحرم وهو يظنه حلالا: 4/ 53-54 مذهب ابن حبيب في حكم من خالف في الأقوال والأفعال جاهلا: 3/ 50 رفع الخطأ عن هذه الأمة: 3/ 51 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 الخطأ والنسيان: 1/ 259، 268، 269 الرفق بالمكلفين: 3/ 414 تيسير الرب العبادة للناس: 3/ 422 التأويل: 2/ 45 معنى التأويل: 5/ 216 الخلاف في التأويل: 5/ 216 الاتفاق على أصل التأويل: 5/ 216 التأويل الصحيح: 3/ 333 التأويل مع معرفة الدليل: 1/ 272 اعتبار صحة التأويل: 3/ 330 قبول اللفظ بحسب اللغة إلى المعنى المؤول: 3/ 331 هل يجوز عقلا أن يتكلم الله بكلام لا معنى له عند المخاطب: 3/ 325 قد يخفي التأويل الواضح الصحيح على الناس: 3/ 307 التأويل الصحيح والفاسد: 3/ 333 تأويلات فاسدة: 3/ 332 الابتداع غالبا لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل: 3/ 38 التأويل والعموم: 4/ 10 تعيين تأويل من غير دليل: 3/ 328 التأويل والمتشابه: 3/ 328 التأويل والتعارض والترجيح: 3/ 333 التأويل والعموم: 4/ 10 العام والخاص: 1/ 24، 519، 2/ 274-4/ 7، 57 العموم المعنوي: 4/ 57 العموم العادي: 4/ 17 عموم المقتضي: 3/ 52 تميز النصوص الشرعية بالعموم: 5/ 14 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 طرق ثبوت العام: 4/ 57 الدليل الشرعي يؤخذ عاما على أحكام الشريعة: 3/ 241 المعني المشترك العام: 4/ 61 العمومات المكية: 2/ 384، 385-4/ 70 العموم والنوازل: 4/ 64، 65 رأس جوامع الكلم في التعبير بالعمومات: 4/ 48 إنكار دلالة العموم: 4/ 47 إثبات القواعد الشرعية والكليات في الشريعة: 3/ 172 الكليات: 1/ 19-4/ 12 ارتباط الكلي بالجزئي: 3/ 176-177 تقديم الكلي على الجزئي: 1/ 498 لا ينتهض الجزئي على مقاومة الكلي ونقضه: 4/ 8-9 اعتبار الكلي مع إطراح الجزئي: 5/ 227 الخطأ في الكليات والجزئيات: 5/ 135 فَائِدَةُ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيِّ: 3/ 177 الإعراض عن الجزئي أعراض عن الكلي: 3/ 175 رد الكلي إلى جزئي والجزئي إلى الكلي: 3/ 181 من الْوَاجِبِ اعْتِبَارُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ بِهَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ عِنْدَ إِجْرَاءِ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ والقياس: 3/ 174 تلقي العلم الكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها: 3/ 175 إن تخلف بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ لَا يُخْرِجُهُ عن كونه كليا: 3/ 176 تقرير الجزاءات الكلية: 5/ 238 تقرير الحدود والأحكام والجزئيات: 5/ 238، 239 العموم في العزائم والرخص: 4/ 50 تخصيص الرخص للعزائم: 4/ 50 صيغ العموم: 4/ 18، 49 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 الخاص: 4/ 7، 11 المخصص: 3/ 312 تخصيص العام: 5/ 196 متى يبحث عن مخصص للعموم؟: 4/ 70 العام إذا خص هل يكون مجازا أم لا؟: 4/ 46، 47 العموم والبحث عن المخصص: 4/ 71 مسألة تخصيص المتقدم للمتأخر: 3/ 354 العام المخصوص: 1/ 20، 470 عام أريد به الخصوص: 1/ 469 لا عام إلا وقد خصص: 3/ 309-4/ 48، 69 العام المخصوص: 4/ 26 الأمر العام لا ينقضه الأفراد الجزئية: 4/ 175 تخصيص الأدلة المنفصلة: 1/ 133 العام الذي أريد به الخصوص: 1/ 333 الاختصاص: 3/ 241 عموم اللفظ وخصوص السبب: 4/ 39-40، 480 لا يصح إخراج محل السبب بالتخصيص: 4/ 147 هل الخطاب الشفاهي كـ {يا أيها الذين أمنوا} خطاب خاص بالصحابة أم..: 4/ 447 كيف يقع التخصيص عند الأصوليين؟: 4/ 18، 42-44 التخصيص بالحس: 4/ 18، 21 التخصيص بالعادة: 4/ 19 التخصيص بالعقل: 4/ 18 التخصيص بالعوائد: 4/ 19 التخصيص بقضايا الأعيان: 4/ 12، 43 التخصيص بخبر الواحد: 4/ 9، 15 المخصص المتصل: 4/ 43 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 أسباب النزول والتخصيص: 4/ 40 المخصوص والمستثني من العموم: 1/ 466 التخصيص والنسخ: 4/ 44 الخاص الظني لا يعارض العام القطعي: 5/ 230 دخول الجزئيات تحت عموم المعنى المستقرء من غير اعتبار قياس أو غيره: 4/ 65 من اتباع المتشابهات: الأخذ بالعمومات قبل النظر عن مقيداتها ... 3/ 312 قضايا الأعيان: 1/ 378، 391-3/ 254 قَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِهَا حُجَّةً مَا لم يعضدها آخر: 3/ 254 قضايا الأعيان وحكايات الأحوال: 4/ 8 حكايات الأحوال: 4/ 184 تخصيص الوصف أو كون النقض قادحا في الوصف المدعي عليته: 5/ 197 تحقيق المناطق العام ثم الخاص في المعين: 5/ 25 البيان والتخصيص: 4/ 48، 49 من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: 3/ 243، 4/ 48 الجبلة: 2/ 176 الخصوصيات: 3/ 272 الخصوصيات في الشرع ونقض الأصول: 2/ 58 العموم الاستعمالي في لفظ "الآلهة": 4/ 31 المطلق والمقيد: 1/ 519-3/ 379 المطلق عند العرب: 3/ 383 تتبع نصوص الشرع: المطلق والمقيد؛ أمر واجب: 3/ 183 تقييد المطلق: 4/ 9 التقييد بخبر الواحد: 4/ 9 العمل المطلق ووقوع العمل على جزء منه: 3/ 287 قضايا الأعيان وحكايات الأحوال للقاعدة المطلقة: 4/ 8 كل دليل ثبت مقيدا غير مطلق، وجعل له قانون ... : 3/ 235 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 الْمُطْلَقَ إِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لم يكن حجة في غيره: 3/ 285 الْمُكَلَّفَ مُفْتَقِرٌ فِي أَدَاءِ مُقْتَضَى الْمُطْلَقَاتِ عَلَى وجه واحد: 3/ 495 المبين والمجمل: 1/ 44 المجمل: 5/ 144، 401 الإجمال: 4/ 135 معنى المجمل: 4/ 137 المجمل والمبهم في الأصول: 4/ 137 الْمُجْمَلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ إِنْ كَانَ موجودا: 3/ 328 البيان والإجمال: 4/ 730 أفعال المكلفين وبيان السنة: 4/ 406 وجوب البيان: 4/ 78 معرفة مراد المتكلم: 3/ 303 الإخبار والبيان النبوي: 4/ 417 البيان آكد من إرتكاب المكروه: 4/ 117 البيان بالقول والفعل: 3/ 243-4/ 79 أهمية القول في البيان: 4/ 82 تأكيد القول بالفعل: 4/ 85 الترجيح بين بيان الفعل وبيان القول: 4/ 83 مظان مسألة القوة والوضوح بين البيان القولي والبيان الفعلي: 4/ 83 الحكم يؤخذ من البيان القولي: 4/ 84 أهمية البيان بالفعل الذي تظهر فيه الهيئات الجزئية والكيفيات المخصوصة التي لا تتضح بمجرد القول: 4/ 81 قد لا يدرج معنى الخطاب إلا من خلال الواقعة: 4/ 146 بيان النبي صلى الله عليه وسلم للناس: 4/ 73 النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت عما يسمعه ويراه مِنَ الْبَاطِلِ حَتَّى يُغَيِّرَهُ أَوْ يُبَيِّنَهُ إِلَّا إذا تقرر عندهم بطلانه: 4/ 166 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 البيان بالقول والفعل والإقرار: 4/ 73، 74، 75 معنى البيان بالإشارة المفهمة: 4/ 464 الإشارة بالرأس: 4/ 195 وجوب البيان على العلماء: 4/ 78 عدم قصد البيان: 5/ 264 بيان العالم الأحكام: 4/ 85 البيان بالفعل من العالم: 4/ 79 المفسر يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله في هذا الكلام: 4/ 285 ترك فعل القول من قائله: 4/ 85 اعتبار المعقول الذهني في الأفعال: 3/ 220 اعتبار الأفعال من حيث هي خارجية فقط: 3/ 221 البيان بالتقرير: 4/ 79 تأخير البيان: 4/ 166 تأخير البيان عن وقت الحاجة: 4/ 140، 147 تعين البيان على المقتدي به عند وجود مظنة البيان: 4/ 92 الشريعة بيان وهدى: 3/ 308 الاستقراء: 1/ 9، 18، 19، 34 الاجتهاد والمجتهد: 2/ 87، 88-4/ 134 تعريف الاجتهاد: 5/ 11، 51 العلوم التي يجب على المجتهد معرفتها وأخرى غير لازمة: 5/ 45 اجتهاد الكافر وشرطية الإيمان: 5/ 48، 49 خلو العصر من مجتهد: 5/ 11 المفتي والمجتهد: 3/ 181 من شروط المفتي: 5/ 299 علوم الاجتهاد: 5/ 45 القول بانقطاع الاجتهاد: 5/ 11، 38 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 ضروب الاجتهاد: 5/ 11 حكم الله والاجتهاد: 5/ 72 تعريف المجتهد: 5/ 41 المجتهد- قصد الشارع: 2/ 52 أوصاف من يحق له الاجتهاد: 5/ 41 شروط المجتهد: 5/ 41 شروط المجتهد بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب: 5/ 57 المجتهد والمقاصد: 3/ 24 الفرض على المجتهد علمه بكل العلوم لمفتقرة للاجتهاد: 5/ 46 اللغة العربية والاجتهاد: 5/ 48، 52، 124 مقدار علم العربية عند المجتهد: 5/ 24 أهمية تعلم اللغة العربية في الاجتهاد: 5/ 53، 124 عدم اشتراط درجة الاجتهاد في غير اللغة العربية للمجتهد: 5/ 57، 58 مظان مبحث مقدار علم العربية عند المجتهد: 5/ 55 مظان مسألة علم أبي حنيفة باللغة العربية: 5/ 56 العدالة والاجتهاد: 5/ 23، 275 اجتهاد الفاسق: 5/ 49 الاجتهاد والقياس: 5/ 22 تجزؤ الاجتهاد: 5/ 43 مظان مسألة تجزؤ الاجتهاد: 5/ 43 شرط فهم مقاصد الشريعة للمجتهد: 5/ 42 الأدلة الشرعية الكبرى: 4/ 143 الرجوع إلى الدليل: 5/ 219 عدم الإطلاع على الأدلة: 5/ 132 خفاء الأدلة: 5/ 132 الرجوع إلى أصل حكم الشيء: 4/ 269 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 معنى الرد فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله ورسوله} : 4/ 321 ليس من لوازم المجتهد أن يكون مجتهدا في كل علم..: 5/ 129 كلام للإمام الجويني فيمن عرضت له مسألة وليس هو من أهل الاجتهاد ولم يجد مفتيا: 5/ 335 الِاجْتِهَادِ مَعَ التَّقْلِيدِ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالمسألة ... : 5/ 5 هل يحكم لمن عرف الكليات بأهلية الاجتهاد: 5/ 229 مراحل طالب العلم في الاجتهاد: 5/ 225 الاجتهاد ومجاله: 1/ 405-5/ 19، 71 الاجتهاد المعتبر وغير المعتبر: 5/ 131 الاجتهاد القياسي: 5/ 126 الاجتهاد في حكم الواسطة التي تقع بين طرفين مختلفي الحكم: 5/ 344 التقليد من المجتهد: 5/ 50، 51 تخير المقلد للفتاوي أو للمجتهدين: 5/ 76 تخير المكلف بين أقوال العلماء والهوى فيها: 5/ 78 عمل المجتهد على قول غيره: 5/ 219، 220 الخطأ في الاجتهاد وممن ليس من أهله: 1/ 264 الفعل يصيب ويخطئ: 1/ 129 المجتهد أمين على نفسه: 5/ 406 هل يدخل الاجتهاد في عرف الفقهاء: 5/ 17-18 الاجتهاد والخطأ: 4/ 165، 259 الاجتهاد والمصلحة والحق: 2/ 87 المتشابهات والاجتهاد: 5/ 65 المجتهد- أعلى المراتب: 3/ 230 الأخذ بأحد قولين متعارضين من غير اجتهاد ولا ترجيح: 5/ 76 موقف المجتهد والمقلد من تعارض الأدلة أو الفتوى مع عد م وجود الترجيح: 5/ 77 هل يجوز للمجتهد أن يقلد في مسألة لم يجتهد فيها؟ 4/ 457 مسائل الخلاف ليست من المتشابهات: 3/ 318 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 المجتهد وإصابة الحق: 3/ 407 المجتهد لَا تَجِبِ إِصَابَتُهُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ..: 3/ 319 المجتهد لا يثبت لنفسه إلا قولا واحدا: 5/ 73 هل المفهوم معتبر؟: 5/ 321 أشراط أخذ المعارف عن مجتهد: 5/ 45 عدم إحاطة الصحابة بكل العلوم: 5/ 46 اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 334-5/ 46 التردد بين طرفين: 5/ 219 لا ينسب الاشتباه إلى الأدلة: 3/ 317 المجتهدون وعمل الأولين: 3/ 286 مخالفة عمل السلف: 3/ 287، 381 كل مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ: 3/ 281 الاستنباط من القرآن والسنة وتفسير السلف الصالح: 4/ 183 العلوم التي لم يبحثها الصحابة: 1/ 73، 74 الاختلاف في أمر لم يحصل من الصحابة رأسا عمل فيه: 3/ 287 مظان مسألة مخالفة السلف: 3/ 281 فهم الدين بلغة العرب: 4/ 33 الكلمات على وضع لسان العرب: 1/ 480 اتباع عرف العرب: 2/ 131 هل يصح للمجتهد أن لا ينظر في الجزئيات: 3/ 172 المعارف الكلية والجزئية في الاجتهاد: 5/ 44 النظر في الأدلة التفصيلية مع القواعد الأصولية: 3/ 171 مراعاة مالك لعمل أهل المدينة: 3/ 270 مظان مباحث الاجتهاد في كتب الأصول: 5/ 11 علم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية: 5/ 47 البحث عن النصوص للاجتهاد: 5/ 136 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 الاجتهاد في العبادة: 3/ 421 حملة العلم المجتهدين بدءا من الصحابة: 2/ 242 التفاوت في إدراك المعارف: 5/ 44 العلم بغلبة الظن: 5/ 315 الحمل على الأغلب: 3/ 330 ذم أهل المنطق: 5/ 422 اصحاب الرأي: 5/ 230 ذم أهل الرأي: 5/ 280 استعمال العقل في الشرع: 1/ 27 أحكام العقل الثلاثة: 1/ 25 المسائل النظرية العقلية: 3/ 311 معني برهان الخلف عند أهل المنطق: 5/ 49 الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين: 5/ 26 سؤال العوام عن علل المسائل الفقهية: 5/ 171 الخلاف: 1/ 266، 297، 5/ 107 الاختلاف عند العلماء: 1/ 265، 5/ 145 الرجوع عن الخطأ: 1/ 268 هل الاختلاف رحمة: 5/ 67، 75، 94 معني قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} : 5/ 70 أسباب الاختلاف: 4/ 209، 5/ 152 اختلاف الأقوال بالنسبة للإمام الواحد: 5/ 213، 214 الفرق بين الأصول والفروع: 5/ 406 الخلاف والتستر خلفه: 5/ 93 الخروج من الخلاف: 5/ 93 ذم الاختلاف: 5/ 61 تعدد الصواب أو الحق: 2/ 52، 86-3/ 319، 5/ 66، 71 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 ترجيح أن الحق واحد لا يتعدد: 5/ 66 مظان أن مسألة الحق واحد أم يتعدد: 5/ 66 الإرادة الكونية والشرعية في الاختلاف: 5/ 69 مسائل الخلاف: 3/ 318 عدم الاعتداد بكل خلاف: 1/ 162 الخلاف غير المعتبر: 3/ 320، 5/ 136-137 معنى الاختلاف المنهي عنه: 5/ 69 القول بثبوت الخلاف يرفع لزوم النظر في الترجيح: 5/ 64 اختلاف العلماء والراسخين وتسويغ اختلافهم: 5/ 66 حكمة وجود الاختلاف في المسائل الاجتهادية: 5/ 65 جعل الشارع مجالا للاختلاف في الأمور الاجتهادية: 5/ 65 ذكر أقوال في تسويغ الاختلاف: 5/ 67 الخلاف لا يكون حجة في الشريعة: 5/ 107 هل يجب الأخذ بأخف القولين أو الأثقل؟: 5/ 278، 279 مسالة الأخذ بأخف القولين أو أثقلهما: 5/ 104 مظان مسألة الأخذ بأخف القولين أو أثقلهما: 5/ 104 سبب فساد الفقه المالكي: 1/ 148 الظاهرية: 1/ 131، 3/ 138، 408، 411، 420، 4/ 189، 5/ 230، 280، 401 فقه الظاهرية: 3/ 188، 189 ذم المذهب الظاهري: 5/ 280 مذهب الظاهري والتناقض: 3/ 188 العمل بالظواهر: 2/ 468، 4/ 253 ذم رأي داود الظاهري: 5/ 149 التفقه في العبادات: 4/ 262 الطعن في أبي حنيفة: 3/ 203 الطعن في المذاهب المخالفة: 5/ 286 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 التدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب المختلفة: 5/ 288 التنقيص في المخالفة: 5/ 298 الخلاف النظري والعملي: 1/ 39 الاختلاف بين العلماء وأسبابه: 3/ 407، 4/ 146، 148 الاختلاف في الدين: 5/ 59، 60 الخروج من الخلاف: 1/ 161 الاختلاف ليس من المقاصد الشرعية: 5/ 78 أدلة أن الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد ... : 5/ 59 جعل الخلاف جملة في جواز التخير من الأقوال المتعارضة .... : 5/ 93 ليس في الشرع حكمان مختلفان في موضوع واحد: 5/ 59 وجود التناقض في الشريعة: 5/ 67 وجود الترجيح دليل على أن الشريعة ترجع إلى قول واحد: 5/ 64 ضابط معرفة الخلاف المعتبر من غير المعتبر: 5/ 139 أشد مسائل الخلاف: 5/ 222 معرفة الاختلاف: 5/ 122 مراعاة الخلاف قبل وبعد الوقوع: 1/ 346، 5/ 108 تعريف مراعاة الخلاف: 5/ 188 مظان مسألة مراعاة الخلاف: 5/ 106 فائدة اختلاف الصحابة: 5/ 76 لا مساغ للخلاف في الشريعة: 5/ 62 الخلاف من جهة الرواية: 5/ 140، 141 اعتبار الخلاف في الأحكام: 5/ 109 اختلاف التنوع: 5/ 209 قصة للشافعي عن الخلاف: 5/ 220 أنواع الاستدلال القرآني: 4/ 193 استدلالات قرآنية: 4/ 193 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 الرد على استدلال أهل البدع: 3/ 284 استدلال الفساق على فسقهم بأدلة ينسبونها إلى الشريعة وقصة عن ذلك: 3/ 288 تعلق أهل الضلال بظواهر القرآن وعموماته: 3/ 282 تنزيل الدليل على وفق غرض المتبع لهواه: 3/ 290 التقليد: 1/ 12-5/ 17، 80، 1/ 89، 130 تعريف التقليد: 5/ 80 وجوب التقليد: 5/ 336 تجويز التقليد: 5/ 68 مفاسد رفع التقليد: 5/ 336 التقليد المذموم: 1/ 124، 5/ 315 البعد عن التقليد: 1/ 210 تقليد الأئمة: 5/ 280 تقليد الآباء: 5/ 262، 263 تقليد الصحابة: 4/ 457، 458 التقليد والهوى: 5/ 81-82 التقليد والعمل بالعادة: 1/ 12-13 التزام المذهب: 5/ 97 الفتوى بمشهور المذهب: 5/ 101 مخالفة المذهب: 5/ 97 تتبع رخص المذاهب: 5/ 82-83، 97 مفاسد تتبع رخص المذاهب: 5/ 102 التغالي والانحراف في المذهب: 5/ 289 التعصب للمذهب: 3/ 131، 5/ 287 كلمة مفيدة في ترك التعصب المذهب: 3/ 131 أهل الأندلس والفتوى بقول ابن القاسم: 1/ 11 ابن القاسم/ في المذهب المالكي: 1/ 11 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 ترجيح المقلد: 5/ 285 الترجيح بين العلماء لتقليد أحدهم: 5/ 285 المقلد يتحرى الأوسط: 5/ 280 تعدد الصواب: 5/ 220 التعبد بالأقوال المختلفة: 5/ 222 اتباع الهوى: 5/ 277-278 مخالفة الحديث الصحيح: 3/ 190 تلفيق المذاهب: 5/ 103 المقلد والمذاهب: 5/ 98 اجتهاد المقلد في اختيار المجتهد: 1/ 508، 5/ 79 تقليد العامي لأكثر من مفتي في نفس المسألة مع تعارض الأقوال: 1/ 508، 5/ 76 التأسي بمن يعظم في الناس: 5/ 262 قصة أحد قضاة قرطبة في إتباعه شيخه من غير نظر في الأقوال: 5/ 86 حكم تقليد المفتي الذي لم يطابق قوله فعله: 5/ 274 اتباع الأئمة الكبار، كمالك والشافعي: 5/ 51 التأسي بالأنبياء والعلماء: 4/ 85-86 عمل بعض العلماء: 2/ 369-370 الاقتداء بالعالم: 3/ 263 الاقتداء بصاحب الحال: 5/ 320 إِذَا كَانَ الْمُقْتَدَى بِهِ ظَاهِرُهُ وَالْغَالِبُ مِنْ أمره الميل إلى الأمور الأخروية: 5/ 308 تحسين الظن في فعل المقتدي: 5/ 304 تحسين الظن بأفعال المقتدي به لا ينبني عليه حكم: 5/ 307 تحسن الظَّنِّ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْمُكَلَّفِ غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ دليل يوجبه: 5/ 307 زلة العالم لا تجعل صاحبها مقصرا مشنعا عليه: 5/ 636 اعتماد زلة العالم خلافا في المسائل الشرعية: 5/ 138، 139 كلام للخطيب البغدادي حول مسألة "اختيار المقلد مجتهده": 5/ 80 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 مظان مسألة: "هل للمقلد أن يتخير؟: 5/ 80 هل يجب على العامي التزام مذهب في كل واقعة؟: 5/ 97، 98 التقليد في تحقيق المناط: 5/ 130 اقتداء المقتدي بالأفعال المباحة للمقتدي: 5/ 309 الاقتداء بفعل الحاكم: 5/ 314 نقض حكم الحاكم إذا خالف القياس والنص والقواعد: 5/ 41 تقليد الشاطبي لمن سبقه: 3/ 406 المصنف وتقليده لغيره دون تحقق: 3/ 342 - آداب المفتي والمستفتي: تعريف المفتي: 5/ 80 حجية أقوال المفتين: 5/ 336 المفتي كالحاكم على المستفتي: 5/ 96 صدق فتوى المفتي: 5/ 268 الانتفاع بالفتوى: 5/ 273 كتابة الفتوى: 5/ 24 حرمة الإفتاء بقول لم يترجح عند المفتي: 5/ 81 عدم ذكر الدليل في الفتيا: 5/ 336 إقرار المفتي: 5/ 226 الفتوى والواقع: 2/ 286 تنصيب الشارع المفتي ليؤخذ من قوله وفعله: 5/ 273 أفعال المفتي محل للاقتداء: 5/ 262، 265 تعقب على المؤلف في مسألة الاقتداء بأفعال المفتي: 5/ 265 أوصاف المتقدمين من المفتين: 5/ 323، 324 فتاوى المجتهدين والأدلة: 5/ 336 مطابقة القول الفعل: 5/ 299 الفتوى ومخالفة الفعل لها: 5/ 267 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 من أعمال المجتهد: 5/ 177 أهمية العلم بمواضع الاختلاف: 5/ 121 الاجتهاد من غير أهله: 5/ 142 التحذير من زلة العالم: 5/ 132 متى تكون زلة العالم: 5/ 135 زلة العالم من الخلاف غير المعتد به: 5/ 136-137 التعامل مع زلة العالم: 5/ 132 السؤال بعد الكفاية من العلم: 5/ 388 السؤال في غير وقت الحاجة: 5/ 388 سؤال التعنت والإفحام: 5/ 392 سؤال التكلف والتعمق: 5/ 289 السؤال عما شجر بين السلف الصالح: 5/ 391 السؤال عن صعاب المسائل: 5/ 389 سؤال التعمق والتشدد والتعنت: 1/ 521، 522-2/ 212-3/ 509-5/ 380 السؤال عن علة الحكم: 5/ 384، 389 ظهور معارضة من السؤال للكتاب والسنة وبالرأي: 5/ 390 الخلاف بين العلماء وحسن الظن بهم: 3/ 125 وجوب السؤال عما ينتفع به: 5/ 332 السؤال عما لم يقع: 5/ 374-387 مظان مسألة السؤال عما لم يكن: 5/ 379 ذم الإكثار من الأسئلة: 5/ 374 مواضع كراهية السؤال: 5/ 387- 392 مظان مسألة مواضع كراهية السؤال: 5/ 387 استفتاء وسؤال من هو غير معتبر شرعا: 5/ 285 سؤال العالم المتعلم: 5/ 371 سؤال المتعلم العالم: 5/ 372 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 سؤال العالم العالم: 5/ 371 سؤال المتعلم مثله: 5/ 371 عدد أسئلة الصحابة للنبي في القرآن: 5/ 375 الجدل: 2/ 128 المجادلة لتأييد الحق: 5/ 390 المناظرة: 5/ 406 المناظرات- من أساليبها: 4/ 13 تعليم الأمة مناقشة المخالفين: 3/ 147 الأسلوب القرآني والأدب في المناظرة: 2/ 167 الاحتجاج والمناظرة بأقوي الأدلة: 1/ 29 مناظرة أبي بكر مع عمر في قتال معاني الزكاة هي مناظرة المستعين: 5/ 407*410 تبكيت الخصم: 5/ 411 مخالفة المناظر في الكليات: 5/ 412 الأسئلة غير المشروعة: 5/ 371 أحوال السائل والمسؤول: 5/ 371 التحري في الجواب من المفتي: 5/ 323 وجوب السؤال عن العبادات: 5/ 283 سؤال أهل الذكر: 5/ 337 أجر العلم: 1/ 337 من شروط القاضي: 5/ 95 النظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات: 5/ 233 وصف من كان في أفعاله وأقواله وأحواله على مقتضى فتواه: 5/ 299 توجه القلوب إلى من وافق فعله قوله: 5/ 299 أسلوب الحكيم: 5/ 388 بعض أحكام وفقه الإجابة: 5/ 372-373 خصائص الحكيم أو الراسخ في العلم: 5/ 233 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 التثبت وعدم الجزم بالقول في الفتوى: 5/ 324 الفتيا بالحق: 3/ 187-5/ 91 المفتي نائب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تبليغ الأحكام: 4/ 76-77، 5/ 253 الفتوى بالمناط المعين: 3/ 301 تعين الجواب على المفتي وعدمه: 5/ 373 التمييز في انتقاء الفتوى: 5/ 78 انتقاض الحكم أو الفتوى: 5/ 132 قصد اتباع الحق ومقتضى الدليل في اختيار الفتيا: 5/ 83 أخذ الأدلة بالهوى وتطويعها للمذهب: 3/ 290-291 تخير المكلف بين أقوال العلماء والهوى فيها: 5/ 38 الصوفية- الفقهاء/ فتاويهما: 1/ 332 استفتاء صاحب المال: 5/ 321 هل تخلو بعض الوقائع عن حكمه لله تعالى؟: 1/ 262 مسألة الزام المفتي غير العدل بالفتوى: 5/ 275 خطورة الفتوى: 5/ 91 أفعال المفتي إذا كانت على خلاف أفعال أهل الدين: 5/ 267 إذا خالف قول المفتي فعله: 5/ 267 فسق المفتي: 5/ 273 فتوى مركبة من فعل وقول: 5/ 259، 260 إتباع الهوى في اختيار الفتيا يؤدي إلى إسقاط التكليف: 5/ 83 حرمة اتباع الهوى: 5/ 81، 82 من عمل على خلاف حديث يرويه أو أفتي بخلافه: 2/ 398 اختلال التحسين والحاجي وأثرها على الضروري والعكس: 2/ 31 أخذ الفتيا الموافقة للغرض والشهوة بالنسبة للحاكم: 5/ 95 أخذ الفتيا الموافقة للغرض والشهوة بالنسبة للعامي: 5/ 96 تغير الفتوى بحسب الحاجة: 5/ 99 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 الجاهل والفتيا: 2/ 378، 5/ 285 العالم والجاهل في أحكام الشرع: 1/ 119 الاعتراض على الكبراء مبعد بين الشيخ وتلميذه: 5/ 399 فقد أصل العلم: 5/ 335 فقد وصف العلم: 5/ 335 رد المفتي للفتوى: 5/ 372 تعقب للمحقق على كلمة المؤلف في إطلاقه على المفتي بأنه شارع: 5/ 555-256 المفتي شارع من وجه: 5/ 255 تقسيم بيع للمؤلف للفتيا باعتبار المستفتي: 5/ 246 عيوب النظر العقلي المحض: 3/ 180 التحسين والتقبيح العقلي: 1/ 125-3/ 28، 29-4/ 53 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 المقاصد والنيات : المقاصد لغة: 2/ 7 مصنفات في المقاصد: 2/ 7 اصطلاح الشاطبي في "الموافقات": "القصد": 3/ 37 المقاصد أرواح الأعمال: 3/ 44 مقاصد الشريعة: 5/ 17، 96 المقاصد في الشرع: 2/ 7-5/ 128 المقاصد الأصلية والتابعة: 3/ 139، 142 القصد الخلقي التكويني والتشريعي: 2/ 50 الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع/ المعتزلة: 2/ 29 الشر مقصود الفعل عند الفلاسفة: 2/ 49 القصد المناقض لقصد الشارع: 1/ 340-3/ 27 القصد المناقض لشرع مبطل للعمل: 1/ 341 مقاصد الشرع والهوى: 2/ 63، 264، 289، 328 هل يشرع ما هو عبث: 1/ 395 العبث في الشريعة: 1/ 280 مقاصد الشرع وخلق الشهوات: 2/ 303 أنواع المقاصد الشرعية: 3/ 425 المقاصد العينية والكفائية: 2/ 300 مقصد العبادات: 3/ 140 مقصد التعبد: 3/ 145 مقصد الصلاة: 3/ 142 مقصد الصيام: 3/ 143 مقصد الزكاة: 3/ 121-122 مقصد النكاح: 2/ 160-3/ 139، 462 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 المقاصد والعقود: 3/ 23 المقاصد والضرورات: 2/ 17 الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ العبادات والعادات: 3/ 7 مآلات الأفعال: 5/ 177 المآلات معتبرة في أصل المشروعية: 5/ 179 مقصد فعل العبادات الشاقة للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية: 2/ 222 العمل إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ التكليفية: 3/ 9 الأصل في العبادات والعادات: 2/ 513 الأصل في العاديات الالتفات إلى المعاني: 1/ 440 التعبد بالمعاني: 3/ 235 قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام: 3/ 210 المحافظة على قصد الشارع: 4/ 121 القصد إلى المنافع والعقد عليها: 3/ 446، 447 المسببات مطلوبة القصد من المكلف: 1/ 316 إدراك مقاصد الشريعة وكلياتها: 5/ 225 طلب قصد الشارع مع اختلاف الطرق: 5/ 220 قَصْدُ الشَّارِعِ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ في العمل موافقا لقصده في التشريع: 3/ 27 إذا كان الفعل أو الترك مخالفا للشرع والقصد موافقا: 3/ 37 عدم حصول مقصود الشارع إذا قصد دليلين متعارضين: 5/ 64 جهل عامة المكلفين بمقاصد الشريعة: 3/ 27 المقاصد معتبرة في التصرفات: 3/ 467 النظر إلى قصد المخطئ: 5/ 192 الْمُكْرَهَ عَلَى الْفِعْلِ يُعْطِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ امْتِثَالَ أَمْرِ الشَّارِعِ: 3/ 12 الْمُعْجِزَ وَالْمُهَدِّدَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ في تلك الصيغة: 3/ 377 اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد: 3/ 431 الْقَصْدَ فِي الْأَعْمَالِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عَلَى الِانْفِرَادِ: 3/ 43 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 المنافع مقصودة عادة وعرفا للعقلاء: 3/ 441 حرمة القصد إلى الإضرار3/ 55 وجوب صحة القصد والفعل في الأعمال الشرعية: 3/ 45 قاعدة المعاملة بنقيض المقصود: 1/ 538 هل القصد ضابط الفرق بين الأمر الدنيوي والأمر الأخروي: 5/ 313 القصد إلى المعدوم: 2/ 534 قصد عدم وقوع المسبب مع فعل السبب محال عقلا: 1/ 339 جعل المقاصد الشرعية وسائل: 3/ 31 نظرية الباعث أو الدافع: 3/ 7 من وافق فعله الشرع وقصد المخالفة وهو لا يعلم أنه فعله موافق للشرع: 3/ 34، 37 مسألة ضم القصدين: 3/ 463 التدرج في فرض الأحكام الشرعية: 3/ 336-4/ 201-202 مقصد الشارع: الحمل على التوسط5/ 276 ضابط الوسط في الشريعة: 5/ 278 القواعد الكلية: 4/ 38 قلة الجزئيات في مكة: 3/ 335 كثير من الأحكام الكلية كانت في الشرائع المتقدمة: 3/ 366 التشريع عند اتساع خطي الإسلام: 5/ 235 كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِطَابِ: لَيْسَ هو .... 4/ 262 اجتناب النواهي أكبر وأبلغ في القصد الشرعي: 5/ 300 ضرورة المعارف لفهم قواعد الشريعة: 5/ 50 -النيات: 1/ 404، 2/ 234-235، 2/ 342 النيات في خطاب التكليف: 1/ 459 النية في العبادات: 1/ 300، 2/ 381، 3/ 220 النية في التفريق بين العبادات ذاتها: 2/ 98 النية في العبادات والمعاملات: 2/ 374-3/ 18 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 النية في العادات والعبادات: 2/ 380-3/ 13 المقاصد والنيات في العادات والعبادات: 3/ 7 النيات في المباحات والمندوبات وغيرها: 2/ 537 النية في المباح: 190 النيات في المباحات: 2/ 314 النيات في الأعمال: 2/ 222 النيات في الامتثال: 3/ 549 النية في العادة تحولها عبادة: 3/ 1 اتخاذ التجارة عبادة: 2/ 320 شراء المباح للحرام: 3/ 458-459، 466 العبادة لأجل السياحة: 3/ 152، 153 النيات في حقوق العباد: 2/ 536 ضعف النية: 1/ 332 نقص النية في العبادة: 1/ 339 رفض النية: 3/ 16/ 21 معنى رفض النية: 1/ 343 النية والعمل في الأجر والوزر: 2/ 394 الأجور والدرجات بغير نية: 2/ 391 النيات التي تتجاوز الأعمال: 2/ 392 العادات لا تكون تعبديات إلا بالنيات: 2/ 513، 3/ 18 اشتراط النية في العبادات والعادات: 3/ 19 تشرط النية فيما كان غير معقول المعنى: 3/ 19 النية تفرق العمل في صورتين له: 3/ 8-9 التعيين بالنية: 3/ 19 الامتثال في العادات، والنيات فيها: 3/ 13 الثواب والامتثال والنية في العبادات: 3/ 19 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 أمثلة على أن النية تؤثر في الفعل: 3/ 908 أداء الديون وما يشابها ليس في ثواب حتى ينوي به امتثال امر الله تعالى: 3/ 19 كون الطبع الإنساني باعثا على قصد الطلب: 3/ 385 الخطرات: 3/ 94 الوسوسة: 2/ 274، 4/ 173، 5/ 34 موعظة في الوسوسة: 1/ 149-150 الحظ وانفكاك العمل منه: 2/ 363، 464-3/ 478-479 اجتماع النقيضين: 1/ 139 توحيد الهم: 1/ 350 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 القواعد الفقهية وغيرها : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: 3/ 465 الشريعة مبنية على المصالح "ضابط المصلحة": 5/ 42 الشريعة وضعت لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم: 1/ 318 المصلحة التي تُسَبِّبُ مَفْسَدَةً مِنْ بَابِ الْحِيَلِ أَوْ مِنْ باب التعاون منعت مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ: 3/ 77 المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة: 3/ 57 جلب المصلحة أو رفع المفسدة مع علاقاتها بوقوع الضرر ثمانية أقسام: 3/ 55 المشروعات وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد: 3/ 28 الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَاجِيَّةِ أَوِ التكميلية: 5/ 199 الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ إِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا: 3/ 32 الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَاجِيَّةِ أَوِ التكميلية إذا: 5/ 199 سَائِرُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا فَوَائِدُ أُخْرَوِيَّةٌ، وَهِيَ الْعَامَّةُ، وفوائد دنيوية: 3/ 144 الْأَعْيَانَ لَا يَمْلِكُهَا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا تعالي، وإنما للعبد منها المنافع: 3/ 429 هل الدوام كالابتداء؟ 3/ 429 المقاصد أرواح الأعمال: 3/ 44 تجب صحة القصد والفعل في الأعمال الشرعية: 3/ 45 المصالح المرسلة لا تدخل في التعبدات: 3/ 285 التمييز بين البدعة والمصلحة المرسلة: 3/ 383 إذا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ عَامَّةً؛ فَعَلَى مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِمُ المصلحة أن يقوموا: 3/ 89 كُلُّ مَنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، فَعَلَى غيره ألقيام بمصالحه: 3/ 87 الشريعة مبنية على الإحباط وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَالتَّحَرُّزِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ طريقا إلى مفسدة: 3/ 85 العقل مناط التكليف: 47/ 14، 17 يجب اعتبار ما قصده غالبا عرفا: 3/ 463 الجزئي لا ينقض قاعدة كلية: 5/ 142 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 وجوب اعْتِبَارُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ بِهَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ عِنْدَ إِجْرَاءِ الأدلة الخاصة: 3/ 174 اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب عند العمل بالكليات: 5/ 229 قاعدة سد الذرائع: 3/ 58 ترك من واقع نهيا لما يترتب عليه من أمر زائد بحكم التبعية، لا بحكم الأصالة: 5/ 190 الدليل الشرعي يؤخذ عاما على أحكام الشريعة: 3/ 241 الواجبات التي تترتب عليها أحكام دنيوية: 4/ 124 الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا: 3/ 136 الأحكام تعلق بالأفعال أو ... : 1/ 75-3/ 136 الافتراق والاجتماع في الأحكام: 3/ 471-472 التفريق بين المشترك في الشرع: 4/ 63 القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر: 3/ 526 القواعد المانعة: 3/ 179 الشريعة مصادمة للهوى: 2/ 292، 293 لا ضرر ولا ضرار: 3/ 61 الضرورات تبيح المحظوارت: 5/ 99 اختلاط المنافع المحللة بالمحرمة: 3/ 458 الشريعة لا تضع حكمين مختلفين في موضوع واحد: 5/ 59 الضرورات هي المتبوع والأصل في الجملة: 3/ 478 قاعدة في الدعاء: 2/ 395 قاعدة في المصائب النازلة: 2/ 395 الأعمال بالنيات: 2/ 340 الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في: 3/ 7 الأمر العاديات لا تكون تعبديات إلا بالنيات: 3/ 18 الأعمال العادية لا تكون عبادات ولا..3/ 19 قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية: 2/ 395 العاديات لَا تَحْتَاجُ فِي الِامْتِثَالِ بِهَا إِلَى نِيَّةٍ: 3/ 13 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 القصد المناقض للشرع مبطل للعمل: 1/ 341 المعاملة بنقيض المقصود: 1/ 538 قاعدة مجاري العادات: 1/ 336 العمل الأكثري: 3/ 271 كل دليل ثبت مُقَيَّدًا غَيْرَ مُطْلَقٍ، وَجُعِلَ لَهُ قَانُونٌ وَضَابِطٌ: 3/ 235 الأصل الاستعمالي إذا عارض: 4/ 19 العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: 4/ 39، 42 العبرة بخصوص السبب لا عموم اللفظ: 4/ 40، 42 ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب: 1/ 230-3/ 423، 424، 427 مظان قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به: 3/ 424 ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا: 2/ 84 يستحيل كون الشيء الواحد حراما وواجبا: 3/ 217 قاعدة إسقاط الاستبداد والدخول في: 3/ 62 قاعدة: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب: 4/ 203 الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ: 2/ 468 قاعدة المعاملة بنقيض المقصود: 1/ 405 قاعدة الربا: 3/ 201 قاعدة الغرر والجهالة: 3/ 197 منافع الأحرار يجوز العقد عليها في: 3/ 436 هل العبد جار مجرى الأحرار أم مجري المال: 5/ 345 التصرف في الأملاك بغير عوض ينقسم: 3/ 90 لَا يَلْزَمُ فِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ مِنْ جِهَةِ المكلف: 3/ 26، 27 ورود الأوامر والنواهي مطلقة دون: 3/ 397 قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 2/ 395 مخالفة الأمر وعدم مطابقته مبطل للعمل: 2/ 539 الأمر بالشيء ليس أمرا بالتوابع: 3/ 182 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ: 1/ 230-3/ 424، 427 الخطر على أمور فعلت ولا زالت عندما جاء الشرع: 1/ 294 الأصل في الإبضاع المنع: 1/ 400 قاعدة الطاعة تعين على الطاعة: 3/ 153 الأمر بالشيء ليس أمرا: 3/ 112 الأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع: 1/ 302 الأمر بالبيع لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع: 1/ 302 الأمر بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِإِزْهَاقِ الروح: 1/ 302 وضع الأسباب لا يستلزم قصد الواضع إلى المسببات: 1/ 311 التخير بين الواجب وغير الواجب محال غير ممكن: 4/ 51 التَّرُوكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ تُرُوكٌ لَا تَتَلَازَمُ: 3/ 225 لا يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عما يسمعه أو يراه من الباطل: 4/ 166 النهي عَنِ التَّرَدِّي فِي الْبِئْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ: 1/ 302 النَّهْيَ عن جعل الثوب لا يستلزم: 1/ 303 النهي عن القتل والعدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق: 1/ 302 ليس كل جائز واقعا: 5/ 110 البيان مطلوب- أيضا- في الأحكام الوضعية: 4/ 126 قاعدة الْإِبْلَاغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَا خَاطَبَ به الخلق: 4/ 200 قاعدة عدم المؤاخذة قبل الإنذار: 4/ 200 لَا يَنْبَغِي لِمَنِ الْتَزَمَ عِبَادَةً مِنِ الْعِبَادَاتِ الندبية أن يواظب: 4/ 118 الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال: 3/ 280 الْأَفْعَالَ الْمُتَلَازِمَةَ إِمَّا أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهَا وَصْفًا للآخر أو لا: 3/ 225 الدوام عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ عدم الترك رأسا: 4/ 122 ليس من لوازم المجتهد أن يكون مجتهدا في كل: 5/ 129 الاختلاف في أمر لم يحصل من الصحابة رأسا عمل فيه: 3/ 287 وجوب تفقد العالم أقواله وأفعاله: 4/ 91 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا بُدَّ فِيهِ من اعتبار معنى ... : 3/ 419 قاعدة مراعاة فهم السلف الأولين وما كانوا عليه: 3/ 252، 280، 289 الْمُطْلَقَ إِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لم يكن حجة في غيره: 3/ 285 مخالفة عمل السلف: 3/ 287 كل مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ؛ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ: 3/ 281 النظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالات كثيرة: 3/ 288 القاعدة لا تنخرم بشذوذ آحاد: 2/ 83 قاعدة التصويب: 2/ 78 قاعدة رفع الحرج: 1/ 264-3/ 179 قاعدة الحرج والضيق: 3/ 179 كل تكملة تعود على الأصل بالبطلان؛ فهي باطلة: 2/ 26 قاعدة مراعاة الخلاف: 2/ 52-5/ 106، 188، -189 قاعدة التحسين والتزيين: 1/ 253 قاعدة نفي التحسين والتقبيح: 2/ 534-535 التحليل والتحريم حق الله: 3/ 103 لا تكليف إلا بدليل: 5/ 337 التعارض في المسائل المختلف فيها تعارض ظاهري: 5/ 73 قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس ومضارهم: 3/ 53 الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة..: 3/ 223 القضاء بالراجح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية: 5/ 113 يستحيل كون الشيء الواحد حراما وواجبا: 3/ 217 القصاص حق من حقق المعتدي عليه: 3/ 103 ما كان حقا للعبد لا يلزم أن تكون فيه الخيرة: 3/ 102 قاعدة الصدقة: 2/ 395 قاعدة الدرجات في الآخرة: 1/ 174 الجهل بعادات الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَمَجَارِي أَحْوَالِهَا حَالَةَ التنزيل يوقع في الشبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 والإشكال: 4/ 154 أيقع السبب بمنزلة إيقاع المسبب: 1/ 362 نظرية التعسف في استعمال الحق: 3/ 56، 120، 507 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 مسائل الفقه مرتبة على الأبواب : -الطهارة والنجاسات: الماء وطهارته: 4/ 383، 5/ 354 المنة بالماء للطهارة: 3/ 90 الماء المطلق: 3/ 231 تغير الماء: 2/ 276 الطهارات والنجاسات: 3/ 367 الرخص في الطهارة: 4/ 350 مندوبات الطهارة: 2/ 25 الطهارة وال صلاة: 1/ 406، 413، 3/ 224-225، 5/ 351 شروط الطهارة: 1/ 542 علة الطهارة: 3/ 201 طهارة دم النبي صلى الله عليه وسلم: 4/ 437 وجوب الطهارة من الحدث: 3/ 184 الطهارة للدعاء: 2/ 488 الطهارة لغير الصلاة: 1/ 85 الحكمة في اختيار أعضاء الطهارة: 1/ 111 الختان: 2/ 35 دبغ الجلود: 4/ 22، 5/ 109 طهارة جلد الكلب بالدباغ: 4/ 22 ولوغ الكلب: 3/ 201 غسل الإناء من ولوغ الكلب: 3/ 195 مذهب الإمام مالك في لعاب الكلب: 3/ 196 النجاسات في الماء والجلود: 2/ 153، 161، 4/ 40 النجاسات في الأرض: 3/ 528 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 إزالة النجاسة: 1/ 20، 2/ 22، 488، 3/ 138 تحريم النجاسات: 2/ 26 بيع النجاسات: 2/ 23 العذرة: 4/ 368 الجلالة: 4/ 351 حمل المحدث للمصحف: 3/ 456 البول في الماء: 3/ 411، 420 قصة البائل في المسجد: 5/ 191 البول في الحجر: 1/ 218 دخول الحمام: 1/ 288، 3/ 527 نضح البول: 4/ 109 الاستجمار بالعظم: 1/ 218 -الوضوء: 2/ 12، 3/ 232، 4/ 312 مظان مسألة النية للوضوء: 3/ 13 الخلاف في اشتراك النية للوضوء: 3/ 13 النية واستحضارها: 2/ 518، 538، 3/ 13-14، 19 التسمية على الوضوء: 4/ 119 السواك: 3/ 494، 4/ 424 الإسباغ في الوضوء: 4/ 120-121 الوضوء في البرد: 2/ 214 الوضوء بالنبيذ: 3/ 190 الوضوء مرة مرة: 4/ 120 المد والصاع: 1/ 268 تكرار الوضوء: 4/ 120-121 الوضوء من النوم: 4/ 134 الوضوء تبردا: 2/ 363 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 الوضوء ونيات أخرى غير التعبد: 1/ 342، 2/ 364-365 الوضوء لمن معه سلس في البول: 1/ 298 نقض الوضوء بالقهقهة: 3/ 190 غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء: 4/ 114 غسل اليدين في الوضوء: 3/ 192، 193 المسح على العمامة والرأس: 1/ 268، 5/ 219 مسح الرأس: 3/ 279، 4/ 8، 10 غسل الوجه والرأس: 5/ 47-48، 65 غسل جزء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه: 3/ 423 - الغسل: أحكام مغيب الحشفة: 3/ 423 الغسل من التقاء الختانين: 1/ 396، 4/ 83-84-84، 128، 5/ 214 الغسل بنية الجنابة والجمعة: 3/ 482 غسل الجنابة: 1/ 267-268، 3/ 275 الغسل من المني دون البول والمذي: 4/ 62 الغسل من الإنزال: 1/ 417، 420 تفسير الإيلاج الواجب بعده الغسل: 2/ 140 غسل الثوب من الاحتلام: 4/ 114، 120 الإسباغ في الغسل: 4/ 120-121 - الحيض: 1/ 298، 442، 4/ 444 مدة أكثر الحيض: 2/ 152، 161 -التيمم: التيمم والطهارة: 2/ 83 التراب طهور وليس مطهرا كالماء: 4/ 62 التيمم لعذر: 1/ 468، 2/ 245، 360، 5/ 128، 351 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 راكب البحر والتيمم: 1/ 331 التيمم في المرض: 3/ 179 التيمم للصلاة ووجود الماء: 1/ 508، 2/ 254، 5/ 119 تأخير الصلاة إذا غلب الظن الوصول إلى الماء في الوقت: 1/ 331 - العبادات: علم العبادات: 3/ 386، 4/ 205 العبادات وكيفيتها والبدع فيها: 4/ 119 العبادات الندبية البدنية ومعاملتها على الوجوب: 4/ 118-119 الأوقات في العبادات: 1/ 240، 3/ 19، 20 الاعتقاد في الواجب: 4/ 97 النيات: النية في العبادات: 1/ 300، 3/ 19 جمع النيات: 3/ 479، 480-483 راجع "المقاصد والنيات": إدخال الملل والكسل في العبادة: 2/ 240 إشراك المكلف في العبادة غيرها: 3/ 478 القيام بالعبادات عن الميت: 4/ 69 المحافظة على كمال العبادة: 2/ 231 الإكثار من العبادات: 2/ 242 التزام كيفية من الكيفيات المشروعة في العبادة: 4/ 120-121 مواقيت العبادات وحسابها فلكيا: 2/ 111 حكم العبادات: 2/ 295 التوسط والشدة في العبادات: 1/ 354 المداومة على العبادة: 1/ 221، 3/ 264 العبادة بسبب فهم الحكم: 3/ 98 ترك عبادة لأجل عبادة أخرى: 2/ 249 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 مواقيت العبادات وحسابها فلكيا: 2/ 111 - الصلاة: الصلاة: 1/ 68، 298، 407، 515-513، 2/ 12 الصلاة لغة واصطلاحا: 4/ 26 مقصود الصلاة: 3/ 142 فرضية الصلاة: 1/ 29، 2/ 202، 4/ 7، 259 أفعال الصلاة: 4/ 317 أجزاء الصلاة: 1/ 240، 3/ 495 مندوبات الصلاة وتركها: 2/ 40 أركان الصلاة: 1/ 495، 2/ 29 حكمة كيفيتها: 1/ 111 مكملات الصلاة: 2/ 38 أحكام الصلاة ومحرماتها: 3/ 479 سوابق الصلاة ولواحقها: 3/ 484 المحافظة على الصلاة: 3/ 413 ترك الصلاة: 1/ 213، 219، 2/ 96 قتل تارك الصلاة: 2/ 99 صلوات الأسبوع: 3/ 496 بيان الصلوات: 2/ 483، 4/ 81 بيان أوقات الصلوات وتقديرها: 1/ 205، 299، 409-410، 2/ 479، 3/ 255-256، 298 الصلاة في مكة: 3/ 336 وقت صلاة الفجر وتعقب السيوطي في عدة حديث "أسفروا بالفجر" متواترا: 3/ 257 أول الوقت: 1/ 243 الصلاة مع الشاغل: 3/ 292 إذا حان وقت الصلاة وحان معها وقت أداء دين: 3/ 221 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 شروط الصلاة: 1/ 409، 421، 542 الصلاة والطهارة: 1/ 300، 406، 413، 34، 35/ 4/ 350، 5/ 351 الثياب في الصلاة: 4/ 109-110 لبس ثوبين في الصلاة: 3/ 502 الصلاة في ثوب مشكوك في طهارته: 3/ 528 الصلاة وعليه نجاسة: 3/ 387 قصة عمر وتركه تكلف ثوب آخر للصلاة: 4/ 109-110 ستر العورة في الصلاة: 1/ 20، 2/ 22، 29، 40، 3/ 390 استقبال القبلة: 2/ 12، 40، 420، 4/ 147 القبلة في مكة: 3/ 337 من التبست عليه القبلة: 5/ 351 - الآذان والإقامة: الآذان: 1/ 211، 3/ 371 إقامة الصلاة: 4/ 221، 2/ 404 التثويب في الصلاة وبدعها: 3/ 500، 5/ 158 أجر المؤذن: 2/ 313 الترديد مع المؤذن: 2/ 371 دعاء المؤذنين بالليل: 3/ 283 - المساجد: كثر الخطا إلى المساجد: 1/ 246، 2/ 223 شرح "من بني لله مسجدا": 2/ 39 الجلوس في المسجد: 2/ 372 فضل الكعبة والمساجد الثلاثة: 2/ 275-276 الرقص في المساجد: 3/ 283 -الإمامة في الصلاة: شروط الإمامة: 2/ 30 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 الإمامة بين الناس: 3/ 146 الإمام والمأموم: 2/ 388 الإمام والجماعة: 2/ 369 الصلاة خلف الفاجر: 2/ 28، 29 الصلاة خلف بني أمية: 2/ 29 الصلاة بنية المخالفة: 1/ 341 اتباع الإمام في الصلاة جالسا: 1/ 367 الأجرة علي الإمامة: 3/ 453 صلاة الجماعة: 1/ 211، 243، 2/ 29 صلاة الجماعة مع أكل الثوم: 4/ 429 صلاة الجماعة في الفرائض والسنن: 2/ 24 لطيفة علي وجوب الجماعة لابن القيم: 5/ 195 ترك الجماعة: 2/ 96، 4/ 110، 156 سبب ترك الإمام مالك للجماعات في المسجد: 3/ 529، 5/ 200 -صفة الصلاة: النية: 2/ 518، 538، 3/ 20، 4/ 97 إتمام الصلاة: 1/ 541 الخشوع في الصلاة: 1/ 160، 2/ 42-43، 232، 405-406، 3/ 94 تكبيرة الإحرام: 5/ 112 القيام في الصلاة: 1/ 467، 471، 4/ 50-51 المصلي لا يطيق القيام: 4/ 50، 51، 58، 3/ 178 تحريك الرجلين للترويح في القيام: 3/ 499، 4/ 120 البسملة في الصلاة: 1/ 166 قراءة الفاتحة خلف الإمام: 2/ 34، 405/ 1/ 108، 352- 353 التكبير للدخول والركوع مع الإمام: 5/ 106-107 التكبير للركوع: 2/ 34، 5/ 112 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 الذكر في الصلاة: 2/ 36 مسألة القبض بعد الرفع من الركوع: 3/ 286 التشهد في الصلاة: 3/ 271 مسحة الجبهة في الصلاة: 4/ 112، 114 القنوت: 2/ 513، 3/ 294، 4/ 150 التكبير والتسليم: 2/ 519، 3/ 135 الأنفتال من الصلاة: 3/ 500-502 الدعاء بعد الصلاة: 3/ 500 النهي عن الالتفات في الصلاة: 3/ 342-343، 501 نسخ الكلام في الصلاة: 3/ 341 رد السلام في الصلاة: 2/ 371 القهقهة في الصلاة: 3/ 200 خطرات القلب في الصلاة: 2/ 361، 3/ 94 السهو في الصلاة: 1/ 118، 3/ 50 السهو بالزيادة: 5/ 16 السلام في الظهر في الركعة الثانية: 3/ 16 الجمع بين الصلاتين: 1/ 492، 3/ 256، 4/ 58، 5/ 195 الجمع بين العشائين بمزدلفة: 1/ 495-496، 506 الرخص في السفر والمرض: 1/ 199، 300، 411، 468، 476، 483، 485، 488، 490-491، 492، 493، 497، 514، 530، 2/ 25، 32-33، 83، 274، 3/ 107، 182، 4/ 9-10، 14، 15، 16، 26، 50-51، 59-60، 102-103، 350، 5/ 195 مشقة السفر في الصلاة: 4/ 14 الصلاة الوسطى: 4/ 399 كلام حول مسالة "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة": 1/ 266، 3/ 407 تأخير العشاء: 4/ 424 تأخير الصلاة: 1/ 437 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 تأخير الصلاة مع ظن الموت: 3/ 34 تأخير الصلاة في حال عدم وجود الماء إذا غلب علي الظن الوصول إلى الماء في الوقت: 1/ 331 الصلاة في وقت العشاء أو غيره: 1/ 494 الصلاة في اليوم مرتين: 3/ 479 صلاة النافلة: 1/ 239، 3/ 491 ترك النوافل: 1/ 211 صلاة النافلة بعد السهو بركعتين: 3/ 22 صلاة النافلة في البيت: 3/ 264 صلاة النافلة جماعة: 3/ 264-265 قيام الليل كله: 2/ 249-251 قيام رمضان في المساجد: 3/ 263 سنة الفجر: 1/ 211 صلاة الضحى: 3/ 260، 264، 4/ 104-105 الصلاة بعد العصر: 3/ 341 الصلاة طرفا النهار: 2/ 34، 37 سنة المغرب القبلية: 4/ 92 التطوع بعد المغرب: 4/ 92 الوتر: 1/ 211، 5/ 217 صلاة الخوف: 1/ 490، 5/ 195 الصلاة خلف مقام إبراهيم: 2/ 420، 4/ 398 صلاة الاستخارة وبدعها: 3/ 143 صلاة العيدين: 1/ 211 حكم صلاة العيدين للنساء والعبيد: 1/ 443 صلاة الكسوف: 2/ 279 هل يجتمع عيد وكسوف: 2/ 479 الصلاة في الأرض المغصوبة: 1/ 328، 386، 452-453، 489، 2/ 37، 38، 49، 245، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 3/ 56، 134، 217، 225، 431 الصلاة في الأوقات المكروهة: 2/ 252 الصلاة في الأوقات والأماكن المحرمة أو المكروهة: 1/ 489، 3/ 220، 488 سقوط الصلاة عن الحائض ولا تقضى: 1/ 299، 2/ 33، 526، 4/ 62 الحائض تطهر قبل الفجر: 1/ 273 المستحاضة والنفساء والصلاة: 1/ 273 الحيض والصلاة: 1/ 298 سجود الشكر: 3/ 158، 161، 270، 271-272، 4/ 95 سجود القرآن: 3/ 498، 4/ 119 السجود في المفصل: 3/ 278 صلاة الجنازة: 2/ 363 شهود صلاة الجنازة: 5/ 200 الاستغفار للغير: 2/ 388 الاستغفار للمشركين: 2/ 256 تحمل الإنسان العمل عن غيره: 2/ 385 تعذيب الميت بالنياحة عليه: 3/ 190-191 حب لقاء الله: 3/ 294 الصيام عن الميت: 3/ 276 هبة الثواب: 2/ 400 - الجمعة: حكم الجمعة للنساء والعبيد: 1/ 443 الغسل يوم الجمعة: 3/ 482 إقامة الجمعة: 2/ 24، 4/ 111 ترك الجمعات: 1/ 213، 214 السعي إلى الجمعة: 4/ 131 يوم الجمعة عند العرب: 2/ 524 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 الصوم: أحكام الصيام: 1/ 111، 239، 488، 491، 512، 517، 541، 2/ 12، 3/ 485، 4/ 268 مقاصد الصيام: 3/ 143 رؤية الهلال: 1/ 56، 3/ 149، 4/ 112، 130 السؤال عن الهلال: 5/ 388 إثبات رمضان بالرؤيا: 1/ 114 مواقيت العبادات وحسابها بالفلك: 2/ 111، 143، 144 عادة العرب في الصوم: 3/ 240 من رأي الهلال وحده: 4/ 112 الصوم مع الجماعة حتى وإن رأي الهلال: 4/ 112 رؤية هلال شوال قبل غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان: 4/ 130 الصوم في رمضان: 3/ 482 وقت الصوم: 1/ 542 الصوم توفيرا للمال: 2/ 362 الصوم للعلاج: 2/ 367 نزول آيات الصوم: 1/ 468 قصة حول حديث "إذا أقبل الليل من ها هنا: 3/ 262 عادة العرب في الصوم: 3/ 240 النية في الصوم ورفضها: 1/ 300، 3/ 13، 19، 21، 5/ 197 الإمساك عن المفطرات: 3/ 17 الفجر والصيام: 4/ 398 الصوم جنة: 1/ 438 - من يرخص لهم في الفطر وأحكام القضاء: الحائض: 2/ 526، 4/ 62، 5/ 17 المسافر والمريض: 1/ 300، 444، 468، 476، 485، 488، 490، 492، 511، 514، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 530، 2/ 32-33، 274، 3/ 107، 178، 4/ 9، 10، 16، 50، 51، 126، 5/ 195 الفطر في رمضان: 1/ 489 الفطر بدخول الوقت: 3/ 262 الإمساك في الفجر: 3/ 298-299 أكل البرد للصائم: 3/ 274 السفر بقصد الفطر: 1/ 379، 437 القصر والفطر في السفر: 1/ 199، 200، 264، 411 الصوم مع المرض: 1/ 493-494، 3/ 182 أقل المرض: 1/ 497 المرض وقرب الشفاء: 1/ 331 الصوم مع خوف التلف: 2/ 245 الصوم في الحر الشديد: 2/ 223 المسافر يقدم قبل الفجر: 1/ 273 قضاء الفطر في رمضان لعذر: 1/ 243 الفطر في الجهاد: 2/ 254 المجامع في نهار رمضان: 5/ 19 فتيا ملك جامع زوجته في رمضان بصوم شهرين: 3/ 187 صوم ولي الميت عنه: 3/ 198، 276 الأيام المنهي عن صومها: 3/ 84 صوم يوم الجمعة: 3/ 469، 5/ 316 صوم يوم الشك: 3/ 469 صوم أيام العيد: 2/ 34، 37، 3/ 220، 469، 488، 4/ 100 النهي عن الوصال: 1/ 486، 2/ 208، 235، 3/ 262، 266، 414، 416، 509، 5/ 264 سرد الصوم: 2/ 240 - صوم التطوع: صوم يوم عرفة: 2/ 250 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 صوم ست من شوال: 3/ 199، 4، 92، 105-106، 121 مفسدة اعتقاد وجوب صيام ست من شوال: 4/ 106 تعقب على الشوكاني في مسألة صيام ست من شوال للشيخ دراز: 3/ 199 - آداب الصيام وسننه وما يرخص للصائم: السحور: 3/ 485، 4/ 129 تعجيل الفطر: 4/ 129-130 مما يباح للصائم التقبيل: 4/ 117 ليلة القدر: 4/ 254 قيام رمضان في المسجد: 3/ 259، 263، 4/ 423 قراءة القرآن والصوم: 2/ 253 الاعتكاف: 1/ 438 الاعتكاف توفيرا للمال: 2/ 363 النذر في الصيام: 2/ 229، 397 اختلاف الناس في النذر والصوم: 2/ 398 وطء الكتابية نهار رمضان للقادم من السفر: 1/ 41 يصبح الرجل جنبًا ويصوم: 2/ 154، 162 مشقة الصيام في السفرك4/ 14 حكم تقديم الطعام والشراب لأهل الكتاب في نهار رمضان: 1/ 41 - الزكاة: الزكاة: 1/ 499، 500، 255، 2/ 249-250، 365، 5/ 242-244، 1/ 460، 437، 407، 3/ 19، 121 معاني الزكاة: 3/ 411-412 حكمة الزكاة: 1/ 32 وجوبها: 1/ 29 شروطها: 1/ 407-409، 406 مانع الزكاة: 2/ 496، 499 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 مقاصد الزكاة: 3/ 121-122 الزكاة في العهد المكي والمدني: 5/ 242 الزكاة في مكة: 3/ 336 مناظرة أبي بكر مع عمر في قتال مانعي الزكاة: 5/ 407 كنز المال: 4/ 316، 3/ 357 بيان معنى الكنز: 3/ 357 النية في الزكاة: 3/ 14، 19، 20 الكسب الطيب: 3/ 485 النصاب في الزكاة: 1، 299، 410، 432، 2/ 527، 4/ 9، 10، 14، 309-310 حول الزكاة: 1/ 298، 299، 413، 421، 422، 423، 432، 2/ 527 الزكاة والدين: 1/ 412، 444، 445، 450 التحيل في الزكاة: 3/ 122 سقوط الزكاة: 1/ 446 إخراج الزكاة قبل وقتها: 1/ 418 الزكاة والغرامات وزكاة أموال الأطفال والمجانين: 1/ 237 إيتاء ذي القربي: 1/ 252 الصدقات: 1/ 247، 3/ 64، 292 لذة الصدقة: 2/ 362 الصدقات على الفقراء: 1/ 248 قاعدة في الصدقة عن الغير: 2/ 387 قاعدة الصدقة: 2/ 395 المن والأذى في الصدقة: 1/ 456، 3/ 90 الإنفاق من الطيبات: 2/ 25 صدقة التطوع: 1/ 211 الزكاة: الماس وغيره: 2/ 83 قصص في الصدقات العظيمة: 2/ 322 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 حد الفقر والغني: 5/ 13-14، 366 المفاضلة بين الفقر والغني: 1/ 187، 5/ 367 مقدار حاجة الفقير، وكيفية سدها؟ 1/ 248 تحصيل الزكاة: 1/ 374 تكاليف الزكاة: 2/ 411 القيم في الزكاة: 2/ 519، 3/ 138 تعطيل مصارف الزكاة: 3/ 122 زكاة الخلطاء: 3/ 59 جمع المتفرق في الزكاة: 1/ 405، 422، 423، 435 الاقتران والتجميع في الزكاة: 1/ 421، 433، 3/ 478 زكاة الخضروات: 3/ 162 زكاة الحبوب: 2/ 155، 162 زكاة النقدين: 5/ 118 زكاة العروض: 5/ 118 - زكاة الحيوان: الزكاة في الأنعام: 5/ 213 زكاة الجاه وأثر العلو: 4/ 431 مصالح إخراج الزكاة: 3/ 122 الحيل في الزكاة: 3/ 32، 122، 4/ 221، 5/ 187-188 زكاة الفطر: 4/ 135 المد والصاع: 1/ 268 - الحَج: الحَج: 1/ 68، 256، 258، 275، 277، 483، 3/ 485 حكمة الحج: 1، 111 بناء الكعبة: 2/ 113 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 الحج في الجاهلية: 3/ 239، 4/ 154 أحكام الحج: 1/ 478، 480، 481 إتمام الحج والعمرة: 4/ 154 الزاد للحج: 1/ 332، 3/ 549 المواقيت والأهلة: 4/ 269 التجارة في الحج: 1/ 475، 2/ 366، 3/ 481-482 الرفث في الحج وضوابطه: 4/ 94-95 ذكر ابن عباس للرفث والحج: 4/ 94-95 الحج ماشيا: 1/ 146 الحج ماشيا: لتوفير المال: 2/ 363 وجوب الحج على التراخي أم على الفور؟ 1/ 243 عبادة تفعل مرة في العمر: 1/ 245 الحج ليس كل عام: 1/ 46-47 السياحة في الحج: 2/ 362 الحج والهجرة من الإنكاد: 2/ 366 النذر في الحج: 2/ 397 اختلاف الناس بالنذر في الحج: 2/ 398 إباحة التمتع أو وجوبه: 3/ 387 العمرة: 1/ 211 النكاح في الحج: 3/ 81 - الإحرام: المحرم والثياب: 4/ 34 صلاة ركعتين في العقيق: 2/ 226 الإحلال من العمرة: 4/ 126 المحرمات على الحاج والمعتمر: 3/ 83 الصيد: 4/ 92 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 جزاء المثل في صيد الحرم: 5/ 17، 23 تحريم المدينة: 4/ 387، 404 دعوى قياس تحريم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة بتحريم مكة: 4/ 388 تحريم الحرمين: 4/ 402 حرمة مكة والمدينة: 4/ 386-387، 402 القراءة في الطواف: 3/ 500 الصلاة خلف مقام إبراهيم: 4/ 398 ستر العورات خاصة في الطواف: 2/ 488 الدعاء يوم عرفة: 3/ 498 الجلوس في المسجد يوم عرفة "التعريف": 3/ 497 التسمية في الذبح والزيادة عليه: 3/ 500 أفضل الأضاحي: 3/ 382 نزول الحاج بالمحصب: 4/ 109 الجمع بين العشاءين بمزدلفة: 1/ 506 الجمع بمزدلفة وعرفة: 1/ 495، 496 فضل الكعبة والمساجد الثلاثة: 2/ 275-276 الوقوف بالمشعر الحرام: 2/ 125 الحلق في الحج: 2/ 34، 35 النهي عن الإلحاد في الحرم: 4/ 388 - البيوع: البيوع: 1/ 159، 288، 299، 438، 444-3/ 480 البيع والخيار: 5/ 193 طهارة المبيع: 1/ 297 البيوع والمنافع: 3/ 464-465 التكسب بالبيع والشراء والإجارة: 1/ 208 الإقالة في البيع: 3/ 155 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 المسابقة إلى الشراء: 3/ 54 الضمان في البيوع: 1/ 338، 377 توفية الكيل والميزان: 3/ 485، 486 أحكام الصبي في البيوع: 1/ 247 البيع والسلف: 1/ 455-3/ 84، 463-468، 474، 478 العقد الصوري: 5/ 185 البيوع الإشهاد الرهن: 2/ 25 البيع والصرف: 3/ 452، 453، 459، 480 بيع أو شركة الأثمان: 1/ 276 النهي عن بيع الحصاة: 3/ 417 شرح بيع الحصاة: 2/ 552 غلة المشتري: 3/ 427 خيار المجلس: 1/ 433، 434-3/ 196-5/ 216 مظان مسألة خيار المجلس: بيع الجارية: 3/ 197-198 بيع الجارية: 2/ 535-4/ 381 بيع أمهات الأولاد: 3/ 472-5/ 162 بيع العبيد: 1/ 438 بيع كلب الصيد والحراسة: 3/ 459 -العقود في البيوع: العقد على المنافع والغلات: 3/ 434-435 العقد على منافع الأحرار: 3/ 436، 437 الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ بِانْفِرَادِهَا يَتْبَعُهَا الْأُصُولُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُسْتَوْفَى إِلَّا مِنَ الأصول: 3/ 444 النيات في العقد: 3/ 8 العقود على الإجارات والرقاب: 3/ 436 الألفاظ والكتابات في العقود وغيرها: 2/ 490 إلقاء التوابع في العقد على المتبوعات: 2/ 22 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 الإشهاد في العقود: 2/ 24 جمع العقود: 3/ 480 العقود الفاسدة: 5/ 107 العقد على الخمر والخنزير: 1/ 391 اللغو في البيوع: 5/ 185، 186 معنى اللغو في البيوع: 5/ 185 أنواع بعض بيوع: 1/ 413 بعض أنواع البيوع والرخصة فيها: 1/ 468-469 شروط البيع: 1/ 439 شروط البيع عند المالكية: 1/ 440 البيع والتسليم: 1/ 298 البيع والشراء: 1/ 287 أثمان السلع: 3/ 439 البيوع المنهي عنها: 2/ 522-3/ 185، 416، 565، 566-4/ 137 البيوع الفاسدة: 1/ 377-3/ 101 مفاسد البيوع: 2/ 512 البيوع الفاسدة عند مالك: 1/ 346 بيع الطعام بالطعام نسيئه: 5/ 100 المصراة "شرح حديث المصراة": 1/ 109-3/ 204، 205 التصرية في بيع الغنم والبقر وغيريها: 1/ 429 بيع المعدوم: 2/ 75 البيع الفاسد: 5/ 107 الغرر: 1/ 33، 109، 276-2/ 26، 32، 33، 36، 40-3/ 179-4/ 350، 488-5/ 117 النهي عن بيع الغرر: 3/ 485-5/ 117 الغرر المعفو عنه: 3/ 418 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 مظان مسألة بيع الغرر: 5/ 117 الغش: 1/ 429-3/ 54، 55، 488 بيع النخل الموبر: 3/ 438 الغرر والإجارة: 2/ 26 البيع إلى أجل "التقسيط": 1/ 456، 457-3/ 55، 127، 220، 488، 528-44/ 66، 67 بيع الحاضر للبادي: 3/ 53، 57، 58 بيع الثمرة على الشجر أو بيع الشجر وفيه الثمر: 3/ 445-446، 487، 491-5/ 119 بيع الرطب باليابس بالعرية: 3/ 58 بيع الرطب بالتمر: 3/ 202، 203 التطفيف: 1/ 216 بيع العرايا: 1/ 33-5/ 191، 195، 197 الشرط في البيع: 1/ 455-5/ 206، 231 قصة عن بيع وشرط: 5/ 231 من اشترى جارية على شرط أن يبيعها ولا يهبها: 3/ 445 مسألة البيع والشرط: 5/ 207 بيع العينة: 1/ 380-3/ 114-116، 127، 128، 5/ 138، 182 بيع الدراهم: 3/ 301 بيع الدرهم بالدرهمين: 1/ 398-5/ 138 بيع الدرهم بالدرهم: 3/ 301 الدرهم بالدرهم للحاجة: 3/ 58 الدرهم بالدرهم إلى أجل: جوازه، وحرمته: 2/ 520 حكم بيع المحلي بأحد النقدين: 3/ 456 بيع الطعام بالطعام: 5/ 100-101 علة الربا في الطعام والنقدين "الدراهم والدنانير": 4/ 15، 16 بيع المدبر: 2/ 454، 541 بيع الغائب: 1/ 469 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 الجمع في البيع بين السلع: 3/ 482-483 السلف الذي يؤدي إلى منفعة المسلف: 5/ 184 بيع السلاح لأهل الحرب: 3/ 54 الممنوع من بيع الجزاف: 3/ 480 بيع العنب للخمار: 3/ 23، 54-55 بيع فضل الكلأ والماء: 2/ 23 بيع الدار والأرض للكنيسة أو الخمارة: 3/ 23 بيع الجارية للفساق: 3/ 23 بيع السلام للفتن أو لقطع الطريق: 3/ 23 بيع الأدوات لمن يستعملها في حرام: 3/ 54-55 بيع الملاقيح/ في الأغنام والإبل وغيرها: 1/ 454 بيع الخشبة لمن يستعملها صليبا: 3/ 23 بيع كتابة الموالي والخلاف فيه وتعقب المصنف: 1/ 434 بيع العبيد: 2/ 535 الاحتكار: 1/ 330-3/ 58، 62، 564 البيع في الحج: 2/ 366 شراء المعيب: 3/ 456 البيع وقت نداء الجمعة: 3/ 134، 409، 427، 433، 467 فساد البيع يوم الجمعة وقت النداء: 2/ 156 فساد البيع يوم الجمعة وقت النداء: 2/ 162 البيوع والهدايا للمدين: 3/ 81 البيوع والإجارة: 4/ 390 أقسام منافع الرقاب: 3/ 448 -الربا: 1/ 162، 185، 276، 292، 455-2/ 24، 124، 520-3/ 78، 127-130، 203، 565-4/ 15، 16، 134، 379، 380-5/ 185، 186، 197، 270، 412، 419 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 البنوك الإسلامية: 3/ 123 التعامل بالتورق: 3/ 128 زيادة الثمن لأجل المنافع: 3/ 454 علة الربا: 5/ 12، 412، 419 تحريم الربا: 4/ 379 ربا الفضل: 2/ 88-5/ 139 مظان مسألة رجوع ابن عباس عن ربا الفضل: 5/ 214 علة ربا الفضل: 2/ 532 البيوع والربا: 5/ 183 العرايا والربا: 5/ 191، 195 الربا للضرورة: 5/ 100 مسألة الربا في غير المنصوص عليه: 5/ 412 مسألة مد العجوة: 3/ 129 الصرف: 3/ 465، 480-4/ 324 الصرف- الحلي في الأسلحة: 3/ 456 الصرف في الحلي أو المحلى بأحد النقدين: 3/ 464 الربا في الصرف: 5/ 138 السماسرة: 3/ 565 الرخص في أحكام المال والقروض والبيوع: 4/ 351 الجهل والأمور المالية: 3/ 51 إقامة تجارات ومصانع في أماكن ممنوعة: 3/ 58 قيود نظرية استعمال الحق: 3/ 64 النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق: 3/ 56 الإضرار في السلع بالترخيص: 3/ 53 تغير أسعار السوق: 1/ 378-379 التخلص من المكس والضرائب: 3/ 53 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 ما يجوز التصرف فيه بالإتلاف: 3/ 441 ينقسم التصرف في الأملاك بغير عوض إلى نقل وإسقاط: 3/ 90 السلم: 1/ 27، 69، 516، 2/ 22 القراض والسلم: 1/ 108، 216، 220، 277، 467، 516، 2/ 22، 24، 75، 125 القراض من أحكام الجاهلية: 2/ 125 القروض: 2/ 83، 537-3/ 58 حكمة القرض: 2/ 520-5/ 194 إقراض الناس: 3/ 31 القرض والربا: 5/ 194، 195 قروض الفضة: 1/ 289 أداء الدين والامتثال والنية في ذلك: 3/ 19 مسألة تأبير النخل: 4/ 464 المساقاة: 1/ 108، 109، 216، 468، 516-2/ 22، 75-3/ 453، 465 وضع الجوائح: 3/ 451 السَّقْيِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ هَلْ هُوَ عَلَى البائع أم على المبتاع؟: 3/ 452 الخراج بالضمان: 3/ 455 تفسير الخراج بالضمان: 3/ 204 إحياء الموات: 5/ 186 - الإجارات: 2/ 27-3/ 436-4/ 390 دليل الإجارة: 4/ 189 التكسب بالبيع والشراء والإجارة: 1/ 208، 3/ 504، 535 العمل عند النصارى وغيرهم: 4/ 444، 445 العقود على الإجارات والرقاب: 3/ 436 استئجار الذمي لمنافع عمل المسلم: 4/ 444، 445 الأجور: 2/ 24 كراء الدار مشاهرة: 5/ 117 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 أخذ الأجرة من الخصمين: 3/ 91 الأجرة على العبادات: 3/ 452، 453 الأجرة على الولايات العامة: 3/ 301 الأكتساب في شبهة: 5/ 199، 200 الاكتساب: 2/ 311-312، 3/ 507 المعاوضة والأجرة على العبادات العينية: 2/ 302 المعاوضة على ما لا منفعة فيه: 3/ 456-457 حضور العوضين في المعاوضات: 2/ 27 المعاوضات: 3/ 496، 5/ 228 معاوضات الأجور والأوزار: 2/ 396 الأجرة على تعليم الناس: 2/ 313 الأجرة على الطاعات عامة: 2/ 313 الإجارة في الرضاعة: 4/ 390 تضمين الأجير: 5/ 196 إجارة الحمام: 1/ 159 الإجارة في الرضاعة: 2/ 26 اكتراء الشيء وفيه منفعة أخرى: 3/ 453 الإجارة- بيع المعدوم: 2/ 75 الإجارة والقراض: 4/ 189 - الشركة: 3/ 481 الشركة مبناها على المعروف والتعاون: 3/ 481 الخلاف في العمل في الشركة: 3/ 483 الشركة في النقدين: 3/ 483 شركة الأثمان: 1/ 276 - الضمان: 3/ 74 الملك والضمان: 1/ 402 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 التعدي والضمان والعقوبة: 1/ 401 إتلاف أموال الغير: 1/ 489 ضمان إتلاف الصبي: 1/ 235 الضمان في البيوع: 1/ 377، 378 ضمان الغصب: 1/ 378، 3/ 426، 427، 428، 429 تضمين الصناع: 1/ 367، 2/ 22، 3/ 58، 157، 455، 566، 4/ 291 قيم المتلفات5/ 58 غرم إتلاف المحرمات من أملاك الكفار: 1/ 41 ضمان الصبي: 1/ 247 -الحجر: 1/ 238، 3/ 102، 104 تلاف المال: 2/ 64 الحجر في النفقة: 5/ 366 الحجر على الناس: 2/ 58 الحجر على الطفل والسفيه: 2/ 379 الحجر على المنافع: 4/ 44 الحجر الصحي والعدوي: 2/ 64 - الرهان والسبق في الخيل: 1/ 423 الفرس المحللة: 1/ 434 الرهن والحميل: 2/ 25 القيام بالرهن والحميل: 2/ 24 - العارية: 1/ 108، 216، 289-2/ 520-3/ 182 بيع الرطب باليابس بالعرية: 3/ 58 - الهبة: 3/ 90، 122 هبة الأعمال أو عمله عن غيره: 2/ 387 النحل: 4/ 218، 422 عبادات الهبات: 2/ 333-334 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 الرشاوي والهدايا لأصحاب الولايات: 2/ 302، 309 هدايا الحكام: 3/ 91 الهبة الصورية: 3/ 122 التبرع الإجباري: 363 الهروب من الزكاة بهبة المال: 3/ 122 وهب المال- قبل حولان الحول: 1/ 435-5/ 187 -الوقف: "الأوقاف": 3/ 90، 5/ 87 الوقف عند الحنفية: 5/ 88 - الغصب: 1/ 310، 327، 346، 375، 378، 403، 455-3/ 389، 390-5/ 189 الغصب والتعدي: 3/ 425 الغصب والظلم: 3/ 185 الغاصب: 3/ 35-36 غصب القاضي: 1/ 134 تحريم الغصب: 2/ 37 الضمان في الغصب: 1/ 378 النيات- رد الودائع والغ صوب والنفقات: 3/ 13 غلة المغصوب: 3/ 326 غصب الرقبة: 3/ 326 الأرض المغصوبة: 1/ 364، 374 الأرض المغصوبة والصلاة فيها: 1/ 365 الصلاة في الدار المغصوبة: 1/ 328، 489-2/ 37، 38، 49، 245، 3/ 56، 134، 135، 217، 218، 219، 225، 431 الذبح بحديدة "سكينة" مغصوبة: 1/ 328-2/ 37 منافع الغصب: 3/ 426 الانتفاع بالمغصوب: 3/ 425 استعمال الغصوبات للقربات وغيرها: 3/ 73 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 تغريم الغاصب للمنافع والغلة: 3/ 430 ضمان الغاصب: 3/ 426 الفرق بين ضمان الغصب وضمان التعدي: 3/ 428 ضمان الغاصب للنقص: 3/ 431 الغاصب يضمن مطلقا: 3/ 430 ثبوت الملكية: 1/ 346 ملكية المسروق والمغصوب: 1/ 402 تغير الغصوب عند الغاصب: 1/ 437 حد الغصب: 3/ 389 التوبة من الغصب: 1/ 365 استرجاع الغصب: 2/ 537 - الميسر: 2/ 123 - الشفعة: 5/ 90 - الوكيل على مال اليتيم: 2/ 324 اليتيم- كفالته: 3/ 294، 295 دفع مال اليتيم إليه: 5/ 16 البلوغ والرشد: 1/ 298 - الإيمان: 5/ 196 مسائل الإيمان: 5/ 90 الحلف: 1/ 399 اليمين المنهي عنها: 1/ 424 اليمين على نية المستحلف: 1/ 424 اليمين في الطلاق: 1/ 380-382، 3/ 262 لو حلف رجل بالطلاق لَيَضْرِبَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي الدَّارِ وَهُوَ مَعَهُمْ فيها، فضربهم ولم يضرب نفسه: 4/ 20 النكاح لبر اليمين: 1/ 396 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 نكاح الرجل ليبر يمينه: 3/ 461 الحيل في الإيمان: 1/ 449 الإيفاء بالعهد: 5/ 224 الحنث في اليمين: 1/ 413، 416-2/ 418، 5/ 85 الكفارات: 1/ 245، 273-2/ 519-3/ 384 كفارة اليمين: 1/ 246 خصال الكفارة: 1/ 40، 41، 245، 536-4/ 51 كفارة الظهار والجماع في رمضان: 3/ 186، 187، 188 القياس في الكفارات: 5/ 21 - النذر: 2/ 173، 235 النذر فيما ليس بعبادة أو فيما يشق منها: 2/ 257 النذر على فعل قربة: 1/ 399 الهزل في النذر: 3/ 14، 21 نذر الصيام: 2/ 229 النذر في الصيام والحج والنيات فيه: 2/ 397، 398 النذر والعتق: 3/ 21 التزامات النذر: 3/ 21 - الأضحية: 1/ 252، 4/ 8، 59، 66، 92، 103، 104، 106-107 أفضل الأضاحي: 3/ 382 ادخار لحوم الأضاحي: 2/ 275، 3/ 272-273، 4/ 155-156 ترك الأضحية: 4/ 103، 104 الاختيار في الضحايا: 2/ 25 عناق أبي بدرة: 2/ 58 - العقيقة: 2/ 25 - الأشربة: ما أحل وما حرم من المشروبات: 4/ 358 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 آداب الشرب: 2/ 22 المشروبات النجسة: 2/ 23، 40 الأشربة المحرمة: 3/ 79-80، 5/ 93، 110 الانتباذ: 4/ 358 تحريم أوعية المسكر سدا للذريعة: 4/ 358 حكم ماء البحر: 4/ 383 الخليطان من الأشربة: 3/ 470، 480 الخمر: 1/ 267، 2/ 20، 5/ 417، 418، 421 تحريم الخمر: 1/ 157-158، 275، 2/ 123، 3/ 341، 5/ 93، 137، 414 حكم وعلل لتحريم الخمر: 2/ 67، 358، 4/ 17، 5/ 18، 21، 22 الخمر والإسكار: 2/ 518، 3/ 231، 232، 518 الخمر وزوال العقل: 3/ 36 الخمر في التوراة والإنجيل: 2/ 21 مناظرة ابن المبارك أهل الكوفة في النبيذ: 5/ 137 شرب الخمر: 4/ 147، 150-151 شرب قليل من المسكر: 2/ 24 شرب الخمر قبل التحريم: 4/ 259-260 تناول الخمر للمضطر: 1/ 483 شرب الماء على نية إنه خمر: 2/ 345، 378-379 - الأطعمة: 1/ 208 التمتع بالطيبات: 1/ 20، 203، 2/ 202 أصل الحيوانات حل أكلها حين تذكى: 1/ 401 المن والسلوى: 5/ 211 الطيبات والخبائث من الأطعمة: 4/ 354 آداب الأكل: 2/ 22 ميتة البحر: 4/ 371 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 طعام أهل الكتاب: 1/ 274، 3/ 354 أكل الضب: 4/ 423، 429، 446 أكل الثوم والبصل: 4/ 115، 423، 429 الأكل من بيوت الآباء والصديق: 1/ 480-481 أكل البرد للصائم: 3/ 274 الأطعمة المحرمة: 1/ 542، 5/ 109 الحمر الأهلية: 4/ 137، 192، 323-324 أكل كل ذي ناب: 4، 192، 323، 324 أكل اللحم في النيروز: 2/ 349 حكم طعام المتبارين: 2/ 348 المأكولات النجسة: 2/ 23، 40 أكل لحم الخنزير وشحمه: 1/ 301، 3/ 388-389، 4/ 228 تحريم شحم الخنزير: 4/ 228 تقليد الغرب في أكل لحم الخنزير: 3/ 388 أكل الميتة: 1/ 260، 298، 494، 2/ 57، 375، 3/ 318 أكل الميتة والدم ولحم الخنزير: 1/ 288 شحم الميتة: 3/ 461 إباحة الميتة: 1/ 485 أكل الميتة للمضطر: 1/ 180 المضطر لأكل المحرم: 1/ 32 حكم المضطر إذا احتاج الأكل: 1/ 328 إطعام المضطر بأخذه من مال صاحبه إما بعوض وإما مجانا: 3/ 61 - الصيد: 2/ 75-3/ 292 إباحة الصيد: 1/ 20 الصيد والنية: 3/ 8 التمتع بالطيبات والصيد: 2/ 202 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 صيد البحر وميتته: 4/ 371 الكلب في الصيد: 3/ 201 الصيد والتزكية: 2/ 375-376، 4/ 369 صيد الكلب الجارح المعلم: 4/ 360، 367 أكل الكلب المعلم من الصيد: 4/ 362 بيع كلب الصيد والحراسة: 3/ 459 الكلب- صيده ولعابه: 3/ 196 صيد المحرم: 4/ 346 جزاء المثل في صيد الحرم: 5/ 17 قتل المحرم للصيد خطأ: 4/ 364 - الذبائح: 3/ 43 الذبائح والنية: 3/ 8 الذكاة الشرعية: 1/ 300 التسمية في الذبح والزيادة عليه: 3/ 500 ذبائح أهل الكتاب: 1/ 274، 3/ 354 إحسان الذبح: 3/ 396 الذبح بحديدة "بسكينة" مغصوبة: 1/ 328-2/ 37 الذبح في مكان مخصوص: 2/ 525 اختلاط الميتة بالذكية: 3/ 318 اختلاط الذكية بالميتة: 3/ 326 ذكاة الجنين: 2/ 375-376، 4/ 375 الذبح لقدوم السلاطين وحوادث أخرى: 2/ 348 الذبج للجن: 2/ 346 ذبح الخنزير: 1/ 301 النهي عن أكل الخنزير لا يستلزم النهي عن ذبحه: 1/ 301 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 - النكاح: النكاح: 1/ 2085، 211، 277، 289، 300، 377، 400، 402، 407، 438، 2/ 297، 402، 3/ 135، 139- 140، 155، 292، 480، 4/ 370، 5/ 38 مقاصد النكاح: 1/ 204، 383، 540، 2/ 375، 3/ 139، 462 حكم النكاح: 4/ 370، 5/ 38 الندب إلى النكاح: 2/ 252 شروط النكاح: 1/ 439 بعض أحكام النكاح: 1/ 438 الهزل في النكاح: 3/ 14 الكفارة في النكاح: 1/ 438-439 مآل النكاح: 5/ 200 النكاح في الحج: 3/ 81 النكاح الفاسد: 3/ 50، 5/ 188، 191 أحكام الأنكحة الفاسدة: 1/ 375 مترتبات النكاح الفاسد: 5/ 106 حكم النكاح المخالف للمشروع: 4/ 370 من نكح في العدة: 1/ 405 النهي عن التبتل: 4/ 101 نكاح المتعة: 1/ 164، 386، 397، 3/ 141-142، 337، 5/ 100، 139 نكاح التحليل: 1/ 43، 342، 397، 421، 435، 437، 3/ 30، 31، 33، 125-127، 141-142، 163 التيس المستعار: 1/ 424 نكاح الشغار: 1/ 455، 3/ 20 النكاح والشبهات: 5/ 200 الصداق قبل النكاح: 2/ 490 إسقاط المهر فورا: 5/ 192 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 المهر: 1/ 475، 5/ 188 مهر المثل: 2/ 25 النسل: 1/ 205، 299، 3/ 30 النكاح والسفاح: 1/ 277، 2/ 526، 3/ 36، 5/ 188 ما يحرم بسبب الرضاع: 4/ 385 نكاح المحرمات: 1/ 347، 4/ 310، 323 الجمع بين القربات والمحرمات: 3/ 468 الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها: 1/ 300، 3/ 82، 4/ 192، 383 الجمع بين الأختين: 1/ 40، 300، 3/ 467 الأنكحة المحرمة: 3/ 484، 4/ 370، 383، 402 نكاح الأيدي: 1/ 388 المحرمات في النكاح: 1/ 393، 3/ 355 نكاح المعتدة: 1/ 481، 3/ 82 نكاح الإماء: 1/ 298، 3/ 364 نكاح أكثر من أربعة: 3/ 82، 4/ 227 دعوى جواز نكاح تسعة حرائر والرد عليها: 4/ 277، 228 تعداد الزوجات والقسمة بينهن: 4/ 430-431 نكاح النبي صلي الله عليه وسلم بأكثر من أربعة: 2/ 420، 3/ 241 النكاح دون ولي: 1/ 47-50، 2/ 32، 3/ 20، 47، 4/ 370، 5/ 191 استحقاق المرأة المهر والميراث إذا تزوجت بغير ولي: 5/ 188-189 الإحصان في النكاح: 1/ 422، 3/ 364 النكاح لأجل بر اليمين: 1/ 396، 3/ 461 النكاح لأجل الاستمتاع بالدنيا: إجازة نكاح المسافر في بلد لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا قَضَاءُ الْوَطَرِ زَمَانَ الإقامة: 3/ 126 التزوج من زوجات الأدعياء: 2/ 410-411، 3/ 242 نكاح المفقود زوجها: 3/ 46-47 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 الاختلاء بالنساء: 4/ 360 مباشرة النساء ليلة الصيام: 3/ 296 النظر إلى الأجنبية: 2/ 24 إتيان الزوجة: 1/ 493 محاشي النساء: 1/ 164، 5/ 139 ترك الجماع: 1/ 339 حكم العزل: 3/ 155، 555 النكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة: 3/ 480 الزواج من آل البيت: 3/ 139 الكذب على الزوجة: 1/ 491، 492 الأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع: 1/ 302 النكاح الذي يَلْزَمُهُ طَلَبُ قُوتِ الْعِيَالِ مَعَ ضِيقِ طُرُقِ الحلال: 5/ 199-200 المنافع التابعة للنكاح: 3/ 462 كراهة ترك التمتع بالزوجة المؤدي إلى التشوف إلى الاجنبيات ولو كان ذلك بسبب العبادة: 2/ 252 قوامة الرجال على النساء: 3/ 87 هل تكون العصمة بيد المرأة؟: 1/ 416، 419 شراء المرأة عصمتها من الرجل: 3/ 123 مضار الزوجة: 1/ 446، 3/ 110-11، 123، 4/ 221 زواج المرأة من رجلين: 3/ 46-47 شرح حديث "كل لهو باطل إلا ثلاثة": 3/ 516 آيات في معاملة النساء: 4/ 174 فجور الزوجة ينفر القلوب من زوجها: 5/ 305 الأخذ بالقيافة في إثبات النسب: 4/ 76 حكم القيافة: 2/ 125، 4/ 434 مظان مسألة القيافة: 4/ 434 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 النسب: 3/ 21، 139 - الرضاع- خبر المرأة: 4/ 369-370 الرضاع وتحريم الرضاعة: 4/ 385-386 عدد الرضعات المحرمة: 3/ 199-200 فترة الحمل عند النساء في القرآن وأقلها: 2/ 154، 161-162، 4/ 193 الإقساط في اليتامي: 3/ 297 نظام لإقامة الحياة السعيدة: 2/ 289 - اللباس والزينة: اللباس: 1/ 227 أخذ الزينة: 1/ 20، 2/ 22 التمتع بالطيبات: 1/ 203، 2/ 22 تحريم ما أحل الله من اللباس والأكل: 1/ 340 البدء بالميامن باللباس: 3/ 400 لبس الرجال الحرير لحاجة: 4/ 12 زينة النساء: 3/ 354 سترة العورة: 2/ 22، 3/ 390 حجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 420-421 جواز الإطلاع على العورات: 2/ 27 المشي بنعل واحدة: 3/ 396 تغيير خلق الله: 4/ 340-341 الوشم: 4/ 182-183، 341 المتفلجات: 4/ 341 تفسير حديث "لعن الله الواشمات..": 4/ 181 الخلوة بالاجنبية: 3/ 81 عورة المرأة وصوتها: 1/ 109 الاختلاط: 4/ 413 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 حكم النظر إلى المحرمات: 1/ 362، 2/ 18، 24 سماع المرأة: 4/ 196 - الطلاق: الطلاق: 1/ 53، 402، 535، 2/ 402، 1/ 200-201، 204، 3/ 155 أحكام الطلاق: 4/ 350 النية في الطلاق: 3/ 21 التلفظ بالطلاق عند المالكية: 1/ 339 الطلاق السني: 1/ 200، 3/ 300 قوله: أنت طالق "إن أو أن" دخلت النار: 1/ 118-119 يمين الطلاق: 1/ 437، 380-382 طلاق الثلاث: 5/ 84-85 الطلاق ثلاثا والمراجعة: 1/ 300 الطلاق قبل النكاح: 1/ 300، 386، 5/ 163 طلاق السكران: 4/ 53 طلاق الحائض: 4/ 395 الدور في الطلاق: 5/ 171 الطلاق بالرؤيا: 1/ 114 الطلاق ممن لا يملك: 1/ 385 الطلاق قبل النكاح: 1/ 391، 2/ 277 الملك التقديري: 2/ 277 المهر والطلاق: 1/ 475، 5/ 188 الطلاق والظهار في مكة: 3/ 337 الظهار: 2/ 421 الطلاق والعتق والحلف عليها: 4/ 20 الحلف بالطلاق على شيء: 3/ 262 عدة المرأة: 2/ 535 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 ما يحرم في العدة: 3/ 83 عدة الطلاق: 3/ 358 عدة المتوفى عنها زوجها: 4/ 396 الأشهر والقروء في العدة: 2/ 527 القرء: 5/ 48، 201 الطلاق والعدة: 4/ 73 المخالعة: 1/ 437، 378، 381، 4/ 114 حكم من طلق زوجته في مرض الموت خوفا من أن ترث: 3/ 206 زوجة المفقود: 3/ 47 الطلاق في الإسلام والجاهلية: 3/ 110-111 الهزل في الطلاق والرجعة: 3/ 14 الفدية في الطلاق: 3/ 123 مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَقْضِيَ فُلَانًا حَقَّهُ إلى كذا، ثم خاف الحنث بعد القضاء، فخالع زوجته حتى انقضى الأجل: 1/ 379 - النفقة: النفقات: 2/ 24، 3/ 88، 5/ 14 نية الاكتساب والنفقة: 2/ 329 الإنفاق والاكتساب: 2/ 323 النفقة على الزوجة والأقارب: 1/ 251 القيام على الأهل: 2/ 233 نفقة المطلقة ثلاثا وسكناها: 4/ 395-396 النكاح الَّذِي يَلْزَمُهُ طَلَبُ قُوتِ الْعِيَالِ مَعَ ضِيقِ طرق الحلال: 5/ 100 العدل بين الأولاد: 4/ 422 قيام الأمة لنفقة الحكام: 2/ 311 النفقات على أصحاب الولايات والرشي والهدايا: 2/ 302، 309 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 - الميراث: 1/ 300، 402، 2/ 125، 4/ 384-385 الفريضة المشتركة: 5/ 162 ميراث العصبة: 4/ 384 الورثة: 1/ 414 قسمة الميراث: 3/ 349-351 إذن الورثة بالوصية بأكثر من الثلث: 1/ 419 الوصية: 5/ 48 مظان مسألة إرث الجد مع الأخوة: 5/ 160، 161، 162 عدد الأخوة في الميراث: 4/ 131 ميراث الزوجة: 1/ 235 استحقاق المرأة المهر والميراث إذا تزوجت بغير ولي: 5/ 188، 189 نصيب الابنتين: 4/ 377 ميراث الجدة: 4/ 317 ميراث الخنثى: 1/ 277، 2/ 125 مسألة العول: 4/ 134 ميراث المبتوتة في المرض: 1/ 405 ميراث المسلم من الكافر: 1/ 294 ميراث القاتل: 1/ 403، 404، 3/ 84، 206 - الوصايا: 5/ 13، 14 الوصية للإقرار: 3/ 31 الوصية والميراث: 5/ 48 الوصية بأكثر من الثلث بإذن الورثة: 1/ 417 الإضرار بالوصية أو الورثة: 1/ 449 - العبيد: 3/ 441-442 أحكام العبيد: 2/ 23 أحكام مال العبد: 3/ 445-446 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 ملك العبد: 3/ 434، 5/ 118، 350 ملك الحر: 5/ 118 مسألة العبد عند الإمام مالك: 5/ 347 العبد والزوجة: 3/ 87 النكاح والعبيد: 1/ 438 وطء الشريكين الأمة: 5/ 198 التفرقة بين الأم وولدها وبين الأخوة: 3/ 471-472 من ملك ولدا له في عبودية: 2/ 154 ملك الولد عبدا: 2/ 162، 4/ 195 بيع العبيد: 1/ 438 بيع أمهات الأولاد: 4/ 342، 5/ 160-162 تَخْيِيرُ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ: 3/ 104 معنى خراج العبد: 3/ 427 ملكية الذوات: 3/ 441 الولاء: 4/ 404 هل العبد جار مجرى الأحرار أم مجرى الأموال؟: 5/ 345 حكم الجمعة والعيدين والجهاد للعبيد: 1/ 443 بيع الجارية للفساق: 3/ 23 - العتق: 2/ 23، 3/ 379، 381، 495، 5/ 17، 23 ملك الرقاب: 3/ 425، 436 النية في العتق: 3/ 21 الحلف بالعتق4/ 20 الاختيار في العتق: 2/ 25 الهزل في العتق: 3/ 14، 21 العتق في الأمة والعبد: 2/ 156 أفضل الرقاب: 1/ 245 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 ولاء العتق: 1/434 العتق قبل الملك: 1/386 العتق بمن لا يملك: 1/385 الاختيار في العتق: 2/25 إعتاق المدبر زيادة عن الثلث: 3/200 حرية أمهات الأولاد: 1/402 كتابة العبيد: 1/454، 455 بيع كتابة العبيد: 1/434 - الحدود: الحدود: 2/526-527، 3/135 إقامة الحدود والقصاص: 1/300، 374، 460 الحدود والشبهات فيها: 1/271 الحدود كفارات: 1/460، 2/85 الشريعة والحقوق الخاصة: 2/535 حكمة الضبط ووضع الحدود: 2/526 الحدود إذا بلغت السلطان: 2/535 الجنايات والحدود: 2/83 حد شارب الخمر: 1/219، 4/291، 4/349، 2/201، 3/78 السكر ومعياره: 3/250 كيف كان تحريم الخمر في مكة؟ 3/341 تحريم المسكر: 3/336 شرب الماء والعصير على أنه خمر: 2/378-379 من شرب مسكرا يظنه حلالا: 4/53 الحد في قليل الخمر وكثيره: 4/17 علة تحريم الخمر: 4/17 إباحة الخمر عند النصارى: 2/20 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 أحكام السكران: 1/238، 373 حد شارب الخمر: 4/349 حد الزنا: 1/238، 297، 2/20، 3/409-410، 4/117، 5/188، 2/24 حد القذف: 1/219، 4/62، 5/151 ما يوجب حد الزنا: 4/17 السفاح والنكاح: 2/526 الإكراه على الزنا: 2/512 الاعتراف بالزنا: 4/421 من شروط الرجم: 1/409 رجم الزاني المحصن: 1/30، 407، 413، 414، 421 الزنا بالمحارم: 1/413 من زنى فأولج ولم ينزل: 4/17 قبول شاهدين في كل حد سو ى الزني: 4/62 الإحصان بالحرة دون الأمة: 4/62 جواز النظر إلى محاسن الأمة دون الحرة: 4/62 من وطئ أجنبية يظن أنها زوجته أو أمته: 4/54 اللعان: 2/470 الحرابة: 5/37-38، 201 حد السرقة: 1/216، 2/39 علة قطع يد السارق: 5/12 تفسير حديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة ... " 2/39 قطع المسلم السارق من الكافر: 1/300 قطع يد السارق دون الجاحد والمختلس والغاصب: 4/62 الحرز في القطع: 1/421، 438 النباش: 3/231 الردة: الزنادقة والمجوس وعملهم لهدم الإسلام: 1/122 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 قتل المنافق: 5/191 -الجنايات: 2/19-20، 21، 22، 85 الجنايات والحدود: 2، 83 قتل الخطأ: 1/94، 403 الجناية على النفس: 3/186 إحياء وإتلاف النفوس: 2/48 حرمة تعريض النفس للهلاك: 3/561 من قتل مسلما يظنه كافرا: 4/54 قتل المسلم بكافر ذمي: 1/300، 324 القاتل العمد: 1/213، 327، 407 اشتراك الجماعة في قتل الواحد: 3/178 قتل النفس: 1/31، 219، 238 قاتل نفسه "الانتحار": 3/386 العمليات الإنتحارية: 1/482 القتل باسم السياسة: 3/114 قتل القاتل: 3/232 الإسراف في القتل: 3/488 قتل المسلمين: 3/60-61، 5/150، 164 قتل الناس: 2/168 الهرج: 2/292 إلقاء اليد إلى التهلكة: 1/328، 3293/561 قتل النساء: 1/446 قتل الصبيان: 1/446، 2/508 قتل الحر بالعبد: 1/401، 2/23، 3/485 توبة المرتد: 2/282-283 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 - القسامة: 2/22، 125 - القصاص: القصاص: 1/281، 300، 401، 2/13، 535، 5/349 القصاص والدية: 1/414، 418، 3/103 القتل بالمثقل: 3/177 القصاص والعقوبات: 2/98، 256 العدل في القصاص: 3/485 المماثلة في القصاص: 2/24، 23، 36 القصاص من الأب: 1/412 القصاص للكافر: 1/300 قتل القصاص: 5/349 الأمر بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِإِزْهَاقِ الروح: 1/302 الأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم النهي عن الإزهاق: 1/302 القصاص حق من حقوق المعتدى عليه له إنفاذه وله إسقاطه: 3/103 جملة من العقوبات: 2/51 - الديات والأروش: الدية: 1/108، 235، 483، 2/22 الدية والقصاص: 1/414، 416، 418، 3/103، 4/374 الدية على العاقلة: 1/401، 2/124، 388 الدية من مال الجاني: 1/401 دية النفس: 4/383 دية الجنين: 4/375 الأروش: 1/247، 3/428، 5/196 دية الأطراف: 4/375، 383 دية الأصابع: 2/526 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 - الشهادات: الشهادة: 1/220، 221، 2/23، 4/15، 66، 5/342-343 الحكم بوجود شهادة بعلم القاضي: 2/459 الشهادات والعدالة: 1/540، 5/306 المروءات وخوارمها: 1/209، 213، 2/26، 489 العقل مناط الشهادات: 4/17، 5/13 الشهادات المحرمة: 4/439 الشهادات المنهي عنها: 4/421-422 الرجوع عن الشهادة بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء: 1/370 القضاء والشهادة: 2/457، 3/74، 4/14-15 الحاكم والشهادة: 5/13 شهادة المرأة: 4/389 شهادة الفاسق والعدل: 5/118 شهادة المداوم على المعاصي: 1/215 شهادة تارك الجمعة: 1/214 توبة وشهادة القاذف بالزنا: 3/360-361 سلب العبد الشهادة: 2/488 كتمان الشهادة: 3/352 شهادة الزور: 1/424 شهادة خزيمة: 2/58، 274، 468-469 - القضاء: القضاء: 4/306 وما بعد، 5/85 القضاء بالشهادات: 2/457، 3/74، 4/14-15 قضاء القاضي والتراجع عن خطئه: 1/266، 5/41، 132، 138 تحكيم شرع الله: 2/285 القضاء بالهوى، وبغير ما أنزل الله: 3/114، 4/55، 5/95 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 حكم الحاكم: 1/376 إقرار حكم الحاكم: 1/374 نصب القضاة: 5/86 حكم القاضي وهو غضبان أو هو جائع: 1/132، 320، 410، 2/239، 534 خطأ القاضي: 4/53، 54/55 الجور في القضاء: 2/266 علم القضاء والقيام به: 5/15-16 الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ: 2/468، 5/15 تمييز المدعي من المدعى عليه: 5/16 الحكم على أغلب الأحوال: 1/221 الحكم بالوقائع والبينات والظاهر: 2/458-506، 3/107، 4/14، 15 القرعة وحجيتها: 3/200 القضاء في مسألة بقضاءين: 5/86 القضاء بالفراسة: 2/447 التجاوز عن عثرات ذوي الهيئات: 1/269 مزاحمة الحقوق: 3/61 نفقت القضاة: 2/267 قصة القاضي محمد بن يحيى بن لبابة: 5/86-88 - الولاية والإمارة والسياسة الشرعية والخراج: نصب الحكام: 5/86 الإمامة: 1/279، 283، 2/23، 3/281 تحكيم شرع الله: 2/285، 2/503-504، 3/114، 4/55، 5/95 الخلافة العامة والخاصة: 3/25 كلام حول لفظه "خليفة الله": 3/24 الولايات العامة: 2/302، 305، 327، 411 الخلافة في الأرض: 2/301، 3/24 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 أحكام الإمارة والولايات العامة: 2/308-309، 327، 502، 5/351 قرشية الخليفة: 1/279 الإمارة والولاية الشرعية: 1/308 الولاية والإمارة من أسباب قيام الإسلام وقيام العقوبات: 2/533 العدالة في الولاية: 2/27 ولاية الأموال: 2/313 الحكم والمال: 3/92 الأموال: 2/319-320 خراج السلطان والهروب منه: 3/59 الضرائب على العموم: 3/59 وضع الضرائب على الناس لحاجة وغيرها: 2/309-310 تزوير العملات وتزييف الدراهم: 1/361 السؤال والعطاء: 3/145 بيت المال: 3/90 الحجاج والضرائب: 3/60 راتب الحكام: 3/567 أجرة الخليفة والجزية: 3/91 منع أخذ الخليفة أجرة من العوام: 3/90 نفقت الخليفة الخاصة: 3/90 الإمارة والشؤون المالية للناس: 5/32 سياسة الأمة: 2/148 حسن السياسة: 2/168 النهي عن خطبة الإمارة: 1/280-281 إمارة معاوية: 2/452 عصمة الإمام: 1/140 تعيين الحكام بالكشف: 2/502 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 إخلال الحاكم بالواجبات العينية: 3/94 النصح لولاة الأمور: 2/27، 3/187 الجهاد مع ولاة الجور: 2/27 الصلاة خلف بين أمية: 2/29 تفسير الملك العضوض: 2/149 حظوظ النفس في الولايات: 2/305 مسألة إسقاط الحظوظ: 3/72 دعوى تغيير الأحكام الشرعية: 5/142 الرشاوي والهدايا لأصحاب الولايات: 2/302 الرشوى لدفع الظلم: 3/60 التخلص من الظلم: 3/59 رفع الظلم عن النفس: 3/60 السياسة الشرعية: 1/223، 2/279، 5/102 السياسة المدنية: 2/292 الدخول في حماية الكفار: 1/503 الحكم المخالف: 3/107 قيام الحكومات: 1/32 التحذير من الأئمة المضلين: 4/91 إكرام السلاطين الظلمة: 1/219 الطواغيت: 4/247-248 هل من السياسة قتل الناس؟ 1/149 قصة دخول الإمام مالك على عبد الملك بن صالح أمير المدينة: 4/114 -الجهاد: الجهاد: 1/205، 247، 374، 376، 498، 500، 504-505، 515، 2/13، 2/13، 23، 75، 214، 3/224، 347-348 تشريع الجهاد: 5/235، 237 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 حكم الجهاد: 1/443 حكمته: 2/32 حكم الجهاد للنساء والعبيد: 1/443 الجهاد لحفظ الدين: 2/18-19265 الجهاد ضد الكفار: 2/261 حرص الكفار على كفر المسلمين: 3/209 الجهاد للعصبية: 3/13، 2/365 جهاد الغازي إذا حمل وحده على الجيش: 1/329، 330 النيابة في الجهاد: 2/391 الجهد لتخليص المستضعفين: 2/365 قتل المشركين وأهل الذمة: 4/46 الصبر في الجهاد والفتنة: 2/270 ترك الجهاد: 2/96 الهروب من الزحف: 3/355 مهاجمة المسلمين وقطع الطريق: 2/341 نصرة الدين بالقوة وغيرها: 4/410 ذمة المسلم: 4/404 حرمة المسلم: 1/444 قتل المسلم بالكافر: 4/324، 403 تترس الكفار بالمسلمين: 3/57، 92 رخص الجهاد: 3/559 المعاهدات مع الكفار: 4/22 الانضمام للكفار ضد المسلمين: 2/341 هجرة المؤمنات من بلد الكفر: 4/22 بيع السلاح لأهل الحرب: 3/54 حروب الردة: 1/499، 504 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 قتال العصاة: 1/211 الدعوة والقتال: 1/212 الكافر الحربي والذمي: 1/301 التدريب الحربي: 1/229 حدة المحاربة: 5/37-38 تخاذل المسلمين عن نصرة دينهم: 3/65 منزلة ولى الضرر من المجاهدين: 3/293، 299 قتل النساء والصبيان: 1/466 الفطر في الجهاد: 2/254 المخلفون في غزوة تبوك: 2/270-271، 499 أنواع الجهاد: 2/340 جهاد النفس: 3/95 توبة المرتد: 2/282-283 الشهداء: 4/408 الأسارى، وفكاك الأسير: 3/60، 4/324، 403، 5/38 الغنائم: 1/514، 550 الغنائم عند الأمم السابقة: 2/12 الأكل من الغنائم قبل توزيعها: 3/198 الجهاد مع ولاة الجور: 2/27 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 1/219، 247، 374، 376، 501، 2/19-20، 3/101، 236، 240، 5/226، 272 الأمر بالمعروف ودرجاته: 2/337-338، 4/205 قاعدة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد: 2/395 الجهاد هو جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 3/236 تفاوت مراتب الأمر والنهي: 3/392 الإشارة إلى قصتين في ذلك: 5/266 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 -الطب: الطب: 2/120 أصول الطب: 2/120 التداوي: 1/33، 216-217 حكم التداوي: 2/262 القرآن شفاء: 3/512 العسل: 2/120-121، 3/181-182، 5/145 حكم شرب الواء: 2/67 التداوي بالخمر: 3/288 كشف العورات في التداوي: 1/33، 5/195 الحجر الصحي والعدوى: 2/64 هل يسمى الإنسان إنسانا قبل أن يكون علقة: 4/195 - اللهو: 1/277، 288، 3/525، 533، 4/424-425، 443 المعاصي التي بسبب الشهوة: 3/388 المعاصي التي بدون شهوة أو وزاع: 3/389 الواجبات الشرعية والحظوظ العاجلة: 2/303-304 اللذات: 2/45، 3/518 الشهوات: 2/63 الغناء: 1/212، 225، 3/503، 529، 532، 4/424-425 اللهو المباح: 1/202، 204، 205، 3/516 اللهو والنشاط: 3/515 الاستمتاع بالطيبات: 1/225-226، 197-198 الجد والملل: 3/520-521 اللهو الباطل: 3/515-516 لم يخلق شيء ليكون بأصل الخلقة للهو واللعب: 3/517 العبث: 1/226 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 الشطرنج والنرد: 1/212 المعازف: 1/228 لهو الدنيا وزينتها والغناء: 4/212-213 الجمال والزينة: 3/523 شرح حديث "كل لهو باطل إلا ثلاثة": 3/516 تحريم التماثيل: 1/112 الغناء والصوفية: 1/413 أطراح الدنيا عند الصوفية: 3/536 اجتماع أهل البلد على مخالفة الشرع: 4/111 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 الآداب : طلب العلم والمحرمات: 5/200 أصول طالب العلم: 5/224، 319 تعليم الطالب فوق فهمه: 5/170 علوم لا يجب نشرها: 5/156، 167 ضوابط كتمان العلم وتبليغه: 5/168، 172 ذم السؤال بلا فائدة: 1/43، 55-56، 2/142، 5/171، 387 الأدب مع أهل العلم: 4/306 تعليم الصغير السنة: 4/11 حسن الظن بالعلماء: 2/540، 3/125، 356 التأني عند أعراض العلماء: 1/389 قاعدة التأني في الأمور: 4/201 حسن الظن بالصالحين: 2/498 إحسان الظن: 5/187 تحسين ظن الناس بالعابد: 2/361 تعداد خصال حسنة: 3/392 محاسن الأخلاق ومساوئها: 3/385-386 الرد على الفضلاء: 4/252 مكارم الأخلاق: 1/452، 2/41، 124، 524، 3/64، 385، 4/256 مكارم الأخلاق ومحاسن العادات: 4/352 مكارم الأخلاق والعبادات المكية الأولى: 5/234 الأخلاق في التعامل مع الغير: 2/316 تقرير أصول مكارم الأخلاق: 5/239 التخلق بصفات الله: 4/200 الأدب مع الرب تعالى: 2/163 آداب الدعاء: 2/488-4/202، 203 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 معاهدة الله: 2/500 الوفاء بالعهد: 2/86-5/244 الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: 3/76 حمل المحدث للمصحف: 3/456 الإيثار: 2/318، 3/66، 71، 92 أنواع الإيثار: 3/68-69 مراتب أهل الإيثار: 3/70 الإيثار على النفس: 3/66 الإيثار في أمور الآخرة: 5/310، 314 الصوفية والإيثار: 3/7 العذر: 1/498 التوسعة: 5/75 الصبر: 1/509، 514 الشكر: 2/543، 3/556-557 تفسير الشكر: 2/544 شكر الله: 2/354 العفو: 1/253-4/53، 55، 436-5/114 الاستئذان: 3/347 النصيحة: 2/317 نصح ولاة الأمور: 2/27، 3/187 الطاعة: 3/229 تشميت العاطس: 1/252 النظر في الكون: 3/151 الهجرة إلى الله: 3/297 آداب الأحداث: 2/25 آداب الأكل والشرب: 2/23 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 آداب الأكل من بيت الصديق وغيره: 1/479 فضل الذكر: 4/429 المداومة على الأعمال: 2/214، 404، 3/266، 413، 4/122 تفاضل الأعمال: 2/443-444 شبه تعيق العبادات منها خوف العجب: 3/95 عهد الصدق: 2/496، 499 القيام للقادم: 3/267 المعانقة: 3/269 تقبيل اليد: 3/269-270 التدرج في الأمور: 2/148 العدل: 1/252، 3/488 العدل في كل شيئ: 3/397، 400 تربية الإنسان: 4/271 التربية العملية: 5/371 تربية الخلق وتأديبهم: 4/203 الصفات الفطرية وما يتعلق بها من أحكام: 2/184 المسارعة إلى الخيرات: 1/241، 244 استباق الخيرات: 3/544 المواساة في المال والنفس: 3/62 التوسعة على الناس: 5/98-99 علامات خير الناس وشر الناس: 2/296 إظهار الأفعال الحسنة: 2/362 فعل الخير والنفع: 2/359 الإحسان في القتل: 1/217 الحيوانات والعناية بها: 2/338 البهائم: 1/235 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 قتل كل مؤذ: 1/218 قتل النمل: 1/218 الجيران: 4/254 اتباع السيئة الحسنة: 3/489-490 مساعدات الناس المختلفة: 1/247 التعاون: 3/564 التعاون والجماعة والاجتماع: 3/473 النصح للنفس والغير في الأعمال: 1/349 النهي عن الفعل على هيئة اجتماعية: 2/34 الاجتماع للدعاء يوم عرفة: 3/498 الاجتماع للذكر وقراءة القرآن: 3/498 دعوة الأئمة للاجتماع لانهاض الأمة: 2/78 النعم: 1/198 شكر النعم: 1/182-183، 3/541، 542-543 نعم الله منها المباح: 1/182 التفكر في إحسان الله ونعمه: 2/180 امتنان الله عز وجل بالنعم الكثيرة: 3/512 أكبر نعم الجنة: 2/358 توجه المدح والذم إلى النعم: 3/513 أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: 4/441 وصايا نبوية: 4/412-413 تركة صلى الله عليه وسلم إنشاد الشعر مع الإذن لغيره فيه: 4/440 إذاية النبي صلى الله عليه وسلم: 4/164-165 النيات في المعاملات: 2/373، 374 المعاملات وحفظ الدين: 2/19 المعاني في المعاملات والتعبد فيها: 2/525 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 من أكل مال اليتيم يظنه متاع نفسه: 4/53 تشريع موازين في المعاملات: 3/387 الصلاة على النبي عند التعجب: 3/500 حكم ذكر الفضائل دون طعن: 5/291 غاية الخلق: 3/542 الأمر بِالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِفَوَائِدِ الأفراد حالة الاجتماع: 3/475 ميزات الاجتماع: 3/474 صلة الأرحام: 3/468-469 التحاب والتعاطف بين المختلفين: 5/220 قاعدة تحسين العبارة بالكناية في المواطن التي يستحيي من ذكرها: 4/201 لكل مقام مقال: 4/175 الخيرية مراتب ولا تعني الضدية: 2/57-59 تزاحم الأعمال والأوقات: 3/19 تكثير سواد المسلمين: 4/36 جود حاتم: 2/81، 4/57 اللهو المباح: 3/516 لم يخلق شيء ليكون بأصل الخلقة للهو واللعب: 3/517 ذكر خصال سيئة: 3/393-394 الأضرار والتعدي: 3/78، 185، 4/70، 5/201 التعسف في استعمال الحق: 3/56، 120، 507 نفي معنى الفردية المطلقة في الحق: 3/64 التعاون على الإثم وحرمته: 3/23، 76، 465 اكتناف الأمور الضرورية بأمور لا ترضى شرعا: 3/528 المنكر والإثم والإجرام: 3/393 الظلم: 3/59، 4/55 الإكراه في الدين: 5/207 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 التجسس: 1/219 الإسراف والتبذير: 1/206، 3/393، 504، 506، 4/34 الإسراف والإقتار: 2/23 إفساد المال: 4/196 عدم سؤال الناس: 1/501-2/497، 499-500 كراهية المسائل: 1/255، 2/142 الغش: 3/54-55 الغش في العبادات والعادات: 1/349 الغيبة: 1/219 السكر: 2/238 الغضب: 2/180 الطمع: 3/489 الخيانة للنفس: 3/296 الكذب: 1/215، 4/438 أنواع الكذب: 5/349 الكذب المباح: 4/441 الكذب للإصلاح: 5/349 الكذب على الزوجة: 1/491 معاريض الكذب: 1/493، 4/414، 431-432، 441 الصدق ومعناه: 5/268 فحش القول وال نطق به عند الضرورة: 4/421 ذم المنافقين: 3/109 حكم النظر إلى المحرمات: 1/362، 2/18، 24 الخلوة بالأجنبية: 3/81 الاختلاط: 4/413 سماع المرأة: 4/196 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 عورة المرأة وصوتها: 1/109 سوء الظن: 1/219 حالة التفلت من الدين والأخلاق: 2/434 التعجل في الأمور: 2/148 عجلة الإنسان: 2/176 كراهية المسائل: 1/225، 2/142 كشف الرأي للرجل: 2/489 المعاصي يتسبب عنها فساد في الأرض: 1/368 استغلال العبادة لتحقيق غرض دنيوي: 3/3 التباس أمر المنفعة المحرمة هل هو مقصود شرعا؟ 3/458 اقتحام المحرمات لغير شهوة: 3/388 سفر المرأة مع غير ذي محرم: 3/81 الستر على المذنبين: 5/151، 152، 166 اجتناب حزاز القلوب: 2/466 استعمال المحرم في الحلال: 3/567 التدرج في المعاصي: 2/38 المن بالعطاء: 3/90 فرح الإنسان بما أوتي: 4/32 النهي عن التعمق في العمل: 2/250، 4/130 النهي عن التنطع والتكلف والتشدد: 2/148، 208، 5/320، 321 حب الرئاسة: 2/334 التزام الأسماء والألقاب الشرعية: 1/358 ركوب البحر: 5/354 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 البر والصلة والرقائق والزهد : إبطال الأعمال: 2/25 ترابط الأعمال الصالحة والسيئة: 3/224 انهيار الحضارات: 2/292 من أسباب ضعف الأمة: 1/332 صلة الرحم: 3/81 طاعة الوالدين: 2/254 عقوق الوالدين: 3/76 التعاون والجماعة والاجتماع: 3/473 وحدة المسلمين واجتماعهم: 3/65، 66، 174 التعاون على البر والتقوى: 1/292-3/220 التعاون على الطاعة والمعصية: 1/291 السعادة في الدارين: 1/349 النعم: 3/510، 511، 519 النعم والمنافع: 3/508 الزهد: 1/352-4/110 الزهد وترك المباح: 1/184 زهد عائشة: 188 الزهد وتعجيل الطيبات: 4/34 جهاد النفس: 3/95 المصايب والذنوب: 1/350، 2/321 مدح المطيع وذم العاصي: 3/397 الاستنان بالحسن والسيء: 2/397 استنان السنن السيئة والحسنة: 1/ 359 الأنس بالمعاصي: 3/539 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 التستر بالمعصية: 3/488 خلط العمل الصالح بالسيئ: 3/221 الأوصاف الحميدة هي نتيجة لعمل؟ 2/182 تنشيط النفس: 3/533، 534 تمني فعل الخير والشر: 2/396 متابعة الحظوط والشهوات: 2/251، 252 الزجر والمخالفات: 2/493 أكل الشبهات: 1/219 التمتع بالدنيا: 2/332 ذم الدنيا والتمتع بها: 2/281 التصوف: 1/358 أطراح الدنيا عند الصوفية: 3/536 الطاعة عند الصوفية: 2/449 ذم من أعرض عن طاعة الله: 2/290 التزكية والتصوف: 1/358 الصوفية والرخص: 1/517 الصوفية ونعيم الجنة: 2/359 إخفاء العمل: 5/280 حكمة إخفاء السلف لصالح أعمالهم: 5/280 الفرار من الفتن: 3/531 العزلة: 2/284، 3/95، 530 الصالحون وسهولة العبادة: 2/255 الورع: 1/162-2/147-3/531-5/101، 249 الورع والزهد في المباح: 1/171 ترك الحلال والطيبات: 2/544 فضل ترك المباح: 1/176 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 ترك المباح خوفا على الأخلاق: 1/188 تحريم المباحات: 4/438-439 الورع وطاعة الوالدين: 2/254 الاحتياط: 1/294- 5/318 الاحتياط في الدين: 3/85-4/102 التأني والتثبت والأخذ بالاحتياط: 4/- الرزق: 3/551 المال/ أخذه بحق: 1/309 طلب الرزق في شبهة: 2/254 ترك الحرام: 1/160 الحظوط: 1/234 أقسام حظوط المكلف: 2/12 مسألة إسقاط الحظوظ: 3/72 الشبهات والورع: 2/38 الورق والتدرج في المعاصي: 2/39 الورع في المتشابهات: 2/24 الأخذ بالعزائم: 5/279 الأخذ بالأكمل والأتم والأفضل: 5/246 العالم الصادق هو الذي يوافق فعله قوله: 4/86 فتيا أهل الورع: 5/249 التحرج من القول هذا حلال وهذا حرام عند السلف: 3/401 ورع الإمام مالك في الفتيا: 5/323، 333 ورع الأصمعي في التفسير: 4/283 ورود الترغيب مع الترهيب في القرآن والعكس: 4/167 الجنة والنار: 4/400 نعيم الجنة وعذاب جهنم: 2/54 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 الخوف والرجاء: 2/406-3/399-400-4/179 الخوف والرجاء هو السبيل الوحيد الصحيح في العبودية: 4/178-179 الرغبة والرهبة: 3/398، 399 الخوف: 3/558 درجات العذاب في النار: 2/57 درجات الجنة ودركات النار: 2/56 المبشرات والنذارات: 2/447 الاتعاظ بكلمة: 1/82 ذكر الترجية عند مواطن القنوت: 4/170 انفراد التخويف عن الترجية أو العكس: 4/172 اتساع مجال التخويف أكثر من الترجية في سورة الأنعام: 4/170 العمل مع الخوف والرجاء والمحبة: 2/245 التبتل والرهبانية: 4/101 الضمير والتقوى: 3/35 التقوى: 1/44-3/357 التقوى والرزق: 3/552 التقوى والعلم: 5/283 التقوى والحكمة: 5/24 طلب الجنة والهرب من النار: 2/350 التقربات بنوافل الخيرات: 2/22 الموت: 2/256 التوبة: 3/360، 543 مَنْ تَابَ عَنِ الْقَتْلِ بَعْدَ رَمْيِ السَّهْمِ عن القوس: 1/366 مت تَابَ مِنْ بِدْعَةٍ بَعْدَ مَا بَثَّهَا فِي الناس وقبل أخذهم بها: 1/366 قصص الماضيين: 4/417، 418 الدعاء: 4/398 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 دعوة النبي "العامة"، ودعوة نوح: 5/312 قاعدة الدعاء: 2/395 الاستعجال في إجابة الدعاء: 3/394 قاعدة ترك الأخذ بالذنب من أول مرة: 4/200 حسرة أهل النار يوم القيامة: 3/545 عذاب الموحدين: 2/54 حسنات الأبرار سيئات المقربين: 3/548، 4/430 كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية حول مقولة: "حسنات الأبرار سيئات المقربين": 3/548 الحلال والحرام: 4/366 نظر الكفار للدنيا: 4/212 الترهيب وذم مواقف الكفار: 4/40 الصواب والثواب: 3/174 الجزاء مع الأعمال: 2/402، 403 الثواب والعقاب: 3/423 الشرع وتقدير الثواب: 2/401، 498 الحسنات والسيئات في الدنيا والآخرة: 4/209، 216 الترغيب في الآخرة: 4/205 النعم والدار الآخرة: 2/547 أول من تسعر بهم النار: 4/35-36 ترتب الجزاء في الآخرة: 1/459 جزاء المؤمنين: 2/284 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 الاعتصام بالكتاب والسنة : اجتماع الأمة: 3/41-42، 66، 4/326، 5/147 ذم ترك السنة واتباع الكتاب: 4/322، 325 اتباع السنة: 4/109، 320، 340 الخروج عن السنة والتفرق: 1/53-54 الاجتماع والتفرق بين المسلمين: 3/473، 475 المعاصي عند أهل السنة: 4/259 مضار الخلاف: 5/221 معنى الاختلاف المنهي عنه: 5/69 معنى التفرق في قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا..} : 5/60 أساب اختلاف الأمة: 4/148، 5/201 مظان مسالة الاختلاف ومعناه المنفي عن القرآن: 5/59 معنى المخالفة في قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عنه} : 5/269 الباطل: 2/294 الجهل والمخالفة: 3/42 الزعم بأن الاختلاف رحمة: 5/94 الاختلاف بين العلماء وأسبابه: 4/146 التاريخ الحديث لإنكار السنة: 4/326 إحياء سنن العرب وأحوال الجاهلية: 2/124، /4/115 التحذير من جهود لهدم السنة: 4/326 استئصال أهل الإسلام: 3/57 الرد على الضلالات: 5/222 إتباع ظواهر القرآن من غير تدبر ولا نظر: 5/149 فتح باب الاحتمالات فيه ميل عن الصراط المستقيم: 5/402 أدلة أن الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي فروعها وإن كثر الخلاف: 5/59 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 ذم من أعرض عن طاعة الله: 2/260 التزام ما لم يلتزمه الشرع: 3/496 ما يضم إلى العبادة مما ليس بعبادة: 4/120 اتخاذ المكروهات سننا: 4/118 الخوض في آيات الله: 3/348-349 لي النصوص لمواكبة العصر: 1/65 الافتراء على الله: 4/28-29 أعمال الرأي في التفسير: 4/276 - الفرق: تلبيس الشيطان: 3/99 تفرق الفرق: 3/211 فرق الضلالة: 3/320-321 أصل ضلال الفرق: 3/327 سبب ابتداع الفرق الضالة: 3/321 الفرق والائتلاف: 5/223 الفرق الضالة والهوى: 2/299، 5/160 الفرق الضالة والضلالات: 3/228 الهوى: 1/232، 510، 2/64-65، 3/95، 316-317، 507، 4/324، 5/94، 97، 99، 101 اتباع الهوى: 5/221 أعمال الهوى: 2/292 أهل الأهواء: 1/112، 121 الهوى والشيطان: 5/24-25 الهوى المحمود والمذموم: 2/298-299 الهوى والإتباع والفرق بينهما: 2/297 الهوى وفساد الحياة: 2/292 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 الهوى ومصالح الدنيا والآخرة: 2/292 الهوى والمجنون: 2/264 الهوى عند المشركين: 2/264 الهوى في التشدد والتساهل: 2/293 الأخذ بالهوى عند الخلاف: 1/508 تحكيم الهوى في الدليل: 5/142 الهوى والعلم: 1/89 الهوى والوحي: 2/291 مقاصد الشرع والهوى: 2/264، 289، 328 الشريعة مضادة للهوى: 2/292-293 اتفاق أهل الأهواء مع أهل الحق: 5/223 بهجة النفس بالعبادة ومخالفة الهوى: 2/298 البدع: 3/37-38، 159-163، 280-281، 283، 497، 4/290 تعريف البدعة: 3/159، 162 البدعة عند الشافعي: 4/458 الهوى والبدع: 5/142 بدع التشديد: 2/545 الإيغال في الدين: 2/412 عبادات الرهبان: 2/332-334 ذم البدع: 3/38 ذكر بعض البدع: 3/153، 500 أقسام البدع: 3/38-39، 5/158 تفاوت مراتب البدع: 5/158 التعريف بأهل البدع: 5/155، 157 أوصاف أهل البدع: 5/148، 149، 159، 166 علامات أهل البدع: 5/160 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 أهل البدع والرأي: 4/278-279 التأويل عند أهل البدع: 3/317، 4/149 الابتداع لا يتجرأ عليه غالبا إلا بنوع تأويل: 3/38 من عمل أهل البدع تنزيل الدليل وفق الغرض: 5/142-143 الفرقة من علامات أهل البدع: 5/160 اتباع الهوى عن أهل البدع: 5/165، 175 اتباع المتشابهات من خصائص أهل البدع: 4/221، 5/143-144، 165 الشبهات: 4/360 من علامات البدع تأخر ظهورها: 5/149 تعيين فرق أهل البدع: 5/167 انحراف المبتدعة في الأصول: 3/323 الطعن في الصحابة والسلف: 5/298 أهل البدع والعبادات: 2/4، 4/119 أهل البدع وكشفهم: 3/30 تأديب أهل المعاصي والبدع: 5/159 المحرمات عند أهل البدع: 5/150 قتال أهل البدع: 5/159 رد البدع: 2/94 احتجاج المبتدعة: 3/283 تكفير أهل البدع: 5/174 مناظرة المبتدعة: 3/96 بدع محرري الصحف: 5/156 الرد على من قسم البدع إلى حسن وقبيح: 3/38، 39 الرأي وإطراح السنن: 4/334 ذكر بعض كتب الجدل: 5/369 ذم أهل الرأي والمنطق: 5/280، 422 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 أخذ الفتيا الموافقة للغرض والشهوة بالنسبة للحاكم والمفتي: 5/95 العقلانيون وتحذير من اتباع غلام أحمد برويز: 4/326 الحسن والقبح العقلي عند الأشاعرة: 3/28 أصناف الخوارق والكرامات: 2/446 الخوف من الكرامات: 2/469، 3/152-153 قاعدة جليلة في الكرامات: 2/443-444 الشريعة حاكمة على الخوارق: 2/475 الخوارق بموافقة الشرع: 2/475 معارضة الخوارق للضوابط الشرعية: 2/457، 505 - الصوفية: 1/191، 328، 2/505-506، 5/240، 241-242 أصول الصوفية: 2/186 الخواطر الصوفية: 1/536 الوجدان: 2/477 الكرامات: 1/542، 2/438، 3/150 الصوفية والكرامات: 1/547، 2/478، 3/153 الصوفية والولاية: 1/536 أهل البدع وكشفهم: 3/30 تعيين الحكام بالكشف: 2/502 المكاشفات الغيبية وأحوالها: 2/501، 508 التزامات الصوفية: 4/122 الصوفية والأوراد: 2/405 الأذكار الخلوتية: 3/496 مراتب الكمال عند الصوفية: 3/544 الصوفية والزكاة: 2/412-413 الصوفية ونعيم الجنة: 2/359 الرخص عند الصوفية: 4/122 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 الصوفية والفقهاء: 5/238-239، 246 الصحابة والصوفية: 2/507 اطراح الدنيا عند الصوفية: 3/536 الإفطار وطاعة مشايخ الصوفية: 2/499 تفسيرات الصوفية والباطنية: 2/127 الصوفية وبدعهم الكفرية: 4/200 تعويل أهل التصوف في السيادة على الإنفاق: 5/240 المعتزلة: 3/313، 317 المعتزلة والتصويب: 2/90 تحكيم العقل في الأحكام الشرعية عن المعتزلة: 2/79 تزلزل قواعد المعتزلة: 2/70 الخوارج: 3/313، 317 صور من بدع الخوارج: 5/105-151، 174 الخوارج والمعاصي: 4/259 الخوارج والتأويل: 4/91 تكفير الخوارج: 2/336، 5/174 الخوارج ومناظرات ابن عباس: 4/221-223 الرافضة: 3/317 الرافضة وشتم الصحابة: 4/194 المرجئة والمعاصي: 4/259 التناسخية: 3/282 الحرورية: 4/149 البيانية: 3/333، 4/225-227 ضلالات الفاطمية: 4/225-227 الكشفية: 4/225-227 الزنادقة: 2/413 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 الزنادقة والأولياء: 2/507 الفلاسفة: 4/198، 5/521-522 السفسطة: 1/122 الفلاسفة والعلمانيون: 1/65 الفلاسفة والخمر: 2/413 الفلسفة والإطلاع على المغيبات: 3/152 طلب الإطلاع على العوالم وراء الحس مطلب فلسفي: 3/152 الظاهريون: 2/9-10 النصارى واختلاف عقائدهم: 3/316-317 الباطنية: 3/133، 281-282 الباطنية والتفسير: 3/250-251، 4/232، 261 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 الفضائل : فضل الأمة: من خصائص الأمة: 1/415، 5/151، 321 رفع الخطأ عن الأمة: 3/51 فضل الأمة برفع الحرج عنها: 1/520، 523 الأمة المحمدية أمة أمية: 2/126 وسطية وحضرية الأمة: 4/406-407 عصمة الأمة من الضلال: 2/433-434 سعة الإسلام: 2/272 وسطية الشريعة في التكليف: 2/78، 141 الشريعة مضادة للهوى: 2/292-293 فهم الشريعة العلمي: 2/84 مناقب النبي صلى الله عليه وسلم: 1/84-5، 415، 541 خصوصيات زمن النبي: 2/409 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الظلام لمن خلفه: 2/442-443 صبر النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة: 3/209 - فضائل الصحابة: الصحابة: 2/507 فضل الصحابة: 4/132 اتباع الصحابة: 4/132 فراسة الصحابة: 2/454 علم الصحابة وعملهم: 1/7، 4/447 السابقون في الدعوة: 2/415 اهتمام الصحابة بما يصلح الآخرة: 2/139 حذر الصحابة من تطبيق الآيات التي أنزلت في الكفار عليهم: 4/243 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 فضائل دور الأنصار: 2/59، 60، 3/547 فضائل السلف: 3/529، 4/40، 198 فضائل العلماء: 1/148، 4/76، 125، 5/233 واجب العلماء في الذب عن الحق: 3/97 العالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة: 4/187 فضل آدم: 4/245، 5/394 فضل إبراهيم: 4/230، 256-257 فضل إسماعيل: 2/481 فضل أبي بكر: 4/176 موافقات عمر: 1/146-147 مناقب عمر: 1/33 فضل على: 1/28-29، 2/81 عصمة نساء النبي من الزنا: 1/54 فضل عائشة: 3/190 فضل ابن مسعود: 3/353، 4/152-153 فضل أبي طلحة: 3/92 التفاضل والخيرية: 3/546 فضل الأعمال: 1/371 فضل العباد: 5/242 فضل أهل التقوى وفضائلهم في الدنيا: 2/311 أفضل الأعمال: 5/26-31 التفضيل بين الأشخاص أو الأعمال: 5/31 فضل زيد بن عمرو بن نفيل: 3/43 فضائل مالك: 4/131، 5/333 فضل العقيق: 2/225 فضل القرآن: 4/184 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 تكريم صورة الإنسان: 2/75 الشاطبي ودقتة: 1/316 فضل أبي الحسين النوري: 3/93 فضل شعبة: 1/457 فضل ابن القيم: 3/7 صفات غير العرب: 2/124 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 الحديث ومصطلحه : تعريف السنة وإطلاقاتها: 4/289 التواتر: 4/313 التواتر المعنوي: 4/75 اصطلاح المتفق عليه: 3/489 تلقي الأمة الحديث بالقبول: 4/304-305 كلام الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله – حول معرفة الحديث الصحيح من الضعيف: 4/337 تعقب على المؤلف في عدم اعتنائه بتمييز الصحيح من الضعيف: 3/342 تصحيح الأحاديث بالكشف: 4/455 تحسين حديث المستور: 4/303 تقوية الضعيف بمثله: 1/242، 4/373 الأحاديث المسلسلة: 1/112 الموقوف في الحديث: 4/290 حديث الآحاد: 4/197 المناسب الغريب وأنواعه: 3/186 المناسب الغريب والمرسل: 3/206 رواية الموضوع مسندا: 2/191 نقل الحديث الموضوع: 4/30 رواية العدل: 5/118 العدالة والجرح: 1/211 العدالة: 2/29، 5/12-13 تعريف العدالة: 5/12 إثبات العدالة بالشهرة: 3/146 التابعون: جرحهم وتعديلهم: 4/303 زيادة الثقة: 4/373 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 خطأ الثقات في الحديث: 4/343 المبهم في الحديث: 4/304 رجل في معنى المجهول: 2/28 مظان مسألة قبول مجهول الحال من الصحابة: 4/448 رواية المجهول: 5/118 الجهالة في الحديث: 4/299-300، 302-303، 304 رواية الفاسق: 5/118 التعريف بأهل البدع: 5/155، 157 تفاوت البدع في المراتب: 5/158 البدع المكفرة وغير المكفرة: 5/119 المروءة: 1/213، 2/26، 489، 5/13 خوارم المروءة وقوادح العدالة: 1/209 التدليس عند المحدثين: 4/187 تدليس التسوية: 3/115 شعبة والتدليس: 4/187 نسيان الحفاظ: 3/49 أحكام أخبار الرواة: 1/21 طبقات الرواة: 1/427 تفرد الكذابين: 3/49 راوي ضعيف لم يتكلموا فيه: 1/80 تدقيق الروايات النبوية: 2/94 أسباب ورود الأحاديث: 4/155، 157 التصحيف: 5/140 إسقاط جزء من الحديث: 5/141 العلل: 3/98 تقوية التعلل الإسنادي بالمتني: 2/241 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 حديث فلان لا يشبه حديثه حديث فلان: 1/426 تعقب على الهيثمي والبوصيري في توثيقهما رجال حديث عند أبي بعلي: 5/30 تعقب للحافظ ابن حجر على ابي طاهر القيسراني في تعديه على إمام الحرمين: 4/406 تعقب السيوطي في "الأزهار المتناثرة": 3/257 بيان خطأ المؤلف في عزوة للنسائي: 5/28 تحقيق اسم الصحابي الذي اعترض على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم عند موته: 5/395 "جامع رزين" مظنه للضعيف: 3/173 توجيه حديث "أصحابي كالنجوم": 5/81 الرد على من صحح حديث "أصحابي كالنجوم": 4/455 الدفاع عن "صحيح مسلم": 1/63 منهج مالك والبخاري ومسلم: 3/203 بلاغات مالك: 2/116 رواية مالك عن الضعفاء: 3/203 قصة نافع بن الأزرق مع ابن عباس: 3/213 اضطراب الذهبي في الرواة: 4/301-302 رواية دراج عن أي الهيثم: 5/27 رواية ابن وهب عن أبن لهيعة: 1/303 ضبط اسم عبد الرحمن بن الزبير: 1/431 ضبط الحولاء بنت تويت: 1/527 تخريج حديث في الجهاد مع ولاة الأمور: 2/27-28 كلام حول حديث "كلها في النار إلا واحدة": 5/146 كلام للمحقق حول لفظ "أمته" في حديث "لكل نبي دعوة دعاها في أمته" من جهة المعنى والرواية: 5/314 5/314 بيان ضعف زيادة و"اليمين على من أنكر" في حديث "البينة على المدعي": 5/15 تواتر حديث نزول القرآن على سبعة أحرف: 2/132 تعقب على السيوطي في عدة حديث "أسفروا بالفجر" متواترا: 3/257 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 تخريج حديث "ما لي وللدنيا..": 5/358-360 حديث بيع العينة، فقهه وتخريجه: 3/114-116 حديث معاذ" ... بم تحكم"؟ 4/298-306 قصة قتل خالد القسري للجعد بن درهم: 4/226 كلام حول قصة إحراق الله للملائكة الذين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} : 5/393 معنى حديث "لاتجوز شهادة خائن ولا ... ": 4/66 معنى حديث "من مات وهو أن لا إله إلا الله.." بين أهل السنة والمرجئة: 4/258 فهم عائشة لحديث "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ" 3/294 عدم ثبوت أن قصة مهاجر أم قيس كانت بسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ... " 4/157 شرح حديث "سددوا وقاربوا": 5/277 شرح حديث "لا نكاح إلا بولي": 3/47-50 شرح حديث "بدأ الدين غريبا": 5/240 شرح حديث "لا يهلك على الله إلا هالك": 3/173 حديث المصراة: 3/204 تفسير حديث "لعن الله السارق يسرق البيضة..": 2/39 تفسير حديث "من بني لله مسجدا ولو كمفحص قطاة.." 2/39 شرح ماتع للشيخ دراز لحديث "أخاف عليهم من زلة العالم": الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 السيرة والتاريخ : الهجرة: 4/156 معركة بدر: 3/355 غزوة تبوك: 2/502، 2/270-271، 272، 3/224، 4/316 قصة بني قريظة: 1/266، 3/273، 407-408 قصة الحديبية: 1/142 صلح الحديبية: 5/416 غزوة الأحزاب: 1/499 جيش أسامة: 1/504 القحط الذي أصاب أهل مكة والدخان: 4/152 الأعراب- العرب: 3/359، 4/162 حادثة الإفك: 2/422 هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أبي جندل: 2/110 قدوم نصارى نجران: 3/213 الأحداث في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: 4/118 قصة عمر مع ملك غسان جبلة والقصاص منه من لطمة لطمها لبعضهم: 1/271 أخبار المحبين: 1/485-486 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 الابتلاء والفتن وأشراط الساعة : الابتلاء: 1/334، 506، 3/377، 511 ابتلاء النفوس: 1/324 ابتلاء العقول: 1/324 الابتلاء بالخوراق: 3/152-153 الفتن والملاحم وأشراط الساعة: 3/186 الفرار من الفتن: 3/531 التعرض للفتن والمعاصي: 3/95 من أسباب الفتن: 1/53 مخالطة الناس: 1/289، 3/529-530 اللذات: 3/518 كثرة المال: 2/284، 5/32 التحذير من فتنة المال: 3/534-535 المال للناس نعمة وفتنة: 3/534 الانشغال بالمال: 4/196 اندراس العمل بالأصول لكثرة الانشغال بالدنيا: 5/240 فتنة الدنيا: 3/529 تقسيم الغزالي للحياة الدنيا: 5/357 ذم الدنيا: 1/176-177، 204، 228 ذم الدنيا والانقطاع للعبادة: 2/284 ذم الدنيا ومدحها: 5/355-367، 2/281 أسباب مدح الدنيا: 5/360 العزلة: 2/284، 3/95، 530 عزلة العلماء: 3/95 المصايب كفارات: 2/291، 396 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 شرح حديث "بدأ الدين غريبا ... ": 5/240 الهجرة خوف الفتنة: 2/363 حادثة الإفك: 5/305 خلافة عثمان والفتنة: 4/113 بيع السلاح في وقت الفتن أول قطع الطريق: 3/23 المسخ والخسف والقذف: 3/112-113 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 العلم والعلماء : أمية الأمة: 2/427 فضل العلم، وفضل تعلم كل علم: 1/54 طرق أخذ العلم: 1/145 طلب العلم: 2/361، 5/200 حكم طلب العلم: 1/282 أحوال طالب العلم: 5/224، 319 طلب العلم والمحرمات: 5/200 تعليم الطالب فوق فهمه: 5/170 متى يحصل الأجر بسبب العلم، ولا سيما في التأليف؟ 1/337 فوائد العلم: 1/92، 93 علوم لا يجب نشرها: 5/156، 167 ضابط نشر العلم أو كتمه: 5/172 كتم العلم: 4/32، 77، 125، 149، 5/167، 330-331 زلة العالم: 1/222، 4/88، 5/132 مزية العلماء وأنهم ورثة الأنبياء: 1/83، 2/145، 4/87، 5/43 صلب العلم وملحه: 1/107، 2/523 حملة العلم المجتهدين بدءا من الصحابة: 2/242 تدقيق العلوم: 2/146 مراتب فهم الدين: 4/24-27 أمثلة على دقة فهم الربانيين: 2/214 وما بعدها الأدب مع أهل العلم: 4/306 حسن الظن بالعلماء: 2/540، 3/125، 356 الدعوة إلى الله والصبر على البلاء في بث العلم: 1/337 مخالفة العمل القول: 1/84 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 تدوين العلم: 3/157 كراهية كتب العلم: 1/147 أفضل العلوم: 1/7 تعليم العلم والقرآن: 2/94 تعليم الصغير السنة: 4/111 التكاسل عن تعليم الأهل والولد: 1/219 تعليم العلم للذة الحديث: 2/363 أخذ العلم عن الشيوخ وذم ابن حزم لذلك: 1/144 التعلم خوف الظلم: 2/363 مقدمة مهمة في التربية والتعليم: 1/284 تقوية الحفظ: 3/153-154 حصر العلماء بعيدا عن السياسة: 2/78 اختصار النقول عن العلماء: 5/111 تقريب الفقه: 3/131-132 الفقه والعلم: 4/214 الفقه في الدين: 3/348 النهي عن المماراة: 5/291 الأسئلة الممنوعة: 5/373 الظن والعلم: 3/393 هل يختلف حكم الفقيه عن المتصوف؟ 1/328 علوم باطلة عند العرب: 2/118 العلوم الكونية: 2/128 الحساب والهندسة: 1/54 الهندسة والنسب العددية: 1/60 تعلم العلوم الطبيعية: 3/85 علم الهيئة: 4/198 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 علوم الحيوان: 2/130 علم المنطق: 3/321 مراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية: 5/418 علم التاريخ عند العرب: 2/117 التاريخ الطبيعي: 2/130 الفلسفة وطبائع الحروف: 2/446 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 اللغة العربية : اللغة العربية: 4/144 أهمية اللغة: 1/447 اللسان العربي: 4/128 اتساع لغة العرب: 3/329 الألفاظ والمعاني عند العرب: 2/105، 131 الألفاظ وإطلاقها عند العرب: 4/19 فطرة اللغة: 4/195 اشتراك اللغات وتمييز العربية: 2/105 المترادفات عند العرب: 2/132 المساق في كلام العرب: 3/419 جمع الكلام وتفريقه عند العرب: 2/134-135 اختصار الكلام عند العرب بحرف: 4/236 التقديم والتأخير وغيره من أساليب العرب: 2/103، 106 تكلف الكلام عند العرب:- مخارج الحروف عند العرب والعجم: 2/102 الخلاف في التعبير عن المعنى المقصود: 5/217 البيان والبلاغة والبديع: 2/121، 4/146، 214، 261-262، 266 الحقيقة والمجاز: 1/38، 2/258-259، 3/378، 4/45، 46-47، 5/202 استعمال اللفظ للمعنى الحقيقي والمجازي معا: 3/249-250 الحقيقة والمجاز في قوله تعالى: {فأصبحت كالصريم} : 5/215 الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية: 4/24-25 المعنى التركيبي والإفرادي عند العرب: 2/138-139 الوضع الأصلي والاستعمالي في اللغة: 4/29 النداء والعطف: 4/215 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 إِسْقَاطُ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمُشِيرِ إِلَى قُرْبِ الْمُنَادَى: 4/202 كثرة النداء باسم الرب: 4/203 الفاعل في اللغة: 3/172، 239 تعدية اللازم بالمهموز: 1/3 فعلان صيغة مبالغة: 1/134 المصدر والفعل والاشتقاق: 1/115 الأصل في الأسم: 1/116 فائدة لغوية في الفرق بين الإتيان بالفعل واسم الفاعل: 4/216 الفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى: 5/212 التصغير في اللغة: 1/118 تصغير الرباعي: 3/233 الفرق بين إن، وأن: 1/119 الفرق بين إذا، وإن: 4/216 دخول النفي على نكرة: 4/28 لا يصح استثناء ما استنثناء الفعل والحس بحسب اللسان: 4/21، 22، 23 الفصل والوصل: 4/215 التجنيس: 4/264 الأمثال: 2/122 الاصطلاحات: 2/489-490 تسمية الشيء بما يلزمه: 2/218 وصف الشيء بما لا يخصه: 1/69 معهود العرب في الألفاظ: 3/249، 251 الظواهر: 4/453 المعنى التعريفي: 4/421 - الشعر: أوزان الشعر: 2/131 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 إنشاء الشعر: 4/440-441 نقد الشعر: 4/261 فائدة الشعر: 1/116 ذم الشعر: 2/112 أهمية الشعر وكلام العرب في تفسير القرآن: 2/140 هل في القرآن شعر وموسيقى؟: 2/112 معنى قاف في قول الشاعر: قلت لها قفي فقالت قاف: 4/236 تعقب للشيخ دراز للمؤلف على صياغة جملة: 4/332، 5/219 فائدة عن كتاب "الصحاح": 1/132 علوم القرآن واللغة العربية: 4/224 فهم القرآن باللغة العربية: 1/68، 4/24/33، 224 منزلة اللغة العربية في فهم الشريعة: 5/53 مزية القرآن والحديث في البلاغة والحسن عن بقية الكلام: 5/53 اشتمال القرآن على المحاسن الأدبية: 4/200 إبطال السيئ وتنمية الحسن عند العرب أسلوب قرآني: 2/123 أهمية تعلم العربية في الاجتهاد: 5/48، 52، 124 تفسير القرآن بالشعر الجاهلي: 1/58-59، 2/140 تفسر اللغة: 5/212 غرائب القرآن والحديث: 2/140 أبو حنيفة واللغة العربية: 5/56-57 الكنايات في الألفاظ والحياء: وكتابة ما يستحيي منه: 2/165، 4/201، 444-445 الكناية عن الألفاظ والتصريح بها: 4/117 إثبات معاني الكلمات العربية في المعاجم: 1/132 معنى أسباب الإجمال: 4/73 علم الغريب في اللغة: 5/52 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 - الألفاظ التي ضبطت بالحرف أو فسرت مرتبة على الحروف: الأب: 1/49، 57 أبرت: 3/438 الإبضاع: 3/435 أجب: 1/13 اختلف "الاختلاف": 5/59 الأرأيتون: 5/383 استن الفرس: 2/143 أشياء: 1/115 الأصل: 1/17، 24 الأغلوطات: 5/380 أكب أكب: 1/3 اللهم: 1/115 الأم: 3/307 الأمي: 2/109-110 بدن: 1/523 البردة: 3/505 البضعة: 5/149 التأثم: 5/169 التخوف: 1/67 تزهو: 3/417 التعسف: 3/56 التعزيز: 3/485 التقية: 5/151 التكليف: 2/209 التمعدد: 4/115 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 التهويش والتشويش: 1/132 تويت: 2/234 ثني، ثان: 4/296 الجادة: 3/173 الجد: 3/554 الجزاء- الاعتداء: 2/257 الجلالة: 4/356 الجمد: 2/238 الجمع – الجنيب: 3/130 الجنة: 3/435 الجورقاني: 4/304 الجحنة: 3/63 الحباري: 4/357 الحجنة: 3/63 الحنتم: 4/358 الحولاء: 1/527 الخبط: 3/509 الختر: 1/368 خديم: 2/497 الخزامة: 1/6 الخيرة: 3/336-337 الدافة: 2/275، 4/156 الدد: 4/425 اران: 3/540 الرباني: 5/36، 223 رجل ضحكة: 3/419 الرخصة: 1/471 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 الرفث: 3/385 الركس: 2/355 الزبير: 1/431 زيغة: 5/123 الزبن والضيق: 2/134 سبق: 1/7 السداد: 5/277 سكر: 3/518 السلت: 3/203 السلوى: 5/261 السنة: 4/289 شراح الحرة: 2/285-4/320 الشعرى: 4/155 الشنار: 1/12 الصدق: 5/268 صلب: 1/107 ضئضي: 5/148 طل: 5/386 الطليح: 1/8 الطول: 3/364 العبادة: 1/415 عذرة: 4/368 العرايا: 3/202 العرف: 1/5 عضاهها: 4/387 عضل المسائل: 5/381 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 عقر: 2/347 الغرلة: 4/415 غمر: 4/66 غوى: 3/332، 333-4/229 الغين: 1/5 الفقه: 1/17 الفدان: 3/435 الفوق: 5/173 قارعة: 5/212 القاعدة: 1/24 القانع: 4/66 القسم: 1/9 قوى: 5/212 الكوع: 2/526 الكوكب: 1/67، 68 اللدبة/الحرة: 4/387 لمة: 5/96 مساء: 3/449 المجمل: 2/137 المزايا: 2/416 المزفت: 4/358 المشقة: 2/206-207 مفتقر: 1/10 المقدمة: المقوين: 5/212 ملح: 1/107 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 منآد: 2/137 المناسب الغريب: 3/186 المناشب: 2/416 المناط: 5/21 المنة: 2/137-5/320 المن: 5/211 المهراس: 3/192 المهيع: 1/282 النحل: 4/422 النقير: 4/358 النمص: 4/340 الهبرة: 5/149 الهلع: 3/394 الهميس: 4/95 ورد: 1/348 الوهد: 1/12 يتخلوا: 4/38 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 الكتب : المفاضلة في المؤلفات بالمعاني والمضمون لا بالأساليب والأشكال: 1/11 المفاضلة بين كتب المتقدمين وكتب المتأخرين: 1/148، 153 الإشادة بكتاب "الاعتصام" للمؤلف: 3/283 ثناء الشيخ دراز على المؤلف: 3/172، 218 قدرة المؤلف على تلخيص كلام العلماء بعبارات مختصرة: 5/111 تأثر المصنف في كتابه هذا بالغزالي: 1/76 اعتماد الشاطبي على القاضي عياض في السيرة: 2/452 الاستدراك على المصنف منهجيا: 3/9 منزلة "العتبية" في مذهب الإمام مالك: 3/205 جمع الناس على "الموطأ": 4/112 منهج مالك- رحمه الله- في الموطأ": 3/205 "جامع رزين" مظنة للضعيف: 3/173 كتب أبي الليث السمرقندي: 2/191 تعقب على محقق كتاب "الموشي"لابن الوشاء: 5/276 الاستدراك على الزركشي في "الإجابة": 3/193 فائدة على كتاب "الصحاح" للجوهري: 1/132 فوائد كتب المشتبه: 1/352 مفاسد الجرائد: 5/156 كتب فيها انحرافات: 5/394 تحريف التوراة والإنجيل: 2/92 تحريف أسماء الكتب: 5/276 كتب لا تصح نسبتها للعلماء: 1/122 تعقب سيد قطب في "في ظلال القرآن": 4/229 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 تعقب "تفسير الجلالين": 3/340 فائدة عن كتب الحنفي والشافعية في زمن المؤلف وبلدته: 3/131 ذكر بعض كتب الجدل: 5/369 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 الموضوعات والمحتويات : التراجم 5 التعريف بالمؤلف "الإمام الشاطبي: 7 الشاطبي ومكانته العلمية 15 شيوخه: 17 تلاميذه: 24 مؤلفاته: 26 شعره: 30 مقاومته للبدع: 31 فتاواه: 44 التعريف بالشراح والمعلقين والمحقق: 55 ترجمة الشيخ عبد الله دراز: 57 ترجمة الشيخ محمد عبد الله دراز: 65 ترجمة الشيخ محمد حسنين مخلوف: 69 ترجمة الشيخ محمد الخضر حسين: 73 ترجمة الشيخ ماء العينين: 77 ترجمة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد 81 ترجمة محقق الكتاب "مشهور بن حسن" 85 الفهارس: 95 فهرس الآيات القرآنية: 97 فهرس الأحاديث النبوية 151 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 فهرس الأحاديث النبوية: 151 فهرس الآثار: 235 فهرس الأعلام 275 فهرس الكتب 297 فهرس الأشعار 301 فهرس الفرق والطوائف والجماعات والمذاهب والملل 301 فهرس الجرح والتعديل 341 فهرس الفوائد 349 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546