الكتاب: اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية المؤلف: عبد العزيز بن مبروك الأحمدي الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية (أصل الكتاب رسالة دكتوراة) الطبعة: الأولى، 1424هـ/2004م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية عبد العزيز بن مبروك الأحمدي الكتاب: اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية المؤلف: عبد العزيز بن مبروك الأحمدي الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية (أصل الكتاب رسالة دكتوراة) الطبعة: الأولى، 1424هـ/2004م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ـ[اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية]ـ الكتاب: اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية المؤلف: عبد العزيز بن مبروك الأحمدي الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية (أصل الكتاب رسالة دكتوراة) الطبعة: الأولى، 1424هـ/2004م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمة الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً. أحمده سبحانه أن أظهر دين الإسلام على كل الأديان، وجعله الدين الحق للناس جميعاً في كل عصر وزمان، وأشكره على فضله وامتنانه بأن جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الذين جاهدوا في الله حق جهاده حتى لقوا رب العالمين. وبعد: فإن الله سبحانه تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى جميع البشر فقال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1، وقال   1 الأعراف: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 1، ورحمة لهم لإنقاذهم من الكفر والضلال فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2 فرسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع البشر مهما اختلفت أوطانهم وتناءت ديارهم، وخاتمة الرسالات كما قال تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 3 فمن استجاب لدعوته صلى الله عليه وسلم وآمن برسالته فهو المسلم، ومن لم يستجب لدعوته، ولم يؤمن برسالته فهو غير المسلم، وهكذا ينقسم البشر إلى مسلمين، وغير مسلمين، بناءً على قبولهم للإسلام أو رفضه، بغض النظر عن اختلاف الجنس أو اللون، أو اللغة، وتقسيم البشر على أساس العقيدة الإسلامية، في نظر الشريعة ليس بالأمر الهين، بل هو تقسيم بالغ الأهمية، تترتب عليه نتائج وأحكام في الدنيا والآخرة. وكما أن الشريعة الإسلامية قسمت البشر إلى مسلمين وغير مسلمين، فكذلك قسمت ديارهم إلى قسمين: 1- ديار إسلامية: السلطةُ وغلبةُ الأحكام فيها للمسلمين ويسكنها   1 سبأ: 28. 2 الأنبياء: 107. 3 الأحزاب: 40.ةة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المسلمون وغير المسلمين من الذميين الذين يقيمون فيها إقامة مؤبدة، والمستأمنين الذين يقيمون فيها إقامة مؤقتة. 2- ديار غير إسلامية: الهيمنةُ والسلطةُ وغلبةُ الأحكام فيها لغير المسلمين ويسكنها الكفار وهم الأصل فيها، وكذلك المسلمون الذين يدخلونها بأمان، وبناء على هذا التقسيم توجد أحكام تختلف باختلاف الدارين، وهي موضوع هذه الرسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 سبب اختيار البحث بعد أن منَّ الله عليَّ بالحصول على الماجستير وأكرمني بالقبول في قسم الدراسات العليا للحصول على العالمية العالية (الدكتوراه) كان لزاماً عليَّ أن أختار موضوعاً في الفقه المقارن لتسجيله في هذه المرحلة. وبعد أن نقبت، وبحثت في كنوز الفقه الإسلامي، وأخذت انتقل من موضوع إلى آخر، انتهى بي المطاف إلى موضوع من أهم الموضوعات التي تشتد الحاجة إليها وبخاصة في هذا الزمان، وهو (اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية) ، والسبب الذي جعلني أختار هذا الموضوع إضافة إلى أهميته البالغة ومنفعته الكبيرة هو: أولاً: أن هذا الموضوع من الموضوعات المفرقة في جميع أبواب الفقه فإن الفقهاء - رحمهم الله - لم يخصوه بباب مستقل كغيره من الأبواب، بل فرقوه وبعثروه على جميع أبواب الفقه، فبهذا استحق بذل الجهد المستطاع لتجليته لطلاب العلم. ثانياً: أن الإسلام وأهله منذ نشأته مني بالاختلاط بطوائف تخالفه في العقيدة، وظل هذا شأنه إلى وقتنا الحاضر، فالديار الإسلامية لا تخلو من غير المسلمين الذين يدخلونها بعقد الأمان مع المسلمين لغرض ما كتجارة، وحرفة، وعمل في المصانع والمرافق الإسلامية، وكان حتماً أن تتصل تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الطوائف بالمسلمين، فتنشأ بينهم علاقات ومعاملات، تشتد الحاجة إلى معرفة حكمها، والوقوف على رأي الشريعة فيها، ومدى تطبيق أحكامها عليهم، التي لا يلتزمون بها ولا تطبق عليهم في ديارهم، كما أن بعض المسلمين الذي يعيشون في ديار الكفار بصفة دائمة أو مؤقتة، في حاجة إلى معرفة الأحكام الشرعية التي تختلف باختلاف الدارين كالأحكام المتعلقة بالمعاملات المحرمة كالربا، والسرقة، والغصب، والاحتيال، مع الكفار في ديارهم وغير ذلك. ثالثاً: أنه قد ضعف الإيمان لدى كثير من المسلمين اليوم الذين يسافرون إلى ديار الكفار ويتحينون الفرص ويتتبعون الرخص ويتذرعون بآراء بعض العلماء في أن أحكام الشريعة الإسلامية لا تطبق عليهم ما داموا في ديار الكفار، فأردت أن أبين لهؤلاء أن الأحكام الإسلامية يجب على المسلم الالتزام بها في أي مكان وأنَّى كان في دار الإسلام أو في دار الكفر. رابعاً: أن في هذا الموضوع إبرازاً للأهداف السامية للشريعة الإسلامية، ومن عقدها المعاهدات والاتفاقات الدولية مع غير المسلمين، وأنها الشريعة الصالحة لكل زمان، ومكان، والتي يجب على جميع البشر الدخول فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فلهذه الأسباب المهمة استعنت بالله، واعتمدت عليه وشددت عزمي، وأشغلت فكري، للكتابة في هذا الموضوع رغم صعوبته وكونه وعر المسالك، مفرقاً في غالب أبواب الفقه، فحمداً لله أن وفقني للكتابة فيه، وشكراً له على أن من علي بإتمامه وإكماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 خطة البحث وتشمل على مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة: المقدمة: وتشتمل على ما يلي: الافتتاحية. أسباب الاختيار. خطة البحث. منهج البحث. شكر وتقدير. أما التمهيد: فقد جعلته في الجهاد وتحدثت فيه عن تعريفه لغة وشرعاً، ودليل مشروعيته، وحكمه، وأنواعه، وفضله، وحكمته. أما الباب الأول: ففي تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما، والدليل على التقسيم والأماكن التي يمنع الكفار من دخولها. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما: ويحتوي على أربعة مباحث: المبحث الأول: في تحديد معنى الدار مجردة ومضافة إلى الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وفيه مطلبان: المطلب الأول: في تحديد معنى الدار مجردة لغة واصطلاحاً. المطلب الثاني: في تحديد معنى الدار مضافة إلى الإسلام. وفيه فرعان: الفرع الأول: في معنى دار الإسلام. الفرع الثاني: الدور التي تشملها دار الإسلام والدور التي لا تشملها. المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام من غير المسلمين. وفيه مطلبان: المطلب الأول: الصنف الأول: الذميون. وفيه ثمانية فروع: الفرع الأول: في تعريف الذمة والمراد بأهلها. الفرع الثاني: في مشروعية عقد الذمة. الفرع الثالث: في بيان معنى الجزية وكيفية أخذها. الفرع الرابع: حالة الكافر عند إعطاء الجزية. الفرع الخامس: فيمن يتولى عقد الذمة. الفرع السادس: في شروط عقد الذمة. الفرع السابع: فيمن تعقد لهم الذمة. الفرع الثامن: في حقوقهم وواجباتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 المطلب الثاني: الصنف الثاني المستأمنون. وفيه ستة فروع: الفرع الأول: تعريف الأمان مع بيان أدلة جوازه وأقسامه. الفرع الثاني: أركان الأمان وشروطه. الفرع الثالث: في شروط المُؤَمَّنْ. الفرع الرابع: في لفظ الأمان ومدته. الفرع الخامس: ما ينتقض به الأمان مع بيان تأمين الرسل والتجار. الفرع السادس: في حقوق المستأمن وواجباته. المبحث الثالث: في تحديد معنى دار الكفر وأقسامها وسكانها. وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في معنى دار الكفر. المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر. وفيه فرعان: الفرع الأول: في القسم الأول: دار الحرب. الفرع الثاني: في القسم الثاني: دار العهد. المطلب الثالث: في سكان دار الكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المبحث الرابع: في تغير وصف الدار. وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في انقلاب صفة الدار. المطلب الثاني: الاستيلاء المجرد على الدار هل يغير صفتها؟ المطلب الثالث: في إمكانية انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر. الفصل الثاني: في الدليل على تقسيم الأرض إلى دارين وأثر هذا التقسيم في تباين الأحكام. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في الدليل على التقسيم والرد على من قال إن الأرض دار واحدة. وفيه مطلبان: المطلب الأول: في الدليل على التقسيم. المطلب الثاني: في الرد على من قال: إن الأرض دار واحدة. وفيه فرعان: الفرع الأول: في الرد على ما نسبه أبو زيد الدبوسي إلى الإمام الشافعي أن الأرض دار واحدة. الفرع الثاني: في الدر على ما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين من أن الأرض دار واحدة. المبحث الثاني: أثر التقسيم في تباين الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الفصل الثالث: في الأمكنة التي يمنع الكفار المستأمنون أو غيرهم من دخولها واستيطانها. وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: في النصوص الواردة في المنع. المبحث الثاني: في حكم استيطانهم جزيرة العرب. المبحث الثالث: في حكم دخولهم الحرم المكي. المبحث الرابع: في حكم دخولهم الحرم المدني وسائر المساجد. أما الباب الثاني: فقد تحدثت فيه عن أثر اختلاف الدارين في الأحكام الشرعية. وضمنته ستة فصول: الفصل الأول: أثره في وجوب القصاص والدية والكفارة على المستأمن في دار الإسلام. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أثره في وجوب القصاص له وعليه. المبحث الثاني: أثره في وجوب الدية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: أثره في دية المعاهد الكتابي. المطلب الثاني: أثره في دية المعاهد المجوسي أو غيره من الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الثالث: أثره في وجوب الكفارة. الفصل الثاني: اختلاف الدار وأثره في جرائم الحدود في دار الإسلام. وضمنته ستة مباحث: المبحث الأول: أثره في حد الزنى. المبحث الثاني: أثره في حد القذف. المبحث الثالث: أثره في حد السرقة. المبحث الرابع: أثره في حد الحرابة. المبحث الخامس: أثره في حد البغي. المبحث السادس: أثره في التجسس. الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد. وفيه مبحثان: المبحث الأول: أثره في الهجرة من دار الكفر. المبحث الثاني: أثره في قسمة الغنيمة في دار الكفر. الفصل الرابع: اختلاف الدار وأثره في أحكام المعاملات والنكاح. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أثره في التعامل بالربا في دار الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المبحث الثاني: أثره في نكاح الكتابية في دار الحرب. المبحث الثالث: أثره في الفرقة بين الزوجين. الفصل الخامس: اختلاف الدار وأثره في الجرائم في دار الكفر. وفيه مبحثان: المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص. المبحث الثاني: أثره في جرائم الحدود. الفصل السادس: اختلاف الدار وأثره في الميراث والوصية. وفيه مبحثان: المبحث الأول: أثره في الميراث. وفيه مطلبان: المطلب الأول: أثره في الميراث بين غير المسلمين. المطلب الثاني: أثره في ميراث المرتد. وفيه فرعان: الفرع الأول: ميراثه في دار الإسلام. الفرع الثاني: ميراثه إذا لحق بدار الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المبحث الثاني: أثره في الوصية للحربي. الخاتمة:وقد ضمنتها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 منهج البحث أما المنهج الذي سلكته في إعداد هذه الرسالة فهو على النحو التالي: أولاً: تتبعت المادة العلمية المختصة بهذا الموضوع وجمعتها من كتبها المعتمدة. ثانياً: بنيت دراستي في إعداد هذا البحث على المذاهب الفقهية الأربعة، يقيناً مني أن ما أتيح لهذه المذاهب من العناية الفائقة على مدى الزمن من قبل العلماء لم يتح لغيرها من جهة التبويب، والتفريع، والتأصيل، والتنقيح، والاستدلال، مما يقف بالباحث على قدم راسخة وملكة فقهية رصينة. وبالإضافة إلى المذاهب الأربعة فإنني أذكر آراء بعض الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء المشهورين إلى جانب مذهب الظاهرية إن وجدت لهم رأياً في المسألة. ثالثاً: ذكرت المذاهب الأربعة على حسب ترتيبها التاريخي، وإذا كان قول المذهب المتأخر زمناً موافقاً لقول الأسبق فإنني أذكره معه، فمثلاً قول الشافعية أو الحنابلة إذا كان موافقاً لمذهب الحنفية في مسألة من المسائل، فإنني أقدمه وأذكره مع قول الحنفية مقدماً على قول المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 رابعاً: عند البدء في كتابة المسألة الفقهية فإني أنظر فيها بعد دراستها وفهمها، فإن كانت محل اتفاق بين الفقهاء ذكرت ذلك مشيراً إلى أدلتها وعمدة مصادرها. أما إذا كانت المسألة محل خلاف بين الفقهاء، فإنني أذكرها مرتبة على النهج الذي سبق، ثم أذكر سبب الاختلاف بين الفقهاء في المسألة إن وجدت ذلك، ثم أتبعه بذكر الأدلة، مع بيان وجه الدلالة لكل دليل إن كان من الكتاب أو السنة، ثم أذكر المناقشة والإجابة عنها في غالب المسائل التي تتطلب ذلك. ثم أختتم المسألة بذكر الرأي المختار، مبيناً الأسباب التي جعلتني أختار هذا الرأي. خامساً: اعتمدت في نسبة كل قول لأصحابه من الكتب الأصيلة المعتمدة في المذهب، ولم أنقل قولاً في أي مذهب من كتب مذهب آخر. أما قول الصحابة رضي الله عنه والتابعين رحمهم الله فإني أُوَثِّقها من كتب الآثار والخلاف. سادساً: رقمت الآيات القرآنية، فذكرت في الحاشية رقم الآية، ثم اسم السورة التي وردت فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 سابعاً: خرَّجت الأحاديث النبوية الشريفة، معتمداً في ذلك على كتب السنن المشهورة، فإن كان الحديث في الصحيحين اكتفيت بتخريجه منهما، وكذلك إذا كان في أحدهما، أما إذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو في أحدهما، فإنني أخرجه من كتب السنن الأخرى، مبيناً درجته من حيث القوة والضعف، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، معتمداً في ذلك على الكتب التي تعنى بهذا الشأن. كما قمت بتخريج الآثار المروية عن الصحابة - رضي الله عنهم - والتي ذكرتها في صلب الرسالة - من الكتب التي تعنى بها، كمصنفي عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وغيرهما. ثامناً: شرحت الألفاظ الغريبة - التي رأيتها غامضة -، معتمداً في ذلك على الكتب المتخصصة في هذا الفن. تاسعاً: عَرَّفْتُ بالمدن والأماكن من الكتب التي تعنى بهذا الشأن. عاشراً: قمت بالترجمة الموجزة لبعض الأعلام غير المشهورين، معتمداً في ذلك على كتب التراجم. حادي عشر: خَتَّمْتُ الرِّسالة بأهم النتائج التي توصلت إليها من خلال دراستي لهذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثاني عشر: ذَيَّلْتُ الخاتمة بفهارس للرسالة مرتبة على النحو التالي: 1- فهرس الآيات القرآن الكريمة، مرتبة على حسب السور، فأذكر مثلاً الآيات الواردة في سورة البقرة بحسب ترتيبها في المصحف الشريف، مع ذكر كل صفحة وردت فيها الآية. 2- فهرس الأحاديث النبوية الشريفة مرتبة على حسب الحروف الهجائية مع ذكر كل صفحة ورد فيها الحديث. 3- فهرس الآثار مرتبة ترتيباً هجائياً مع ذكر كل صفحة ورد فيها الأثر. 4- فهرس الأعلام المذكورين في صلب الرسالة ممن ترجمت لهم في الحاشية مرتباً على حسب الحروف الهجائية مع ذكر كل صفحة ورد فيها العلم. 5- فهرس الأماكن والمدن المعرف بها في الرسالة مرتبة على الحروف الهجائية أيضاً مع ذكر كل صفحة وردت فيها المدينة أو المكان. 6- فهرس المصادر والمراجع مرتبة على الفنون العلمية، مبيناً اسم المؤلف كاملاً، وتاريخ وفاته بحسب الاستطاعة، ثم أذكر الطبعة وتاريخها، والناشر ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 7- ختمت هذه الفهارس بفهرس تفصيلي للموضوعات مبيناً فيه كل باب، وما يشتمل عليه من فصول، ومباحث، ومطالب، وفروع، إلى جانب ذكر أقوال الفقهاء في المسألة والأدلة، والمناقشة، والرأي المختار، ليسهل الإطلاع عليه والانتفاع به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 شكر وتقدير وفي ختام هذه المقدمة فإني أشكر الله سبحانه وتعالى بأن وفقني لإتمام هذا البحث، وجعلني من طلاب العلم، وأسأله المزيد من فضله والعون على شكره، لأنه سبحانه وعد من شكره بالزيادة فقال {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} 1. ثم بعد ذلك أتقدم بالشكر الجزيل، والاعتراف بالجميل لفضيلة شيخي الدكتور/ عبد الله بن أحمد قادري الأستاذ بقسم الدراسات العليا، ورئيس شعبة الفقه، الذي تفضل مشكوراً بالإشراف على هذه الرسالة، رغم مشاغله العلمية، وكثرة الطلبة الذي يشرف عليهم والذي لم يدخر جهداً ولا وقتاً إلا بذله من أجلي، فقبل أن يفتح لي قلبه فتح لي بابه برحابة صدر وطيب نفس، فكان لا يقتصر على ساعات الإشراف المحددة، بل يرحب بي في أي وقت، وهذا يدل على إخلاصه للعلم، وحبه له ولطلابه، وبالجملة فقد كان لتوجيهات فضيلته وملاحظاته المفيدة أكبر الأثر في خروج هذه الرسالة بعد الله سبحانه وتعالى إلى حيز الوجود، وأخيراً فإنه كان نعم الموجه، ونعم المشرف، تعلمت منه وغيري من طلابه، حب العلم، وأدب العلماء، وتواضع الفقهاء.   1 إبراهيم: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فأسأل الله تعالى أن يمده في عمره وأن يجزيه عني خير الجزاء، وجميل الثناء، وأن يجعل خير عمره آخره، وخير عمله خاتمته، وخير أيامه يوم أن يلقاه. كما لا يفوتني أن أشكر القائمين على هذه الجامعة الإسلامية الذين لا يألون جهداً في مد يد العون والمساعدة لطلاب العلم، فجزى الله الجميع خير الجزاء وسدد خطاهم ووفقهم لما فيه الخير والفلاح في الدنيا والآخرة. كما أشكر كل من قدم لي مساعدة أو أسدى إليّ عوناً من أساتذتي الكرام، وشيوخي الأفاضل، وزملائي الأعزاء، فأسأل المولى عزوجل أن يجزي كل محسن، ويكافئ كل صاحب معروف. والله أسأل أن يوفق جميع المسلمين لما فيه الخير والصلاح، في شؤون حياتهم الدنيوية والأخروية، وأن يجعل هذا العمل عملاً خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر لي خطئي وزللي فيه، وينفع به من اطلع عليه من المسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد خير الشاكرين والذاكرين، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ال تمهيد : في مشروعية الجهاد في سبيل الله ويشتمل على الأمور الآتية: تعريف الجهاد لغة وشرعاً: أولاً: تعريفه في اللغة: عَرَّف أهل اللغة "الجهاد" بتعاريف كثيرة: فقالوا: إن كلمة جهاد مشتقة من الجهد، بفتح الجيم وضمها. فالْجَهد بالفتح: المشقة والمبالغة في العمل. والْجُهد بضم الجيم: "الوسع والطاقة".1 قال ابن الأثير: "الجهد بالفتح المشقة"، وقيل المبالغة والغاية. وبالضم: "الوسع والطاقة".2 وقد قرئ بضم الجيم وفتحها قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُم} 3. قال الشوكاني: "وقرئ جهدهم بفتح الجيم، والجهد بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة - وقيل هما لغتان ومعناهما واحد".4   1 القاموس المحيط 1/296، وتهذيب اللغة 6/37، 2/460، والمفردات ص 99، ولسان العرب 3/1333، ومعجم مقاييس اللغة 1/486، والمصباح المنير 1/112، والمحكم 4/110، ومختار الصحاح ص 114. 2 انظر: النهاية لابن الأثير 1/319. 3 التوبة: 79. 4 انظر: فتح القدير للشوكاني 2/385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهد جهاداً ومجاهدة من جهد إذا بالغ في قتل عدوه. يقال: جاهد العدو مجاهدة وجهاداً قاتله. ويقال: "جاهد في سبيل الله مجاهدةً وجهاداً".1 والجهاد بكسر الجيم: "هو استفراغ الوسع والطاقة في محاربة العدو".2 وقال الراغب الأصفهاني: "الجهاد: استفراغ الوسع في مدافعة العدو".3 وقال الزبيدي "الجهاد بالكسر: القتال مع العدو وهو المبالغة في محاربة الأعداء واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل".4 أما الجهاد بفتح الجيم فهو الأرض الصلبة، وقيل هي التي لا نبات فيها.5 وبعد الاطلاع على تعريف الجهاد عند أهل اللغة يتضح لنا أنهم عرفوه بأنه بذل الوسع والطاقة في محاربة العدو.   1 لسان العرب 3/135، وتاج العروس للزبيدي 2/329، والصحاح للجوهري 2/461، والمحكم لابن سيده 4/111. 2 لسان العرب 3/135 وترتيب القاموس 1/546، والمصباح المنير 1/112. 3 انظر: المفردات في غريب القرآن ص 100. 4 انظر: تاج العروس 2/329. 5 الصحاح 2/461، ولسان العرب 3/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وهذا العدو قد يكون ظاهراً كمحاربة الكفار، وقد يكون باطناً كمحاربة النفس والشيطان. وكل هؤلاء في نظر الإسلام أعداء تجب مجاهدتهم ومحاربتهم ويشملهم قوله سبحانه وتعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 1 كما قال الراغب في مفرداته.2 ثانياً: تعريفه في الشرع: الجهاد شرعاً يدور حول قتال المسلمين الكفار، في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه. وقد عرفه فقهاء الشريعة الإسلامية بتعاريف عديدة نذكر أهمها: فقد عرفه فقهاء الحنفية: "بأنه دعوة الكفار إلى الدين الحق وقتالهم إن لم يقبلوا بالنفس والمال".3 أو بذل الوسع في القتال في سبيل الله مباشرة أو معاونة بمال أو رأي أو تكثير سواد. 4   1 الحج: 78. 2 انظر: المفردات في غريب القرآن ص 100. 3 حاشية رد المحتار 4/121، واللباب في شرح الكتاب 4/114، والفتاوى الهندية 2/188، والعناية على الهداية 5/189، وتحفة الفقهاء 3/293. 4 بدائع الصنائع 7/97، وحاشية رد المحتار 4/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أما فقهاء المالكية فقالوا في تعريفه: "هو قتال مسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى، أو حضوره له، أو دخول أرضه".1 وقالوا أيضاً: "هو المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله، وإعلاء كلمته التي جعلها طريقاً إلى الجنة وسبيلاً إليها".2 وعرفه فقهاء الشافعية: "بأنه قتال الكفار في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصرة دينه".3 وعرفه فقهاء الحنابلة بأنه: "قتال الكفار خاصة بخلاف المسلمين من البغاة وقطاع الطريق".4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله، ومن الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".5   1 مواهب الجليل 3/346، وكفاية الطالب الرباني 3/59، والخرشي 3/107، والسراج السالك 2/24، وجواهر الإكليل 1/250، وأسهل المدارك 2/3. 2 المقدمات الممهدات 1/259، والتاج الإكليل 3/346. 3 حاشية الشرقاوي 2/391، وإعانة الطالبين 4/180، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/210، وحاشية الباجوري على ابن القاسم 2/261. 4 كشاف القناع 3/32، ومطالب أولي النهى 2/497، والمبدع 3/307، وشرح منتهى الإرادات 1/302، والتنقيح المشبع ص 113، وكشف المخدرات ص201. 5 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/191 - 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الموازنة بين التعريفين اللغوي والشرعي للجهاد: عند الموازنة بين التعريفين نجد أن بينهما عموماً وخصوصاً: فالتعريف اللغوي عام يشمل كل جهد يبذله الشخص وخصوصاً في محاربة عدوه، فهو شامل لجميع أنواع الجهاد. أما التعريف الشرعي فهو خاص، لأنه في الغالب عند فقهاء الشريعة الإسلامية يدور حول قتال المسلمين الكفارَ في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه. فهو خاص بجهاد الكفار ولم يتناول أنواع الجهاد الأخرى كجهاد النفس والشيطان. فالتعريف اللغوي أعم من التعريف الشرعي. المقارنة بين التعريفات الشرعية للجهاد: عندما نلقي نظرة على تعريفات الجهاد الشرعية عند فقهاء المذاهب الإسلامية نجد أنها تختلف في اللفظ والشكل، وتتفق في المضمون والمعنى وهو قتال الكفار، سوى الزيادة التي ذكرها فقهاء الحنفية عندما قالوا هو الدعاء إلى الدين الحق، وهذا القيد لم يذكر في باقي التعريفات، لأنه معلوم من الدين بالضرورة، فقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة الإسلامية على وجوب الدعوة إلى الإسلام أولاً قبل القتال ولا يجوز إلا بعد الامتناع من الدخول في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وكل هذه التعريفات كما سبق خاصة بقتال الكفار لنشر الدين الإسلامي وإعلاء رايته، ولا تشمل كل أنواع الجهاد. وأشمل تعريف للجهاد هو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله، ومن الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".1 فهذا التعريف شامل لكل أنواع الجهاد، فيشمل جهاد الإنسان لنفسه وجبرها على طاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وجهاد الشيطان الذي هو ألد أعداء المسلم، وجهاد الكفار في سبيل نشر الدين الإسلامي وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.2 أدلَّة مشروعية الجهاد: فرض الله الجهاد إعلاءً لكلمته ودفاعاً عن دينه، وقد شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية بنحو سنة3 وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة، والإجماع.   1 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/191 - 192. 2 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/50. 3 المقدمات الممهدات لابن رشد 1/261، وحاشية الشرقاوي 2/391، والسياسة الشرعية ص 118، وفتح الباري 6/377، ونيل الأوطار 7/237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أولاً: دليل مشروعيته من الكتاب: لقد توافرت الأدلة من الكتاب على مشروعية الجهاد في سبيل الله - منها: 1- قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .1 فهذه أول آية نزلت في الجهاد والإذن بالقتال، كما قاله أكثر العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حبان وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد.2 وقال القرطبي: "هذه أول آية نزلت في القتال".3 وقال ابن سعدي: "كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار ومأمورين بالصبر عليهم، لحكمة إلهية فلما هاجروا إلى المدينة وأوذوا وحصل لهم منعة وقوة أذن لهم بالقتال".4   1 الحج: 39. 2 تفسير القرآن العظيم 3/220. 3 الجامع لأحكام القرآن 12/68. 4 تفسير ابن سعدي 5/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قال الشيخ الشنقيطي: "وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء".1 وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ليهلكن فأنزل الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} وهي أول آية نزلت في القتال". 2 2- قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} . 3 3- قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .4 4- وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .5   1 انظر أضواء البيان 5/699. 2 أخرجه الإمام أحمد 1/216، والإمام الترمذي 5/375، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الحج وقال حديث حسن. والحاكم 2/66 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 3 التوبة: 29. 4 البقرة: 216. 5 التوبة: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 5- وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . 1 6- قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} .2 فهذه الآيات الكريمات وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على أن الجهاد في سبيل الله فرض على المسلمين في كل زمان ومكان. ثانياً: أدلة مشروعيته من السنة، منها: 1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" 3. وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة على مشروعية الجهاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا   1 البقرة: 190. 2 التوبة: 41. 3 أخرجه البخاري 1/243 في كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة 4/196 كتاب استتابة المرتدين باب من أبى قبول الفرائض واللفظ له ومسلم 1/52 في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 في هذا الحديث أنه مأمور بمجاهدة الكفار حتى ينطقوا بلفظ الشهادة فتعصم دماءهم وأموالهم. 2- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" 1. دل الحديث على مشروعية الجهاد في سبيل الله سواء كان بالمال أو بالنفس أو باللسان. قال الشوكاني: فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن"2. 3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق" 3. وجه الدلالة من الحديث: الحديث دل على مشروعية الجهاد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيه أن من مات ولم يجاهد ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على صفة من الصفات الخبيثة وهي صفة النفاق.   1 أخرجه أحمد 3/124، 153، وأبو داود 3/10 كتاب الجهاد باب كراهة ترك الغزو، والنسائي 6/7، كتاب الجهاد باب وجوب الجهاد والدرامي 2/213، والحاكم 2/81، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه النووي في رياض الصالحين ص 515. 2 انظر: نيل الأوطار 7/212. 3 أخرجه مسلم 3/1517 كتاب الإمارة باب ذم من مات ولم يغز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثالثاً: دليل مشروعيته من الإجماع: أجمع العلماء في جميع الأعصار والأمصار على مشروعية الجهاد في سبيل الله.1   1 الاختيار 4/117، والمقدمات الممهدات 1/261، وحاشية الشرقاوي 2/391، والمبدع 3/307، وكشاف القناع 3/32، وفتح الباري 6/377، ونيل الأوطار 7/237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 حكم الجهاد في سبيل الله اختلف العلماء في حكم الجهاد على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن جهاد الكفار في سبيل الله فرض كفاية. بمعنى أنه إذا قام به من فيه كفاية من المسلمين سقط الحرج عن الباقين وهو قول جمهور الفقهاء الحنفية - في الصحيح - والمالكية - في المشهور- والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.1 القول الثاني: أن جهاد الكفار فرض عين على كل مسلم مستطيع في كل زمان ومكان وهو قول سعيد بن المسيب، والمقداد بن الأسود، وأبي طلحة، وأبي أيوب الأنصاري وهو وجه عند الشافعية.2   1 بدائع الصنائع 7/98، والمبسوط10/3، وتحفة الفقهاء 3/294، والجوهرة النيرة 2/357، والبحر الرائق 5/76، والاختيار 4/117، وتبيين الحقائق 3/241، والمقدمات الممهدات 1/263، والسراج السالك 2/324، والشرح الصغير 3/10، وقوانين الأحكام ص 163، وبداية المجتهد 1/396، وروضة الطالبين 10/214، ونهاية المحتاج 8/46، ومغني المحتاج 4/209، وفتح الجواد 2/326، والأنوار لأعمال الأبرار 2/348، والمبدع 3/307 وكشاف القناع 3/32، والشرح الكبير مع المغني 10/464، وكشف المخدرات ص 201، والمحرر 2/170، والمحلى لابن حزم 7/291. 2 الشرح الكبير 10/364، والجامع لأحكام القرآن 3/38، والمبدع 3/307، ونيل الأوطار 7/214، وأحكام القرآن للجصاص 3/113، 114، وقوانين الأحكام الشرعية ص 163، وتكملة المجموع 18/48، ورحمة الأمة ص 292، ونهاية المحتاج 8/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 روي عن الزهري أنه قال: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل إنك عليل، صاحب ضرر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.1 القول الثالث: أن الجهاد مندوب إليه، يعني أنه ليس بفرض عين ولا كفاية ولا يجب قتال الكفار إلا دفعاً، وهو مروي عن ابن عمر- رضي الله عنهما - والثوري وعطاء 2، وابن شبرمة3. وهو قول بعض الحنفية4 وسحنون5 من المالكية6.   1 غرائب القرآن 10/364، والجامع لأحكام القرآن 3/38. 2 أحكام القرآن للجصاص 3/140، والجامع لأحكام القرآن 3/ 38، ونيل الأوطار 7/214، ومصنف عبد الرزاق 5/171 - 173. 3 هو: عبد الله بن شبرمة، حديث عن أنس بن مالك والشعبي والنخعي، وثقه أحمد وأبو حاتم الرازي، وكان من أئمة الفروع، توفي سنة 144هـ بخراسان. الجرح والتعديل 5/82، وتهذيب التهذيب 5/255، وشذرات الذهب 1/215. 4 البحر الرائق 5/76، وأحكام القرآن للجصاص 3/140، وفتح القدير 4/279. (5) هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، لملقب بسحنون، فقيه مالكي، ولد في القيروان160هـ، وولي القضاء بها سنة 234هـ، توفي بها سنة 240هـ. انظر ترجمته في: الديباج المذهب ص 160، وترتيب المدارك 2/585. 6 قوانين الأحكام الشرعية ص 163، وبداية المجتهد 1/ 396، والجامع لأحكام القرآن 3/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 سبب الاختلاف بين العلماء في حكم الجهاد، هو اختلافهم في مفهوم الأمر في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 1. وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} .2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين" 3. فمن أخذ بإطلاق الأمر في الكتاب والسنة قال بأن الجهاد فرض عين. ومن حمله على الندب والاستحباب قال الجهاد ليس فرض عين ولا فرض كفاية وإنما هو مندوب إليه. ومن قال إن هذه النصوص المطلقة من القرآن والسنة الدالة على أن الجهاد فرض على المسلمين، وردت بإزائها نصوص أخرى مقيدة لهذا الإطلاق تدل على أن هذا الوجوب ليس عيناً وإنما هو فرض كفاية قال بأن الجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين. الأدلة: أولاً: أدلة الجمهور القائلين بأن الجهاد فرض كفاية: استدلوا بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.   1 البقرة: 216. 2 التوبة: 41. 3 سبق تخريجه ص 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أ - دليلهم من الكتاب: 1- قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1. وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى فاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد بدون عذر، ووعد كلا الحسنى وهي الجنة والعاصي لا يوعد بها، لأن القاعدين عن الجهاد بدون عذر غير آثمين إذا قام به غيرهم ممن فيه الكفاية، ولو كان الجهاد فرض عين لاستحق القاعدون الوعيد لا الوعد2. قال الكاساني: "وعد الله عزوجل المجاهدين والقاعدين الحسنى، ولو كان الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى لأن القعود يكون حراماً" 3.   1 النساء: 95. 2 المهذب 2/291، وإعانة الطالبين 4/181، والمبدع 3/307، والخرشي 3/108، وتكملة المجموع 18/48. 3 انظر: بدائع الصنائع 7/98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقال ابن قدامة 1:"وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم"2 وقال الشنقيطي: "يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضاً لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى وهي الجنة والثواب الجزيل"3. 2- قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 4. وجه الدلالة من الآية من وجهين: الأول: أنها صريحة في عدم وجوب النفر على الجميع وهذا ما دل   1 هو موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، فقيه حنبلي، ولد سنة 541 بدمشق، توفي بها سنة 620 له مصنفات كثيرة منها: المغني والمقنع والكافي والروضة. انظر: طبقات الحنابلة 4/133، وشذرات الذهب 5/88، والبداية والنهاية 13/99 - 100. 2 انظر: المغني 8/346. 3 انظر: أضواء البيان 1/399. 4 التوبة: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عليه أول الآية، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي ما صح ذلك ولا استقهام أن يَهُبَّ جميع أفراد المؤمنين القادرين على الجهاد للغزو لما في ذلك من ضياع من ورائهم من العيال، ومن ترك السعي للرزق وحرث الأرض وعمارتها التي لا يتم الجهاد إلا بها. الثاني: ما دل عليه آخر الآية {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ، فإنه ظاهر بأن الله تعالى كما نفى أن ينفر المسلمون كافة في أول الآية حض في آخرها على أن ينفر من كل جماعة من المسلمين طائفة لتقوم الطائفة النافرة بفرض الجهاد الذي يسقط عن الطائفة الباقية وتقوم الباقية بالمصالح التي لابد منها وإلا تعطل الجهاد1. ثانياً: دليلهم من السنة من وجهين: الأول: فعله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج إلى الجهاد تارة ويتأخر عنه تارة أخرى وكان يأمر الجيوش الإسلامية بالخروج، ويبقى هو صلى الله عليه وسلم2. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث الآتية: 1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً إلى بني   1 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/59،60. 2 المغني 8/346، والمبدع 3/307، وكشاف القناع 3/33، وبدائع الصنائع 7/98، وكفاية الطالب الراني 3/59، والمجموع 18/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لحيان بن هذيل1 فقال: "لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما" وفي رواية: "ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال: للقاعد أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج" 2. والحديث ظاهر الدلالة على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن الرجلين إذا خرج أحدهما إلى الجهاد وخلفه الآخر في المحافظة على الأهل والمال أن الأجر بينهما نصفين. 2- حديث زيد بن خالد الجهني3 رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله وماله بخير فقد غزا" 4.   1 بنو لحيان، حي من هذيل. انظر لسان العرب 15/243، ولحيان هو بن هذيل بن مدركة من عدنان جد جاهلي أظهرت الآثار أنه كانت لبنيه إمارة في شمالي شبه الجزيرة العربية وفي مؤرخي العرب من يجعل لحيان هذا يماني الأصل من جرهم من قحطان دخل بنوه في هذيل. الأعلام 5/241. 2 أخرجه الإمام مسلم 3/1507، كتاب الإمارة باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله حديث رقم 1896. 3 هو زيد بن خالد الجهني صحابي جليل، شهد الحديبية وكان معه لواء جهينة يوم الفتح توفي في المدينة سنة 78هـ له ما يقارب 81 حديثاً، انظر ترجمته في: الإصابة 3/27 والأعلام 3/58. 4 أخرجه الإمام مسلم 3/1507 كتاب الإمارة باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله حديث رقم 1895. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن الجهاد فرض كفاية لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في الحديث أن من الناس لا يخرج للجهاد وإنما يقوم بتهيئة غيره، ومنهم من يخلفه في أهله وماله وهذا يدل على أن الجهاد فرض كفاية لأنه لو كان فرض عين لما جاز لأحد أن يتخلف عنه ولوجب الخروج على الجميع. 3- قوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني" 1. ووجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن الجهاد فرض كفاية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج للجهاد تارة ويبقى أخرى، ويرسل غيره للجهاد وكذلك الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يخرجون في كل غزوة أو سرية بل كانوا يخرجون تارة ويبقون تارة أخرى. ثالثاً: الإجماع: أجمع العلماء على أن الجهاد فرض كفاية، فإذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بأرض الإسلام فهو حينئذ فرض عين2.   1 أخرجه الإمام مسلم 3/1495 كتاب الإمارة باب فضل الجهاد. 2 الجامع لأحكام القرآن 3/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 رابعاً: دليلهم من المعقول: أن الجهاد شرع لإعلاء كلمة الله ودفع شر الكفرة وقهرهم ومنع وقوفهم أمام انتشار الدين الإسلامي الحنيف، فإذا قام بهذا الواجب بعض المسلمين فقد تحقق الهدف الذي من أجله شرع الجهاد، فلا محل لفرضه على كل أفراد الأمة، لأن كل ما فرض لغيره لا لعينه فهو فرض كفاية1. ثانياً: أدلة القائلين بأن الجهاد فرض عين: استدلوا بعموم الآيات والأحاديث التي تأمر بالجهاد: كقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 2. قالوا: معنى الآية أي أخرجوا إلى الجهاد سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم معها الجهاد أو يثقل، وهذا أمر بالنفير والأمر يدل على الوجوب. لأن أصل النفر هو الخروج إلى مكان لأمر واجب 3. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ   1 فتح القدير لابن الهمام 4/279. 2 التوبة: 41. 3 التفسير الكبير للفخر الرازي 4/432، وفقه سعيد بن المسيب 3/190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. قالوا إن هذه الآية تدل على أن الجهاد فرض عين لأنه سبحانه وتعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجباً لما كان هذا التثاقل منكراً، لأن الله قد توعد من لم يخرج إلى الجهاد بالعذاب الأليم وهذا التوعد بالعذاب لا يكون إلا على ترك واجب2. وقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 5.   1 التوبة: 38 – 39. 2 جامع البيان 10/83، والتفسير الكبير 4/433، وفقه سعيد بن المسيب 3/190، وآثار الحرب للزحيلي 85. 3 التوبة: 5. 4 البقرة: 190. 5 التوبة: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 1. فهذه الآيات قطعية الدلالة على وجوب الجهاد، لأنها واردة بصيغة الأمر، والأصل في الأمر هو الوجوب2. قال الشوكاني: "وظاهر الأمر في هذه الآيات هو الوجوب"3. وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 4. قالوا: بأن معنى كتب عليكم القتال في الآية أي فرض عليكم القتال، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 5 أي فرض عليكم، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} 6 أي فرض عليكم7. أما دليلهم من السنة: فحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" 8.   1 التوبة: 29. 2 آثار الحرب ص 85. 3 انظر: نيل الأوطار 7 /212. 4 البقرة: 216. 5 البقرة: 183. 6 البقرة: 178. 7 التفسير الكبير 3/6-27، وآثار الحرب ص 86. 8 سبق تخريجه ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في الحديث بالجهاد والأمر يقتضي الوجوب. وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق" 1. وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن الجهاد فرض عين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد توعد من تخلف عن الجهاد باتصافه بصفة النفاق وهذه صفة خبيثة لا يتصف بها إلا من ترك واجباً. ثالثاً: أدلة القائلين بأن الجهاد مندوب إليه: استدلوا بعموم الآيات التي تأمر بالجهاد وقالوا إن الأمر فيها للندب والاستحباب لا للوجوب. كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} قالوا الأمر في هذه الآية ليس للوجوب بل للندب كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرَاً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ} 2.   1 سبق تخريجه ص40. 2 البقرة: 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فدلت هذه الآية على أن الوصية مندوبة فكذلك الآية الأخرى تدل على أن الجهاد مندوب إليه، وقالوا لا يجب قتالهم إلا دفعاً 1 لظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} 2، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 3. وكذلك استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله" 4. وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن الجهاد ليس بفرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذكر الفرائض الخمس، ولم يذكر فيها الجهاد، وهذا يدل على أنه ليس بفرض إذ لو كان فرضاً لذكره.5   1 أحكام القرآن للجصاص 3/115. 2 البقرة: 191. 3 التوبة: 36. 4 أخرجه البخاري 1/11 كتاب الإيمان باب دعاؤكم إيمانكم ولفظه والحج وصوم رمضان، ومسلم 1/45، كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، وهذا لفظه. 5 أحكام القرآن للجصاص 3/115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المناقشة: أ - مناقشة أدلة القائلين بأن الجهاد فرض عين: بالنسبة لاستدلالهم بالعمومات من الآيات والأحاديث التي تدل على أن الجهاد واجب. يرد عليهم بأن هذه الآيات والأحاديث قد وردت بإزائها آيات أخرى وأحاديث تدل على أن هذه الفرضية ليست عيناً وإنما هي كفاية. كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 2. وبالثابت من فعله صلى الله عليه وسلم فقد كان يخرج للجهاد تارة ويتأخر عنه تارة أخرى3. وبقوله صلى الله عليه وسلم "لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما".4 وقوله: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله وماله بخير فقد غزا". 5   1 النساء: 95. 2 التوبة: 122. 3 سبق ص 47. 4 سبق تخريجه ص 48. 5 سبق تخريجه ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فهذه الأحاديث والآيات التي قبلها دلت على أن الوجوب في آيات الجهاد الأخرى ليس متعيناً على جميع المسلمين بل على بعضهم، فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين. وعلى فرض أن لهم دلالة بعموم الآيات والأحاديث السابقة على أن الجهاد فرض عين. يمكن حمل هذه الفرضية في تلك الآيات والأحاديث على من تعين عليه الجهاد من إمام المسلمين واستنفره لذلك ولم يخرج لقوله صلى الله عليه وسلم "وإذا استنفرتم فانفروا" 1 قال ابن حجر فيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام 2. وقال في الشرح الكبير: "وتحمل العمومات على من استنفرهم النبي لى الله عليه وسلم ولم يخرجوا ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا عن غزوة تبوك وكانت إجابته إلى ذلك واجبة عليهم. حتى تاب الله عليهم".3 وقال في نهاية المحتاج: "الوعيد لمن عينه صلى الله عليه وسلم ولم يتعين أو عند قلة المسلمين".4   1 أخرجه البخاري 2/142، كتاب الجهاد باب وجوب النفير. ومسلم 3/148 كتاب الإمارة حديث رقم 1353. 2 انظر: فتح الباري 6/39. 3 انظر: الشرح الكبير مع المغني 10/365. 4 انظر: نهاية المحتاج 8/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فبهذا يتبين أنه لا دلالة لهم بعموم الآيات والأحاديث السابقة على أن الجهاد فرض عين على جميع المسلمين، بل إنه فرض كفاية، ولا يتعين إلا على من استنفر من إمام المسلمين. ب - مناقشة أدلة القائلين بأن الجهاد مندوب إليه: قولهم بأن الأمر في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} للندب والاستحباب وكذلك باقي الآيات الأخرى التي تأمر بالجهاد بدليل أن الأمر في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرَاً الْوَصِيَّةُ} للندب لا للوجوب. يرد عليهم بأن كتب بمعنى فرض وأوجب، فلا تصرف إلى الندب والاستحباب إلا بدليل ولا يوجد دليل. أما آية الوصية فقد كانت دالة على الوجوب قبل مشروعية المواريث ثم نسخت دلالتها على الوجوب بعد مشروعية المواريث.1 أما استدلالهم بحديث ابن عمر رضي الله عنهما فيقال لهم: "إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اقتصر على ذكر الفروض الخمسة لأنه قصد إلى ذكر ما يلزم الإنسان في نفسه دون ما يكون منه فرضاً على الكفاية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود وتعلم علوم الدين كلها فروض ولم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيما بني عليه الإسلام، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد إلى بيان ذكر   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الفروض اللازمة للإنسان في خاصة نفسه في أوقات مرتبة ولا ينوب غيره عنها فيه والجهاد فرض على الكفاية فلذلك لم يذكر".1 وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض يعنون به أنه ليس فرضاً متعيناً على كل واحد كالصلاة والصوم وإنما هو فرض على الكفاية وبذلك يتفق مذهبهم مع الجمهور.2 وقد روي عن سفيان الثوري أنه يقول الجهاد ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزي فيه بعضهم عن بعض وهذا مما يدل على أن الجهاد عنده فرض على الكفاية فهو موافق لمذهب الجمهور.3 الرأي المختار: هو ما اتفقت عليه المذاهب الإسلامية الأربعة أن الجهاد بمعناه الخاص وهو جهاد الكفار، فرض كفاية، إذا قامت به طائفة من المسلمين سقط الإثم عن الباقين وإلا أثموا جميعاً إلا في المواضع التي يتعين الجهاد فيها على كل مسلم.4 والمراد بالقيام هو القيام الكافي الذي شرع الجهاد من أجله وهو   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/116. 2 مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق 1/158. 3 أحكام القرآن للجصاص 3/113. 4 انظر هذه المواضع ص 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ودفع شر الكفرة وكسر شوكتهم وإطفاء ثائرتهم. وليس المراد مجرد قيام طائفة ولو لم يكن قيامها كافياً فلا يصح إسقاط فرض الجهاد عن المسلمين كلهم بقيام طائفة منهم لا يحصل بها القيام الكافي. قال ابن عابدين: "وإياك أن تتوهم أن فرضيته تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلاً، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية، فلو لم تقع إلا بكل الناس فرض عيناً كصلاة وصيام".1 وقال ابن قدامة: "ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جنداً لهم دواوين من أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعاً بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم".2 أما الأسباب التي أدت إلى هذا الاختيار فهي: 1- أن الإطلاق الوارد في الآيات والأحاديث التي تدل على أن الجهاد فرض قد ورد بإزائه آيات وأحاديث أخرى تدل على أن هذه الفرضية على الكفاية كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فقد ذلت هذه الآية على أن الجهاد ليس فرض عين على كل فرد من أفراد المسلمين وإنما هو فرض كفاية متى قام به البعض واندفع بهم العدو   1 انظر: حاشية ابن عابدين 4/124. 2 انظر: المغني لابن قدامة 8/346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وحصل بهم المقصود سقط عن الباقين لأن الله لم يكلف جميع المؤمنين النفير بل كلف البعض بالخروج للقتال والبعض الآخر يبقى للتفقه في أمور الدين ومواجهة المطالب الضرورية للحياة ولأن يخلف من خرج في أهله وماله. وغيرها من الآيات الأخرى والأحاديث التي تدل على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين. وفي هذا يقول بعض العلماء: "م يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر".1 2- أن الجهاد لو كان فرض عين لتعطل الكثير من مصالح الناس كالزراعة والتجارة والصناعة وهذا فيه تعطيل لحركة الجهاد، لأن الجهاد يحتاج إلى المال الذي هو أحد الركائز الرئيسية التي يقوم عليها، فالسلاح الذي يجاهد به يحتاج إلى مال، وكذلك المجاهدون يحتاجون للمال لتأمين حاجاتهم، فلذلك كان الجهاد فرض كفاية، فمن الناس من يقوم بالجهاد ومنهم من يقوم بدعم حركته بتشغيل الصناعات والتجارات ونحوها.2 3- أن القصد من شرعية الجهاد هو إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ونشر دينه فمتى حصل هذا القصد من بعض المسلمين وارتفعت الراية الإسلامية لتكون كلمة الله هي العليا، فما الداعي إلى فرضية الجهاد على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية.   1 الجامع لأحكام القرآن 8/136. 2 كفاية الأخيار 2/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قال الموصلي: "المراد بالجهاد والمقصود منه دفع شر الكفرة، وكسر شوكتهم وإطفاء ثائرتهم وإعلاء كلمة الإسلام، فإذا حصل المقصود بالبعض فلا حاجة إلى غيرهم".1 وقال الكاساني: "ولأن ما فرض له الجهاد وهو الدعوة إلى الإسلام وإعلاء الدين الحق ودفع شر الكفرة وقهرهم يحصل بقيام البعض به".2 وقال الزيلعي: "إنما شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه، ودفع الفساد عن العباد، فإذا حصل من البعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ودفن الميت ورد السلام".3 هذا هو الرأي الذي اختاره بالنسبة لحكم الجهاد بمعناه الخاص وهو جهاد الكفار. أما الجهاد بمعناه العام فلا خلاف بين علماء المسلمين على أنه يتعين على كل فرد من أفراد المسلمين جهاد نفسه الأمارة بالسوء ولا ينوب في جهادها أحد عنه. وكذلك يتعين على كل أحد من المسلمين جهاد شيطانه عدوه الأصيل القديم الذي يلتصق به التصاق دمه به. وفي هذا يقول ابن القيم: "وفرض على كل مسلم جهاد نفسه في   1 انظر: الاختيار لتعليل المختار 4/118. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/98. 3 انظر: تبيين الحقائق 3/241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ذات الله وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد. وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد".1 أما المواضع التي يكون فيها الجهاد الخاص وهو جهاد الكفار فرض عين على كل مسلم فقد حددها العلماء بثلاثة مواضع: الموضع الأول: إذا هاجم العدو بلاد المسلمين ونزلوا بها تعين قتالهم ودفع ضررهم على جميع أفراد المسلمين. وفي هذا يقول الكاساني: "فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد، فهو فرض عين يفترض على كل واحد من أحاد المسلمين ممن هو قادر عليه2 لقوله سبحانه تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 3 وقوله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} .4 وقد استثنى القرطبي هذا الموضع بعد أن ذكر الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية بقوله: "إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو   1 انظر: زاد المعاد 3/12. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/98. 3 التوبة: 41. 4 التوبة: 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حينئذ فرض عين".1 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة".2 وقال الصاوي3: "ويتعين الجهاد بهجوم العدو".4 وقال في المبدع: "إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم كحاضري الصف".5 الموضع الثاني: يتعين الجهاد على كل مسلم إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، فيحرم على من حضر القتال الانصراف وهو توليهم الأدبار، ويتعين عليه الثبات بجهادهم وعدم الفرار من أمامهم.6 وقد دل الكتاب والسنة على أن الجهاد في هذا الموضع - وهو   1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/38. 2 انظر: الاختيارات الفقهية ص 311. 3 هو أبو العباس أحمد الصاوي، فقيه مالكي، توفي بالمدينة سنة 1241 له مؤلفات منها: بلغة السالك، وحاشية على تفسير الجلالين، انظر ترجمته في: شجرة النور الزكية ص 364. 4 انظر: بلغة السالك 1/356. 5 المبدع 3/310. 6 الجوهرة النيرة 2/357، والسراج السالك 2/24، والمقدمات الممهدات 1/263، وروضة الطالبين 10/214، وفتح الجواد 2/326، والمبدع 3/310، وكشاف القناع 3/37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 تقابل الصفين صف المسلمين وصف الكافرين - فرض عين على كل مسلم ويحرم الفرار منه. فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . 1 فقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن الفرار من الجهاد عند التقاء الصفين، وتوليهم الأدبار، والنهي يقتضي التحريم. وقد استثنت الآية حالتين لا تعتبر من التولي يوم الزحف: الحالة الأولى: التحرف وهو أن ينتقل المجاهد من موقع إلى آخر مراوغة واحتيالاً على العدو. الحالة الثانية: التحيز إلى طائفة من جيش المسلمين، لمناصرتهم، سواء كانت هذه الطائفة قريبة أو بعيدة، فالتحيز بهذه الصفة لا يعتبر من التولي يوم الزحف.2 2- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ   1 الأنفال: 15، 16. 2 الجهاد في سبيل الله وحقيقته وغايته 1/74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .1 فقد أمر الله عباده المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند قتال الكفار كما نهاهم في الآية الأولى عن الفرار من أمامهم وتوليهم الأدبار، فالتقى الأمر والنهي سواء، وهذا تأكيد للوقوف للعدو والتجلد له2. ومن السنة: 1- ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها التولي يوم الزحف".3 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على تحريم الفرار يوم الزحف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باجتناب هذه المهلكات والتي منها التولي يوم الزحف، وأمره صلى الله عليه وسلم باجتنابها دليل على أن فعلها محرم على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية بعينه. 2- قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه "وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس".4 الموضع الثالث: يتعين الجهاد على كل فرد من أفراد المسلمين إذا عين إمام المسلمين قوماً للجهاد واستنفرهم لذلك فرض عليهم أن يطيعون   1 الأنفال: 45. 2 الجامع لأحكام القرآن 8/23. 3 أخرجه البخاري 2/131 كتاب الوصايا. ومسلم 1/92 كتاب الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها حديث رقم 145. 4 أخرجه أحمد 5/238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 في ذلك وينفروا إلا من له عذر قاطع1، عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .2 فهذا توعد من الله سبحانه وتعالى للذين لم يلبوا نداء الإمام بالعذاب الأليم، وهذا التوعد لا يكون إلا على ترك واجب وهو وجوب النفر على من استنفره الإمام. قال في نهاية المحتاج: "الوعيد لمن عينه صلى الله عليه وسلم ولم يتعين".3 أما الدليل من السنة على وجوب النفر لمن استنفره إمام المسلمين فحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح وإذا استنفرتم فانفروا" 4. فهذا الحديث نص صحيح صريح في وجوب النفر لمن استنفره إمام   1 المغني 8/346 - 347، والزوائد 1/335، وإحكام الأحكام شرح العمدة 4/222، وفتح الباري 6/39، والمحلى 7/291- 292. 2 التوبة: 38 – 39. 3 نهاية المحتاج 8/48. 4 سبق تخريجه ص 53 ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا": أي إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا، وفيه دليل على أن الجهاد ليس فرض عين بل فرض كفاية كما سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المسلمين. قال ابن حجر: "وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام".1 وقال ابن حزم: "ومن أمره الأمير بالجهاد إلى دار الحرب ففرض عليه أن يطيعه في ذلك إلا من له عذر قاطع".2 أنواع الجهاد قال ابن قيم الجوزية: الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس جهاد الشيطان جهاد الكفار جهاد المنافقين3. فجعل جهاد النفس في المرتبة الأولى. لأن النفس الأمارة بالسوء من ألدّ الأعداء التي يجب على المسلم مجاهدتها، ومحاربتها، لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، لأنها ميالة إلى الشهوات والمغريات، فجهادها متعين على جميع المسلمين، وجهادها يكون بتهذيبها، وتمرينها على طاعة الله وتخليصها من الأهواء والشهوات، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا   1 انظر: فتح الباري 6/39. 2 انظر: المحلى 7/291. 3 انظر زاد المعاد 3/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا1} .2 ومعنى ألهمها فجورها أي أرشدها إلى سبل الخير، وشين لها سبل الشر جميعاً، وتكون تزكيتها بحملها على طاعة الله تعالى، وتطهيرها من الذنوب وتنقيتها من العيوب وتعليقها بالعلم النافع والعمل الصالح. وتدسيتها بأخذها بمعصية الله تعالى.3 قال قتادة:"أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال وخاب من دس نفسه في المعاصي"4 وجهاد النفس يكون أيضاً، بتوجيهها إلى الحق في ذاته لا حباً في شهرة ولا رغبة في متعة، ولا طلباً لمصلحة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 5 إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله   1 دساها أي أخفاها في المعاصي، وأمات استعدادها للخير بالمداومة على اتباع طرق الشيطان وفعل الفجور. تفسير ابن سعدي 7/633. 2 الشمس: 7 - 8 - 9 – 10. 3 تفسير القرآن العظيم 4/216، والجامع لأحكام القرآن، 20/77. وتفسير ابن سعدي 7/633. 4 انظر: الجامع لأحكام القرآن 2/77. 5 الحج: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وردها عن الهوى.1 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .2 قال القرطبي: "ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر".3. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد الإنسان نفسه فقال صلى الله عليه وسلم "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب".4 وقال صلى الله عليه وسلم: "قدمنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله قال: جهاد النفس".5 فجهاد الكفار الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد الأصغر، متوقف على   1 الجامع لأحكام القرآن 13/99. 2 العنكبوت: 69. 3 انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/364 – 365. 4 أخرجه أحمد 6/21 – 22 والترمذي 4/165 كتاب فضائل الجهاد حديث رقم 1621 وقال حديث حسن صحيح، والدارمي 2/211 كتاب الجهاد. 5 أخرجه البيهقي 9/125 بإسناد ضعيف، لكن معناه صحيح لأن المسلم إذا لم يجاهد عدوه الأكبر وهو نفسه لم يستطيع مجاهدة عدوه الأصغر وهم الكفار لأن فاقد الشيء لا يعطيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، لذلك كان جهاد النفس مقدماً على جهاد الكفار، وأصلا له لأن المسلم إذا لم يجاهد عدوه الباطن وهو نفسه- لتفعل ما تؤمر له، وتترك ما تنهى عنه- لا يستطيع أن يجاهد عدوه الظاهر، لأن عدوه الباطن الذي بين جنبيه، قاهر له متسلط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه، فالمسلم متى قدر على مجاهدة عدوه الأكبر وهو النفس، قدر على مجاهدة عدوه الأصغر وهو الكفار.1 قال ابن قيم الجوزية: "وجهاد النفس أربع مراتب: أولاً: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق، الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ثانياً: أن يجاهدها على العمل بما تعلمت، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها. ثالثاً: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه. رابعاً: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق".2 وبهذا ينبغي أن نعلم أن النفس الإنسانية الأمارة بالسوء من أخطر الأعداء التي يجب أن يستفرغ ما في الوسع والطاقة في محاربتها، ومجاهدتها، وهذا فرض متعين على كل مسلم يخاف الله، ويرجو رحمته، فلا ينوب في جهادها أحد عن أحد، والمثل الأعلى للنفس المؤمنة المجاهدة في سبيل الله،   1 زاد المعاد 3/6. 2 زاد المعاد 3/10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وهو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم. فقد جاهدوا في الله حق جهاده، فقد لا قوا في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه أشد أنواع العذاب مما لا يعمله إلا الله، ولكنهم صبروا وجاهدوا أنفسهم أولاً على طاعة الله وترك ما حرم الله، ثم جاهدوا عدوهم ثانياً حتى نصرهم الله بنصره وأيدهم برحمته. النوع الثاني: جهاد الشيطان: إن من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده ورحمته بهم، وتيسيره عليهم، أن عرفهم بأعدائهم، الذين ابتلاهم بهم في هذه الحياة، وعلى أساليبهم، وطرقهم في الغواية والصد عن سبيل الله. ومن أخطر الأعداء للإنسان في هذه الحياة ذلك العدو اللدود الذي لا يقل خطراً عن العدو الأول النفس الأمارة بالسوء، بل إنه أشد عداوةً وخطراً، ألا وهو الشيطان الرجيم، الذي يجري من الإنسان مجرى الدم، والذي أعلمنا الله سبحانه وتعالى بأنه قد أخذ العهد على نفسه لإغواء ذلك المخلوق الضعيف، وصده عن سبيل الله. فيقول سبحانه وتعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .1 ويقول سبحانه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ   1 الأعراف: 16-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .1 وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} .2 وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذا العدو في كتابه في آيات كثيرة ليحذرنا منه ويدلنا على خطورته، وبيان عداوته وطرق أساليبه في الصد عن سبيله. فيقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} .3 فالأمر باتخاذه عدواً معناه أن نحقق معنى جهاده وهو استقراغ ما في الوسع والطاقة في مجاهدته لأنه عدو لا يفتر، ولا يقصر عن محاربة العبد.4 ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} .5 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يحذرنا الله سبحانه فيها من هذا العدو المبين. ولكن رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده لم تنته عند هذا الحد، عندما بين لهم أعداءهم وخصومهم، ولم يجعلهم في حيرة من أمرهم، بل زادهم فضلاً على فضل، ورحمة على رحمة، وتيسيراً على تيسير عندما بين لهم   1 الحجر: 39-40. 2 البقرة: 268. 3 فاطر: 6. 4 زاد المعاد 3/6. 5 الإسراء: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الطرق القويمة التحصن من هذا العدو اللئيم، فيقول سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .1 وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .2 فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالاستعاذة منه عندما يوسوس لنا ويزين لنا طرق الشر من اتباع الشهوات والمغريات، ويبعدنا عن طرق الخير، وطريقُ الاستعاذة من أعظم الطرق التي يجاهد بها هذا العدو اللعين. وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} .3 قال القرطبي: "همزات الشيطان أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى، والله سبحانه وتعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته وهي سورات4 الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه".5. وكما حذرنا القرآن الكريم من الشيطان وبين لنا أنه العدو الأصيل في هذه الحياة، وبين لنا أعظم الطرق للتخلص منه، فكذلك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم   1 الأعراف: 200. 2 فصلت: 36. 3 المؤمنون: 97. 4 سورات: سورة الخمر حدتها والسورة الوثبة يقال إن لغضبه لسورة أو لوثبة. لسان العرب 4/384، 385. 5 الجامع لأحكام القرآن 12/248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لا تقل شأناً عن القرآن في التحذير من هذا العدو الخبيث، وبيان خطره وحيله في إضلال العباد عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبيان الأدوية الشافية النافعة لعلاج هذا الداء. فمن الأحاديث التي يحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيطان ومكره، قولهصلى الله عليه وسلم في حديث صفية رضي الله عنها: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".1 وهذا من أبلغ ما ورد في التحذير من هذا العدو المبين. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول صلى الله عليه وسلم: "يعقد الشيطان على قافية2 رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدها كلها، فأصبح نشطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".3 وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما يقول صلى الله عليه وسلم: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب   1 أخرجه البخاري 4/240 كتاب الأحكام باب الشهادة تكون عند الحاكم. ومسلم 4/1712 كتاب السلام حديث 2174، 2175. 2 القافية آخر الرأس، وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر. 3 أخرجه البخاري 2/220 واللفظ له كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ومسلم 1/538 كتاب صلاة المسافرين حديث 776. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الشيطان على ما رزقتنا، فرزقا ولداً لم يضره الشيطان".1 إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي يحذرنا فيها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خطر هذا العدو الأصيل القديم لابن آدم وكيفية التخلص منه، ومن خطره، ومجاهدته بطاعة الله سبحانه وتعالى، والإكثار من ذكره جل وعلا، والتعوذ من همزاته ونزاغاته ووساوسه. وكما قسم ابن القيم -رحمه الله- جهاد النفس إلى مراتب، فكذلك قسم جهاد الشيطان إلى مرتبتين: إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان. الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.2 فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} .3 فأخبر الله أن إمامة الدين، إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع   1 أخرجه البخاري 1/40 كتاب الوضوء باب التسمية. ومسلم 2/1058 كتاب النكاح حديث 1434. 2 انظر: زاد المعاد 3/10. 3 السجدة: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الشهوات، والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.1 وبهذا يجب أن نعلم أن جهاد الشيطان فرض متعين على كل فرد مسلم، فلا ينوب فيه أحد عن أحد. وبخاصة في هذا الوقت الذي كثر فيه المغريات، واتباع الشهوات، وهذا هو المدخل والبوابة الرئيسية، لمرور هذا العدو المبين. نسأل الله العلي القدير، أن يعيذنا من الشيطان وأعوانه، وأن يجعلنا من أعدائه، وأن يرزقنا اتباع كتابه، والاقتداء بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. النوع الثالث: جهاد الكفار: الكفار نوع من البشر الذين استحوذ الشيطان على قلوبهم وجعل منها منزلاً يقطنه، ويسكن فيه فجعلهم ينجرفون في ارتكاب المحرمات والموبقات كالإشراك بالله، وعبادة غيره من الأصنام والأوثان، وجعلهم يتخذون لأنفسهم إلها غير الله، وأحكاماً ومناهج وقيماً بعيدة عن أحكام الله وتشريعاته التي شرعها لعباده المؤمنين. وهؤلاء الكفار لا يقفون موقف المسالم من المسلمين، ولا يتركون للمسلمين الحرية المطلقة في نشر دين الله، وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى، وإنما يقفون منهم موقف العدو المعاند المعارض لأحكام الله، ونشر دينه، والدعوة إليه. فمن أجل ذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمجاهدة هذا العدو الذي   1 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 لا يقل خطراً عن العدوين السابقين. وبين لنا أن مجاهدتهم واجبة، محافظة على نشر الدين الإسلامي وإبلاغ دعوته في جميع أنحاء الأرض. ومجاهدة هذا العدو والتخلص من ضرره تكون بالنفس، والمال، واللسان. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . 1 ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار وأن يقسو عليهم في المجاهدة. وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} .2 ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله عباده المؤمنين بمجاهدة الكفار وبذل ما في الوسع والطاقة في مجاهدتهم بالمال والنفس. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".3 فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يأمرنا بمجاهدة المشركين بالمال والنفس واللسان تحقيقاً لنشر الدين الإسلامي ورفع رايته في أنحاء المعمورة.   1 التوبة: 73، التحريم: 9. 2 التوبة: 41. 3 سبق تخريجه ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "جاهدهم بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فقطب1 في وجوههم".2 والقدوة الحسنة لنا في جهاد هذا العدو الخبيث هو رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم فقد جاهدوا الكفار حق المجاهدة، رغم ما اعترض طريقهم من الشوائك والمصاعب إلا أنهم جاهدوا وصبروا، فحققوا الانتصارات الإسلامية العظيمة التي عمت جميع أنحاء الأرض من الشرق إلى الغرب، ولم يبق إلا واجبنا نحن تجاه هذا العدو الماكر، وهو أن نخطو خطاهم ونسير على الطريق التي رسمها لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده في مجاهدة هذا العدو الخبيث، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يجاهدون في سبيله حق جهاده بالنفس والمال واللسان. النوع الرابع: جهاد المنافقين: إن من أخطر أعداء الدعوة الإسلامية وأشد المعوقات لطريقها وتقدمها، هي حركة النفاق التي تبتلى بها الفئة المسلمة.   1 التقطيب هو: تزوي ما بين العينين عند العبوس والغضب. انظر لسان العرب 1/680. 2 أحكام القرآن لابن العربي: 2/977، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه الله -: "وقد هتك الله أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن الكريم وجلى لعباده أمورهم، ليكونوا منها على حذر".1 وذكر الله طوائف العالم الثلاثة في أول سورة البقرة، المؤمنين، والكفار، والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاثة عشر آية لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً، لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم، وأصلح، وهو غاية الجهل والفساد. رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر2 {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .3 قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت المقاصد السيئة على إرادتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .4 لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه الملحدين وله لسانان: أحدهما يقبل بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سره المكنون5 كما قال تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا   1 انظر: صفات المنافقين لابن القيم ص 16. 2 الختر: شبيه بالغدر والخديعة، وقيل الخديعة بعينها، وقيل هو أسوأ الغدر وأقبحه. لسان العرب 4/229. 3 البقرة: 9. 4 البقرة:10. 5 انظر: صفات المنافقين لابن القيم ص 16، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .1 وقال بعض العلماء: "وهذا الصنف من الأعداء أخطر من غيرهم على دعوة الإسلام ودولة الإسلام لخبث أساليبهم وكمون عداوتهم، ووصولهم إلى مواقع بين المسلمين لا يصل إليها غيرهم من الكفار، ويكفيك في إدراك مدى خطورتهم، أن تعلم أنهم قاعدة الكفر المستترة في ديار الإسلام، ومنفذ الكفار إلى قلب الأمة الإسلامية فهم أعوان كل عدو للمسلمين وأولياؤه".2 وقد أجمع علماء المسلمين على أن المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر أشد خطراً على الإسلام من الكفار المجاهرين بعداوتهم لأنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وموهوا به خداعاً واستهزاءً، لذلك جعل الله عذابهم من أشد العذاب في الآخرة3، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} .4 لذلك كان جهاد هذا الصنف من الأعداء من ألزم الجهاد على المسلمين، وتجنب خطرهم أولى من تجنب خطر غيرهم من الأعداء، ولا أدلّ على هذا أن القرآن قد شغل الحيز الأكبر في الحديث عنهم وعن   1 البقرة: 14. 2 الحضارة الإسلامية للمودودي ص 263. 3 جامع التأويل 1/35، وآيات الجهاد 319. 4 النساء: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أوصافهم وطرقهم، في الصد عن سبيل الله ونشر دينه، فإنه لا تكاد هناك سورة مدنية تخلو من إلقاء الأضواء الكاشفة على هذا الصنف من أعداء الإسلام، حتى بلغ ما خصص للحديث عنهم وعن أساليبهم في محاربة الإسلام والمسلمين، وصفاتهم الخبيثة، ما يقارب عشر القرآن الكريم.1 ومن أصرح الآيات في وصفهم وبيان خبثهم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} .2 وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .3 أي هم العدو الحقيقي العدو الكامن المختبئ داخل الصف، فهم أخطر من العدو الخارجي، وهم العدو الأول للمسلمين يجب أن يحتاط   1 في ظلال القرآن الكريم 8/104 وآيات الجهاد ص 317. 2 البقرة: 204، 205، 206. 3 المنافقون: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لهم، وأن يحذروا أكثر من غيرهم.1 وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بجهادهم ومحاربتهم وأخذ الحذر منهم، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .2. وقد جاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده وأصحابه رضوان الله عليهم حق المجاهدة كما أمرهم الله بذلك. وكما حذر القرآن الكريم من المنافقين ودعا إلى جهادهم فكذلك السنة فهي مملوءة بالتحذير منهم وبيان صفاتهم الخبيثة، وبيان الأدوية النافعة الشافية لعلاج داء النفاق. فيقول صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".3 فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في هذا الحديث الخصال التي إذا اجتمعت في شخص اتصف بصفة النفاق، ومع هذا البيان يحذرنا صلى الله عليه وسلم من الاتصاف بهذه الخصال ويأمرنا بتركها.   1 في ظلال القرآن 8/108. 2 التوبة: 73، التحريم: 9. 3 أخرجه البخاري 1/15 كتاب الإيمان باب علامة النفاق واللفظ له. ومسلم 1/78 كتاب الإيمان باب بيان خصال المنافق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 2- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون".1 وقال أيضاً: "إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان".2 إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار، التي تحذرنا من الاتصاف بهذه الصفة الخبيثة وتأمرنا بمحاربتها وتبين لنا وسائل معالجتها بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باتباع الأوامر التي أمرنا الله بها ررسوله صلى الله عليه وسلم وترك النواهي التي نهانا الله عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. وخصال النفاق الأربعة، من الخيانة، والكذب، والغدر، والفجور، قد تكون الأكثر شيوعاً وانتشاراً في زماننا هذا لأن أكثر مصالح الناس، وحاجاتهم الدنيوية لا تقضى غالباً إلا لمن اتصف بهذه الخصال، أو بواحدة منها. لذلك يجب على المسلم أن ينبذ هذه الخصال ويمحها من نفسه أولاً، ثم ينبذها من غيره من المسلمين ممن يتصف بها ثانياً:، باليد، أو باللسان، أو بالقلب، تحقيقاً لأمره صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".3   1 أخرجه البخاري 4/230 كتاب الفتن باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه. 2 المصدر السابق. 3 أخرجه مسلم 1/69 كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والاتصاف بهذه الخصال أو بواحدة منكر يجب على المسلم نبذه وتغييره من نفسه أو من غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فضل الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه يعد من أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض. وفي هذا يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا أعلم شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد".1 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان باتفاق العلماء أنه أفضل من الحج والعمرة ومن صلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة"2. ولا عجب إن كان الجهاد أفضل الأعمال بعد الفرائض، لأن المجاهد يضحي بأغلى ما يملك وهي نفسه العزيزة المحبوبة إليه، ويجود بها، وهذا أقصى غاية الجود، كل ذلك لتكون كلمة الله هي العليا، ولنيل ما أعده الله للمجاهدين في سبيله من فضل عظيم في الدنيا والآخرة، فقد وعد الله من جاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة التي هي من أهم وأعظم جزاء يعده الله سبحانه وتعالى لعباده المجاهدين في الآخرة، أما في الحياة الدنيا فقد وعده بأن يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر، أو غنيمة. وقد أتحفنا القرآن الكريم بأروع المعاني في فضل الجهاد:   1 انظر: مختصر الخرقي ص 117. 2 انظر: السياسة الشرعية ص 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 1- فيقول سبحانه وتعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} .1 فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يخاطب المؤمنين الذين يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها بالمقاتلة في سبيل الله، ويحثهم على أن يثبتوا في المعركة حتى يُعِزُّوا أنفسهم بالشهادة، فيدخلهم الجنة أو يعزوا دينهم بالنصر والغلبة وينالوا الغنيمة. 2- قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .2 قال الإمام القرطبي: "اشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضاً عنها إذ فعلوا ذلك، وهو عوض عظيم لا يداينه المعوض، ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز كما يتعارفونه في البيع والشراء.   1 النساء: 74. 2 التوبة: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال، فسمى هذا شراء".1 وقال الحسن: "ومر أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} قال كلام من هذا؟ قال: كلام الله، قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد".2 وقال الإمام ابن كثير: "يخبر الله تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قيل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له ولهذا قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم والله فأغلى ثمنهم".3 3- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .4 قال الشيخ ابن سعدي: "هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم   1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/267. 2 المصدر السابق. 3 تفسير القرآن العظيم 2/391. 4 الصف: 10، 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الراحمين، لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم، وأتى بأداة العرض، الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل معتبر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل ما هذه التجارة التي هذا قدرها، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح التي من أجلها الجهاد في سبيله، فلهذا قال: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم، لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد دين الله وإعلاء كلمته".1 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين لنا فضل الجهاد في سبيل الله في الحياة الدنيا والآخرة. وكما وردت الآيات الوافرة في فضل المجاهدة في سبيل الله ولإعلاء كلمته، فإن السنة النبوية مملوءة بالثروة الضخمة من الأحاديث التي تصرح بفضل الجهاد في سبيل الله وأنه لا جزاء له إلا الجنة. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصى ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان".2   1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7/372. 2 انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية ص 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقال الشوكاني: "والأحاديث في فضل الجهاد كثيرة جداً لا يتسع لبسطها إلا مؤلف مستقل".1 ولذلك فإنني سأكتفي بذكر بعض الأحاديث الدالة على فضل الجهاد في سبيل الله، فيقول سيد البشر صلى الله عليه وسلم في فضل الجهاد والمجاهدين: 1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله" 2 فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في هذا الحديث أن المؤمن إذا جاهد بنفسه وماله كان من أفضل الناس. 2- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: "يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله".3 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث دلالة صريحة على فضل الجهاد في سبيل الله وأنه من أفضل الأعمال بعد أداء الصلاة على وقتها وبر الوالدين. قال بعض العلماء: "إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان   1 انظر: نيل الأوطار 7/211. 2 أخرجه البخاري 2/135 كتاب الجهاد باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله. ومسلم 3/1503 كتاب الإمارة - باب فضل الجهاد والرباط. 3 أخرجه البخاري 2/134 كتاب الجهاد والسير باب فضل الجهاد واللفظ له. ومسلم 1/89،90 كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مئونتها عليه، وعظيم فضلها، فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه، كان لغيرهما أقل براً، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك".1 3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم من يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه، أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة".2 قال ابن حجر: "شبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة، فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب".3 4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً   1 فتح الباري 6/4. 2 أخرجه البخاري 2/135 كتاب الجهاد باب أفضل الجهاد مؤمن يجاهد بنفسه وهذا لفظه. ومسلم 3/1798 كتاب الإمارة باب فضل الشهادة بلفظ: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حنى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى". 3 انظر: فتح الباري 6/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنة الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة".1 وجه الدلالة في الحديث: يبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تكفل للمجاهد في سبيله بإحدى الحسنيين إما أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى محله الذي خرج منه سالماً غانماً وهذان أعظم فضائل الجهاد. 5- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لغدوة 2 في سبيل الله، أو روحة 3 خير من الدنيا وما فيها".4 وجه الدلالة: يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الخرجة الواحدة للمجاهد في سبيل الله سواء كانت أول النهار أو في آخره، خير من الدنيا وما فيها، وأي عمل يوازي هذا العمل أو يفضله؟ وهذا قليل من كثير مما ورد من الأحاديث الصحيحة الصريحة فيما أعده الله للمجاهدين في سبيله وأنه لا جزاء لهم إلا الجنة.   1 أخرجه الإمام مسلم 3/1495 كتاب الإمارة باب فضل الجهاد. 2 الغدوة: ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. انظر المصباح المنير 2/443. وقيل هي الخروج أول النهار إلى الزوال. 3 الروحة: الخروج آخر النهار، أي بعد الزوال. 4 أخرجه البخاري 2/136 كتاب الجهاد باب الغدوة والروحة ومسلم 3/1499 كتاب الإمارة باب فضل الغدوة والروحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله، ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة، والظاهرة، فإنه مشتمل على محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله، وسائر الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر، والقائم به من الشخص والأمة، بين إحدى الحسنيين دائماً، إما النصر والظرف، وإما الشهادة والجنة".1   1 انظر: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 حكمة مشروعية الجهاد إن الله سبحانه وتعالى له الحكم التام والحكمة البالغة فيما خلقه وشرعه، فهو الحكيم في خلقه وشرعه، فما من عبادة شرعها لعباده إلاّ لحكمة بالغة، علمها من علمها من خلقه، وجهلها من جهلها، وليس جهلنا عن شيء من حكم العبادات دليلاً على أنه لا حكمة لها بل هو دليل على عجزنا وقصورنا عن إدراك حكمة الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} 1 وكما شرع الله الصلاة والزكاة والصيام وغيرها من أنواع العبادات لحكم بالغة وأهداف جليلة، فكذلك شرع الله الجهاد في سبيله لحكم كثيرة استوجبت أن يكون ذروة سنام الإسلام. ومن أهم حكمه: الجهاد في سبيل الله هو: إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، ورفع رايته، ونشر دعوته، في جميع أنحاء الأرض، فلم يشرع الله الجهاد لحب الغلبة أو الشهرة، أو الظهور، أو التسلط، أو العدوان، أو الانتقام. وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} .2   1 النساء: 85. 2 النساء: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} .1 وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .2 قال ابن جرير الطبري: "فقاتلوهم حتى لا يكون الشرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله، خالصة دون غيره".3 وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية4 ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".5   1 البقرة: 193. 2 الأنفال: 39. 3 انظر: جامع البيان للطبري 13/537. 4 الحمية: هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن العشيرة. شرح النووي على مسلم 9/150. 5 أخرجه البخاري 2/139 كتاب الجهاد باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. ومسلم 3/513 كتاب الإمارة باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وهذه الحكمة البالغة للجهاد في سبيل الله المتضمنة إعلاء كلمته سبحانه وتعالى، ورفع راية التوحيد، وإقامة سلطان الله في الأرض، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتجه عنه، وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام، موضع اتفاق بين فقهاء المذاهب الإسلامية وإليك بعض أقوالهم في هذه الحكمة: قال محمد بن الحسن: "فرضية القتال المقصود منها إعزاز الدين وقهر المشركين".1 وقال الكاساني: "لأن ما فرض له الجهاد هو الدعوة إلى الإسلام وإعلاء الدين الحق ودفع شر الكفرة وقهرهم".2 وقال ابن الهمام: "المقصود بالجهاد هو إخلاء العالم من الفساد".3 وقال الخرشي: "الجهاد هو قتال مسلم كافراً غير ذي عهد إعلاء كلمة الله".4 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالقتال واجب، حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله، فالقتال واجب"5   1 انظر: السير الكبير 1/188. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/98. 3 انظر: فتح القدير 4/277. 4 انظر: الخرشي على مختصر خليل 3/107. 5 انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/502، 503. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقال ابن القيم: "والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، فإن من كون الدين كله لله، إذلال الكفر، وأهله وصغاره، وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم، كما يحبون، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة".1 وهناك حكم كثيرة للجهاد كلها تابعة للحكمة الأولى التي تقدمت وتصب فيها، منها على سبيل المثال: 1- رَدُّ أي اعتداء واقع على دار الإسلام من قبل أعدائهم الكفار. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .2 وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .3 2- إنقاذ المستضعفين والمظلومين من المسلمين الذين يعيشون تحت سلطان دولة ظالمة غير مسلمة. قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ   1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/18. 2 البقرة:190. 3 التوبة: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} .1 3- إرهاب الأعداء وإذلالهم، وكيدهم وإغاظتهم. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .2 وقال تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} .3 4- تربية نفوس المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة والقوة وبذل النفس والمال في سبيل الله وغير ذلك من الفوائد التربوية، فإن الركون إلى الراحة والدعة، وعدم ممارسة الشدائد والصعاب، تورث الشخص ذلاً، وخمولاً، وتشبثاً بمتاع الحياة الدنيا، وخوضُ المعارك ومقارعة الأعداء والتعرض لنيل رضا الله في ساحات الوغى، يصقل النفوس ويهذبها ويذكرها بمصيرها، ويوجب لها استعداداً للرحيل حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة، تشتاق لها لنفوس المؤمنة، كما يشتاق الخاملون للقعود والراحة.4   1 النساء: 75. 2 الأنفال: 60. 3 الأنفال: 18. 4 أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ص 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 5- منعُ الفتن التي قد تحدث داخل المجتمع الإسلامي، وهي ثلاث فتن: الردة، والبغي، والحرابة، فمن ولد وهو مسلم أو أسلم وهو كافر ثم ارتد عن الإسلام إلى الكفر وأصر على ذلك ولم يتب، وجب جهاده حتى يعود إلى الإسلام أو يقتل1 لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".2 وكذلك طائفة البغاة من المسلمين التي تبغي عن الحق إلى الباطل، وتخالف جماعة المسلمين وتتميز بدار وتمنع ما عليها من الحقوق فيجب جهاد هذه الطائفة حتى تفيء إلى أمر الله، وتعود إلى جماعة المسلمين لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .3 أما قطاع الطريق الذين يجتمعون على قطع الطريق على المسلمين ومحاربتهم وإشهار السلاح في وجوههم لأخذ أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم، فهؤلاء يجب جهادهم فهم المحاربون الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ   1 آيات الجهاد ص 175. 2 أخرجه البخاري 4/196 كتاب استتابة المرتدين باب حكم المرتد والمرتدة. 3 الحجرات: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .1 وفي هذا يقول بعض العلماء: "ومن الحكمة في الجهاد بأنواعه، أن يعبد الله وحده، مع ما يتبع ذلك من دفع العدوان والشر وحفظ الأنفس والأموال ورعاية الحق، وصيانة العدل، وتعميم الخير ونشر الفضيلة".2   1 المائدة: 33. 2 منهاج المسلم ص 350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الباب الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما والدليل على هذا التقسيم والأماكن التي يمنع الكفار من دخولها الفصل الأول: في تحديد معنى الدارين مع بيان سكانهما المبحث الأول: في تحديد معنى الدار مجردة ومضافة إلى الإسلام المطلب الأول: في تحديد معنى الدار مجردة عن الإسلام تعريف الدار لغة واصطلاحاً: عرف أهل اللغة الدار بتعاريف كثيرة منها: أن الدار اسم للمحل الذي يجمع البناء والساحة.1 قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ 2} 3 أي في منازلهم. قال الراغب: "الدار المنزل اعتباراً بدورانها الذي لها بالحائط".4 وقال صلى الله عليه وسلم: "هل ترك لنا عقيل من دار" 5 أي منزل. وتطلق الدار على القبيلة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث، ثم بني ساعده، وفي كل دور الأنصار خير".6   1 القاموس المحيط 2/32، ولسان العرب 4/298، وتاج العروس 11/319-320، والكليات 2/339. 2 جاثمين: أي صرعى خامدين من شدة العذاب، الجامع لأحكام القرآن 7/242، وتفسير ابن كثير 2/229. 3 الأعراف: 78. 4 انظر: المفردات ص 173، 174. 5 أخرجه البخاري 1/277 كتاب الحج باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها. 6 أخرجه البخاري 2/311 باب مناقب الأنصار باب فضل دور الأنصار، ومسلم 4/1949 كتاب فضائل الصحابة باب في خير دور الأنصار حديث 177- 178- 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقال ابن الأثير: "الدور جمع دار وهي المنازل المسكونة والمحال" 1 قال ابن جني2: "من دار يدور لكثرة حركات الناس فيها".3 وقال الأزهري: "كل موضع حل به قوم فهو دارهم، والدنيا دار الفناء، والآخرة دار البقاء والقرار".4 وقد تطلق الدار على معان أخرى كالبلد فحكي عن سيبويه أنه قال:"هذه الدار نعمت البلدة فأنث البلد على معنى الدار".5 وتطلق الدار على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها محل أهل الإيمان.6 قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ7 وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 8   1 النهاية 2/139. 2 هو عثمان بن جني الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو، ولد بالموصل وتوفي ببغداد سنة 392هـ. وله تصانيف عديدة منها شرح ديوان المتنبي، والمحتسب، والمبهج. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3/140، والأعلام 4/304. 3 نقلاً عن تاج العروس 11/318، ولسان العرب 4/298. 4 انظر: تهذيب اللغة 14/154. 5 تاج العروس 11/318، وتهذيب اللغة 14/154، ولسان العرب 4/298، والقاموس الإسلامي 2/317. 6 المرجع السابق نفسه. 7 الخصاصة: الفقر والحاجة. انظر: المصباح المنير 1/171، والجامع لأحكام القرآن 18/29. 8 الحشر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فالدور جمع دار، وهي المنازل المسكونة، والمحال، وأراد بها ههنا القبائل، اجتمعت كل قبيلة في محلة، فسميت المحلة داراً، وسمي ساكنوها بها مجازاً على حذف المضاف أي أهل الدور".1 قال البغدادي2 في المجرد: "دور الأنصار قبائلها"3 وفي حديث آخر: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد" أي ما بقيت قبيلة.4 ومنه قولهم: "مرت بنا دار فلان - أي قبيلة فلان".5 وتطلق الدار على الدار الآخرة قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} 6 أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.7   1 غريب الحديث 1/351، والنهاية 2/139، وتاج العروس 11/319، 320، والقاموس المحيط 2/32، ومعجم مقاييس اللغة 2/311، ولسان العرب 4/298، وترتيب القاموس 2/229، والمصباح المنير 1/203، وتهذيب اللغة 4/155، والقاموس الإسلامي 2/317، وأقرب الموارد 1/358. 2 هو موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي ويعرف بابن اللباد من العلماء المكثرين في التصنيف، ولد سنة 557هـ ببغداد وتوفي بها سنة 629. انظر ترجمته في الشذرات 5/132، وبغية الوعاة 311، والأعلام 4/61. 3 انظر: المجرد للغة الحديث 1/523. 4 أخرجه أحمد 5/17، وابن ماجة 1/250 كتاب المساجد. 5 تاج العروس 11/319، وأقرب الموارد 1/358. 6 الرعد: 22. 7 القاموس الإسلامي 2/317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وتطلق على موضع القبر لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرةرضي الله عنه: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين".1 فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع القبور داراً لاجتماع الموتى فيها، تشبيها لها بدار الأحياء.2 وتطلق الدار على الصنم وبه سمي عبد الدار بن قصي بن كلاب أبو بطن.3 وقال بعض العلماء: "الدار لغة المنزل والموضع والمثوى، والديار ساكن الدار، وقد وردت كلمة دار بصيغة المفرد والجمع مجردة ومضافة في ثمانية وأربعين موضعاً من القرآن الكريم".4 والدار مؤنثة وقد تذكر بالتأويل كقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} 5، فذكر على معنى المثوى والمنزل كقوله تعالى {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} 6، فأنث على المعنى. وجمع الدار ديار، ودور في جمع الكثرة وأدوار بالهمزة وتركه في   1 أخرجه مسلم 1/218 كتاب الطهارة حديث 249. 2 النهاية 2/139. 3 تاج العروس 11/335، وترتيب القاموس 2/231، والمصباح المنير 1/203. 4 القاموس الإسلامي (2/317) . 5 النحل: 30. 6 الكهف: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 القلة، وتجمع أيضاً على آدار مقلوب أدوار، وعلى دوران، وديران، وأدورة، وديارات، وأديار، ودوران، وأدوار، ودورات، ودارات1 وصاحب الدار يسمى ديار ومنه قوله تعالى {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} .2 أما الدارة فهي أخص من الدار وهي كل موضع يدار به شيء يحجزه وكل أرض واسعة بين جبال.3 قال ابن الأثير: "الدارة أخص من الدار وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق: يا ليلة من طولها وعنائها ... على أنها من دارة الكفر نجت4 ويقال للدار دارة.5 وقال ابن حجر: "الدارة أخص من الدار وقد كثر استعمالها في   1 الصحاح 2/659، 660، والقاموس المحيط 2/32، والكليات 2/339، والمعجم الوسيط 1/302، 303، ومعجم مقاييس اللغة 2/311، وتهذيب اللغة 14/154، ومختار الصحاح 215، والمصباح المنير 1/202، 203. 2 نوح: 26. 3 القاموس المحيط 2/32، ومعجم مقاييس اللغة 2/311، والمعجم الوسيط 2/307، وأقرب الموارد 1/358. 4 أخرجه البخاري 2/81 كتاب العتق باب إذا قال رجل لعبده هو لله ونوى العتق. 5 انظر: النهاية 2/139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أشعار العرب"1، كقول امرئ القيس. ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوماً بدارة جلجل2 وقال الأصمعي: "الدارة هي الجوبة الواسعة تحفها الجبال".3 أما تعريف الدار اصطلاحاً: مجردة عن إضافتها إلى الإسلام أو الكفر، فهي عبارة عن الموضع أو البلد أو الإقليم أو المنطقة التي تكون تحت سلطة معينة".4 وعرفها بعض العلماء المعاصرين: بأنها البلاد التي تنتظمها دولة واحدة، لها نظام، وحاكم خاص، ملك، أو رئيس جمهورية.5 وبلفظ آخر: (الدار الوطن، من مملكة، أو جمهورية، أو سلطنة، أو إمارة.6   1 انظر: فتح الباري 5/163. 2 دارة جلجل: هي موضع بديار كندة يقال له الحمى، وقيل هي من ديار الضباب بنجد، فيما يواجه ديارة فزارة، والجلجل أصله ما يعلق على الدواب، من صفر فيصوت. انظر: معجم البلدان 2/150، ومعجم ما استعجم 2/389. 3 نقلاً عن لسان العرب 4/296، وتاج العروس 11/320. 4 انظر: حاشية رد المحتار 4/66 وشرح السراجية ص 7. 5 أحكام المواريث بين الفقه والقانون ص 99. 6 الميراث في الشريعة الإسلامية ص 144 وحكم الميراث ص 56، والمواريث والوصية ص 25، والميراث المقارن ص 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 المطلب الثاني: في تحديد معنى الدار مضافة إلى الإسلام ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: في تعريف دار الإسلام إن الثقل في الإسلام للدين قبل الأرض، فالجنسية الإسلامية حق لكل من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أيا كانت أرضه في المشرق أو في المغرب لكن الأرض لها ثقل أيضاً، لأنها تعتبر ركناً من أركان دولة الإسلام، وكما شرع الجهاد لأجل العقيدة الإسلامية ونشرها، فقد شرع أيضاً دفاعاً عن دار الإسلام وإذا كان الجهاد فرض كفاية خارج دار الإسلام فهو داخلها فرض عين، بمعنى أنه إذا دخل العدو دار الإسلام وهجم عليها، فإنه يتعين على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية أن يجاهد عن هذه الدار، ويقاوم الأعداء للدفاع عنها. قال بعض العلماء: "وهذه الدار - أي دار الإسلام - يجب على المسلمين القيام بالذود عنها، والجهاد دونها فرض كفاية إذا لم يدخل العدو الديار الإسلامية. فإن دخلها العدو كان الجهاد فرض عين عليهم فعليهم جميعاً مقاومته ما أمكنتهم الفرصة واستطاعوا إلى ذلك سبيلاً1 أما تعريفها، فقد عرفها العلماء بتعاريف كثيرة مختلفة في الشكل واللفظ، متفقة في المضمون والمعنى، وكلها في الحقيقة تدور حول أن دار الإسلام هي الأرض أو البلد التي تظهر فيها أحكام الله من إعلاء كلمته،   1 العلاقات الدولية في الإسلام ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ونشر دعوته، وتطبيق أحكامه، وتكون الغلبة والسيادة فيها لأحكام الإسلام، سواء كان معظم سكانها من المسلمين، أو غير المسلمين. ومعنى الغلبة: أن تكون أحكام الإسلام هي الغالبة وكلمة المسلمين هي النافذة، وراية الإسلام هي المرتفعة. ومعنى السيادة أن يكون حكامها مسلمين، ملتزمين بالشريعة الإسلامية، مطبقين لها. تعريف الفقهاء لدار الإسلام: عرفها الحنفية: بأنها الدار التي تظهر فيها أحكام الإسلام1. قال السرخسي: "دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون"2. قلت: والبلاد التي تحت يد المسلمين تجري فيها أحكام الإسلام لأن المسلمين لا يجرون هذه الأحكام إلا إذا كانت الأرض تحت أيديهم وسلطتهم. وعرفها المالكية: بأنها الدار التي تجري فيها أحكام الإسلام.3 قلت: وأحكام الإسلام لا يمكن إجراؤها وإظهارها الظهور الحقيقي إذا لم تكن السلطة إسلامية.   1 بدائع الصنائع 7/130. 2 شرح السير الكبير 3/81. 3 المقدمات الممهدات 2/285، وبلغة السالك 2/167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وعرفها الشافعية: بأنها ما كانت تحت استيلاء رئيس الدولة الإسلامية وإن لم يكن فيها مسلم1. قال الماوردي: "إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلدان الكفر فقد صارت البلد دار الإسلام".2 وقال ابن حجر: "دار الإسلام ما كانت في قبضتنا وإن سكنها أهل ذمة أو عهد".3 وعرفها الحنابلة بأنها: "الدار التي نزلها المسلمون وجرب عليها أحكام الإسلام وما لم تجر عليها أحكام الإسلام لم تكن دار الإسلام وإن لاصقها".4 قال ابن سعدي5:"دار الإسلام هي التي يحكمها المسلمون وتجري فيها الأحكام الإسلامية ويكون النفوذ فيها للمسلمين ولو كان جمهور أهلها كفاراً.6   1 تحفة المحتاج 4/230. 2 نقلاً عن شرح السنة 10/371. 3 تحفة المحتاج 4/ 222. 4 أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/366. 5 هو عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي من علماء الحنابلة ومن أهل نجد ولد سنة 1307هـ بعنيزة في القصيم وتوفي فيها سنة 1376هـ وله تصانيف كثيرة منها الفتاوى وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. انظر: الأعلام 3/340. 6 انظر: الفتاوى السعدية 1/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فالأرض التي يحكمها المسلمون ويجرون فيها أحكام الشريعة الإسلامية هي دار الإسلام. وعرفها الظاهرية: بأنها الدار التي تغلب عليها السلطة الإسلامية وإقامة الأحكام تأتي تبعاً للسلطة فما دام أن السلطة الغالبة هي سلطة الإسلام أقيمت أحكامه.1 وقال الشوكاني في بيان دار الإسلام: الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره، إلا لكونه مأذوناً له بذلك من أهل الإسلام، فهذه دار إسلام، ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار، ولا بصولتهم، كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية.2 تعريف العلماء المحدثين لدار الإسلام: قال أبو زهرة: "دار الإسلام هي الدولة التي تحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة والقوة فيها للمسلمين".3 وقال عبد القادر عودة: "تشمل دار الإسلام البلاد التي تظهر فيها أحكام الإسلام، أو يستطيع سكانها المسلمون أن يظهروا فيها أحكام   1 انظر: المحلى 13/140. 2 انظر: السيل الجرار 4/575. 3 انظر: العلاقات الدولية في الإسلام ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الإسلام، فيدخل في دار الإسلام كل بلد سكانه كلهم أو أغلبهم مسلمون، وكل بلد يتسلط عليه المسلمون ويحكمونه، ولو كانت غالبية السكان من غير المسلمين. ويدخل في دار الإسلام كل بلد يحكمه ويتسلط عليه غير المسلمين، ما دام فيه سكان مسلمون، يظهرون أحكام الإسلام، أو لا يوجد لديهم ما يمنعهم من إظهار أحكام الإسلام". 1 ولكن يرد عليه: بأن البلاد التي يتسلط عليها الكفار ويحكمونها وهم أهل الحل والعقد فيها ولو كان سكانها أغلبهم من المسلمين لا تكون دار إسلام، لأن المسلمين وإن كثروا فيها فهم مغلوب على أمرهم، ما دامت السلطة ليست بأيديهم، فهم وإن استطاعوا أن يقيموا بعض الشعائر الإسلامية، لكن تحت ضغوط كافرة، متى رأوا ما لا يرضيهم من المسلمين منعوهم من إظهار شعائر الإسلام، وشردوهم، وقتلوهم، وهذا هو عين الحقيقة في وقتنا الحاضر في الدول التي يتسلط عليها أعداء الله وغالبية سكانها من المسلمين، بل تصل نسبة المسلمين في بعض الدول إلى 70 ? وثمانين في المائة لكن السلطة في هذه الدولة ليست لهم وإنما هي لأعدائهم متى رأوهم أظهروا شعائر دينهم وما لا يرضيهم قضوا عليها وعليهم، فكيف يمكن أن نقول بأن هذه الدار التي يتسلط عليها الكفار وفيها سكان من المسلمين بل ربما كانوا هم الأكثر، دار إسلام.   1 انظر: التشريع الجنائي الإسلامي 1/275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال عبد الوهاب خلاف: "بأنها الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام ويأمن من فيها بأمان المسلمين سواء كانوا مسلمين أو ذميين".1 قلت: ولا يمكن إجراء أحكام الإسلام في البلاد التي يحكمها ويتسلط عليها الكفار، ولا تجري أحكام الإسلام إلا في البلاد التي يتسلط عليها ويحكمها المسلمون. وقال صاحب القاموس الإسلامي: "دار الإسلام لفظ اصطلاحي يقصد به البلاد التي تخضع لحاكم مسلم، ينفذ فيها أحكام الشريعة الإسلامية، ويسكنها المسلمون وغير المسلمين".2 وفي معجم لغة الفقهاء: "دار الإسلام هي البلاد التي غلب فيها المسلمون وكانوا فيها آمنين يحكمون بأنظمة الإسلام".3 قلت: ولا يمكن أن يأمن المسلمون وتغلب أحكامهم في الدار التي يتسلط عليها الكفار، فغلبة الأحكام تأتي تبعاً للسلطة، ولأن الأحكام الإسلامية لن تغلب ولن تظهر، الظهور الحقيقي إذا لم تكن السلطة في الدار للمسلمين، فالسلطة وغلبة الأحكام شرطان لا ينفك أحدهما عن الآخر. هذه هي تعاريف لبعض العلماء المتقدمين والمتأخرين لدار الإسلام.   1 انظر: السياسة الشرعية أو نظم الدولة الإسلامية ص 69. 2 انظر: القاموس الإسلامي 2/320. 3 انظر: معجم لغة الفقهاء ص 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 والناظر في هذه التعاريف يتضح له أن العلماء لاحظوا معنى السيادة وغلبة الأحكام في غالب تعاريفهم وإن كان البعض لا يشترط السيادة والسلطة وتكفي عنده غلبة الأحكام ولكن هذه الأقوال مردودة كما سبق. فإذا تحققت السيادة والسلطة للمسلمين على أرض وغلبت فيها أحكامهم فهي دار إسلام. وخلاصة هذه التعاريف أن دار الإسلام هي الدار التي يحكم فيها بشريعة الله، وتظهر فيها أحكام الإسلام، ولا يمكن ظهور أحكام الإسلام فيها إلا إذا كان الحاكمون لهذه الدار مسلمين ملتزمين بالشريعة الإسلامية مطبقين لأحكامها، والمقصود بظهور أحكام الإسلام، أن تكون أحكام الله هي الغالبة وكلمة المسلمين هي النافذة، تقام شعائر الإسلام وأركانه، وتطبق أحكام الجرائم على مرتكبيها كالحدود والقصاص، ويؤخذ للمظلوم حقه من الظالم، وترفرف راية التوحيد، وتنكس أعلام الشرك، بمعنى أن النظام العام الذي يحترم ويقدر ويرجع إليه هو حكم الإسلام لا حكم الكفر.1 فالشرط الجوهري والأساسي لاعتبار الدار دار الإسلام هو كونها محكومة بحكم الشريعة الإسلامية وتحت سيادة المسلمين وسلطانهم ولا يشترط أن يكون سكان هذه الدار كلهم أو معظمهم من المسلمين، ما   1 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 دام السلطان فيها للمسلمين وتجري فيها الأحكام الإسلامية. وفيها يقول الرافعي: "ليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون، بل يكفي كونها في يد الإمام وإسلامه 1، فالدار تعتبر دار إسلام ولو كان جميع سكانها من أهل الذمة ما دام الحكم والسيادة وتطبيق الأحكام فيها للمسلمين". وهكذا يتضح لنا أن العبرة في كون الدار داراً إسلامية ليست بكثرة من ينتسب إلى هذه الدار، وإنما هي بمن يسود هذه الدار، والنظام العام الذي يطبق فيها، وإن كانت نسبة المسلمين فيها قليلة. فإذا ساد المسلمون بلداً أغلب سكانه كفاراً واستطاعوا أن يقيموا في هذا البلد أحكام الإسلام، وهم أقل من سكانه فإنه يكون بإقامة تلك الأحكام دار إسلام ولا دار كفر، وكذلك العكس إذا استولت شرذمة من الكفار على بلد أغلب سكانه من المسلمين، فأقامت تلك الشرذمة في هذا البلد أحكام الكفر، فإنه يصير بإقامة تلك الأحكام دار كفر، ولا دار إسلام. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ألبانيا وبعض الدول الأخرى التي أغلب سكانها من المسلمين، ولكن السلطة فيها وغلبة الأحكام للكفر، وبذلك لا يمكن أن نطلق على هذه الدول ومن نهج منهجها في تطبيق أحكام الكفر وعدم الاعتراف بحكم الله في أي جزء من أجزاء الأرض،   1 فتح العزيز 8/14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 على أنها من دار الإسلام، بل دار كفر، لأنهم وإن أذنوا لأولئك المسلمين بتطبيق بعض الأحكام الإسلامية، فإنما يخدعونهم بذلك، لأنهم لا يرون من تطبيقها ضرراً على حكمهم الكافر، وإذا رأوا ما لا يرضيهم من المسلمين، بذلوا الوسع والطاقة، في القضاء عليهم وعلى أحكامهم. ولكن لا يلزم من إطلاق اسم دار الكفر على ألبانيا ومن سلك مسلكها، كفر سكانها من المسلمين. كما أن بعض الديار معظم سكانها من غير المسلمين فيستولي عليها المسلمون، ويطبقون فيها أحكام الإسلام فتنقلب دار إسلام، وهكذا لا اعتبار بالقلة والكثرة. فالبلاد التي يحكمها ويتسلط عليها الطواغيت من الكفرة الفجرة، والغلبة فيها لأحكامهم مع قلتهم، وليست للمسلمين مع كثرتهم، والاستضعاف فيها من القلة الكافرة الغالبة، للكثرة المسلمة المغلوبة، فكيف يمكننا أن نطلق على تلك البلاد دار إسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .1 ولا بأس أن نسمي تلك الدول التي يكثر فيها المسلمون ولكن السلطة وغلبة الأحكام للكفار، بلاداً إسلامية، تجاوزاً، وحثاً للمسلمين   1 النساء: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 على السعي الجاد، لإظهار أحكام الإسلام فيها، وجهاد حكامها الكفرة، وإزالة عروشهم التي تسلطوا بها على المسلمين، أما أن نسمي تلك البلدان التي يتسلط عليها الحكام الكفرة، والغلبة فيها لأحكامهم الشركية مع قلتهم، وليست للمسلمين مع كثرتهم، دوراً إسلامية، بمعنى أنه لا فرق بينها وبين دار الإسلام التي يحكمها المسلمون، وتغلب فيها الأحكام الإسلامية، فهذا هو التحريف بعينه، والسبب الذي جعل سكان تلك البلدان من المسلمين، يسترخون، ويتكاسلون، وينامون عن إعداد العدة، والقيام بجهاد طغاة الكفر في بلدانهم، لينالوا السلطة، ويطبقوا أحكام الشريعة الإسلامية فيها.1 ومما ينبغي العلم به أن أحكام الإسلام لا يمكن ظهورها ووجودها في بلد يحكمه الكفار، إلا إذا عني بالظهور هو ظهور بعض الشعائر بعد الإذن من حكام الكفر تفضلاً منهم، وبهذا لا يجوز لنا أن نطلق على تلك البلاد التي لا تزهر فيها أحكام الإسلام، إلا بعد الإذن، والتفضل من طغاة الكفر، دار إسلام. لأن إظهار أحكام الإسلام وتطبيقها في تلك البلدان لا بد لها من سلطان إسلامي يحميها من الاعتداء عليها بإلغائها، وعلى أهلها بقتلهم، وتشريدهم، وما دام أنه لا يوجد في تلك البلدان سلطان للمسلمين يستطيعون به إظهار أحكام دينهم، في كل شؤونهم وحماية أحكامه،   1 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/605، 606. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وأنفسهم، من الاعتداء عليها، فإنهم معرضون في أي وقت للاعتداء عليهم، والحول بينهم وبين إظهار أحكامهم الإسلامية. فالسلطة، والهيمنة الإسلامية، شرط أساسي أولي، لأن تكون الدار دار إسلام، والشرط الثاني هو تطبيق الأحكام الإسلامية ويأتي تبعاً للشرط الأول، فما دام أن الحاكم مسلم، والسلطة والهيمنة بيده، فبلا شك أن راية الإسلام سترتفع وأحكامه ستطبق بدون إعاقة. وعلى العكس من ذلك إذا كان الحاكم كافراً، والسلطة والهيمنة بيده، فلا ترتفع راية الإسلام ولن تطبق أحكامه. فالبلد الذي غالب سكانه من المسلمين، ويجرون فيه بعض الأحكام الإسلامية، ولا يكفي ذلك لأن تكون تلك البلد دار إسلام، ما دام أن السلطة فيها للكفار وغلبة الأحكام لهم. أما ما نقل عن بعض الحنفية أن الدار تعتبر دار إسلام إذا كان المسلمون فيما آمنين، والكفار خائفين، فالحكم عندهم مبني على الأمان والخوف لا على الإسلام والكفر. وفي هذا يقول الكاساني: "إن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام، أو الكفر، ليس هو عن الإسلام، أو الكفر، وإنما المقصود هو الأمن، أو الخوف. ومعناه أن الأمان إن كان للمسلمين على الإطلاق، والخوف للكفرة على الإطلاق، فهي دار إسلام، والعكس بالعكس، والأحكام مبنية على الأمان والخوف لا على الإسلام والكفر، فكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 اعتبار الأمان والخوف أولى".1 فالظاهر أنه موافق لما قاله الجمهور. وقد اعتبر هذا بعض العلماء أنه مخالف لما قاله الجمهور، من أن الدار تعتبر دار إسلام إذا ظهرت فيها الأحكام الشرعية الإسلامية، وكانت السلطة فيها إسلامية، ولو كان معظم سكانها من غير المسلمين، ولكني أقول أنه لا أمان للمسلمين في أي بلد إذا لم تكن السلطة والسيطرة لهم، ولن يتمكنوا من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، والتطبيق الحقيقي إذا لم تكن السيادة والهيمنة، في تلك البلد لهم. وبهذا يكون ما نقل عن بعض الحنفية موافق لما قاله الجمهور، وما ذكره الكاساني من أنه لاعتبار بالإسلام أو الكفر، هو عين ما ذكره الجمهور، بأنه لا اعتبار بكثرة المسلمين وقلتهم، فالشرط الأساسي لاعتبار الدار دار إسلام هو غلبة الأحكام الإسلامية فيها، وسيطرة وتسلط المسلمين عليها، ولو كان المسلمون قلة والكافرون كثرة.   1 انظر: بدائع الصنائع 7/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الفرع الثاني: الدور التي تشملها دار الإسلام والتي لا تشملها أولا: دار العدل تعتبر هذه الدار من دار الإسلام، لأن العدل قائم فيها بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بين جميع أهلها بالمساواة بينهم.1 ثانيا: دار أهل الذمة إذا انفردوا بدار لوحدهم تعتبر من دار الإسلام وقد صرح الفقهاء أن الذميين من أهل دار الإسلام. فقال الكاساني: "الذمي من أهل دار الإسلام"2 ومعنى هذا أن الذميين يعتبرون من أفراد شعب دار الإسلام، حتى ولو انفردوا بدار لوحدهم، فهم من تبعة هذه الدار ويتمتعون بكامل الحرية في دار الإسلام كالمسلمين، بعد تنفيذ الشروط التي تشترط عليهم عند عقد الذمة. وقال السرخسي: "لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة، فقد التزموا دفع الظلم عنهم وهم صاروا من أهل دار الإسلام".3 وقال ابن الهمام: "ولأنه بعقد الذمة صار من أهل الدار".4 وقال ابن قدامة:"الذمي من أهل الدار التي تجري عليه أحكامها"5   1 آثار الحرب في الفقه الإسلامي 170. 2 انظر: بدائع الصنائع 5/281. 3 انظر: المبسوط 10/81. 4 انظر: فتح القدير 4/375. 5 انظر: المغني لابن قدامة 5/516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقال ابن حزم: "ودارهم أي دار أهل الذمة دار الإسلام لا دار شرك".1 وبهذا يتضح أن الفقهاء متفقون على أن أهل الذمة يعتبرون من أهل دار الإسلام، وإذا انفردوا بدار لوحدهم كانت دارهم هذه من دار الإسلام لأنها تجرى عليها الأحكام الإسلامية وتحت سلطان المسلمين. ومما ينبغي الإشارة إليه أن العلماء يعتبرون كل دور الإسلام دار واحدة ولو اختلف حكامها، أو شعبها، أو لهجاتها، وصارت دولا شتى، فلا تأثير لذلك كله ما دامت تخضع لأحكامها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبناء على هذا تكون الدور الإسلامية، وطن لكل مسلم مهما كانت جنسيته، وحيثما كان ميلاده، يتمتع فيها بكامل الحرية الإسلامية، وفي هذا يقول الماوردي: "ودار الإسلام تعتبر وطن المسلمين جميعا وكذلك الذميين، باعتبارها إقليم الدولة ذات السلطة المركزية الموحدة".2 أما الدور التي لا تشملها دار الإسلام: فهي: أولا: دار الردة: المرتد هو: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر سواء ولد على فطرة الإسلام أو أسلم بعد أن كان كافرا.3   1 المحلى لابن حزم 13/140. 2 الأحكام السلطانية للماوردي ص 7. 3 المغني والشرح الكبير 10/74، وقوانين الأحكام ص 394، والهداية 2/164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فإن كانت الردة من جماعة وانحازوا إلى دار ينفردون بها عن المسلمين، حتى يصيروا فيها ممتنعين، فتصبح دارهم دار ردة، ويجب قتالهم على ردتهم بعد الإنذار، وإيضاح دلائل الإسلام، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه عندما قاتل المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أرجعهم إلى الإسلام. فدارهم لا تعتبر دار إسلام. ثانيا: دار البغي: هي الدار التي تفرد بها جماعة من البغاة الخارجين عن طاعة الإمام بحجة تأولوها، ويرون أن الإمام على باطل، يوجب قتاله في نظرهم ثم أنهم تحصنوا في تلك الدار، وأقاموا عليهم حاكما منهم وصار لهم بها جيش وقوة.1 فهؤلاء البغاة إن أمكن مصالحتهم، ودفع شرهم، بالعدالة وتبيين الطريق الحق لهم الذي يجب أن يتبعوه، فلا يجب على الإمام مقاتلتهم وإن لم يمكن ذلك وجب على الإمام مقاتلتهم حتى ترجع هذه الفئة الباغية إلى دين الله. كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} .2 فدارهم إذا انفردوا بها لا تكون دار إسلام.   1 آثار الحرب ص 170. 2 الحجرات: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام من غير المسلمين المبحث الثاني: في سكان دار الإسلام يسكن دار الإسلام نوعان من الناس: النوع الأول: المسلمون وبيانهم لا يحتاج إلى تعريف. النوع الثاني: غير المسلمين - المعاهدون وهم على صنفين: المطلب الأول: الصنف الأول الذميون وفيه ثمانية فروع: الذميون وهم غير المسلمين الذين يلتزمون أحكام الإسلام العامة، ويدفعون الجزية، ويقيمون إقامة مؤبدة في دار الإسلام. ولسكان دار الإسلام سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين كالذميين والمستأمنين العصمة في أنفسهم وأموالهم، لأن العصمة في السريعة الإسلامية تكون بأحد أمرين بالإيمان أو الأمان، ومعنى الإيمان الإسلام فمن أسلم فقد عصم دمه وماله بالإسلام. لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وما جئت به، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".1 فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في هذا الحديث أن من نطق بالشهادتين فهو معصوم الدم والمال.   1 أخرجه البخاري 1/243 باب وجوب الزكاة، ومسلم (1/52) كتاب الإيمان حديث 34. واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ومعنى الأمان العهد، ويكون بعقد الذمة، وبالموادعة، والهدنة، ومن دخل في أمان المسلمين بعقد من عقود الأمان، فقد عصم دمه، وماله، بالأمان ولو بقي على غير دين الإسلام. فسكان دار الإسلام من المسلمين تحصل عصمة دمائهم وأموالهم، بالإسلام. وسكان دار الإسلام من غير المسلمين من الذميين والمستأمنين تحصل عصمة دمائهم وأموالهم بالأمان.1   1 بدائع الصنائع 7/102، ومواهب الجليل 6/231، وأسنى المطالب 4/218، والشرح الكبير مع المغني 10/630، والتشريع الجنائي الإسلامي 1/276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الفرع الأول: تعريف الذمة والمراد بأهلها تعريف الذمة في اللغة: الذمة في اللغة هي: العهد والأمان، والضمان والكفالة. من أذمه يذمه إذا جعل له عهداً، وقولهم هذا في ذمة فلان أي في عقده وعهده، وقولهم في ذمتي كذا أي في ضماني، والجمع ذمم. وسمي الذمي ذمياً، لأنه يدخل في أمان المسلمين وعهدهم.1 قال ابن الأثير: الذمة العهد والأمان والضمان. وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.2 وقال أبو عبيد: "الذمة الأمان3 لقوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم".4   1 كشاف اصطلاحات الفنون 2/324، وتاج العروس 8/301، وترتيب القاموس 2/268، والكليات 2/346، ومعجم مقاييس اللغة 2/346، وبصائر ذوي التمييز 3/18، والقاموس المحيط 4/115، والمعجم الوسيط 1/315، ومنال الطالب في شرح طوال الغرائب ص 69، 223. 2 انظر النهاية لابن الأثير 2/168. 3 المبدع 3/404 وكشاف القناع 3/116. 4 أخرجه البخاري 2/203 كتاب الجهاد باب ذمة المسلمين ومسلم 2/998 كتاب الحج باب فضل المدينة حديث 467 - 470 بلفظ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقال الجرجاني: "الذمة لغة العهد لأن نقضه يوجب الذم".1 أما تعريف عقد الذمة شرعاً: فهو إقرار الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام الأحكام الإسلامية.2 وأهل الذمة هم الذين يسكنون دار الإسلام من غير المسلمين بعقد مؤبد، يعقده الإمام أو نائبه، ويخضعون به للأحكام الإسلامية، ويؤدون الجزية، مقابل الحفاظ على أرواحهم، وأعراضهم، وأموالهم، من قبل المسلمين. وقد أطلق عليهم لفظ أهل الذمة إشارة إلى أنهم في ذمة المسلمين وعهدهم. ولأنهم عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله ما داموا مقيمين في دار الإسلام. وأهل الذمة كما يرى الكثير من الفقهاء من أهل دار الإسلام، ومن ثم يعدون من الرعايا الذين يقيمون في دار الإسلام. وإذا انفردوا بدارهم فيطلق على دارهم هذه أنها دار إسلام لأنها محكومة باسمه، وحاكمها مسلم، ينفذ الأحكام الإسلامية العامة على أهل الذمة.   1 التعريفات للجرجاني ص 51. 2 المبدع 3/404، ومطالب أولي النهي 2/561، والإنصاف 4/217، وكشاف القناع 3/116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الفرع الثاني: في مشروعية عقد الذمة مع بيان الحكمة من مشروعية عقدها لقد ثبت مشروعية عقد الذمة بالكتاب والسنة والإجماع: أولاً: دليل المشروعية من الكتاب: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .1 وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، يأمرنا بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى - الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يتبعون شرعه فيما حرم من المحرمات، ولا يدينون دين الإسلام - حتى ينطقوا بالشهادتين ويدخلوا في الإسلام عقيدة وعبادة، أخلاقاً ومعاملة، فإن أجابوا الدخول في الإسلام كانوا من المسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من الحقوق والواجبات. أما إن رفضوا الدخول في الإسلام طولبوا بإعطاء الجزية عن ذل وهوان، والخضوع للأحكام الإسلامية العامة، ويتركون على دينهم دون التعرض لهم بشيء.   1 التوبة: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ثانياً: دليل المشروعية من السنة: 1- ما روى عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: لجند كسرى يوم نهاوند1 "أمرنا نبينا ورسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية".2 وجه الدلالة من الحديث: في هذا الحديث يخبرنا المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. وقال الشوكاني: "فيه إخبار من المغيرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المجوس حتى يعطوا الجزية".3 2- عن بريدة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين خيراً وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".4   1 نهاوند: مدينة عظيمة في قبلة همذان بينهما ثلاثة أيام كان فتحها سنة 21 في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: معجم البلدان 5/313. 2 أخرجه البخاري 2/201 كتاب الجهاد باب الجزية. 3 انظر: نيل الأوطار 8/57. 4 أخرجه مسلم 3/1356 كتاب الجهاد باب تأمير الأمراء على البعوث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا في الحديث أن المسلم إذا لقي عدوه من المشركين خيره بين خصال ثلاث: إما الدخول في الإسلام، فإذ أجابوا كف عن قتالهم، وإن لم يجيبوا طلب منهم إعطاء الجزية، فإن أجابوا كف عن قتالهم، فإن بم يجيبوا الدخول في الإسلام أو إعطاء الجزية استعان بالله وقاتلهم. 3- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وشكوه إلى أبي طالب فقال: "يا ابن أخي ما تريد من قومك قال: "أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، قال كلمة واحدة؟ قال: كلمة واحدة قولوا لا إله إلا الله، قالوا: إلهاً واحداً ما سمعنا بهذا قي الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى قوله {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} ".1 وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لقريش أنهم إن أسلموا وقالوا لا إله إلا الله تدين لهم العرب بالإسلام، وتؤدي إليهم الجزية من غير العرب وهم العجم إذا لم يسلموا.   1 أخرجه أحمد 1/227- 362. والترمذي 4/180 وقال حديث حسن، والآيات 1/7 من سورة ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ثالثاً: الإجماع: أجمع العلماء على مشروعية عقد الذمة وأخذ الجزية من غير المسلمين من أهل الكتاب اليهود والنصارى ومن المجوس.1 قال ابن مفلح: "الإجماع قائم على قبول الجزية لمن بذلها من أهل الكتاب ومن يلحق بهم وإقرارهم بذلك في دار الإسلام".2 ج- الحكمة من مشروعية عقد الذمة: إن الحكمة التي من أجلها شرع عقد الذمة مع غير المسلمين، هو أن هذا العقد قد يحملهم على الدخول في الإسلام لمخالطتهم للمسلمين والتعرف على آداب الإسلام، ومحاسنه، وليس المقصود من عقدها تحصيل المال فحسب.3 قال صاحب مغني المحتاج: "وليست الجزية مأخوذة في مقابلة الكفر ولا التقرير عليه، بل هي نوع إذلال لهم، ومعونة لنا، وربما ذلك يحملهم على الدخول في الإسلام مع مخالطة المسلمين الداعية إلى معرفة محاسن الإسلام.4   1 بدائع الصنائع 7/110، 111، وأسهل المدارك 2/6، ومغني المحتاج 4/242، والمغني 8/496. 2 انظر: المبدع لابن مفلح 3/405. 3 المبسوط10/77، وفتح الباري 6/259، ونيل الأوطار 8/58. 4 انظر: مغني المحتاج 4/242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الفرع الثالث: في بيان معنى الجزية وكيفية أخذها أما الجزية فهي مشتقة من الجزاء إما جزاءاً على كفرهم لأخذها منهم صغاراً وهذا هو المعنى الصحيح. أو جزاءً على أماننا لهم، وهي على وزن فعلة من جزى يجزي إذا قضى قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} 1 وتقول العرب جزيت ديني إذا قضيته.2 أما الجزية في الشرع: فهي المال المأخوذ من الذميين على وجه الصغار كل عام، بدلاً عن حمايتهم وإقامتهم بدار الإسلام.3 وبعد أن عرفنا معنى الجزية التي هي شرط من شروط عقد الذمة نتعرف إلى كيفية إعطائها، وقد بين الله سبحانه وتعالى هذه الكيفية عندما قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 4 أي أذلاء مقهورين مهانين. فالآية توضح أن الجزية وضعت صغاراً وإذلالاً للكفار، وعقوبة لهم   1 البقرة: 48. 2 لسان العرب 14/147، والمصباح المنير 1/100، والأحكام السلطانية للماوردي ص 142 والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 137. 3 المقدمات الممهدات 1/279، والمغني 8/459، وأحكام أهل الذمة 1/22، والمبدع 3/404، وكشف القناع 3/111. 4 التوبة: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 على كفرهم، فالكافر عندما يرفض عزة الإسلام ورفعته، ويرضى بمذلة الكفر وإهانته، تعينت بحقه العقوبة ليحصل بها زجره عن كفره، وهذه العقوبة على نوعين: وهو لا يخرج عن أحدهما عقوبة خفيفة وهي إعطاء الجزية عن صغار وإذلال، وعقوبة أشد وهي عقوبة القتل، حتى أن بعض العلماء كالقاضي أبي يعلى قد صرح بأنه إذا لم يتحقق بحق الكافر الذل والهوان لا تعقد معه الجزية. أما ما قاله علماء الإسلام عن معنى الصغار المذكور في آية الجزية فهو على النحو التالي: فقال المفسرون عن معنى الصغار بأنه الذل والهوان. فقال الرازي: " {وَهُمْ صَاغِرُونَ} فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار وهو الذل والهوان".1 وقال ابن الجوزي: "الصاغر الذليل الحقير".2 وقال ابن كثير: " {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تلك الشروط   1 انظر: التفسير الكبير 16/30. 2 انظر: زاد المسير في علم التفسير 3/421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 المعروفة في إذلالهم، وتصغيرهم، وتحقيرهم.1 وقال الطبري: " {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاء مقهورين يقال للذليل الحقير صاغر".2 وقال الكيا الهراس3:"الصغار هو النكال وصف بذلك لأنه يصغر صاحبه بأن يدفعوها عن قيام والآخذ لها قاعد ويعطيها بيده ماشياً، غير راكب، إلى الوالي الطالب. وفائدة هذين الشرطين الفرق بين ما يوجد منهم مع كفرهم وبين ما يوجد من المسلمين من الزكاة فكما يقترن بالزكاة المدح والإعظام والدعاء له. فيقترن بالجزية الذل والذم، ومتى أخذت على هذا الوجه كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر، فهو أصلح في الحكمة، وأولى بوضع الشرع".4 وقال الشوكاني: "الصغار الذل، والمعنى أن الذمي يعطي الجزية   1 انظر: تفسير القرآن العظيم 2/347. 2 انظر: جامع البيان 10/109. 3 هو عماد الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراسي، من علماء الشافعية تفقه على إمام الحرمين ولد بخراسان سنة 450هـ، وتوفي سنة504 ببغداد، له تصانيف عديدة منها أحكام القرآن. انظر: وفيات الأعيان 1/590، وشذرات الذهب 4/908. 4 انظر: أحكام القرآن، للكياهراس 3/190، 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 حال كونه ضاغراً، قيل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمستلم قاعد، وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسَلَّم لها حال قبضها صاغراً ذليلاً".1 وقال النيسابوري: "صاغرون معناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل، والصغار بهم، والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الأذى، فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام، وذل الكفر، ويسمع الدلائل، فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام".2 ووافقهم المحدثون وشراح الحديث على هذا المعنى: فقال الإمام البخاري في صحيحه بعد أن ذكر آية الجزية: "صاغرون يعني أذلاء".3 وقال ابن حجر: "الصاغر الذليل الحقير".4 وقال صاحب تحفة الأحوذي: "صاغرون ذليلون حقيرون".5 وهذا المعنى هو الذي فهمه علماء الفقه، إلا أن البعض قال: بأن الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم.   1 فتح القدير للشوكاني 2/351. 2 غرائب القرآن 10/70. 3 صحيح البخاري 2/200. 4 فتح الباري 6/255. 5 تحفة الأحوذي 5/210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وفي هذا يقول ابن الهمام: "الجزية وجبت عقوبة على الكفر، ولهذا سميت جزية، وهي والجزاء واحد، وهو يقال على الثواب بسبب الطاعة، وعلى العقوبة بسبب المعصية، ولا شك في انتفاء الأول ولهذا أخذت بطريق الإذلال، بل هذا ضروري من الذين فتعين أنها عقوبة على معصية الكفر1، ووافقه غيره من فقهاء الحنفية.2 وقال فقهاء المالكية: "بأن الصغار هو الإذلال".3 أما فقهاء الشافعية: فقال البعض تؤخذ الجزية على سبيل الصغار لهم، وهو الإذلال، والإهانة، بأن يكون الذمي قائماً، والمتسلم الذي يأخذها جالساً، لأنها في مقابلة تقريرهم على الكفر.4 وقال البعض الآخر بأن الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم لامتناعهم عن الإسلام، فإذا جرى عليهم حكمه، فقد أصغروا، أي أذلوا وأهينوا.5 وقال الماوردي: "صاغرون لها تأويلان: أحدهما أذلاء مستكنين، والثاني: أن تجري عليهم أحكام الإسلام".6   1 فتح القدير 5/296. 2 المبسوط 10/81، والاختيار 4/139. 3 المقدمات 1/285. 4 حاشية الشرقاوي 2/492، وروضة الطالبين 10/315. 5 الأم 4/176 والمهذب 2/325، وروضة الطالبين 10/316. 6 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وأيضاً فقهاء الحنابلة فهموا من الصغار بأنه الذل والهوان وأن الجزية عقوبة واجبة بسبب الكفر.1 فقال البهوتي: "الصغار الذلة والامتهان".2 وقال ابن القيم: "عن يد في موضع نصب على الحال أي يعطوها أذلاء مقهورين، وهذا هو الصحيح في الآية، وعليه جميع الناس، وأبعد كل البعد، ولم يصب مراد الله من قال المعنى عن يد منهم أي عن قدرة على أدائها، فلا تؤخذ من عاجز عنها، وهذا المعنى غير صحيح وحمل الآية عليه باطل، ولم يفسر به أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا سلف الأمة، وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين. وقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حال أخرى، فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم، أن يأخذوها بقهر وعن يد، والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغر ذليل".3 وروي عن الإمام أحمد أنه قال: كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يؤدوا الصغار الذي قال الله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . وقال في رواية أخرى: يستحب أن يتعبوا في الجزية، قال القاضي ولم يرد تعذيبهم، ولا تكليفهم فوق طاقتهم، وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم.4   1 المغني 8/503، 511، والمبدع 3/405. 2 انظر: كشاف القناع 3/117. 3 انظر: أحكام أهل الذمة 1/23 - 24. 4 نفس المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وقال الظاهرية: "الصغار هو أن يجري حكم الإسلام عليهم وأن لا يظهروا شيئاً من كفرهم، ولا مما يحرم في دين الإسلام".1 وقد اتفقت أيضاً أقوال أهل اللغة على أن الصغار هو الذل والهوان، والحقارة، والصاغر الراضي بالذل.2 وفي هذا يقول الراغب: "الصغار الذل والصاغر الراضي بالمنزلة الدنية".3 وقال ابن الأثير: "الصغار الذل والهوان".4   1 المحلى لابن حزم 7/346. 2 لسان العرب 4/459، والقاموس المحيط 2/72، ومختار الصحاح ص 364، والمصباح المنير 1/341، والمعجم الوسيط 1/515، ومعجم لغة الفقهاء ص 274. 3 المفردات ص 275. 4 النهاية لابن الأثير 2/117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الفرع الرابع: حالة الكافر عند إعطاء الجزية والرد على من قال إن الصغار ليس هو الذل والهوان وخلاصة الكلام أن الكفار عند إعطاء الجزية لهم حالتان: الحالة الأولى: حالة المسلمين في أخذ الجزية منهم وهي أن يأخذوها على سبيل الله القهر والعزة. الحالة الثانية: حالة الدافع لها وهو أن يدفعها وهو صاغر ذليل وحقير. وأيضاً فإن العلماء جميعاً قد اتفقوا على أن الصغار الذي ذكره الله في كتابه هو الذل والهوان. والسبب في احتقار وإذلال الدافع للجزية هو كفره بالله، لأن الكفر يذل صاحبه ويحقره. فالكافر عندما يدعى إلى الإسلام الذي فيه العزة والرفعة، والذي فيه السعادة الدنيوية والأخروية لجميع البشر، قال تعالى: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} .1، وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} .2، ويرفض عزة الإسلام ورفعته، ويرضى بمذلة الكفر وحقارته،   1 النساء: 139. 2 المنافقون: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فمن أجل ذلك يكون ذليلاً ومهاناً عند إعطاء الجزية، التي هي عقوبة على الكفر، فإذا كان الكفر ذلاً وحقارةً فكيف بصاحبه الذي يرتضيه دينا ويأبى سواه وهو الإسلام ذو الرفعة والعزة والكرامة. وما قيل من أن الصغار ليس هو الذل والهوان كما قال النووي: "تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة ومردودة على من اخترعها وهي بأن الصغار الذل والهوان" 1. وقد وافقه الكثير من العلماء المعاصرين على أن الجزية ليست عقوبة ولوناً من ألوان العقاب على الكفر أو عدم الإيمان بالله، وليست إذلالاً لغير المسلمين وإنما هي كرامة لأهل الكتاب.2 ولكن يمكن أن يقال لمن قال: بأن الصغار ليس المراد به في الآية الذل والهوان بأن الذل والهوان هو المعنى الدائم الصغار لا ينفك عنه، وهذا هو ما اتفقت عليه أقوال جماهير أهل العلم. حتى أن البعض قال: إن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار وهو الذل والهوان. فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية، منافية للذل والهوان، بأن كانت حالته يتكبر، ويتبختر عند إعطاء الجزية، فلا عصمة لدمه، ولا ماله، وليست له ذمة، ومن هذا شرط عليهم الفاروق عمر بن   1 انظر: روضة الطالبين 10/316. 2 انظر: آيات الجهاد، لكامل الدقس ص 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة التي فيها صغارهم وإذلالهم.1 وبهذا يتضح لنا ضعف قول من قال بأن الصغار ليس المراد به في الآية الذل والهوان، لأن قولهم هذا مخالف لما دلت عليه النصوص والفهم الصحيح، ومخالف لأقوال عامة أهل العلم بأن الجزية عقوبة بسبب الكفر، وأن الدافع لها يجب أن يكون صاغراً ذليلاً مهاناً، لأنه لا عزة ولا سعادة ولا كرامة إلا بالإسلام، والقول بأن الجزية كرامة لأهل الكتاب قول باطل. وقد ذكر الله الصغار وهو بمعنى الذل والهوان في غير آية الجزية حيث قال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} 2 صغار: أي ذل وهوان. وقال تعالى: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين} 3 أي الذليلين الحقيرين. وقال تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} 4 أذلاء مقهورين. وقال تعالى: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} 5.   1 أحكام أهل الذمة 1/24، 25. 2 الأنعام: 124. 3 الأعراف: 13. 4 الأعراف: 119. 5 النمل: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فكل هذه الآيات توضح آية الجزية، وتشهد لها بأن الصغار هو الذل والهوان، ومما يدل على هذا المعنى أن الجزية تسقط بالإسلام، فإذا أسلم الذمي زال عنه الذل، والهوان، لأن الإسلام دين العزة والكرامة فيزيل هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الفرع الخامس: في الذي يتولى إبرام عقد الذمة من المسلمين اتفق الفقهاء على أن الذي يتولى إبرام عقد الذمة هو الإمام أو نائبه، لأنه عقد مؤبد، وللتأبيد خطورته وآثاره على الأمة الإسلامية لذا فإنه يحتاج أن يكون العاقد حسن التصرف ذا تقدير للمصلحة العامة للمسلمين، وهذا لا يمكن حصوله إلا من الإمام أو من يقوم مقامه.1 قال ابن قدامة: "ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه، ولا نعلم فيه خلافاً، لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولأن عقد الذمة عقد مؤبد، فلم يجز أن يفتات به على الإمام فإن فعله غير الإمام أو نائبه لم يصح".2 وقال الشيرازي: "لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو ممن فوض إليه الإمام، لأنه من المصالح العظام، التي تحتاج إلى نظر واجتهاد".3 وقد ذهب بعض المالكية إلى أنه إن تولى عقد الذمة غير الإمام تحقق مقتضاه فيأمنون ويسقط عنهم القتل والأسر، لكن استمرار هذا العقد منوط بتقدير الإمام لأنه صاحب الحق في إمضائه أو إبطاله".4   1 المبسوط10/77،الخرشي 3/143،ومغني المحتاج4/242، وكشف القناع 3/117. 2 المغني 8/505. 3 المهذب 2/325. 4 الخرشي 3/166، وحاشية الدسوقي 2/201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 والراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء أنه لا يبرم عقد الذمة مع غير المسلمين إلا الإمام أو نائبه، لأن عقد الذمة عقد مؤبد، يصير به غير المسلمين من أهل دار الإسلام، وتلتزم دولة الإسلام بالحفاظ عليهم، وحمايتهم من التعرض لأرواحهم أو أعراضهم أو أموالهم، وأيضاً هم يلزمون بإعطاء الجزية، والخضوع لأحكام الإسلام العامة، فجميع هذه الأمور تحتاج إلى رجل حسن التصرف، ذي هيبة، وهذا لا يتوافر إلا في الإمام أو نائبه لأنهما يمثلان دولة الإسلام. صورة هذا العقد أن ينعقد بإيجاب وقبول كسائر العقود الأخرى، فينعقد باللفظ وما يقوم مقامه. وهذا ما صرح به الفقهاء: فقال الشيرازي: "صورة عقدها - أقركم بدار الإسلام، أو أذنت في إقامتكم بها على أن تبذلوا الجزية".1 وقال ابن مفلح الحنبلي: "وصفة عقدها أقررتكم بجزية، أو يبذلونها، فيقول أقررتكم على ذلك".2 وقال النووي: "وكيفيته أن يقول الإمام أو نائبه أقررتكم، أو أذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام، على أن تبذلوا كذا، وتنقادوا لأحكام الإسلام".3   1 المهذب 2/325، ومغني المحتاج 2/242. 2 المبدع 3/413. 3 روضة الطالبين 10/ 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الفرع السادس: في شروط عقد الذمة اشترط الفقهاء لعقد الذمة شروطاً: منها: 1- أن يكون العقد مؤبداً فلا يصح أن يكون مؤقتاً أي محدداً بمدة معينة، وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية والشافعية. لأن عقد الذمة في إفادة العصمة والالتزام بأحكام الإسلام، كالخلف عن عقد الإسلام، والإسلام لا يصح إلا مؤبداً فكذا عقد الذمة.1 أما غيرهم من الفقهاء فلم يصرحوا بهذا الشرط فكأنهم تركوا التصريح باعتبار أن التأبيد من مقتضى عقد الذمة وطبيعته. فقد نصوا على أن عقد الذمة مؤبد، وإن لم يصرحوا بالاشتراط. فمثلا فقهاء الحنابلة وإن لم يصرحوا بهذا الشرط إلا أنهم وصفوا عقد الذمة بالتأبيد، أثناء الكلام عن من يتولى إبرام هذا العقد من المسلمين. فهذا البهوتي يقول: "لا يصح عقدها إلا من إمام، أو نائبه، لأنه عقد مؤبد".2   1 بدائع الصنائع 7/11، ومغني المحتاج 4/243، ونهاية المحتاج 7/231، والمهذب 2/325. 2 كشف القناع 3/116، 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقال ابن قدامة: "ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين".1 وهناك وجه ضعيف للشافعية أنه يصح عقد الذمة مؤقتاً.2 2- أن يلتزم أهل الذمة بإعطاء الجزية كل سنة لقوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . 3- أن يلتزم أهل الذمة بالخضوع لأحكام الإسلام العامة) .3 ومعنى التزام أحكام الإسلام هو قبول ما يحكم به عليهم، من أداء حق، أو ترك محرم، فيما عدا ما يرونه مباحاً عندهم، وهذان الشرطان قد صرح بهما فقهاء الشافعية والحنابلة. 4- ألا يكون المعقود معه عقد الذمة من مشركي العرب فإنهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف4 عند جمهور الفقهاء لقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون} 5 وهذا الشرط لم يخالف فيه إلا المالكية وبعض العلماء من المذاهب الأخرى.6   1 المغني 8/500. 2 مغني المحتاج 4/243. 3 المهذب 2/325 - 326، 327، والمغني 8/500، وكشاف القناع 3/117. 4 تبيين الحقائق 3/277، ومغنى المحتاج 4/244، والمغني 8/501. 5 الفتح: 16. 6 حاشية الدسوقي 2/201، والكافي لابن عبد البر 1/479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 5- ألا يكون المعقود له مرتداً عن الإسلام، لأن حكم المرتد عن الإسلام هو القتل، إذا لم يتب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 1. وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء.2   1 سبق تخريجه ص 98. 2 الهداية 4/171، والمقدمات 1/285، وتحفة المحتاج 9/277، والمغني 8/123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الفرع السابع: في من تعقد لهم الذمة اتفق الفقهاء على أن الذمة تعقد مع أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وكذلك المجوس وهم عبدة الكواكب والنار.1 وإذا عقدت الذمة لهم أخذت منهم الجزية، والدليل على جواز عقد الذمة وأخذ الجزية من أهل الكتاب قوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2 فهذه الآية الكريمة نص صريح في جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى. أما المجوس فقد ثبت جواز عقد الذمة لهم وأخذ الجزية منهم بفعله صلى الله عليه وسلم وقوله. أما فعله فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. ونص الحديث "لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر".3   1 انظر: بدائع الصنائع 7/11، والهداية شرح بداية المبتدى 2/160، والمدونة 3/46، والمقدمات الممهدات 1/285، وروضة الطالبين 10/304، والأم 4/95، وكشاف القناع 3/117، والكافي لابن قدامة 4/346، والمحلى 7/316. 2 التوبة: 29. 3 أخرجه البخاري 2/200 كتاب الجهاد باب الجزية. وهجر مدينة من مدن البحرين. انظر: آثار البلاد وأخبار العباد ص280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وبحديث السائب بن يزيد قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجزية من مجوس البحرين وأخذها عمر من فارس وأخذها عثمان من الفرس".1 وأما قوله فهو: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".2 قال ابن قدامة: إن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس ثابت بالإجماع، لا نعلم في هذا خلافاً، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك، وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، إلى زمننا هذا من غير نكير، ولا مخالف. وبه يقول أهل العلم من أهل الحجاز، والعراق، والشام، ومصر، وغيرهم، مع دلالة الكتاب على أخذ الجزية من أهل الكتاب، ودلالة السنة على أخذ الجزية من المجوس.3 كما اتفق الفقهاء أيضا على عدم عقد الذمة وأخذ الجزية من المرتدين عن الإسلام.4   1 أخرجه الترمذي 4/147 كتاب السير حديث 1588. 2 أخرجه مالك في الموطأ ص188 حديث 618 وقال الشوكاني في نيل الأوطار 8/57: "حديث منقطع ورجاله ثقات"، والبيهقي 9/189، وابن أبي شيبة 12/243، وعبد الرزاق 6/96، وقال ابن حجر وهذا منقطع مع ثقة رجاله. فتح الباري 6/261. 3 انظر: المغني 8/498. 4 انظر: الهداية 4/171، وتبيين الحقائق 3/277، والمقدمات 1/285، وحاشية الدسوقي 2/201، وتحفة المحتاج 9/277، والمغني 8/123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 لأن أخذها منهم بمثابة إقرارهم على ردتهم عن الإسلام، فقد عرفنا أن عقد الذمة هو إقرار الكفار على كفرهم مع بذل الجزية والتزام الأحكام الإسلامية، فالمرتد لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل. قال ابن عبد البر: "المرتدون لا تقبل منهم جزية لأنهم لا يقرون على ردتهم".1 وقال ابن رشد: "المرتدون لا تؤخذ منهم الجزية باتفاق لأنهم ليسوا هم على دين يقرون عليه2، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 3 وقال الزيلعي: "لا توضع الجزية على المرتدين، لأن المرتد كفر بربه بعدما رأى محاسن الإسلام، وبعدما هدى إليه، فلا يقبل منه إلا الإسلام، أو السيف". 4 واختلفوا فيما عدا اليهود والنصارى والمجوس هل تعقد لهم الذمة وتؤخذ منهم الجزية، إلى أقوال عديدة يمكن أن نلخصها في ثلاثة أقوال: القول الأول: تؤخذ الجزية من كل كافر، ما عدا عبدة الأوثان من العرب فلا يصح عقد الذمة معهم، ولا أخذ الجزية منهم.   1 انظر: الكافي لابن عبد البر 1/479. 2 انظر: المقدمات الممهدات 1/286. 3 سبق تخريجه ص 98. 4 انظر: تبيين الحقائق 3/277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وهذا قول الحنفية والإمام مالك في رواية والإمام أحمد في رواية.1 القول الثاني: تعقد الذمة وتؤخذ الجزية من كل كافر عربياً أو عجمياً من أهل الكتاب، أو من عبدة الأوثان. وبه قال الأوزاعي والثوري، وهو القول المشهور عند المالكية.2 القول الثالث: تؤخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس فقط، أما عبدة الأوثان سواء أكانوا عرباً أو عجماً فلا تعقد لهم الذمة ولا تؤخذ منهم الجزية، وهذا قول الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والظاهرية.3   1 انظر: بدائع الصنائع 7/110، 111، وحاشية رد المحتار 4/181، وتبيين الحقائق 3/277، والمبسوط 10/7، والخراج لأبي يوسف ص 139، وأحكام القرآن للجصاص 3/113، والمدونة الكبرى 3/46، والمغنى 8/500، وأحكام أهل الذمة 1/3، والمبدع 3/405. 2 انظر: حاشية الدسوقي 2/201، والكافي لابن عبد البر 1/479، والمقدمات 1/285، وتفسير القرطبي 8/110، ومواهب الجليل 3/381، وفتح الباري 6/259، ونيل الأوطار 8/57، وتكملة المجموع 18/173، والمغني 8/501. 3 الأم 4/172، 173، وروضة الطالبين 10/304، 305، ومغني المحتاج 4/244، والمهذب 2/325، والمغني 8/501، والإنصاف 4/217، والمبدع 3/405، وكشاف القناع 3/117، والمحلى 7/345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الأدلة: أ - أدلة القائلين بجواز عقد الذمة من جميع الكفار ما عدا مشركي العرب: استدلوا بما يلي: 1- قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} .1 قالوا في وجه الدلالة: نزلت هذه الآية في عبدة الأوثان من العرب. فأمر الله بقتالهم، ولم يأمر بتخلية سبيلهم إلا عند توبتهم وهي الإسلام.2 2- حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين خيراً وقال له: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".3   1 التوبة: 5. 2 بدائع الصنائع 7 /11، وأحكام القرآن للجصاص 3 /115. 3 سبق تخريجه ص 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قالوا في وجه الدلالة من هذا الحديث: إن نص الحديث عام يشمل جميع المشركين، وخص منه عبدة الأوثان من العرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم الجزية لما يدينون به من عبادة الأوثان وما ينشأ عنها من الفساد، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم والمعجزة في حقهم أظهر، لأنهم كانوا أظهر بمعانيه، وبوجوه الفصاحة، فغلظ الله عليهم 1 فقال: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} .2 3- ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا من كان منهم من العرب". فاستثنى العرب وإن كانوا عبدة أوثان من بين سائر عبدة الأوثان.3 4- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه: "يا عم، أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، وقال: ما هي؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله".4 فهذا الحديث يدل على عدم جواز أخذ الجزية من العرب، وعلى مشروعية إقرار العجم على الجزية.5   1 تبيين الحقائق 3/277، وفتح القدير 5/292، وحاشية ابن عابدين 4/181. 2 الفتح: 16. 3 الجوهر النقي 9/187. 4 سبق تخريجه ص 84. 5 آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 720. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 5- ما قاله أبو عبيد: تتابعت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده في العرب من أهل الشرك أن من كان منهم ليس من أهل الكتاب، فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل، كما قال الحسن: أمر رسول صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب على الإسلام ولا يقبل منهم غيره) . ثم قال - أي أبو عبيد - وأما العجم فتقبل منهم الجزية وإن لم يكونوا أهل كتاب، للسنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجوس وليسوا بأهل كتاب، وقبلت بعده من الصابئين فأمر المسلمين على هذين الحكمين من العرب والعجم.1 ب- أدلة أصحاب القول الثاني: الذين قالوا تؤخذ الجزية من جميع المشركين: استدلوا بما يلي: 1- حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه المتقدم، وفيه "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، ادعهم إلى الإسلام فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".2 فقوله صلى الله عليه وسلم "عدوك" عام يشمل جميع أعداء الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان من العرب والعجم وبهذا يدل الحديث على قبول الجزية من جميع الكفار.   1 انظر: الأموال لأبي عبيد ص 34، 39. 2 سبق تخريجه ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قال الشوكاني: "ظاهره عدم الفرق بين الكافر العجمي، والعربي، والكتابي وغير الكتابي".1 وقال الصنعاني: "الحق أخذ الجزية من كل مشرك كما دل عليه حديث بريدة".2 2- ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر دومة الجندل3 "على أخذ الجزية منه وهو ملك عربي".4 قال الخطابي: "وفي هذا دلالة على جواز أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم".5 3- القياس على المجوس، وقد اتفق الفقهاء على جواز أخذها من المجوس كما سبق. فيقاس عليهم غيرهم من الكفار، لأنه لم يثب للمجوس كتاب ولا شبهة كتاب في الصحيح.   1 انظر: نيل الأوطار 7/232. 2 انظر: سبل السلام 4/1373. 3 قال الخطابي: أكيدر دومة الجندل، رجل من العرب يقال هو من غسان. انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 3/427. 4 الحديث أخرجه أبو داود 3/427 باب أخذ الجزية بلفظ: "عن عثمان بن أبي سليمان أن النبي صلى اغلله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذ فأتوه به، فحقن له دمه وصالحه على الجزية". 5 انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 3/427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قال الإمام مالك بعد أن ذكر حديث أخذ الجزية من المجوس: "فالأمم كلها في هذا بمنزلة المجوس عندي".1 4- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ الجزية منهم إذا هم رضوا بها ولم يفرق بين عربي وغير عربي ولا بين يهودي وغيره.2 ج- أدلة القول الثالث: الذين قالوا لا تؤخذ الجزية من عبدة الأوثان، لا من العرب، ولا من العجم، ولا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس فقط: استدلوا بما يلي: 1- قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .3 2- قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا فقالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".4 فظاهر الآية والحديث العموم بقتال جميع المشركين، وخص منهم أهل الكتاب بآية الجزية، والمجوس بالسنة، فبقي من عداهم من غير المسلمين على العموم فلا يجوز عقد الذمة لهم.5   1 المدونة الكبرى 3/46. 2 الحديث أخرجه أبو داود 3/428 باب أخذ الجزية ولفظه: "عن معاذ بن جبلرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً". 3 التوبة: 5. 4 سبق تخريجه ص 39. 5 والأم 4/172- 173، والمغني 8/501. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 3- حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه المتقدم. فقد ورد في أهل الكتاب خاصة دون أهل الأوثان، وعلى فرض أنه عام، فقد تأولوه بأن المراد بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون أهل الأوثان، لأن اسم الشرك يطلق على أهل الكتاب.1 أما الأدلة على أخذها من أهل الكتاب والمجوس، فقد تقدمت. المناقشة: مناقشة أدلة أصحاب القول الأول: ما ذهب إليه الحنفية في أنه لم يرد نص صريح في أخذ الجزية من مشركي العرب، يجاب عنه بأنه ورد نص صريح كما في قصة أكيدر المتقدم. وبالنسبة للآية التي فيها الأمر بقتال جميع المشركين، إنما نزلت قبل آية الجزية. وذلك لأن العرب أسلموا جميعاً قبل نزول آية الجزية، ولم يبق منهم محارب تؤخذ منه الجزية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذها ممن لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس.2 قال ابن القيم: "ولم يأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من أحد من عباد الأوثان مع كثرة قتاله لهم، لأن آية الجزية إنما نزلت عام تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، بعد أن أسلمت جزيرة العرب، ولم يبق بها أحد من عباد الأوثان،   1 شرح النووي على مسلم 12/39. 2 سبل السلام 4/1341، وزاد المعاد 3/54، وأحكام أهل الذمة 1/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي صلى الله عليه وسلم ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس".1 أما بالنسبة لحديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه فهو عام في جميع أصناف غير المسلمين لأنه قوله صلى الله عليه وسلم "عدوك" لفظ عام يشمل جميع أعداء الإسلام من مشركي العرب وغيرهم، وحمله على أهل الكتاب أو عبدة الأوثان من العجم في غاية البعد.2 وقال ابن القيم: "ظاهر هذا الحديث أن الجزية تؤخذ من المجوس ولم يستثن منه كافراً، ولا يقال هذا مخصوص بأهل الكتاب خاصة فإن اللفظ يأبى اختصاصهم بأهل الكتاب".3 فأين الدليل على التخصيص بإخراج مشركي العرب من عموم اللفظ، فإن قالوا بأن اللفظ عام ويستثنى منه مشركي العرب لتغلظ كفرهم. يقال لهم بأن الكفر واحد ولا فرق بين عباد النار وهم المجوس، وعباد الأصنام، بل أهل الأوثان أقرب حالاً من عباد النار، وكان منهم من تمسك بدين إبراهيم - عليه السلام - ما لم يكن من عباد النار، بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل، فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد   1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/6، 7. 2 سبل السلام 4/1341. 3 أحكام أهل الذمة 1/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث بريدة وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما.1 ولأن الحنفية قالوا تؤخذ الجزية من عبدة الأوثان من العجم لجواز استرقاقهم.2 يقال لهم أيضاً بجواز استرقاق مشركي العرب عند جمهور الفقهاء لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استرق بني المصطلق وهوازن وفزارة، وإذا جاز إقرارهم بالرق على كفرهم جاز إقرارهم عليه بالجزية بالأولى، لأن عقوبة الجزية أعظم من عقوبة الرق.3 ب - مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني: أولاً: بالنسبة لحديث بريدة رضي الله عنه لا ننكر بأن الحديث عام في جميع المشركين لكن خص منه عبدة الأوثان من العرب لتغلظ كفرهم. لكن يرد على هذا بأن الكفر ملة واحدة، وليس فيه غليظ وبسيط، فعبدة الأوثان من العجم وعبدة النار، كعبدة الأصنام من العرب، لا فرق فالكل أعداء الله، وأعداء عباده المؤمنين. فالحديث باق على عمومه في أن الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي،   1 زاد المعاد 3/154. 2 مجمع الأنهر 1/516، والفتاوى الهندية 2/193. 3 الأموال ص 158، وأحكام أهل الذمة 1/15، وآثار الحرب ص 721، وسبل السلام 4/1342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أو غير كتابي، عربي، أو غير عربي، ولم يوجد ما يخصصه.1 ثانياً: القياس على المجوس قياس باطل، لأن أخذ الجزية من المجوس ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، فلا يقاس عليهم غيرهم من عباد الأوثان، وكذلك هناك فرق بين المجوس وعباد الأوثان فكفرهم أغلظ وأشد. يمكن الرد على هذه المناقشة: ويجاب عن ذلك بأن: القياس صحيح، وغير باطل، لأن حديث بريدة رضي الله عنه عام في أخذ الجزية من جميع الكفار مجوس وغيرهم، فهذا يدل على أنه لا فرق، وأيضاً ثبت أخذ الجزية من أهل الكتاب بالقرآن، ومن عموم الكفار بالسنة، وقد أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المجوس وهم عباد النار، لا فرق بينهم وبين عباد الأوثان ولا يصح أنهم من أهل الكتاب، ولا كان لهم كتاب فإذا أخذت الجزية من عباد النيران وهم ليسوا أهل كتاب فأي فرق بينهم وبين عباد الأوثان2، وإن لم يكونوا أشد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المجوس في التوحيد أعظم شركاً من مشركي العرب".3 ج - مناقشة أدلة أصحاب القول الثالث: أولاً: بالنسبة للآيات التي تأمر بقتال جميع المشركين، فقد كان نزولها قبل آية الجزية.   1 سبل السلام 4/1341. 2 أحكام أهل الذمة 1/6. 3 رسالة القتال لابن تيمية ص 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وعلى فرض أنها عامة، فخص أهل الكتاب بآية الجزية، وبقي العموم في غيرهم، فقد جاءت السنة بأخذ الجزية فيما تبقى من الكفار كما في حديث بريدة وحديث المغيرة رضي الله عتهما. وكذلك الحديث الذي أمر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال الناس جميعا ما لم ينطقوا بالشهادتين، كان قبل نزول آية الجزية. أما بالنسبة لآية الجزية فإنها نزلت في شأن أهل الكتاب فقط، ولم تنص على عدم أخذ الجزية من غيرهم. وأيضاً ذكر أهل الكتاب في آية الجزية له فائدة وهي بيان الواقع وهو مقابلة هؤلاء مع أهل الأوثان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما قضى على أهل الأوثان من العرب لم يبق أمامه إلا أهل الكتاب المجاورين لبلاد العرب فنزلت آية الجزية في السنة التاسعة من الهجرة لبيان حكمهم، فالآية تنص على أخذ الجزية من أهل الكتاب فقط، ولم تتعرض لأخذ الجزية من غير أهل الكتاب ولا لعدم أخذها منهم. وقال الصنعاني: "أما الآية فأفادت أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولم تتعرض لأخذها من غيرهم ولا لعدم أخذها، والحديث - أي حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه - بين أخذها من غيرهم".1 وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: "إن الله تعالى أمر بمقاتلة جميع غير المسلمين وخص أهل الكتاب بالذكر إكراماً لكتابهم ولكونهم   1 سبل السلام 4/1341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 عالمين بالتوحيد، والرسل، والشرائع، والملك.1، وعلى هذا لا يكون ذكر أهل الكتاب في الآية دليلاً على حصر جواز عقد الذمة لهم دون غيرهم".2 أما قولهم بأن حديث بريدة خاص بأهل الكتاب فهذا في غاية البعد لأن الحديث عام في جميع الكفار ولم يرد ما يخصصه بأهل الكتاب. الرأي المختار: وبعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشتهم، يتضح لي أن الرأي القائل: إن الذمة تعقد لجميع أصناف غير المسلمين هو الرأي المختار للأسباب الآتية: 1- لأن آية الجزية نصت على أخذ الجزية من أهل الكتاب ولم تنص على عدم أخذها من غيرهم، وإذا كانت الجزية المقصود منها إذلال الكفر وأهله وقهرهم، فهذا أمر لا يختص بأهل الكتاب بل يعم كل كافر فقال تعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فالجزية صغار وإذلال.3 2- لثبوت الأحاديث الصحيحة التي تدل على جواز أخذها من جميع الكفار، كحديث المغيرة، وحديث بريدة رضي الله عنهما السابقين، فإنه عام في جميع الكفار لقوله: "إذا لقيت عدوك" والعدو عام يشمل جميع أعداء الإسلام ولم يرد ما يخصص هذا العموم.   1 الجامع لأحكام القرآن 8/110. 2 أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 29. 3 أحكام أهل الذمة 1/15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 3- ثبوت الأحاديث الصريحة الصحيحة في أخذ الجزية من المجوس وهم عباد النار، وأخذها منهم يدل على أخذها من غيرهم من الكفار، لأنه لا فرق بينهم وبين عباد الأوثان من العرب أو العجم، إن لم يكن المجوس أشد كما قال شيخ الإسلام، وقاله تلميذه ابن القيم بأنه لا فرق بين عباد النار وعباد الأوثان، بل أهل الأوثان أقرب حالاً من عباد النار، لأن عباد النار أعداء إبراهيم عليه السلام، وعباد الأوثان منهم من تمسك بدين إبراهيم الخليل.1 4- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من مشركي العرب لأن آية الجزية لم تكن قد نزلت بعد، وبعد النزول أسلموا جميعاً وهذا ما قاله العلماء. وفي هذا يقول ابن القيم: "ومن تأمل السير وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا من أهلها".2 5- أن الحديث الذي أمر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال جميع المشركين إنما كان هذا في أول الأمر بالقتال، وقبل نزول آية الجزية، أما بعد نزولها فقد تغير الحكم من الإسلام، أو القتل، إلى الإسلام أو الجزية أو القتل، كما ذلت عليه الأحاديث الصحيحة السابقة. 6- أنه لا يوجد هناك دليل صريح يفرق بين العربي، وغير العربي في أخذ الجزية، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر - دومة الجندل - على   1 زاد المعاد في هدي خير العباد 3/154. 2 زاد المعاد 3/154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الجزية أيام غزوة تبوك وهو ملك عربي، وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب. ولما أرسل معاذاً إلى اليمن أمره بأخذ الجزية من غير فرق بين عربي وغيره، فالحق أن الجزية تؤخذ من كل كافر كما دل له حديث بريدة الذي كان بعد نزول فرض الجزية.1 وما اخترته ذهب إليه بعض الأئمة كالإمام ابن القيم حيث قال: "إن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم فأخذ الجزية منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية فإنها نزلت بعد غزوة تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب واستوثقت كلها بالإسلام. ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه لأنها لم تكن نزلت بعد فلما نزلت أخذها من نصارى العرب ومن المجوس، ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران.2 والإمام الشوكاني: حيث قال: "الظاهر عدم الفرق بين الكافر العجمي، والعربي، والكتابي، وغير الكتابي".3 والإمام الصنعاني حيث قال: "الحق أخذ الجزية من كل مشرك كما دل عليه حديث بريدة".4   1 سبل السلام 4/1341، 1342، 1373. 2 زاد المعاد 3/154، وأحكام أهل الذمة 1/6، 7. 3 نيل الأوطار 7/232. 4 سبل السلام 4/1373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الفرع الثامن: في الحقوق الواجبات لهم وعليهم أولاً: حقوقهم من قبل المسلمين: 1- الوفاء لهم بالعهد، إن من واجبات المسلمين تجاه أهل الذمة الذي أعطوهم ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الوفاء لهم بعقد الذمة وعدم نقضه إلا إذا وجد منهم ما يوجب نقضه. لأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالوفاء بالعهود عامة وعهد الذمة من ضمنها حيث قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} .1 وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} .2 وقل جل وعلا: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} .3 وقد أوفى الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع المعاهدات التي عقدها لأهل الذمة فقال صلى الله عليه وسلم: "نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم".4   1 الإسراء: 34. 2 النحل: 95. 3 الأنعام: 152. 4 أخرجه الإمام مسلم 3/1414 كتاب الجهاد باب الوفاء بالعهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فأول الحقوق لأهل الذمة من قبل المسلمين الوفاء لهم بعهدهم. 2- الحفاظ على أرواحهم، وأموالهم، وأعراضهم، وحمايتهم من أي اعتداء عليهم من قبل المسلمين أو من غيرهم. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة".2 قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم عهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم.3 وقال علي رضي الله عنه: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا".4 3- منحهم الحرية في إقامة شعائر دينهم وعدم التعرض لكنائسهم وخمورهم إذا لم يظهروها فإذا أظهروها أريقت ولا ضمان فيها. قال الماوردي: "لأهل الذمة حقان ببذل الجزية: أحدهما: الكف عنهم.   1 أخرجه الإمام البخاري 2/202 كتاب الجهاد باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم. 2 أخرجه أبو داود 3/191 كتاب الجهاد باب الوفاء بالعهد وقال الخطابي: إسناده حسن 3/191 كنهه في غيره وقته الذي يجوز فيه قتله. 3 أخرجه البخاري 2/201 كتاب الجهاد باب الوصية بأهل الذمة. 4 المغني 8/535. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والثاني: الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين".1 أما الواجبات التي عليهم وتلزمهم بعقد الذمة: فهي على النحو التالي: واجبة، ومستحبة: فالشروط الواجبة ثمانية: 1- أداء الجزية عن يد وهم صاغرون. 2- الخضوع لأحكام الإسلام العامة. 3- أن لا يذكروا كتاب الله بطعن فيه ولا تحريف له. 4- أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب له ولا ازدراء. 5- أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه. 6- أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح. 7- أن لا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا نفسه. 8- أن لا يعينوا أهل الحرب، أو يأووا جاسوسهم.2   1 الأحكام السلطانية للماوردي ص 145. 2 مغني المحتاج 4/358، والأم 43/188، والمغني 8/525 وكشاف القناع 3/143، وزاد المعاد 3/156، والخرشي على خليل 3/148-149، والسراج السالك 2/29، وقوانين الأحكام الشرعية ص 175- 176، والأحكام السلطانية للماوردي ص 145، ولأبي يعلى 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فهذه شروط حقوق ملتزمة، فتلزمهم بغير شرط، وإنما تشترط أشعارا لهم وتأكيدا لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابهما بعد الشرط نقضا لعهدهم. أما الشروط المستحبة والتي لا تنقض العهد عند عدم تنفيذها والعمل بها: 1- تغير هيئاتهم من الملبس وغيره بحيث تكون لهم علامة يعرفون بها كالزنار.1 2- أن لا يعلو على المسلمين في الأبنية. 3- ضيافة المسلمين ثلاثة أيام إذا مروا عليهم. 4- أن يمنعوا من بناء الكنائس والبيع. 5- أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه. 6- أن يخفوا نواقيسهم ولا يظهروا شيئا من شعائر دينهم. 7- أن لا يسبوا الأنبياء عليهم السلام. 8- أن لا يجاهروا بشرب الخمر ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم. 9- أن يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة. 10- أن يمنعوا ركوب الخيل عناقا وهجانا ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير. وهذه الشروط لا تلزم بأهل الذمة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم، ولكن يأخذون بها   1 حزام خاص يشده الكتابي على وسطه. معجم لغة الفقهاء ص 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 إجبارا ويؤدبون عليها زجرا ولا يؤدبون إن لم يشترط ذلك عليهم.1 لكن الحنفية خالفوا الجمهور وقالوا إن هذه الشروط الواجبة والمستحبة لا تنقض العهد ولا ينقض العهد عندهم إلا بالشروط الآتية: الأول: إسلام الذمي، فإذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية وانتقض عهده، وقال بهذا الشرط المالكية والحنابلة ولم يخالف فيه إلا الشافعية. الشرط الثاني: إذا لحق الذمي بدار الحرب إذ بهذا اللحاق تنقطع صلته بدار الإسلام، ويصير من أهل دار الحرب. وينتقض كذلك بغلبة الذميين على موضع لمحاربة المسلمين إذ بهذه المحاربة يصير الذميون حربا على الدولة الإسلامية فيعري عقد الذمة عن الفائدة وهي دفع شر حرابتهم فلا يبقى العقد.2 أما غير الحنفية وهم الجمهور المالكية، والشافعية، والحنابلة فقد توسعوا في واجبات أهل الذمة اللازمة بحقهم وجعلوها ناقضة للعهد، وذكروا أشياء لم يرها الأحناف ناقضة للعهد من ذلك امتناع الذمي عن أداء الجزية، وطعنه في الإسلام والقرآن، وغيرها من الشروط التي تقدمت.3 لكن بعض الحنفية رأى انتقاض العهد بشتم الرسول صلى الله عليه وسلم.4   1 انظر: المراجع السابقة في ص 176. 2 البدائع 7/112- 113، والهداية 4/382. 3 انظر: المراجع السابقة ص 176وانظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ص12. 4 شرح الكنز للعيني 1/322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 المطلب الثاني: في الصنف الثاني: المستأمنون وفيه ستة فروع: الفرع الأول: في تعريف الأمان مع بيان أدلة جوازه وأقسامه تعرف الأمان لغة: الأمان من الأمن، والأمن ضد الخوف، وهو الاطمئنان. يقال أمنه وآمنه، وآمن فلان العدو أي أعطاه الأمان. والعدو مُؤَمَّن. يقال لك الأمان أي قد أمنتك، وأمن البلد اطمأن فيه أهله وأمن فلان على كذا وثق به، واطمأن إليه، أو جعله أميناً عليه. قال تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} الآية1 ويقال: استأمنه: طلب منه الأمان. واستأمن إليه استجاره وطلب حمايته، واستأمن الحربي استجار ودخل دار الإسلام مستأمناً. والمأمن موضع الأمن، والأمين المستجير ليأمن على نفسه.2 وخلاصة ما سبق أن المستأمن لغة: المستجير الطالب للأمان.   1 يوسف: 64. 2 المفردات ص 24، 25، النهاية 1/69، لسان العرب 13/21، 22، والقاموس المحيط 1/181-182، ومختار الصحاح ص 26، والمصباح المنير 1/25، والمعجم الوسيط 1/28، والمصطلحات العسكرية ص /55- 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أما تعريف المستأمن شرعاً: فهو من يدخل دار غيره بأمان مسلماً كان أو حربياً1 والغالب في إطلاق المستأمن على من يدخل دار الإسلام من الكفار بأمان، وفي هذا يقول ابن القيم: "المستأمن هو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهو على أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاءوا دخلوا وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم".2 أدلة مشروعيه الأمان: دل الكتاب، والسنة، والمأثور، والإجماع، على جواز عقد الأمام مع غير المسلمين. أولاً: دليل جوازه من الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} .3 فالآية نص صريح في جواز عقد الأمام لمن طلبه من المشركين، لأن   1 الدر المحتار 1/466، وكشف الحقائق 1/317، وحاشية ابن عابدين 4/166، والدر الحكام شرح غرر الأحكام 1/292، وأحكام أهل الذمة 2/476. 2 أحكام أهل الذمة 2/476. 3 التوبة: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 معنى قوله تعالى: {اسْتَجَارَكَ} أي استأمنك، وقوله {فَأَجِرْهُ} أي: فأمنه حتى يسمع كلام الله وهو القرآن.1 قال ابن كثير: "والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه".2 ثانياً: أدلة جوازه من السنة: 1- ما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً3 فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف".4 وفي رواية للبيهقي: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من   1 الجامع لأحكام القرآن 8/75، وأحكام القرآن لاين العربي 2/903. 2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/337. 3 أخفر مسلماً: يريد نقض العهد، يقال خفرت الرجل إذا أمنته وأخفرته إذا انفضت عهده. انظر: فتح الباري 4/86، ومعالم السنن 2/531. والصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وهذا عند الجمهور كما قال ابن حجر. انظر: فتح الباري 4/86. 4 أخرجه البخاري 1/320 كتاب الحج باب حرمة المدينة، وفي كتاب الجهاد باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة 2/203، ومسلم 2/998 - 999 كتاب الحج باب فضل المدينة حديث رقم 469، واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم"، وفي أخرى: "يجير على أمتي أدناهم".1 وجه الدلالة من الحديث: الحديث نص صريح في جواز عقد الأمان مع غير المسلمين لأن الذمة المراد بها في الحديث الأمان، فمعناه أن أمان المسلمين للمشركين جائز، وبالأمان يحرم التعرض لهم ما داموا في أمان المسلمين، قوله: "أدناهم" أي يعقد الأمام ويتولى شأنه من هو أدنى المسلمين مرتبة كالعبد وغيره. قال ابن حجر: "أدناهم أي أقلهم، كل وضيع بالنص، وكل شريف بالفحوى، فدخل في أدناهم المرأة والعبد".2 وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم".3 قال الخطابي: "قوله يسعى بذمتهم أدناهم، يريد أن العبد ومن كان في معناه من الطبقة الدنيا كالنساء والضعفاء الذي لا جهاد عليهم إذا أجاروا كافراً أمضى جوارهم ولم تخفر ذمتهم".4   1 سنن البيهقي 9/49. 2 فتح الباري 6/274. 3 سنن أبي داود 3/182 - 183، كتاب الجهاد باب السرية ترد على أهل العسكر. وابن ماجة 2/895 كتاب الديات باب المسلمون تتكافأ دماؤهم. 4 معالم السنن مع سنن أبي داود 3/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 2- وما روى عن أم هانئ1رضي الله عنها أنها قالت: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه فقال من هذه، فقلت أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحباً بأم هانئ فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فقلت: يا رسول الله: زعم ابن أمي علي2 أنه قاتل رجلاً قد أجرته فلان ابن هبيرة3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".4 وفي رواية لأبي داود: "وأمنا من أمنت".5   1 هي فاختة بنت أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمية القرشية، المشهورة بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت أسد، واختلف في اسمها فقيل فاختة، وهو الأشهر وقيل هند، وقيل فاطمة، وقيل عاتكة، أسلمت عام الفتح بمكة وتوفيت بعد سنة 40هـ، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب 46 حديثاً. أسد الغابة 7/213، 404، والأعلام 5/126. 2 هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 3 قيل هو الحارث بن هشام المخزومي، وقيل هو عبد الله بن أبي ربيعة، وقال الأزرقي أنها أجارت رجلين، عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، والحارث بن هشام وهما من بني مخزوم. قيل هما جعد بن هبيرة ورجل آخر من بني مخزوم. وجزم ابن هشام بأن الذين أجارتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان. شرح النووي على مسلم 5/232، وفتح مكة للأزرقي ص 375، والسيرة النبوية لابن هشام 1/275، وفتح الباري 1/470. 4 أخرجه البخاري 1/75 كتاب الصلاة وفي باب أمان النساء 2/203، واللفظ له. ومسلم 1/498 كتاب صلاة المسافرين حديث رقم 82. 5 سنن أبي داود 3/194، كتاب الجهاد باب أمان المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الحديث دل على جواز أمان المرأة المسلمة لغيرها من الكفار، فأمان الرجال المسلمون من باب أولى. قال الصنعاني: "والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أم عبد، لقوله "أدناهم" فإنه شامل لكل وضيع، وتعلم صحة أمان الشريف بالأولى".1 ثالثاً: دليل جوازه من المأثور: 1- ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز أمانها".2 2- وما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز".3 رابعاً: دليل جوازه من الإجماع: انعقد إجماع الأمة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا على جواز عقد الأمان مع غير المسلمين4   1 سبل السلام 4/1366. 2 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/454 باب أمان المرأة والمملوك. 3 أخرجه أبو داود 3/194 كتاب الجهاد باب أمان المرأة. والبيهقي 9/95 كتاب الجهاد باب أمان المرأة. وعبد الرزاق 5/223، وسعيد بن منصور في سننه 2/251. وابن أبي شيبة12/453. 4 بدائع الصنائع 7/105، وحاشية الدسوقي 2/185، ومغني المحتاج 4/236، والمغني 8/398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أقسام الأمان: ينقسم الأمان إلى قسمين: الأول: أمان عام: وهو ما يعطي لناحية أو بلدة أوقلعة، وهذا باتفاق الفقهاء لا يصح إلا من الإمام أو نائبه، لأنه من المصالح العامة التي تحتاج إلى نظر وتمحيص وهذا لا يتأتى إلا من الإمام أو نائبه. 1 الثاني: أمان خاص: وهو ما يعطي لقافلة، أو لحصن صغير أو لفرد من الأفراد، فهذا أيضاً اتفق الفقهاء على جوازه من الإمام أو نائبه ومن آحاد المسلمين2 سيأتي ذلك بالتفصيل في شروط المؤمن.   1 الهداية 2/140، واختيار4/120، وأسهل المدارك 2/17 وحاشية الدسوقي 2/185، وتحفة المحتاج 9/266، وروضة الطالبين 10/278، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/105. 2 المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الفرع الثاني: في أركان الأمان وشروطه أركان الأمان: الأمان يعتمد على ركنين أساسين: الركن الأول: المؤمن: وهو الذي يتولى عقد الأمان، وهو الإمام أو نائبه في الأمن العام، لأن عقد الأمان من العقود التي تحتاج نظر واجتهاد، ويترتب عليه وجود مصالح مفاسد وهذا كله لا يمكن أن يتوافر إلا في الإمام أو نائبه. ولا خلاف بين الفقهاء في أنه يجوز لكل فرد من أفراد الرعية عقد الأمان الخاص ولو لم يأذن له الإمام، إذا توافرت فيه الشروط التي سيأتي1 تفصيلها. الركن الثاني: المُؤَمَّن وهو المستأمن: وهو في الغالب الإنسان الكافر الذي يدخل الديار الإسلامية على غير نية الإقامة المستمرة بها بل إقامته فيها محددة بمدة معلومة يدخل فيها بعقد يسمى (عقد الأمان) وغالباً ما   1 بدائع الصنائع 7/106، وشرح السير الكبير 1/252، وحاشية الدسوقي 2/185، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، والأم 4/284، والأحكام السلطانية ص 146، والمغني 8/398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 يكون قصده التجارة، أو العمل في الديار الإسلامية، ولا بد أن إقامته مؤقتة، لأنها إذا كانت مؤبدة وأخذت صفة الدوام، يتحول إلى ذمي ويصير من رعايا الدولة الإسلامية1. أما الشروط التي يجب توافرها في المستأمنين فهي على النحو التالي: 1- أن يكون عددهم معلوماً سواء أكانوا جماعة أو فرادى، فجميع من دخل دار الإسلام زيادة على العدد المأذون له بدخول الديار الإسلامية بأمان فإنه يخرج منها ولا عصمة له. 2- أن يكون المستأمنون عالمين بهذا الأمان، فإن لم يكونوا عالمين به فلا أمان لهم. 3- أن يكون القصد من عقد الأمان التجارة وغيرها من الأعمال المباحة في الشريعة الإسلامية. 4- ألا يقصدوا من دخولهم الديار الإسلامية الضرر بالمسلمين، والتجسس عليهم، والإطلاع على مواقعهم العسكرية، فإن علم هذا القصد أو خيف منه فلا يجوز أن يعقد معهم الأمان.2 فإذا توافرت فيهم هذه الشروط فللإمام أو نائبه، أو غيرهما من أفراد   1 المغني 8/396، والمبدع 3/389، والعلاقات الدولية في الإسلام ص 68. 2 بدائع الصنائع 7/105، 106، وفتح القدير 54/227، وأسهل المدارك 2/17، وقوانين الأحكام الشرعية ص 174، ومغني المحتاج 4/238، والمهذب 2/331، والمغني 8/398، والمبدع 3/389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 المسلمين أن يعقد الأمان مع جميع المشركين، من غير فرق بين كتابي أو غيره، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} 1، فلفظ المشركين عام شامل لجميع الكفار، وله أن يعقده مع الفرد والجماعة وأهل الحصن. قال صاحب الفتاوى الهندية: "يجوز الأمان للواحد والجماعة وأهل الحصن والمدينة".2 وقال ابن قدامة: "ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم، ويصح أمان آحاد المسلمين للواحد، والعشرة، والقافلة الصغيرة، والحصن الصغير".3   1 التوبة: 6. 2 انظر: الفتاوى الهندية 2/198. 3 انظر: المغني لابن قدامة 8/398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الفرع الثالث: في شروط المؤَمِّن اشترط الفقهاء لمن يعقد الأمان مع غير المسلمين شروطاً يجب توافرها فيه - وهي على النحو التالي: 1- أن يكون العاقد مسلماً، فلا يعقد الأمان غير المسلم ولو كان ذمياً يقيم في دار الإسلام ويقاتل مع المسلمين، وهذا باتفاق العلماء.1 ولم يخالف فيه إلا الأوزاعي حيث قال: "إن غزا الذمي مع المسلمين فأمن أحداً فإن شاء الإمام أمضاه، وإلا فليرد إلى مأمنه"2، وليس له دليل على ذلك. قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن أمان الذمي لا يجوز".3 أما الدليل على عدم صحة أمان الكافر ذمي أو غيره. فقوله صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" 4، فشرط   1 بدائع الصنائع 7/106، والهداية 2/140، والمبسوط 10/70، والمدونة 3/42، وحاشية الدسوقي 2/185، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، والأم 4/284، ومغني المحتاج 4/237، وتحفة المحتاج 9/266، والسراج الوهاج ص 547، والمغني 8/396، والمحرر 2/180، والكافي 4/330، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104. 2 فتح الباري 6/274، ونيل الأوطار 8/29. 3 الإجماع لابن المنذر ص 76. 4 سبق تخريجه في ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الأمان للأمان أن يكون عاقدة مسلماً فلا يصح أمان الكافر. وأيضاً ليس للكافرين ولاية على المسلمين، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .1 والأمان من باب الولاية إذ به ينفذ كلام المؤمنين على غيرهم شاءوا أم أبوا.2 ولأن الكافر الذمي متهم في حق المسلمين نظراً لعدائه الديني لهم، وموافقته الكفار في الاعتقاد، فلا تؤمن خيانته، بل ولا يكون أهلاً للنظر في مصالح المسلمين. 2- أن يكون العاقد مكلفاً أي بالغاً عاقلاً لأنهما مناط التكليف، فقد أجمع الفقهاء على أن المجنون لا يصح أمانه وكذلك الصبي غير المميز.3 ولعل هذا هو الإجماع الذي ذكره ابن المنذر عندما قال: "أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز".4   1 النساء: 141. 2 فتح القدير 5/267. 3 بدائع الصنائع 7/106، والهداية 2/140، والمبسوط 10/70، والمدونة 3/42، وحاشية الدسوقي 2/185، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، والأم 4/284، ومغني المحتاج 4/237، وتحفة المحتاج 9/266، والسراج الوهاج ص 547، والمغني 8/396، والمحرر 2/180، والكافي 4/330، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104. 4 المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 واختلفوا في صحة أمان الصبي المميز إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح أمانه، وهو قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة.1 القول الثاني: يصح أمانه، وهو قول المالكية والحنابلة في رواية ومحمد بن الحسن من الحنفية.2 القول الثالث: يصح أمانه بشرط إذن الإمام له بإعطاء الأمان. وهو رأي سحنون من المالكية. 3 الأدلة: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يلي: 1- أن الصبي غير مكلف ومرفوع عنه القلم حتى البلوغ.4   1 بدائع الصنائع 7/106، وحاشية ابن عابدين 4/176، والهداية 2/141، والأم 4/284، ومغني المحتاج 4/237، وروضة الطالبين 10/279، والمغني 8/297، وكشاف القناع 3/104. 2 بداية المجتهد 1/ 383، وأسهل المدارك 2/17، والمغني 8/397، والبدائع 7/106. 3 المنتقى 2/173، وحاشية العدوي 2/7. 4 المرجع السابق نفسه في الحاشية رقم (3) في صفحة 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 2- ولأن الأمان أمره خطير، لأنه ينبني عليه مصالح ومفاسد، ومنافع، ومضار، فيحتاج إلى غزارة عقل ورجاحة نظر في العواقب، وليس الصبي من أهل هذا المقام. أي أن الأمان لصيق الصلة بسلامة الدولة الإسلامية، وحفظ كيانها والصبي لا يستطيع تقدير ذلك، لاسيما إذا سلك العدو معه مسلك الخداع والتغرير للحصول على الأمان. 1 3- ولأن الصبي لا يعرف مصلحة المسلمين، وقد يعطي الأمان في غيرها، وفي هذه الحالة لا يزال قاصراً والقاصر في الشريعة الإسلامية لا تسلم له أمواله حتى يبلغ الرشد، فما دام لا يجوز ولا يحق له حوزة أمواله ولا يؤمن عليها فمن باب أولى لا يصح أمانه.2 4- ولأن الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم" للبالغين دون غيرهم.3 أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يلي: 1- بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم" فإنه يشعل الصبي وغيره.4   1 آثار الحرب ص 238. 2 نظرية الحرب ص 384. 3 آثار الحرب ص 238. 4 سبل السلام 4/1366، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 2- ولأنه مسلم مميز يعقل الإسلام فصح أمانه كالبالغ، وفارق المجنون بأنه لا قول له أصلاً. 1 3- ولأن أهلية الأمان مبنية على أهلية الإيمان والصبي الذي يعقل الإسلام من أهل الإيمان فيكون من أهل الأمان كالبالغ.2 4- ولأن الصبي المميز قد أشرف على البلوغ وسن الرشد، وما قارب الشيء أعطى حكمه في كثير من الأحكام وأمان الكفار من هذه الأحكام، فكان أمان الصبي المذكور بمثابة الإذن في دخول بلاد الإسلام لا في الإقامة بها حتى لا يفسدوا فيها.3 وأما رأي سحنون فكأنه راعى أن الأمان من العقود المهمة والتي تحتاج إلى سعة نظر وقوة بصيرة، والصبي المميز ناقص لعدم اكتمال مداركه فلا يؤمن انخداعه. الرأي المختار: والرأي الذي أختاره هو الرأي القائل بعدم صحة أمان لصبي المميز، سداً للذريعة، ومنعاً لما قد يحصل من المساوئ والمشاكل. ولأن الصبي لا يحسن التصرف فيما ينفعه فكيف فيما ينفع غيره، ولأن خطاب الشارع للمكلفين دائماً والعموم في الحديث مخصص   1 المغني 8/397. 2 البدائع 7/106. 3 الميزان للشعراني 2/173، وآثار الحرب في الفقه الإسلامي ص 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بالأحاديث التي تدل على أن الصبي غير مكلف ومرفوع عنه القلم حتى يبلغ، ولأن عقد الأمان فيه من المصالح والمفاسد التي تعود على الدولة الإسلامية ما تحتاج إلى دقة نظر، ورجاحة عقل، وهذه حالة خفية لا توجد في الصبي لاشتغاله باللهو واللعب كما قال الكاساني. 1 الشرط الثالث: الحرية اتفق الفقهاء على صحة أمان الحر لغير المسلمين.2 ولم يخالف في هذا إلا ابن حبيب المالكي حيث قال: "لا يجوز أمان الحر حتى ينظر فيه الإمام، فله الخيار في الإمضاء أو الرد بحسب ما يراه صواباً أو خطأ".3 قال ابن العربي:"وهذا ليس بصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز جواره في الحديث وكذلك أمضاه عمر على الناس".4 أما العبد فقد اختلفوا في صحة أمانه إلى قولين:   1 انظر: بدائع الصنائع 7/106. 2 الهداية 2/139، وبدائع الصنائع 7/105، 106، ومجمع الأنهر 2/350، والمنتقى شرح الموطأ 3/173، وبداية المجتهد 1/383، وأسهل المدارك 2/17، ومغني المحتاج 4/237، والأم 4/284، وحاشية الشرقاوي 2/42، والمغني 8/396، وغاية المنتهى 1/477. 3 المنتقى شرح الموطأ 3/173، وأحكام القرآن لابن العربي 2/904. 4 بدائع الصنائع 7/106، والهداية 2/140، وأحكام القرآن لابن العربي 2/904، وبداية المجتهد 1/383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 القول الأول: لا يصح أمانه إلا إذا أذن له سيده بالقتال، أما إذا كان ممنوعاً من القتال فلا يصح أمانه. وهو قول الحنفية والمالكية في قول.1 القول الثاني: يصح أمان العبد، أذن له في القتال أو لم يؤذن. قال به الثوري والأوزاعي وإسحاق بن راهويه. وهو قول المالكية في المشهور وبه قال الشافعية والحنابلة، ومحمد بن الحسن من الحنفية.2 الأدلة 1- أدلة أصحاب القول الأول المانعين من أمان العبد. استدلوا بما يلي: 1- أن الأمان يحتاج إلى نظر واجتهاد وتأمل والعبد الممنوع من القتال ليس من أهل هذه الأشياء لاشتغاله بخدمة سيده.3   1 أسهل المدارك 2/117، وبداية المجتهد 1/383، وأحكام القرآن لابن العربي 2/904، وروضة الطالبين 1/279، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، وقليوبي وعميرة 4/226، 227، والمغني 8/397، والإنصاف 4/203، 204، بدائع الصنائع 7/106. 2 بدائع الصنائع 7/106. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 2- ولأن من لا يسهم في الغنيمة كالعبد لا أمان له.1 3- أن الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية أي أنه ناقص العقل، والرأي عادة، والأمان يحتاج إلى كمال رأي وبعد نظر فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياساً على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية، ويخصص عموم حديث: "ذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم" بهذا القياس.2 ب- أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يلي: 1- بعموم حديث: "ذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم" والعبد المسلم أدنى المسلمين فيتناوله الحديث.3 2- بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "العبد المسلم من المسلمين ذمته ذمتهم وأمانه أمانهم".4 3- وبما روى أن عبداً آمن قوما فأجاز عمر رضي الله عنه أمانه.5 4- ولأن العبد مسلم مكلف فصح أمانه كالحر.6   1 أحكام القرآن لابن العربي 2/904. 2 بداية المجتهد 1/383. 3 سبل السلام 4/1366، والمبدع 3/389، وكشاف القناع 3/104. 4 أخرجه عبد الرزاق 5/223، والبيهقي في سننه 9/94، وسعيد بن منصور في سننه 2/233. 5 سنن سعيد بن منصور 2/233. 6 المغني 8/397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 5- ولأن حجر المولى يعمل في التصرفات الضارة دون النافعة، بل هو في التصرفات النافعة غير محجور كقبول الهبة والصدقة، ولا مضرة للمولى في أمان العبد بتعطيل منافعه عليه، لأَنه يتأدى في زمان قليل بل له ولسائر المسلمين فيه منفعة، فلا يظهر انحجاره فأشبه المأذون بالقتال.1 الرأي المختار: الرأي الذي أميل وأختاره هو رأى الجمهور بصحة أمان العبد قاتل أو لم يقاتل. وذلك لقوة أدلتهم، ولأن العبد المسلم مكلف لا فرق بينه وبين الحر في عقد الأمان. ويمكن الجمع بين القولين: بأن العبد إما أن يكون صاحب خبرة ومعرفة ولدية قوة بصيرة في تدبير كثير من الأمور، فهذا يجوز أمانه مطلقا. وإما أن يكون ليس لديه خبرة في تدبير الأمور، وحديث عهد بالإسلام أو كان بعيداً عن الواقع والحياة ولا يعلم ما يدور بين المسلمين وغيرهم، فهذا لا يجوز أمانه مطلقا. الشرط الرابع: الاختيار فلا ينعقد الأمان بالإكراه، وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء.2   1 بدائع الصنائع 7/106. 2 بدائع الصنائع 7/106، بداية المجتهد 1/383، وروضة الطالبين 10/279، والمغني 8/396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الشرط الخامس: الذكورية عند بعض الفقهاء، فلا يصح أمان المرأة، وقال به ابن الماجشون وسحنون من المالكية.1 لكن الجمهور من الفقهاء قالوا بصحة أمان المرأة للأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".2 وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم".3 فالحديث عام في الرجال والنساء ولم يرد ما يخصصه.4 ولما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز"5 وكذلك روى عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك وقد سبق. ولأن الذكورة ليست بشرط ليصح أمان المرأة لأنها بما معها من العقل لا تعجز عن الوقوف على حال القوة والضعف وقد روى أن زينب   1 بداية المجتهد 1/383، والمنتقى 3/173، وحاشية الدسوقي 2/185، وحاشية العدوي 2/7. 2 سبق تخريجه ص 189، والمغني 8/296، والإنصاف 4/230. 3 سبق تخريجه ص 187. 4 سبل السلام 4/1366، ونيل الأوطار 8/28، 29. 5 سبق تخريجه ص 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بنت الرسول صلى الله عليه وسلم آمنت زوجها أبا العاص رضي الله عنه وأجاز الرسول أمانها.1 أما أصحاب الإمام مالك فقد حملوا قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ "قد أجرنا من أجرت" على أنه إجازة فيه قالوا فلو لم يجز لم يصح أمانها.2 وحمله الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم أمضى ما وقع منها وأنه قد انعقد أمانها، لأنه صلى الله عليه وسلم سماها مجيرة ولأنها داخلة في عموم المسلمين في الحديث السابق.3 الراجح في هذا هو قول الجمهور بصحة أمان المرأة ولا عبرة بخلاف من سواهم وقد ذكر ابن المنذر الإجماع في ذلك فقال: "أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئاً ذكره عبد الملك - يعني ابن الماجشون - لا أحفظ ذلك عن غيره" وقوله صلى الله عليه وسلم "يسعى بذمتهم أدناهم" دلالة على إغفال هذا القائل.4 وبعد أن اخترنا أنه يحوز لكل فرد من أفراد الرعية أن يعقد الأمان الخاص مع المشركين حراً كان أو عبداً ذكراً أو أنثي للأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الشأن والآثار المروية عن بعض الصحابة التي تدل على ذلك. نقول بأنه لا ينبغي أن يعطي الفرد من الرعية الحق في عقد الأمان   1 سنن البيهقي9/95 مع بدائع الصنائع 6/107، والخراج لأبي يوسف ص 205. 2 سبل السلام 4/1366. 3 سبل السلام 4/1366. 4 الإجماع لابن المنذر ص 73، والإشراف ص 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 مع غير المسلمين في هذا الزمان إلا بعد الإذن من الإمام أو من يقوم مقامه، وذلك للأسباب الآتية: 1- أن الكفار لا يقصدون بالأمان مع المسلمين ودخول ديارهم التجارة وغيرها من المصالح التي تعود على المسلمين بالنفع كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو من بعدهم، وإنما في غالب الأمر يقصدون الإضرار بالمسلمين، كالتجسس عليهم والتعرف على مواطن القوة والضعف في قواعدهم العسكرية أو غيرها. 2- ولأن غالب أفراد الرعية من المسلمين في هذا الزمان أصبحوا ضعاف الإيمان، يمكن إغراؤهم وانخداعهم بشيء من المال أو غيره، ليدخل الكفار الأراضي الإسلامية فيفسدوا فيها ويتجسسوا عليها، وأيضاً الغالب منهم يقدم مصلحته الخاصة، على المصلحة العامة، فسدَّا للذريعة، وتفادياً لهذه المفاسد والعواقب السيئة التي تعود على المسلمين وعلى أراضيهم، أقول: بأنه لا يعطي الفرد من الرعية الحق في عقد الأمان مع غير المسلمين في هذا الزمان إلا بإذن من إمام المسلمين أو من يقوم مقامه. فيكون كالحربي الذي دخل دار الإسلام بدون أمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الفرع الرابع: في لفظ الأمان ينعقد الأمان بكل لفظ يفيد مقصوده سواء كان صريحاً أو كناية أو إشارة، أو رسالة أو غيرها. أولاً: مثال اللفظ الصريح: كقوله: أمنتك، أو أجرتك، أولا خوف عليك، أو لا بأس عليك، أو لا تفزع، أو لا توجل، أو لا تذهل، أو ألق سلاحك، أو أنت آمن، أو بلفظ صريح غير عربي ككلمة مترس1 بالفارسية، أي لا تخف وغيرها من الألفاظ الصريحة.2 والدليل على انعقاد الأمان بهذه الألفاظ: أولاً: قوله سبحانه تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 3.   1 معناه لا تخف - هو بفتح الميم والتاء وسكون الراء، ويجوز سكون التاء وفتح الراء. كشاف القناع 3/106. 2 بدائع الصنائع 7/106، والبحر الرائق 5/109، والخراج ص 205، والمنتقى 3/172- 174، وقوانين الأحكام الشرعية ص174، وحاشية الدسوقي 2/182، وحاشية العدوي 2/6، ومغني المحتاج 4/236-237، وتحرير الأحكام ص 348، وتحفة المحتاج 9/267، وروضة الطالبين 10/279، والمغني 8/4879، والمبدع 3/391، وكشاف القناع 3/106. 3 التوبة: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: "أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت".1 ثالثاً: وقوله صلى الله عليه وسلم "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".2 رابعاً: وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجمياً فقال له مترس فقد أمنه.3 ثانياً: مثال اللفظ الكنائي: أنت على ما تحب، أو كن كيف شئت، أو طب نفساً، أو تعال فاسمع الكلام، ولفظ الكناية لا بد فيه من النية بخلاف اللفظ الصريح.4 ثالثاً: لفظ الإشارة: كالإشارة بالإصبع إلى السماء سواء كانت الإشارة من ناطق أو اخرس ومثل الإشارة الأمارة، كترك القتال.5 لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "أيما رجل من المسلمين   1 سبق تخريجه ص 201. 2 أخرجه مسلم 3/1406، 1408، كتاب الجهاد باب فتح مكة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 3 أخرجه البخاري تعليقاً 2/204 باب الجزية والموادعة وابن منصور 2/230، وعبد الرزاق 5/2204. 4 شرح السير الكبير 1/190-244، وشرح الدر المختار 1/467 والبدائع 7/106، وحاشية الدسوقي 2/186، وقوانين الأحكام ص 174، ومنح الجليل 1/730، وتحرير الأحكام ص 347-348 وتحفة المحتاج 9/267، والشرح الكبير 10/558، والزوائد 2/352، والإنصاف 4/203-204، والمبدع 3/391. 5 المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل إليه فقد أمنه الله فإنما نزول بعهد الله وميثاقه".1 وقال الإمام أحمد بن حنبل: "إذا أشير إليه بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان، وكل شيء يرى العلج2 أنه أمان فهو أمان".3 رابعاً: وينعقد الأمان بالكتابة: وبالرسالة سواء كان الرسول مسلماً أو كافراً4، وسواء كانت الرسالة بلغة عربية أو بأية لغة أخرى. مدة الأمان المستأمن إذا أراد الدخول إلى دار الإسلام وطلب الأمان، يعقد معه الأمان مدة مؤقتة، وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه المدة إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: أن مدة الأمان يجب ألا تبلغ السنة، فإن أقام سنة فرضت عليه   1 أخرجه عبد الرزاق 5/222، وسعيد بن منصور 2/230 باب الإشارة إلى المشركين. 2 العِلْج: الرجل الضخم من كفار العجم ويطلق على الكفار مطلقاً، والجمع علوج وأعلاج. المصباح المنير 2/425. وقال النووي: العلج الكافر الغليظ الشديد سمي به لأنه يدفع بقوته عن نفسه ومنه سمي العلاج لدفعه الداء. روضة الطالبين 10/285. 3 المبدع 3/391. 4 المبدع 3/391. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الجزية، وصار ذمياً بعد تنبيه الإمام عليه في أنه إن قام سنة وضعت عليه الجزية. فالحربي إذا دخل دار الإسلام يطلب الأمان عقد معه الأمان لمدة مؤقتة أقل من سنة قلا يمكن من الإقامة الدائمة أو الطويلة، وإنما يسمح له بالإقامة اليسيرة. وهو قول فقهاء الحنفية ووجه للشافعية.1 القول الثاني: أن مدة الأمان يجب ألا تزيد على أربعة أشهر، ويبلغ بعدها المأمن، وهذا في حق الرجال المستأمنين. أما النساء: فلا يحتاج في أمانهم إلى التقييد بمدة معينة وقد نص الإمام الشافعي في الأم على أن المرأة المستأمنة إذا كانت ببلاد الإسلام لم تمنع ولا تتقيد بمدة لأن الأربعة إنما هي للرجال من المشركين. وهو قول المالكية والمشهور عند الشافعية.2   1 شرح الكنز للزيلعي 3/268، والفتاوى الهندية 2/234، وشرح فتح قدير 5/327، وشرح السير الكبير 1/344، ومغني المحتاج 4/238، وفتح الجواد 2/338، وحاشية إعانة الطالبين 4/207-208، وروضة الطالبين 10/281 والأحكام السلطانية للماوردي ص 146. 2 قوانين الأحكام ص 75، وأسهل المدارك 2/217، وتحرير الأحكام ص 349، وحاشية الشرقاوي 2/421، وتحفة المحتاج 9/268، والسراج والوهاج ص 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 القول الثالث: يجوز عقد الأمان مطلقاً أو مقيداً بمدة سواء كانت المدة طويلة أو قصيرة/ بخلاف عقد الهدنة فإنها لا تجوز إلا قصيرة. ولكنهم وضعوا حداً للمدة المقيدة فقالوا يجب ألا تزيد على عشر سنين، أي أن المستأمن تجوز له الإقامة في دار الإسلام أكثر من سنة إذا لم تحدد مدة أمانة بأقل منها. وهو قول فقهاء الحنابلة.1 قيل للإمام أحمد قال: الأوزاعي: "لا يترك المشرك في دار الإسلام إلا أن يسلم أو يؤدى فقال الإمام أحمد إذا أمنته فهو على ما أمنته".2 الأدلة: أ- أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يلي: 1- قالوا: إن الأصل أنه لا يقيم الحربي الإقامة الدائمة في دار الإسلام إلا بدفع الجزية، ومدة السنة وما فوقها هي المدة التي تجب بها الجزية، فمن أجل ذلك لا يجوز عقد الأمان إلا فيما دون السنة.   1 المغني 8/400، والإنصاف 4/206، 207، وغاية المنتهى 2/577-578، والمبدع 3/393، وكشاف القناع 3/107، والكافي 4/331، والزوائد 2/352، والمقنع بحاشيته 1/518، والمحرر 2/180. 2 المغني 8/400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 2- وأيضاً إذا طالت مدة إقامته يخاف منه الضرر على المسلمين، لأنه قد يكون جاسوساً.1 ب- أدلة أصحاب القول الثاني: الذين حددوا مدة الأمان بأربعة أشهر بالنسبة للرجال، أما النساء فلا تحديد لمدة إقامتهن: أولاً: بالقياس على مدة الهدنة، ومدة الهدنة التي أعطاها الشارع للمشركين حددها بأربعة أشهر بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} 2 وهادن الرسول صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية تلك المدة فقط.3 ثانياً: بالنسبة للتفريق بين الرجال والنساء أن التقييد بمدة معينة بالنسبة للرجال لئلا يتركوا في دار الإسلام بلا جزية، أما المرأة فليست من أهل الجزية.4 ج - أدلة أصحاب القول الثالث: الذين قالوا بأن مدة الأمان تجوز لأكثر من سنة: أن المستأمن أبيح له الإقامة في دار الإسلام من غير التزام جزية فلم تلزمه جزية كالنساء والصبيان، ولأن المستأمن لو كان ممن لا يجوز أخذ   1 شرح الكنز 3/268، ومغني المحتاج 4/238. 2 التوبة: 2. 3 مغني المحتاج 4/260. 4 مغني المحتاج 4/238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الجزية منه يستوي في حقه السنة فما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين، فإذا جازت له الإقامة في أحدهما جازت في الأخرى قياساً لها عليها، وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة} أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة الإعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق، فإنه يجوز الإقامة من غير التزام لها ولأن الآية تخصصت بما دون الحول فنقيس على المحل المخصوص.1 الرأي المختار: إن مدة الأمان من الأمور التي لم يرد فيها نص صريح يدل على تحديدها، فلهذا تكون من الأمور الاجتهادية التي يقدرها الإمام باجتهاده بحسب الحاجة والمصلحة فلا تتقيد مدة الأمان بمدة معينة. لأن قول الحنفية بأن الأصل عدم جواز إقامة الحربي في دار الإسلام أكثر من سنة إلا بالجزية خلاف الواقع، لأنه يجوز أن يقيم غير المسلم بالأمان أكثر من سنة وتندفع مضرته بمراقبته، أو عدم عقد الأمان معه منذ البداية إذا خيف منه الضرر كالتجسس والخيانة لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} .2 أما قياس الشافعية عقد الأمان على عقد الهدنة في تحديد المدة فهو   1 المغني لابن قدامة 8/400. 2 الأنفال: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 قياس مع الفارق وغير صحيح، لأن عقد الهدنة مغاير لعقد الأمان، فالهدنة هي مهادنة الكفار لوقف القتال، والأمان هو الإذن لهم بدخول دار الإسلام لمدة مؤقتة. وقال الإمام الرازي عند تفسيره لآية {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 1: "ليس في هذه الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة المعطاة للمستأمن كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف".2 وقال الشوكاني: "لا دليل على هذا التوقيت بل المتعين الرجوع إلى ما في الأدلة من الإطلاق وقد جاءت بتصحيح الأمان ولم تقيد بوقت، لكن يجوز للمسلمين إذا كان الأمان الواقع من أحدهم مطلقاً أو أن يؤقتوه، وإن كان لمدة طويلة أن يجعلوه للمدة التي تقتضيها المصلحة، فإن رضي من وقع له الأمان بذلك وإلا رد إلى مأمنه".3   1 التوبة: 6. 2 التفسير الكبير للفخر الرازي 4/399. 3 السيل الجرار 4/563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الفرع الخامس: ما ينتقض به أمان المستأمن مع بيان تأمين الرسل والتجار ما ينتقض به أمان المستأمن: ينتقض أمان المستأمن بواحد من أمور منها: 1- النقض من أحد الجانبين من المؤمن أو المستأمن: فالمؤمن له أن ينقض عقد الأمان إذا خاف خيانة المستأمن وضرره على الإسلام والمسلمين، ورأى أن المصلحة في نقضه، ولكنه يجب عليه أن يعلمه بالنقض نفياً للغدر والخيانة1 لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} 2 أي أعلمهم بنقض أمانهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم بالنقض. والمستأمن ينتقض أمانه أيضاً إذا رجع إلى بلاده، ومحل إقامته الدائمة وهي دار الكفر، ولا يعود إلى دار الإسلام إلا بأمان جديد وهذا قول الجمهور.3   1 شرح السير الكبير 1/287، 305، وبدائع الصنائع 7/107، وفتح القدير 5/236، وحاشية الدسوقي 2/185ن وأسهل المدارك 2/17، وتحفة المحتاج 9/267، وروضة الطالبين 10/281، وكشاف القناع 3/105، والمبدع 3/395. 2 الأنفال: 85. 3 شرح السير الكبير 1/395، وحاشية الدسوقي 2/185، وتحفة المحتاج 9/267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقال الحنابلة: "لا ينتقض أمان المستأمن برجوعه إلى دار الكفر لتجارة أو حاجة يقضيها على عزم عودته إلى دار الإسلام، لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة بدار الإسلام فأشبه الذمي إذا دخل لذلك. أما إذا دخل دار الكفر مستوطناً أو محارباً انتقض أمانه في نفسه وبقي في ماله، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت له الأمان الذي معه فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الكفر بقي في ماله لاختصاص المبطل بنفسه".1 2- انتهاء المدة المحددة لعقد الأمان: فإذا انتهت المدة فإن العقد ينتقض تلقائياً من غير حاجة إلى نقضه. ولكن إذا انتهت مدة المستأمن ولا يزال في دار الإسلام فهو آمن حتى رجوعه إلى داره.2 3- ينتقض عقد الأمان بارتكاب المستأمن بعض الجرائم في دار الإسلام، كالقتل، والسرقة، والزنا، وقطع الطريق، وإفساد المسلمين وتضليلهم عن دينهم، لأن المستأمن عند دخوله إلى دار الإسلام مشروط عليه في عقد الأمان، الالتزام بالأحكام الإسلامية العامة، فلا يقتل ولا   1 المغني لابن قدامة 8/400، 401، والمبدع 3/395، وكشاف القناع 3/108. 2 بدائع الصنائع 7/107، وحاشية الدسوقي 2/185، ومغني المحتاج 4/238، والإنصاف 4/206، والمقنع 1/518. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يسرق، ولا يزني، ولا يتعامل بالربا أو غيره من العقود الفاسدة ولا يقطع الطريق، ولا يتجسس ولا يفعل شيئاً فيه مضرة على الإسلام والمسلمين. وهذا عند جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.1 أما فقهاء الحنفية فقد خالفوا الجمهور وقالوا إن المستأمن إذا ارتكب شيئاً من هذه الجرائم لا ينتقض عهده.2 فقال محمد بن الحسن: "إذا دخل الحربي دارنا بأمان، فقتل مسلماً عمداً أو خطأً، أو قطع الطريق، أو تجسس أخبار المسلمين فبعث بها إلى المشركين، أو زنى بمسلمة أو ذمية كرهاً، أو سرق، فليس يكون شيء منها ناقضاً للعهد".3 ولكن المختار ما ذهب إليه الجمهور فالمستأمن بمجرد ارتكابه لجريمة من هذه الجرائم ينتقض عهده، لأنه مشروط عليه في عقد الأمان عدم الأضرار بالمسلمين، وارتكاب مثل هذه الجرائم في دارهم من أعظم الضرر بهم.   1 الخرشي على مختصر خليل 3/119، وشرح الزرقاني 3/118، وحاشية الدسوقي 2/185، ومغني المحتاج 4/238، والمهذب 2/258، والمقنع بحاشيته 1/518، والإنصاف 4/206. 2 بدائع الصنائع 7/106، ومجمع الأنهر 1/657، والاختيار 4/120. 3 انظر: السير الكبير 1/305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 تأمين الرسل، والسفراء، والتجار اتفق الفقهاء على أنه إذا أرسل الكفار رسولاً منهم إلى دار الإسلام ودخلها بدون تقدم أمان فهو آمن، إذا أخرج ما يدل على أنه رسول كرسالة أو غيرها من رئيسه.1 لأن المهمة التي أرسل من أجلها تكون بمثابة الأمان له، فإذا أرسل الكفار رسولاً أو سفيراً إلى الدولة الإسلامية فهو آمن بما أرسل من شأنه. وقد أمن الرسول صلى الله عليه وسلم رسل الكفار الذين يأتون إليه ليطلعوا على ما جد من أخبار الحرب، من الانسحاب أو المصالحة أو استمرار القتال، أو نحو ذلك. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في معاملة رسل الأعداء، وعدم التعرض لأنفسهم وأموالهم بأذى. فقد أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولي مسيلمة الذي هو من ألد أعداء الإسلام. ففي حدي نعيم بن مسعود2رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولاً مسيلمة الكذاب بكتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما وأنتما   1 المبسوط 10/92- 93، وشرح السير الكبير 1/192، قوانين الأحكام الشرعية ص 174، وروضة الطالبين 10/281، ومغني المحتاج 4/243، والمغني 8/400، 523. 2 هو نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، صحابي من ذوي العقل الراجح، شهد عدة غزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن المدينة، وتوفي في خلافة عثمان، وقيل يوم الجمل. أسد الغابة 5/33، والأعلام 8/41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 تقولان مثلما يقول، فقالا نعم، فقال أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما".1 وعن عبد الله رضي الله عنه قال: "مضت السنة أن لا تقتل الرسل".2 أما في هذا الزمان فإرسال الرسل لتلقي الأخبار ونقلها والأشياء المهمة التي تخص الدولة الإسلامية أو غيرها من الدول الأخرى، فهو قليل لتطور الوسائل الحديثة التي تنقل الأخبار في أسرع وقت، ولا يوجد الآن إلا السفراء فهم بمثابة الرسل، فعملهم كسفراء لدى الدول الإسلامية أو غيرها يعتبر تأميناً لهم. أما التجار فقد نص الفقهاء على جواز تأمينهم بناء على العرف والعادة فإذا دخل الحربي دار الإسلام من غير تقدم أمان، وقال جئت تاجراً وكان معه ما يدل على ذلك فهو آمن3، لأن العادة كما يقول ابن قدامة جرت بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم) .4 وهذا القول يشير إلى أن هذا الحكم مبني على العرف والعادة فإذا   1 أخرجه أبو داود في سننه 3/191 كتاب الجهاد باب في الرسل، وأحمد 3/487، والبيهقي 9/221. 2 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/212. 3 الخرشي على مختصر خليل 3/124، وروضة الطالبين 10/280، والمغني 8/523، والمبدع 3/594، وكشاف القناع 3/111. 4 المغني لابن قدامة 8/523. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 تبدلت العادة تبدل الحكم المبني عليها وفي هذا المعنى يقول الفقهاء لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.1 أما في الوقت الحاضر فلم تجر العادة بدخول التجار إلى غير دولهم بغير أمان، فلا بد لهم من ترخيص سابق بالدخول إلى إقليم الدولة شأنهم في هذا شأن غيرهم من المستأمنين، وعلى هذا تجري الدول الإسلامية في الوقت الحاضر فلا تسمح للتجار من الكفار بدخول أراضيها إلا بإذن سابق منها، وليس في هذا المسلك مخالفة للشريعة لأن ما نص عليه الفقهاء في هذه المسألة مبناه العرف، والعادة كما سبق، وقد تغيرت العادة في وقتنا الحاضر فتغير الحكم المبني عليها.2   1 أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 53. 2 المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الفرع السادس: في حقوق المستأمن وواجباته حقوق المستأمن: إن الكافر الذي يدخل دار الإسلام بأمان، له حقوق يجب على الدولة الإسلامية الالتزام بها: وهي على النحو التالي: أولاً: له حق العصمة في نفسه، وماله، وعرضه، وسائر شؤونه ومصالحه مادام متمسكاً بعقد الأمان, لأنه بمجرد عقد الأمان معه فقد عصم نفسه من أن تزهق، ورقبته من أن تسترق، وعرضه من أن يهان، وماله من أن يعتدى عليه. لأن التعرض له والاعتداء عليه بعد عقد الأمان معه، يعتبر غدراً ونقضاً للعهد الذي أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالوفاء به مادام المستأمن مستمسكاً به ولم ينقضه. فقال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 1، وقال جل وعلا: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} 2 وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ   1 النحل: 91. 2 الإسراء: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} 1 وقال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِم} .2 فجميع هذه الآيات الكريمات تدل على وجوب الوفاء بالعهد وعدم الغدر، ومن ذلك العهد الذي يعقد مع المستأمن لدخوله دار الإسلام. وكما دل الكتاب على وجوب الوفاء بالعهد وتحريم الغدر والخيانة فكذلك السنة دلت على وجوب الوفاء بالعهود جميعاً وعدم نفضها غدراً وخيانةً والتي من بينها العهود التي تعقد مع المستأمنين لدخولهم الديار الإسلامية. فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به".3 فبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الغادر للعهود ينصب له يوم القيامة لواء يعرف به يوم القيامة، ويفتضح على رؤوس الأشهاد لأن فعله هذا يسيء إلى الإسلام وإلى الأخلاق الإسلامية العالية من الوفاء بالعهد وعدم الغدر والخيانة.   1 الأنعام: 152. 2 التوبة: 4. 3 أخرجه البخاري 2/206 كتاب الجزية والموادعة باب إثم الغادر وهذا اللفظ عنده عن أنس رضي الله عنه أما لفظ ابن عمر رضي الله عنهما فهو لكل غادر لواء ينصب لغدرته. ومسلم 3/1360، 1361 كتاب الجهاد باب تحريم إثم الغادر وهذا لفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً".1 والمستأمن من المعاهدين الذين يحرم قتلهم أو التعرض لهم بشيء ما أوفوا بالعهد والتزموا به. وقد صرح الفقهاء بوجوب المحافظة على المستأمن وعدم التعرض له أو الاعتداء على شيء من مصالحه. فقال السرخسي: "أموالهم صارت مضمونة بحكم الأمان فلا يمكن أخذها بحكم الإباحة وأن ماله الذي اكتسبه في دار الإسلام يبقى على ملكه، ولا تزول عنه ملكيته ولو عاد إلى دار الحرب. وقال أيضاً: يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا، وأن ينصفهم ممن يظلمهم، كما يجب عليه ذلك في حق أهل الذمة، لأنهم تحت ولايتنا".2 وقال الموصلي: "لا يجوز لأحد التعرض له - أي للمستأمن- بقتل، ولا أخذ مال كما لو أمنه الإمام".3 وقال العدوي المالكي: "واعلم أن ثمرة الأمان العائدة على المؤمن حرمة قتله واسترقاقه وعدم ضرب الجزية عليه".4   1 أخرجه البخاري 2/202 كتاب الجزية والموادعة باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم. 2 المبسوط 10/119، وشرح السير الكبير 4/108،109. 3 انظر: الاختيار 4/123. 4 انظر: حاشية العدوي 2/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وقال الشيرازي: "إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان في تجارة أو رسالة ثبت له الأمان في نفسه وماله ويكون حكمه في ضمان النفس والمال حكم الذمي".1 وقال النووي: "إذا نعقد الأمان صار المؤمن معصوماً عن القتل والسبي".2 وقال ابن القيم: "المستأمن يحرم قتله وتضمن نفسه".3 وهذه النقولات من الفقهاء تدل دلالة واضحة على مدى حرصهم على رعاية الأمان، والحفاظ على حقوق المستأمن والابتعاد عن كل عمل قد يدخل في نطاق الخيانة وعدم الوفاء بمقتضيات الأمان.4 ثانياً: للمستأمن حق الحرية في الذهاب والمجيء، والتنقل من مكان إلى آخر داخل في دار الإسلام. إلا الأماكن التي ورد النهي في منع المشركين من دخولها أو الإقامة فيها وستأتي بالتفصيل. ثالثاً: يتمتع المستأمن بحق الحرية الدينية فليس لأحد من المسلمين   1 انظر: المهذب 2/338. 2 انظر: روضة الطالبين 10/281. 3 انظر: أحكام أهل الذمة 2/713. 4 أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 التعرض له ولما يدين به، لأن الأصل المقرر في الإسلام {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1 ولكن ينبغي أن يبين له أن الإسلام هو الدين الحق، والذي يجب على جميع البشرية اعتناقه، لأن من الحِكَم التي من أجلها أبيح عقد الأمان له هو الإطلاع على محاسن الإسلام وعدالته ومن ثم دخوله فيه. والدولة الإسلامية لا تكره الذمي وهو من رعاياها على تغيير دينه، فمن باب أولى أن لا تكره المستأمن وهو أجنبي عنها. رابعاً: له حق الخروج من دار الإسلام والرجوع إلى بلده دار الكفر كما له حق التمتع بكامل المرافق العامة للدولة الإسلامية كوسائل المواصلات. فله أن يتمتع بالخدمات التي توفرها الدولة الإسلامية لسكانها من السكن والماء والكهرباء وغير ذلك. كما له حق التمتع بجميع الحقوق العائلية من الزواج وغيره، بشرط عدم مخالفته النظام العام للدولة الإسلامية فليس له أن يتزوج بمسلمة.2 خامساً: له حق التمتع في مزاولة التجارة والصناعة والبيع والشراء   1 البقرة: 256. 2 بدائع الصنائع 7/106، وأسهل المدارك 2/17، وروضة الطالبين 10/280،281، والهداية لأبي الخطاب 2/115. وأحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص117، 121، 123، 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وسائر المعاملات المالية، مع أهل دار الإسلام، فلا يمنع من التعامل معهم في البيع والشراء، بل هو أمر مباح ما دام هذا التعامل مطابقاً لأحكام الشريعة الإسلامية وغير مخالف لها.1 وفي هذا يقول ابن رشد: "وأما مبايعة أهل الحرب ومتاجرتهم إذا قدموا بأمان فذلك جائز".2 إلا أنهم لا يمكنون من شراء ما فيه تقوية لأهل دار الحرب من سلاح أو نحوه، ولا يجوز لسكان دار الإسلام أن يبيعوهم شيئاً من ذلك. قال ابن رشد: "لا يجوز أن يباعوا مما يستعينون به في حروبهم من كراع أو سلاح أو حديد ولا شيئاً مما يرهبون به المسلمين قي قتالهم".3 وقال في شرح الأزهار: "لا يجوز أن يمكن المستأمن من شراء آلات الحرب سيف أو قوس، أو درع أو نحو ذلك".4 والسبب من عدم بيعهم آلات الحرب لما يترتب عليه من إلحاق الضرر بالمسلمين بتقوية أعدائهم الكافرين. وإذا اشترى المستأمنون شيئاً من هذه الآلات الحربية يمنعون من   1 شرح السير الكبير 4/1525، وأسهل المدارك 2/17، وروضة الطالبين 10/280، والمغني 8/523. 2 انظر: المقدمات الممهدات 2/289. 3 المرجع السابق نفسه. 4 شرح الأزهار 4/561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الرجوع به إلى دارهم، ولهم أن يبيعوه قبل الخروج من دار الإسلام ويتسلموا ثمنه، فإن أبوا إلا الخروج به أجبروا على بيعه.1 واجبات المستأمن: إن المستأمن الذي يدخل دار الإسلام بأمان، يجب عليه الالتزام بجميع الواجبات المشروطة عليه في عقد الأمان والتي منها: أولاًً: احترام أحكام الشريعة الإسلامية، والامتناع عن كل ما يشعر بأن فيه إهانة للمسلمين، وانتقاصاً لدينهم، كسب الله أو كتابه أو رسوله أو دينه أو ذكرهم بسوء أو غير ذلك، كارتكاب الجرائم المحرمة في دارهم كالقتل والسرقة والزنا، والتجسس على المسلمين، لأن مثل هذه الأفعال فيها ابتذال واستهزاء بالمسلمين وبعقيدتهم التي هي أساس قيام دولتهم الإسلامية. وفي هذا يقول الكاساني: "المستأمن يلتزم بأحكام الإسلام مادام في دارنا كما يلتزم بها الذمي".2 ثانياً: يجب عليهم المحافظة على الأمن والنظام العام في دار الإسلام وعدم الخروج عليهما. ثالثاً: يجب على المستأمنين الامتناع من إظهار المحرمات في دار   1 شرح السير الكبير 3/278، والفتاوى الهندية 2/234، أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 131،132. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الإسلام كخمورهم وخنازيرهم ومعتقداتهم الفاسدة، لأن في الإشهار بهذه الأشياء ضرراً على المسلمين، والأمان عقد معهم بشرط عدم الضرر بالإسلام والمسلمين.1 رابعاً: يجب على المستأمن ألا يتعامل بالمعاملات المحرمة في الشريعة الإسلامية. فلا يسمح له بالتبايع بالربا وغيره من العقود الفاسدة، لأنه ما دام في دار الإسلام فهو كالمسلمين، والمسلم يحرم عليه التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة. فالمستأمن ما دام في دار الإسلام يجب عليه الخضوع لأحكام الإسلام فيما يتعلق بالمعاملات من التجارة والصناعة، والبيع والشراء، مع المسلمين أو غيرهم من سكان دار الإسلام كالذميين. فحتى لو كان التعامل بالربا بينه وبين ذمي أو مستأمن آخر فإنه يمنع من ذلك لأنه في دار الإسلام ويلتزم بأحكامه ونظامه.2 هذه هي أهم الواجبات التي يجب على المستأمن أن يلتزم بها ما دام في دار الإسلام، أما إذا فرط في شيء من ذلك، فإنه يعتبر ناقضاً للعهد،   1 السير الكبير 4/1528، وفتح القدير 6/58، والخرشي على خليل 3/148، ومنح الجليل 1/623، والمهذب 2/358، وكمغني المحتاج 4/257، وكشاف القناع 3/133، وأحكام أهل الذمة 2/713، وفقه السنة 2/698، وآثار الحرب ص227 2 الخراج لأبي يوسف ص 188، 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ويكون لا عصمة له فدمه هدر، وماله مباح للمسلمين فيكون كالحربي الذي دخل دار الإسلام بدون أمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 المبحث الثالث: في تحديد معنى دار الكفر وأقسامها المطلب الأول: في تحديد معنى دار الكفر عرف العلماء دار الكفر بتعاريف كثيرة مختلفة في الشكل واللفظ، ومتفقة في المضمون والمعنى، وكلها تدور حول أن دار الكفر هي الدار التي تظهر فيها أحكام الكفر وتكون السلطة فيها لغير المسلمين. وسأذكر بالتفصيل تعريفها عند الفقهاء والعلماء المعاصرين ليتضح معناها والمراد بها. أولا: تعريف الفقهاء لدار الكفر: أ- عرف فقهاء الحنفية دار الكفر بأنها: الدار التي يجري فيها أمر رئيس الكافرين ويخاف فيها المسلمون من الكفار، فعلى هذا تكون دار الكفر هي الدار التي لا يكون فيها السلطان والمنعة للحاكم المسلم والغلبة فيها لأحكام الكفر.1 يقول الكاساني: "تصير الدار دار كفر بظهور أحكام لكفر فيها".2 قلت: ولا يمكن ظهور أحكام الكفر في الدار الظهور الحقيقي إذا لم تكن السلطة والسيادة فيها للكفار. وعن أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهما قالا: "إذا أظهروا أحكام   1 كشف اصطلاحات الفنون 2/265، والمبسوط 10/114. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الشرك فيها فقد صارت دارهم دار كفر، لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة، فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين فكانت دار كفر".1 ويفهم من هذا أن الدار التي تظهر فيها أحكام الشرك وتكون الغلبة والسلطة فيها للمشركين، والقوة لهم فيها على المسلمين هي دار الكفر. وهذا ما قال به الإمام أبو حنيفة: فقال السرخسي: "ولكن أبا حنيفة يعتبر تمام القهر والقوة"2-أي لأحكام الكفر -. فمتى قهروا المسلمين، وتقووا عليهم، وغلبوهم صارت دارهم دار كفر. ب - أما فقهاء المالكية فقالوا عن تعريف دار الكفر بأنها: "الدار التي تظهر وتجري فيها أحكام الكفار". 3 قال الإمام مالك: "كانت مكة دار كفر لأن أحكام الجاهلية ظاهرة يومئذ" 4 قلت: ولا يمكن أن تجري أحكام الكفار إذا لم تكن السلطة والسيادة في الدار لهم.   1 انظر: المبسوط 10/114. 2 المرجع السابق نفسه. 3 المقدمات الممهدات لابن رشد 2/285، وبلغة السالك 2/167، والمدونة 3/23. 4 انظر: المدونة الكبرى 3/23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وعرفها الشافعية بأنها: "الدار التي لا يثبت للمسلمين عليها يد".1 وعرفها الحنابلة بأنها: "الدار التي تغلب فيها أحكام الكفر".2 فالدار التي تكون فيها الغلبة لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام هي دار الكفر عندهم. قال القاضي أبو يعلي: "وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار الكفر".3 وقال ابن القيم: "وما لم تجري عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها فهذه الطائف قريبة إلى مكة جداً ولم تصر دار إسلام بفتح مكة".4 وقال ابن سعدي: "إن دار الكفر هي التي يحكمها الكفار وتجري فيها أحاكم الكفر، ويكون النفوذ فيها للكفار، وهي على نوعين بلاد كفار حربيين، وبلاد كفار مهادنين بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة، فتصير إذ كانت الأحكام للكفار دار كفر ولو كان بها كثير من المسلمين".5   1 الأحكام السلطانية للماوردي ص 191. 2 المبدع 3/313، والانصاف 4/121، والمقنع بحاشيته 1/485، وكشف القناع 3/43. 3 انظر: المعتمد في أصول الدين ص 276. 4 انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/366. 5 انظر: الفتاوى السعدية 1/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وعرفها الظاهرية: "بأنها الدار التي يملكها ويحكمها الكفار وتغلب فيها أحكامهم لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها سواء كان مسلما أو كافرا".1 وعرفها الشوكاني بأنها: "الدار التي تظهر فيها أحكام الكفر" فقال: "إن الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الكفر، بحيث لا يستطيع من فيها من المسلمين أن يظهر دينه إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الكفر، فهذه دار كفر ولا يؤثر ظهور بعض الخصال الإسلامية، لأنها لم نظهر بقوة المسلمين، ولا بصولتهم، وإنما ظهرت بعد الإذن فيها من الكفار". 2 ثانيا: تعريف العلماء المعاصرين لدار الكفر: قال سيد قطب: "دار الكفر هي الدار التي تسيطر عليها عقيدة الكفر وتحكم فيها شرائعه، فتشمل كل بلد تطبق فيها أحكام الكفر وتحكمه شريعة الكفر".3 وقال عبد القادر عودة: "دار الكفر تشمل كل البلاد غير الإسلامية التي لا تدخل تحت سلطان المسلمين، أولا تظهر فيها أحكام الإسلام، سواء أكانت هذه البلاد تحكمها دولة واحدة، أو تحكمها دول متعددة، ويستوي أن يكون بين سكانها المقيمين إقامة دائمة مسلمون أولا   1 انظر: المحلى لابن حزم 13/140. 2 انظر: السيل الجرار 4/575. 3 معالم في الطريق ص 150، 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 يكون، مادام المسلمون عاجزين عن إظهار أحكام الإسلام".1 وجاء في معجم لغة الفقهاء: "دار الكفر البلاد التي يكون فيها المسلمون قلة والحكم فيها بغير أنظمة الإسلام". 2 وقال عبد الوهاب خلاف: "دار الكفر هي الدار التي لا تجرى عليها أحكام الإسلام، ولا يأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أم ذميين".3 وقال صاحب القاموس الإسلامي: "دار الكفر هي الدار التي تخضع لحكم الكفار، والأحكام النافذة فيها أحكامهم، ويسكنها الكفار وغيرهم"4 وبعد استعراض هذه التعاريف عند الفقهاء، والعلماء المعاصرين، لدار الكفر نجدها متفقة في المدلول والمعنى، وهو أن دار الكفر ما يحكمها ويسيطر عليها الكفار، وتغلب فيها أحكامهم على الأحكام الإسلامية، وإن كانوا قلة والمسلمون كثرة، وإن كان البعض لم يذكر في تعريفها إلا غلبة الأحكام الكفرية، ولم يذكر السلطة لأنها تأتي تبعاً لغلبة الأحكام وظهورها فلا يمكن أن تغلب الأحكام الكفرية وتظهر الظهور الحقيقي. إلا إذا كانت السلطة والسيادة في الدار لهم وليس للمسلمين.   1 التشريع الجنائي الإسلامي 1/375. 2 معجم لغة الفقهاء ص 205. 3 السياسة الشرعية ص 69. 4 القاموس المحيط 2/320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وهذا هو التعريف الحقيقي لدار الكفر عند علماء الإسلام كافة وينبغي لمن جله أو تجاهله، أن يطلع عليه، ليعرف من خلاله أن الأرض داران، دار إسلام وهي ما تغلب فيها أحكام الإسلام وسلطانه، ودار كفر وهي ما تغلب فيها أحكام الكفر وسلطانه. والذي يظهر من تعريف العلماء لكلا الدارين أن المعول في تمييز الدار من دار إسلام، أو دار كفر، هو وجود السلطة وسريان الأحكام، فإن كانت الأحكام والسلطة إسلامية كانت الدار دار إسلام، وإن كانت الأحكام والسلطة غير إسلامية كانت الدار دار كفر. وفي هذا يقول محمد بن الحسن: "المعتبر في حكم الدار هو السلطان والمنعة في ظهور الحكم". 1 وقال بعض العلماء: "ويظهر في تقسيم الدارين، أن المعول في تمييز الدار هو وجود السلطة وسريان الأحكام، فإن كانت إسلامية كانت دار إسلام، وإذا كانت غير إسلامية كانت الدار دار كفر، وهذا واضح من تعريف الفقهاء لكل من الدارين".2 وبهذا يتضح أن دار الكفر هي الدار التي تكون السلطة والسيادة وغلبة الأحكام فيها لغير المسلمين. والمقصود بالسلطة والسيادة أن يكون رؤساء وحكام هذه الدار غير   1 السير الكبير 4/8، 10. 2 العلاقات الدولية في الإسلام على ضوء الإعجاز البياني في سورة التوبة ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 مسلمين - أي كافرين - لا يلتزمون بشريعة الله، ويجحدونها ولا يطبقونها في أرضه، وإنما يطبقون الأنظمة والقوانين الوضعية التي وضعها البشر. والمقصود أيضاً بغلبة الأحكام - هو عكس غلبة أحكام الإسلام. أي أن أحكام الكفر عي الغالبة من عبادة غير الله والشرك به. وكلمة الكفار هي النافذة، يستعبد الناس بعضهم بعضاً، ويظهر الظلم وأعظمه الشرك بالله، وإعطاء غيره حق التشريع، والتحليل والتحريم، فيما لم يأذن به الله، ويسيطر ويتسلط القوي على الضعيف ليأخذ حقه بقوته، وترتفع راية الكفر، وتختفي راية التوحيد ويكون النظام العام المحترم هو نظام الكفر، لا شريعة الله وأحكامه التي شرعها لعباده.1   1 الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 المطلب الثاني: في أقسام دار الكفر وفيه فرعان: تنقسم دار الكفر إلى قسمين: 1- دار كفر حربية - دار حرب. 2- دار كفر غير حربية - دار عهد. وفي هذا يقول ابن القيم: "والكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد".1 فأهل الحرب هم الكفار الحربيون أهل دار الحرب، وأهل العهد هم الكفار المعاهدون أهل دار العهد. وقال ابن سعدي: "دار الكفر على نوعين: بلاد كفار حربيين- أي دار الحرب- وبلاد كفار مهادنين- بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة2 - أي دار العهد-. وذكر صاحب معالم في الطريق: بعد أن ذكر معنى دار الإسلام وما عداها دار كفر، علاقة المسلم بها إما القتال وهذه هي دار الحرب وإما المهادنة على عهد أمان وهذه هي دار العهد. ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين.3 قلت: ومما يدل على هذا التقسيم أي تقسيم دار الكفر إلى دار حرب ودار عهد:   1 انظر: أحكام أهل الذمة 2/475. 2 انظر: الفتاوى السعدية 1/92. 3 انظر: معالم الطريق لسيد قطب ص 150، 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه"1. فهذا الحديث نص صريح، في تقسيم دار الكفر إلى دار حرب يجب نصب العداء التام لها، لأنه لا يوجد بينها وبين المسلمين علاقة سلم ومهادنة بل العلاقة بينهما القتال والمحاربة. ودار عهد لا تجوز محاربتها للعهد والمهادنة التي توجد بينها وبين المسلمين فالعلاقة بينهما علاقة سلم وهدنة ومصالحة.   1 أخرجه البخاري في صحيحه 3/275 كتاب الطلاب باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الفرع الأول في القسم الأول: وهي دار الكفر الحربية - دار الحرب - دار الحرب هي الدار التي تنصب العداء التام للإسلام والمسلمين وتحاول جادة في القضاء عليه وعليهم، ولا فرق بين أن تعلن ذلك أو لا تعلنه ولم يكن بينهما وبين المسلمين معاهدات، فالعلاقة بينها وبين المسلمين علاقة عداء وحرب. وهذا ما صرح به الفقهاء فقالوا: إن دار الحرب هي الدار التي يتسلط عليها الكفار، وتغلب فيها أحكامهم، ويخاف فيها المسلمون من الكفار.1 وقد اختار بعض العلماء المعاصرين تعريفاً لدار الحرب غير هذا التعريف ومضمونه: "أن دار الحرب هي الدار التي تعلن الحرب على المسلمين فقط، أما إذا لم تعلن فليست بدار الحرب"2. وقال به الكثير من العلماء المعاصرين.3 فعلى رأي هؤلاء ومن سار على نهجهم، تكون الدول الكافرة التي لا تعلن الحرب على المسلمين، وليس بينها وبين المسلمين عقود معاهدات   1 المبسوط 10/114، وكشاف اصطلاحات الفنون 2/265، والمدونة 3/23، والمبدع 3/313، وكشاف القناع 3/43، والفتاوى السعدية 1/92. 2 معجم لغة الفقهاء ص 205. 3 انظر: آثار الحرب للزحيلي ص 195، 196، والإسلام شريعة الحياة لتوفيق على وهبة ص 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أو علاقات دولية ليست بدار الحرب يفترض على المسلمين أن يعدوا العدة لجهادهم. ويمكن أن نقول لهؤلاء بأن دار الحرب التي جانبهم الصواب في معناها وحقيقتها التي يجب على المسلمين أن ينصبوا لها العداء التام ما دامت السماوات والأرض - هي الدار التي تنصب العداء التام للإسلام والمسلمين ولا فرق بين أن تعلن ذلك أو لا تعلنه، ولم يكن بينها وبين المسلمين عهد أو علاقات دولية، والعلاقة بينهما علاقة عداء وحرب. وينبغي أن يعلم أيضاً أن دار الحرب في عداء دائم ومستمر مع دار الإسلام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن كلمة حربي ترادف كلمة عدو دائماً وأبداً، وأن الدولة الكافرة التي لا تعلن الحرب على المسلمين، ولم يكن بينهم وبينها معاهدات، أو علاقات، أخطر على الإسلام والمسلمين من تلك التي تعلن الحرب عليهم، لأن الدول الكافرة التي تعلن الحرب على المسلمين ربما كان هذا في صالحهم ليأخذوا حذرهم ويعدوا العدة لمواجهتهم، ومحاربتهم، وإخضاعهم لسلطان الإسلام وأحكامه. أما التي لا تعلن الحرب عليهم فإنها تحاربهم وتقضي عليهم سراً من حيث لا يعلمون، وهم نائمون، ينتظرون الإعلان. وأيضاً قولهم هذا خلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، الذين كانوا يعتبرون جميع دار الكفر التي لم تعقد معهم المعاهدات، والموادعات، والمهادنات، دور حرب، تجب محاربتها، وإخضاعها لحكم الإسلام وسلطانه وإن لم تعلن الحرب على المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الفرع الثاني في القسم الثاني: دار الكفر غير الحربية - دار العهد - العهد لغة: يطلق على الأمان، قال تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1 أي أماني، وعلى الذمة تقول هذا في عهدي أي في ذمتي، والمعاهد الذمي، وعاهده أي أعطاه عهداً فهو معاهد ومعاهد. ويطلق العهد على الموثق واليمين يحلف بها الرجل، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 2، وتقول على عهد الله وميثاقه، وتقول علي عهد الله لأفعلن كذا، ومنه ولي العهد لأنه ولي الميثاق. ويطلق على الوفاء: قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 3 أي من وفاء. وعلى الوصية، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} .4 ويقال عهد إلي في كذا أي أوصاني. والعهد يطلق على كل ما عوهد الله عليه وكل ما كان بين العباد   1 البقرة: 124. 2 النحل:91. 3 الأعراف: 102. 4 يس: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 من المواثيق، وأكثر ما يطلق العهد في الحديث على أهل الذمة.1 أما دار العهد: فهي دار الكفر التي عقد أهلها العهد بينهم وبين المسلمين، بعوض أو بغير عوض بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين أي أن العلاقة بين أهلها وبين المسلمين علاقة سلمية لا حربية.2 وهذا العهد تكون مصلحة المسلمين فيه هي الراجحة ويكون إلى مدة معينة وبشروط إسلامية. أما دور الكفر المعاهدة في هذا الوقت فلا ينطبق عليها هذا التعريف ونحتار فيما يطلق عليها، لأن المعاهدات والعلاقات الدولية التي تكون بينها وبين المسلمين تكون على غير شروط إسلامية، والمصلحة الراجحة فيها تكون لصالح الكفار، وكذلك مدتها تكون مؤبدة غير مقيدة بزمن، وتساعد أعداء المسلمين بالمال، والرجال، والسلاح، ومتى رأت أن المصلحة في نقض العلاقة بينها وبين الدول الإسلامية، نقضت هذه العلاقة والاتفاقية بدون إنذار أو إشعار. وبناء على هذا يظهر أن الدول الكافرة التي بينها وبين المسلمين عهود واتفاقات وعلاقات في هذا الزمان أقرب إلى دار الحرب وإن لم تعلن ذلك.   1 النهاية لاين الأثير 3/115، ولسان العرب 3/311 - 312 والمصباح المنير 2/435، ومختار الصحاح ص 460، والمعجم الوسيط 2/640. 2 الأحكام السلطانية للماوردي ص 138، ومغني المحتاج 4/232، وأحكام أهل الذمة 2/465، والفتاوى السعدية 1/92، والعلاقات الدولية في الإسلام ص 54، والشرع الدولي ص50، وحقوق أهل الذمة ص، ومعجم لغة الفقهاء ص 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وأهل العهد على ثلاثة أصناف كما قال ابن القيم: أهل الذمة، وأهل الهدنة، وأهل الأمان. الصنف الأول: أهل الذمة وهم من سكان دار الإسلام والصنف الثاني المستأمنون وقد سبق بيانهم في المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول. أما الصنف الثالث من أهل العهد فهم أهل الهدنة وهم سكان دار العهد. فسأبحث في هذا الصنف الأشياء التي تتعلق بالهدنة، كتعريفها، ومشروعيتها، وشرطها، والآثار المترتبة عليها. أولاً: تعريف الهدنة لغة وشرعاً: فالهدنة في اللغة: المصالحة بعد الحرب، مشتقة من الهدون، وهي السكون والدعة، لأن بها تسكن الحرب والفتنة، هدنت الرجل إذا سكنته، وهادنته صالحته، وهدن عدوه إذا كافه. هدن الصبي سكنه وأرضاه، وهدنت المرأة ولدها أسكنته بكلام وغيره لينام. ويقال للصلح بعد القتال والموادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين هدنة.1   1 النهاية 5/252، ومنال الطالب لابن الأثير ص 357، وتهذيب اللغة 6/203، 204، وتاج العروس 9/366 والقاموس المحيط 4/279، ولسان العرب 13/343، والمصباح المنير 2/636، والمعجم الوسيط 2/978، ومعجم مقاييس اللغة 6/41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 والموادعة بمعنى المهادنة ومعناها المتاركة. قال الشرقاوي: "وتسمى الهدنة موادعة أي متاركة وراحة، من الدعة، وهي حصول الراحة من القتال في تلك المدة التي اتفق عليها، وتسمى مسالمة أي مصالحة، مجمل أسمائها خمسة كلها بمعنى واحد".1 وقال البهوتي: "وهي لغة السكون وتسمى مهادنة وموادعة من الدعة وهي الترك، ومعاهدة من العهد بمعنى الأمان، ومسالمة من السلم بمعنى الصلح".2 أما الهدنة شرعاً: فهي: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة بعوض منهم أو من المسلمين عند الضرورة، وبغير عوض بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين.3 ثانياً: مشروعية عقد الهدنة: إن جواز مصالحة ومهادنة أهل الحرب على ترك القتال مدة من الزمن ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.   1 انظر: حاشية الشرقاوي 2/417. 2 انظر: كشاف القناع 3/111. 3 الاختيار 4/120، وتحفة الفقهاء 3/404، وحاشية الدسوقي 2/250، ومغنى المحتاج 4/260، وحاشية الشرقاوي 2/417 ن والمبدع 3/398، وكشاف القناع 3/111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أ- فدليل مشروعيتها من الكتاب: قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .1 وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .2 وجه الدلالة من الآيات: دلت هذه الآيات الكريمات على جواز عقد الهدنة مع المشركين لأن الله سبحانه وتعالى قد برئ من المشركين، إلا المعاهدين منهم الذين عقدوا الهدنة مع المسلمين، فثبتوا على عهدهم فيجب إتمام العهد إليهم بشرط الوفاء بشروط العهد من قبلهم، فلا يعاونون أحداً على المسلمين.3 2- وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .4   1 البقرة: 1، 2. 2 التوبة: 4 3 الجامع لأحكام القرآن 8/71، ونظرية الحرب ص 437. 4 الأنفال: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فالآية دلت على أن الكفار إذا مالوا إلى الهدنة فينبغي للمسلمين قبولها والميل إليها. قال القرطبي: "إن مالوا يعني الذين نبذ إليه عهدهم إلى المسالمة أي الصلح فمل إليها".1 وقال ابن كثير: "وإن جنحوا أي مالوا للسلم، أي المسالمة والمصالحة، والمهادنة، فمل إليها واقبل منهم ذلك".2 وقال الرازي: "معنى الآية إذا مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح أي فمل إليه".3 وقال ابن حجر: "إن هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين".4 ب - دليل مشروعيتها من السنة: 1- حديث صلح الحديبية، وهو حديث طويل والشاهد منه أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس.5   1 الجامع لأحكام القرآن 8/39. 2 تفسير القرآن العظيم 2/322. 3 التفسير الكبير للفخر الرازي 4/378. 4 فتح الباري 6/275. 5 أخرجه البخاري مطولاً 3/44 باب غزوة الحديبية. ومسلم 3/1409 كتاب الجهاد باب صلح الحديبية عن أنس وأبو داود 3/210 كتاب الجهاد حديث 2766 وهذا لفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 2- وموادعته ومصالحته صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة. فعندما استقر صلى الله عليه وسلم بالمدينة كتب كتاباً بين المسلمين واليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم واشترط لهم.1 وهذه أول معاهدة يعقدها النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين واليهود، وتعتبر من أنفس العقود الدولية، وأمتعها وأحقها، بالنظر والتقدير من الناس كافة، ويا حبذا لو كانت نبراساً للمسلمين في أصول المعاهدات، والعلاقات الدولية بينهم وبين مخالفيهم من أهل الأديان الأخرى.2 إلى غير ذلك من المعاهدات والمهادنات الكثيرة، التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والمشركين. ثالثاً: الإجماع: لقد انعقد إجماع العلماء على جواز الهدنة مع غير المسلمين ولم يعلم لهم في ذلك مخالف.3   1 انظر: زاد المعاد 3/65، والسيرة النبوية لابن هشام 1/501، 504، والروض الآنف 2/16، 18، والحديث طويل وهو متفق عليه في صحيح البخاري 3/15،16 ومسلم 3/1389 كتاب الجهاد. 2 الرسالة الخالدة ص 92 ونظرية الحرب ص 442. 3 الاختيار 4/121، وفتح القدير 5/296، وبداية المجتهد 1/387، وحاشية الدسوقي 2/205، وحاشية الشرقاوي 2/417، وحاشية إعانة الطالبين 3/360، ومغني المحتاج 4/260، والمغني 8/459، والمبدع 3/398، وكشاف القناع 3/111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 من تعقد له الهدنة: تعقد الهدنة مع جميع الكفار بلا خلاف بين العلماء، بحسب المصلحة والمنفعة التي تعود على المسلمين.1 شروط الهدنة: لا تنعقد الهدنة إلا إذا توفرت فيها شروط أربعة - وهي: 1- أن يعقدها الإمام أو نائبه. 2- أن تكون فيها مصلحة للمسلمين. 3- خلو عقدها من الشروط الفاسدة. 4- أن تكون مدة المهادنة محددة بزمن معين. تفصيل هذه الشروط: الشرط الأول: أن يعقد الهدنة مع المشركين الإمام أو نائبه، لأن عقد الهدنة من العقود المهمة التي تحتاج إلى سعة نظر، وتقدير للمصالح العامة وتدبير تام للقضايا الحربية، وهذا كله لا يمكن توافره إلا في إمام المسلمين أو من يقوم مقامه. وإن عقد الهدنة غير الإمام أو نائبه، لا تصح، ويعتبر هذا إفتياتاً على الإمام وتعديا على سلطانه ولو جاز أن يعقد الهدنة آحاد الرعية لتعطل الجهاد، فلا يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم والمصلحة في قتالهم، وبهذا   1 شرح السير الكبير 5/1689، وحاشية الدسوقي 2/206، ونهاية المحتاج 8/106، والمجموع شرح المهذب 18/299، والمغني لابن قدامة 8/409 - 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 يكون عقد الهدنة غير صحيح إذا عقده غير الإمام أو نائبه، أو من فوض إليه الإمام الأمر، كولاة الأقاليم لأنه يجوز لوالي الإقليم أن يعقد الهدنة، ولا يحتاج في عقدها إلى إذن جديد، لأن الإمام موليه ومفوضه مصلحة الإقليم، ولأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك والمفسدة فيه قليلة لو أخطأ، فإن تولى عقد الهدنة أحد الأفراد بدون تفويض من الإمام أو نائبه، بطل العقد وهذا عند جمهور الفقهاء.1 وذهب الحنفية إلى أنه يصح عقد الهدنة إذا عقده فريق من المسلمين، بغير إذن الإمام أو من يقوم مقامه. قالوا: لأن المعول عليه كون عقد الموادعة مصلحة للمسلمين وقد وجدت، لأن الموادعة أمان، وأمان الواحد كأمان الجماعة.2 وقال سحنون من المالكية: "كما يجوز عقد الهدنة من الإمام يجوز من غيره من السرايا3، مع الكراهة وعند الضرورة". لكن المختار هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الهدنة لا يعقدها إلاّ   1 فتح القدير 5/204، وتحفة الفقهاء 3/404، والكافي لابن عبد البر 1/469، والتاج والإكليل 3/386، والخرشي 3/150، 151، وقوانين الأحكام الشرعية ص 175، ومغني المحتاج 4/260، ونهاية المحتاج 8/106، وأسنى المطالب 4/224، والمهذب 2/3232 وحاشية الشرقاوي 2/417، والمغني 8/505، والمحرر 2/182، وغاية المنتهى 1/477، والمبدع 3/398. 2 بدائع الصنائع 7/108، 109، والفتاوى الهندية 2/196. 3 السراية: قطعة من الجيش من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة. القاموس المحيط 4/397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الإمام أو من يقوم مقامه لأنها من العقود التي تحتاج إلى نظر واجتهاد، وهذا كله لا يتأتى إلا من الإمام أو نائبه.1 الشرط الثاني: تحقيق المصلحة في عقد الهدنة: اتفق الفقهاء على أن من شروط عقد الهدنة مع الكفار هو تحقيق المصلحة للمسلمين. لقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .2 فهي مقيدة لآية {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} .3 فالله سبحانه وتعالى عندما امرنا بالميل إلى المهادنة والمسالمة، أمرنا بها عندما يطلبها الكفار ويكون المسلمون هم الأعلون، ومصلحتهم من عقد الهدنة هي الأرجح، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما عقد المهادنات والمعاهدات مع يهود المدينة وكفار قريش وغيرهم ليس ذلك كله إلا لحكمة وهي تحقق المصلحة للمسلمين. ومن أمثلة هذه المصلحة: 1- احتمال ضعف المسلمين عن القتال بقلة العدد والعدة وبعقد الهدنة مع عدوهم القوي، يتقوى شأنهم ويتصدون لعدوهم.   1 التاج والإكليل 3/386. 2 محمد: 35. 3 الأنفال:61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 2- الطمع في إسلام من تعقد لهم الهدنة، بعد اطلاعهم على محاسن الإسلام، من مشروعية عقد الهدنة، والوفاء بعقدها وتحريم نقضها بدون سبب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح، وكان صلى الله عليه وسلم مستظهراً عليه ولكنه فعل ذلك رجاء إسلامه فأسلم قبل مضي المدة. 3- احتمال بذل الجزية والتزام أحكام الملة، ومعاونة المسلمين وغيرها من المصالح.1 وبعد أن اتفق الفقهاء اشتراط توافر المصلحة في عقد الهدنة. اختلفوا في وقت وجود المصلحة فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أنه يكفي وجودها وقت إبرام العقد ولا يشترط وجودها طيلة بقاء العقد.2 أما الحنفية: فإنهم اشترطوا استمرار وجود المصلحة طيلة بقاء العقد، فإن صالحهم الإمام مدة، ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم، وذلك لأن الموادعة في رأيهم جهاد معنى، فإذا تبدلت المصلحة عاد المنع من عقدها، لأن الهدنة ما شرعت إلا لأجل المصلحة. 3   1 تحفة الفقهاء 3/404، وفتح القدير 5/204، 205، وبدائع الصنائع 7/108- 109، والاختيار 4/121، والتاج والإكليل 3/386، والخرشي 3/150، 151، وحاشية الدسوقي 2/206، وشرح الزرقاني 3/148 - 149، والمهذب 2/332 - 333، ومغني المحتاج 4/260، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، والمغني 8/459، والمبدع 3/398، وكشاف القناع 3/112. 2 انظر: المرجع السابق نفسه. 3 بدائع الصنائع 7/109، وتبيين الحقائق 3/246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فالمختار في ذلك هو رأي الجمهور بأن وقت وجود المصلحة هو عند إبرام العقد وإن استمرت المصلحة طيلة بقاء العقد فذاك، وأما إذا لم تستمر فلا ننقض إليهم عهدهم ويبقى العقد صحيحاً. الشرط الثالث: خلو عقد الهدنة من الشروط الفاسدة: والشروط في عقد الهدنة تنقسم إلى قسمين: 1- شروط صحيحه - كأن يشترط عليهم الإمام مالاً، أو إعانة المسلمين عند الحاجة، وغيرها، فهذه يجب الوفاء بها حسب ما تم الاتفاق عليه. 2- شروط فاسدة وهي ما كان ممنوعاً في الشرع، ولا يلزم الوفاء بها مطلقاً وتبطل العقد عند جمهور الفقهاء.1 ومن أمثلة الشروط الفاسدة: 1- اشتراط نقض الهدنة حسب الرغبة: فلا يجوز في عقد الهدنة اشتراط نقضها متى شاءوا، أو أن لكل طائفة منهم نقضها متى شاءت.2 وقد أجاز فقهاء الشافعية جواز اشتراط نقضها للمسلمين3 لما فعله   1 شرح السير الكبير 5/1788، والخرشي على مختصر خليل 3/150، وفتح الجواد 2/348، والمغني لابن قدامة 8/465. 2 فتح القدير 5/204، 205، والخرشي 3/150، 151، والمغني 8/466. 3 المهذب2/334، 335، وتحفة المحتاج9/305، والمجموع شرح المهذب 18/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر قال "نقركم بها على ذلك ما شئنا".1 2- التنازل لهم عن بعض الممتلكات الإسلامية كقرية أو قطعة أرض، فهذا الشرط فاسد باتفاق الفقهاء، لعدم توافر المصلحة للمسلمين في ذلك، ولا يجوز التنازل عن جزء من دار الإسلام إلى دار الكفار ولو كان عن طريق دفع المال للمسلمين. 3- اشتراط عدم فك الأسرى المسلمين الذي أسروهم في الحرب، فهذا لا يلزم الوفاء به ويعتبر من الشروط الفاسدة. 4- اشتراط دخولهم الأماكن المقدسة عند المسلمين كالحرمين الشريفين. 5- رد النساء، فلا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات لديار الإسلام إلى الكفار مطلقاً.2 لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا   1 أخرجه البخاري 2/48 كتاب الحرث والمزارعة باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله. ومسلم 3/1148 كتاب المساقاة واللفظ لهما. 2 فتح القدير 204، 205، وحاشية الدسوقي 2/206 والخرشي 3/150،151، وأسهل المدارك 2/18، ومغني المحتاج 4/261، وفتح الجواد 2/348، وحاشية الشرقاوي 2/419، والمغني 8/466، ومطالب أولي النهي 2/586، 587، والمبدع 3/399 - 400، وكشاف القناع 3/113، 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ} الآية1 ولفعله صلى الله عليه وسلم عدما عقد صلح الحديبية فقد كان متضمنا رد النساء إلى الكفار. فجاءت أم كلثوم بنت عقبة مسلمة2 فجاء أخواها فطلباها من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله منع الصلح في النساء" 3. 6- رد السلاح إليهم أو تزويدهم بالسلاح، فقد اتفق الفقهاء على فساد هذا الشرط وهو رد سلاحهم أو إعطائهم شيئاً من سلاح المسلمين. 7- اشتراط ترك مال مسلم أو ذمي بأيديهم، أو إظهار الخمور والخنازير في دار الإسلام. إلى غير ذلك من الشروط الفاسدة التي نهى عنها الشرع وبين أنها باطلة ومردودة على أصحابها.4 فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء   1 الممتحنة: 10. 2 هي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط القرشية الأموية، أخت الوليد بن عقبة، وأخت عثمان بن عفان لأمه. أسد الغابة 7/386. 3 القصة في صحيح البخاري 3/46 باب غزوة الحديبية. 4 فتح القدير 5/205، وجواهر الإكليل 1/219، وقوانين الأحكام الشرعية ص175، والمهذب 2/334 - 335، ونهاية المحتاج 8/108، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، وأسنى المطالب 4/224، والكافي لابن قدامة 4/242، 2143، والمغني 8/466، وغاية المنتهى 1/477، وزاد المعاد 3/308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الله أحق وشرط الله أوثق".1 فجميع هذه النصوص الصحيحة الصريحة، تدل على بطلان الشروط الفاسدة، المخالفة لما جاء في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان في عقد الهدنة أو في غيرها. الشرط الرابع: تحديد مدة الهدنة: اختلف الفقهاء في تحديد مدة الهدنة: فقال فقهاء الحنفية: أن مدة المهادنة هي عشر سنوات وهي المدة التي وادع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً في صلح الحديبية وقالوا أيضاً إنه يجوز عقدها لأكثر من عشر سنين، وذلك منوط بمصلحة المسلمين وخيرهم، لأن تحقيق الخير والمصلحة لا يتوقف بمدة دون مدة.2 وقال فقهاء المالكية: إن مدة الهدنة إلى رأى الإمام يعينها باجتهاده وحسب ما يراه تبعاً للمصلحة. ويستحب ألا تزيد على أربعة أشهر إلا مع العجز3 لقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} .4   1 أخرجه البخاري 2/119 كتاب الشروط باب الشروط في الولاء وهذا لفظه ومسلم 2/1143 كتاب العتق. 2 فتح القدير 5/205، والاختيار 4/121. 3 الكافي لابن عبد البر1/469، وحاشية الدسوقي 2/206، وقوانين الأحكام الشرعية ص 175، والخرشي 3/150، 151، وشرح الزرقاني 3/148-149. 4 التوبة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وروى ابن حبيب عن الإمام مالك جواز مهادنة المشركين السنة، والسنتين، والثلاث وإلى غير مدة.1 أما فقهاء الشافعية فقد فرقوا بين حالة القوة، وحالة الضعف، فقالوا: إذا كان بالمسلمين قوة فتجوز الهدنة أربعة أشهر فما فوق إلى أقل من سنة، لأن المدة إذا بلغت سنة تجب فيها الجزية، فلا يجوز تقريرهم فيها بلا جزية.2 واستدلوا على أن المدة في حالة القوة أربعة أشهر. بقوله سبحانه وتعالى: {بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .3 أما إذا كان بالمسلمين ضعف في العدد والعدة، فتجوز الهدنة إلى مدة تدعو إليها الحاجة وأقصاها عشر سنين. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً في صلح الحديبية عشر سنين4 وهذه المدة هي غاية مدة الهدنة، ولا تجوز الزيادة عليها. ولأن الأصل وجوب الجهاد، إلا فيما وردت فيه الرخصة وهي   1 الجامع لأحكام القرآن 8/41. 2 مغني المحتاج 4/261، والمهذب 2/332، 333، وفتح الجواد 2/348. 3 التوبة: 1،2. 4 سبق تخريجه ص 252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عشر سنين فالتحديد بعشر سنوات مخصص لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1 فما زاد يبقى على مقتضى العموم، والزيادة على هذه المدة باطلة.2 أما فقهاء الحنابلة فلهم في مدة الهدنة روايتان: الرواية الأولى: لا يجوز عقدها لأكثر من عشر سنين. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز عقدها لأكثر من عشر سنين، لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها، خص منه مدة العشر، بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الحديبية، أما ما زاد على العشر، فيبقى على العموم، فعلى هذا إن زادت المدة على عشر بطلت الزيادة.3 الرواية الثانية: يجوز عقد الهدنة لمدة معلومة بحسب رأي الإمام وإن طالت وهذا هو ظاهر المذهب.4 قال أبو الخطاب: ظاهر كلام الإمام أحمد أنه يجوز عقد الهدنة لأكثر   1 التوبة: 5. 2 الأم 4/187 - 189، وتحفة المحتاج 9/305، ومغني المحتاج 4/261، والمهذب 2/334، وحاشية إعانة الطالبين 4/207، ونهاية المحتاج 8/107. 3 المغني 8/460، والمبدع 3/399، وكشاف القناع 3/112، ومطالب أولي النهى 2/586، وأحكام أهل الذمة 2/476، 477، والمحرر 2/182، والاختيارات ص188. 4 انظر: المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 من عشر سنين، على ما يراه الإمام من المصلحة، لأنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد عليها كالإجارة.1 الرأي المختار: والذي يتبين لي أن عقد الهدنة يجوز على أي مدة بدون تحديد لها وإن طالت وهذا بحسب المصلحة والحاجة التي يراها الإمام لأن المصلحة لا تتحقق بمدة دون مدة. ولأن غالب المعقود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم كانت مطلقة، ولم يحددها بوقت معين كمصالحته صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر وغيرها كثير. وفي هذا يقول ابن القيم: "وعامة عهود النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين كانت مطلقة غير مؤقتة جائزة غير لازمة، منها عهده مع أهل خيبر".2 وقال العيني: "ليس في أمر الهدنة حد معين عند أهل العلم لا يجوز غيره مطلقاً، وإنما ذلك على حسب الحاجة، والاجتهاد في ذلك إلى الإمام وأهل الرأي"3. الآثار المترتبة على عقد الهدنة: 1- التزام المسلمين بالوفاء بعقد الهدنة ولا يجوز لهم نقضه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .4   1 المغني 8/460، والمبدع 3/399، والإنصاف 4/221. 2 انظر: أحكام أهل الذمة 2/478. 3 انظر: عمدة القارئ شرح صحيح البخاري 15/105. 4 المائدة: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقده، ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء".2 أما إذا صرح الكفار بنقض العهد، أو فعلوا ما يوجب نقضه بأن خالفوا شرطاً من الشروط السابقة، وكمقاتلة المسلمين علانية أو دخول ديار المسلمين بغير إذن، أو استولوا على أموال المسلمين أو غير ذلك، انتقض عهدهم وجاز قتالهم، والإغارة عليهم، لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} .3 فدلت هذه الآية على أن شرط الوفاء بالعهد هو أن يستقيموا للشروط المشترطة عليهم في عقد الهدنة، فإن لم يستقيموا لهذه الشرط وحاولوا نقضها، ولم نستقم لهم وننقض إليهم عهدهم.4   1 التوبة: 4. 2 أخرجه أبو داود 3/190 باب الإمام يكون بينه وبين العدو عهد، والترمذي 4/143 حديث رقم 1580 باب ما جاء في الغزو وقال حديث حسن صحيح. 3 التوبة: 7. 4 بدائع الصنائع 7/108، 109، وحاشية الدسوقي 2/206، والأم 4/187- 189، والمهذب 2/234، ومغني المحتاج 4/262، والمغني 8/462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} .1 ولما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم باعتدائهم على قبيلة هوازن حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم فقاتلهم وفتح مكة. 2- حمايتهم من التعدي عليهم من قبل المسلمين أو الذميين فمن أتلف شيئاً من أموالهم فعليه ضمانه، فالإمام إذا عقد الهدنة لقوم من المشركين فعليه أن يمنع كل من يقصدهم من المسلمين وأهل الذمة. وليس على الإمام أن يمنع بعضهم من بعض، ولا يمنع عنهم أهل الحرب، لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم. وإنما عقدت على ترك قتالهم بخلاف أهل الذمة فإنهم قد التزموا أحكام المسلمين فلذلك يجب على الإمام منع كل من قصدهم. أما أهل الهدنة فلم يلتزموا بأحكام المسلمين.2 قال ابن قدامة: "وإذا عقدت الهدنة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة، لأنه أمنهم ممن هو في قبضته، وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم، ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئاً فعليه ضمانه ولا تلزمه حمايتهم من أهل الحرب، ولا حماية بعضهم من بعض لأن الهدنة التزام الكف عنهم".3   1 التوبة: 12. 2 المهذب للشيرازي 2/134 - 235، والمجموع شرح المهذب 18/303، 306. 3 انظر: المغني لابن قدامة 8/463، وكشاف القناع 3/15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 عقد الهدنة على دفع المال: يجوز عقد الهدنة مع الكفار على ألا يدفعوا لنا شيئاً من المال. بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث هادن قريشاً يوم الحديبية على غير مال. وكذلك تجوز مهادنة الكفار على مال يدفعونه للمسلمين، لأنه إذا جاز عقد الهدنة على غير مال، فإنه يجوز مع المال من باب أولى. أما عقد الهدنة على أن يدفع المسلمون المال للكفار، فقال الفقهاء: "هذا لا يجوز إلا عند الضرورة". لأن فيه صغاراً للمسلمين، أما إذا كانت هناك ضرورة لدفعه فإنه يجوز، كما إذا خيف على المسلمين الهلاك أو الأسر. لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال فكذلك الأمر ههنا. وإذا كان في بذل المال للكفار صغار، فإن ذلك يجوز تحمله لكي ندفع به صغاراً أعظم منه، وهو القتل، أو الأسر، أو سبي الذرية أو احتلال أرض المسلمين.1 فقد روى عن الزهري أنه قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي عيينة بين حصن، وهو مع أبي سفيان يعني يوم الأحزاب أرأيت إن جعلت لك ثلث   1 تحفة الفقهاء 3/404، والخراج لأبي يوسف ص 207، وشرح السير الكبير 4/1400، والمنتقى 3/159، والأم 4/187-189، ومغنى المحتاج 4/261، وأسنى المطالب 4/225، والمهذب 2/332، والمغني 8/4612، وكشفا القناع 3/112، والمبدع 3/400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان أو تخذل1 بين الأحزاب، فأرسل إليه عيينة إن جعلت الشطر، فعلت.2 وولولا أن ذلك جائزاً لما بذله النبي صلى الله عليه وسلم.3 وكذلك روى أن الحارث بن عمرو الغطفاني بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جعلت لي شطر ثمار المدينة، وإلا ملأتها عليك خيلاً ورجالاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن زرارة، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلمفقالوا: إن كان هذا أمر من السماء فتسليم لأمر الله تعالى، وإن كان برأيك وهواك اتبعنا رأيك وهواك. 4 وقد صالح معاوية الروم على أن يؤدي إليهم مالاً وذلك لضرورة اقتضتها الدولة الإسلامية. 5 وقد سئل الأوزاعي عن حصن للمسلمين نزل به العدو فخاف المسلمون ألا يكون لهم بهم طاقة. ألهم أن يصالحوهم على أن يدفعوا إليهم سلاحهم وأموالهم على أن يرتحلوا عنهم، فقال إذا كان لا طاقة لهم بهم فلا بأس بذلك. وقيل له أيضاً: أرأيت لو وقعت فتنة بين المسلمين فخاف إمام   1 أو تخذل بين الأحزاب أي: تترك نصرتهم وإعانتهم. 2 أخرجه عبد الزراق في المصنف 10/125. 3 كشاف القناع 3/112. 4 الأموال ص 211. 5 المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المسلمين عدوهم عليهم، أيسعه أن يصالح العدو على شيء يدفعه إليهم في كل عام ليدافع بذلك عن المسلمين وعن حرمتهم، قال لا أرى بذلك بأساً إذا كان كذلك.1 فجميع هذه النصوص تدل على أنه يجوز للمسلمين أن يعقدوا الهدنة مع الكفار على مال يدفعونه لهم وهذا عند الضرورة فقط. الفرق بين عقد الذمة وعقد الهدنة: 1- أن عقد الذمة مؤبد بخلاف عقد الهدنة فإنه بحسب اجتهاد الإمام والمصلحة التي تعود على المسلمين. 2- أن عقد الذمة لا يجوز بدون عوض وهو دفع الجزية، بخلاف عقد الهدنة فإنه يجوز بدون عوض. 3- أن عقد الذمة من شروطه الالتزام بأحكام الإسلام العامة بخلاف عقد الهدنة. 4- أن أهل الذمة يقيمون في دار الإسلام إقامة مؤبدة بخلاف أهل الهدنة. 5- يلتزم المسلمون بعقد الذمة الدفاع عن أهل الذمة من الاعتداء عليهم سواء كان من المسلمين أو من غيرهم كالحربيين. بخلاف عقد الهدنة فإن الإمام يلتزم حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة دون أهل الحرب.   1 اختلاف الفقهاء ص 17 - 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المطلب الثالث في سكان دار الكفر يسكن دار الكفر الحربية نوعان من الناس: الأول: الكفار وهم الأصل وهم غير معصومي الدم والمال، فدماؤهم وأموالهم مباحة للمسلمين، ما لم يكن بينهم وبين المسلمين عقد عهد، وموادعة لأنه العصمة في الشريعة الإسلامية لا تكون إلا بأحد أمرين بالإيمان، أو الأمان، والأمر الأول منتفي بالنسبة للكفار، وبقي الأمر الثاني فإن وجد لهم وهو الأمان فقد عصم أموالهم ودمائهم. الثاني: من سكان دار الكفر المسلمون: والمسلم الذي يسكن في دار الكفر إما أن يكون مستأمناً أي دخل دارهم بإذنهم، وكانت بين دار الإسلام ودارهم عقود ومعاهدات، وعلاقات دولية. وإما أن لا يكون مستأمناً، أي دخل دارهم بدون إذنهم ورضاهم، وهو في كلتا الحالتين معصوم الدم والمال بالإسلام، حتى ولو لم يهاجر إلى دار الإسلام فهو عند الجمهور كأي مسلم من أهل دار الإسلام يعصم بإسلامه دمه وماله، ولو كان مقيماً في دار الكفر إقامة مؤبدة، وإذا أراد دخول دار الإسلام فله ذلك متى شاء ولا يمنع من دخولها.1   1 أسهل المدارك 2/135، وروضة الطالبين 10/148، والمسائل الفقهية من كتاب الراويتين والوجهين 2/370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بينما يرى الحنفية أن المسلم المقيم في دار الكفر ولم يهاجر إلى دار الإسلام غير معصوم بالإسلام. لأن العصمة عندهم ليست بالإسلام وحده وإنما يعصم المسلم عندهم بعصمة الدار، ومنعة الإسلام المستمدة من قوة المسلمين وجماعتهم. والمسلم في دار الكفر لا منعة له ولا قوة، فلا عصمة، ولكن لا بأس أن يدخل دار الإسلام في أي وقت شاء، فإذا دخلها استفاد العصمة.1 وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح فالمسلم بمجرد إسلامه عصم دمه وماله، في أي مكان في دار الإسلام أو في دار الكفر، وفي أي زمان، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".2 ففي هذا الحديث يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن من نطلق بالشهادتين فهو معصوم الدم والمال، في أي وقت كان، وإن كان في دار الإسلام أو في دار كفر.   1 بدائع الصنائع 7/252. والتشريع الجنائي الإسلامي 1/375 – 276. 2 أخرجه البخاري 4/196 كتاب استتابة المرتدين. ومسلم 1/52 كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله حديث رقم 34 وهذا لفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أما ما تشمله دار الكفر: فهي تشمل جميع البلدان الني ليس للإسلام فيها سلطان ولا تظهر ولا تغلب فيها أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك أيا كانت أنظمتها القانونية الوضعية أو السياسية. فدور أهل الكفر تعتبر داراً واحدة، وإن تعددت وصارت دوراً شتى فهي بلاد كفر لتسلط الكفار عليها ونفوذ أحكامهم فيها، ويجب على المسلمين دعوة أهلها إلى دين الله وقتالهم إن أصروا على الكفر حتى يخضعوا لسلطان الإسلام وأحكامه أو يمحو من الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المبحث الرابع: في تغير وصف الدار المطلب الأول: في انقلاب صفة الدار لا خلاف بين علماء الإسلام كافة أن دار الكفر تصير وتنقلب دار الإسلام بمجرد إظهار أحكام الإسلام فيها، وتسلط المسلمين عليها.1 لأن المعول عليه في تمييز الدار هو السلطة وغلبة الأحكام فإن كانت السلطة إسلامية والأحكام الغالبة أيضاً إسلامية، كانت الدار دار إسلام بالاتفاق. وفي هذا يقول الكاساني: "إن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها".2 وقال السرخسي: "إن الإمام إذا فتح بلدة وصيرها دار إسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها فإنه يجوز له أن يقسم الغنائم فيها".3 ويفهم من كلام القاضي أبي يعلى: "أن دار الكفر إذا كانت الغلبة فيها لأحكام الإسلام دون أحكام الكفر وكانت السلطة فيها إسلامية انقلبت إلى دار الإسلام".4   1 حاشية ابن عابدين 4/175، والفتاوى الهندية 2/232، وشرح السير الكبير 4/320، والمدونة 3/23، وشرح السنة 10/371، والسيل الجرار 4/575، وأحكام أهل الذمة 1/366، والفتاوى السعدية ص 92. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/130. 3 انظر: المبسوط 10/18. 4 انظر: المعتمد في أصول الدين ص 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وكذلك دار الكفر الحربية- دار الحرب - تصير دار كفر غير حربية - دار عهد - بمجرد وجود العلاقات السلمية بينها وبين المسلمين، من المعاهدات وغيرها. أما بالنسبة لتغير الوصف عن دار الإسلام إلى دار كفر – ولن يتغير هذا الوصف إن شاء الله، ما تمسك المسلمون بعقيدتهم الإسلامية وجاهدوا في الله حق جهاده. فهو أيضاً يكون بغلبة أحكام الكفر فيها وتسلط غير المسلمين عليها وقد ذهب إلى هذا جمهور الفقهاء.1 فالجمهور اعتبروا أن سلطة الكفار وغلبة أحكامهم هي التي تجعل الدار دار كفر لأن أحكام الكفر لن تغلب إلا إذا كانت السلطة في الدار لغير المسلمين. وفي هذا يقول الكاساني: "إن دار الإسلام تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها".2 والذي يفهم من كلام القاضي أن كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار كفر.3   1 حاشية ابن عابدين 4/174 – 175، ودرر الحكام 1/2195، والفتاوى الهندية 2/232، وحاشية الدسوقي 2/171، وحاشية الشرواني مع تحفة المحتاج 9/269، والمغني 8/138. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/130. 3 انظر: المعتمد في أصول الدين ص 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أما الإمام أبو حنيفة فقد اشترط لتغير وصف الإسلام عن الدار ثلاثة شروط: الأول: ظهور أحكام الكفر فيها: وهذا الشرط يتفق مع ما قاله الجمهور من أن دار الإسلام لا تنقلب دار كفر إذا غلبت فيها أحكام الكفر، بأن تعطلت الأحكام الشرعية في جميع مجالاتها من دار الإسلام، وحلت محلها الأحكام الشركية بجميع مجالاتها - وإذا غلبت الأحكام الشركية في دار الإسلام واختفت أحكام الإسلام فهذا دليل على تسلط الكفار عليها. الشرط الثاني: أن تكون دار الإسلام متصلة بدار الكفر: بحيث لا يكون بينهما بلد من بلاد الإسلام ويلحقهم المدد منها. وتكون أيضا متاخمة وملاصقة لدار الكفر بحيث يتوقع الاعتداء منها على دار الإسلام في أي وقت. الشرط الثالث: أن لا يبقى في دار الإسلام مسلم أو ذمي آمناً بالأمان الأول: ومعنى ذلك أنه لم يبق مسلم أو ذمي في دار الإسلام آمناً إلا بأمان الكفار، وبمعنى آخر أنه لم يبق الأمان الأول الذي كان للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد الذمة قبل استيلاء الكفار عليها.1   1 انظر: بدائع الصنائع 7/130، وحاشية رد المحتار 4/174 - 175، والفتاوى الهندية 2/232، والمبسوط 10/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فإذا فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة يترجح جانب الإسلام احتياطاً فتبقى الدار دار إسلام ولا تتحول إلى دار كفر. فقد اعتبر الإمام أبو حنيفة أن أساس تغير الوصف عن دار الإسلام هو غلبة الأحكام الكفرية والملاصقة والمتاخمة لدار الكفر، وزوال الأمان الأول عن أهلها المقيمين فيها، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين كالذميين. ومما لا شك فيه أن الشرطين الأخيرين وهما اشتراط الملاصقة والمتاخمة لدار الكفر، زوال الأمان الأول، فيهما مخالفة لما اتفق عليه الجمهور من أن دار الإسلام تصير دار كفر بتسلط الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها، سواء اتصلت بدار الكفر أو لم تتصل، بقي فيها مسلم أو ذمي آمناً بالأمان الأول أو لم يبق. فالجمهور يذهبون إلى عدم اشتراط الملاصقة والمتاخمة لدار الكفر التغير الوصف عن دار الإسلام بل بكفي بتغير الوصف عنها غلبة الأحكام الشركية مع وجود السلطة لأعداء الإسلام. ومما يؤكد هذا ما قاله ابن القيم في الأرض التي لا تجري عليها أحكام الإسلام أنها لا تكون دار إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جداً ولم تعتبر دار إسلام بفتح مكة وكذلك الساحل.1   1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فلا معنى لاعتبار شرط الملاصقة لتغير وصف الدار عن الإسلام وبخاصة في وقتنا الحاضر بعد تطور وسائل النقل الحديثة التي جعلت الأرض البعيدة في غاية القرب. وفي هذا يقول أبو زهرة: "ولكن اشتراط المتاخمة لتوقع الاعتداء أصبح غير ذي موضوع، لأن ابن الأرض أخذ يتحكم في الأجواء بل يتحكم في الفضاء. ولم يعد القتال يحتاج إلى المتاخمة، بل إن القنابل الفتاكة تصل من أدنى الأرض إلى أقصاها، ولذلك نرى أن هذا الشرط لا موضع له الآن، ولو كان الإمام أو حنيفة حياً ورأى ما نرى لترك الشرط، والاختلاف بيننا وبينه ليس اختلاف حجة وبرهان، بل اختلاف حال وزمان".1 قلت: ويفهم من هذا أن الإمام أبا حنيفة أفتى بهذا الشرط بحسب الحال التي كانت في زمانه. وكذلك أيضاً شرط زوال الأمان الأول فيه مخالفة لما عليه الجمهور لأن الأمان قد يحصل للمسلم أو الذمي وهما في دار الكفر. وقد تطرق ابن قدامة في المغني لشروط الإمام أبي حنيفة وخالفها ولم يعتبرها، بل اعتبر جريان الأحكام وغلبتها. فقال: "ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صاروا من أهل دار الحرب في اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم. إلى أن قال: وقال أبو حنيفة   1 انظر: العلاقات الدولية في الإسلام ص 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 لا تصير دار حرب حتى تجتمع فيها ثلاثة أشياء ثم ذكر شروط الإمام أبي حنيفة السابقة ثم قال في معارضتها: ولنا أنها دار كفار تجري فيها أحكامهم، فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الخصال أو دار الكفرة الأصليين".1 فابن قدامة يشترط لانقلاب صفة الدار عن الإسلام جريان أحكام الكفر فيها، فمتى غلبت أحكامهم وتسلطوا عليها، انقلبت إلى دار كفر ولو لم تتحقق الشروط التي ذكرها الإمام أبو حنيفة من الملاصقة والمتاخمة وفقدان الأمان.   1 انظر: المغني لابن قدامة 8/138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 المطلب الثاني: في أن الاستيلاء المجرد على الدار هل يغير صفتها أفتى بعض علماء الحنفية كالاسبيجاني1 والحلواني2، وأن الاستيلاء المجرد على دار الإسلام لا يجعلها دار كفر.3 فمثلاً لو احتل الكفار بلداً من بلدان المسلمين، فإن هذا الاحتلال وحده ليس كافياً لأن يحول دار الإسلام هذه التي احتلت إلى دار كفر، بل لا بد من توافر أمور أخرى بجانب فقد سيادة المسلمين عليها، فعندما غلب التتار واجتاحوا البلاد الإسلامية واحتلوها، وأخضعوها لسلطانهم مع بقاء بعض القضاة المسلمين للقضاء بالأحكام الإسلامية، لم تتحول هذه البلاد التي استولى عليها التتار إلى دار كفر. وقد استندا في هذه الفتوى إلى عدة أمور: منها عدم اتصالها بدار الكفر، وأن التتار لم يظهروا أحكام الكفر فيها، بل كان القضاة من المسلمين.   1 هو بهاء الدين محمد بن أحمد الاسبيجاني، من علماء الحنفية في القرن السابع الهجري. الفوائد البهية ص 42 – 43. 2 هو عبد العزيز أحمد بن نصر بن صالح الحلواني البخاري، فيقيه حنفي، ملقب بشمس الأئمة، توفي في كش سنة 448هـ، وقيل في بخارى، له تصانيف كثيرة منها: المبسوط في الفقه، والنوادر في الفروع. انظر ترجمته في: الجواهر المضية 1/318، والفوائد البهية ص 95، والأعلام 4/13. 3 الفتاوى الهندية 3/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وقالا: وقد تقرر أن بقاء شيء من العلة يبقي العلة. وقد حكمنا بلا خلاف بأن هذه الديار قبل استيلاء التتار عليها كانت من ديار الإسلام، وأنه بعد الاستيلاء عليها بقيت شعائر الإسلام فتبقى دار إسلام.1 وخلاصة ما قاله هذان العالمان: أن الاستيلاء المجرد من الكفار على دار الإسلام، دون غلبة أحكام الكفر فيها، لا يصيرها دار كفر مادام أن بعض سكانها من المسلمين وتجري فيها بعض الأحكام الإسلامية. وبناءً على رأيهما هذا فإن بعض البلدان الإسلامية التي تخضع اليوم للسلطة والسيطرة الكافرة، تعتبر من دار الإسلام لجريان بعض أحكام الإسلام فيها، فما دام أن بعض شعائر الإسلام قائمة فيها فهي دار إسلام، وإن كانت تحت سيادة وسلطة غير المسلمين. ولكن يرد عليهما بأن ما قالاه مخالف لقول الجمهور بما فيهم علماء الحنفية الذين وافقوا الجمهور في أن السلطة وغلبة الأحكام هما اللتان تغيران صفة الدار، فإذا وجدت السلطة والسيادة غلبت الأحكام، وغلبة الأحكام في الدار دليل على وجود السلطة والسيادة.   1 الفتاوى الهندية 3/233، وأحكام الذميين والمستأمنين ص 21، والعلاقات الخارجية في دولة الخلافة ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 لأن المعمول به في تغير صفة الدار هو وجود السلطة وسريان الأحكام، فإذا كانت الهيمنة المطلقة للحكومة الإسلامية مع غلبة أحكامها كانت الدار دار الإسلام، أما إذا انتفت السلطة والسيادة وغلبة الأحكام الإسلامية عن الدار فإنها تعد دار كفر. ومما يدل على أن السلطة والسيادة تغير صفة الدار، أن الدار الخاضعة لسلطان المسلمين تعتبر دار إسلام وإن كان جميع سكانها كفاراً كقصة خيبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحها وأخضعها لسلطان المسلمين عين عليها والياً من المسلمين وأهلها لم يزالوا على كفرهم. وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بخلاف ما قالاه: فإنه عندما سئل عن بلاد ماردين1 وقد زالت عنها السلطة الإسلامية قال: "وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة فيها المعنيان، وليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون أهلها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه".2 وأيضاً مما يدل على أن قولهما مردود ما قاله الحنفية في تعريف دار الكفر حيث قالوا: هي التي يجري فيها أمر رئيس الكافرين من البلاد   1 ماردين: قلعة مشهورة على قمة الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا نصبين. معجم البلدان 4/39. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ويخاف فيها المسلمون من الكفار، وهذا مخالف تماماً لما قاله الاسبيجاني والحلواني من أن إجراء أمر الكفار واستيلائهم على البلاد لا يغير صفتها. ويمكن أن يقال لهما أيضاً أن المسلمين الذين يقيمون بالدار التي يتسلط عليها الكفار، لا يستطيعون أن يقيموا من شعائر الإسلام إلا ما أذن به ذوو السلطان من الكفرة، مما لا تعلو به كلمة الله، ولا تسقط به راية الكفر، فإن هذا البلد الذي تحققت فيه هذه الأمور من السيادة للكفار، وعدم إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، كيف يمكن أن يقال عنه بأنه دار إسلام؟. وأيضاً إن كثيراً من البلدان الإسلامية قد صارت دار كفر بمجرد استيلاء وتسلط أعداء الله عليها وغلبة أحكامهم فيها، لأنهم إنما يأذنون لبعض المسلمين المقيمين في هذه الديار بإقامة بعض شعائر الإسلام التي يدركون أنه لا خطر منها على أحكامهم الكفرية، وإذا أدركوا وتلمسوا أن خطراً ما سيتحقق من إقامة بعش الشعائر الإسلامية حظروه وضيقوا الخناق عليه وعلى أهله، ولو تنبه المسلمون لهذا المعنى لما ناموا عن الاستعداد للجهاد في سبيل الله، وإعداد العدة له لطرد من دنسوا ديارهم بإظهار أحكام الكفر فيها، وصيروها دياراً كافرة بعد أن كانت دياراً إسلامية وقد بين العلماء المعاصرين أنه إذا كانت الولاية والحل والعقد في الأرض لغير المسلمين، فتعتبر الدولة كافرة وإن كثر فيها المسلمون.1   1 نقلاً عن كتاب الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته 1/609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وبهذا يتضح لنا أن قول الاسبيجاني والحلواني من أن الاستيلاء المجرد من الكفار على دار الإسلام لا يقلبها إلى دار كفر مردود ولم يقل به أحد من العلماء المتقدمين والمتأخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 المطلب الثالث: في إمكانية انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر ذهب بعض علماء الشافعية إلى أن الأرض التي كان المسلمون يتسلطون عليها وتغلب فيها أحكامهم، ثم غلبهم الكفار عليها، فاحتلوها وأقاموا أحكامهم فيها، كالأندلس سابقاً، أسبانيا حالياً. لا يمكن أن تصير دار كفر مطلقاً. وقد صرح بذلك ابن حجر الهيتمي1 فقال في الأرض التي كانت دار إسلام: "فحينئذ الظاهر أنه يتعذر عودتها دار كفر وإن استولوا عليها - يعني الكفار- صرح به الخبر الصحيح "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"2، فقولهم - أي قول الأصحاب في محل المسلم المهاجر من دار الكفر لو تركه لصار دار حرب - المراد به صيرورته كذلك صورة لا حكماً، وإلا لزم أن ما استولوا عليه من دار الإسلام يصير دار حرب، ولا أظن أصحابنا يسمحون بذلك، بل يلزم عليه فساد وهو أنهم لو استولوا على دار الإسلام في ملك أهله، ثم فتحناها عنوة، ملكناها على ملاكها وهو في غاية البعد".3   1 هو أحمد بن محمد علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، فقيه شافعي، ولد سنة 909، وتوفي سنة 974 بمكة له تصانيف كثيرة منها تحفة المحتاج، والفتاوى الهيتمية، وطبقات الشافعية ص 151، والأعلام 12/243. 2 أخرجه البخاري 1/234 معلقاً كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات، والدارقطني 3/252، والبيهقي في السنن 6/205. 3 انظر: تحفة المحتاج 9/269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقد وافقه على رأيه هذا البجيرمي1 الشافعي حيث قال: "إن دار الإسلام هي الدار التي يسكنها المسلمون وإن كان فيها أهل ذمة، أو فتحها المسلمون وأقروها بيد الكفار، أو كانوا يسكنونها ثم جلاهم الكفار عنها".2 ومما لا شك فيه أن ما قاله هذان العالمان فيه مخالفة لما قاله جمهور العلماء عامة من أن دار الإسلام تنقلب إلى دار كفر بتسلط الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها، ولما قاله أصحابهم من علماء الشافعية خاصة، فقد وافقوا الجمهور فيما قالوه من عدم استحالة انقلاب دار الإسلام إلى دار كفر. وخالفوا ما قاله ابن حجر الهيتمي والبجيرمي من أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب إلى دار كفر مطلقاً. فقال الماوردي: "ما ملكت يعني من دار الشرك عنوة وقهراً تصير دار إسلام، ولا يجوز أن يستنزل عنها للمشركين لئلا تصير دار حرب"3 فهذا الماوردي يخالف ويقول لا يجوز للمسلمين أن يتنازلوا عن دارهم دار الإسلام حتى لا تصير دار كفر باستيلاء الكفار وتسلطهم عليها.   1 هو سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي، فيه شافعي، ولد سنة 1231وتوفي سنة 1221 في قرية مصطية بالقرب من بجيرم وله تصانيف كثيرة منها التجريد، وتحفة الحبيب. انظر ترجمته في: طبقات الشافعية ص 257، والأعلام 3/133. 2 انظر: حاشية البجيرمي على الخطيب 4/220. 3 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وبعد أن عرضنا قول ابن حجر والبجيرمي من أن الأرض التي كانت دار إسلام لا يمكن أن يتغير عنها هذا الوصف إلى دار كفر حتى لو استولى عليها الكفار وغلبت أحكامهم فيها، وبينا أنه مخالف لما قاله عامة أهل العلم وفي مقدمتهم أصحابهم من علماء الشافعية نبحث عن الأدلة التي استدلا بها ثم نحاول الرد عليها قدر الاستطاعة. وبعد البحث استطعت أن اعثر لهما على دليلين، أحدهما نقلي والآخر عقلي: فالدليل النقلي: ما ورى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام يعلوا ولا يعلى عليه» .1 ووجه الدلالة من الحديث: أن الاستعلاء في الأرض، وهو إعلاء كلمة الله، وارتفاع رايته لا ينفك ولا يزول عن الإسلام. فكذلك الإسلام إذا اتصفت به الدار لا ينفك ولا يزول عنها، فانقلاب الدار التي كانت دار إسلام إلى دار كفر، يفهم منه عدم استعلاء الإسلام وفيه مخالفة لنص الحديث، ولما كان الاستعلاء ثابتاً للإسلام بنص الحديث فإنه لا يجوز أن تنقلب داره إلى دار كفر، حتى مع سلطة الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها.2   1 سبق تخريجه ص 289. 2 تحفة المحتاج 9/269، وحاشية البجيرمي 4/220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أما الدليل العقلي: فهو أننا إذا قلنا بانقلاب دار الإسلام إلى دار كفر، لنتج عن ذلك حكم فاسد، وهو أن الكفار لو استولوا على دار الإسلام في ملك أهله، ثم فتحناها عنوة ملكناها على ملاكها وهو في غاية البعد.1 ومعنى كلام ابن حجر هذا: أن القول بصيرورة دار الإسلام التي استولى عليها الكفار، وأقاموا فيها أحكامهم، دار كفر يؤدي إلى حكم فاسد، وهو أن المسلمين لو تمكنوا من ملك هذه الأرض بعد استيلاء الكفار عليها بفتحها والسيطرة عليها. وإقامة أحكام الله فيها، ولو بعد مدة من الزمن ماذا نعمل بهذه الأملاك التي ملكها المسلمون، هل يردها على أصحابها أو تكون من الغنيمة وتقسم بين الغانمين والفاتحين لها. وإذا قلنا بقسمة الأموال والأملاك فإن الملك يملك على صاحبه وهنا نقع في الفساد الذي أشار إليه ابن حجر. مناقشة هذه الأدلة: أولاً: بالنسبة للحديث على فرض صحته فلا دلالة فيه على أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب دار كفر بتسلط الكفار عليها وغلبة أحكامهم فيها.   1 تحفة المحتاج 9/269، وحاشية البجيرمي 4/220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 لأن الحديث وارد في إثبات الاستعلاء للإسلام في جميع أنحاء الأرض، وأنه لا زال يعلو وترتفع رايته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن المؤمنين هم الأعلون دائماً، وقد أخذوا منزلة الاستعلاء في الأرض بإيمانهم بالله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه هو الأعلى فمن كان يعبده ويؤمن به لا بد من استعلائه، وقد أثبت الله لعباده المؤمنين الإستعلاء والغلبة في الأرض بقوله: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .1 وقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .2 قال القرطبي: "وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأن الله خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، لأن قال لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى} 3 أي الغالب لهم في الدنيا وفي الدرجات العلا في الجنة".4 ففي الآية الكريمة أثبت الله الاستعلاء للمؤمنين في الأرض بشرط الإيمان، فمتى توفر هذا الشرط ثبت الاستعلاء للمؤمنين في الأرض، وإذا كانت دار الإسلام لا يتوفر فيها هذا الشرط وهو الإيمان بالله، بل توفر   1 محمد: 35. 2 آل عمران: 139. 3 طه: 68. 4 انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/217، 11/223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فيها العكس وهو الإشراك بالله، وتسلط أعدائه عليها، فكيف يمكننا أن نطلق على هذه الدار دار إسلام. فالإسلام يعلو في الأرض التي تظهر فيها أحكامه، وترتفع فيها رايته، ويتسلط فيها أهله على أعدائه، أما إذا كان العكس بأن ظهرت غير أحكامه وتسلط على أرضه أعداؤه، وارتفعت راية أضداده، واختفت رايته فكيف يمكننا القول بأن الإسلام يعلو في هذه الأرض ولا يعلى عليه. وقال أصحابهم من علماء الشافعية في الدر على الاستدلال بهذا الحديث: "دعوى صراحة الحديث فيما أفاد محل تأمل، إذ المتبادر منه أن المراد يعلو انتشاره واشتهاره وإخماد الكفر إلى أن يأتي الوقت الموعود به قرب الساعة، وهذا لا ينافي صيرورة بعض داره دار حرب، كما لا ينافي غلبة الكفار لأهله ونصرتهم عليهم في كثير من الوقائع".1 وبهذا يتضح لنا أنه لا دلالة لهما في هذا الحديث على أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب دار كفر مطلقاً. ثانياً: أما بالنسبة للدليل العقلي فهو لا يدل أيضاً على ما ذهبا إليه. لأن هذا الفساد الذي ظنا يزول ويرتفع بقول أصحابهم من علماء الشافعية أن الأملاك التي يملكها المسلمون من الأرض التي فتحوها واستولوا عليها من أيدي الكفار وكانت دار إسلام من قبل، وترد إلى   1 حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9/269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أصحابها أو تقف لهم وهم أحق قبل القسمة وبعدها.1 وبقول بقية فقهاء المذاهب الإسلامية إن الأملاك التي ملكها المسلمون من الأرض التي كانت دار إسلام، ترد إلى أصحابها قبل القسمة أو بعدها، قبل القسمة بلا قيمة، وبعد القسمة بالقيمة.2 وقال الشرواني في الرد على ما قاله ابن حجر الهيتمي عموماً: "هذا تأويل خلاف ظاهر اللفظ إذ المتبادر- أي من قول الأصحاب- فلو هاجر لصار دار حرب كونه حقيقة وحكماً لا صورة فقط، وبعيد من حيث المعنى فليتأمل".3 وبهذا يتضح لنا أن الفساد الذي ذكره ابن حجر الهيتمي غير متصور على مذهب الشافعية أنفسهم، وأيضاً على مذاهب بقية فقهاء الإسلام. وبعد مناقشة هذه الأدلة يتبين لنا أن ما قالاه بعيد عن الواقع ومخالف لما قاله عامة أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين. وفي هذا يقول بعض العلماء المعاصرين: "ومن ظن أن دار الإسلام لا يمكن أن تنقلب إلى دار كفر فقد أبعد النجعة4 وفاته واقع الأندلس   1 الأم 4/254، ومغني المحتاج 4/232، والمهذب 2/221. 2 حاشية ابن عابدين 4/161، وبداية المجتهد 1/398، والمغني لابن قدامة 8/430-431. 3 حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9/269. 4 النجعة: طلب العشب ومساقط الغيث في مواضعه. مختار الصحاح ص 647، ومعجم لغة الفقهاء ص 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 في السابق، وواقع ألبانيا وفلسطين في الحاضر، وليس الأمر مقصوراً على هذه البلدان فقط بل إن بلداناً أخرى صارت كذلك، ومن فهم ما مضى حق الفهم لا يخفى عليه الأمر".1   1 العلاقات الدولية في الإسلام على ضوء الإعجاز البياني في سورة التوبة ص 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الفصل الثاني: في الدليل على تقسيم الأرض إلى دارين وأثر هذا التقسيم في تباين الأحكام المبحث الأول: في الدليل على التقسيم المطلب الأول: في الدليل على التقسيم من الكتاب والسنة والمأثور والإجماع لقد دل الكتاب والسنة والمأثور والإجماع على تقسيم الأرض إلى دارين: دار إسلام، ودار كفر. أولاً: دليل ذلك من الكتاب: إن المتتبع لكتاب الله سبحانه وتعالى، بتمعن وطمأنينة يجد ما فيه الكفاية من الآيات التي تدل بمعناها على أن الأرض تنقسم إلى دارين، دار إسلام، ودار كفر. والقاعدة العامة التي تجمع شتيت المعاني التي دلت عليها تلك الآيات هي أن دار الإسلام ما يتسلط عليها المسلمون، وتغلب فيها أحكام الله، من إعلاء كلمته، ونشر دينه، وإظهار توحيده وطاعته. ودار الكفر ما يتسلط عليها أعداء الله وتغلب فيها أحكامهم كالإشراك بالله وإظهار الظلم والفساد. ومن هذه الآيات الدالة على ما ذكرناه ما يلي: 1- قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} .1 وجه الدلالة من الآية الكريمة: الآية بمعناها العام تدل على أن الأرض التي يستضعف فيها أعداء الله أحباب الله الذين يصل بهم الأمر إلى التضرع إلى الله ودعائه بأن يخرجهم من هذه الأرض الظالم أهلها التي يتسلط عليها الكفار، وتتغلب فيها أحكامهم من الظلم ونحوه. ليست دار إسلام وإنما هي دار كفر، فلو كانت دار إسلام لوجد فيها من يدافع عن المستضعفين ويحارب أعداءهم الذين تسلطوا على أرضهم واستضعفوهم فيها. 2- قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} .2 فالدار التي يخسف بها وبمن عليها بسبب ما يفعل فيها من المنكرات مما لا يرضاه الله ولا رسله عليهم السلام هي دار كفر وليست دار إسلام. 3- قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ   1 النساء: 75. 2 القصص: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .1 وجه الدلالة من هذه الآية: فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يبين لنا المعنى العام الذي تصير به الدار دار كفر، وهو سيطرة الظلم على أهلها، وبين سبحانه أن من أعظم الظلم الشرك به، وذكر بعض أجزائه وهو إخراج المظلومين من أرضهم وعشرتهم بدون حق، وكذلك تهديم أماكن العبادة. ثم نص سبحانه على المعنى الذي تصير به الدار دار إسلام وهو تمكين المسلمين من السيطرة عليها وإظهار أحكام الله فيها من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.2 4- قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .3 فالأرض التي يفتحها المسلمون ويتسلطون عليها ويرثونها ويغنمون ما بها من أموال ومتاع دار إسلام وليست دار كفر.   1 الحج: 39 – 41. 2 الجهاد في سبيل الله 1/600. 3 الأحزاب: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 5- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} .1 فالأرض التي يستضعف فيها المؤمن ويغلب فيها على أمره وتجب عليه المهاجرة منها إلى الأرض التي يعلو فيها شأنه ليست دار إسلام وإنما هي دار كفر. وأيضاً تقسيم الأرض إلى دارين يعرف من مقصد الشارع بالهجرة، فمقصده سبحانه بالهجرة ألا يستضعف المؤمنون في الأرض التي تغلب فيهم أحكام الكفر وسلطانه، فغلبة أحكام الكفر في الدار يجعلها دار كفر، ويوجب الهجرة منها، إلى الدار التي تغلب فيها أحكام الإسلام وهي دار الإسلام، وقد صرح العلماء بذلك أنه تجب الهجرة على المؤمن العاجز عن إظهار دينه من دار الكفر إلى دار الإسلام، بنص هذه الآية وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. 6- قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ   1 النساء: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .1 وجه الدلالة من الآيتين: ففي الآية الأولى يبين الله لنا أن الأرض التي يهاجر منها المسلمون تاركين أموالهم وأولادهم، راغبين في ابتغاء الله ورضوانه قاصدين نصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي دار كفر وليست دار إسلام. أما في الآية الثانية فقد نص سبحانه وتعالى على المعنى الذي تكون به الدار دار إسلام وهو تمكن المسلمين منها وإظهار أحكام الله فيها كالإيمان بالله وإخلاصه له، ونبذ الشح والحسد من قلوب أهلها، وانتشار المحبة والمودة بين أهلها، حتى يصل بهم الأمر إلى تقديم المؤمن أخيه المؤمن في جميع الأشياء على نفسه ولو كان محتاجاً إليها. 7- قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} .2 وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} .3   1 الحشر: 8 – 9. 2 الأعراف: 88. 3 إبراهيم: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فالأرض التي يتسلط عليها الكفار، ويهددون المسلمين فيها بالعودة إلى دينهم من الشرك بالله وغيره، أو الخروج منها، لا يمكن أن يقال عنها بأنها دار إسلام بل هلي دار كفر. 8- وقوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} .1 فقد نص سبحانه وتعالى على أن هناك داراً غير دار المؤمنين وهي دار الفاسقين، والدار التي ينتشر فيها الفسق والغش والفساد، ليست دار إسلام. 9- وقوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} .2 فالدار التي يعلن فيها حكامها الكفرة غير أحكام الله، من إظهار الفواحش، والتفاخر بها، وانتقاص الفضائل، والاستهزاء بها، لا يمكن أن تتصف بصفة الإسلام، بل يجب اتصافها بصفة الكفر وإطلاقه عليها. 10- قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً   1 الأعراف: 145. 2 الأعراف: 80 - 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .1 وجه الدلالة من الآيات: فالآية الأولى تدل بمعناها على دار الكفر- لأن الأرض التي يعلو فيها شأن الكفرة ويتسلط عليها أعداء الله، ويستضعف فيها أحبابه، حتى يبلغ بهم الأمر إلى ذبح أبنائهم واستحياء نسائهم خوفاً من كثرتهم، وقوة شأنهم، وسحب الملك والسلطة منهم لا يمكن أن يقال عنها أنها دار إسلام بل دار كفر. والآية الثانية تدل بمعناها على دار الإسلام لأن الأرض التي تفضل الله بها على المسلمين، وجعلهم فيها دعاة إلى الخير، نهاة عن الشر ومكنهم منها بالاستيلاء عليها ووراثة ملكها، هي دار إسلام وليست دار كفر. ثانياً: الدليل من السنة على انقسام الأرض إلى دارين: دار إسلام، ودار كفر: إن دلالة السنة النبوة على أن الأرض داران، ظاهر، لأن الناظر والمتتبع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أنها قد دلت على انقسام الأرض إلى دارين،   1 القصص: 4 - 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وذلك من واقع مكة والمدينة والأمر بالهجرة من مكة إلى المدينة. فمكة كانت قبل الفتح وبعد الهجرة دار كفر والعداء قائم بين أهلها من المشركين وبين المسلمين. والمدينة صارت دار إسلام ولذا هاجر المؤمنون إليها من مكة التي كانت دار كفر قبل أن يمن الله بفتحها على المسلمين. وقد وردت أحاديث صريحة صحيحة في وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام منها: 1- عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قيل يا رسول الله ولمَ؟ قال: لا تراءى ناراهما1".2   1 تراءى ناراهما: قال الخطابي فيه وجوه أحدها أن معناها لا يستوي حكماهما قاله بعض أهل العلم، وقال بعضهم معناه أن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها. وقيل: معناه لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله. انظر معالم السنن 3/105. 2 أخرجه أبو داود 3/105 كتاب الجهاد باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود. والترمذي 4/155 كتاب السير حديث رقم 1604. والنسائي 8/36 في القسامة. والبيهقي 9/12،13، بلفظ: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة"، قال ابن حجر في بلوغ المرام: إسناده صحيح ورجح البخاري إرساله. بلوغ المرام مع سبل السلام 4/1334. وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات 8/25، وقال الألباني في إرواء الغليل حديث صحيح 5/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فهذا الحديث ظاهر الدلالة على أن الأرض تنقسم إلى دار إسلام ودار كفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم برئ من المسلم الذي يقيم مع المشركين في دارهم دار الكفر، وأمره بالهجرة إلى دار الإسلام. قال البغوي: "من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدار ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام".1 2- وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".2 فالحديث دل على أن الأرض داران دار إسلام ودار كفر لأن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية لم تنقطع. قال البغوي: "لا تنقطع الهجرة أراد بها هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدار ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام".3 3- وعن بهز بن حكيم4 عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا   1 انظر: شرح السنة 10/373. 2 أخرجه أحمد 4/99، وأبو داود 3/7، كتاب الجهاد باب في الهجرة هل انقطعت، والدارمي 2/239، 240 باب إن الهجرة لا تنقطع، قال ابن حجر في بلوغ المرام مع سبل السلام 4/1337 صححه ابن حبان. وقال الألباني في إرواء الغليل 5/33 صحيح، رجال إسناده ثقات وصححه أيضاً في صحيح الجامع الصغير 6/176. 3 انظر: شرح السنة 10/373. 4 هو: بهز بن حكيم بن معاوية القشيري، أبو عبد الملك، صدوق من السادسة، مات قبل الستين. انظر: تقريب التهذيب 1/109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 يقبل الله عزوجل من مشرك أشرك بعد ما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين".1 فهذا الحديث نص صريح في أن الأرض داران، دار إسلام ودار كفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى فيه قبول عمل السلم المقيم في ديار الكفار حتى يفارقها، ويهاجر إلى ديار المسلمين، وإلى غير ذلك من الأحاديث التي أوجبت الهجرة، ووجوبها دليل على أن الأرض دار إسلام ودار كفر - لأن الهجرة لا تكون إلاّ من دار الكفر إلى دار الإسلام. ومن الأحاديث التي دلت على انقسام الأرض إلى دارين: حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: كان رسول الله إذا أمر أميراً على جيش أو سرية2 أوصاه في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا 3 ولا تغدروا 4 ولا تمثلوا 5 ولا تقتلوا وليداً 6، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك   1 أخرجه أحمد 5/4، 5، والنسائي 5/82 – 83 باب من سأل بوجه الله عزوجل، وابن ماجة 2/848 كتاب الحدود باب المرتد عن دينه حديث رقم 2536، قال الألباني: إسناده حسن. إرواء الغليل 5/32. 2 السرية: القطعة من الجيش. المصباح المنير 1/275. 3 لا تغلوا: أي لا تخونوا في الغنيمة. (4) لا تغدروا: أي لا تنقضوا العهد. 5 لا تمثلوا: أي لا تشوهوا القتلى بقطع الأنوف والآذان وغيرها من أعضاء الجسم. 6 وليداً: أي صبيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين" 1 الحديث. وجه الدلالة منه: دل الحديث دلالة واضحة على أن الأرض داران، دار إسلام، ودار كفر. لأن قوله صلى الله عليه وسلم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم - دار الكفر- إلى دار المهاجرين - دار الإسلام- يدل على أن هناك داراً غير دار الإسلام ألا وهي دار الكفر، التي يجب دعوة أهلها إلى الإسلام أولاً، فإن أبو دعوا إلى الجزية، فإن أبوا وجب قتالهم. وبهذا يتضح لنا أن السنة النبوية دلت على أن الأرض تنقسم إلى دارين: دار إسلام، ودار كفر، كما دل على ذلك كتاب الله سبحانه وتعالى. ثالثا: الدليل من المأثور على انقسام الأرض إلى دارين، دار إسلام ودار كفر: ما ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أن مكة   1 أخرجه مسلم في صححيه 3/1356، 1357 كتاب الجهاد باب تأمير الإمام على البعوث حديث رقم 1738 واللفظ له. والترمذي 4/162 كتاب السير باب ما جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم في القتال حديث رقم 1617. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 كانت دار كفر بعد الهجرة والمدينة صارت دار إسلام. فقد جاء في رسالة خالد بن الوليد في كتاب الخراج ما نصه: "وجعلت لهم - أي أهل الذمة - أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياُ فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقاموا بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام، فليس على المسلمين النفقة على عيالهم". 1 رابعاً: أما دليل التقسيم من الإجماع: فقد وقع إجماع عامة أهل العلم ومن بينهم الفقهاء الأربعة على أن الأرض داران: دار إسلام، ودار كفر، وهذا من واقع تعريفاتهم للدارين- وقد سبق ذكر ذلك في تحديد معنى الدارين عندهم. وقد ثبت بالاستقراء من أقوال الفقهاء على أن الأرض داران دار إسلام، ودار كفر. فقال الإمام مالك: "كانت مكة دار حرب".2 وقال الإمام الشافعي: "في وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام: ثم أذن الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ولم يحرم في هذا من بقي بمكة المقام بها وهي دار شرك، وإن قلوا بأن يفتنوا، ولم   1 انظر: الخراج لأبي يوسف ص 144. 2 انظر: المدونة الكبرى 3/23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يأذن لهم بجهاد، ثم أذن الله عزوجل لهم بالجهاد، ثم فرض بعض هذا عليهم أن يهاجروا من دار الشرك".1 وقال ابن قيم الجوزية: "وكانت دار الهجرة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دار الإسلام".2 وقال ابن قدامة: "وتجب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام لمن يقدر عليها ولا يتمكن من إظهار دينه".3 وقال ابن حزم الظاهري: "وكل موضع سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ثغراً ودار حرب ومغزى وجهاد".4 وأقوالهم هذه تدل على أنهم اتفقوا وأجمعوا على أن الأرض على قسمين: دار إسلام ودار كفر.   1 انظر: الأم 4/160. 2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/5. 3 انظر: المغني لابن قدامة 8/456 - 457. 4 انظر: المحلى لابن حزم 7/353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المطلب الثاني: في الرد على من قال إن الأرض دار واحدة وفيه فرعان: الفرع الأول: في الرد على ما نسبه أبو زيد الدبوسي إلى الإمام الشافعي أن الأرض دار واحدة لقد نسب أبو زيد الدبوسي إلى الإمام الشافعي القول بأن الأرض دار واحدة فقال في كتابه تأسيس النظر ما نصه: "الأصل عندنا أن الدنيا كلها داران دار الإسلام، ودار الحرب، وعن الإمام الشافعي الدنيا كلها دار واحدة وعلى هذه مسائل منها: إذا خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلماً مهاجراً أو ذمياً وتخلف الآخر في دار حرب، وقعت الفرقة فيما بينهما، وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي لا تقع الفرقة بنفس الخروج. ومنها: إذا أخذوا أموالنا وأحرزوها بدار الحرب ملكوها عندنا وعند الإمام الشافعي لا يملكونها.. إلخ"1 أما الجواب عن هذه النسبة فهو من أربعة أوجه: الوجه الأول: أن هذه النسبة غير صحيحة- فكما أن علماء الحنفية يقسمون الأرض إلى دارين فكذلك علماء الشافعية وعلى رأسهم صاحب المذهب الإمام الشافعي رحمه الله.   1 انظر: تأسيس النظر للدبوسي ص 79، 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ومما يدل على عدم صحة هذه النسبة هو أن الإمام الشافعي قد ذكر في كتابه الأم بعض العناوين التي تدل على أنه يقول بانقسام الأرض إلى دارين. فقال تحت عنوان: "إقامة الحدود في دار الحرب: يقيم أمير الجيش الحدود حيث كان من الأرض إذا ولي ذلك فإن لم يول فعلى الشهود الذين يشهدون على الحد أن يأتوا بالمشهود عليه إلى الإمام ولّى ذلك ببلاد الحرب، أو ببلاد الإسلام، ولا فرق بين دار الحرب، ودار الإسلام فيما أوجبه الله على خلقه من الحدود".1 وقال في موضع آخر: " (المستأمن في دار الحرب) إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم". وقال أيضاً تحت عنوان: "العبد المسلم يأبق في دار الحرب": "الرجل يسلم في دار الحرب بيع الطعام في دار الحرب".2 وقال: "الحربي يخرج إلى دار الإسلام. الحربي يدخل دار الإسلام بأمان. الرجل يقرض الرجل الطعام أو العلف إلى دار الإسلام"3. وغيرها كثير.   1 الأم 7/354. 2 الأم 4/247، 254، 261، 263. 3 انظر: الأم 4/262 - 271، 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فهذه النصوص التي ذكرها الإمام الشافعي في كنابه الأم تدل على أنه يقر بهذا التقسيم ويقول به كغيره من العلماء. الوجه الثاني: أنه لو صحت نسبة هذا القول إلى الإمام الشافعي. فإن الإمام الشافعي له مقصد غير الذي نسب إليه، وهذا المقصد الذي أراده الإمام الشافعي هو أن الأصل في الأرض هو الإسلام وهذا الذي يجب أن تكون عليه - لكن مادام أن المسلمين لم يسيطروا على جميع الأرض لابد من وجود دار غير دارهم وهي دار الكفر، وربما يكون قصده من ذلك أن جميع دور الإسلام تعتبر داراً واحدة. الوجه الثالث: وما يدل أيضاً على أن الإمام الشافعي يقول بانقسام الأرض إلى دارين ما نسبه الزنجاني الشافعي في كتابه (تخريج الفروع على الأصول) حيث يقول: "اختلاف الدارين - أعني دار الإسلام ودار الحرب- لا يوجب تباين الأحكام عند الإمام الشافعي" 1 وهذا الكلام صريح في القول بالتقسيم بخلاف ما نسب إلى الإمام الشافعي من القول بعدمه. الوجه الرابع: أن مقصد الإمام الشافعي من القول بأن الأرض دار وحدة، إنما   1 انظر: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ذلك في تطبيق الأحكام الشريعة، فلا أثر عنده لاختلاف الدارين في تباين الأحكام. فأحكام الشريعة الإسلامية عنده تطبق على المسلم في أي مكان سواء كان ذلك في دار الإسلام أو في دار الحرب وقد نص على ذلك فقال: "ولا فرق بين دار الحرب، ودار الإسلام فيما أوجبه الله على خلقه من الحدود". 1 ومن خلال ما سبق يتضح أنه ما نسبه أبو زيد الدبوسي إلى الإمام الشافعي غير صحيح بل إن قوله موافق لقول كافة أهل العلم في تقسيم الأرض إلى دارين دار إسلام ودار كفر.   1 الأم 7/354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الفرع الثاني: في الرد على ما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين من أن الأرض دار واحدة انتقد بعض العلماء المعاصرين تقسيم الأرض إلى دارين، بحجة أنه تقسيم للواقع الذي كان عليه المسلمون مع الكفار، وليس تقسيماً شرعياً، يقوم عليه دليل من الكتاب، أو السنة، وحقيقة الأمر أن الدنيا بحسب الأصل هي دار واحدة. فهذا صاحب آثار الحرب يقول: "والحقيقة أن هذا التقسيم لم يرد به قرآن، ولا سنة، ومبني على أساس الواقع، لا على أساس الشرع، ومن محض صنيع الفقهاء في القرن الثاني الهجري، وأنه من أجل ترتيب بعض الأحكام وأن الحرب هي السبب في هذا التقسيم، فهو تقسيم طارئ بسبب قيام حالة الحرب، أوالحرب نفسها، فهو ينتهي بانتهاء الأسباب التي دلت عليه، والحقيقة أن الدنيا بحسب الأصل هي دار واحدة". إلى أن قال: "والواقع أن استنباط تقسيم الدنيا إلى دارين، من الدعوة إلى الهجرة غير سليم لأن ذلك قد نسخ بفتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". 1   1 آثار الحرب في الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي ص 171، 193، 194، 195. والحديث سبق تخريجه ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ووافقه على رأيه هذا بعض المعاصرين.1 قلت: يمكن الرد على هذا الانتقاد بما يلي: 1- قولهم بأن تقسيم الفقهاء الأرض إلى دارين مبني على أساس الواقع لا على أساس الشرع ومن محض صنيعهم. يرد عليه أن الفقهاء عندما قسموا لأرض إلى دارين فقهوا ذلك من خلال قراءتهم لكتاب الله، ومن خلال تتبعهم لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن واقع مكة قبل الفتح، والمدينة بعد الهجرة إليها، فقد كانتا داري كفر وإسلام. ولأن قولهم هذا خلاف ما دلت عليه النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة على تقسيم الأرض إلى دارين، دار إسلام، ودار كفر. وقولهم بأنه لم يرد بهذا التقسيم كتاب، ولا سنة، غير صحيح، فقد دل الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، على هذا التقسيم كما سبق بيانه. 2- أما استناده لحديث: "لا هجرة بعد الفتح" وأن الهجرة قد انقطعت، وبهذا تكون الأرض داراً واحدة، وأن الآيات والأحاديث التي تأمر بالهجرة يمكن الاستدلال بها على هذا التقسيم لو أن حكم الهجرة باق ولم ينسخ. يرد عليه: بأن الهجرة المراد نفيها في الحديث هي الهجرة من مكة   1 الإسلام شريعة الحياة ص 125، والجهاد في الإسلام ص 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 بعد الفتح، لأن مكة صارت دار إسلام بعد الفتح وقويت شوكة المسلمين بها فانقطعت الهجرة منها إلى المدينة، فهذا هو المعنى الصحيح لهذا الحديث والمراد من الهجرة التي انقطعت، أما الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام فهي باقية إلى يوم القيامة، وهذا هو الذي فهمه العلماء من هذا الحديث. فقال ابن العربي: "الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت، وهذه باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان، فمن أسلم في دار الكفر وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام".1 وقال الإمام البغوي: "لا هجرة بعد الفتح أراد به من مكة إلى المدينة".2 وقال ابن قدامة: "لا هجرة بعد الفتح أي من بلد قد فتح، والهجرة التي انقطعت يعني من مكة، لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار فإذا فتح لم يبق بلداً للكفار". 3 وقال ابن مفلح: "حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مستمر إلى يوم القيامة".   1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/484. 2 انظر: شرح السنة 10/373. 3 انظر: المغني لابن قدامة 8/4546، 457. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وقوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي لا هجرة من مكة بعد فتحها لأن الهجرة إليه لا منه".1 وقال الشوكاني: "ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار أي مادام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي الفتنة في دينه".2 وبعد أن ذكرنا أن المعني الصحيح للحديث، والمراد من نفي الهجرة فيه، يتضح لنا أنه لا يمكن الاستدلال به على أن الهجرة قد انقطعت وأن الأرض دار واحدة. فمن ذهب إلى غير هذا المعنى فقد صرف الحديث عن معناه الصحيح، وأخطأ الصواب، وعليه مراجعة كتب العلماء التي بينت المعنى المراد من الحديث وهو نفي الهجرة من مكة بعد فتحها لأنها صارت دار إسلام وكيف يهاجر من دار الإسلام إلى دار الإسلام. أما الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فهي واجبة على من عجز عن إظهار دينه، وباقية لم تنقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة وسنذكرها بالتفصيل في الباب الثاني.   1 انظر: المبدع: 3/314. 2 انظر: نيل الأوطار 8/27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 3- دلالة الواقع، فواقع الحياة بدل على أن الأرض لا تخلو من كفر أو إسلام، فالدار التي يتسلط عليها المسلمون وتغلب فيها أحكامهم هي دار الإسلام. والدار التي يتسلط عليها الكفار وتغلب فيها أحكامهم هي دار الكفر، فكيف يقال إن الأرض دار واحدة، إذا لم يرد الأصل الذي يجب أن تكون عليه جميع الأرض وهو الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 المبحث الثاني: أثر التقسيم في تباين الأحكام بعد أن استقرأنا دلالة الكتاب والسنة والإجماع والمأثور على انقسام الأرض إلى دارين: دار إسلام، ودار كفر. نبين أثر هذا التقسيم في تباين أحكام الشريعة الإسلامية من عدمه. فنقول: إن ذلك لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أثره في الأحكام التي تخلف باختلاف دار الإسلام فمثلاً المستأمن الذي يقيم في دار الإسلام إقامة مؤقتة، وهو من أهل دار الكفر، ولا تطبق عليه أحكام الشريعة الإسلامية في داره ولا يلتزم بها، هل لانتقاله من داره إلى دار الإسلام، أثر في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليه أم لا أثره له؟ فقد اتفق الفقهاء على أن اختلاف الدارين له أثر في تباين الأحكام التي تخلف باختلاف دار الإسلام فيما يتعلق بالمعاملات، فالمستأمن إذا دخل دار الإسلام، أثر دخوله هذا في تطبيق الأحكام الإسلامية عليه، فمثلاً يحرم عليه التعامل بالربا مع المسلمين وغيرهم كالذميين، بل يمنع من التعامل بجميع العقود الفاسدة التي لا تحل في الشريعة الإسلامية بينما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 في داره بتعامل بها كيف شاء ومع من شاء.1 أما ما يتعلق بالحدود والجنايات فقد اختلفوا فيه هل له أثر أم لا؟ فمثلاً إذا ارتكب المستأمن الجرائم في دار الإسلام، طبقت عليه أحكام الشريعة الإسلامية في قول أكثر أهل العلم. فلو قتل المستأمن مسلماً أو ذمياً في دار الإسلام، فإنه يقتص منه، وإذا قتله مسلم أو ذمي في دار الإسلام فدمه لا يذهب هدر كما في داره، بل تضمن ديته. وكذلك الحدود تقام عليه إذا ارتكب موجبها، إلى غير ذلك من الأحكام التي تخلف باختلاف دار الإسلام وسيأتي تفصيل هذه الأحكام وبسط الخلاف فيها في الباب الثاني.2 الأمر الثاني: أثره في الأحكام التي تختلف باختلاف دار الكفر فمثلاً المسلم الذي هو من أهل دار الإسلام، إذا سافر إلى دار الكفر، هل لسفره هذا أثر في عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليه   1 حاشية رد المحتار 5/186،وفتح القدير 6/178، والاختيار 2/33، والمقدمات الممهدات 2/617، وأحكام القرآن لابن العربي 1/516، والمجموع 9/3916، وكشاف القناع 3/259، والإفصاح 1/329. 2 بدائع الصنائع 7/71، والمدونة 6/168، والشرح الصغير 4/405، ومغنى المحتاج 4/175، وروضة الطالبين 10/142، والإنصاف 10/281، والمبدع 9/135، والرد على سير الأوزاعي ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 علماً بأنه في داره ملتزم لجميع الأحكام الإسلامية. اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين: القول الأول: أن اختلاف الدارين يوجب تباين الأحكام الشرعية، فمثلاً المسلم الذي دخل دار الكفر بأمان أو بغير أمان له أن يتعامل بالربا فيها مع الكفار ومع المسلمين الذي لم يهاجروا، بل له أن يتعامل بجميع العقود الفاسدة مع الكفار إذا دخل دارهم بدون أمان أو بأمان، بينما في داره يحرم عليه التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة.1 وكذلك إذا ارتكب ما يوجب القصاص في دار الكفر، فقتل مسلماً آخر، لا يقتص منه بينما في داره يجب عليه القصاص. وكذلك الحدود لا تقام عليه في دار الكفر، فلو سرق أو زنا أو شرب الخمر لا يقام عليه الحد ما دام في دار الكفر، بينما في داره تقام عليه الحدود إذا ارتكب موجبها، وإلى غير ذلك من الأحكام الأخرى التي ستأتي بالتفصيل في الباب الثالث. وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية وبه قال الحنابلة في رواية إلا أنهم قالوا بالنسبة لإقامة الحدود تؤخر حتى يرجع المسلم إلى دار الإسلام. 2   1 بدائع الصنائع 5/192 و7/131، والمبسوط 14/56، والبحر الرائق 5/18 و6/147، والجوهرة النيرة 2/245، 262، وفتح القدير 5/47، 6/178، والمبدع 4/175، و9/59، والمقنع 3/451، والإفصاح 2/430، وكشاف القناع 6/175، والإنصاف 5/52، 53، والفروع 4/147. 2 انظر: المصادر السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 واحتجوا بما يلي: أولاً: قالوا إن الإمام يقدر على إقامة الحدود في دار الإسلام، ولا يقدر على إقامتها في دار الكفر، لعدم الولاية ن فلو سرق المسلم أو قتل في دار الكفر ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحد، لأنه لا ولاية لدار الإسلام على دار الكفر.1 ثانياً: قالوا إن تباين الدارين قاطع للأملاك لأنه نازل منزلة الموت، والموت قاطع للأملاك، لأن الملك في الأصل إنما يثبت بالاستيلاء على المملوك، والاستيلاء ينقطع بتباين الدار حقيقة وحكماً. أما الحقيقة فبالخروج عن يد المالك، وأما الحكم فبانقطاع يده من الولايات والتصرفات.2 القول الثاني: أن اختلاف الدارين لا أثر له في تباين الأحكام الشرعية التي تختلف باختلاف دار الكفر. وبه قال فقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة في ظاهر المذهب.3   1 بدائع الصنائع 7/130. 2 تخريج الفروع على الأصول ص 277، 278. 3 المدونة 4/271، و6/291، والمقدمات 1/178، 179، والخرشي 3/7، والشرح الكبير 2/166، والمنتقى شرح الموطأ 7/145، والأم 7/354، والمجموع 9/391، والمهذب 2/241 والإشراف 1/262و 2/43، وروضة الطالبين 10/141، 291، والمقنع بحاشية 3/451، والمغني 4/45، والفروع 4/147، والمبدع 4/157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فمثلاً المسلم المقيم في دار الكفر يحرم عليه التعامل بالربا وبجميع العقود الفاسدة في دار الكفر، ولا أثر لاختلاف الدار في ذلك، لأن النصوص الواردة من الكتاب والسنة في تحريم الربا وردت عامة لم تفرق بين التعامل به في دار الإسلام أو في دار الكفر. وكذلك الحدود تقام على المسلم إذا ارتكب موجبها في أي مكان ولا فرق بين دار الإسلام دار الكفر، وذلك لأن النصوص أيضاً الموجبة لإقامة الحدود وردت عامة لم تفرق بين إقامتها في دار الإسلام أو في دار الكفر. وخلاصة الأمر أن المسلم يجب عليه أن يلتزم بالأحكام الشرعية الإسلامية في كل زمان وأني كان في دار الإسلام أو في دار الكفر. وقد ذكر الزنجاني1 الشافعي الاختلاف بين أصحابه والأحناف فقال: اختلاف الدارين أعني دار الإسلام ودار الحرب لا يوجب تباين الأحكام عند الشافعي، وقال أبو حنيفة اختلاف الدارين يوجب تباين الأحكام. واحتج لأصحابه بقوله: "بأن الدور والأماكن والرباع لا حكم لها لدار البغي ودار العدل، وإنما الحكم لله تعالى، ودعوة الإسلام عامة على   1 هو محمود بن أحمد بن محمود بن مختار أبو المناقب شهاب الدين الزنجاني، من علماء الشافعية في الفقه واللغة والأصول، ولد سنة 573 وتوفي سنة 656 من تصانيفه: تنقيح الصحاح، وتخريج الفروع على الأصول. انظر ترجمته في: طبقات الشافعية لابن السبكي 5/154، والأعلام 7/161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الكفار، سواء كانوا في أماكنهم أو في غيرها".1 قلت: ومعنى كلامه هذا، أن اختلاف الدور والأماكن لا أثر له في أحكام الشريعة الإسلامية، فأحكام الله نافذة قائمة في جميع بقاع الأرض، لا فرق بين دار إسلام أو دار كفر. فالسارق سارق سواء سرق في دار الإسلام أو في دار الكفر، ويجب إقامة الحد عليه في أي زمان ومكان، وكذلك القاتل أينما ارتكب جريمته في دار الإسلام، أو في دار الكفر يجب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليه كالقصاص، أو دفع الدية، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام ودار الكفر، وإلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي لا تختلف باختلاف الدارين. ثم قال بعد ذلك ويتفرع عن هذا الأصل مسائل: 1- منها ما إذا هاجر أحد الزوجين إلينا مسلماً أو ذمياً وتخلف الآخر في دار الحرب لا ينقطع النكاح عندنا بنفس الخروج، وينقطع عندهم لتباين الدار. 2- ومنها إذا أسلم الحربي وخرج إلينا وترك ما له في دار الحرب، ثم ظهر المسلمون على دارهم فإن ماله لا يملك عندنا. وعندهم يملك ويكون من جملة الغنائم. 3- ومنها من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام فهو   1 تخريج الفروع على الأصول ص 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 معصوم يجب على قاتله الدية والقصاص وعلى من أتلف ماله الضمان كما في دار الإسلام. وقال أبو حنيفة: "يحرم قتله وأخذ ماله، ولكن لا يجب الضمان والقصاص".1 والراجح من القولين ما ذهب إليه الجمهور من أن الأحكام الشرعية لا تختلف باختلاف دار الكفر، فالمسلم يلتزم وتطبق عليه جميع الأحكام الشرعية في أي زمان ومكان لعموم النصوص الواردة في هذا الشأن وسيأتي مزيد بيان من هذا في الباب الثاني.   1 انظر: تخريج الفروع على الأصول ص 278، مع بدائع الصنائع 7/130، 132، والهداية 2/175، وتأسيس النظر للدبوسي ص 79، 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الفصل الثالث: في الأمكنة التي يمنع المستأمنون أو غيرهم من دخولها واستيطانها المبحث الأول: في النصوص الواردة في المنع وردت نصوص من القرآن، والسنة، والمأثور، في منع الكفار الذميين أو المستأمنين أو غيرهم من دخول بعض الأماكن في دار الإسلام أو استيطانهم بها. أولاً: النصوص الوارد من الكتاب: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .1 فهذه الآية نص صريح في تحريم دخول المشركين المسجد الحرام لأن لا ناهية والنهي يفيد التحريم. وفي هذا يقول ابن كثير: "أمر الله تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه".2   1 التوبة: 28. 2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقال أبي السعود: "نهي الله المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام، أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام، وعلل هذا بأنهم نجس إما لخبث باطنهم، أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات".1 ثانياً: النصوص الواردة من السنة: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد، إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم، فقال: يا معشر يهود أسلموا، تسلموا، فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أريد، أسلموا تسلموا، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أريد، فقال لهم الثالثة، فقال: "اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله".2 فهذا الحديث نص صحيح صريح في إجلاء اليهود من المدينة وهذا دليل على جواز استيطانهم للحجاز.   1 تفسير أبي السعود 2/539. 2 أخرجه البخاري 2/202 كتاب الجزية باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 4/200 كتاب الإكراه - باب في بيع المكره. ومسلم 3/1387 كتاب الجهاد والسير باب إجلاء اليهود من الحجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ومما يدل على ذلك أن الإمام مسلم - رحمه الله - أورده في باب إجلاء اليهود من الحجاز. 2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا أن بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم، بني قينقاع-وهم قوم عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة".1 فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجلى اليهود من الحجاز لأن إجلاؤهم من المدينة إجلاء لهم من الحجاز فالمدينة من أهم مدن الحجاز. 3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاثة فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو   1 أخرجه البخاري 3/15 كتاب المغازي باب حديث بني النضير. ومسلم 3/1387 - 1388 كتاب الجهاد والسير- باب إجلاء اليهود من الحجاز واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ما كنت أجيزهم1 قال: وسكت عن الثالثة2، أو قال: فأنسيتها".3 4- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً".4 5- وعن سمرة بن جندب عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به نبي الله صلى الله عليه وسلم "أن اخرجوا يهود الحجاز من جزيرة العرب واعلموا أن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد"، وفي رواية أخرى: "أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب"5   1 قال العلماء: هذا أمر منه صلى الله عليه وسلم بإجازة الوفود وإكرامهم وضيافتهم، تطيباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة قلوبهم، ونحوهم وإعانتهم على سفرهم. قال القاضي عياض: قال العلماء: سواء كان الوفد مسلمين أو كفاراً لأن الكافر ربما يفد غالباً فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم. شرح النووي على مسلم 11/94. 2 قيل: هي تجهيز جيش أسامة، وقيل يحتمل أنها قوله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري وثناً وفي الموطأ ما يشير إلى ذلك. معالم السنن 3/424. 3 أخرجه الإمام البخاري 2/179 كتاب الجهاد والسير- باب هل يستشفع أهل الذمة، و2/202 كتاب الجزية باب إخراج اليهود من جزيرة العرب. ومسلم 3/1258 كتاب الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. وأبو داود 3/423 كتاب الخراج والإمارة باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب. 4 أخرجه مسلم 3/1388 كتاب الجهاد والسير باب إخراج اليهود من جزيرة العرب. وأبو داود 3/424 كتاب الخراج والإمارة باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب. والترمذي 4/156 حديث 1606. 5 أخرجه أحمد في مسنده 15/195-196. والبيهقي 9/208 كتاب الجزية باب لا يسكن أرض الحجاز مشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 6- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان".1 7- وعن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان".2 8- وعن عمر بن عبد العزيز قال: "بلغني أنه كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجد لا يبقين دينان بأرض العرب". 3 وهذه النصوص الصريحة الواضحة تدل دلالة واضحة على وجوب إخراج الكفار من جزيرة العرب وعدم إقامتهم فيها، لأن قوله صلى الله عليه وسلم "أخرجوا" أمر والأمر يفيد الوجوب. وأيضاً تدل على مدى حرص الإسلام على حماية أمته الإسلامية من معاشرة الكفار، ومخالطتهم، لما في ذلك من جلب لمودتهم وموالاتهم التي نهى الله عنها.   1 أخرجه الإمام أحمد 6/265. 2 أخرجه البيهقي 9/209. ومالك في الموطأ ص 644. 3 أخرجه الإمام مالك في الموطأ ص 643، 644 كتاب الجامع- ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة. والبيهقي 9/208 كتاب الجزية باب لا يسكن أرض الحجاز مشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ثالثاً: من المأثور: 1- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وذكر يهود خيبر إلى أن قال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.1 2- وعن علي رضي الله عنه أنه قال: أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب.2 3- وقال الإمام مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهود نجران، وفدك. 3 فهذه النصوص وغيرها من الكتاب والسنة والمأثور تدل بجلاء على أن هناك أماكن في دار الإسلام يمنع الكفار من دخولها، وأماكن أخرى يمنعون من استيطانها والإقامة فيها، وسنبينها بالتفصيل في المباحث الآتية إن شاء الله.   1 أخرجه البخاري 2/48 كتاب الحرب والمزارعة باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله. وتيماء: تقع في شمال المدينة وتبعد عنها بحوالي 400 كيلو متر. أما أريحاء: فهي مدينة في الغور من أرض الأردن بالشام. انظر معجم البلدان 1/165. 2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/178. 3 قاله الإمام مالك في الموطأ ص 644 ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة. وفدك: قرية بالحجاز وتقع شمال المدينة بالقرب من خيبر. وتعرف اليوم بالحائط. معجم البدلان 4/238، معجم المعالم الجغرافية لعاتق البلادي ص 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المبحث الثاني: في حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب تمهيد: قبل أن نبدأ بذكر الخلاف بين الفقهاء في حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب ينبغي أن نمهد بتمهيد نعرف فيه بجزيرة العرب. فجزيرة العرب هي اللفظة التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم لتدل على بلاد العرب ووطنهم وأرضهم. وسميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض، وقيل لانحسار الماء عنها، وقيل لإحاطة البحار والنهار بأغلب جهاتها وأقطارها، وأطرفاها وصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر.1 وسميت بلاد العرب جزيرة لأن البحار بحر فارس، وبحر الحبشة والأنهار كنهر دجلة والفرات قد أحاطت بها.2 وأضيفت الجزيرة إلى العرب لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام، وبها أوطانهم ومنازلهم.3   1 لسان العرب 4/133، ومعجم متن اللغة 1/521، والمصباح المنير 1/98، والقاموس المحيط 1/404، وجزيرة العرب منذ أقدم العصور ص81،82. 2 انظر: تهذيب اللغة للأزهري 10/604، ونهاية المحتاج 8/90، وإعلام الساجد ص76،77. 3 فتح الباري 6/171، ونيل الأوطار 8/65، وسبل السلام 4/1367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: "نسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها".1 وقال ابن الهمام: "سميت جزيرة لانجزار المياه التي حواليها عنها كبحر البصرة وعمان، وعدن، والفرات، وقيل لأن حواليها بحر الحبشة، وبحر فارس، ودجلة والفرات".2 أما تحديدها فقد اختلف العلماء في حدودها اختلافاً كثيراً. ونبدأ بتحديدها عند الفقهاء: اتفقت كلمة الفقهاء على أن جزيرة العرب من أقصى عدن وما ولاها من أرض اليمن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما ولاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.3 إلا ما روى عن الإمام مالك أنه قال: جزيرة العرب هي مكة والمدينة واليمن4، وبالتأكيد أنه يقصد بها الجزيرة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم   1 نقلاً عن أحكام أهل الذمة 1/178،وفتح الباري 6/171، وكتاب المناسك للحربي ص 531. 2 انظر: فتح القدير 5/301. 3 فتح القدير 5/301 والمنتقى شرح الموطأ 7/195 ونهاية المحتاج 8/90، وأعلام الساجد ص 76،77، والمبدع 3/424 وكشاف القناع 3/136، وأحكام أهل الذمة 1/187،188. 4 المنتقى شرح الموطأ 7/195، وكتاب المناسك للحربي ص 531، وسنن البيهقي 9/209، وأحكام أهل الذمة1/187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بإخراج الكفار منها في الأحاديث السابقة وهي الحجاز لأنها هي المنهي عن استيطانها في الأحاديث عنده. وكذلك روى عن الإمام أحمد أنه قال: جزيرة العرب المدينة وما ولاها وهي مكة واليمامة1 وخيبر وينبع وفدك وقراها2 وبالتأكيد أيضاً أنه يقصد بهذا التحديد الحجاز، لأن الجزيرة المنهي عن استيطانها في الأحاديث عنده هي الحجاز، وفي هذا يقول البهوتي بعد أن ذكر قول الإمام أحمد "يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به هو المدينة وماولاها".3 أما ما قاله علماء اللغة والبلدان وغيرهم عن حدودها: فقال الزبيدي: "اختلفوا في حدودها اختلافاً كثيراً كادت الأقوال تضطرب ويصادم بعضها بعضاً، فجزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات".4 وقال أبو عبيدة: "جزيرة العرب هي ما بين حفر أبي موسى5، إلى   1 اليمامة هي: مدينة بقرب اليمن على أربع مراحل من مكة ومرحلتين من الطائف. انظر: حاشية الشرقاوي 2/415. 2 المغني لابن قدامة 8/531، والمبدع 3/424. 3 انظر: كشاف القناع 3/136. 4 انظر: تاج العروس 3/98. 5 مياه عذبة على طريق البصرة احتفرها أبو موسى الأشعري ليستعين بها السائرون في هذا الطريق. وتسمَّى الآن: حفر الباطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 أقصى تهامة1 في الطول، وأما العرض، فما بين رمل يبرين2 إلى منقطع السماوة".3 وقال الشعبي: "جزيرة العرب ما بين قادسية الكوفة4 إلى حضر موت".5 إلى غير ذلك من أقوال العلماء الكثيرة في تحديد جزيرة العرب منها ما هو موافق لما قاله الفقهاء ومنها ما هو مخالف. ويتضح لي أن أحسن ما قيل في تحديد جزيرة العرب هو ما قاله الفقهاء ومن وافقهم من علماء اللغة والبلدان وغيرهم أنها من أقصى عدن وما والاها من أرض اليمن في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام في العرض.   1 تهامة هي الأرض الساحلية المنخفضة الممتدة من ينبع إلى نجران بمحاذاة ساحل البحر الأحمر وسميت تهامة لشدة حرها وركود ريحها. موضع بينه وبين هجر مرحلتان. 2 يبرين: قرية من قرى حلب. انظر معجم البلدان 5/427. 3 منقطع السماوة: ماء بالبادية وبادية السماوة بين الكوفة والشام. انظر: معجم البلدان 3/245. 4 بينها وبين الكوفة ما يقارب خمسة عشر فرسخاً وبها كان يوم القادسية. انظر: معجم البلدان 4/291. 5 حضر موت ناحية واسعة في شرقي عدن يقرب البحر بينها وبين صنعاء اثنان وسبعون فرسخاً. انظر: معجم البلدان 2/270. وقول الشعبي ذكره العيني في عمدة القاري 14/300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أما المراد بها في الأحاديث السابقة فهو على خلاف بين الفقهاء سنبينه بالتفصيل في المبحث الثاني. أما تحديدها بالأميال: فقيل أن طولها ألف وخمسمائة ميل، خمسون مرحلة بسير الإبل، وقيل: ألف ومئتا ميل. أما العرض فقيل عرضها 900 ميل ثلاثون مرحلة بسير الإبل وقيل 700ميل.1 أما حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب: فقد اتفق الفقهاء أولاً على أن الكفار المستأمنون أو غيرهم يجوز لهم استيطان أي بلد من بلدان الإسلام ما عدا جزيرة العرب.2 كما اتفقوا أيضاً على جواز دخول الكفار الذميين أو المستأمنين أو غيرهم الحجاز وغيرها من جزيرة العرب، والإقامة فيها أياماً معدودة، منهم من حددها بثلاثة أيام مستدلاً: بما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة ثلاثة أيام يتسوقون فيها ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث.3   1 جزيرة العرب منذ أقدم العصور ص 1. 2 مراتب الإجماع لابن حزم ص 122. 3 أخرجه البيهقي في السنن 9/209 كتاب الجزية باب الذمي يمر بالحجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ومن الفقهاء من لم يحدد مدة الدخول والإقامة وإنما يقيم الكفار بقدر الحاجة ومصلحة المسلمين بشرط ألا تطول المدة بحيث يستوطنونها أو يسكنونها.1 واختلف الفقهاء في حكم استيطان الكفار لجزيرة العرب إلى قولين: القول الأول: لا يجوز للكافر الذمي، أو المستأمن، استيطان وسكنى جزيرة العرب وهو قول فقهاء الحنفية، والمالكية2 قال الكاساني: "ويمنع المشركون أن يتخذوا أرض العرب مسكناً ووطناً، تفضيلاً لأرض العرب على غيرها، وتطهيراً لها عن الدين الباطل".3 وقال ابن الهمام: "يمنعون أن يتخذوا أرض العرب مسكناً ووطناً، بخلاف أمصار المسلمين التي ليست في جزيرة العرب يمكنون من سكناها، ولا خلاف في ذلك".4   1 فتح القدير 5/301، والجامع لأحكام القرآن 8/104، والمنتقى شرح الموطأ 7/192، وأسنى المطالب 4/213، والمغني 8/529. 2 حاشية ابن عابدين 4/202، 203، والبناية على الهداية 5/315، وشرح السير الكبير 4/1541، وبدائع الصنائع 7/114 والمنتقى 7/195، وبلغة السالك 2/120. 3 انظر: بدائع الصنائع 7/114. 4 انظر: فتح القدير 5/301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 القول الثاني: يجوز للكافر استيطان جزيرة العرب ما عدا الحجاز خاصة. فالحجاز لا يجوز للكفار الذميين أو المستأمنين استيطانه وسكناه، ويجوز لهم دخوله والإقامة فيه ثلاثة أيام للحاجة أما ما عداه من الجزيرة العربية فيجوز للكفار سكناه واستيطانه. وهو قول الشافعية والحنابلة.1 قال الإمام الشافعي: "ولم أعلم أحداً أجلى أهل الذمة من اليمن، وقد كانت بها ذمة، وليست اليمن بحجاز فلا يجليهم أحداً من اليمن ولا بأس أن يصالحهم على مقامهم باليمن".2 سبب الخلاف بين الفقهاء: هو اختلافهم في مفهوم ومراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" 3، وقوله: "لا يجتمع دينان في جزيرة   1 أسنى المطالب 4/213، ونهاية المحتاج 8/90، وحاشية الشرقاوي 2/409، ومغني المحتاج 4/246،247، والمهذب 2/330،331، وروضة الطالبين 10/308، والمجموع شرح المهذب 18/271، والمغني 8/530، وكشاف القناع 3/135،136، والمبدع 3/424،425، وأحكام أهل الذمة 1/187، والإنصاف 4/235. 2 نقلاً عن السنن الكبرى للبيهقي 9/209. 3 سبق تخريجه ص 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 العرب".1 فمن قال إنه أراد في الأحاديث جزيرة العرب عامة، منع من استيطانها وسكناها وهم فقهاء الحنفية والمالكية. ومن قال إن مراده من الأحاديث الحجاز خاصة منع من استيطانها وسكناها وأجاز الإقامة والاستيطان فيما عداها من جزيرة العرب، وهم فقهاء الشافعية والحنابلة. الأدلة: استدل أصحاب القول الأول المانعون من الاستيطان بما يلي: بالنصوص الواردة في المنع، وقد تقدمت، والتي منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" 2 وقوله: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب" 3. قوله: "اخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب".4 فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود من نجران وهي من جزيرة العرب. وقوله: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان".5   1 سبق تخريجه ص 341. 2 سيق تخريجه ص 340. 3 سبق تخريجه ص 340. 4 سبق تخريجه ص 340. 5 سبق تخريجه ص 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وحديث أبي عبيدة صريح في أن أرض نجران من جزيرة العرب وكذا قوله لعلي رضي الله عنه أخرج أهل نجران من جزيرة العرب.1 وجه الدلالة من هذه الأحاديث: الأحاديث ظاهرة الدلالة في وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا" أمر والأمر يفيد الوجوب، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع" وهذا نفي بمعنى النهي والنهي يفيد التحريم وأنه لا يجوز لهم استيطان جزيرة العرب وسكناها. وفي هذا يقول الشوكاني: "ظاهر الأحاديث يدل على أنه يجب إخراج المشركين من كل مكان داخل جزيرة العرب".2 وقال الصنعاني: "الحديث دليل على وجوب إخراج اليهود والنصارى والمجوس من جزيرة العرب، إلى أن قال: تضمنت الأحاديث وجوب إخراج من له دين غير الإسلام من جزيرة الهرب".3 وقال الباجي في المنتقى: "ويريد لا يبقى فيهادين غير دين الإسلام وأن يخرج منها كل من يتدين بغير دين الإسلام"4   1 انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/178. 2 انظر: نيل الأوطار للشوكاني 8/65. 3 انظر: سبل السلام للصنعاني 4/1367. 4 انظر: المنتقى شرح الموطأ للباجي 7/195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وبهذا يتضح أن الأحاديث وردت عامة في جزيرة العرب وليس فيها ما يخص الحجاز فقط. واستدلوا أيضاً بدليل من المعقول فقالوا: لا يجوز للكافر استيطان جزيرة العرب تفضيلاً لأرض العرب على غيرها من الأراضي، وتطهيراً لها عن الأديان الباطلة والفاسدة، وكرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها موضع ولادته ونشأته.1 ثانياً: أدلة الشافعية والحنابلة: استدلوا بنفس الأحاديث المتقدمة وقالوا إن جزيرة العرب المراد بها في الأحاديث الحجاز خاصة.2 قال الرملي في نهاية المحتاج: "ليس المراد جميعها بل الحجاز منها لأن عمر أجلاهم منه وأقرهم باليمن مع أنه منها".3 وقال ابن مفلح: "المراد الحجاز بدليل أنه ليس أحد من الخلفاء أخرج أحداً من اليمن وتيماء ".4 2- وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما ما بعثه إلى اليمن:   1 انظر: بدائع الصنائع 7/114، وشرح السير الكبير 4/1541. 2 انظر: المهذب 2/330، ومغني المحتاج 4/246. 3 انظر: نهاية المحتاج 8/90. 4 انظر: المبدع 3/424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 "خذ من كل حالم ديناراً". 1 فاليمن من جزيرة العرب وقد أقرهم صلى الله عليه وسلم بها. 3- وبما روى عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر".2 وهجر مدينة من مدن البحرين، وهي من جزيرة العرب. 4- وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها.3 والبحرين من جزيرة العرب وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الذمة فيها. 5- ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر أهل خيبر بها إلى أن قبضة الله وهي من جزيرة العرب.4 6- ولأن أبا بكر رضي الله عنه أجلى قوماً من اليهود من الحجاز فلحقوا   1 أخرجه أبو داود في سننه 2/234، 235 كتاب الزكاة باب زكاة السائمة. والترمذي في جامعه 3/20 كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الصغير حديث 623 وقال حديث حسن، والنسائي 5/20 كتاب الزكاة باب زكاة البقر، وابن ماجة في سننه 1/576 كتاب الزكاة باب صدقة البقرة حديث رقم 1803. 2 أخرجه البخاري 2/200 كتاب الجزية والموادعة. 3 أخرجه البخاري في صحيحه 2/200 كتاب الجزية والموادعة. 4 انظر: أحكام أهل الذمة 1/181، واصل الحديث في الصحيحين في البخاري 2/48 كتاب الحرث والمزارعة. وفي مسلم 3/1187 حديث رقم 6 كتاب المساقاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 بخيبر وأقروا فيها وهي من جزيرة العرب.1 7- ولأن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وأجلاهم إلى تيماء وأريحاء.2 وأجلاهم أيضاً إلى الشام والكوفة وهما من جزيرة العرب.3 8- وقالوا أيضاً لم ينقل عن أحد من الخلفاء أنهم أجلوا من كان باليمن من أهل الذمة وهي من جزيرة العرب.4 المناقشة: أولاً: مناقشة أدلة أصحاب القول الأول: بالنسبة لاستدلالهم بالأحاديث التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب، يقال لهم إن المراد بجزيرة العرب في هذه الأحاديث هي الحجاز خاصة. بدليل ما رواه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: "أخرجوا اليهود من الحجاز".5   1 انظر: المجموع شرح المهذب بتكملة المطيعي 18/270،. 2 أخرجه البخاري في صحيحه 2/200 كتاب الزكاة ومسلم 3/1187،1188 كتاب المساقاة. 3 انظر: المجموع شرح المهذب بتكملة المطيعي 18/270،271. 4 المهذب 2/331، وكشاف القناع 3/135. 5 سبق تخريجه ص 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 قال صاحب مغني المحتاج: "المراد من الجزيرة في الأحاديث الحجاز ولم يرد جميع الجزيرة لأن عمر رضي الله عنه أجلاهم من الحجاز وأقرهم في اليمن مع أنه من جزيرة العرب".1 وقالوا: "إنما قلنا بجواز تقريرهم في غير الحجاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "أخرجوهم من جزيرة العرب" ثم قال: "أخرجوهم من الحجاز" عرفنا أن مقصوده بجزيرة العرب الحجاز فقط، ولا مخصص للحجاز عن سائر البلاد إلا برعاية أن المصلحة في إخراجهم منه أقوى فوجب مراعاة المصلحة إذا كانت في تقريرهم أقوى منها في إخراجهم.2 أما بالنسبة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران فلأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم على شروط منها: ألا يأكلوا الربا، فأكلوه، ونقضوا العهد، فلذلك أمر بإجلائهم، فأجلاهم عمر رضي الله عنه وغيره.3 أما استدلالهم بالمعقول فيرد عليه، بأننا لا نشك أن أرض العرب لها فضائل وخصائص عن غيرها من الأراضي الإسلامية، ولكن الحجاز أفضل الأراضي في جزيرة العرب، لوجود الأماكن المقدسة فيه، فكان الأمر بإخراجهم منه هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة، ولأنه هو الذي   1 انظر: مغني المحتاج 4/246. 2 نيل الأوطار 8/66. 3 المغني 8/531، والمجموع 18/277، وأحكام أهل الذمة 1/187، وعمدة القاري 14/175، ومغني المحتاج 4/264، والمهذب 2/331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ولد نشأ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ومنه انتشرت الدعوة الإسلامية سراً وعلانية حتى عمت جميع أنحاء الجزيرة. ثانياً: مناقشة أدلة الشافعية والحنابلة: فيرد عليهم أن الأحاديث نص صريح في إخراج اليهود من جزيرة العرب ولا تحتمل الحجاز فالحجاز من جزيرة العرب، والتخصيص بالحجاز يحتاج إلى دليل ولا دليل.1 قال الشوكاني: "وقد أجيب عن هذا الاستدلال- أي استدلال الشافعية والحنابلة - على أن المراد بجزيرة العرب في الأحاديث الحجاز بأجوبة: منها: أن حمل جزيرة العرب على الحجاز وإن صح مجازاً من إطلاق اسم الكل على البعض، فهو معارض بالقلب وهو أن يقال المراد بالحجاز جزيرة العرب إما لانحجازها بالأبحار كانحجازها بالحرار الخمس، وإما مجازاً من إطلاق اسم الجزء على الكل فترجيح أحد المجازين مفتقر إلى دليل ولا دليل. ومنها: أن في خبر جزيرة العرب زيادة لم تغير حكم الخبر، والزيادة كذلك مقبولة. ومنها: أن هذا الحديث الذي فيه الأمر بالإخراج من الحجاز فيه   1 نيل الأوطار 8/66، وسبل السلام 4/1367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الأمر بإخراج أهل نجران، وليس نجران من الحجاز، فلو كان لفظ الحجاز مخصصاً للفظ جزيرة العرب، أو دالاّ على أن المراد بجزيرة العرب الحجاز فقط، لكان في ذلك إهمال لبعض الحديث وإعمال لبعض وهو باطل. وأيضاً غاية ما في حديث أبي عبيدة الذي صرح فيه بلفظ أهل الحجاز مفهومه معارض لمنطوق ما في حديث ابن عباس المصرح فيه بلفظ جزيرة العرب، والمفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق فكيف يرجع إليه؟ 1 أقول وبالله التوفيق: أن الإمام الشوكاني فحل من فحول العلماء وعالم له وزنه وثقله بين العلماء وقوله هذا يمكن الرد عليه بما يلي: 1- أن الأصل ثبوت التقرير للكفار في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب فقد أقر مجوس هجر بالإقامة في البحرين وهي من جزيرة العرب، وأقر أهل الذمة باليمن وهي من جزيرة العرب وإلى غير ذلك من الوقائع التي تدل على أن الأصل هو تقرير الكفار في الجزيرة العربية، وأن المراد بعدم تقريرهم في الأحاديث السابقة إنما في الحجاز فقط ولا يمكن أن يترك الأصل إلا بدليل ولا دليل. 2- أن إطلاق الكل وإرادة الجزء يدل عليه نفي اليهود من الحجاز،   1 انظر: نيل الأوطار 8/66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وعدم نفيهم من غيرها من أراضي الجزيرة العربية، ما عدا أهل نجران، فقد نفاهم لسبب خاص بهم. 3- وقوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج أهل نجران وهي من جزيرة العرب يرد عليه بما سبق أنه نفاهم وأمر بإجلائهم لنقضهم العهد وأكلهم الربا وقد نهو عنه. 4- وقوله بأن المفهوم من الأحاديث أن المراد بجزيرة العرب فيها هو الحجاز، هذا من مفاهيم اللقب وهو غير معمول به، يقال له وإن كان هذا من مفاهيم اللقب فقد أيدته وعضدته الأدلة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من الحجاز. وقال الصنعاني: "لا يخفى أن الأحاديث الماضية فيها الأمر بإخراج من ذكر من أهل الأديان غير دين الإسلام من جزيرة العرب. والحجاز بعض جزيرة العرب، وورد في حديث أبي عبيدة الأمر بإخراجهم من الحجاز وهو بعض مسمى جزيرة العرب، والحكم على بعض مسمياتها بحكم لا يعارض الحكم عليها كلها بذلك الحكم، كما قرر في الأصول أن الحكم على بعض أفراد العام لا يخصص العام وهذا نظيره وليست جزيرة العرب من ألفاظ العموم كما وهم فيه جماعة من العلماء، وغاية ما أفاده حديث أبي عبيدة زيادة التأكيد في إخراجهم من الحجاز لأنه دخل إخراجهم من الحجاز تحت الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، ثم أفرد بالأمر زيادة تأكيد لا أنه تخصيص أو نسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وقد كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" كما قال ابن عباس رضي الله عنهما أوصى به عند موته.1 وأما القول بأنه صلى الله عليه وسلم أقرهم في اليمن بقوله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "خذ من كل حالم ديناراً" فهذا كان قبل أمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم، فإن الأمر بإخراجهم كان في آخر حياته، فالحق وجوب إجلائهم من اليمن وغيره من جزيرة العرب.2 وكذلك أيضاً إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لمجوس هجر كان قبل الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب. وفعل عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة في إجلاء اليهود من الحجاز إلى بعض الأماكن في جزيرة العرب، لا يقاوم النص الصريح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمر بإخراجهم من جزيرة العرب. وأما قول الإمام الشافعي وغيره أنه لا يعلم أحداً أجلاهم من اليمن، فليس ترك إجلائهم بدليل، فإن أعذار من ترك ذلك كثيرة، وقد ترك أبو بكر رضي الله عنه إجلاء أهل الحجاز مع الاتفاق على وجوب إجلائهم لشغله بجهاد أهل الردة، ولم يكن ذلك دليلاً على أنهم لا يجلون، بل أجلاهم عمر رضي الله عنه.3   1 انظر: سبل السلام للصنعاني 4/1367، 1368. 2 انظر: سبل السلام 4/1368. 3 سبل السلام 4/1368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أما إقرار أهل خيبر فإنه لم يقرهم صلى الله عليه وسلم إقراراً لازماً1، بل قال: نقركم ما شئنا وفي رواية "نقركم ما أقركم الله تعالى".2 أما أفعال الصحابة وأقوالهم في إقرار اليهود في الجزيرة العربية ما عدا الحجاز، فإنها لا تقوى على معارضة عموم الأحاديث السابقة التي أمرت بإجلائهم وعدم تقريرهم في جميع أنحاء الجزيرة العربية. الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء في حكم استيطان جزيرة العرب، وذكر أدلتهم ومناقشتها يتضح لي أن ما ذهب إليه الحنفية، والمالكية فيه احتياط لأرض الإسلام الأولى وهي جزيرة العرب، ولكن الذي يبدو لي من النصوص أن ما ذهب إلى الشافعية والحنابلة أقرب إلى المعنى المراد فالحجاز هبي المرادة في الأحاديث التي تأمر بإجلاء الكفار من جزيرة العرب، وذلك للأسباب الآتية: 1- لحديث أبي عبيدة رضي الله عنه أن آخر ما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم أخرجوا يهود أهل الحجاز، فكان متأخراً عن الأحاديث التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها بإخراجهم من جزيرة العرب عامة على فرض أنها هي المقصودة في   1 أحكام أهل الذمة 1/181. 2 أخرجه البخاري في صحيحه 2/48 كتاب الحرث والزراعة باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله. ومسلم في صحيحه 3/1187- 1188 كتاب المساقاة باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الأحاديث، فيكون حديث أبي عبيدة رضي الله عنه مخصصاً للعموم الوارد في الأحاديث السابقة. 2- ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر اليهود بخيبر وهي من جزيرة العرب. وكذلك أقرهم باليمن وأرسل معاذاً إليهم ليأخذ منهم الجزية وهي من جزيرة العرب، وأقر مجوس هجر بالبحرين وهي من جزيرة العرب وهذا مما يدل على أن المراد بالجزيرة في الأحاديث هي الحجاز خاصة. 3- ولأن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أمروا بإجلائهم من المدينة وغيرها إلى تيماء والشام والكوفة وكلها من جزيرة العرب. 4- ولأن الحجاز له خصائص وأحكام يختص بها عن باقي جزيرة العرب منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد ونشأ فيه، وفيه تلقى الرسالة النبوية، وفيه انتشرت الدعوة الإسلامية سراً وعلانية حتى عمت جميع أنحاء الجزيرة العربية، وفيه أفضل الأماكن على وجه الأرض كالمسجد الحرام، والمسجد النبوي، فلهذه الخصائص، وغيرها كثير قد يكون هي المراد من الأحاديث التي يأمر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود من جزيرة العرب. وبهذا يتضح لنا أن الكفار - ذميين - كانوا أو مستأمنين أو غيرهم لا يجوز لهم استيطان الحجاز أما دخولهم للتجارة ولمصلحة المسلمين فإنه لا بأس بذلك، ومن غير تقييد بمدة ثلاثة أيام كما قال عمر رضي الله عنه لأن هذه المدة ربما تكون كافية في عهده لقضاء حوائجهم وبيع تجارتهم، أما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وقتنا فقد لا تكفي، فتقدير المدة، إنما يخضع لولي أمر المسلمين الذي يسمح لهم بالدخول ويحدد لهم مدة البقاء بدون استيطان، بحسب الحاجة والمصلحة التي تعود على المسلمين، وله أن يوكل من يقوم مقامه بهذه المهمة من أفراد الرعية، وهذا هو ما عليه العمل في الوقت الحاضر. أما جزيرة العرب غير الحجاز فلا بأس بإقامة غير المسلمين، فيها بدون تحديد لمدة الإقامة اتباعاً لفعل الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر فقد كانا أدرى بما يقصده النبي صلى الله عليه وسلم من إخراج اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار من جزيرة العرب، وأن محل الإخراج هو الحجاز خاصة لما يتمتع به من المميزات والخصائص السابقة، وليكون القاعدة الأساسية للمسلمين ومركز الدعوة الإسلامية الذي يشع منه النور على سائر الأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المبحث الثالث: في حكم دخول الكفار الحرم المكي تمهيد: قبل أن نبدأ ببيان اختلاف الفقهاء في حكم دخول الكفار الحرم المكي نمهد بتمهيد نبين فيه حدود الحرم وهي مختلف فيها من جميع الجهات: فحده من جهة التنعيم1: من الجهة الشمالية جهة المدينة - فيه ثلاثة أقوال: قيل: ما يقارب ثلاثة أميال دون النتعيم عند بيوت نفار2 وهو قول أكثر العلماء.3   1 التنعيم موضع بمكة في الحل على فرسخين من مكة، وقيل على أربعة وسمي بذلك لأن جبلاً عن يمينه يقال نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان، وهو في طريق المدينة ومنه يحرم أهل مكة. معجم البلدان 2/49 وتحفة الراكع والساجد ص 76. 2 وقيل غفار ذكره الأزرقي في أخبار مكة 2/130. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/131، والمذهب 2/331، والأحكام السلطانية ص 164، والقرى لقاصد أم القرى ص 651، وتحفة الراكع والساجد ص 76، وإعلام الساجد ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقيل: أربعة أميال. قال به بعض المالكية.1 وقيل: خمسة أميال. قاله الباجي المالكي.2 قال الفاسي: وفي هذا القول نظر أي قول الباجي وكذا القول الذي قال إن حده أربعة أميال.3 أما حده من الجهة الجنوبية من طريق اليمن ففيه قولان: قيل: ما يقارب سبعة أميال عند أضاة لبن4، وبه قال أكثر العلماء.5 وقيل: ستة أميال قال به بعض علماء الشافعية.6 أما حده من جهة طريق الطائف على طريق عرفة من بطن عرنة7-   1 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/57. 2 انظر: المتقى شرح الموطأ 7/192. 3 انظر: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/57. 4 إضاة لبن وقيل أضاءة ابن مقشر لبن، وهي مستنقع الماء، ولبن جبل طويل له رأسان وهذه الإضافة معروفة الآن بإضاءة. انظر: تحفة الراكع والساجد ص 76، وشفاء الغرام 1/58. 5 أخبار مكة 2/131، وشفاء الغرام 1/58، وتحفة الراكع والساجد ص 76، وإعلام الساجد ص63، والأحكام السلطانية للماوردي ص 164. 6 إعلام الساجد ص 63، والقرى لقاصد أم القرى ص 651. 7 عرنة موضع بعرفة نزل به النبي صلى الله عليه وسلم وبها المسجد الكبير المقام في وادي عرنة. انظر: معجم البلدان 5/304، 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أي من الجهة الشرقية - ففيه أربعة أقوال: قيل: ما يقارب أحد عشر ميلاً1، وقيل ثمانية عشر ميلاً قاله الباجي المالكي.2 وقيل: سبعة أميال قاله بعض الشافعية والحنابلة.3 وقيل: تسعة أميال. قاله بعض المالكية.4 أما حده من جهة جدة أي من الجهة الغربية ففيه قولان: قيل عشرة أميال. قاله أكثر العلماء.5 وقيل: ثمانية عشر ميلاً. قاله الباجي.6   1 أخبار مكة 2/130، والممالك والمسالك ص 140، والقرى لقاصد أم القرى ص 651، وشفاء الغرام ص 1/56، وتحفة الراكع والساجد ص 76، والأحكام السلطانية للماوردي ص 164، وإعلام الساجد ص 63، والمهذب 2/331. 2 المنتقى شرح الموطأ 7/192. 3 الأحكام السلطانية للماوردي ص 165، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 193، والمهذب 2/331، وتهذيب الأسماء واللغات 3/82، والفروع 3/483. 4 شفاء الغرام 1/56. 5 أخبار مكة 2/131، والأحكام السلطانية للماوردي ص 164، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 192، وشفاء الغرام 1/85 وإعلام الساجد ص 63،، وتحفة الراكع والساجد 77، والمهذب 2/331، والفروع 3/483. 6 المنتقى شرح الموطأ 7/192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وقد حدده العلامة الفاسي المالكي بالأذرع فقال في كتابه: "شفاء الغرام": "حده من جهة عرفة - أي الجهة الشرقية - سبعة وثلاثون ألف ذراع وعشرة أذرع وسبعا ذراع بذراع اليد. وحده من جهة التنعيم - أي من الجهة الشمالية - وهي طريق المدينة من باب العمرة اثنا عشر ألف ذراع وأربعمائة ذراع وعشرون ذراعاً بذراع اليد. وحده من جهة اليمين - أي من الجهة الجنوبية - من باب المسجد الحرام المعروف بباب إبراهيم عليه السلام أربعة وعشرون ألف وخمسمائة ذراع وتسعة أذرع. وحده من جهة العراق سبعة وعشرون ألف ذراع ومائة واثنان وخمسون ذراعاً باليد. وحده من جهة باب الشبيكة عشرة آلاف ذراع وثمانمائة ذراع واثنا عشر ذراعاً. وهذا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع وهو الذي ينبغي في حدود الحرم.1   1 انظر: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/59، 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الخلاصة: يتلخص لنا مما سبق بيانه في حدود الحرم أن الفقهاء اتفقوا على تحديد الحرم من جهات ثلاث، واختلفوا فيما عداه. فاتفقوا على تحديده من جهة جدة أي من الجهة الغربية على أنه آخر الحديبية على بعد عشرة أميال. ومن جهة اليمن عند أضاة لبن أي من الجهة الجنوبية على أنه على بعد سبعة أميال. ومن جهة الجعرانة1 على أنه تسعة أميال.2 واختلفوا فيما عدا ذلك. فقال الجمهور، الحنفية، والشافعية، والحنابلة: حده من جهة المدينة أي من الجهة الشمالية على طريق النتعيم ثلاثة أميال عن بيوت نفار. وحده من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن عرنة أي من الجهة الشرقية سبعة أميال. وحده من جهة العراق أي طريق الطائف المسمى بالسيل من الجهة الشرقية الشمالية على سبعة أميال.3   1 الجعرانة: هي ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب وتبعد منها بأربعة فراسخ. أي ما يقارب عشرون كيلو متراً. انظر: معجم البلدان 2/142. 2 حاشية ابن عابدين 2/479، ومجمع الأنهر 1/267، شفاء الغرام 1/56، وأسهل المدارك 1/498، والمجموع 7/175، والمبدع 3/206. 3 مجمع الأنهر 1/266، والأحكام السلطانية للماوردي ص 165، وغاية المنتهى 2/381، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وخالفهم فقهاء المالكية فقالوا: حده من جهة المدينة على طريق التنعيم المسمى الآن بمساجد عائشة أربعة أميال أو خمسة. ومن جهة الطائف على طريق عرفة إلى حد عرفة تسعة أميال. ومن جهة العراق - طريق السيل - ثمانية أميال.1 وقد حدده بعض العلماء المعاصرين بالكيلو متر فقال: حده من جهة الشمال التنعيم وبينه وبين مكة ستة كيلو مترات. وحده من جهة الجنوب أضاة لبن إثنا عشر كيلو متراً. وحده من جهة الشرق الجعرانة ستة عشر كيلوا متراً. ومن جهة الغرب الشميسي خمسة عشر كيلو متراً.2   1 بلغة السالك 1/293، وأسهل المدارك 1/498، وشفاء الغرام 1/57، والمنتقى 7/192. 2 انظر: فقه السيد سابق 1/688، 689. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 أما حكم دخولهم الحرم المكي: فقد اتفق الفقهاء على أن ما كان خارج الحدود السابقة يجوز للكافر دخوله بإذن من الإمام أومن يقوم مقامه، لكن لا يجوز له سكناه واستيطانه وقد سبق ذكره. واختلفوا في دخولهم الحرم المكي إلى قولين: القول الأول: لا يجوز للكافر الذمي أوالمستأمن أو غيرهما دخول الحرم المكي لا مقيماً ولا ماراً به، ولو لمصلحة المسلمين، فإن دخله مشرك عزر إن دخله بغير إذن، وإن دخله بإذن لم يعزر وأنكر عل الآذن له، وإذا أراد الكافر دخول الحرم ليسلم فيه، منع من الدخول حتى يسلم قبل دخوله. حتى لو جاء الكافر لأداء رسالة يحرم عليه الدخول، ويخرج عليه الإمام أو من يقوم مقامه ليتسلم الرسالة خارج حدود الحرم. وإذا دخل الكافر الحرم ومات فيه حرم دفنه فيه، ودفن في الحل، فإن دفن في الحرم نقل إلى الحل إلا أن يكون قد بلى فيترك فيه كما تركت أموات الجاهلية. وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير- رحمهم الله -.1 وهو قول الجمهور من فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.2 القول الثاني: أن الكافر بجوز له دخول المسجد الحرام ولا يمنع من دخوله كسائر المساجد، وللكافر أن يقيم فيه لكن لا يستوطنه وأيضاً يجوز له دخول الكعبة. وهذا هو قول فقهاء الحنفية.3 قال الإمام السرخسي: "لا يمنعون من دخول المسجد الحرام، كما   1 الجامع لأحكام القرآن 8/104، وتفسير القاسمي 8/3101، والبحر المحيط 5/28، وفتح القدير للشوكاني 2/349. 2 مواهب الجليل 3/184، والخرشي على مختصر خليل 3/14، والجامع لأحكام القرآن 8/104، وأحكام القرآن لابن العربي 2/912، ومغني المحتاج 4/247، 248، وأسنى المطالب 4/214، ورحمة الأمة ص 308، وروضة الطالبين 10/309،310، والمهذب 2/331، ونهاية المحتاج 8/90، والأم 4/177، وإعلام الساجد ص 173، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167، والمغني لابن قدامة 8/531، والمبدع 3/422، 423، وكشاف القناع 3/134، 135، والإنصاف 4/240، وأحكام أهل الذمة 1/185، والمحلى 4/243. 3 انظر: شرح السير الكبير 1/135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88- 89، وعمدة القاري 4/199- 200، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 لا يمنعون من دخول سائر المساجد، ويستوي في ذلك الحربي والذمي".1 سبب الخلاف بين الفقهاء: هو اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .2 فمن فهم من القرب المنع قال يمنعون من دخول المسجد الحرام وهم الجمهور، ومن قال: المراد بالقرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام قال: يجوز لهم دخول المسجد وهم فقهاء الحنفية. الأدلة: أولاً: أدلة الجمهور القائلين بمنع الكافر من دخول المسجد الحرام: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول. أ - دليلهم من الكتاب: 1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا   1 انظر: شرح السير الكبير 1/135. 2 التوبة: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .1 فالآية نص صريح في منع الكفار من دخول المسجد الحرام، لأن لا ناهية، والنهي يفيد التحريم. وقد ذكر أكثر المفسرين أن الآية نص في تحريم الدخول. ففي هذا يقول ابن كثير: "أمر الله تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتاً، ينفي المشركين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية وكان نزولها في سنة سبع".2 وقال أبو السعود: "نهى الله المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام، وعلل هذا بأنهم نجس إما لخبث باطنهم أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملامسة لهم".3 وقال الشوكاني: "الفاء للتفريع فعدم قربانهم المسجد الحرام متفرع   1 التوبة: 28. 2 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/346. 3 انظر: تفسير أبي السعود 2/539. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 على نجاستهم والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم".1 وقد ذكرت كتب الفقهاء الذين قالوا بالمنع الاستدلال بهذه الآية ويرجع إليها في الصفحات السابقة. والمراد بالمسجد الحرام في الآية هو الحرام كله، لأن المسجد الحرام يذكر ويراد به عموم الحرم، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} 2، ومن المعلوم أنه أسرى بالرسول صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ وهو خارج عن المسجد. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن خفتم فقراً بمنعهم من الحرم وانقطاع التجارة عنكم فاعتصموا بفضل الله، وسوف يغنيكم من فضله، ومعلوم أن ما يخاف من هو في البلد لا في المسجد نفسه، وأن الجلب إنما يجلب إلى البلد لا إلى المسجد نفسه. وذلك لأن موضع التجارات والمكاسب ليس هو عين المسجد، فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة.3   1 انظر: فتح القدير 2/349. 2 الإسراء: 1. 3 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 26/206، والمبدع 3/493، والمغني 8/531، وأسنى المطالب 4/214، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 2- وبقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} إلى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} 1 أي بمكة وهو ما قبل الفتح فدل على تحريمها على الكافر بعد الفتح.2 ب - دليلهم من السنة: 1- بما روى الإمام الشافعي أنه سمع عدداً من أهل العلم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم".3 2- وبما روى عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل مشرك المسجد الحرام".4 3- وقال الإمام الشافعي بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج ولا لمشرك أن يدخل الحرم".5 فهذه النصوص صريحة في منع المشركين من دخول المسجد الحرام.   1 البقرة: 126. 2 انظر: إعلام الساجد في أحكام المساجد ص 175. 3 الأم 4/177. 4 ذكره الشيرازي في المهذب 2/331، ولم أجده في كتب السنن المعروفة. 5 الأم 4/177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ج - دليلهم من المأثور: 1- بقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يدخل أحد مكة إلا محرماً) والكافر لا بمكن إحرامه فامتنع دخوله".1 2- وبما قاله جابر رضي الله عنه وقتاده رحمه الله: "لا يقرب المسجد الحرام مشرك".2 د- دليلهم من المعقول: 1- أن المسجد الحرام أفضل أماكن العبادات للمسلمين وأعظمها ولأنه محل النسك فوجب أن يمتع من دخوله غير المسلمين.3 2- ولأن المشركين هم الذي أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام ومن مكة بغير وجه حق منزل القرآن يعاقبهم بالمنع من دخوله بكل حال من الأحوال.4 ثانياً: أدلة الحنفية القائلين بجواز دخول الكافر المسجد الحرام: استدلوا بقياسه على سائر المساجد.   1 انظر: إعلام الساجد ص 175. 2 البحر المحيط 5/28. 3 انظر: المبدع لابن مفلح 3/423، وكشاف القناع 3/136. 4 انظر: أسنى المطالب 4/214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 قالوا: فكما أنه يجوز للكافر دخول سائر المساجد يجوز له دخول المسجد الحرام والدليل على ذلك أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد فقيل هم أنجاس فقال: "ليس على الأرض من نجاستهم شيء، وإنما أنجاس الناس أنفسهم".1 فقاسوا جواز دخولهم مكة على جواز دخولهم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. المناقشة: أولاً: مناقشة أدلة الجمهور من قبل الحنفية: أ- قال فقهاء الحنفية الآية لا تدل على منعهم من الدخول على أية هيئة، وإنما تدل على منعهم من الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا عليه في الجاهلية على ما روى أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، والمراد بالقرب ليس المنع من الدخول وإنما من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام وبه نقول أن ذلك ليس إليهم ولا يمكنون منه بحال.2 قالوا: والمراد من النهي النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة بدليل ما يلي:   1 انظر: شرح السير الكبير 1/134 - 135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88. 2 شرح السير الكبير 1/134- 135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أولاً: قوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد هذا العام. ثانياً: وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي بسورة براءة "وألا يحج بعد هذا العام مشرك"1. ثالثاً: وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فإن خشية الفقر إنما تكون بسبب انقطاع تلك المواسم ومنع المشركين من الحج والعمرة حيث كانوا يتاجرون في مواسم الحج، فإن ذلك يضر بمصالحهم المالية فأخبرهم تعالى بأنه الله يغنيهم من فضله. رابعاً: إجماع المسلمين على وجوب منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة ومزدلفة وسائر أعمال الحج وإن لم تكن هذه الأفعال في المسجد الحرام2 وقال الجصاص: إنما معنى الآية على أحد وجهين: 1- إما أن يكون النهي خاصاً في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد، لأنهم لم تكن لهم ذمة، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركوا العرب.   1 أخرجه البخاري 1/77 كتاب الصلاة باب ما يستر من العورة. 2 انظر: شرح السير الكبير 1/135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88، وتفسير أبي السعود 2/539، 540، وتفسير آيات الأحكام للسايس 3/23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 2- أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أن لا يحج بعد هذا العام مشرك.1 وقال صاحب الكشاف: "إن معنى قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أي لا يحجوا ولا يعتمروا ويدل عليه قول علي رضي الله عنه لا يحج بعد عامنا هذا مشرك.2 وبهذا يتبين أن المراد بالنهي في الآية وغيرها من النصوص هو منعهم عن قربان الحج والعمرة بعد عامهم هذا.3 أقول وبالله التوفيق: يمكن الإجابة عن هذه المناقشة بما يلي: قولهم بأن المراد بالنهي هو النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة هذا غير صحيح، لأن الآية نصت بل صرحت بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام، والمسجد الحرام يطلق على الحرم كله، فيشمل أماكن الحج والعمرة التي يقولون بمنعهم منها، فإذا منعناهم من الحج والعمرة فمنعهم من دخول الحرم من باب أولى، لأن أماكن العمرة داخل المسجد الحرام وأماكن الحج داخلة في حدود الحرم.   1 أحكام القرآن للجصاص 3/88،89. 2 انظر: الكشاف للزمخشري 2/183، 184. 3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/88 - 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ب- أما بالنسبة للأحاديث التي وردت في منعهم من دخول المسجد الحرام فهي إن صحت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ المراد منها منعهم من الدخول للحج. وقد روي في أخبار عن علي رضي الله عنه أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك فثبت أن المراد دخول الحرم للحج.1 أما أثر ابن عباس رضي الله عنهما فهو وارد في شأن المسلم فلا يدخل مكة بدون إحرام أما الكافر فلا إحرام عليه لأنه ممنوع من الحج والعمرة. الرد على هذه المناقشة: قياس الحنفية بمكن مناقشته من وجهين: الوجه الأول: أنه قياس مع الفارق لأن المسجد الحرام ورد النص في تحريم دخوله للمشركين بخلاف غيره من المساجد وأيضاً للمسجد الحرام خصائص وأحكام تخالف غيره من المساجد، وفي هذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ولا يصح هذا القياس فإن لحرم مكة أحكاماً يخالف بها المدينة على أنها ليست عنده حرماً".2   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/88 - 89. 2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الوجه الثاني: أنه قياس فاسد وباطل لأنه في مقابلة النص الصريح الوارد في تحريم دخول المشركين المسجد الحرام، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 1. وكل قياس في مقابلة النص الصحيح فهو باطل كهذا القياس. الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء وذكر أدلتهم ومناقشتها يتضح لنا أن رأي الجمهور القائل بتحريم دخول المشركين الذميين أو المستأمنين المسجد الحرام - هو الرأي المختار وذلك للأسباب الآتية: 1- اتباعاً للنص الصريح الذي لا يحتمل التأويل وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} . 2- ولأن تأويل الحنفية الآية عن مدلولها الصحيح تأويل باطل وغير صحيح. 3- ولأن المسجد الحرام أفضل الأماكن المقدسة على الإطلاق وحرمته أعظم فيجب تطهيره من المشركين بمنعهم من دخوله.   1 التوبة: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 4- ولأن الحرم موضع تشريف وإكرام من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين وهو عاصمة المسلمين المقدسة فلا ينبغي أن يشغلهم شاغل في أقدس مكان لعبادتهم، بوجود مظنة المفسدة من غيرهم فيه. وقد انتقم الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين الذي أخرجوهم من هذه البقعة الطاهرة بغير وجه الحق، بأن منعهم من دخولها على وجه التأبيد. 5- ولأن تطهير المسجد الحرام منهم ومن أقذارهم واجب وهذا لا يكون إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه أو دخوله. 6- ولأن الواقع التاريخي يشهد لقولهم، حيث إن المسلمين من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لم يسمحوا لهم بدخوله، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخلهم المسجد الحرام. 7- لو فرضنا أن المراد بالآية هو منعهم من الحج والعمرة كما قال الحنفية فمنعهم من دخول الحرم من باب أولى لأن الحرم هو مكان أعمال الحج والعمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 المبحث الرابع: في حكم دخول الكفار الحرم المدني وسائر المساجد تمهيد قبل أن نبين اختلاف الفقهاء في حكم دخول الكافر الحرم المدني وغيره من المساجد ينبغي أن نذكر بعض النصوص التي وردت في تحريم المدينة وبينت حدودها، وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم المدينة وبيان حدودها: منها: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرم ما بين لابتي1 المدينة على لساني".2 وفي رواية أخرى: "ما بين لابتيها حرام".3 2- وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاضها 4، ولا يصاد صيدها".5   1 اللابة الحرة والحرة هي الأرض ذات الحجارة السوداء ولابتي المدينة حرتيها الشرقية والغربية. انظر: المصباح المنير 2/561. 2 أخرجه البخاري 1/321 كتاب الحج باب حرم المدينة واللفظ له ومسلم 2/991 كتاب الحج باب فضل المدينة. 3 أخرجه البخاري 1/321 كتاب الحج باب لابتي المدينة، ومسلم 2/1000 كتاب الحج باب فضل المدينة. 4 عضاضها: العضاة كل شجر له شوك. المصباح المنير 1/215. 5 أخرجه مسلم 2/991 كتاب الحج باب فضل المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 3- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير وثور فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".1 فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على تحريم المدينة وبيان حدودها من الجهات الأربع. فقد بينت أن حدها من الشرق والغرب ما بين لابتيها أي حرتيها الشرقية حرة واقم، والغربية حرة الوبرة، وتحديها من جهة الشرق والغرب باللابتين أي الحرة الشرقية والحرة الغربية هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.2 كما بين صلى الله عليه وسلم حدها من الجنوب والشمال، فقال: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور". أما عير يقال عاير، وعائر، فهو جبل كبير مشهور في قبلة المدينة يقرب من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، يشبه العير وهو الحمار، يعرفه أهل المدينة خلفاً عن سلف حتى قال بعض العلماء: "شهرة عير غير خافية   1 أخرجه البخاري 1/321 كتاب الحج باب حرم المدينة بلفظ: المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا. ومسلم 2/995- 995 كتاب الحج باب فضل المدينة واللفظ له. 2 إعلام الساجد ص 226، ووفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 1/91، وفتح الباري 4/83، وشرح النووي على مسلم 9/135،136، والقرى لقاصد أم القرى ص672. وتحفة الراكع والساجد ص150، والدرة الثمينة في تاريخ المدينة ص338، ونيل الأوطار 5/32، وسبل السلام 2/726. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وإنما الغرابة في ثور". 1 قلت: ويبعد عن الحرم بنحو ثماني كيلو مترات. أما ثور فجبل صغير خلف أحد. وقد أنكره جماعة من العلماء فاستشكلوا الحديث وقالوا ليس بالمدينة ثور وإنما هو بمكة، لهذا في أكثر روايات البخاري من عاير إلى كذا ولم يبين النهاية، فكأنه يرى أن ثوراً بمكة وليس بالمدينة.2 وقال أبو عبيد: "أهل المدينة لا يعرفون جبلاً يقال له ثور وإنما ثور بمكة".3 وقال ابن الأثير: ثور المعروف أنه بمكة. 4 وبعد أن أنكر الكثير من فحول العلماء وجود جبل ثور بالمدينة وتأولوا الحديث أنه ما بين عير إلى أحد، أو أن المراد تحريم المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة.   1 وفاء بأخبار دار المصطفى 1/92، 94، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 26/117 مع المراجع السابقة. 2 وفاء الوفاء 1/92،93، وفتح الباري 4/83، وشرح النووي على مسلم 9/135،136، والمغني لابن قدامة 3/354. 3 نقلاً عن فتح الباري 4/82، ووفاء الوفاء 1/93، ومعجم البلدان 2/87، وإعلام الساجد ص 227. 4 انظر: النهاية لابن الأثير 1/230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أثبت علماء آخرون أن ثوراً بالمدينة كما هو بمكة، وأن وجوده في مكة لا ينافي وجوده في المدينة. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "وثور جبل في ناحية أحد وهو غير جبل ثور الذي بمكة".1 وقال الفيروزبادي: "ثور جبل بالمدينة منه الحديث الصحيح المدينة حرم ما بين عير إلى ثور". وأما قول أبي عبيد بن سلام وغيره من أكابر العلماء أن هذا تصحيف، والصواب إلى أحد لأن ثوراً إنما هو بمكة فغير جيد، ولا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في الحديث المتفق على صحته بمجرد ادعاء أن أهل المدينة لا يعرفون جبلاً يسمى ثوراً".2 وقال جمال الدين المطري3: "إن خلف جبل أحد جبل صغير مدور يسمى ثوراً يعرفه أهل المدينة خلفاً عن سلف".4   1 انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 26/117. 2 انظر: القاموس المحيط 1/398. 3 هو أبو عبد الله جمال الدين محمد بن أحمد بن خلف الخزرجي الأنصاري المطري، ولد سنة 671 عالم فاضل عارف بالحديث والفقه والتاريخ وهو من أهل المدينة وتوفي بها سنة 741هـ. انظر: ترجمته في: الدرر الكامنة 3/315، والأعلام 5/325. 4 انظر: التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وقال أبو بكر المراغي1:"اعلم أن خلف أهل المدينة ينقل عن سلفهم أن خلف جبل أحد من جهة الشمال، جبل صغير مدور يميل إلى الحمرة يسمى ثوراً وقد تحققته بالمشاهدة ولله الحمد".2 وإلى غير ذلك من أقوال العلماء المتقدمين التي أثبتت أن ثوراً بالمدينة وأنه خلف أحد وحد للحرم من جهة الشمال. وأيضاً العلماء المعاصرون الذي اهتموا بالمدينة وبأخبارها وآثارها أثبتوا أن ثوراً بالمدينة وأنه خلف جبل أحد وهو حد الحرم من جهة الشمال.3 وبهذا يتضح لنا قديما وحديثاً خلفاً عن سلف أن جبل ثور هو حد المدينة من جهة الشمال، وأنه خلف أحد من ناحية الشمال، صغير مدور، يشبه الثور، لونه يميل إلى الحمرة. أما حكم دخول الكافر المسجد النبوي وغيره من المساجد فقد اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين:   1 هو أبو بكر بن الحسين بن عمر القرشي المراغي ولد سنة 727 هـ بالقاهرة تاريخي استوطن المدينة خمسين عاماً وتوفي بها سنة 816هـ. انظر ترجمته: في شذرات الذهب 7/120، والأعلام 2/62. 2 انظر: تحقيق النصرة بتخليص معالم دار الهجرة ص197،198. 3 في منزل الوحي لمحمد حسين هيكل ص 139، وعمدة الأخبار في مدينة المختار للعياشي ص 249، وفصول في تاريخ المدينة ص 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 القول الأول: يجوز للكافر الذمي أو المستأمن أو غيرهما دخول المسجد النبوي وغيره من المساجد. وهو قول فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية.1 إلا أن الشافعية والحنابلة قيدوا الدخول بالإذن من الإمام أو من يقوم مقامه.2 القول الثاني: لا يجوز للكافر دخول المسجد النبوي ولا غيره من المساجد، وهو قول الفقهاء المالكية3واستحسنه الروياني من الشافعية.4   1 شرح السيرة الكبير 1/135، وأحكام القرآن للجصاص 3/88، ومغني المحتاج 4/247، والمهذب 2/331، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167، وروضة الطالبين 10/310، والمغني لابن قدامة 8/532، والمبدع 3/425، وكشاف القناع 3/137، وأحكام أهل الذمة 1/190، والمحلى 4/243. 2 مغني المحتاج 4/247، وروضة الطالبين 10/310، والمغني 8/532، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/386، والمبدع 3/425. 3 المنتقى شرح الموطأ 7/192، وقوانين الأحكام الشرعية ص 64، والجامع لأحكام القرآن 8/104،105، وأحكام القرآن لابن العربي 2/913. 4 إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 271، وروضة الطالبين 10/310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ورواية أخرى للحنابلة قال في المبدع هي المذهب.1 سبب الخلاف: هو اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} .2 فمن فهم من الآية أنها خاصة بالمسجد الحرام دون غيره من المساجد، أباح دخول الكافر المسجد النبوي وغيره من المساجد وهم الجمهور. ومن قال: إن الآية عامة تشمل المسجد الحرام وغيره من المساجد حرم دخول المشركين المسجد النبوي وسائر المساجد وهم فقهاء المالكية ومن وافقهم.3 الأدلة: أولاً: أدلة الجمهور القائلين بجواز دخول الكفار المسجد النبوي الشريف وغيره من المساجد:   1 المبدع 3/425، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/386، وكشاف القناع 3/137، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 195. 2 التوبة: 28. 3 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول: أ- دليلهم من الكتاب: 1- قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1. 2- قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 2 الآية خاصة بالمسجد الحرام، فدلت على أنهم لا يمنعون من دخول غيره. قال القاسمي: تدل هذه الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله.3 ب- أما دليلهم من السنة: 1- فبما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة ابن أثال4 سيد أهل   1 التوبة: 6. 2 التوبة: 28. 3 انظر: تفسير القاسمي 8/3078. 4 هو ثمامة بن أثل بن النعمان بن سلمة بن عتيبة بن ثعلبة الحنفي اليمامي أبو أمامة، صحابي كان سيد أهل اليمامة، ولما ارتد أهل اليمامة لحقب العلاء الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين ثم قتل يعد ذلك. انظر: ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة 1/211، والاستيعاب 1/203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ماذا عندك يا ثمامة، فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ فأعاد مثل هذا الكلام فتركه حتى بعد الغد فذكر مثل هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"1. الحديث. وجه الدلالة من هذا الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في جواز دخول الكفار المسجد النبوي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة في مسجده وهو كافر ثم أكرمه الله بالإسلام بعد ذلك. 2- وبما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يقول: "بينما نحن جالسون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم أيكم محمد والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل يا ابن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم   1 أخرجه البخاري 1/93 كتاب الصلاة باب دخول المشرك المسجد، ومسلم 3/1386 كتاب الجهاد باب ربط الأسر وحبسه، وأبو داود 3/29 كتاب الجهاد باب في الأسير يوثق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 قد أجبتك فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك"1. الحديث. فالحديث ظاهر الدلالة في جواز دخول الكافر المسجد لأن ضماماً كان كافراً وكان رسولاً من جهة قومه ثم أسلم بعد هذه القصة. قال الخطابي: "وفي الحديث من الفقه جواز دخول المشرك المسجد إذا كانت له في حاجة".2 وقال السبكي: "الحديث يدل على جواز دخول الكافر المسجد إذا كانت له فيه حاجة".3 3- وبما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى اليهود النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم في رجل وامرأة زنيا منهم".4 فالحديث دل على جواز دخول الكافر المسجد لأن اليهود دخلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فلم يمنعهم من الدخول ولم ينكر عليهم ذلك ولو كان غير جائز لمنعهم.   1 أخرجه البخاري 1/22 كتاب العلم باب ما جاء في اعلم. 2 انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 1/327. 3 انظر: المنهل العذب المورود 4/109. 4 أخرجه البخاري مطولاً 4/128 كتاب الحدود باب أحكام أهل الذمة. ومسلم 3/1326 كتاب الحدود باب رجم اليهود في الزنى حديث رقم 1699. وأبو داود 1/328 كتاب الصلاة باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد وهذا اللفظ المختصر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 4- عن عثمان بن أبي العاص 1 أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا عليه أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا2 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع".3 فالحديث يدل دلالة واضحة على جواز دخول الكافر المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في مسجده. وفي هذا يقول الخطابي: "وفي هذا الحديث من العلم أن الكافر يجوز له دخول المسجد لحاجة له فيه أو للمسلم إليه".4 ج - دليلهم من المأثور:   1 هو: الصحابي الجليل عثمان بين أبي العاص بن بشر بن عبد بن دهما الثقفي الطائفي، أبو عبد الله، من أهل الطائف، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، وتوفي في خلافة معاوية بالبصرة سنة 51هـ. انظر ترجمته في: الإصابة 4/221، وتقريب التهذيب 2/10، وطبقات ابن سعد 5/372. 2 لا تحشروا: الحشر في الجهاد والنفير له، ولا يعشروا معناه الصدقة أي لا يؤخذ عشر أموالهم، ولا يجبوا: معناه لا يصلوا وأصل التجبية أن يكب الإنسان على مقدمه ويرفع مؤخره. انظر: معالم السنن 3/421. 3 أخرجه أبو داود 3/421 كتاب الإمارة والخراج باب ما جاء في خبر الطائف، وعبد الرزاق في مصنفه 1/414 باب المشرك يدخل المسجد. وابن ماجة 1/559 كتاب الصلاة باب فيمن أسلم في شهر رمضان. وابن خزيمة 2/285 أبواب الأفعال المباحة في المسجد والبيهقي 2/444،445 كتاب الصلاة باب المشرك يدخل المسجد. (4) انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 3/421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 1- ما روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: "قد كان أبو سفيان بن حرب يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك".1 2- وقد قدم عمير بن وهب2 فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فيه ليفتك به فرزقه الله الإسلام.3 د - دليلهم من المعقول: أن الأصل في دخول الكافر المسجد هو الجواز ما لم يخش الأذى منه، ولم يرد في الشرع ما يخالف هذا الأصل إلا في المسجد الحرام فيبقى على وفق الأصل. 4 ثانياً: أدلة المالكية ومن وافقهم القائلين بمنع الكافر من دخول المسجد مطلقاً: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول:   1 انظر: المغني 8/532، وبحثت عنه في المصنفات فلم أجده. وأحكام القرآن لابن العربي 2/914. 2 عمر ين وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جحح القرشي الجمحي أو أمية أبطأ في قبول الإسلام وشهد وقعة بدر مع المشركين، ثم من الله عليه بالإسلام في المدينة وشهد مع المسلمين غزوة أحد وما بعدها، توفي بعد السنة الثانية والعشرين من الهجرة. انظر ترجمته في: الإصابة 5/36، وطبقات ابن سعد 4/146. 3 انظر: قصته في المغني 8/532، وفي الإصابة 5/36. 4 انظر: تفسير الفخر الرازي 16/26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أ - دليلهم من الكتاب: 1- بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية. قالوا في وجه الدلالة: الآية عامة في سائر المشركين، وسائر المساجد، ودلت على المنع من دخول المسجد الحرام نصاً، والمنع من دخول سائر المساجد تعليلاً بالنجاسة. وقالوا أيضاً: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فسماه الله تعالى نجساً فلا يخلو أن يكون نجس العين أو نجس الذات، وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيه، والحرمة موجودة في المسجد.1 قال ابن العربي: "الآية دليل على أنهم لا يقربون مسجداً سواه، فإن الله تعالى لم يقل لا يقرب هؤلاء المسجد الحرام فيكون الحكم مقصوراً عليه، ولو قال لا يقرب المشركون والأنجاس المسجد الحرام لكان تنبيهاً على التعليل بالشرك أو النجاسة أو العلتين جميعاً، بل أكد الحال ببيان العلة وكشفها فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} يريد   1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/105، وأحكام القرآن لابن العربي 2/913،914. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ولابد لنجاستهم، فتعدت العلة إلى كل موضع محترم بالمسجدية".1 2- وبقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه} 2 الآية. قالوا في وجه الدلالة: بأن دخول الكفار بيوت الله مناقض لترفيعها.3 3- وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} 4.الآية فالمسلم السكران والجنب يمنع من قربان الصلاة، والنهي عن قربان الصلاة نهى عن قربان موضعها وهو المسجد فمنع الكافر من باب أولى.5 ب - دليلهم من السنة: 1- بحديث الأعرابي الذي بال في المسجد عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا ولا القذر وإنما   1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/913. 2 النور: 36. 3 انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/104. 4 النساء: 43. 5 انظر: تحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد ص 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 هي لذكر الله عزوجل والصلاة وقراءة القرآن".1 قالوا في وجه الدلال من هذا الحديث. إن الكافر نجس ولا يخلو عن هذه القاذورات التي لا تصلح أن تكون في المسجد، وأيضاً المساجد لذكر الله عزوجل، وإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، والكافر لا يفعل شيئاً منها فيمنع من دخول المساجد.2 2- وبحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقرب المسجد مشرك".3 فالحديث واضح الدلالة في النهي عن قربان المشرك لمساجد الله. 3- وبحديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب".4 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أنه لا يجوز للحائض والجنب دخول المساجد مع   1 أخرجه مسلم 1/237 كتاب الطهارة باب وجوب غسل البول من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه. 2 الجامع لأحكام القرآن 8/104. 3 سبق تخريجه ص 375. 4 أخرجه أبو داود 1/159 كتاب الطهارة باب الجنب يدخل المسجد وابن ماجة 1/212 كتاب الطهارة باب ما جاء في اجتناب الحائض المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أنه مسلمون فالكافر من باب أولى، وهو أيضاً لا يخلو من الجنابة.1 ج - دليلهم من المأثور: 1- بما روى أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله فقال له عمر: "ادع الذي كتبه ليقرأه قال: إنه لا يدخل المسجد قال ولِمَ؟ قال إنه نصراني".2 2- وبما روى عن علي رضي الله عنه "أنه بصر بمجوسي، وهو على المنبر وقد دخل المسجد فنزل وضربه وأخرجه من المسجد".3 3- وبما روى عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} .4 د - دليلهم من المعقول: أن حدث الجنابة والحيض والنفاس بمنع المقام في المسجد فحدث الشرك أولى.   1 الجامع لأحكام القرآن 8/105. 2 ذكره ابن قدامة في المغني 8/532 ولم أجده في كتب الآثار. 3 المغني 8/532. 4 جامع البيان 10/105 وتفسير القرآن العظيم 2/346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ولأن الكافر أسوأ حالاً من الحائض والجنب فإنه نجس بنص القرآن، والحائض والجنب ليسوا بنجس بنص السنة "المؤمن لا ينجس"1 ومع هذا لا يجوز لهم دخول المسجد والكافر من باب أولى. ولأنه انضم إلى حدث جنابته حدث شركه فتغلظ المنع.2 هـ - دليلهم من القياس: قاسوا سائر المساجد على المسجد الحرام بجامع أن كلها بيوت لله. قالوا: إن المساجد كلها بيوت الله تعالى كبيت الله الحرام ويمنعون من دخوله فكذلك غيره من المساجد.3 المناقشة: ناقش المالكية أدلة الجمهور بما يلي: قالوا: لا ننكر أن الآية دلت على منعهم من دخول المسجد الحرام نصاً، لكنها أيضاً دلت على منعهم من دخول غيره من المساجد تعليلاً بالنجاسة ولوجوب صيانة المسجد عن كل نجس، فدلت الآية على أنهم لا يقربون مسجداً سواه لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم والحرمة موجودة في المسجد. 4   1 أخرجه البخاري 1/62 كتاب الغسل. ومسلم 1/282 كتاب الحيض. 2 المغني لابن قدامة 8/532، ومطالب أولي النهى 2/617. 3 انظر: المسائل الفقهية من كتاب الراويتين والوجهين 2/ 386. 4 أحكام القرآن لابن العربي 2/913 - 914. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 أما قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} . فغاية ما تدل عليه هو جواز أمان الكفار ودخولهم دار الإسلام لا مساجده.1 أما حديث ثمامة، فلا نشك في صحته لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه وهذا وإن سلمناه فلا يضرنا لأن علم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه في المآل لا يحكم له به في الحال.2 قال القرطبي: "أجاب علماؤنا عن هذا الحديث وإن كان صحيحاً بأجوبة: أحدها: أنه كان متقدماً على نزول الآية: الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه. الثالث: أن ذلك قضية في عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها، لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية. وقد يمكن أن يقال إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد فيستأنس بذلك ويسلم وكذلك كان، ويمكن أن يقال إنهم لم يمكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد والله أعلم".3   1 الجامع لأحكام القرآن 8/76. 2 أحكام القرآن لابن العربي 2/913. 3 انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أما بالنسبة للوفود التي أنزلها النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده كلها كانت قبل نزول الآية. ولأنه كان بالمسلمين حاجة إليهم، وأنهم كانوا يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم ويحملون إليه الرسائل والأجوبة، وقد يسمعون منه الدعوة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج لكل من قصده من الكفار.1 أما قول سعيد بن المسيب أن أبا سفيان كان يدخل المدينة ويدخل مسجدها وهو مشرك فهو ضعيف، ولو صح فإن الجواب عنه ظاهر، وهو أن دخول أبي سفيان كان قبل نزول الآية.2 أقول وبالله التوفيق: إنه يمكن الإجابة عن هذه المناقشة بما يلي: 1- بالنسبة للآية فهي خاصة بالمسجد الحرام، ولا تتعداه إلى غيره وليست عامة كما قال المالكية ومن وافقهم من العلماء بل خاصة بالمسجد الحرام. 2- أما آية {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} فنحن   1 أحكام القرآن لابن العربي 2/914، ومطالب أولي النهى 2/617، وكشاف القناع 3/137. 2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/914. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 لا ننكر أنها تدل على جواز أمان الكافر لدخول دار الإسلام ولا بأس أن يستنبط منها جواز دخولهم مساجد المسلمين لسماع كلام الله لأن ذلك قد يكون سبباً في إسلامهم. وبالنسبة لحديث ثمامة واضح الدلالة في جواز دخول الكافر المسجد النبوي ويقاس عليه غيره من المساجد، وقولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بإسلامه قبل ربطه يحتاج إلى دليل ولا دليل، بل إن الفترة التي ربط فيها بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلماً ولا يحكم بإسلامه إلا بعد إعلان الشهادة. وأيضاً قولهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدخل أبا سفيان مسجده وغيره من الوفود قبل نزول الآية، فهذا خطأ لأن كثيراً من الوفود أدخلها النبي صلى الله عليه وسلم مسجده بعد نزول الآية كوفد نصارى نجران. وأيضاً الوفود سواء دخلت قبل نزول الآية أو بعدها لا فرق لأن الآية خاصة بمنعهم من دخول المسجد الحرام، فلم تتناول حرم المدينة ولا غيره من المساجد. وبهذا تظهر قوة الأدلة القائلة بجواز دخول الكفار المسجد النبوي وغيره من المساجد. مناقشة أدلة المالكية من قبل الجمهور القائلين بجواز دخول الكافر المسجد النبوي وغيره من المساجد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 1- أولاً بالنسبة للآية فهي خاصة بالمسجد الحرام، ولا تتعداه إلى غيره. 2- أما قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فهذه الآية لا تدل على منع الكفار من دخول المسجد النبوي أو غيره، وإنما غاية ما تدل عليه هو: رفع مساجد الله بالبناء والصيانة لها من الأذى والأقذار، وذكر الله فيها بإقامة الصلاة فيها وقراءة القرآن وغيره من أنواع الذكر. 3- أما قوله صلى الله عليه وسلم أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر، فنحن لا ننكر أن المساجد يجب تطهيرها عن ذلك والكافر أيضاً إذا أراد بالدخول توسيخها والعبث بها فلا يمكن من دخولها بالاتفاق، وهذا ما يدل عليه الحديث وهو وجوب تنظيف وتطهير المساجد عن الأوساخ والقاذورات. وقد ذكره الإمام مسلم في باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد. أما قوله صلى الله عليه وسلم لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب فهو لا يخلو من مقال فقال عنه الخطابي "بأن العلماء ضعفوه" 1 وقال عنه ابن رشد "بأنه   1 انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 1/159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 حديث غير ثابت عند أهل الحديث".1 وعلى فرض صحته فهو وارد في منع الحائض والجنب من دخول المسجد وليس فيه ما يدل على منع الكافر من دخوله. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: لا يقرب المسجد مشرك، المراد به قربان المسجد الحرام، لأنه قاله بعد نزول الآية مباشرة. أما الآثار المروية عن بعض الصحابة في عدم الإذن بالدخول، فهي محمولة على أنهم رأوا منهم ما يوجب خروجهم، من ابتذال المساجد والعبث بها وتوسيخها، فمن أجل ذلك أخرجوهم منها. وهي أيضاً لا تقاوم النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إباحة دخول الكفار مسجده وغيره من باب أولى كحديث ثمامة وضمام وغيرها من الأحاديث السابقة. وقد كانوا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخلون المدينة، ويدخلون المسجد النبوي قادمين من الشام والعراق للتجارة ولما فيه مصلحة المسلمين، ولو لم يثبت هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنكر عمر رضي الله عنه عليهم ذلك. وكذلك أدلتهم العقلية لا تقوى على معارضة ومقاومة النصوص الواردة في إباحة الدخول.   1 انظر: بداية المجتهد 1/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 أما قياسهم سائر المسجد على المسجد الحرام بجامع أنها كلها بيوت الله، فمما لا شك فيه أن المساجد كلها بيوت الله، لكن المسجد الحرام ليس كغيره من بيوت الله، فله مميزات وخصائص ينفرد بها عن غيره فمن أجل ذلك منع الكفار من دخوله. الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها يتضح لي أن رأي الجمهور هو الرأي المختار وهو جواز دخول الكفار المسجد النبوي وغيره من المساجد لكنه مقيد بعدم خرابها أو العبث بها أو توسيخها، وذلك للأسباب الآتية: 1- لصراحة وصحة النصوص الواردة في جواز دخول الكفار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث ثمامة وحديث ضمامة وحديث اليهوديين الذين زنيا، وأحاديث الوفود التي كانت تفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده. 2- ولعدم ورود نص صريح في منعهم من دخول المساجد. 3- ولأن دخولهم المساجد لسماع كلام الله، أو مشاهدة أداء فروضه قد يكون هذا سبباً في إسلامهم وهو ما نشاهده الآن في وقتنا الحاضر فإن الكفار يدخلون مساجد المسلمين سواء كانت في دار الإسلام أو في دارهم - ليسألوهم عن الإسلام وما يتعلق به من أحكام، وبيان محاسنه مما أدى إلى إسلام كثير منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 4- ولأن الأدلة التي استدل بها المالكية خاصة بالمسجد الحرام ولا تتعداه إلى غيره كالآية، وحديث جابر رضي الله عنه - وليس فيها علة صالحة لتعديها إلى غيره من المساجد، وما بقي من الأدلة ليس فيها ما يدل على منعهم من الدخول. فلهذه الأسباب وغيرها اخترت رأي الجمهور. أما ما عليه العمل في وقتنا الحاضر بالنسبة للمسجد النبوي فإنه لا يسمح للكافر بدخول مسجد المدينة ولا حرمها لأن الإمام رأى المصلحة في عدم الدخول وليس هناك حاجة تقتضي دخولهم المسجد النبوي. ولأن دخول الكفار المسجد النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك لما كان بالمسلمين حاجة. ولأنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم في عهودهم ويؤدون إليه الرسائل، ويحملون منه الأجوبة، ويسمعون منه الدعوة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج من المسجد لكل من قصده من الكفار فكانت المصلحة في دخلوهم في ذلك أعظم وأمس من دخولهم في هذا الوقت.1 فلا مصلحة للمسلمين في دخولهم المسجد النبوي والجلوس فيه في هذا الوقت، فإن دعت إلى ذلك المصلحة فلا بأس بدخولهم بإذن من الإمام أو من يقوم مقامه. ومع أني اخترت رأي الجمهور لصريح الأدلة في الإذن بالدخول،   1 أحكام أهل الذمة 1/191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 لكني أفضل عدم دخول الكفار المسجد النبوي في هذا الوقت، لأنه لا حاجة ولا مصلحة للمسلمين بهذا الدخول، ولأن المسجد النبوي له خصائص يمتاز بها عن غيره من المساجد، فلا يساوي بها، وإنما ينبغي أن يساوي بالمسجد الحرام في منعهم من الدخول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الباب الثاني: أثر اختلاف الدارين في الأحكام الشرعية الفصل الأول: أثر اختلاف الدار في وجوب القصاص والدية والكفارة على المستأمن في دار الإسلام المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في وجوب القصاص 1 تمهيد: إن إزهاق النفس البشرية المسلمة من أبشع الجرائم في نظر الإسلام، ومن السبع الموبقات التي يترتب عليها استحقاق العقاب في الدنيا والآخرة، لذلك شرع الله القصاص ممن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجريمة البشعة انتقاماً منه وزجراً لغيره، وتطهيراً للمجتمع من الجرائم التي تزلزل أمنه واطمئنانه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2   1 القصاص في اللغة: تتبع الأثر لأن المقتص يتتبع أثر جناية الجاني فيجرحه مثلها ويطلق على القود والمماثلة. انظر: لسان العرب 7/57 - 76، والقاموس المحيط 2/324، والصحاح 3/1052، والمصباح المنير 2/505. وفي الشرع: مجازاة الجاني بمثل فعله وهو القتل في النفس. والقطع والجرح فيما دون النفس مما يمكن فيه المماثلة. انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/133، وأنيس الفقهاء ص 292، والتعريفات ص176. 2 البقرة: 178. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على فرضية ومشروعية القصاص في النفس على جميع المؤمنين، لأن كتب بمعنى فرض وشرع كما قال العلماء.1 وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاص} 2 وهذه الآية أيضاً تدل على وجوب القصاص على جميع المسلمين ومن يسكن ويقيم في دارهم من الذميين والمستأمنين، في النفس وما دونها، لأن كتبنا بمعنى أوجبنا. ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس، والثيب الزاني والمارق 3 من الدين التارك الجماعة".4 وقد أجمعت الأمة الإسلامية على وجوب القصاص على الجاني عمداً في النفس وما دونها.5   1 أحكام القرآن للجصاص 1/133. 2 المائدة: 45. 3 المارق من الدين: الخارج منها. 4 أخرجه البخاري 4/188 كتاب الديات باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} واللفظ به. ومسلم 3/302 كتاب القسامة باب ما يباح به دم المسلم حديث رقم 1676. 5 مراتب الإجماع لابن حزم ص 138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وكما دلت النصوص على مشروعية القصاص فقد دلت على تحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .1 وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .2 وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: "الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس".3 ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق".4 الحديث. وقد وقع إجماع الأمة الإسلامية على تحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق ومن فعل ذلك متعمداً فقد فسق وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.5   1 الأنعام: 151. 2 النساء: 93. 3 أخرجه البخاري 4/48 كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر. ومسلم 1/91 كتاب الإيمان باب الكبائر حديث رقم 88، 89 واللفظ له. 4 أخرجه البخاري 2/131 كتاب الوصايا. ومسلم 1/92 كتاب الإيمان باب بيان الكبائر وأثرها حديث رقم 145. 5 المغني لابن قدامة 7/635، 635. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وأيضاً جاء الوعيد الشديد في حق من اعتدى على المقيمين بدار الإسلام من غير المسلمين من الذميين والمستأمنين بغير وجه الحق فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد مكن مسيرة أربعين عاماً".1 وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة".2 فهذه الأحاديث وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على تحريم قتل المعاهد الذمي أو المستأمن يغير حق، لأن من قتله حرمت عليه الجنة والفعل الذي يحرم دخول الجنة لا شك أنه حرام. وبعد هذا التمهيد المختصر عن مشروعية القصاص نبين هل لاختلاف الدار أثر في وجوب القصاص أم لا؟ وذلك لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: هل لاختلاف الدار أثر في وجوب القصاص على المستأمن في دار الإسلام. الحالة الثانية: هل لاختلاف الدار أثر في وجوب القصاص للمستأمن في دار الإسلام.   1 أخرجه البخاري 2/202 كتاب الجهاد باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم. 2 أخرجه أبو داود 3/191 كتاب الجهاد باب في الوفاء للمعاهد. والنسائي 8/24 كتاب القسامة باب تعظيم قتل المعاهد. قال الخطابي: سنده حسن، وفي غير كنهه: في غير وقته الذي يجوز فيه قتله. انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 3/191. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 فنبدأ أولاً بالحالة الأولى: اتفق الفقهاء على أن المستأمن في دار الإسلام إذا قتل مسلماً عمداً أنه يجب عليه القصاص. لما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي قتل الجارية من الأنصار.1 ولأن المسلم معصوم الدم على التأبيد بإسلامه. ولأن المستأمن إذا قتل بمن هو مثله فبمن يفضله بالإسلام أولى. ولأن المستأمن التزم أحكام الإسلام بمجرد عقد الأمان وخاصة فيما يرجع إلى حقوق العباد والقصاص من هذه الحقوق فيجب عليه.2   1 أخرجه البخاري 4/187 كتاب الديات باب سؤال القاتل حتى يقر ولفظ الحديث: عن أنس رضي الله عنه قال: "خرجن جارية عليها أوضاح بالمدينة قال: فرماها يهودي بحجر قال فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان قتلك؟ فرفعت رأسها فأعاد عليها قال: فلان قتلك؟ فرعت رأسها فقال لها في الثالثة فلان قتلك فخفضت رأسها فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله بين الحجرين". وأخرجه مسلم 3/1299 كتاب القسامة باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر. حديث 1672 بلفظ آخر. 2 شرح السير الكبير 1/306، وبدائع الصنائع 7/237، والمبسوط 26/123، ومنح الجليل 4/350، وحاشية الدسوقي 4/238، وقوانين الأحكام الشرعية ص 362، ومغني المحتاج 4/16، وأسنى المطالب 4/165، والمهذب 2/185، والمغني 7/657، وكشاف القناع 5/524، والهداية للكلوذاني 2/75، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 138. وأسنى المطالب 4/12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وكذلك اتفق الفقهاء على أن المستأمن إذا قتل مستأمنا آخر في دار الإسلام عمداً وجب عليه القصاص. لأنه مساوٍ له في العصمة المؤقتة والملة.1 واتفقوا أيضاً على أن المستأمن في دار الإسلام إذا قتل ذمياً عمداً وجب عليه القصاص. لأنه مساوٍ له في العصمة وزيادة لأن الذمي عصمته مؤبدة بخلاف المستأمن وأيضاً مساوً له في الدين فكل منهما كافر.2 وبهذا يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في وجوب القصاص على المستأمن في دار الإسلام، لأنه عندما كان في داره - دار الكفر لا يقتص منه لأنه غير ملتزم بالأحكام الإسلام لكنه عندما دخل دار الإسلام بأمان اختلف الحكم بالنسبة له فيجب عليه القصاص سواء قتل مسلماً أو كافراً آخر ذمياً كان أو مستأمناً لأنه ملتزم بالأحكام الإسلام العامة والتي منها وجوب القصاص عليه إذا ارتكب ما يوجبه في النفس أو فيما دونها.   1 البحر الرائق 8/337، وحاشية ابن عابدين 5/472، والشرح الصغير 2/353، والخرشي على مختصر خليل 8/3، والأم 6/46، ومغني المحتاج 4/16، والمغني 7/657، وشرح منتهى الإرادات 3/278. 2 شرح السير الكبير 5/1853، وقوانين الأحكام الشرعية 374، والأم 6/40، ومغني المحتاج 4/16، وشرح منتهى الإرادات 3/278. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الحالة الثانية: هل اختلاف الدار أثر في وجوب القصاص للمستأمن في دار الإسلام؟: إذا قتل المستأمن في دار الإسلام فلا يخلو قاتله إما أن يكون مستأمناً مثله، أو ذمياً، أو مسلماً. فإن كان الجاني على المستأمن في دار الإسلام مستأمناً مثله فلا خلاف بين الفقهاء في وجوب القصاص على قاتله إذا كان القتل عمداً لأنه مساو له في العصمة وفي الملة كما سبق في الحالة الأولى.1 أما إذا كان الجاني على المستأمن ذمياً وكان القتل عمداً فقد اختلف الفقهاء في وجوب القصاص للمستأمن من الذمي إلى قولين: القول الأول: إذا جنى الذمي على المستأمن عمداً لا يقتص منه في النفس ولا فيما دونها. وهو قول أكثر فقهاء الحنفية.2 القول الثاني: إذا جنى الذمي على المستأمن في دار الإسلام عمداً وجب عليه القصاص في النفس وفيما دونها.   1 البحر الرائق 8/337، ومجمع الأنهر 2/619، وحاشية ابن عابدين 5/472، والشرح الصغير2/353، والخرشي على مختصر خليل 8/3، ومغني المحتاج 4/16، والمغني لابن قدامة 7/657. 2 المبسوط 26/134، وبدائع الصنائع 7/236، والاختيار 5/27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وهو قول جمهور الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة، وأبي يوسف من الحنفية.1 الأدلة: أ - استدل الحنفية بما يلي: قالوا لا يقتل الذمي بالمستأمن لأن الذمي معصوم الدم على التأبيد ومن أهل دار الإسلام، فلا تتحقق المساواة بينه وبين المستأمن، لأن المستأمن من أهل دار الكفر، وعصمته مؤقتة بخلاف الذمي.2 وفي هذا يقول الكاساني: "إن عصمة المستأمن ما ثبتت مطلقاً بل مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام، لأن المستأمن من أهل دار الحرب وإنما دخل دار الإسلام لا لقصد الإقامة بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فكانت في عصمته شبهة العدم.3 ب - واستدل الجمهور بما يلي: الذمي يقتل بالمستأمن لأنه مساو له في العصمة والدين. فالمستأمن له عهد وأمان، ومعصوم الدم ما دام في دار الإسلام، ولا يحق لأحد الاعتداء عليه بغير حق ذمياً كان أو مسلماً.   1 منح الجلي 4/350، وحاشية الدسوقي 4/241، ومغني المحتاج 4/16، والأم 6/40،41، وكشاف القناع 5/523 والمبدع 8/267، والمبسوط 26/1347،وبدائع الصنائع 7/236. 2 المبسوط 26/134، والاختيار 5/27. 3 انظر: بدائع الصنائع 7/236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 ولأن المستأمن مساوٍ للذمي في الدين فكل منهما كافر ولأن العبرة بوجود العصمة أثناء الجناية وهي موجودة بالنسبة للمستأمن.1 الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم يتضح لي أن رأي الجمهور هو الأولى بالاختيار وذلك للأسباب الآتية: 1- أن المستأمن مساو للذمي في الدين فكل منهما كافر. 2- أن المستأمن معصوم الدم وقت الجناية، وهذا هو المعتبر أما كون عصمته مؤقتة فهذا لا يؤثر في وجوب القصاص، فقد تصير عصمته دائمة إذا صار ذمياً. 3- أن في عدم وجوب القصاص على الذمي قد يكون حافزاً له على ارتكاب هذه الجريمة وغيرها، وهذا يخالف مقتضى العقد مع المستأمنين، لأن الإمام عندما أعطاهم الأمان، أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده، كما أمن من في قبضته منهم، ولا شك أن من تمام حفظ المستأمن والوفاء له بالعهد. هو وجوب القصاص على قاتله المساوي له في العصمة والدين كالذمي والمستأمن الآخر. والعجيب في الأمر أن الحنفية يقولون بقتل المسلم بالذمي2 ولا   1 مغني المحتاج 4/16، والمبدع 8/267، وكشاف القناع 5/523، وبدائع الصنائع 7/236. 2 تبيين الحقائق 6/104، واختيار 5/27، وبدائع الصنائع 7/237، والبحر الرائق 8/337، وكشف الحقائق 2/267، والمبسوط 26/133. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 يقولون بقتل الذمي بالمستأمن، معه أنه لا مساواة بين المسلم والذمي، لا في الدين ولا في العصمة وعلى العكس فالمستأمن مساو للذمي في الدين فكل منهما كافر، وفي العصمة فكل منهما معصوم الدم بالأمان. وهم أيضاً يقولون المستأمن كالذمي ما دام في دار الإسلام. أما إذا كان الجاني على المستأمن مسلماً فقد اختلف الفقهاء في وجوب القصاص على المسلم إلى قولين: القول الأول: المسلم إذا جنى على المستأمن عمداً لا يجب عليه القصاص في النفس ولا في ما دونها. وهو قول جمهور الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وأكثر الحنفية.1 القول الثاني: المسلم إذا جنى على المستأمن في دار الإسلام فإنه يقتص منه في النفس وما دونها. وهو قول بعض فقهاء الحنفية كأبي يوسف.2   1 مواهب الجليل 6/236، وبداية المجتهد 2/299، والمنتقى شرح الموطأ 7/97، والكافي لابن عبد البر 2/1095، ومغني المحتاج 4/16، والمهذب 2/222، وحاشية الشرقاوي 2/355، ونهاية المحتاج 7/268، والمغني 7/652، والمبدع 5/523، 8/268، 269، والمحلى 10/347، والمبسوط 26/133، والبحر الرائق 8/377، والاختيار 5/27. والمبدع 8/268، 269. 2 الاختيار 5/27، وتبيين الحقائق 6/103 وحاشية الدر المختار 6/534، وأحكام القرآن للجصاص1/144. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 سبب الخلاف: هو اختلافهم في الأحاديث الواردة في ذلك كحديث على رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل مسلم بكافر".1 وكذلك استدلالهم بالقياس على حرمة ماله. فمن أخذ بحديث علي رضي الله عنه وغيره من الأحاديث الأخرى التي تمنع القصاص من المسلم للكافر المستأمن وغيره قال لا يقتل المسلم بالمستأمن وهم الجمهور. ومن أخذ بالقياس على حرمة المال قال يقتل المسلم بالمستأمن كابي يوسف وغيره من الحنفية. الأدلة: أولاً: أدلة الجمهور القائلين بأن المسلم لا يقتص منه للمستأمن ولا لغيره من الكفار: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول: أ - دليلهم من الكتاب: الآيات الواردة في نفي المساواة بين المسلم والكافر والتي منها: 1- قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} .2   1 أخرجه البخاري 2/178 كتاب الجهاد باب فكاك الأسير. 2 السجدة: 18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 2- وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة} .1 فالآية الأولى نفت المساواة بين المؤمن والكافر، وإذا انتفت المساواة انتفى القصاص. وكذلك الآية الثانية دلت على التفرقة وعدم المساواة بين المؤمنين أصحاب الجنة والكفار أصحاب النار، ونفى التساوي بينهما يمنع من تساوى نفوسهما وتكافؤ دمائهما، لأن القصاص ينبني على المساواة والمماثلة بين الطرفين وهذا كله منتف بين المسلم والكافر. 2 3- وكذلك قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} .3 وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 4 وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .5   1 الحشر: 40. 2 الحاوي للماوردي ص 93. 3 القلم: 35. 4 ص: 28. 5 الجاثية: 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تفت المساواة بين المسلم والكافر والقصاص مبناه على المساواة والمماثلة بين الطرفين. وكذلك استدلوا بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .1 وجه الدلالة من الآية: الآية تدل دلالة واضحة على أنه لا يقتص من المسلم للكافر المستأمن أو غيره، لأنها خاصة بالمسلمين لأنهم هم الأخوة ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر. وبقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .2 وجد الدلالة من الآية: فالآية الكريمة نفت نفياً قاطعاً أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيل أي سبيل كان، لأن السبيل نكرة في سياق النفي فيعم كل سبيل وحيث كان القصاص سبيلاً من السبل كان داخلاً في العموم المستفاد من النفي فينفي.3   1 البقرة: 178. 2 النساء: 141. 3 الحاوي للماوردي ص 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 ب - دليلهم من السنة: 1- بما روى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقتل مسلم بكافر".1 وجه الدلالة من الحديث: الحديث نص صريح في أن المسلم لا يقتل بالكافر أي كافر كان مستأمناً أو ذمياً أو غيرهما، لأن كلمة كافر عامة تشمل المعاهد وغيره، ولأنها نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم، فلفظ الكافر عام يشمل جميع الكفار المستأمنين وغيرهم. حتى أن ابن المنذر قال: "لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارضه".2 2- وبما روى عن علي رضي الله عنه أن الرسول قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده".3 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في أن المؤمن لا يقتل بالكافر أي كافر كان مستأمناً أو غيره.   1 أخرجه البخاري 2/178 كتاب الجهاد باب فكاك الأسير. 2 الإشراف لابن المنذر 2/57. 3 أخرجه أحمد 1/122، وأبو داود 4/667، 668، كتاب الديات باب إيقاد المسلم بالكافر. والنسائي 8/19 كتاب القسامة باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس، قال ابن عبد الهادي في المحرر في الحديث 2/600 رجاله الصحيحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قال الخطابي: "فيه البيان الواضح أن المسلم لا يقتل بأحد من الكفار كان المقتول منهم ذمياً أو مستأمناً أو ما كان، وذلك أنه نفي في نكر فاشتمل على جنس الكفار عموماً".1 ويمكن الاستدلال بالحديث من وجه آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"، فبين صلى الله عليه وسلم أن دماء المسلمين تتكافأ فيما بينهم، دون دماء غيرهم من الكفار، ولا قصاص مع عدم المكافأة في الدم. 3- وبما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده".2 فالحديث نص صريح في عدم وجوب القصاص على المسلم إذا قتل كافراً مستأمناً أو غيره. قال صاحب تحفة الأحوذي: "الحديث صحيح صريح في أنه لا يقتل مسلم بكافر".3 ج - دليلهم من المأثور: 1- بما روى عن الحسن أنه قال: سئل عثمان رضي الله عنه عن رجل يقتل يهودياً أو نصرانياً قال: "لا يقتل مسلم بكافر وإن قتله عمداً".4   1 انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 4/668. 2 أخرجه أحمد 2/191، 192، والترمذي 4/25 باب ديات الكفار حديث رقم 1413 وقال حديث حسن صحيح. والبيهقي 8/29 وعبد الرزاق 10/99. 3 انظر: تحفة الأحوذي 4/670. 4 أخرجه ابن أبي شيبة 9/294. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 2- وبما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: من السنة أن لا يقتل مؤمن بكافر.1 فهذه الآثار المروية عن بعض الصحابة تدل دلالة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر المستأمن وغيره، حتى قال ابن حزم: "إنه لم يصح عن أحد من الصحابة شيء غير هذا".2 ج - أما دليلهم من المعقول: فمن وجهين: 1- عدم المساواة بين المسلم والمستأمن في الدين والعصمة، فالمسلم دينه الإسلام ينبوع الكرامة والعزة، والمستأمن دينه الكفر ينبوع الذل والهوان، والمسلم معصوم الدم على التأبيد بإيمانه، والمستأمن معصوم بأمانه بصفة مؤقتة، ولا قصاص مع عدم المساواة.3 2- أن شبهة الكفر والحرابة الموجودة فيه أباحت دمه لعزمه على العود إلى داره، ومع قيام الشبهة لا يقتل المسلم به.4 هـ - أما دليلهم من القياس: فمن وجهين: 1- قاسوا المستأمن على الذمي.5   1 أخرجه الدارقطني 3/134، وابن أبي شيبة 9/295، وقال الألباني ضعيف جداً. انظر: إرواء الغليل 7/267. 2 انظر: المحلى لابن حزم 10/347. 3 انظر: فتح الباري 2/262، والأم 7/321، والمبسوط 6/133،134، والاختيار 5/27. 4 انظر: فتح الباري 12/262، والاختيار 5/27. 5 بداية المجتهد 2/299، وتكملة المجموع 17/236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 قالوا: فكما لا يجوز قتل المسلم بالذمي كذلك لا يجوز قتله بالمستأمن. وهذا عند المالكية، والشافعية، والحنابلة، لأن الحنفية يقتل عندهم المسلم بالذمي. 2- بالقياس على حد القذف، قالوا فكما لا يحد المسلم إذا قذف مستأمناً فكذلك لا يجب عليه القصاص بقتله.1 قال ابن حزم: "وهذا أصح قياس يكون لو كان القياس حقاً لأنها حرمة وحرمة".2 ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني القائلين بأن المسلم يقتل بالمستأمن: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول، والقياس: أ - دليلهم من الكتاب: عموم الآيات التي شرعت القصاص كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .3 فالآية عامة في وجوب القصاص على القاتل لا فرق بين مسلم وكافر.4   1 مغني المحتاج 4/16. 2 المحلى لابن حزم 10/357. 3 البقرة: 178. 4 أحكام القرآن للجصاص 1/133 - 141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 2- وبقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .1 فالآية تدل على أن المسلم يقتل بالمستأمن لأن النفس عامة تشمل نفس المسلم والمستأمن، والحربي، ولولا حرابته لدخل في العموم إلا أنه مهدر الدم نظراً لخروجه عن الطاعة.2 ب - دليلهم من السنة: أولاً: بالعمومات الواردة في الأحاديث التي دلت على مشروعية القصاص في القتل العمد، من غير فرق بين قتيل وآخر. منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة".3 وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ومن قتل له قتيل فوليه بخير النظرين إما أن يؤدي وإما أن يقاد".4 فهذه الأحاديث يقتضي عمومها قتل المسلم بالمستأمن، لأن لفظ النفس فيها عام يشمل نفس المسلم ونفس الكافر.5   1 المائدة: 45. 2 أحكام القرآن للجصاص 1/140 وشرح فتح القدير 5/275. 3 أخرجه البخاري 4/188 كتاب الديات، ومسلم 3/1302، كتاب القسامة باب ما يباح به دم المسلم واللفظ له. 4 أخرجه البخاري 4/188 كتاب الديات باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. ومسلم 2/988 كتاب الحج باب تحريم مكة. 5 أحكام القرآن للجصاص 1/141، وتبيين الحقائق 6/104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ثانياً: بما روى عبد الرحمن بن البيلماني1 عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال أنا أكرم من وفى بذمته.2 فالحديث ظاهر الدلالة في قتل المسلم بالمعاهد المستأمن وغيره لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.3 ج - دليلهم من المأثور: 1- بما روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا قتل المسلم يهودياً أو نصرانياً قتل به. 4 د - دليلهم من المعقول: 1- أن عصمة المستأمن ثابتة وقت القتل وهذا يكفي لوجوب القصاص على قاتله حتى لو كان مسلماً، والعصمة ينبغي أن ينظر إليها عند وقوع الجريمة فما دام المقتول وقت قتله معصوم الدم فهذا يكفي بتحقيق المساواة بينه وبين القاتل.5   1 هو عبد الرحمن بن أبي زيد شاعر أبوه كان مولى لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه واختلف في توثيقه. قال ابن حجر: ضعيف، وتوفي سنة 90هـ. انظر: تقريب التهذيب 1/474، والأعلام 3/307. 2 أخرجه عبد الرزاق 10/10، وابن أبي شيبة 9/290، والبيهقي 8/30، وضعفه الدارقطني 3/135 وضعفه الشافعي في مسنده ص 343. 3 تبيين الحقائق 6/104، والمبسوط 26/133. 4 ذكره الجصاص في أحكام القرآن 1/141، ولم أجده في كتب السنن والآثار المشهورة. 5 الاختيار 5/27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 2- لأن عدم القصاص من المسلم للمستأمن فيه من الفساد ما لا يخفى كعدم الوفاء بالعهد، وعدم تحقيق العدل الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية.1 هـ - دليلهم من القياس: قياس المستأمن على الذمي: قالوا: فكما أن المسلم إذا جنى على ذمي يقتص منه فكذلك إذا جنى على المستأمن، بجامع أن كلاً منهما كافر ومعصوم الدم وقت القتل.2 المناقشة: أولاً: مناقشة أدلة الجمهور: أ - بالنسبة لاستدلالهم بالآيات التي نفت المساواة بين المسلم والكافر يرد عليهم بأن المراد بالتساوي فيها هو التساوي في الثواب والأجر عند الله يوم القيامة، فالمؤمن يثاب بالجنة. والكافر يثاب بالنار، فلا يشمل القصاص. لأن القصاص يكفي فيه التساوي في العصمة وهو موجود وقت وقوع الجناية.   1 الاختيار 5/27. 2 المبسوط 26/134، وبدائع الصنائع 7/235، وتبيين الحقائق 6/104 من سورة الحشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 ويؤيد ذلك قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1 فهو نص في الفوز الأخروي2، وأجيب عن ذلك: بأن التساوي عام يشمل التساوي في الثواب والأجر، وغيره كالتساوي في القصاص.3 أما استدلالهم بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .4 فيرد عليه: بأنه لا دلالة في الآية على أن المراد بالأخوة هي الأخوة في الدين فيحتمل أن تكون الأخوة من جهة النسب.5 قال ابن التركماني6: المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ}   1 الحشر: 40. 2 تبيين الحقائق 6/104، والمبسوط 26/134. 3 الحاوي الكبير ص 93. 4 البقرة: 178. 5 أحكام القرآن للجصاص 1/141. 6 هو علاء الدين علي بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني الحنفي أبو الحسن، من علماء الحديث واللغة، ولد سنة 683 وتوفي سنة 745 وقيل 750 له مؤلفات كثير منها: المنتخب في علوم الحديث، والجوهر النقي. انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 123، والأعلام 4/311. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الأخوة في الجنسية1 لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} .2 وأجيب عن ذلك: بأن الأخوة في الآية لا تحتمل غير الأخوة في الدين كما يفيد أول الآية فالخطاب فيها للمؤمنين، وهم الأخوة دون غيرهم، أما احتمال الأخوة من جهة النسب فهذا احتمال ضعيف. أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .3 فيرد عليه بأن السبيل لا يحتمل القصاص في الآية بأي حال من الأحوال، وإنما المراد به التسلط، أو الاستيلاء عليهم في الدنيا، أو أن يكون المراد بالسبيل الحجة، فلله الحجة البالغة، أو يكون المراد بالسبيل في الآخرة فقط. وأجيب عن ذلك: بأن السبيل عام لأنه نكرة في سياق النفي فيشمل سبيل التسلط على المؤمنين والاستيلاء عليهم إلى جانب القصاص الذي هو من أعظم السبل فيكون داخلاً تحت العموم المستفاد من النفي فينفى.   1 انظر: الجوهر النقي مع السنن الكبرى للبيهقي 8/28. 2 الشعراء: 123. 3 النساء: 141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ب - مناقشة أدلتهم من السنة: بالنسبة لاستدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" يرد عليه بأن المراد بالكافر في الحديث الكافر الحربي دون المعاهد الذمي أو المستأمن. 1 وأجيب عن ذلك: بأن لفظ الكافر عام يشمل الكافر الحربي وغيره كالذمي والمستأمن، ولم يرد ما يخصص عموم الحديث بالكافر الحربي.2 وكذلك أيضاً استدلالهم بباقي الأحاديث، يرد عليه بأن الكافر الذي لا يقتل به المسلم في الأحاديث هو الكافر الحربي، ويدل على ذلك جعله مقابلاً للمعاهد فالمعاهد يقتل بمن هو مثله من المعاهدين إجماعاً، فعلى هذا يكون التقدير لا يقتل مسلم بكافر حربي ولا ذو عهد في عهد بكافر حربي فإن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقاُ.3 وأجيب عن ذلك بما يلي: 1- الجملة المتنازع عليها في الحديث وهي قوله: "ولا ذو عهد في   1 أحكام القرآن للجصاص 1/141، وتبيين الحقائق 6/104، والبحر الرائق 8/337، والمبسوط 26/134. 2 مغني المحتاج 4/16، وحاشية الشرقاوي 2/355، والمغني 7/657، وكشاف القناع 5/523، 524. 3 أحكام القرآن للجصاص 1/142، 143، وتبيين الحقائق 6/104، وبدائع الصنائع 7/237،238، وشرح معاني الآثار للطحاوي 3/193. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 عهده" لا تقدير فيها أصلاً لأنها لمجرد النهي عن قتل المعاهد.1 2- ولأن قوله صلى الله عليه وسلم ولا ذو عهد في عهده، كلام مبتدأ مستأنف أي لا يقتل ذو العهد لأجل عهده، ولم يكن هناك عطف فلا حاجة إلى التقدير، ومما يدل على ذلك أنه قد ورد في بعض روايات الحديث الاقتصار على الجملة وهي قوله صلى الله عليه وسلم "وأن لا يقتل مسلم بكافر". وهي من أقوى الروايات لأنها وردت في صحيح البخاري.2 3- وأيضاً لو سلمنا بان الجملة معطوفة فعدم التقدير أولى من التقدير فإن التقدير لا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة هنا3 4- وأيضاً لو حملنا لفظة الكافر في الحديث عل الكافر الحربي فقط لخلا الحديث من الفائدة فإن قتل الكافر الحربي عبادة، فكيف يعقل ورود النهي عن قتله به فعلم أن المراد النهي عن قتل المعاهد، لئلا يتوهم إباحة قتله بعد العلم بأن المسلم لا يقتل به.4 ج - مناقشة أدلتهم من المأثور: ما روى عن عثمان رضي الله عنه قول صحابي لا حجة فيه، ولا يمكن أن يقوى على تخصيص عموم الكتاب والسنة.   1 نيل الأوطار 7/10. 2 مغني المحتاج 4/ 16، وفتح الباري 12/261. 3 نيل الأوطار 7/11، وسبل السلام 3/1189، 1190. 4 مغني المحتاج 4/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 أجيب عن ذلك: بأن عثمان رضي الله عنه ما قال: وما حكم بعدم قتل المسلم بالكافر المعاهد إلا بعد أن استند إلى الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله القاضية بعدم قتل المسلم بالكافر المعاهد وغيره، وبهذا يتقوى قوله وفعله ويكون حجة عليهم. أما ما روى عن علي فهو ضعيف وعلى فرض صحته فلا تثبت به حجة لأنه روى عنه خلاف ذلك وهو قتل المسلم بالمعاهد.1 وأجيب عن ذلك: بأن ما روى عن علي رضي الله عنه وإن كان ضعيفاً فهو يتقوى بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القاضية بعدم قتل المسلم بالكافر أي كافر كان. وأيضاً ما روى عن علي رضي الله عنه أن يقول يقتل المسلم بالمعاهد فهذا فيه ضعف، لأنه هو الذي روى الحديث الصحيح الصريح عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل دلالة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر، والعبرة لما روى الراوي لا بما فعل.2 د - مناقشة أدلتهم من المعقول: قولهم بأن القصاص يعتمد على المساواة ولا مساواة بين المسلم والمستأمن لاختلافهما في الدين والعصمة.   1 شرح معاني الآثار 3/193. 2 نيل الأوطار 7/11،12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 يرد عليه: أن المساواة في الدين ليست بشرط في وجوب القصاص ألا ترى أن الذمي إذا قتل ذمياً ثم أسلم القاتل أنه يقتل به قصاصاً ولا مساواة بينهما في الدين.1 فالمساواة من كل وجه لا تعتبر في وجوب القصاص، بل تعتبر المساواة في العصمة حسماً لمادة الفساد، وتحقيقاً لمعنى الزجر، ولو اعتبرت المساواة في كل شيء لانسد باب القصاص، ولما جرى بين الذكر والأنثى، والصحيح والسقيم، وحيث إن العصمة ثابتة للمستأمن وقت الجناية كالمسلم، فالقصاص يجري بينهما.2 أجيب عن ذلك: بأنه لا مساواة بين المسلم والمستأمن في العصمة. فالمسلم معصوم بإسلامه وعصمته مؤبدة، والمستأمن معصوم بأمانه وعصمته مؤقتة، فاختلفت العصمة، وعلى فرض المساواة في العصمة، فهي لا تكفي لوحدها بل يشترط أيضاً المساواة في الدين الذي هو أساس المساواة، ولا مساواة بين المسلم والمستأمن في الدين، ولا قصاص مع عدم المساواة. أما قول الجمهور بأنه يوجد شبهة في عصمة دم المستأمن، وهو الكفر المبيح لدمه، فهو غير مسلم لأن الكفر المبيح للدم هو الكفر الباعث على الحرابة، أي كفر المحارب لا كفر المسالم، ولهذا حكم بعدم قتل   1 بدائع الصنائع 7/237،238. 2 الجوهرة النيرة 2/267، وتبيين الحقائق 6/104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الصغار والنساء والشيوخ مع قيام الكفر فيهم لعدم حرابتهم، وكفر المستأمن والذمي ليس بباعث على الحراب، لدخولهما في العهد، فلا يكون كفرهما مبيحاً لقتلهما، فتنتفي الشبهة من عصمته.1 وأجيب عن ذلك: بأن الشبهة موجودة في عصمة المستأمن لأنه من أهل دار الكفر، فلا يؤمن أن ينقض العهد ويرجع إلى داره فيكون محارباً للمسلمين، فوجود الكفر ولو مع عدم المحاربة يعتبر شبهة في عصمة المستأمن، ومع وجود الشبهة فلا قصاص بينه وبين المسلم. هـ - مناقشة أدلتهم من القياس: قياسهم المستأمن على الذمي قياس مع الفارق، لأن المستأمن عصمته مؤقتة إلى أجل ثم يرجع إلى داره دار الكفر، أما الذمي فعصمته مؤبدة فصار دمه لا يحتمل الإباحة، ولأن الذمي يدفع الجزية بخلاف المستأمن.2 وأجيب عن ذلك: بأن القياس صحيح، لأن الذمي كان معصوم الدم بالعهد، وكذلك المستأمن كافر معصوم الدم بالأمان، والعبرة بالمساواة في العصمة وقت الجناية وهي موجودة في كل منهما. وفي هذا يقول ابن حزم: "ولا ندري من أين وجب إسقاط القود   1 بدائع الصنائع 7/237، وتبيين الحقائق 6/104، والبحر الرائق 8/237، وكشف الحقائق 2/267. 2 تبيين الحقائق 6/104، وبدائع الصنائع 7/237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 بهذا الفرق وكلاهما محرم الدم إذا قتل تحريماً مساوياً لتحريم الآخر، وإنما يراعى الحكم وقت الجناية الموجبة للحكم لا بعد ذلك، ولعل المستأمن لا يرجع إلى دار الحرب، ولعل الذمي ينقض الذمة، ويلحق بدار الحرب فيعود دمه حلالاً ولا فرق".1 أما قياسهم قتل المسلم للمستأمن على قذفه فهو قياس مع الفارق لأن هناك فرقاً بين القتل والقذف، فالقتل فيه إزهاق للروح الإنسانية بخلاف القذف، ولأن القصاص حق للعبد، والقذف حق لله. وأجيب عن ذلك: بأننا لا ننكر أن هناك فرقاً بين القصاص والقذف في بعض النواحي، لكن قياسنا على وجوب الحد، وحيث لا يجب الحد على المسلم إذا قذف مستأمناً فكذلك لا يقتل به لعدم المساواة، ولا يجب القصاص إلا عند تحقق المساواة بين الطرفين. ثانياً: مناقشة أدلة القائلين بوجوب القصاص للمستأمن من المسلم: أ - مناقشة أدلتهم من الكتاب: استدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وأنها عامة في المسلم والكافر. يرد عليه: بأن الخطاب في أول الآية للمؤمنين فلا يتناول غيرهم من   1 انظر: المحلى لابن حزم 10/357. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الكفار، فيكون القصاص فرضاً عليهم في القتلى منهم، ويدل على ذلك آخر الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} والكافر لا يكون أخاً للمسلم، لأن الأخوة إنما هي بين المؤمنين. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .1 وقولهم بأنها عامة يقال لهم بأنها مخصصة بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله القاضية بأن المسلم لا يقتل بالكافر أي كافر كان مستأمناً أو غيره، والتي منها قوله صلى الله عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر، وغيرها من الأدلة المانعة من قتل المسلم بالكافر والتي مضت.2 وكذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأنها عامة في نفس المسلم والكافر. يرد عليه: بأن الآية وإن كانت عامة فهو مخصصة بما سبق من الأدلة القاطعة بان المسلم لا يقتل بالكافر المستأمن أو غيره. وأيضاً الآية كما يقول ابن حزم خاصة بالمسلمين كما يفيد آخرها. {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، ولا خلاف في أن صدقة الكافر على ولي الكافر المقتول عمداً لا تكون كفارة له.3، فبطل استدلالهم بهذه الآية.   1 الحجرات: 10. 2 المغني 7/794، ونيل الأوطار 7/11، ومغني المحتاج 4/16. 3 انظر: المحلى لابن حزم 10/351. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 ب - مناقشة أدلتهم من السنة: بالنسبة لاستدلالهم بعموم حديثي ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهم يرد عليه: بأن هذا العموم مخصص بالأحاديث الصريحة الصحيحة في هذا الموضوع وهو عدم قتل المسلم بالكافر المستأمن وغيره، والتي سبقت وأيضاً حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ليس عاماً، بل خاص بالنفس المسلمة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم". أما استدلالهم بحديث ابن البيلماني والذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد. فيرد عليه بما يلي: 1- أنه حديث مرسل ولا تثبت بمثله حجة1، وقال القرطبي: إنه ضعيف لا تقوم به حجة.2 2- لو سلمنا بوصله، فهو حديث ضعيف لأنه من رواية عبد الرحمن ابن البيلماني وهو ضعيف كما قال ابن حجر.3 وقال الدارقطني: بأنه ضعيف إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله.4 وقال أبو عبيد هذا حديث ليس بمسند ولا يجعل حجة لأن تسفك   1 فتح الباري 12/262، ونيل الأوطار 7/11، وسبل السلام 3/1189. 2 انظر: الجامع لأحكام القرآن 2/247. 3 انظر: تقريب التهذيب 1/474. 4 انظر: سنن الدارقطني 3/130، 131. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 به دماء المسلمين.1 3- وعلى فرض صحته فهو منسوخ بحديث "لا يقتل مسلم بكافر" قال الإمام الشافعي: "إن حديث ابن البيلماني كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية الضمري" 2 فلو ثبت كان منسوخاً لأن حديث "لا يقتل مسلم بكافر" من خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وقصة عمرو بن أمية متقدمة على ذلك بزمان.3 4- قال الماوردي: "يجوز أن يكون القاتل أسلم بعد قتله، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم به". وإذ احتمل هذا وجب التوقف عن الاحتجاج. وقال أيضاً: حديث عبد الرحمن ضعيف ثم مرسل لأن ابن البيلماني ليس صحابياً والمراسيل ليست بحجة، ولو سلم الاحتجاج به لم يكن فيه دليل لأنها قصة عين لا تجري على العموم.4 5- لو سلمنا بصحة الحديث وأنه ليس منسوخاً لكان حديث:   1 نقلاً عن فتح الباري 12/ 262، ونيل الأوطار 7/11. 2 هو عمرة بن أمية بن خويلد بن عبد الله الضمري، صحابي شجاع، شهد بئر معونة وغيرها من الوقائع في عهد الخلفاء الراشدين، وتوفي بالمدينة في خلافة معاوية سنة 55هـ له عشرون حديثاً. انظر ترجمته في: الإصابة 4/285، وتقريب التهذيب 2/65، ولأعلام 5/73. 3 انظر: الأم 6/38. 4 انظر: الحاوي للماوردي ص100. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 "لا يقتل مسلم بكافر" مقدماً عليه لأنه أخرجه الإمام البخاري في صحيحه ومن وجوه الترجيح عند المحدثين تقديم الحديث المخرج في الصحيحين على غيره.1 ج - مناقشة دليلهم من المأثور: ما روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما لا يقوى على مقاومة الأحاديث الصحيحة المانعة من قتل المسلم بالكافر. وأيضاً على رضي الله عنه هو الراوي لأصح هذه الأحاديث فكيف يمكن أن يخالف ما رواه؟. د - مناقشة أدلتهم من المعقول: قولهم بأن المستأمن مساوٍ للمسلم في العصمة، فهذا غير صحيح لأن المسلم معصوم الدم بإسلامه والمستأمن معصوم الدم بأمانه، وهنالك فرق بين الإسلام، والأمان، فأني يتساويان؟ وعلى فرض المساواة يقال لهم أن المساواة التي يجب أن تتوفر في القصاص هي المساواة في الدين إلى جانب العصمة ومع انتفاء المساواة بين المسلم والمستأمن في الدين ينتفي القصاص. أما قولهم بأن عدم القصاص من المسلم للمستأمن فيه تنفير لهم وعدم تحقيق للعدالة. يرد عليه: أن المسلم لا يتعمد غالباً قتل المعاهد من الذميين   1 انظر: القصاص في النفس ص415. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 والمستأمنين المقيمين في دار الإسلام، إلا إذا رأى منهم ما يبيح قتلهم كالاستهزاء بالدين الإسلامي والاعتداء على حرمات الإسلام والمسلمين. أما تحقيق العدالة فعدم القصاص من المسلم للمستأمن غاية العدالة للفرق الشاسع بين المسلم والكافر المستأمن وغيره. هـ - مناقشة دليلهم من القياس: أما قياسهم المستأمن على الذمي. فهو قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة التي دلت على أن المسلم لا يقتل بالكافر ذمياً كان أو مستأمناً أو حريباً. الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم، وما ورد عليها من ردود ومناقشات، تبين لي أن ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يقتل المسلم بالمستأمن هو الرأي الراجح وذلك لما يلي: 1- أن جميع الأدلة التي استدل بها القائلون بوجوب القصاص للمستأمن من المسلم كأبي يوسف وغيره من الحنفية قد رُدَّ عليها، ونوقشت بالمناقشات الصحيحة ولم يبق لهم ما يحتجون به، فالآيات والأحاديث العامة التي احتجوا بها مخصصة بالأدلة الصحيحة التي صرحت بأن المسلم لا يقتل بالكافر مستأمناً كان أو ذمياً أو حربياً. وأما أدلتهم من المعقول والقياس فهي احتمالات وتأويلات لا تقوى على مقاومة ومعارضة الأدلة الصحيحة الصريحة القاضية بعدم قتل المسلم بالكافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وعلى العكس من هذا أدلة الجمهور نجدها قوية سالمة من الردود والمناقشات الصحيحة. 2- أن الشريعة الإسلامية هي دين العدالة ومن عدالتها أنها لم تهدر دم المستأمن كدم الحربي والمرتد، وإنما أوجبت على قاتله المسلم أو غيره الدية تعويضاً له على دمه المعصوم بصفة مؤقتة في دار الإسلام. ومع ما سبق ترجيحه من أن المسلم لا يقتل بالكافر فلإمام المسلمين أن يوقع من التعزير ما يراه مناسباً في حق الذين يتعدون على رعايا الدولة الإسلامية من المستأمنين وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 المبحث الثاني: اختلاف الدارين وأثره في وجوب الدية المطلب الأول: أثره في دية المعاهد الكتابي لا خلاف بين الفقهاء أنه لا دية للكافر الحربي غير المستأمن وكذلك المرتد سواء وقع القتل من المسلم أو من المعاهد الذمي أو المستأمن. لأن الكافر الحربي غير المستأمن وكذلك المرتد، مباح الدم فلا عصمة لدمه، بل قتله عبادة وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه، وإذا كان قتله مباحاً فمن الأولى أن لا دية له.1 أما الكافر المعاهد الذمي أو المستأمن، فإنه قبل العهد وإعطاء الأمان له كان حربياً مباح الدم، ولا عصمة له، لكنه عندما أصبح في دار الإسلام، بعهد وأمان اختلف الحكم بالنسبة له فأصبح يطلق عليه مستأمناً وصار دمه وماله معصوماً ما دام في دار الإسلام ومتمسكاً وملتزماً بعقد الأمان. وقد عرفنا مما سبق أن الأئمة الأربعة اتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالمستأمن، لعدم المساواة بينهما لا في الدين، ولا في العصمة والقصاص أساسه المساواة. ولكن الشريعة الإسلامية، شريعة العدالة والسماحة لم تهدر دم المعاهد المستأمن أو غيره، بل أوجبت على قاتله الدية، تعويضاً لدمه   1 بدائع الصنائع 7/236، والخرشي على مختصر خليل 8/54، ومغني المحتاج 4/57، والإقناع 2/153، والمغني لابن قدامة 7/795، ونيل الأوطار 7/66، والهداية للكلوذاني 2/93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 المعصوم في دار الإسلام، حتى أن بعض الفقهاء أوجب له الدية كاملة كدية المسلم في العمد والخطأ، وبعضهم غلظها في العمد، على ما سنبينه فيما يلي. اختلف الفقهاء في مقدار دية المعاهد الكتابي المستأمن أو غيره من المعاهدين إلى أربعة أقوال: القول الأول: أن دية المستأمن الكتابي كدية المسلم في العمد والخطأ، لا فرق رجالهم كرجال المسلمين، ونساؤهم كنساء المسلمين، وجراحاتهم كجراحات المسلمين. وهو مروي عن عمر وعثمان وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وسعيد بن المسيب والزهري والحكم وحماد بن أبي سليمان.1 وهو قول فقهاء الحنفية2 ورواية للحنابلة إذا كان القتل عمداً.3   1 مصنف ابن أبي شيبة 9/286،287، ونيل الأوطار 7/65، والمغني 7/793،795، والبحر المحيط 3/324، وبداية المجتهد 2/414، والجامع لأحكام القرآن 5/327. 2 بدائع الصنائع 7/254، والمبسوط 26/85، ومجمع الأنهر 2/639، وتبيين الحقائق 6/128، والبحر الرائق 8/337، والاختيار 5/36، 37، وأحكام القرآن للجصاص 2/238. 3 المغني لابن قدامة 7/793 – 795، والإفصاح لابن هبيرة 2/210، والهداية للكلوذاني 2/93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 القول الثاني: أن دية المستأمن الكتابي نصف دية المسلم في العمد والخطأ. ودية جراحاتهم نصف دية جراحات المسلمين. وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير.1 وهو قول فقهاء المالكية والحنابلة في ظاهر المذهب.2 القول الثالث: أن دية المعاهد الكتابي المستأمن أو غيره ثلث دية المسلم في العمد والخطأ. وهو مروي عن الحسن البصري، وعكرمة، وعطاء، وعمرو بن دينار، وإسحاق بن راهوية، وأبي ثور، وسعيد بن المسيب في رواية.3 وهو قول فقهاء الشافعية، والحنابلة في رواية.4   1 مصنف ابن أبي شيبة 9/286، 287، ونيل الأوطار 7/65، وبداية المجتهد 2/414، والمغني 7/793، والجامع لأحكام القرآن 5/327. 2 المنتقى شرح الموطأ 7/98، قوانين الأحكام الشرعية ص 376، والمدونة 6/395، وبداية المجتهد 2/414، وحاشية العدوي 2/275، والمغني لابن قدامة 7/793، والمبدع 8/352، والإنصاف 10/65، والإفصاح لابن هبيرة 2/210، والهداية للكلوذاني 2/93. 3 مصنف ابن أبي شيبة 9/288، 290، والمغني 7/793،795 ونيل الأوطار 7/66، وبداية المجتهد 2/414. 4 مغني المحتاج 4/75، وروضة الطالبين 9/258، والأم 6/105،106، والمهذب 2/252، والإقناع 2/163، وكفاية الأخيار 2/103، والهداية للكلوذاني 2/93، والمغني لابن قدامة 7/793، والمبدع 8/352. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 القول الرابع: أن المستأمن وغيره من الكفار دمه هدر لا دية ولا كفارة. وهو قول الظاهرية. قال ابن حزم: "دية غير المسلمين هدر وإن قتل مسلم عاقل بالغ ذمياً أو مستأمناً عمداً أوخطأ فلا قود عليه ولا دية ولا كفارة ولكن يؤدب في العمد خاصة ويسجن حتى يتوب كفاً لضرره".1 الأدلة: أولاً: أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا بأن ديته كدية المسلم: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول: أ - دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} .2 وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى أطلق القول بالدية، في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدل أن الواجب في قتل المستأمن في العمد أو الخطأ الدية كاملة.3   1 انظر: المحلى لابن حزم 10/347. 2 النساء: 92. 3 بدائع الصنائع 7/255، وتبيين الحقائق 6/128. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 قال الجصاص: "الدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلاً من نفس الحر لأن الديات كانت معروفة بين الناس قبل الإسلام وبعده، فرجع الكلام إليها في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 1، ثم لما عطف عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} كانت هذه الدية هي الدية المذكورة أولا، إذا لو لم تكن كذلك لما كانت دية، لأن الدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلاً من نفس الحر لا يزيد ولا ينقص، وقد كان مقدارها معروفاً عند الناس قبل الإسلام، فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم، وحيث إن المسلم ديته كاملة، فيجب أن تكون دية غير المسلم المعاهد كاملة أيضاً".2 ب - دليلهم من السنة: 1- بما روى عن عمرو بن حزم3رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي النفس الدية مائة من الإبل".4   1 النساء: 92. 2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/238. 3 هو: أبو الضحاك عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، من الصحابة شهد الخندق وما بعدها، توفي سنة 53هـ. الإصابة 3/375، وتقريب التهذيب 2/68. 4 أخرجه مالك في الموطأ ص 611 كتاب العقول، والنسائي 8/57، 58 في القسامة والدارمي 2/110، والحاكم 1/395، وقال صحيح على شرط مسلم، والبيهقي 8/28، والدارقطني 1/121، وقال الألباني حديث صحيح. انظر: إرواء الغليل 7/303. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وجد الدلالة من الحديث: أن النفس عامة تشمل نفس المسلم والكافر، فتكون دية المعاهد المستأمن كدية المسلم.1 2- وبما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين بدية المسلمين وكان لهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.2 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في أن دية المعاهد المستأمن أو غيره كدية المسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك3 3- وبما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ودى ذمياً دية مسلم.4 دل الحديث أن دية الذمي كدية المسلم والمستأمن كالذمي في الدية.5 4- وبما روى عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل دية   1 أحكام القرآن للجصاص 2/239، 240. 2 أخرجه الترمذي 4/20 كتاب الديات وقال: وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والبيهقي 8/102، والزيلعي 4/366. 3 الاختيار لتعليل المختار 5/36،37. 4 أخرجه الدارقطني 3/103 كتاب الحدود، والبيهقي 8/103، كتاب الديات وذكره الزيلعي في نصب الراية 4/366. 5 تبيين الحقائق 6/129. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 المعاهد كدية المسلم.1 فالحديث ظاهر الدلالة في أن دية المعاهد كدية المسلم، والمعاهد يشمل الذمي والمستأمن. 5- وبما روى عن الهيثم بن أبي الهيثم2 "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا: إن دية المعاهد دية الحر المسلم".3 6- وبما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان دية المسلم واليهودي والنصراني سواء فلما استخلف معاوية صير دية اليهودي والنصراني على النصف، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز رده إلى القضاء الأول. 4 7- وبما روى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن5 قال: كان عقل الذمي مثل عقل المسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وعمر وعثمان   1 أخرجه الدارقطني 3/130، والزيلعي في نصب الراية 4/367. 2 هو: الهيثم بن حبيب الصيرفي الكوفي، صدوق، من السادسة روى عن عكرمة وحماد بن أبي سليمان، أثنى عليه الإمام أحمد وقال ما أحسن أحاديثه، ويروى عن أصحاب الرأي، وثقه ابن معين، وأبو زرعة وأبو حاتم. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/91،92، وتقريب التهذيب 2/326. 3 أخرجه الزيلعي في نصب الراية 4/367 محمد بن الحسن الآثار. 4 أخرجه الزيلعي في نصب الراية 4/367 وبحثت عنه في كتب السنن فلم أجده. 5 هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن فروخ التميمي المدني أبو عثمان مشهور بربيعة الرأي ثقة فقيه. توفي سنة 136. تقريب التهذيب 1/247 ووفيات الأعيان 2/188. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 حتى كان صدراً من خلافة معاوية.1 8- وبما روى عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دية كل ذي عهد ألف دينار".2 فقد دلت هذه الأحاديث على أن دية المعاهد الذمي أو المستأمن كدية المسلم.3 9- وبما ورى عن ابن عباس رضي الله عنها قال: قال لما نزلت {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} قال: كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلاً أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم كاملة قال: فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم في الدية.4 ثالثاً: دليلهم من المأثور: 1- بما ورى عن ابن شهاب الزهري أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جعلا دية اليهودي والنصراني المعاهدين دية الحر المسلم.5   1 أخرجه أبو داود في المراسيل ص 16 والزيلعي في نصب الراية 4/367 وقال سنده صحيح. 2 أخرجه أبو داود في المراسي ص 159 والبيهقي في السنن الكبرى 8/103 كتاب الديات والمزي في تحفة الأشراف 13/213. 3 أحكام القرآن للجصاص 2/239. 4 ذكره الجصاص في أحكام القرآن 2/239 ولم أجده في كتب السنن المعروفة. والآية رقم (42) من سورة المائدة. 5 أخرجه الدارقطني 2/250 كتاب الحدود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 2- وبما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم".1 3- وبما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "دية المعاهد مثل دية المسلم".2 فقد دلت هذه الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم على أن دية المعاهد الذمي أو المستأمن مثل دية المسلم. رابعاً: دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الدية وجبت باعتبار الإحراز، والكافر والمسلم سواء في ذلك، لأن الإحراز بالدار، وذلك استويا في ضمان قيم الأموال المتلفة، حيث وجبت على متلفها إذا كان لكافر مثل ما يجب للمسلم، وإذا كان هذا ثابتاً في أموالهم كانت أنفسهم أولى بالضمان، فوجب أن يكونوا ملحقين بالمسلمين، فيجب بقتلهم ما يجب بقتل المسلمين.3   1 أخرجه عبد الزراق في المصنف 10/97، وابن أبي شيبة 9/286، والزيلعي في نصب الراية 4/368. 2 أخرجه الدارقطني 2/250، وعبد الزراق 10/97، وابن أبي شيبة 9/286. 3 انظر: المبسوط 26/85، وتبيين الحقائق 6/129، والبحر الرائق 8/237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الوجه الثاني: أن المعاهد معصوم الدم والمال على التأبيد إذا كان ذمياً يتساوى مع المسلم في الحرية والعصمة وديته تكون كدية المسلم والمستأمن مثل الذمي في الدية.1 الوجه الثالث: أن نقصان الدية اعتباراً لنقصان الملكية، والكفر لا تأثير له في هذا فلهذا تستوي دية الكافر المعاهد مع دية المسلم ودليل اعتبار ذلك أن المرأة تنصف ديتها لأن المرأة ليست أهلاً للملكية في جميع الأشياء كالرجل فهي تملك المال دون الزواج، وكذا المملوك نقصت ديته لانعدام أهلية ملكية المال والزواج، وإذا كان الكفر لا تأثير له في نقصان الملكية كذلك لا تأثيره له في نقصان الدية.2 ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني الذين قالوا بأن دية المستأمن الكتابي نصف دية المسلم. استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول: أ - دليلهم من السنة: 1- ما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم   1 انظر: تبيين الحقائق 6/129، ومجمع الأنهر 2/639، والمبسوط 26/85. 2 انظر: المبسوط 26/85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قال: "دية المعاهد نصف دية الحر".1 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في أن الدين المعاهد وهو الذمي أو المستأمن نصف دية المسلم. قال الإمام أحمد: "ليس في دية أهل الكتاب شيء اثبت من هذا"2 وقال الخطابي: "ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا".3 2- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دية المعاهد نصف دية المسلم".4 فالحديث أيضاً يدل دلالة واضحة على أن دية المستأمن نصف دية المسلم.   1 أخرجه أحمد في مسنده 2/180، 215،وأبو داود 4/707 – 708 كتاب الديات باب دية الذمي واللفظ له. والترمذي 4/25 كتاب الديات باب دية الكفار وقال حديث حسن ولفظه دية عقل الكافر نصف دية عقل المؤمن، والنسائي بلفظ نحوه 8/45 كتاب القسامة باب كم دية الكافر. وابن ماجة 2/883 كتاب الديات باب دية الكافر بلفظ: (قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى) . 2 المغني 7/794. 3 انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 4/707. 4 أخرجه الطبراني في الأوسط نقلاً عن نصب الراية 4/367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ب - دليلهم من المأثور: بما أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن قضى أن دية اليهودي والنصراني إذا قتل أحدهما، مثل نصف دية الحر المسلم.1 وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بلفظ: "دية المعاهد على النصف من دية المسلم".2 ج - دليلهم من المعقول: من وجهين: الوجه الأول: أن مبنى الديات في الشريعة الإسلامية على التفاضل في الحرمة والتفاوت في المرتبة، لأنها حق مالي يتفاوت بالصفات بخلاف القتل، لأنه لما شرع زجراً لم يعتبر فيه ذلك التفاوت، فإذا ثبت هذا نظرنا إلى الدية فوجدنا الأنثى تنقص فيها عن الذكر، ولابد أن يكون للمسلم مزية على الكافر، فوجب ألا يساويه في ديته.3 الوجه الثاني: أن الكفر نقص يؤثر في القصاص، فوجب أن يؤثر في نقصان الدية كالرق، لأن نقص الكفر أعظم من نقص الأنوثة، بدليل أن الأنوثة لا تمنع   1 أخرجه الإمام مالك في الموطأ ص 622 ما جاء في دية أهل الذمة. 2 مصنف ابن أبي شيبة 9/288، ومصنف عبد الزراق 10/93. 3 أحكام القرآن لابن العربي 1/478. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 القصاص والكفر يمنعه، وإذا كانت الأنوثة تؤثر في نقص الدية فبأن يؤثر فيه الكفر من باب أولى.1 ثالثاً: أدلة أصحاب القول الثالث الذين قالوا بأن دية المعاهد الكتابي ثلث دية المسلم: استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول: أ - دليلهم من السنة: 1- ما ورى عن عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل".2 وجه الدلالة من الحديث: دل مفهوم الحديث أن غير المؤمنة بخلافها، وجعلوا بيان هذا المفهوم قضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما بأن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، فقالوا إن قضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما مبين للقدر الذي أجمله مفهوم الصفة.3 2- وبما روى عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل رجل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم.4   1 المنتقى للباجي 7/97، والمغني لابن قدامة 7/794. 2 سبق تخريجه ص 51 وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى بهذا اللفظ 8/100. 3 الأم 6/105، وسبل السلام 3/1218. 4 أخرجه عبد الزراق في المصنف 10/92، والبيهقي في السنن الكبرى 8/101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 فالحديث ظاهر الدلالة في أن دية المعاهد الكتابي ثلث دية المسلم. ب - دليلهم من المأثور: 1- بما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في اليهودي والنصراني بأربعة آلاف درهم.1 2- وبما روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: "قضى عثمان في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف درهم".2 ج - دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن قولنا بأن دية المستأمن ثلث دية المسلم أقل ما قيل والأصل براءة الذمة فيما زاد.3 قال الإمام الشافعي: "لم يقل أحد في مقادير ديات غير المسلمين أقل مما قلنا وهو ثلث دية المسلم فيجب المصير إليه لأنه أقل مقدار حصل الإجماع عليه، فهو القدر المتيقن الذي لا شك فيه".4   1 أخرجه الإمام الشافعي في المسند ص 354. 2 أخرجه ابن أبي شيبة 9/289، والبيهقي 8/100، والشافعي في مسنده ص 354. 3 كفاية الأخيار 2/103. 4 أحكام القرآن للشافعي 1/375. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الوجه الثاني: أن الأنوثة أثرت في نقصان الدية إلى النصف، فالكفر أولى في تنقيصها إلى ثلث الدية، لأن نقيصة الكفر فوق كل نقيصة.1 الوجه الثالث: أنه لا مساواة بين المسلم والكافر فلا تكون ديتهما سواء.2 رابعاً: أدلة الظاهرية القائلين بأنه لا دية للمستأمن ولا لغيره من الكفار: أولاً: استدلوا بما سبق من الآيات التي نفت المساواة بين المسلم والكافر، ولا قصاص ولا دية إلا مع المساواة، وفي هذا يقول ابن حزم: "ولا يجوز على أصول أصحاب القياس أن يقاس الشيء إلا على نظيره وليس الكافر نظير المؤمن".3 ثانياً: وبقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلى قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 4، وهذا كله في المؤمنين بيقين والضمير الذي في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ   1 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/163، ومغني المحتاج 4/57. 2 الأم 6/104،105. 3 المحلى 10/357. 4 الآية 92 من سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} راجع ضرورة لا يمكن غير هذا إلى المؤمن المذكور أولاً، ولا ذكر في هذه الآية لذمي أصلاً ولا لمستأمن فصح يقيناً أن إيجاب الدية على المسلم في ذلك لا يجوز البتة.1 المناقشة: أ - مناقشة أدلة الحنفية: أولاً: استدلالهم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . يجاب عن ذلك من ثلاثة أوجه: 1- قولهم بأن الآية في بيان حكم المقتول إذا كان من قوم بينهم وبين المسلمين عهد وذمة فهذا غير صحيح، لأنه يحتمل أن يكون المراد بها بيان حكم المقتول المؤمن إذا كان من قوم كافرين وبين قومه وبين المسلمين ميثاق.2 وفي هذا يقول ابن حزم: "إن الضمير في الآية راجع إلى المؤمن المذكور الذي في أول الآية، ولا ذكر فيها لذمي أصلاً ولا لمستأمن وإنما هي في المؤمن المقتول خطأ فقط، ولم يأت قط نص في إيجاب دية ولا كفارة في قتل الكافر الذمي والمستأمن".3   1 انظر: المحلى 10/347 - 348. 2 انظر: المحلى 10/347 - 357. 3 انظر: المحلى 10/347 - 357. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 2- أن الآية لا تدل على أن دية المعاهد - المستأمن أو الذمي - مثل دية المسلم لأن الدية في الآية مطلقة وإطلاقها لا يمنع من اختلاف مقاديرها وقد وردت السنة في بيان هذه المقادير.1 3- وعلى فرض أن المراد بالدية في الآية المعاهد، فالدية في الآية مطلقة مقيدة بالأحاديث الصحيحة التي بينت أن مقدار دية المعاهد نصف دية المسلم.2 رد عليهم الحنفية فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى ذكر المؤمن المقتول خطأ وحكمه وهو بعمومه يقضي سائر المؤمنين إلا ما خصه الدليل، وبذلك لم يكن من الجائز إعادة ذكره ثانياً مع شمول أول الآية له ولغيره، وإذن يكون المراد نوعاً آخر خلاف الأوليين هم المعاهدون، وأيضاً عدم تقييد الله تعالى هذا النوع بالإيمان غير مجيز لتخصصه بالمؤمنين دون غيرهم، ثم إطلاق القول بأن المقتول من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهداً مثلهم، ألا ترى إلى قول القائل هذا الرجل من أهل الذمة، ويفيد أنه ذمي، فظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} موجب لأن يكون المقتول معاهداً مثلهم، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى لما أراد حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ   1 نيل الأوطار 7/66. 2 انظر: نيل الأوطار 7/66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فقيده بالإيمان لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه أنه كافر مثلهم، ولو كان أيضاً الضمير راجع إلى المؤمن كما قال ابن حزم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه. فهذا كله يقتضي المساواة وفساد هذا التأويل.1 وقال الإمام الطبري أيضاً في الرد على من ادعى أن الآية في المؤمن فقال: "فإن ظن ظان أن في قوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} دليلاً على أنه من أهل الإيمان، لأن الدية عنده لا تكون إلاّ لمؤمن فقد ظن خطأ، وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء لإجماع الجميع على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيد المؤمن من أهل الإيمان سواء، فكذلك ديات أحرارهم، ولم يكن في ذلك على أن المعنى بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} من أهل الإيمان.2 وقال الجصاص أيضاً: "إن دية المرأة لا يطلق عليها اسم الدية وإنما يتناولها الاسم مقيداً ولهذا يقال دية المرأة نصف الدية وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو الدية الكاملة".3 وقالوا أيضاً: "إذا كان مقدار الدية ليس مبنياً في الآية كان فعل   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/238، 239. 2 انظر: جامع البيان للطبري 5/209. 3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/238. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 النبي صلى الله عليه وسلم وارداً مورد البيان، وفعله صلى الله عليه وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب".1 وقالوا إن الأحاديث التي وردت في أن دية المعاهد نصف دية المسلم أخبار آحاد فلا تقيد مطلق الكتاب. وأجيب عن ذلك بأن قولهم أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن دية المعاهد ذمياً كان أو مستأمناً كدية الحر المسلم، فهذا غير مسلم، لأن جميع الأحاديث التي استدلوا بها ضعيفة أو مخصصة وسيأتي الرد على كل حديث منها على حده. وأيضاً غاية ما تدل عليه الآية على فرض أنها وردت في دية المعاهد هو إطلاق الدية تقدير لها، فجاءت السنة الصحيحة مقيدة لهذا الإطلاق، وهي قوله صلى الله عليه وسلم دية المعاهد نصف الدية المسلم، فبينت مقدار دية المعاهد وهي أنها على النصف من دية المسلم. وقالوا أيضاً لما لم يكن مقدار الدية مبيناً في الآية بينته السنة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ودى المعاهد بدية المسلم2، ولما ثبت أن جميع هذه الأفعال التي نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة فلم يبق إلا قوله فيكون مبيناً للآية وأن دية المعاهد على النصف من دية المسلم وهو أصح حديث وأبين ما ورد في دية المعاهد كما قال العلماء.3   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/239. 2 انظر: نيل الأوطار 7/66. 3 الإمام أحمد والإمام الخطابي وقد سبق ص 343. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 ثانياً: مناقشة أدلتهم من السنة: بالنسبة لاستدلالهم بعموم قوله صلى الله عليه وسلم " في النفس مائة من الإبل"، يجاب عن ذلك بأن المراد بالنفس في الحديث النفس المؤمنة كما ورد في الرواية الصحيحة " في النفس المؤمنة مائة من الإبل" 1 وعلى فرض أنه عام كما قالوا فهو مخصص بالأحاديث التي بينت مقدار دية المستأمن. أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال الترمذي بأنه حديث غريب.2 وأيضاً في إسناده راو ضعيف وهو أبو سعد البقال واسمه سعيد بن مرزبان، قال ابن حجر: ضعيف مدلس3، وقال ابن عدي: أنه من جملة الضعفاء.4 ومن جهة المتن يحتمل أن يكونا أسلما بعد الجروح قبل موتهما فكمل الإسلام ديتهما. وأما ما روى عن سعيد بن المسيب فهو مرسل تابعي لا تقوم به حجة. وأيضاً قد أعله الإمام الشافعي بالوقف في سنده على سعيد بن   1 أخرجه البيهقي 8/100 كتاب الديات بهذه الزيادة. 2 انظر: سنن الترمذي 4/20. 3 انظر: تقريب التهذيب 1/305. 4 انظر: نصب الراية 4/366، ونيل الأوطار 7/66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 المسيب. وأيضاً يقال لهم بأن سعيد بن المسيب روى عنه خلاف ذلك.1 أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه الدارقطني وقال: إن في إسناده أبا كرز وهو متروك الحديث واسمه عبد الله بن عبد الملك الفهري.2 وقال الهيثمي: أبو كرز ضعيف وهذا أنكر رواه.3 وكذلك حديث أسامة بن زيد أخرجه الدارقطني وضعفه وقال في إسناده عثمان الوقاص وهو متروك.4 أما حديث الهيثم فهو حديث غير صحيح لأني لم أجده في كتب السنن المشهورة، ولو كان حديثاً صحيحاً ما ترك لكني لم أجده إلا في أحكام القرآن للجصاص ونصب الراية للزيلعي. أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال صاحب نصب الراية معلول ببركة الحلبي قال أما حديث ربيعة فإنه كذلك حديث مرسل لا تقوم به حجة.5 أما استدلالهم بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بني قريظة وبني النضير من أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة فهذا   1 انظر: الأم 6/105، 104. 2 انظر: سنن الدارقطني 3/129، ونيل الأوطار 7/66. 3 انظر: مجمع الزوائد 6/299. 4 انظر: سنن الدارقطني 3/130. 5 انظر: نصب الراية 4/367. والأم 6/106. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 حديث فيه لين ولا تقوم به حجة كما قال ابن عبد البر.1 بهذا يتضح لنا أن جميع الأحاديث التي استدل بها الحنفية ومن معهم إما ضعيفة، أو مرسلة، أو منقطعة لا تقوم بها حجة، أو مطلقة مقيدة، وبهذا يبطل استدلالهم بها. وفي هذا يقول الشوكاني: "ومع هذه العلل فهذه الأحاديث معارضة بحديث عمرو بن شعيب وهو أرجح منها من جهة صحته وكونه قولاً وهذه فعلاً والقول أرجح من الفعل".2 أما أدلتهم من المأثور: فيرد عليها بما يلي: بالنسبة لما روى عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهي أقوال صحابة لا تقوى على معارضة الأحاديث الواردة في أن دية المعاهد نصف دية المسلم. وكذلك يمكن أن يقال بأن عمر رضي الله عنه روى عنه خلاف ذلك وهو القول بأن دية المستأمن ثلث دية المسلم وقد قضى بذلك3. وهذا مما يضعف استدلالهم بقوله. وكذلك الآثار المروية عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما فهي لا تقوى على مقاومة الأحاديث الصحيحة السابقة، بل قيل عنها إنها منقطعة وضعيفة.4   1 نقلاً عن الجامع لأحكام القرآن 5/327. 2 نيل الأوطار 7/66. 3 مسند الشافعي ص 354. 4 سبل السلام 3/1217. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وعلى فرض صحة هذه الأحاديث والآثار في وجوب الدية كاملة بمكن حملها على أنها وجبت كاملة تغليظاً وزجراً ومنعاً لانتشار الفساد في المجتمع، وقد روى عن عثمان رضي الله عنه أنه غلظ الدية على المسلم الذي قتل المعاهد.1 أما أدلتهم من المعقول: فيرد عليها بما يلي: يرد على الوجه الأول: بأننا نمنع ارتباط الإحراز بالدية، فإن المرأة والرجل من المسلمين في الإحراز سواء، ومع ذلك تختلف ديتها، فالمرأة على النصف من دية الرجل. أما الوجه الثاني: فيقال لهم بأنه لا مساواة بين الكافر والمسلم حتى في العصمة، فالمسلم معصوم الدم بإيمانه، والمعاهد معصوم الدم بأمانه، وهناك فرق بين الإيمان والأمان، ومع انعدام المساواة في العصمة وغيرها بين المسلم والمعاهد - الذمي أو المستأمن - تنعدم المساواة بينهما في الدية. أما الوجه الثالث: فيقال لهم أيضاً: بأن نقص الكفر أعظم من نقص الأنوثة والرق بدليل أن الأنوثة لا تمنع القصاص بينما الكفر يمنعه، فإذا كانت الأنوثة تؤثر في نقص الدية فتأثير الكفر في نقصها من باب أولى وأحرى.2   1 المغني لابن قدامة 7/794. 2 انظر: المنتقى شرح الموطأ 7/97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ب - مناقشة أدلة المالكية والحنابلة: 1- مناقشة أدلتهم من السنة: بالنسبة لاستدلالهم بحديث عمرو بن شعيب فهو ضعيف لأن عمرو بن شعيب فيه مقال معروف عند المحدثين إذا روى عن أبيه عن جده كما قال الشوكاني.1 وقال أبو داود إنه ليس بحجة2، وقالوا أيضاً: علمنا أن الصحابة الذين قالوا بأن دية المعاهد كدية المسلم قد حضروا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان ذلك ثابتاً لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره، وأيضاً قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دية المعاهد مثل دية المسلم"، وأنه ودى العامريين دية الحرين المسلمين، وهذا أولى لما فيه من الزيادة، ولو تعارض الخبران لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل فيه بين المسلم والكافر أولى فوجب تساويهما في الديات.3 أجيب عن ذلك بأن عمرو بن شعيب ثقة صدوق كما قاله ابن حجر.4 وحديثه هذا من أصح الأحاديث التي وردت في دية المعاهد كما قال الإمام أحمد والخطابي.5   1 انظر: نيل الأوطار 1/117. 2 المصدر السابق. 3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/240. 4 انظر: تقريب التهذيب 2/72. 5 سبق بيانه ص57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 أما قولهم بأن الصحابة الذين قالوا بأن دية المعاهد مثل دية المسلم حضروا خطبة فتح مكة، ولو كان ذلك ثباتاً لعرفوه وما عدلوا عنه. يقال لهم: إن الصحابة الذين قالوا بقولكم هذا هم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، مع أنه روى عن عمر رضي الله عنه خلاف ذلك وما روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما ضعيف. وقولكم بأنه لم يثبت وإلا لعرفه الصحابة الذين قالوا بوجوب الدية كاملة، يقال لهم بأنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث كما قال العلماء، والصحابة الذين لم يعرفوه ربما خفي عليهم هذا الحديث، ولم يصل إليهم. أما الأحاديث التي وردت في أن دية المعاهد مثل دية المسلم فهي ضعيفة كما سبق. وقولهم بأن هناك تعارضاً فيرجع إلى ظاهر الآية، يقال لهم بأنه ليس هناك تعارض لأن حديث عمرو بن شعيب أقوى وأصح من جميع الأحاديث التي استدلوا بها كما قال الشوكاني، فيقدم عليها ولا يكون هناك تعارض. ولو سلمنا تعارض الأحاديث فمطلق الآية لم يبين مقدار الدية فالدية في الآية مطلقة فكيف يمكن الرجوع إلى ظاهرها عند تعارض الأحاديث التي بينت مقدار الدية. وقولهم أيضاً عند التعارض يرجع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "والدية مائة من الإبل" من غير فرق بين المسلم والكافر، يقال لهم بأن الدية مائة من الإبل في النفس المؤمنة دون غيرها كما وردت بذلك الرواية الصحيحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 أما ما روى ابن عمر رضي الله عنهما فقال الهيثمي في جماعة لم أعرفهم.1 يجاب عن ذلك بأنه على فرض أن فيه ضعفاً فهو يتقوى بحديث عمرو بن شعيب. ب - مناقشة أدلتهم من المأثور: ما روى عن عمر عبد العزيز لا تثبت به حجة ولا يقوى على معارضة ظاهر الآية والسنة كقوله صلى الله عليه وسلم "الدية مائة من الإبل" وفعله عندما ودى المعاهد بدية المسلم. يجاب عن ذلك بأن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد، وعقل راجح ولا يمكن أن يقضي بأن دية المعاهد نصف دية المسلم إلا بعد الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولما كانت الدية في الآية مطلقة رجع إلى حديث عمرو بن شعيب المقيد لها فأخذ به وعمل به وقضى به. ج - مناقشة أدلتهم من المعقول: قالوا استدلالكم هذا ضعيف لأن وجوب كمال الدية يعتمد كمال حال القتيل فيما يرجع إلى أحكام الدنيا، وهي الذكورة، والحرية، والعصمة، وقد وجدت هذه المعاني في الذمي والمستأمن، أما نقصان الكفر فلا تأثير له في أحكام الدنيا.2   1 انظر: مجمع الزوائد 6/299. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/255. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 يجاب عن ذلك بأننا لا ننكر أنه يعتمد في كمال الدية الذكورة والحرية والعصمة لكن عندنا هذه الشروط لا تكفي بل نضيف إليها ما هو أهم منها وهو الدين. وبما أنه لا مساواة بين المسلم والكافر في الدين، فتنعدم المساواة في الدية، أما قولكم بأن الكفر يؤثر في القصاص، فهذا غير مسلم لأن الذمي يقتل به المسلم عندنا، فبطل الاحتجاج بهذا. يجاب عن ذلك بأن الأدلة الصحيحة وقد سبق ذكرها قد دلت على أن الكفر له تأثير في القصاص وأن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بالمستأمن وإذا ثبت هذا فإنه كذلك يؤثر في الدية فلا مساواة بين المسلم والكافر في الدية. وقولكم بأن الأنوثة لا تؤثر في منع القصاص، والكفر يمنع القصاص، فهو غير مسلم أيضاً لأن الكفر عندنا لا يمنع القصاص. ويجاب عن ذلك بأن الكفر يمنع من القصاص، والسبب في ذلك هو عدم المساواة بين المسلم والكافر، فكذلك الكفر يمنع التساوي في الدية للفرق الكبير بين المسلم والكافر. أما نقصان الأنوثة فهناك فرق بينه وبين نقصان الكفر، فنقصان الأنوثة، يؤثر في الدية ولا يؤثر في القصاص، بينما نقصان الكفر لا يؤثر لا في القصاص ولا في الدية فلا تأثير له في أحكام الدنيا.1   1 المبسوط 26/85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 ويجاب عن ذلك بأن هذا غير صحيح، فنقصان الكفر له تأثير في القصاص، فلا قصاص بين المسلم والكافر كما دلت على ذلك الأدلة الصحيحة السابقة، وله تأثير أيضاً في الدية لعدم المساواة بين المسلم والكافر. ثالثاً: مناقشة أدلة الشافعية: أ - مناقشة أدلتهم من السنة: بالنسبة لاستدلالهم بحديث: "وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل"1، يقال لهم نحن لا ننكر بأن مفهوم الحديث يدل على أن غير المؤمنة بخلاف ذلك، ولكن مقدار هذا المفهوم بينه قوله صلى الله عليه وسلم: "دية المعاهد نصف دية المسلم" ولا ما قضى به عمر وعثمان رضي الله عنهم كما قلتم. أما حديث عمرو بن شعيب فهو غير صحيح، لأن الحديث الصحيح عن عمرو بن شعيب هو قوله صلى الله عليه وسلم: "دية المعاهد نصف دية المسلم".2 ب - مناقشة أدلتهم من المأثور: بالنسبة لما روى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما فهي أقوال صحابة لا يمكن أن تعارض ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله "دية المعاهد نصف دية المسلم".   1 سبق تخريجه ص 51. 2 سبق تخريجه ص 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وفي هذا يقول الشوكاني: "فعل عمر ليس بحجة على فرض عدم معارضته لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فكيف وهو هاهنا معارض قولاً وفعلاً".1 وأيضاً ليس في فعل عمر رضي الله عنه ما يدل على أن دية المعاهد ثلث دية المسلم، لأن عمر رضي الله عنه فعل ذلك عندما كانت الدية ثمانية آلاف درهم فأوجب نصفها وهو أربعة آلاف درهم، وأيضاً روي عن عمر وغيره من الصحابة آثار تدل على خلاف ذلك.2 ج - مناقشة أدلتهم من المعقول: قولهم بأن دية المستأمن ثلث دية المسلم أقل ما قيل، هذا دليل ضعيف لأنه مبني على علة غير صحيحة، لأن كل قائل يحتاج إلى دليل على صحة قوله والأخذ بأقل ما قيل ليس بدليل إذ ليس له أصل في الكتاب والسنة.3 أما قولهم بأن الأنوثة أثرت في نقصان الدية فالكفر أولى في تنقيصها. فهذا مسلم ويقال لهم بأن الكفر أثر في نقصان الدية إلى النصف كما دل على ذلك الحديث الصحيح وليس إلى الثلث كما قلتم.   1 نيل الأوطار 7/65. 2 المغني 7/794. 3 نصب الراية 4/367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وكذلك قولهم بأنه لا مساواة بين المسلم والكافر فلا مساواة بينهما في الدية، فهذا أيضاً دليل لنا ومع انعدام المساواة تكون دية المعاهد نصف دية المسلم وليس ثلثها كما قلتم. هـ - مناقشة أدلة الظاهرية: قولهم في الآية بأنها في المؤمن وليس فيها ما يدل على دية المعاهد فقد سبق الرد عليها عند مناقشة أدلة الحنفية. أما قولهم بأن المسلم لا يساوي الكافر فلا قود ولا دية للكافر من المسلم، فنقول لهم: نحن معكم في أن المساواة لها تأثير في امتناع القصاص، وكذلك لها تأثير في عدم مساواة دية المسلم بدية الكافر، فعدم المساواة أثر في إيجاب نصف الدية للكافر المعاهد كما دل عليه الحديث الصحيح. وقولهم: بأنه لم يرد دليل قط من كتاب ولا سنة نص على دية المعاهد. يقال لهم: لقد دل ظاهر الآية على رأي بعض العلماء على وجوب دية المعاهد، لكن الدية في الآية مطلقة وبينت الأحاديث والآثار مقدار هذه الدية. وكذلك وردت في ذلك نصوص من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والآثار المروية عن أصحابه رضي الله عنهم وإن كان في بعضها ضعف لكنها تقوى بعضها البعض وأصحها حديث عمرو بن شعيب فكيف غفلتم عن هذه الأحاديث؟. الرأي المختار: وبعد أن عرضنا آراء الفقهاء وأدلتها ومدى قوتها وضعفها، يتضح لنا أنه لم يسلم لفقهاء الشافعية دليل لا من سنة ولا من مأثور ولا من معقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وكذلك فقهاء الحنفية لم يسلم لهم دليل واحد من السنة، ولم يبق لهم سالماً من الرد إلا إطلاق الآية وبعض الآثار المحمولة على تغليظ الدية فيما إذا تعمد المسلم قتل المعاهد. وكذلك الظاهرية ليس لديهم دليل من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن المعاهد لا تجب له الدية أبداً. وكذلك فقهاء المالكية والحنابلة ليس جميع أدلتهم صحيحة وسالمة من الرد بل فيها ضعف ورد عليها لكن سلم منها أهم دليل وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "دية المعاهد على النصف من دية المسلم" 1، وهذا أبين دليل في دية المعاهد كما قاله أكثر العلماء. وهذا مما يجعلنا نختار رأيهم بأن دية المعاهد الكتابي الذمي أو المستأمن نصف دية المسلم. وذلك للأسباب الآتية: لأن الأدلة التي استدل بها الحنفية من السنة على وجوب الدية كاملة كدية المسلم أفعال، وأحاديث إيجاب نصف الدية أقوال والأقوال مقدمة على الأفعال كما يقول الشوكاني.2 وهو أيضاً ما اختاره بعض العلماء كالشوكاني والصنعاني. فيقول الشوكاني في السيل الجرار: "الحق ما ذهب إليه المالكية والحنابلة لأن المروي عن بعض الصحابة لا تقوم به حجة، والمرفوع لم   1 سبق تخريجه ص58. 2 نيل الأوطار 7/66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 يصح، والمطلق من الآية مقيد بالسنة، وحديث عمرو بن شعيب إسناده حسن".1 وقال في نيل الأوطار: "الراجح العمل بالحديث الصحيح وطرح ما يقابله مما لا أصل له في الصحة".2 وقال الصنعاني في سبل السلام: "لا يخفى أن دليل القول الأول أقوى" - قول المالكية والحنابلة - لا سيما وقد صحح الحديث إمامان من أئمة السنة.3 ويمكن أيضاً الجمع بين الأحاديث والآثار على فرض الصحة بأن تحمل الأحاديث والآثار التي أوجبت الدية كاملة، على التغليظ فيما إذا كان القتل عمداً، زجراً للقاتل، وردعاً أمثاله، ومحافظة على أمن المجتمع ورعايا الدولة الإسلامية، وتحمل الأحاديث والآثار التي أوجبت نصف الدية على القتل إذا كان خطاً وهذا ما قاله الإمام أحمد رحمه الله.4 والله أعلم.   1 السيل الجرار للشوكاني 4/440. 2 انظر: نيل الأوطار 7/66. 3 انظر: سبل السلام 3/1218. 4 المغني لابن قدامة7/793. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 المطلب الثاني: أثره في دية المعاهد المجوسي وغيره من الكفار اختلف الفقهاء في دية المعاهد المجوسي وغيره من الكفار إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: دية غير الكتابي كالمجوسي وغيره من المعاهدين في دار الإسلام، كدية المسلم، ونساؤهم على النصف من ديات رجالهم كنساء المسلمين. وهو مروي عن الشعبي والنخعي والثوري والحكم وحماد بن أبي سليمان1. وهو قول فقهاء الحنفية.2 القول الثاني: دية المجوسي المعاهد وغيره من الكفار ثلثا عشر دية المسلم أي ثمانمائة درهم، وديات النساء على النصف من ديات الرجال في العهد والخطأ أي أربعمائة درهم. وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم   1 مصنف ابن أبي شيبة 9/287، والمغني 7/796، ومصنف عبد الرزاق 10/95،97، وتحفة الأحوذي 4/673، والجامع لأحكام القرآن 5/327. 2 بدائع الصنائع 7/254، وجمع الأنهر 2/639، وتبيين الحقائق 6/128، وأحكام القرآن للجصاص 2/240. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعكرمة والحسن البصري وعطاء وإسحاق.1 وهو قول فقهاء المالكية والشافعية الحنابلة.2 إلا أنه روى عن الإمام أحمد أنه غلظ الدية على المسلم إذا كان القتل عمداً فتكون ديته مضاعفة أي 1600 درهم.3 وكذلك روي عن الحنابلة أنهم قالوا دية النساء على النصف من دية الرجال إذا كان القتل خطأ أما إذا كان القتل عمداً فهن كالرجال في تضعيف الدية أي 800 درهم.4 القول الثالث: دية المجوسي المعاهد وغيره من الكفار على النصف من دية المسلم وبه قال عمر بن عبد العزيز.5   1 مصنف ابن أبي شيبة 9/287، وتكملة المجموع 17/379، والمغني 7/796، ومصنف عبد الرزاق 10/97، وتحفة الأحوذي 4/673، والجامع لأحكام القرآن 5/327. 2 المنتقى شرح الموطأ 7/98، وقوانين الأحكام الشرعية 376، وحاشية العدوي 2/275، ومغني المحتاج 4/57، والمهذب 2/252، وكفاية الأخيار 2/103، والمغني 7/796، والمبدع 8/352، والهداية للكلوذاني 2/93، والإنصاف10/66. 3 الإفصاح لابن هبيرة 2/211. 4 الإفصاح لابن هبيرة 2/211. 5 المغني 7/796، ومصنف عبد الرزاق10/95، وتكملة المجموع للمطيعي 17/379. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الأدلة: أ - أدلة أصحاب القول الأول: استدل الحنفية بنفس الأدلة السابقة التي في دية الكتابي وقالوا بأنها عامة في الكتابي وغيره من غير فرق. وكذلك قالوا: بأن المجوسي آدمي معصوم الدم كالمسلم فتكون ديته مثله، لأنهما في العصمة سواء، وإذا كان المجوسي يستوي مع المسلم في الملكية والإحراز وجب أن يستوي معه في الدية.1 رد عليهم بأن الأدلة التي استدلوا بها على أن دية الكافر الذمي أو المستأمن كدية المسلم من الأحاديث والآثار كلها ضعيفة ولم يسلم لهم إطلاق الدية في الآية لأنها مقيدة بالنصوص الصحيحة التي فرقت بين دية المسلم وغيره. أما قولهم بأن المجوسي كالمسلم في العصمة، فهذا غير صحيح، لأنه لا مساواة بين المسلم والكافر حتى في العصمة، لأن المسلم معصوم الدم بالإيمان، بينما الكافر معصوم الدم بالأمان، فاختلف سبب العصمة، وأيضاً لا يستوي معه في الملكية والإحراز ومع انتفاء المساواة ينتفي وجوب الدية كاملة. ب - أدلة الجمهور الذين قالوا بأن الدية ثمانمائة درهم: استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول:   1 انظر: تبيين الحقائق 6/128، والمغني 7/796. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أ - دليلهم من السنة: ما روى عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "دية المجوسي ثمانمائة درهم".1 نوقش هذا الحديث بأنه ضعيف لأن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف وبهذا يبطل الاستدلال به.2 ثانياً: أدلتهم من المأثور: 1- بما رواه سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة كما روي عن عثمان بن عفان مثل ذلك.3 2- وبما روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنها يقولان دية المجوسي ثمانمائة درهم.4 3- وبما روى عن عكرمة والحسن وعطاء أنهم قالوا: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة.5 وقد انتشر هذا بين الصحابة والتابعين ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعاً.6   1 أخرجه البيهقي في السنن 8/101، والطحاوي في معاني الآثار4/335. 2 انظر: الجوهر النقي 8/101 ونيل الأوطار 7/65. 3 أخرجه البيهقي 8/101، وابن أبي شيبة في المصنف 9/288، وعبد الرزاق10/93. 4 أخرجه البيهقي 8/101. 5 أخرجه ابن أبي شيبة 9/289، وعبد الرزاق 10/93. 6 انظر: المغني لابن قدامة 7/796، والمنتقى 7/98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ونوقش هذا بأن هذه الآثار المروية عن بعض الصحابة والتابعين ليست بحجة ولا تقوى على معارضة الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله "دية المعاهد نصف دية المسلم" ولفظ المعاهد عام يطلق على المعاهد الكتابي والمجوسي وغيرهما. 1 ثالثاً: دليلهم من المعقول: قالوا لما كانت ذبائحهم ونساؤهم محرمة على المسلمين، بخلاف ذبائح أهل الكتاب ونسائهم، كان من الأولى أن تنقص ديتهم عن دية أهل الكتاب.2 نوقش هذا المعقول: بأن تحريم نساء وذبائح المجوس، لا يمنع من مساواتهم بالكتابي في الدية، لأن الأمان يعقد مع الكتابي والمجوسي وغيرهم، فإذا دخلوا دار الإسلام بهذا الأمان لا فرق بينهم لا في العصمة ولا في الدين وتجري عليهم الأحكام الإسلامية وتكون دياتهم متساوية على النصف من ديات المسلمين لا فرق بين كتابي أو مجوسي أو غيره. ج - أدلة من قال بأن ديته نصف دية المسلم: استدل بالسنة، والمعقول: أ - دليلهم من السنة: حديث عمرو بن شعيب المتقدم والذي فيه "دية المعاهد نصف دية   1 انظر: نيل الأوطار 7/65. 2 انظر: المغني لابن قدامة 7/796. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 المسلم" وفي رواية أخرى: "دية عقل الكافر نصف عقل المؤمن".1 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في أن دية المجوسي كدية الكتابي على النصف من دية المسلم لأن لفظ "المعاهد" و "الكافر" عام يطلق على أي معاهد وأي كافر كتابي أو مجوسي، فالمجوسي داخل تحت هذا العموم وكذلك كل من له ذمة من الكفار.2 ويمكن أن يقال بأن الحديث ورد بلفظ "عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى".3 يجاب عن ذلك بأن هذه اللفظة لم يخرجها إلا ابن ماجة بينما الألفاظ العامة أخرجها أكثر أهل السنن وهي الأشهر فيؤخذ بها. 2- وبقوله صلى الله عليه وسلم "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فالحديث عام في الجزية وغيرها كالدية.4 فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعامل المجوسي معاملة أهل الكتاب، ومن المعاملة أن تكون ديتهم كديتهم، وحيث إن دية أهل الكتاب نصف دية المسلم فكذلك دية المجوسي على النصف من دية المسلم.   1 سبق تخريجه ص 57. 2 انظر: نيل الأوطار 7/66. 3 أخرجه ابن ماجة 2/883، كتاب الديات باب دية الكافر. 4 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 162. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ب - دليلهم من المعقول: أن المجوسي والكتابي يجمعهم لفظ واحد في دار الإسلام هو لفظ الذمة والأمان من المسلمين، فلا فرق بينهم في ذلك فكذلك أيضاً لا فرق بينهم في الدية - فالجميع دياتهم نصف ديات المسلمين.1 الرأي المختار: وبعد أن ذكرت آراء الفقهاء في دية المجوسي وغيره من الكفار وأدلتهم وما ورد عليها من مناقشات يتضح لي بأن رأي الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز هو الرأي المختار والذي يقول: "أن دية المجوسي وغيره من الكفار كدية أهل الكتاب أي نصف دية المسلمين". وذلك للأسباب الآتية: 1- لأن حديث عمرو بن شعيب أصح حديث ورد في دية المعاهد وهو عام يشمل الكتابي وغيره من الكفار كالمجوسي ولم يرد ما يقوى على تخصيصه. 2- ولأن الأدلة من الأحاديث والآثار التي استدل بها من قال بأن ديته كدية المسلم كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة ما عدا الآية فهي مطلقة مقيدة بالحديث السابق. 3- وكذلك أيضاً أدلة من قال إنها ثمانمائة درهم ليست قوية ولا تقاوم عموم هذا الحديث.   1 انظر: نيل الأوطار 7/66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 4- ولأنه لا فرق بين المعاهدين الذين يدخلون دار الإسلام بعهد وأمان من المسلمين فكلهم كفار يعاملون بمعاملة واحدة فيما لم يرد النهي عند بدليل خاص كالذبائح والزواج ويجب لهم دية واحدة وهي نصف دية المسلم للمساواة بينهم في العصمة والدين- والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 المبحث الثالث: اختلاف الدار وأثره في وجوب الكفارة1 للمستأمن، أو وجوبها عليه الكفارة من العقوبات التي تجب بجريمة القتل وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ولا خلاف بين الفقهاء في وجوبها على المسلم في القتل الخطأ2 لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} .3 كما اتفق الفقهاء على أن الكافر الحربي لا كفارة في قتله لأنه مباح   1 الكفارة: لغة مأخوذة من الكفر وهو الستر والتغطية. لسان العرب 6/462. والكفارة شرعاً: اسم لأعمال تكفر بعض الذنوب والمؤاخذات أي تغطيها وتخفيها. تفسير البحر المحيط 4/10. روح المعاني 7/10. 2 بدائع الصنائع 7/252، والاختيار 5/25، وقوانين الأحكام الشرعية ص 377، وحاشية العدوي 2/287، وروضة الطالبين 10/379، وأسنى المطالب 4/95، والمغني 8/93، والمبدع 9/27. 3 النساء: 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 الدم وإذا كان القصاص لا يجب على قاتله وكذلك الدية فعدم وجوب الكفارة من باب أولى.1 أما المستأمن وغيره من المعاهدين في دار الإسلام. فإما أن تكون الكفارة واجبة له، أو واجبة عليه: الحالة الأولى: وجوب الكفارة للمستأمن: اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة للمستأمن أو غيره من الكفار إلى قولين: القول الأول: المسلم إذا قتل مستأمناً في دار الإسلام وجبت عليه الكفارة. وهو قول جمهور الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة.2 القول الثاني: الكفارة لا تجب على المسلم بقتل المستأمن أو غيره من الكفار. وهو قول فقهاء المالكية والظاهرية.3   1 بدائع الصنائع 7/252، والمبسوط 10/65، والخرشي على مختصر خليل 8/49، وأسنى المطالب 4/95، ومغني المحتاج 4/108، والمغني 8/94، وكشاف القناع 6/66. 2 بدائع الصنائع 7/252، روضة الطالبين 10/381، المغني 8/98. 3 الخرشي على مختصر خليل 8/50، وقوانين الأحكام الشرعية ص 377، وحاشية العدوي 2/287، والمحلى 10/347 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الأدلة: أولاً: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بالكتاب، والمعقول: أ - دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . 1 وجه الدلالة من الآية: دلت الآية على وجوب الكفارة بقتل المستأمن لأنه من الذميين لهم ميثاق أي عهد وأمان مع المسلمين. 2 ب - دليلهم من العقول: أن المعاهد المستأمن أو غيره معصوم الدم، ومقتول ظلماً بغير حق، فتجب في قتله الدية والكفارة كالمسلم. وحتى يكون هناك فرق بينه وبين الكافر الحربي الذي لا أمان له ولا دية ولا كفارة تجب بقتله.3 ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني:   1 النساء: 92. 2 بدائع الصنائع 7/252، والعدة شرح العمدة ص 540. 3 المغني 8/93، وكشاف القناع 6/66، والعدة شرح العمدة ص 540. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 استدلوا بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . 1 وجه الدلالة من الآية: الآية الكريمة دلت على وجوب الكفارة بقتل المؤمن، ومفهومها أن لا كفارة في غير المؤمن، فالآية كلها في المؤمن، ولا تجب الكفارة بقتل المعاهد المستأمن أو غيره، والضمير يرجع إلى المؤمن المذكور في الآية ولا ذكر للمستأمن في هذه الآية أصلاً.2 ويرد عليهم بأن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} . ظاهر الدلالة في وجوب الكفارة بقتل المعاهد المستأمن لأنه من الذين بيننا وبينهم عهد وميثاق، فالآية دلت بالمنطوق على أن من له ميثاق من الكفار بعهد وقتله مؤمن، لزمته الدية والكفارة، لأنه مقتول ظلماً فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم. الرأي المختار: ورأى الجمهور في وجوي الكفارة على المسلم إذا قتل معاهداً   1 النساء: 92. 2 المحلى 10/347،348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 مستأمناً أو غيره هو المختار، لصريح الآية، ولأن المعاهد المستأمن معصوم الدم ويحرم قتله بغير وجه الحق، ومن قتله بغير حق فقد ارتكب ذنباً عظيماً، والكفارة شرعت لمحو الذنب وتكفيره، فلذلك تجب على المسلم بقتل المعاهد المستأمن تكفيراً لذنبه ومحواً له. وبهذا الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار أثر في وجوب الكفارة للمستأمن لأن المستأمن عندما كان في داره دار الكفر كان دمه هدر ولا عصمة له، ولا يجب بقتله لا دية ولا كفارة، ولكن عندما اختلفت الدار وأصبح في دار الإسلام بعهد وأمان وجبت الدية والكفارة بقتله لأنه معصوم الدم. الحالة الثاني: في وجوب الكفارة على المستأمن: اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة على المعاهد- ذمياً كان أو مستأمناً - إذا قتل مسلماً أو معاهداً آخر خطأ إلى قولين: القول الأول: لا تجب الكفارة على الذمي والمستأمن. وهو قول فقهاء الحنفية والمالكية.1 القول الثاني:   1 انظر: بدائع الصنائع 7/252، والاختيار 5/25، والمبسوط 10/65، والخرشي على مختصر خليل 8/49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 تجب الكفارة على الذمي والمستأمن وتكون في مالهما بعتق رقبة مؤمنة، وأما كفارة الصيام فلا يرون وجوبها لأن الصيام عبادة لا تصح من الكافر. وهو قول فقهاء الشافعية والحنابلة.1 ووافقهم الظاهرية في وجوبها على الذمي إلا أنهم أجلوا ذلك إلى حين الإسلام لعدم قدرة الذمي على العتق وكذلك الصيام، والظاهر أن المستأمن عندهم كالذمي، بجامع العصمة والدين فكل منهما كافر. وفي هذا يقول ابن حزم: "وذلك واجب أي الكفارة على الذمي إلا أنه لا يقدر في حالته تلك على عتق رقبة مؤمنة ولا على صيام حتى يسلم، فإن أسلم يوماً ما لزمه العتق والصيام فإن لم يسلم حتى مات لقي الله عزوجل وذلك زائد في إثمه وعذابه".2 الأدلة: استدل الحنفية والمالكية على عدم وجوب الكفارة على المعاهد بما يلي: أن الكفارة فيها معنى العبادة لأن فيها صياماً، والصيام عبادة، وغير   1 انظر: روضة الطالبين 10/381، ومغني المحتاج 4/ 107 - 108، والمجموع شرح المهذب 17/515، وحاشية البيجيرمي على المنهج 4/191 - 192، وقليوبي وعميرة 4/162، والمغني 8/93، والمبدع 9/28، والإنصاف 10/135، والعدة ص540، ومطالب أولي النهى 6/45. 2 انظر: المحلى لابن حزم 10/359. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 المسلمين من الذميين والمستأمنين غير مخاطبين بشرائع العبادات، ولهذا اشترطوا في وجوبها أن يكون القاتل مسلماً.1 واستدل الشافعية والحنابلة الذين قالوا بوجوب الكفارة على المعاهد بالكتاب، والسنة، والمعقول. أ - دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 2 قالوا في وجه الدلالة: بأن الآية عامة في وجوب الكفارة على القاتل مسلماً كان أو كافراً، ولم يرد ما يخصص هذا العموم في عدم وجوبها على القاتل الكافر، فتبقى الآية على عمومها حتى يدل دليل على التخصيص.3 ب - دليلهم من السنة: بما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني وأدت في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق بكل موؤدة رقبة".4 فالحديث يدل دلالة واضحة على وجوب الكفارة على الكافر.5   1 انظر: بدائع الصنائع 7/252، والمبسوط 1/95، والخرشي 8/49. 2 النساء: 92. 3 انظر: المجموع شرح المهذب 17/514. 4 تكملة المجموع شرح المهذب للمطيعي 17/514 وبحثت عنه حسب استطاعتي فلم أجده في كتب السنن المعروفة. 5 انظر: المجموع شرح المهذب 17/515. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ج - دليلهم من المعقول: 1- أن الكفارة تجب على الكافر عقوبة له، وليس لتكفير ذنبه كالمسلم، لأنه لا ذنب أعظم من الكفر، كالحدود تجب على المسلم كفارات، وعلى الكافر عقوبة.1 2- أن الكفارة في هذه الحالة حق مالي يتعلق بالقتل، فتجب على المعاهد الذمي أو المستأمن كما تجب عليه الدية.2 3- أن الكفارة ليست عبادة بدنية، وإنما هي عبادة مالية، كالزكاة ونفقات الأقارب، بخلاف الصلاة والصوم.3 الرأي المختار: والذي يظهر لي من أقوال الفقهاء أن الكفارة لا تجب على غير المسلم مستأمناً كان أو غيره. 1- لأن الكفارة فيها معنى العبادة لأن فيها صياماً، وغير المسلم ليس من أهل العبادة.   1 انظر: المجموع شرح المهذب 17/515. 2 انظر: المجموع شرح المهذب 17/515.، والمغني 8/94، والمبدع 9/28، ومطالب أولي النهي 6 /45، والعدة ص 54. 3 المغني 8/94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 2- ولأن الكفارة شرعت لمحو الذنب وتكفيره، والكافر لا عمل له مع الكفر، وهل هناك ذنب أعظم منه. 3- ولأن الآية ليست عامة في وجوب الكفارة، وإنما هي خاصة بالمؤمن لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً} . 4- ولأن الحديث الذين استدل به من أوجب الكفارة لا وجود له وعلى فرض أنه موجود لا دلالة فيه على وجوب الكفارة على المستأمن. وبهذا الاختيار يتضح لي أنه لا أثر لاختلاف الدار في وجوب الكفارة على المستأمن فالكفارة لا تجب عليه لا في دار الإسلام، ولا في دار الكفر، فإذاً لا أثر لاختلاف الدارين في وجوب الكفارة على المستأمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الفصل الثاني: اختلاف الدار في جرائم الحدود في دار الإسلام المبحث الأول: أثره في إقامة حد الزنا على المستأمن في دار الإسلام مما لاشك فيه أن الزنا جريمة بشعة، ومرض خطير يستحكم في النفوس ويقوى تأثيره فيها، وآثار هذا الجرم الخبيث، ونتائجه السيئة أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تشرح وهو من الجرائم المحرمة، وقد ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع. فدليل تحريمه من الكتاب قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} .1 فدلت الآية الكريمة على تحريم الزنا وأنه جريمة خبيثة يجب على المؤمنين اجتنابها لأنها تدنسهم، وتهلكهم، وتفسد أرضهم وأهلهم. أما دليل تحريمه من السنة فقوله صلى الله عليه وسلبم في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت ثم أي: قال: أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك".2   1 الإسراء: 32. 2 أخرجه البخاري 4/176 كتاب الحدود باب إثم الزنا واللفظ له ومسلم 1/90 كتاب الإيمان باب كون الشرك أقبح الذنوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وغيره من الأحاديث التي تدل دلالة واضحة على تحريم هذه الجريمة الخبيثة وأن ارتكابها يعد من أعظم الذنوب. أما الإجماع: فقد أجمع علماء المسلمين على تحريمه وأنه من الفواحش القبيحة، لما فيه من ضياع الأنساب وتفكك الأسر، وانحلال المجتمعات وانتشار الفساد في الأرض.1 وهذا الفعل القبيح له عقوبة عظيمة، يعاقب بها من تسول له نفسه فعل هذه الجريمة الفاحشة، وعقوبة حد الزنا إما الجلد والتغريب أو الرجم. فالزاني البكر عقوبته الجلد لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .2 وجاءت السنة النبوية مقررة لعقوبة الجلد مع زيادة التغريب لمدة عام. فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلبم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام.3 وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة.4   1 الاختيار 4/79، وبلغة السالك 2/421، وكفاية الأخيار 2/110، وكشاف القناع 6/89. 2 النور: 2. 3 أخرجه البخاري 4/181 كتاب الحدود باب البكران يجلدان وينفيان. 4 أخرجه مسلم 3/1316 كتاب الحدود باب حد الزنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وقد أجمع العلماء على وجوب الجلد على الزاني إذا كان بكراً1 أما التعريب فقد خالف فيه الحنفية فقالوا: الزاني البكر عقوبته الجلد فقط.2 لكن الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تغريب الزاني البكر ترد قولهم وتضعفه. أما الزاني غير البكر - المحصن - أي المتزوج فعقوبته الرجم وقد ثبت الرجم في حقه بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثيب بالثيب جلد مائة والرجم.3 وبحديث جابر رضي الله عنه أن رجلاً من أسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلبم فحدثه أنه قد زنى فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلبم فرجم وكان قد أحصن.4 وقد وقع الإجماع على رجم الزنا المحصن ولم يشذ في ذلك إلا بعض فرق الخوارج.5   1 قوانين الأحكام الشرعية ص 384، ورحمة الأمة ص 272، والإفصاح لابن هبيرة 2/234، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 129. 2 الاختيار 4/86 واللباب في شرح الكتاب 3/2187. 3 أخرجه مسلم 3/1316 كتاب الحدود باب حد الزنا. 4 أخرجه البخاري 4/76 كتاب الحدود باب رجم المحصن واللفظ له، ومسلم 3/1318 كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا. 5 الاختيار 4/84، وأسهل المدارك 3/315، وكفاية الأخيار 2/110، والمبدع 9/61، ومراتب الإجماع ص 129. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وقد اتفق الفقهاء على وجوب إقامة حد الزنا على المسلم إذا زنى في دار الإسلام، بمسلمة، أو بذمية، أو بمستأمنة1 أما المستأمن إذا زنى في دار الإسلام، فلا يخلوا من حالتين: الحالة الأولى: أن يزني المستأمن بكافرة، ذمية كانت أو مستأمنة. فقد اختلف الفقهاء في وجوب إقامة الحد عليه في هذه الحالة إلى قولين: القول الأول: لا يقام حد الزنا على المستأمن إذا زنى بكافرة. وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف، والمالكية، والشافعية في أصح الأوجه والحنابلة.2 القول الثاني: يقام حد الزنا على المستأمن إذا زنى بكافرة.   1 المبسوط 9/56، وفتح القدير 5/268، وقوانين الأحكام الشرعية ص 383، والشرح الصغير 2/390، والمهذب 2/280، والمغني 8/157، والمبدع 9/63، 73. 2 بدائع الصنائع 7/340، والمبسوط 9/ 57، وقوانين الأحكام الشرعية ص 383، والخرشي على مختصر خليل 8/75، والفواكه الدواني 2/284، وحاشية البيجوري 2/238، ومغني المحتاج 4/147. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وهو قول الأوزاعي، وأبي يوسف من الحنفية، والشافعية في وجه إذا شرط عليه ذلك في عقد الأمان.1 الأدلة: أولاً: أدلة الجمهور: استدلوا بالكتاب، والمعقول، والقياس: أ - دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} . 2 وجه الدلالة من الآية: أن الشارع أوجب علينا إبلاغ المستأمن مأمنه، بهذا النص الصريح وفي إقامة الحد عليه تفويت للتبليغ الواجب.3 ويمكن أن يرد عليهم بأن الآية ليس فيها ما يدل على عدم إقامة حد الزنا على المستأمن بل غاية ما تدل عليه الآية جواز عقد الأمان مع الكفار في دخول دار الإسلام لسماع كلام الله والإطلاع علي محاسن الإسلام،   1 بدائع الصنائع 7/34، والمبسوط 9/56، وفتح القدير 5/268، والخراج لأبي يوسف ص 189، والأم 325، ونيل الأوطار 7/93. 2 التوبة: 6. 3 المبسوط 9/57، 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 ثم إن أسلم فهذا هو الغاية من الأمان، وإن لم يسلم فنبلغه مأمنه حتى يرجع إلى داره التي يأمن فيها. أما دليلهم من المعقول: فمن ثلاثة أوجه: الوجه الأول: 1- أن حد الزنا من الحقوق الخالصة لله تعالى، والأصل عندهم عدم إقامة الحد فيما هو حق لله تعالى، كالسرقة، وقطع الطريق، ولا تقام عليه الحدود إلا فيما يرجع إلى حقوق العباد كالقصاص والقذف، وأما حقوق الله تعالى فلا تلزمه، لأنه لم يلتزمها، ولهذا لا تضرب عليه الجزية ولا يمنع من الرجوع إلى دار الحرب.1 2- أن إقامة الحدود أساسها الولاية، ولا ولاية للمسلم على المستأمن لأن إقامته لمدة معلومة.2 3- أن المستأمن لم يدخل دار الإسلام على سبيل الإقامة والتوطن، بل على سبيل العادية، يعاملنا ونعامله في التجارة وغيرها، حتى يقضي حاجته ثم يعود إلى داره دار الكفر. ولهذا لم يكن في دخوله دار الإسلام دلالة على التزامه بأحكام الإسلام التي هي حق الله تعالى بل التزم بالأحكام التي هي حق للعباد كالقصاص وغيره.3   1 انظر: المبسوط 9/56، 57، وبدائع الصنائع 7/34، وشرح السير الكبير 1/306. 2 انظر: المبسوط 9/57. 3 انظر: بدائع الصنائع 7/34، وفتح القدير 5/268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 ولكن يمكن أن يرد على أدلتهم هذه بما يلي: 1- أن المقصود من إقامة الحد على المستأمن هو الزجر له، والردع لغيره، ومنع الفساد في الأرض وزلزلة أمن المجتمع، ولا فرق بين حق الله وحق العبد في هذه الناحية فالحد شرع للزجر سواء كان الحد حقاً لله أو حقاً لعباده. 2- أما قولهم بأنه لا ولاية للمسلم على المستأمن، فهذا شيء غريب فالمستأمن بمجرد عقد الأمان دخل تحت ولاية الدولة الإسلامية والتزم بأحكامها، فهو مادام في دار الإسلام ومن رعايا الدولة الإسلامية فهو تحت ولايتها لأنها مسؤولة عنه وعن المحافظة على دمه وعرضه وماله وعدم الاعتداء عليه من قبل سكانها المسلمين أو الذميين. 3- وقولهم بأنه دخل للتجارة ولم يلتزم أحكام الإسلام يقال لهم إنه بمجرد عقد الأمان معه فهو ملتزم بأحكام الإسلام مدة إقامته فيها كالذمي ولهذا يقام عليه حد القذف كما يقام على الذمي، فالمستأمن في إقامة الحدود عليه كالذمي بجامع الكفر والعصمة.1 ج - أما دليلهم من القياس: فقد قاسوا المستأمن، على الحربي غير المستأمن، بجامع عدم الالتزام بأحكام الإسلام2 ويقال لهم هذا قياس مع الفارق لأن هناك فرقاً بينه   1 بدائع الصنائع 7/34. 2 المبسوط 9/56، وتبيين الحقائق 3/183، والجوهرة النيرة 2/346. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وبين الحربي غير المستأمن، فهذا تحت ولاية دولته الكافرة فكيف يلتزم لأحكام الإسلام، وكذلك مباح الدم ويمنع من دخول دار الإسلام، وذاك تحت ولاية الدولة الإسلامية مدة إقامته فيها ومعصوم الدم والمال ما دام في دار الإسلام ملتزماً لأحكامه، مستمسكاً بشروط الأمان. ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني الذين قالوا بوجوب إقامة الحد على الزاني المستأمن في دار الإسلام. استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس. أ - دليلهم من الكتاب: عموم النصوص الواردة في وجوب إقامة حد الزاني كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .1 وجه الدلالة من الآية: دلت الآية بعمومها على وجوب إقامة حد الزاني على المستأمن لأنها لم تفرق بين أن يكون الزاني مسلماً أو غيره، فتكون شاملة للمستأمن. ب - دليلهم من السنة: 1- بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلبم رجم اليهوديين.2   2- وبحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "رجم النبي صلى الله عليه وسلبم رجلاً من 1 النور: 2. 2 أخرجه البخاري 4/182، كتاب الحدود باب أحكام أهل الذمة ومسلم 3/1326 كتاب الحدود حديث 1699. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 أسلم ورجلاً من اليهود وامرأته".1 وجه الدلالة من هذه الأحاديث: دلت الأحاديث على وجوب إقامة الحد على المستأمن إذا زنى في دار الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلبم أقام حد الزنا على اليهود وهم وإن كانوا من أهل الذمة فالمستأمن كالذمي في إقامة الحدود عليه بجامع الكفر والعصمة. قال الشوكاني: "وأحاديث الباب تدل على أن حد الزنا يقام على الكافر كما يقام على المسلم".2 وقال الصنعاني: "وفي الحديث دليل على إقامة الحد على الكافر إذا زنى".3 ج - دليلهم من المعقول: أن المستأمن لما دخل دار الإسلام فقد التزم بأحكامه بمجرد عقد الأمان مدة إقامته بها، فصار كالذمي التزمها طول حياته، والمستأمن ملتزم لها إلى أجل. ومن الأحكام التي التزمها إقامة الحد عليه إذا ارتكب موجبها كالقذف والقتل، فيجب أن يقام عليه حد الزنا كذلك، والمستأمن يعتقد   1 أخرجه مسلم 3/1328 كتاب الحدود باب رجم اليهود حديث رقم 1701 وفي لفظ (وامرأة) . 2 انظر: نيل الأوطار 7/93. 3 انظر: سبل السلام 4/1282. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 حرمة الزنا لأنه حرام في الأديان كلها، وقد تمكن الإمام من إقامة الحد عليه لأنه في دارنا، فيجب أن يقيم هذا الحد عليه، لأن المقصود من إقامة الحدود الشرعية هو تطهير دار الإسلام وصيانتها من الفساد، فلو قلنا بعدم إقامة الحد عليه مع قدرة الإمام على ذلك لأنه تحت ولايته لكان ذلك من الاستخفاف بالمسلمين وما أعطيناه الأمان ليستخف بالمسلمين ويفسد ويدنس دارهم الطاهرة.1 د - دليلهم من القياس: قاسوا حد الزنا على حد القذف، قالوا فكما يجب إقامة حد القذف على المستأمن إذا قذف مسلماً بالاتفاق2، فكذلك يجب إقامة حد الزنا على المستأمن. وكذلك قاسوه على الذمي فهو كافر ملتزم لجميع أحكام الإسلام طول حياته، وتقام عليه جميع الحدود، ومعصوم الدم، فكذلك المستأمن كافر يلتزم بأحكام الإسلام، وتقام عليه الحدود لأنه معصوم الدم مثله.3 الحالة الثانية: أن يزني المستأمن بمسلمة في دار الإسلام: وقد اختلف الفقهاء إقامة الحد في هذه الحالة إلى ثلاثة أقوال:   1 انظر: المبسوط 9/56، وبدائع الصنائع 7/34، وفتح القدير 5/268، والبحر الرائق 5/19، وتبيين الحقائق 3/182. 2 الاختيار 4/95، والمدونة 6/222، وروضة الطالبين 10/106، والمغني 8/216، والمحلى 10/27. 3 نفس المراجع السابقة مع نيل الأوطار 7/93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 القول الأول: المستأمن إذا زنى بمسلمة لا يقام عليه الحد كما إذا زنى بكافرة. وهو قول فقهاء الحنفية والشافعية في أصح الأوجه.1 القول الثاني: المستأمن إذا زنى بمسلمة يقتل حداً. وهو قول فقهاء المالكية والحنابلة في الصحيح من المذهب.2 القول الثالث: المستأمن إذا زنى بمسلمة يقام عليه الحد، كما إذا زنى بكافرة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، ووجه للشافعية في غير المشهور وبالأخص إذا اشترط عليه ذلك في عقد الأمان، ورواية للحنابلة.3 الأدلة: أولاً: استدل أصحاب القول الأول بنفس الأدلة في الحالة السابقة. وهي أن المستأمن إذا زنى بكافرة لا يقام عليه الحد.   1 بدائع الصنائع 7/34، والمبسوط 9/56، وتبيين الحقائق 3/182، ومغني المحتاج 4/147، وأسنى المطالب 4/ 127 ونيل الأوطار 7/93. 2 بلغة السالك 2/421، والفواكه الدواني 2/242، قوانين الأحكام الشرعية ص 372، المغني 8/269، وكشاف القناع 6/91. 3 بدائع الصنائع 7/34، وتبيين الحقائق 3/ 182، والأم 7/358 وأسنى المطالب 4/127، والمبدع 9/63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 ثانياً: استدل أصحاب القول الثاني الذين قالوا بأنه يقتل حداً بالمعقول فقالوا: المستأمن إذا زنى بمسلمة يقتل حداً لأنه انتهك حرمات الدولة الإسلامية، ونقض العهد فيجب قتله ولا يجب مع القتل حد سواه.1 ثالثاً: استدل أصحاب القول الثالث بنفس الأدلة التي توجب إقامة الحد على المستأمن إذا كان الْمَزْنِيُّ بها كافرة، وقد تقدمت في الحالة الأولى. الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء في الحالتين وأدلتهم ومناقشتها اتضح لي أن الرأي القائل بوجوب إقامة حد الزنا على المستأمن سواء كان الْمَزْنِيُّ بها كافرة أو مسلمة هو الأرجح، وذلك للأسباب الآتية: 1- لعموم النصوص الموجبة لإقامة حد الزنا على المسلم وغيره، ولم يرد ما يخصص هذا العموم. 2- ولأن غالب الفقهاء قالوا بإقامة حد الزنا على الذمي لورود النصوص الصحيحة في هذا كحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد مضت، والمستأمن كالذمي في غالب الأشياء كالدين فكل منهما كافر، والعصمة فكل منهما معصوم الدم والمال، إلا أن الذمي عصمته مؤبدة، أما المستأمن فعصمته مؤقتة وهذا لا تأثير له في إقامة الحدود.   1 كشاف القناع 6/91، وبلغة السالك 2/421. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 3- أن المصلحة تقتضي إقامة الحد على المستأمن الزاني بمسلمة أو كافرة، وذلك لتطهير الدولة الإسلامية من الجرائم الخبيثة، وصيانة حرمتها، ومنع انتشار الفساد في أرضها والأمراض الخطيرة. 4- أن الزنا محرم في جميع الأديان والشرائع لما فيه من الضرر والمساوئ القبيحة التي تعم الجماعة كلها. 5- أن القصد من إقامة الحد على المستأمن هو الزجر له والردع لغيره حتى أن الأحناف أنفسهم قالوا شرعت الحدود للزجر. 6- أن تطبيق الحدود والعقوبات الشرعية في دار الإسلام متيسرة لثبوت الولاية في دار الإسلام لإمام المسلمين على المسلمين وغيرهم كالمستأمنين. 7- أن كون الزنا من حقوق الله تعالى لا يمنع من إقامة الحد على المستأمن لأن القصد من إقامة الحدود سواء كانت حقاً لله أو حقاً لعباده الزجر والردع لمن تسول له نفسه فعل هذه الأشياء الخبيثة والمذمومة، ومنع انتشار الفساد والأضرار التي تعود على المسلمين وغيرهم من وراء هذا الجرم القبيح. وبناء على هذه الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في إقامة حد الزنا على المستأمن في دار الإسلام، لأنه عندما كان في داره دار الكفر، لا يلتزم بأحكام الإسلام فلا يقام عليه حد الزنا، ولكن عندما دخل دار الإسلام بأمان، التزم لأحكام الإسلام فيما يرجع للحدود، فيقام عليه حد الزنا، وبهذا يختلف الحكم لاختلاف الدارين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 المبحث الثاني: أثره في قذف1 المستأمن في دار الإسلام إن حد القذف من الحدود التي أمر الله بإقامتها، لأن جريمة القذف من الجرائم الكبرى المخلة بالشرف والأخلاق، وقد حرمها الشارع ونهى عنها، والقذف من الكبائر الموبقة لصاحبها والمهلكة لفاعلها، وهو محرم باتفاق أهل العلم، وقد دل على تحريمه الكتاب، والسنة، والإجماع. فدليل تحريمه من الكتاب: قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .2 فقد أمر الله سبحانه وتعالى بجلد الذين يرمون المحصنات والجلد لا يكون إلا على فعل محرم.   1 القذف لغة: الرمي مطلقاً، والمصباح المنير 2/495، ولسان العرب 9/276، 277، والمبدع 9/83. وشرعاً: عرفة الحنفية والحنابلة بالرمي بالزنا. الاختيار 4/93، واللباب 3/195، والمبدع 9/83. وزاد الحنابلة اللواط. انظر: كشاف القناع 6/104. وهناك تعاريف أخرى لجريمة القذف عند المالكية والشافعية. انظر فيها: حاشية العدوي 2/299، ومغنى المحتاج 4/157. 2 النور: 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1 ففي هذه الآية قد توعد الله الذين يرمون المحصنات بالطرد والإبعاد من رحمته، والعذاب العظيم، وهذا أيضاً لا يكون إلا على فعل محرم. أما دليل تحريمه من السنة: فبما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".2 فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن السبع المهلكة لصاحبها والتي منها قذف المحصنات المؤمنات الغافلات، ولأنها من الكبائر والمحرمات التي يجب اجتنابها. أما الإجماع: فقد اجتمعت الأمة الإسلامية على تحريم القذف وأنه من الموبقات التي يجب اجتنابها.3   1 النور: 23. 2 أخرجه البخاري 4/185 كتاب الحدود باب رمي المحصنات، ومسلم 1/92 كتاب الإيمان باب بيان الكبائر. 3 اللباب في شرح الكتاب 3/195، وحاشية العدوي 2/300، ومغني المحتاج 4/157، والمبدع 3/83. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وعقوبة جريمة القذف هي جلد القاذف ثمانين جلدة كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .1 ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب إقامة حد القذف على المسلم إذا توفرت فيه الشروط2، وكذلك اتفقت المذاهب الأربعة على عدم وجوب إقامة حد القذف على المسلم إذا قذف ذمياً أو مستأمناً، لأنهم يشترطون أن يكون المقذوف محصناُ ومن شروط الإحصان الإسلام.3 لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَات} .4 وجه الدلالة من الآية: أن المحصنات معناها الحرائر، والغافلات معناه العفائف عن الزنا، والمؤمنات المسلمات.   1 النور: 4. 2 الاختيار 4/93، وحاشية العدوي 2/300، وكفاية الأخيار 2/114، والمبدع 3/83،84. 3 بدائع الصنائع 7/41، والمبسوط 9/119، وقوانين الأحكام الشرعية ص 386، مواهب الجليل 6/298، وبداية المجتهد 2/441، ومغني المحتاج 4/157، والأحكام السلطانية للماوردي ص 229، وكفاية الأخيار 2/114، وكشاف القناع 6/105، 114، والمغني 8/228، والمبدع 9/84، 85، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى ص 270. 4 النور: 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 فبينت الآية أن الإيمان والعفة عن الزنا شرط لوجوب الحد على القاذف، وحيث أن الكافر غير متوفر فيه هذا الشرط فلا يحد قاذفه.1 وقد جاء الإحصان في القرآن بمعاني متعددة منها الإسلام كما في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنّ} أي أسلمن هكذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبهاذ يجب اعتبار الإسلام شرطاً في إحصان المقذوف. ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "من أشرك بالله فليس بمحصن".2 فالحديث ظاهر الدلالة في أن الإسلام شرط للإحصان، فقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم الإحصان عن الكافر فلا إحصان إلا بالإسلام لأنه لو لم يشترط الإسلام لوجب الحد على قاذف الكافر وفي ذلك إكرام له، وكفره يقتضي إهانته وإذلاله لا إكرامه وعزته.3 ولأن الحد إنما وجب بالقذف دفعا لعار الزنا عن المقذوف وما في الكافر من عار الكفر أعظم.4 وخالف الظاهرية جمهور الفقهاء فقالوا يقام الحد على المسلم إذا قذف ذمياً أو مستأمناً.5   1 بدائع الصنائع 7/41، وتبيين الحقائق 3/200. 2 فتح القدير 1/451، والآية 25 من سورة النساء. 3 بدائع الصنائع 7/41، ومغني المحتاج 4/157. 4 بدائع الصنائع 7/41. 5 انظر: المحلى 11/268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .1 قال ابن حزم: "وهذا عموم تدخل فيه الكافرة والمؤمنة فوجب أن قاذفها فاسق إلا أن يتوب".2 ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، قول الزور".3 قالوا في وجه الدلالة من الحديث: إن قذف الكافرة البريئة من قول الزور بلا خلاف من أحد، وقول الزور من الكبائر كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 ولكن يمكن أي يرد عليهم بأن العموم في الآية مخصص بالآيات الأخرى التي بينت أن الإحصان من معانيه الإسلام وأنه شرط له. كما في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنّ} 5 أي أسلمن.6   1 النور: 4. 2 المحلى 11/268. 3 أخرجه البخاري 4/48 كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر. ومسلم 1/91، 92 كتاب الإيمان حديث رقم 88. 4 المحلى 11/369. 5 النساء: 25. 6 فتح القدير 1/451. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَات} .1 وكذلك مخصص بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أشرك فليس بمحصن".2 وأما حديث الكبائر فليس لهم فيه دلاله بل غابة ما يدل عليه الحديث أن شهادة الزور وقول الزور أي التكلم بغير الحق من الكبائر، فالحديث وارد لهذا الشأن ولم يرد في بيان قذف المسلم الكافر، وليس قذف الكافر من قول الزور كما قالوا، وليس باتفاق كما قالوا، بل جميع العلماء على خلاف قولهم. وبهذا يترجح رأي جمهور الفقهاء من أن المسلم إذا قذف ذمياً أو مستأمناً لا يقام عليه الحد، لأن الإحصان من شروطه الإسلام، والكافر ليس بمحصن لأنه غير مسلم، ولأن عرض الكافر أي كافر كان لا حرمة له، ولأنه ليس هناك عار أعظم من عار الكفر، فلا يحد قاذف الكافر لأنه لا يستحق هذه المكرمة، ولكن للمحافظة على أعراض المعصومين في دار الإسلام من الذميين والمستأمنين يعزر القاذف لهم من قبل الإمام كما صرح بذلك بعض الفقهاء.3 وفي هذا يقول ابن قدامة: "ولكن يجب تأديبه ردعاً له عن أعراض   1 النور: 23. 2 سبق تخريجه 116. 3 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص229، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص270. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 المعصومين وكفا له عن أذاهم.1 أما المستأمن الذي دخل دار الإسلام بأمان إذا قذف مسلماً أو مسلمة. فقال جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في وجه، والحنابلة والظاهرية يقام عليه حد القذف. وعللوا ذلك بأن الغالب في حد القذف أنه حق للعباد، والمستأمن قد التزم بعقد أمانه حقوق العباد. 2 ولأن الأئمة الأربعة يشترطون في المقذوف أن يكون محصناً ومن شروط الإحصان الإسلام، وهذا المقذوف مسلم فوجب إقامة الحد على قاذفه مسلماً كان أو كافرا مستأمناً أو ذمياً متى توفرت شروط إقامة الحد، ولأن المستأمن كالذمي، والذمي يقام عليه الحد بالاتفاق، فكذلك المستأمن. وذهب فقهاء الشافعية في وجه إلى عدم إقامة حد القذف على المستأمن إذا قذف مسلماً أو مسلمة، لأن حد القذف حق لله تعالى   1 انظر: المغني 8/228. 2 انظر: المبسوط 9/109ن وشرح فتح القدير 5/338، وحاشية ابن عابدين 4/56، وبداية المجتهد 2/4420، وقوانين الأحكام الشرعية ص 386، والمدونة 6/222، ومنح الجليل 4/503، وحاشية العدوي 2/301، وروضة الطالبين 10/106، والمهذب 2/336، ومغني المحتاج 4/157، والمغني 8/216، وكشاف القناع 6/105، والمحلى 11/274. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 والمستأمن غير ملتزم بحقوق الله، بل إنه غير ملتزم بأحكام الإسلام لأن مدة إقامته بدار الإسلام مؤقتة غير مؤبدة كالذمي.1 ولكن الراجح هو قول الجمهور أن المستأمن إذا قذف المسلم يقام عليه حد القذف زجراً له، وردعاً لغيره من المستأمنين، وحتى لا ينتشر الفساد في دار الإسلام، وحتى لا يقع الاستخفاف بالمسلمين، والتعدي على أعراضهم من قبل المستأمنين، ولأن المستأمن ما عصم دمه وماله إلا في مقابل التزامه بغالب الأحكام الإسلامية والتي من جملتها إقامة حد القذف إذا وقع منه في حق المسلم. وبناء على هذا الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في ارتكاب جريمة القذف من المستأمن في دار الإسلام. أما إذا قذف المستأمن مستأمناً آخر أو ذمياً في دار الإسلام فجمهور الفقهاء قالوا لا يقام عليه الحد لأنهم يشترطون في المقذوف أن يكون محصناً ومن شروط الإحصان الإسلام، وهنا لم يتحقق الشرط في المقذوف لأنه كافر.2 وقال الظاهرية: الكافر المستأمن إذا قذف كافراً مستأمناً كان أو ذمياً يقام عليه حد القذف.   1 انظر: حاشية قليوبي وعميره 4/184، وتحفة المحتاج 9/119. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/41، والمبسوط 98/119، وبداية المجتهد 2/441، وقوانين الأحكام الشرعية ص 386، وكفاية الأخيار 2/114، والأحكام السلطانية للماوردي ص 229، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 270، والعدة ص 562. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وفي هذا يقول ابن حزم: "وأما إذا قذف الكافر كافراً فليس إلاّ الحد فقط، على عموم أمر الله تعالى فيمن قذف محصنة بنص القرآن".1 ولأن الظاهرية كما سبق لا يشترطون الإسلام للإحصان، فبذلك يجب عندهم الحد على قاذف الكافر، مسلماً كان القاذف له أو كافراً آخر. وقد سبق الرد عليهم وبأن العموم الذي في الآية مخصص بالآيات الأخرى التي اشترطت الإسلام للإحصان وبالسنة التي بينت أن الإسلام شرط للإحصان. وبهذا يكون قول الجمهور هو القول المختار وأن المستأمن إذا قذف مستأمناً آخر أو ذمياً لا يقام عليه الحد، لأن الإسلام شرط للإحصان المشروط في المقذوف، والكافر ليس بمحصن لأنه غير مسلم. ولكن يعزر ويؤدب المستأمن إذا قذف غيره من الكفار في دار الإسلام، زجراً له، وردعاً لغيره، ومحافظة على أعراض المعصومين في دار الإسلام من الذميين والمستأمنين، ومحافظة على دار الإسلام من انتشار الفساد فيها.2   1 انظر: المحلى لابن حزم 11/275. 2 انظر: كشاف القناع 6/114. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 المبحث الثالث: أثره في إقامة حد السرقة على المستأمنين في دار الإسلام إن جريمة السرقة من الجرائم المحرمة البشعة، وتنشر الفساد في الأرض. وقد ثبت النهي عنها وأنها من الجرائم المحرمة بالأدلة القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسل وإجماع المسلمين. فدليل تحريمها من الكتاب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .1 فقد أمر الله عزوجل بقطع يد السارق، ولو لم تكن السرقة محرمة وفاعلها قد ارتكب كبيرة من الكبائر، لما أرم الله عزوجل بقطع يد السارق بتلك الجريمة. ووصف هذه العقوبة بالشدة، ووسمها بالنكال، دليل أيضاً على فظاعة هذا الجرم، وعظم ذنب فاعله، ومثل هذا العقاب لا يكون إلا فعل محرم فتكون السرقة محرمة. أما دليل تحريمها من السنة فبما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسل قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده".2   1 المائدة: 38. 2 أخرجه البخاري 4/174 بكتاب الحدود باب السرقة، ومسلم 3/1414 كتاب الحدود حديث رقم 1687. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، ولا يكون إلا على فعل محرم، فثبت بهذا أن السرقة من الجرائم المحرمة. وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريم السرقة وأن عقوبة فاعلها قطع يده.1 أما السرقة من المستأمن في دار الإسلام فلا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون المستأمن هو السارق، سواء سرق من مال مسلم، أو من مال مستأمن آخر أو ذمي، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إقامة الحد عليه إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: المستأمن إذا سرق من مال المسلم أو غيره من الكفار المقيمين في دار الإسلام لا يقام عليه حد السرقة. وهو قول فقهاء الحنفية وأشهب2 من المالكية، والشافعية في أصح   1 الاختيار 4/103، وبداية المجتهد 2/447، وكفاية الأخيار 2/116، والمبدع 9/114. 2 هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمر ويقال اسمه مسكين، ثقة فقيه من أصحاب الإمام مالك، قال الإمام الشافعي ما أخرجت مصر ثقة أفقه من أشهب ولد سنة 145، وتوفي سنة 204 بمصر. تقريب التهذيب 1/80، والأعلام 1/333. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الأوجه وابن حامد1 من الحنابلة.2 القول الثاني: المستأمن إذا سرق من مال المسلم أو غيره، يقام عليه حد السرقة. وهو مروي عن الأوزاعي وابن أبي ليلى. وهو قول فقهاء المالكية، والحنابلة، ووجه للشافعية، ورواية لأبي يوسف من الحنفية.3 القول الثالث: أن المستأمن يقام عليه حد السرقة إذا اشترط عليه ذلك في عقد الأمان. وهو وجه للشافعية حسنه النووي.4   1 هو الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي، إمام الحنابلة في زمنه، توفي سنة 403 وله الجامع في المذهب وشرح الخرقي. انظر: شذرات الذهب 4/166. 2 المبسوط 9/178، وبدائع الصنائع 7/71، وحاشية ابن عابدين 4/83، وتبيين الحقائق 3/185، ومنح الجليل 4/538، وروضة الطالبين 10/142، ومغني المحتاج 4/175، وقليوبي وعميرة 4/196، وتكملة المجموع للمطيعي 19/9، والمبدع 9/135، والإنصاف 10/281. 3 الكافي لابن عبد البر 2/1080، والمدونة 6/168، والشرح الصغير 4/405، والجامع لأحكام القرآن 6/168، والإنصاف 10/281، والمبدع 9/135، والمغني 8/401، وكشاف القناع 6/142، وروضة الطالبين 10/142، ومغني المحتاج 4/175، والمبسوط 9/178، وبدائع الصنائع 7/71. 4 روضة الطالبين 10/142، والمغني المحتاج 4/175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الأدلة: أولاً: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يلي: 1- أن المستأمن عندما يسرق من مال المسلم أو غيره في دار الإسلام توفرت فيه شبهة الإباحة، لأنه لم يلتزم بأحكام الإسلام كلها، فيعتقد أن ذلك مباحاً له، وهذه شبهة مسقطة للحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات.1 ورد على ذلك: بأن المستأمن بمجرد عقد الأمان فقد التزم بأحكام الإسلام. فيما يرجع إلى المعاملات والحدود، لأنه سيعصم دمه وماله في مقابل الالتزام بهذه الأحكام، ولو ترك المستأمن يدخل دار الإسلام هكذا بدون التزام لأحكام الإسلام، لما كان لعقد الأمان فائدة، وانتفت الحكمة من جوازه، لأن من أهم الحكم التي شرع الله من أجلها عقد الأمان هو الالتزام بأحكام الإسلام، للإطلاع على محاسنه وعدالته، مما يكون سبباً في اعتناقه. وبما انه مشروط عليه الالتزام بأحكام الإسلام العامة، تنتفي شبهة الإباحة التي يعتقدها، كما قال الحنفية. 2- أن حد السرقة الغالب فيه أنه حق لله تعالى، والمستأمن لم يلتزم   1 بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/181. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الأحكام التي هي حقوق لله تعالى، كحد السرقة، فمن أجل ذلك لا يقام عليه الحد، بخلاف الأحكام التي هي حقوق للعباد، فإن المستأمن يؤاخذ بها عليه ويقام عليه الحد إذا ارتكب موجبها كالقذف.1 ويرد على ذلك بأن هذا الاستدلال فيه ضعف لأن حق الله تعالى هو حق المجتمع كما يقول الأحناف أنفسهم.2 وإنما نسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشأنه، فلا يكون الحق سبباً في إسقاط حد السرقة عن المستأمن. ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس. أ - دليلهم من الكتاب: عموم النصوص الموجبة لقطع بد السارق من غير فرق بين المسلم وغيره كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 الآية. فلفظ السارق في الآية عام يشمل المسلم وغير المسلم كالمستأمن في دار الإسلام. ب - دليلهم من السنة: هو عموم الأحاديث التي تأمر بقطع بد السارق المسلم وغيره.   1 نفس المراجع السابقة. 2 المبسوط 9/56. 3 المائدة: 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 ومنها: قوله صلى الله عليه وسل في حديث عائشة رضي الله عنها: "تقطع يد السارق في ربع دينار".1 فلفظ السارق في الحديث عام في المسلم وغيره. ج - دليلهم من المعقول: من خمسة أوجه: 1- أن المسلم إذا سرق من مال المستأمن يقام عليه الحد، فإقامة الحد على المستأمن إذا سرق المسلم أو غيره في دار الإسلام من باب أولى. 2- أن المستأمن ملتزم لأحكام الإسلام مدة إقامته بدار الإسلام فصار كالذمي، والذمي يقام عليه الحد بالاتفاق فكذلك المستأمن. 2 وفي هذا يقول السرخسي: "المستأمن ملتزم للأحكام فيما يرجع إلى المعاملات والعقوبات، فيعاقب بارتكاب أسباب العقوبات".3 3- أن السرقة من الفساد في الأرض، فلا بد من عقاب زاجر يمنع كل أحد تسول له نفسه ارتكاب هذه الجريمة البشعة في دار الإسلام. 4- أن العصمة التي للمسلم بسبب إسلامه، وللذمي بعقد الذمة موجودة في المستأمن بعقد أمانه المؤقت، الذي أعطاه حق الإقامة المؤقتة في   1 أخرجه البخاري 4/173 كتاب الحدود باب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ومسلم 3/1312 كتاب الحدود باب حد السرقة 9/56 حديث رقم 1684. 2 المبسوط 9/56 ومنح الجلي 4/538 ومغني المحتاج 4/175 وكشاف القناع 6/142، والمبدع 9/135، والإنصاف 10/281. 3 انظر: المبسوط 9/56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 دار الإسلام، وحد السرقة يقام على المسلم والذمي بالاتفاق، لالتزامهما أحكام الإسلام فكذلك المستأمن، يقام عليه الحد بجامع العصمة في دار الإسلام والتزام الأحكام، وإلا لما كان لعقد الأمان فائدة تعود على المسلمين إذا لم يلتزم أحكامهم. 5- أن إفساد المال يحصل بسرقة المستأمن كما يحصل بسرقة المسلم والذمي سواء بسواء، فلذا يقام عليه الحد، لأن في ذلك درءاً لكثير من المفاسد.1 د - دليلهم من القياس: من وجهين: 1- القياس على حد القذف: قالوا: فكما يقام حد القذف على المستأمن القاذف للمسلم، صيانة للأعراض، فكذلك يقام عليه حد السرقة صيانة للأموال. 2- القياس على القصاص: قالوا: فكما يقتص للمسلم من المستأمن إذا جنى عليه حفظاً للأرواح، فكذلك تقطع يده إذا سرق ماله حفظاً للأموال.2 ثالثاً: أدلة أصحاب القول الثالث: استدلوا بالمعقول فقالوا:   1 منح الجلي 4/38، والخرشي 8/102، ومغني المحتاج 4/175، والمغني 8/268، والمبدع 9/135، والفروع 6/134، وكشاف القناع 6/142، والمبسوط 9/56. 2 المغني 8/268، والمبدع 9/135، والفروع 6/134، وكشاف القناع 6/142. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 إن المستأمن إذا شرط عليه ذلك في العقد يقام عليه الحد، لأنه التزم أحكام الإسلام، والتي منها إقامة الحدود عليه كحد السرقة، أما إذا لم يشترط عليه ذلك في العقد فلا يقام عليه الحد، لعدم التزامه لأحكام الإسلام.1 ويرد على ذلك بأن المستأمن بمجرد عقد الأمان فهو ملتزم لأحكام الإسلام، اشترط عليه ذلك أولم يشترط، لأن من أهم شروط عقد الأمان هو الالتزام بالأحكام الإسلام العامة. الرأي المختار: وبعد ذكر آراء الفقهاء وأدلتهم، ما ورد عليها من مناقشات، يتضح لي أن الرأي الثاني القائل بإقامة الحد على المستأمن إذا سرق في دار الإسلام هو الرأي المختار والذي ينبغي المصير إليه. وذلك للأسباب الآتية: 1- لأن أدلة المخالفين ليست قوية، بينما أدلة من قال بوجوب إقامة حد السرقة على المستأمن إذا سرق في دار الإسلام، قوية. 2- ولأن السرقة من الفساد في الأرض، وأضرار هذه الجريمة ومفاسدها لا تنتفي إذا كان مرتكبها مستأمناً، فيقام عليه الحد صيانة لدار الإسلام من هذا الفساد، وحفظاً لأموال المسلمين وغير المسلمين المقيمين في دار الإسلام، ومنعاً لانتشار الجرائم فيها. وردعاً وزجراً للمجرمين، وتحقيقاً للأمن على النفس والمال والعرض لكل فرد من الأفراد.   1 روضة الطالبين 10/142، ومغني المحتاج 4/175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 3- ولأن الأصل في الشريعة الإسلامية العموم، فتطبق ما أمكن التطبيق، وتطبيقها على المستأمن ميسور في دار الإسلام، لثبوت ولاية الإمام على من فيها من المستأمنين، فيجب تطبيق العقوبات الشرعية على من يرتكب الجرائم في دار الإسلام مسلماً كان أو غير مسلم صيانة لها ومحافظة على من فيها. أما الحالة الثانية: فهي أن يكون المستأمن هو المسروق سواء كان السارق له مسلماً أو مستأمناً آخر: فقد اختلف الفقهاء في وجوب إقامة الحد على المسلم أو غيره إذا سرق من مال المستأمن في دار الإسلام إلى قولين: القول الأول: يقام الحد على السارق من مال المستأمن مسلماً كان السارق أو ذمياً أو مستأمناً آخر. وهو قول فقهاء المالكية والحنابلة وزفر من الحنفية.1 القول الثاني: لا يقام الحد على المسلم أو غيره إذا كان المسروق هو المستأمن. وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا زفر وبه قال الشافعية.2   1 انظر: المدونة 6/291، والخرشي 8/96، والمنح الجليل 4/524، وبلغة السالك 2/428، والمغني 8/369، والمبدع 9/135، والإفصاح 2/261، وكشاف القناع 6/142، والمبسوط 9/181، وبدائع الصنائع 7/71. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/18، وحاشية رد المحتار 4/84، ومغني المحتاج 4/175، وتحفة المحتاج 9/150، ونهاية المحتاج 7/440، والمهذب 2/277، وقليوبي وعميرة 4/196، والإقناع 2/ 193. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 الأدلة: استدل أصحاب القول الأول بما يلي: 1- أن مال المستأمن معصوم بالأمان، بدليل وجوب ضمانه بالإتلاف، فيقام الحد على سارقه مسلماً كان أو غيره.1 2- أن المسلم سرق مالاً معصوماً من حرز مثله كسارق مال الذمي، وسارق مال الذمي يقطع لأنه استفاد العصمة المؤبدة بعقد الذمة فكذلك سارق المستأمن، لأنه معصوم عصمة مؤقتة، وهي تقتضي المحافظة على ماله من الاعتداء عليه في دار الإسلام حتى يرجع إلى داره.2 واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي: 1- أن المستأمن لا يقام عليه الحد إذا سرق مال المسلم أو الذمي، فكذلك لا يقام الحد على المسلم أو غيره إذا سرق من ماله من باب أولى، ولأنه لم يلتزم الأحكام أشبه الحربي3. يرد على ذلك بأنا لا نسلم بعدم قطع المستأمن إذا سرق من مال المسلم أو غيره، بل دلت الأدلة على أنه يقام عليه حد السرقة إذا سرق   1 انظر: كشاف القناع 6/142، والمبدع 9/135، والشرح الكبير 4/336 والخرشي 8/96، وبدائع الصنائع 7/71. 2 بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/181، والمغني 8/269. 3 انظر: مغني المحتاج 4/175، والمهذب 2/336، والإقناع للشربيني 2/193. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 من مال المسلم أو غيره فكذلك يقام الحد على سارق ماله لأنه معصوم بالأمان.1 2- أن المسلم سرق مالاً فيه شبهة الإباحة لأن الحربي المستأمن من أهل دار الحرب، وإنما دخل دار الإسلام ليقضي حاجته ثم يعود إلى داره، فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة الإباحة في ماله، ولهذا لا يقتل المسلم به نظراً لشبهة الإباحة في دمه، بخلاف الذمي فإنه من أهل دار الإسلام ومعصوم الدم والمال عصمة مؤبدة ليس فيها شبهة الإباحة.2 يمكن الرد على ذلك: بأننا لا ننكر أن المستأمن من أهل دار الحرب، وهذا لا يمنع من إقامة الحد على سارق ماله لأنه بمجرد عقد الأمان فقد عصم ماله ودمه، والعصمة تقتضي المحافظة على ماله من الاعتداء عليه، والمحافظة لا تتحقق إلا إذا أقيم الحد على من يسرق ماله. ولو قلنا بعدم إقامة حد السرقة على من سرق مال المستأمن لسوينا بينه وبين الحربي غير المستأمن، وهذا يتنافى مع المبادئ والأسس التي تقوم عليها الشريعة، وهي عدم المساواة بين الحربية والمستأمن. الرأي المختار: بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم يتبين لنا أن الرأي القائل أن المسلم أو غيره إذا سرق من مال المستأمن يقام عليه حد السرقة - وذلك لما يلي:   1 انظر: بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/181، ومغني المحتاج 4/175. 2 انظر: المصادر السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 1- لأن مال المستأمن معصوم بمجرد عقد الأمان، والعصمة لا تكون كافية إلا إذا أقيم حد السرقة على من يسرق ماله مسلماً كان أو غيره، وإلا لما كان للأمان فائدة. 2- ولأن الغرض من إقامة الحدود الزجر والردع لمن يفعل هذه الجرائم والأخذ بهذا الرأي يحقق ذلك الغرض. 3- ولأن المستأمن إذا سرق يقام عليه الحد، فيقابل هذا المحافظة على ماله، وحمايته من الاعتداء عليه، والحماية لا تكون كافية إلاّ إذا أقيم حد السرقة على من يسرق ماله من المسلمين أو غيرهم. وبهذا يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في إقامة حد السرقة على المستأمنين المقيمين في دار الإسلام. وكذلك أثر اختلاف الدار في إقامة حد السرقة على المسلم السارق من مال المستأمن، فمال المستأمن في درا الإسلام يختلف عنه في دار الكفر، فما له في دار الإسلام معصوم بأمانه، ويقام الحد على من سرقه أو اعتدى عليه، أما في دار الكفر فما له مباح، ولا يقام الحد على من سرقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 المبحث الرابع: أثره في إقامة حد الحرابة على المستأمن في دار الإسلام إن جريمة الحرابة من الجرائم المحرمة التي أوجب الله على مرتكبها العقوبة الرادعة في الدنيا، مع الوعيد الشديد الذي توعد الله به المحارب في الدار الآخرة، إذا لم يتب، وأطلق عليها بعض الفقهاء السرقة الكبرى، فبهذا يعظم ذنبها وتزداد عقوبتها، وهي محرمة بكتاب الله عزوجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين. فدليل التحريم من كتاب الله: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1 فالآية نص صريح في تحريم الحرابة، فالقتل والصلب والقطع والنفي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، لا يكون إلا على فعل محرم وهذا يدل على أن الحرابة محرمة. أما دليل تحريم الحرابة من السنة: فبما روى أنس بن مالك رضي الله عنه   1 المائدة: 33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع العرنيين وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا.1 ولو لم يكن فعلهم هذا محرماً لما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم من خلاف وفقأ أعينهم وتركهم حتى ماتوا، قال النووي: "هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين "2 أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريم الحرابة وأنها من كبائر الذنوب ومن الفساد في الأرض.3 ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب إقامة حد الحرابة على المسلم المحارب للمسلمين في دار الإسلام.4 أما المستأمن في دار الإسلام فلا يخلو من حالتين: فإما أن يكون محارَباً أو محارِباً.   1 أخرجه البخاري 4/174،175 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة. ومسلم 3/1296 كتبا القسامة باب حكم المحاربين والمرتدين. والحديث روي بألفاظ عديدة في الصحيح والقصة مشهورة ومغنى سمل أعينهم أي فقأها وأذهب ما فيها. أما الحرة التي تركهم فيها الحرة المعروفة بالمدينة وهي ذات الحجارة السوداء في الجهة الشرقية منها ز انظر: شرح النووي على مسلم 11/155، والمصباح المنير 1/289. 2 شرح النووي على مسلم 11/153. 3 الاختيار 4/114، وقوانين الأحكام الشرعية ص 392، وكفاية الأخيار 2/119، والمبدع 9/144. 4 المرجع السابق نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الحالة الأولى: أن يكون المستأمن هو المحارب في دار الإسلام من قبل المسلمين أو غيرهم. وقد اختلف الفقهاء في وجوب إقامة حد الحرابة على المحارب للمستأمن في دار الإسلام إلى قولين: القول الأول: لا يقام الحد على قاطع الطريق على المستأمن مسلماً كان أو ذمياً أو مستأمناً. وهو قول فقهاء الحنفية، والشافعية في أصح الأوجه.1 القول الثاني: يقام حد الحرابة على المسلم أو غيره إذا قطع الطريق على المستأمن. وهو قول المالكية والحنابلة ووجه للشافعية.2 الأدلة: استدل أصحاب القول الأول بما يلي: 1- أن مال المستأمن الحربي ليس بمعصوم على الإطلاق، بل في عصمته شبهة العدم، لأنه من أهل دار الحرب، وإنما العصمة بعارض   1 بدائع الصنائع 7/91، والمبسوط 9/195، وحاشية الدر المختار 4/113، وأسنى المطالب 4/150، وتحفة المحتاج 9/150، وقليوبي وعميرة 4/196. 2 مواهب الجليل 6/314، وشرح الخرشي 8/104، وجواهر الإكليل 2/294، والمدونة 6/407، والإنصاف 10/281، والهداية للكلوذاني 2/105، وشرح منتهى الإرادات 3/336، ومغني المحتاج 4/175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الأمان مؤقتة إلى غاية العودة إلى دار الحرب، فكان في عصمته شبهة الإباحة، فلا يقام الحد على من قطع عليه الطريق كما لا يقام الحد على من سرق ماله، بخلاف الذمي، فإن عقد الذمة أفاد له العصمة المؤبدة فتعلق الحد بأخذه كما يتعلق بسرقته.1 2- أنه لا يقام الحد على المستأمن إذا قطع الطريق على المسلم فكذلك لا يقام الحد على المسلم إذا قطع الطريق عليه من باب أولى.2 واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي: 1- أن المستأمن ما التزم أحكام الإسلام إلا في مقابل حمايته، وعصمته ما له ودمه، ولو قلنا بعدم إقامة الحد على قاطع الطريق على المستأمنين لما استفاد المستأمن من عقد الأمان.3 الرأي المختار: والمختار من أقوال الفقهاء هو إقامة حد الحرابة على قاطع الطريق على المستأمن مسلماً كان أو ذمياً أو مستأمناً آخر. 1- لأن المستأمن معصوم الدم والمال، بعقد الأمان وفي مقابل هذه العصمة يقام الحد على قاطع الطريق عليه. 2- ولأن هذا الرأي يتفق مع عدالة الشريعة بين البشر فكما يقام   1 انظر: بدائع الصنائع 7/91، والمبسوط 9/195. 2 شرح السير الكبير 5/1602، ومغني المحتاج 4/180. 3 كشاف القناع 6/149. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الحد عليه إذا حارب المسلمين أو غيرهم في دار الإسلام، فكذلك يقام الحد على المحارِب له. 3- ولأن في إقامة الحدود على المجرمين سواء كانوا مسلمين أو غيرهم، صيانة لدار الإسلام، ومنعاً لانتشار الفساد فيها، وزلزلة أمن المجتمع، فيقام الحد على المحاربين في دار الإسلام من المسلمين أو غيرهم تحقيقاً لهذا الغرض. 4- ولأن إقامة حد الحرابة على قاطع الطريق على المستأمن في دار الإسلام من الوفاء بالعهد الذي أوجبت الشريعة الإسلامية الالتزام به وعدم نقضه ما دام المستأمن متمسكاً به ولم يحدث منه ما يوجب النقض. الحالة الثانية: أن يكون المستأمن هو المحارِبْ: المستأمن إذا قطع الطريق في دار الإسلام على المسلمين وغير المسلمين اختلف الفقهاء في وجوب إقامة الحد عليه إلى قولين. القول الأول: المستأمن إذا قطع الطريق في دار الإسلام لا يقام عليه حد الحرابة. وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف وبه قال فقهاء الشافعية والحنابلة إلا أنه ينتقض أمانه بارتكاب هذه الجريمة عند الشافعية والحنابلة.1 أما الحنفية فقالوا لا ينتقض أمانه، وقاسوا الأمان على الإيمان   1 انظر: المبسوط 9/55، وشرح السير الكبير 5/1602، ونهاية المحتاج 8/2، ومغني المحتاج 4/180، وكشاف القناع 6/78 – 149، وغاية المنتهى 3/396. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فالمسلم إذا قطع الطريق لم يكن فعله ناقضاً لإيمانه. فكذلك المستأمن لا ينتقض أمانه بالحرابة. القول الثاني: يقام حد الحرابة على المستأمن إذا قطع الطريق في دار الإسلام قال به الأوزاعي والمالكية وأبو يوسف من الحنفية.1 الأدلة: أ - أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا بعدم إقامة حد الحرابة على المستأمن: 1- بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 2 قالوا في وجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمر المسلمين إبلاغ المستأمن مأمنه، وفي إقامة حد الحرابة عليه تفويت لهذا الحق فلا يقام عليه.3 2- أن المستأمن لا تقام عليه الحدود التي هي حق لله تعالى، كحد الزنى، والسرقة، وقطع الطريق، - بخلاف الحدود والجنايات التي هي حق للعبد، فإنها تقام عليه كحد القذف، وجناية القصاص.4   1 انظر: المدونة 6/275، والتاج والإكليل 6/314، وشرح الخرشي 8/104، وتبصرة الحكام 2/251، والمبسوط 9/195، وحاشية ابن عابدين 4/13. 2 التوبة: 6. 3 انظر: المبسوط 9/56. 4 المرجع السابق نفسه، والهداية 4/154. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 3- أن المستأمن لم يلتزم أحكام الإسلام، وليس من أهل دار الإسلام وإنما دخل لحاجة يقضيها ثم يرجع إلى داره فلا يقام عليه حد الحرابة.1 ب- أدلة أصحاب القول الثاني الذين قالوا بوجوب إقامة حد الحرابة على المستأمن: 1- استدلوا بعموم النصوص الموجبة بإقامة حد الحرابة من غير فرق بين المسلم وغير المسلم. كقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف} 2 فالآية عامة في وجوب إقامة حد الحرابة على المسلم وغيره كالمستأمن في دار الإسلام. 2- وبحديث العرنيين السابق3. فهو نص في وجوب إقامة حد الحرابة على مرتكبيها من المسلمين أو غيرهم كالمستأمنين. 3- ولأن المستأمن عندما عقد الأمان وصار مقيماً في دار الإسلام صار ملتزماً لأحكامه، فيقام عليه حد الحرابة كما يقام عليه حد القصاص والقذف والسرقة.4   1 انظر: المبسوط 9/56، وبدائع الصنائع 7/91. 2 المائدة: 33. 3 سبق تخريجه ص 136. 4 كشف القناع 6/78، وغاية المنتهى 3/396، وشرح منتهى الإرادات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 4- أن الغرض من إقامة الحدود هو الزجر والردع لمن يرتكب مثل هذه الجرائم، وفي إقامتها تحقيق لهذا الغرض، وكذلك تقام الحدود صيانة لدار الإسلام، فلو قلنا بعدم إقامتها على المستأمن لرجع ذلك إلى الاستخفاف بالمسلمين وما أعطي الأمان ليحصل منه ذلك.1 الرأي المختار: يتضح لنا مما سبق بيانه أن الرأي المختار هو القائل بإقامة حد الحرابة على المستأمن إذا قطع الطريق على المسلمين أو غيرهم في دار الإسلام وذلك للأسباب الآتية: 1- لأن الأصل في العقوبات الإسلامية سريانها على جميع المقيمين في دار الإسلام وتطبيقها عليهم. 2- ولأن الجرائم كلها قائمة على الفساد في الأرض، وشرع العقاب لمنع هذه الجرائم، وانتشار الفساد في الأرض، وحتى ينزجر ويرتدع من تسول له نفسه ارتكاب هذه الجرائم في دار الإسلام. 3- ولأن اعتبار حد الحرابة من حقوق الله لا يمنع من إقامة الحد على المستأمن لأن حق الله هو حق المجتمع.2 4- ولأن علة الحد وهي المحاربة عامة فتشمل المستأمن وغيره. 5- ولأن هذا هو الذين يؤديه الدليل فالآية عامة في إقامة حد   1 المبسوط 9/56. 2 أحكام الذميين والمستأمنين ص 232، 233. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الحرابة فتشمل المسلمين وغير المسلمين، والحديث السابق دل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع أيدي العرنيين وأرجلهم ولم يفرق بين المسلم وغيره. 6- ولأن المستأمن يجب إبلاغه مأمنه كما دلت الآية، ولكن ذلك فيما إذا دخل المستأمن دار الإسلام والتزم بمقتضى عقد الأمان، وهو الكف عن الجرائم التي تضر بالمسلمين وغيرهم، كجريمة الحرابة، أما إذا دخل دار الإسلام ولم يلتزم بعقد الأمان، وأخذ يرتكب الجرائم المؤدية إلى الفساد في الأرض وزلزلة أمن المجتمع، فعند ذلك لا حرمة له، وتقام عليه الحدود زجراً له وردعاً لأمثاله. وأيضاً الأولى لفقهاء الحنابلة أن يقولوا بإقامة حد الحرابة على المستأمن لأنهم قالوا بإقامة حد السرقة عليه وهذا أولى وضرره أعم ولأنهم قالوا بوجوب إقامة حد الحرابة على المسلم أو غيره إذا قطع الطريق على المستأمن وإقامته على المستأمن من باب أولى. وبناءً على هذا الاختيار يتضح لنا أثر اختلاف الدار في إقامة حد الحرابة على المستأمن في دار الإسلام. وكذلك في إقامته على المحارب للمستأمن من المسلمين أو غيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 المبحث الخامس: أثره في ارتكاب جريمة البغي من المستأمن في دار الإسلام إن جريمة البغي من الجرائم المحرمة في الشريعة الإسلامية لأن فيها خروجاً عن طاعة الإمام الذي أمرنا بطاعته والولاء له، وهي من أخطر الجرائم التي تهدد أمن الدولة وسلامتها، فمن أجل ذلك شدد الشرع في عقوبة من ارتكب هذه الجريمة في دار الإسلام. وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريمها. فدليل تحريمها من الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1 فقد أمر الله في هذه الآية الكريمة بقتل الطائفة التي تبغي وتخرج عن طاعة الإمام، وتنفرد برأيها الخاص، والقتل لا يكون إلا على فعل محرم. أما دليل تحريمها من السنة: فبما روي عن عرفجة بن شريح رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه" 2   1 الحجرات: 9. 2 أخرجه الإمام مسلم 3/480 كتاب الإمارة باب حكم من فرق أمر المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 فالحديث يدل على قتل من يريد تفريق جماعة المسلمين، والقتل لا يكون إلا على فعل محرم. أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريم جريمة البغي، وأن عقوبة فاعلها إذا أصر عليها هو القتل1 أما المستأمنون إذا ارتكبوا هذه الجريمة في دار الإسلام فلا يخلوا ذلك من حالتين. الحالة الأولى: أن يرتكب المستأمنون جريمة البغي منفردين بأن يخرجوا عن طاعة إمام المسلمين ويعلنوا ذلك في دار الإسلام. فقد اتفق الفقهاء على أنهم بفعلهم هذا قد ارتكبوا جريمة محرمة نقضت عهدهم وصاروا كالحربيين الذين لا أمان لهم، ويجب قتالهم حتى يؤمن شرهم، وتكسر شوكتهم، وذلك لأنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين المسلمين عندما عقد معهم الأمان على عدم الإضرار بالمسلمين. ولأنهم خرجوا على الدولة وهددوا أمنها واستقرارها وسلامتها،   1 الاختيار 4/151، وقوانين الأحكام الشرعية ص 393، وكفاية الأخيار 2/122، والمبدع 9/160،161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 كالبغاة المسلمين فتقام عليهم العقوبة كما تقام على المسلمين1 أما لحالة الثانية: فهي: أن يرتكب المستأمنون جريمة البغي بالاشتراك مع بعض البغاة المسلمين فقد اختلف الفقهاء في إقامة حد الحرابة عليهم إلى قولين: القول الأول: أن المستأمنين إذا ارتكبوا هذه الجريمة بالاشتراك مع البغاة المسلمين انتقض عهدهم وصاروا حربيين لا أمان لهم، وحلت دماؤهم وأموالهم كالبغاة المسلمين. وهو قول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة2 القول الثاني: المستأمنون إذا ارتكبوا جريمة البغي مع بعض البغاة المسلمين لا ينتقض عهدهم ويعاقبون بالعقوبة المشروعة لهذه الجريمة لأنه صاروا تبعاً للمسلمين في هذه الجريمة، والمسلم لا ينتقض إيمانه إذا ارتكب هذه الجريمة، فكذلك المستأمن لا ينتقض أمانه بها. وهو قول فقهاء الحنفية3 والمختار في هذا أن المستأمنين إذا ارتكبوا هذه الجريمة المحرمة سواء   1 انظر: المبسوط 10/136، وشرح السير الكبير 2/103، والمدونة 6/115، ومغني المحتاج 4/129، والمغني 8/121، والإنصاف 10/320. 2 المرجع السابق نفسه. 3 انظر: المبسوط 10/128، وفتح القدير 4/415، وحاشية ابن عابدين 3/429. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 كانوا منفردين أو مشتركين مع البغاة المسلمين انتقض عهدهم وحلت دماؤهم وأموالهم كالحربيين. لأنهم ارتكبوا جريمة هددت أمن الدولة الإسلامية وما عقد معهم الأمان للخروج على المسلمين والإضرار بهم. ولأن هذه الجريمة محرمة في دار الإسلام من المسلمين أنفسهم، ويستحقون العقوبة إذا لم يرجعوا عن فعلهم هذا، فكيف بالكافر الحربي الذي عقد معه الأمان على ألا يتعرض لأهل الإسلام، ويحافظ على دولتهم، ثم يرتكب هذا الجرم القبيح، فإنزال العقوبة الرادعة بحقه من باب أولى. وبهذا يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في ارتكاب جريمة البغي من المستأمن في دار الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 المبحث السادس: أثره في تجسس المستأمن في دار الإسلام إن جريمة التجسس على المسلمين من المستأمن أو من غيره من أعظم الجرائم المحرمة، لأن فيها محاولة للإطلاع على عورات المسلمين، وأسرار الدولة الإسلامية، وإخبار أعدائهم بذلك، مما يوجب إنزال العقوبة الرادعة لمرتكبي هذه الجريمة البشعة سواء كان التجسس عن طريق السماع أو الأجهزة الحديثة المتقدمة. وهي محرمة بالكتاب والسنة: فدليل تحريمها من الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} 1 فالآية الكريمة نص صريح في تحريم التجسس، لأن الله سبحانه وتعالى نهى عباده المؤمنين عنه، والنهي يفيد التحريم. أما الدليل من السنة: 1- فبما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم   1 الحجرات: 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً".1 فهذا الحديث يدل على تحريم التجسس بين المسلمين أنفسهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه والنهي يفيد التحريم وغيرهم من باب أولى. 2- وبما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التجسس".2 وقد أجمع العلماء على أن عقوبة الجاسوس الحربي الذي دخل دار الإسلام بغير أمان، هي القتل.3 لما روى عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين4 من المشركين وهو في صفر - فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه، فقتلته فنفلني سلبه".5   1 أخرجه البخاري 4/60 كتاب الأدب باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر. ومسلم 4/1985 كتاب والصلة باب تحريم الظن والتجسس. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/377 وقال صحيح على شرط الضيخين. 3 فتح الباري 6/169، وشرح النووي على مسلم 12/67، ونيل الأوطار 8/8، وزاد المعاد 3/116. 4 سمي الجاسوس عيناً: لأن جل عمله بعينه، أو لشده اهتمامه بالرؤية، واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عيناً. 5 أخرجه البخاري 2/178 كتاب الجهاد باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان. ومسلم 3/1374 كتاب الجهاد حديث رقم 1754. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 قال الإمام النووي: "فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق".1 واختلفوا في عقوبة المستأمن الحربي إذا تجسس على المسلمين في دارهم إلى قولين: القول الأول: إذا ارتكب المستأمن جريمة التجسس في دار الإسلام لا ينتقض عهده، وعقوبته الحبس ولمدة طويلة، بحسب ما يراه الإمام، وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف وهو مذهب الشافعية.2 قال الإمام السرخسي: "وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فقتل مسلماً عمداً أو خطأ، أو قطع الطريق، أو تجسس أخبار المسلمين فبعث بها إلى المشركين أو زنى بمسلمة أو ذمية كرهاً أو سرق فليس يكون شيء منها نقضاً للعهد. وهذا كله إذا لم يشترط عليه ذلك في العقد، أما إذا شرط عليه في عقد الأمان عدم التجسس فخالف الشرط ففي هذه الحالة يجوز قتله".3 وقال الإمام الشافعي: "وإن كان عيناً للمشركين على المسلمين يدل   1 انظر: شرح النووي على مسلم 12/67. 2 شرح السير الكبير 1/305، وأحكام القرآن للجصاص 3/435، والأم 4/188. 3 شرح السير الكبير 1/305. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 على عوراتهم، عوقب عقوبة منكلة، ولم يقتل ولم ينقض عهده".1 القول الثاني: المستأمن الحربي إذا تجسس على المسلمين في دارهم ليخبر أهل داره بأحوالهم، وسائر أمورهم، انتقض عهده. وهذا مروي عن الأوزاعي، وهو قول المالكية والحنابلة، وأبي يوسف من الحنفية. 2 أما القتل فقد صرح المالكية بقتله إذا تجسس إلا أن يسلم. فقالوا: "الجاسوس يتعين قتله إلا أن يسلم، لأن الأمان لا يتضمن كونه جاسوساً ولا يستلزمه ولا يجوز العقد عليه".3 وهو أيضاً ما صرح به الإمام الأوزاعي وأبو يوسف من الحنفية.4 أما الحنابلة: فقالوا: الإمام يخير بين القتل والاسترقاق والمن كأسير الحرب.5   1 الأم 4/188، روضة الطالبين، رحمة الأمة، شرح صحيح مسلم 2/67. 2 انظر: الخرشي 3/119، وحاشية الدسوقي 2/205، وكشاف القناع 3/108، والمبدع 3/394، ومطالب أولي النهى 2/581 والمحرر 2/181، وفتح الباري 6/169، وشرح النووي على مسلم 12/67، ونيل الأوطار 8/8، والخراج ص190. 3 انظر: مواهب الجليل 2/251. 4 اختلاف الفقهاء للطبري ص 58، وفتح الباري 6/169، ونيل الأوطار 8/8، والخراج ص 190. 5 انظر: المغني 8/523، والمبدع 3/394، والمحرر 2/181 والمقنع بحاشيته 1/518، وكشاف القناع 3/119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 الأدلة: أولاً: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بالسنة، والمعقول: أ - دليلهم من السنة: بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ1 فإن بها ظعينة2 معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خلينا، فإذا نحن بالمرأة فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها3، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. الحديث.4 وجه الدلالة من الحديث: الحديث دل على أن الجاسوس المستأمن لا يقتل ولا ينتقض عهده إذا تجسس على المسلمين   1 روضة خاخ: مكان قرب المدينة ويقع في جنوبها، ويبعد عنها نحو اثني عشر ميلاً تقريباً. انظر: معجم البلدان 2/335. 2 الظعينة: المرأة في الهودج. المصباح المنير 2/385، ومعجم لغة الفقهاء ص 296. 3 عقاصها: ظفائر شعرها. المصباح المنير 2/422، ومعجم لغة الفقهاء ص 318. 4 أخرجه البخاري 2/170 كتاب الجهاد باب الجاسوس. ومسلم 4/1941 كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل بدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ،لأن حاطب بن بلتعة تجسس على المسلمين وأخبر عدوهم بأخبارهم، ولم يكن هذا ناقضا لإيمانه، فقد سماه الله مؤمنا مع ما فعله، فكذلك المستأمن إذا تجسس على المسلمين لم يكن فعله ناقضا لأمانه.1 ويمكن أن يرد عليهم: بأنه لا دالة لهم في هذا الحديث لأن حاطباً كان مسلما ولم يقصد الإضرار بالمسلمين في تجسسه عليهم كما يفيده ظاهر الحديث، ومع هذا هَمَّ بعض الصحابة بقتله، لكن منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك لمشاهدته لبدر، وقد عفا الله عنه وقبل توبته. فلا يتناول هذا الحديث المستأمن بأية حال من الأحوال، والمستأمن الحربي وغيره قصده من التجسس هو الإضرار بالمسلمين لمنفعة أهل داره، على عكس المسلم فتجسسه على المسلمين قد يكون لحاجة ومنفعة خاصة به، فقياسهم المستأمن الحربي على المسلم قياس مع الفارق لأن المسلم معصوم الدم بالإيمان، والمستأمن معصوم الدم بسبب الأمان، وهناك فرق بين الإيمان والأمان. أما دليلهم من المعقول: فقالوا إن المسلم إذا تجسس في دار الإسلام على أمور المسلمين وأخبر الأعداء بذلك، لم يكن تجسسه ناقضا لإيمانه فكذلك المستأمن إذا   1 أحكام القرآن للجصاص 3/435، وشرح السير الكبير 1/305، والجامع لأحكام القرآن 18/25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 تجسس على أمور المسلمين في دارهم لم يكن فعله هذا ناقضا لأمانه.1 ولكن يرد عليهم بأنه قياس مع الفارق، فلا مساواة بين المسلم وبين المستأمن الحربي لا في الدين ولا في العصمة. ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني: الذين قالوا بانتقاض عهد المستأمن إذا تجسس على المسلمين ويعاقب بأشد العقوبات كالقتل. استدلوا بالسنة والمعقول: أ - دليلهم من السنة: بما روي عن فرات بن حيان رضي الله عنه2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عيناً لأبي سفيان وكان حليفاً لرجل من الأنصار، فمَرَّ بحلقة من لأنصار فقال إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول إنه يقول إني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان.3   1 شرح السير الكبير 1/305، 306. 2 هو الصحابي الجليل فرات بن حيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب بن أحمد بن ربيعة العجلي، حليف بني سهم كان عيناً لأبي سفيان في حروبه ثم أسلم وحسن إسلامه. الإصابة 5/204، وتهذيب التهذيب 8/158. 3 أخرجه أحمد في مسنده 4/336، وأبو داود 3/111 كتاب الجهاد باب في الجاسوس الذمي. والبيهقي 9/147، وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن حبيب ولا يحتج بحديثه ولكن الحديث قد روى من طريق آخر عن سفيان بن بشر وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه. انظر: نيل الأوطار 8/9، ومعالم السنن 3/111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وجه الدلالة من الحديث: فالحديث يدل على جواز قتل الجاسوس الذمي وأن عمله في التجسس يعتبر ناقضاً للعهد والمستأمن كالذمي في هذا، بل أولى منه لأنه من أهل الحرب.1 أما دليلهم من المعقول: فهو: 1- أن المستأمن بمجرد عقد الأمان فقد التزم بأن لا يفعل شيئاً يكون فيه ضرر على المسلمين، والتجسس من أقبح الجرائم التي فيها الإضرار على جميع المسلمين فإذا فعله كان ناقضا للعهد لارتكابه ما يخالف ما التزمه في عقد الأمان، وكذلك يعاقب بأشد العقوبة المقررة لهذه الجريمة كالقتل.2 الرأي المختار: يتضح لنا مما سبق بيانه أن الرأي الأولى بالاختيار هو الرأي القائل إن المستأمن إذا تجسس على المسلمين في دارهم ينتقض عهده ويعاقب بالقتل أو بحسب ما يراه الإمام في الصالح العام. وذلك للأسباب الآتية: 1- لقوة الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا الرأي لأن المستأمن ما دخل دار الإسلام إلا وقد التزم عدم الضرر بالمسلمين والتجسس عليهم   1 انظر: نيل الأوطار 8/9. 2 انظر: شرح الخرشي 3/119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وإخبار أعدائهم بأحوالهم من أعظم الإضرار التي يلحقها بهم. 2- ولأن التجسس مخالف لمقتضى الأمان لكونه ضررا عظيما، وأَمْر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الجاسوس المشرك ونفل سلبه لقاتله دليل على إباحة دمه وماله، ومثله المستأمن لأن كلا منهما قصد الضرر بالدولة الإسلامية، لأن الحربي المستأمن إذا فعل شيئا يخالف أمانه ويضر بالمسلمين انتقض أمانه وحل دمه وماله، كالحربي غير المستأمن. 3- ولأن التجسس من أخطر الجرائم، لأن ضرره عام فيشمل الأمة كلها فيقتل الجاسوس المستأمن ليرتاح المسلمون من شره، ولأن صاحب هذا الضرر لا يؤمن شره إلا بقتله. 4- ولأن العقوبة لو خففت ولم يعتبر التجسس ناقضا للعهد، وعوقب بالحبس، لكان هذا من التساهل الذي يجعل الفرصة سانحة أمام هؤلاء الكفار من المستأمنين أو غيرهم الذين يتجسسون على أهل الإسلام لخدمة أهل دارهم. 5- ولأن عقوبة القتل لجريمة التجسس من المستأمن تكون ردعاً لغيره وبخاصة في هذا الوقت لكثر المستأمنين في دار الإسلام فعندما يعلمون أن عقوبة التجسس على المسلمين هي القتل، فهذا يكون ردعا لهم والتزاماً منهم بما في عقد أمانهم، أما إذا علموا بأن العقوبة هي الحبس فقط فربما يكون هذا دافعا لهم في ارتكاب جرائم التجسس أو غيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فالذي أراه أن القتل هو العقوبة الرادعة للمستأمن إذا تجسس على المسلمين في دارهم، وخاصة في هذا الوقت الذي يكثر فيه المستأمنون في دار الإسلام. وبناءً على هذا الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في تجسس المستأمن في دار الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد المبحث الأول: أثره في الهجرة 1 من دار الكفر لما كان الإسلام دين القوة والعزة، والهيبة والرفعة، فإنه قد أبى على معتنقيه أن يستذلوا للكفار، ويستسلموا لهم، من أجل ذلك منع ديننا الحنيف المسلمين العاجزين عن إظهار دينهم من الإقامة في دار الكفر، وبين أظهر الكفار، لأن إقامة المسلمين في بلد يتسلط عليه ويحكمه الكفار، فيه شعور لهم بالضعف والخذلان. مع أن ديننا الإسلامي يريد من المسلمين أن يكونوا أهل عزة وقوة وأن يكونوا متبوعين لا تابعين، وأن تكون السلطة والسيطرة وغلبة الأحكام لهم في أي مكان وفي كل زمان، وترتفع رايتهم وتنتكس راية أعدائهم. لذلك حرم عليهم الإقامة في ديار الكفار التي لا سلطان للإسلام فيها إلا إذا استطاعوا أن يظهروا إسلامهم، ويدعوا غيرهم إليه، ويرغبونهم فيه، ويعملون طبقا لعقيدتهم الإسلامية، دون أن يخشوا الفتنة على أنفسهم أو على دينهم. فالمسلمون المقيمون في ديار الكفار إذا عجزوا عن إظهار دينهم   1 الهجرة لغة: الترك والمفارقة. انظر: المصباح المنير 2/634، ومعجم لغة الفقهاء ص 492، أما في الاصطلاح الشرعي: فهي: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام. انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/484، وفتح الباري 1/16، ونيل الأوطار 1/ 116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وجبت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام باتفاق العلماء. وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع. أولا: الدليل من الكتاب: 1- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} 1 وجه الدلالة من هذه الآية: دلت الآية دلالة واضحة على وجوب الهجرة على المسلمين المستضعفين العاجزين عن إظهار دينهم في بلد لا سلطان للإسلام فيه، وإنما السلطة وغلبة الأحكام فيه لأعداء الله. قال القرطبي: "وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض، التي يعمل فيها بالمعاصي"2 وقال ابن كثير: "ظالمي أنفسهم - بترك الهجرة - ثم قال: هذه الآية عامة لكل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الآية"3   1 النساء: 97. 2 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/346. 3 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/ 542. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وقال القاسمي: "الآية دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه، حقت عليه المهاجرة"1 وقال ابن سعدي: "في الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات وتركها من المحرمات، بل من أكبر الكبائر"2 ثانيا: الدليل من السنة: فقد دلت السنة أيضا على وجوب الهجرة وتحريم إقامة المسلمين في ديار الكفر إذا لم يقدروا على إظهار دينهم. وفي هذا يقول ابن القيم: "ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم"3 والأحاديث التي منع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من الإقامة في ديار الكفار كثيرة منها: 1- قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءي ناراهما" 4   1 انظر: تفسير القاسمي 5/ 1489. 2 انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 2/ 138. 3 انظر: زاد المعاد 3/ 122. 4 أخرجه أبو داود 3/ 105 كتاب الجهاد باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود. والترمذي 4/ 155 كتاب السير باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين حديث رقم 1604. والنسائي 8/ 36 في القسامة. والبيهقي 9/ 12، 13، قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح. وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات، وقال الألباني: حديث صحيح. انظر: بلوغ المرام مع سبل السلام 4/ 1334، ونيل الأوطار 8/ 25، وإرواء الغليل 5/ 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على تحريم الإقامة في ديار الكفار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد برأ من المقيم في ديار الكفار، والبراءة لا تكون إلا على من فعل محرم. قال البغوي: "من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدار، ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام لهذا الحديث"1 2- حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله" 2 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على تحريم مساكنة الكفار، ووجوب مفارقتهم.3 قال الصنعاني: "فيه دليل على وجوب الهجرة من ديار المشركين"4 3- وبحديث بهز بن حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين" 5   1 انظر: شرح السنة 10/ 373. 2 أخرجه أبو داود 3/ 224 كتاب الجهاد باب في الإقامة بأرض الشرك. والحاكم 2/ 141، 143، وقال صحيح شرط على البخاري. قال الألباني سنده ضعيف. إرواء الغليل 5/ 32. 3 نيل الأوطار 8/ 26. 4 انظر: سبل السلام 4/1334. 5 أخرجه أحمد 5/4، 5، والنسائي 5/ 82، باب من سأل بوجه الله عز وجل. وابن ماجة 2/ 848 كتاب الحدود باب المرتد عن دينه حديث 2536 قال الألباني: إسناده حسن. انظر: إرواء الغليل 5/ 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في أن الله لا يقبل عمل المسلم حتى يفارق ديار المشركين إلى ديار المسلمين. 5- وحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" 1 فالحديث دل على أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية لم تنقطع وهذا مما يدل على وجوبها. قال البغوي: "لا تنقطع الهجرة أراد بها هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدار ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام"2 وقال الصنعاني: "دل الحديث على ثبوت حكم الهجرة وأنه باق إلى يوم القيامة"3 6- وحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله أبسط يديك، حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، قال: "أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة   1 أخرجه أحمد 4/ 99. وأبو داود 3/ 7 كتاب الجهاد باب الهجرة هل انقطعت. والدارمي 2/ 239، 240 باب أن الهجرة لا تنقطع قال الألباني: صحيح رجال إسناده ثقات. إرواء الغليل 5/ 33، صحيح الجامع الصغير 6/ 186.7 2 انظر: شرح السنة 10/373. 3 انظر: سبل السلام 4/ 337. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين" 1 فدل الحديث على وجوب مفارقة ديار المشركين إلى ديار المسلمين. ثالثا: الإجماع: فقد أجمع علماء المسلمين على أن المسلم العاجز عن إظهار دينه في ديار الكفار، تحرم عليه الإقامة في ديارهم وتجب عليه الهجرة إلى ديار المسلمين. أما إذا قدر على إظهار دينه ولم يخف من الفتنة فيه، فلا بأس بالإقامة لما يرجى من إسلام غيره.2 وسأذكر ما قاله العلماء في وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باختصار لتكمل الفائدة. فقال علماء الحنفية: "من أقام في أرض العدو، وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحول إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم، وهو يقدر على الخروج منها، فليس بمسلم، يحكم عليه بما يحكم على أهل الحرب من انقطاع العصمة في المال والنفس"3   1 أخرجه أحمد 4/365، والنسائي 2/183، والبيهقي 9/ 13، وقال الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل 5/ 32. 2 أحكام القرآن للجصاص 3/ 211، والمقدمات الممهدات 2/285، وفتح الباري 6/190، وكشاف القناع 3/43، ونيل الأوطار 8/ 26. 3 أحكام القرآن للجصاص 3/ 211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وقال علماء المالكية: "لا يحل لمسلم أن يقيم في دار الكفر وهو قادر على الخروج منها"1 قال ابن العربي: "من أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام"2 قال ابن رشد: "واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الكفر أن لا يقيم بها، حيث تجري عليه أحكام المشركين، وأن يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجري عليه أحكامهم" فقد وجب بالكتاب، والسنة، والإجماع، على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين ولا يقعد بين المشركين، ويقيم بين أظهرهم، لئلا تجري عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها. وقد كره الإمام مالك أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان.3 وقال علماء الشافعية:"الناس في الهجرة ثلاثة أضرب: 1- أن يكون ممن أسلم، ويكون له عشيرة يمتنع بها، ويقدر على إظهار دينه ولا يخاف الفتنة في دينه، فهذا يستحب له أن يهاجر لقوله   1 الكافي لابن عبد البر 1/470، وأسهل المدارك 2/ 16. 2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 484. 3 انظر: المقدمات الممهدات لابن رشد 2/285،286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} 1 2- أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له يمتنع بها، ولا يقدر على الهجرة لعجزه، كأن يكون ضعيف البدن، أو ليس معه نفقات السفر، فهذا لا تجب عليه الهجرة بل يجوز له المقام في ديار الكفار، فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أجر. 3- أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنعه، ولكنه يقدر على الهجرة فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 فأخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن من كان مستضعفا بين المشركين وهو يقدر على الخروج من بينهم فلم يفعل فإن مأواه النار، فوجبت الهجرة على المستضعف الذي يقدر على الخروج بنص الآية، واستثني المستضعف الذي لا يقدر على الخروج من الوعيد"3 وقال علماء الحنابلة أيضا كما قال الشافعية: "الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: 1- من تجب عليه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه الإقامة بين الكفار من إقامة   1 المائدة: 51. 2 النساء: 97. 3 تكملة المجموع 18/47، وفتح الباري 6/190. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 واجبات دينه، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" 1. ولأن القيام بأمر الدين واجب على القادر، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"2 2- من لا هجرة عليه، وهو العاجز عنها لمرض، أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان ومن يشبههم، فهذا لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 3 3- من تستحب له الهجرة، ولا تجب عليه، وهو القادر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، عند إقامته في دار الكفر، لكنه يستحب له أن يهاجر الكفار ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لامكان إقامة دينه بدون الهجرة، وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه"4   1 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308. 2 المغني 8/ 457، والمبدع 3/ 313، 314، وكشاف القناع 3/ 43، ونيل المآرب 1/116، والهداية للكلوذاني 1/112،والإنصاف 4/121،والمقنع بحاشيته1/485. 3 الآيتان 98، 99 من سورة النساء. 4 المرجع السابق نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وكذلك الظاهرية قالوا بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام حتى التجار لا يجوز لهم المقام بين أظهر المشركين1، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" 2. وبهذا يتضح لنا إجماع العلماء على وجوب الهجرة على المسلم العاجز عن إظهار دينه في دار الكفر إلى دار الإسلام كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، وينطبق هذا الحكم على دار الكفر في هذا الزمان، فالمسلم المقيم في دار الكفر في هذا الزمان ويخاف على نفسه، وعلى دينه من الفتنة، فيجب عليه أن يهاجر إلى أي دار من دور الإسلام، ليأمن على نفسه، ويستطيع أن يظهر دينه. أما السفر من دار الإسلام إلى دار الكفر لقصد التجارة أو طلب العلم أو غير ذلك من الأغراض الأخرى، ففيه تفصيل: فإن كان المسلم المسافر إلى بلاد الكفار يقدر على إظهار دينه ولا يخاف من الفتنة فيه، ولا يوالي المشركين، فهذا يجوز له السفر، كما فعل بعض الصحابة رضي الله عنه كأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد سافر إلى بلدان المشركين للتجارة، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.3   1 المحلى لابن حزم 7/ 349. 2 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308. 3 الولاء والبراء ص 281. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وكما صرح بذلك العلماء أن القادر على إظهار دينه في ديار الكفار فلا بأس بإقامته فيها، وهذا يدل على أن من سافر إليها لغرض وقدر على إظهار دينه جاز له ذلك.1 أما العاجز عن إظهار دينه في ديار الكفار والخائف من الفتنة فيه، وغير القادر على عدم موالاة الكفرة ومحبتهم، فهذا لا يجوز له السفر إليها كما صرح بذلك العلماء أن العاجز عن إظهار دينه في دار الكفر تجب عليه الهجرة. وهذا يدل على أن من سافر إلى ديار الكفار لغرض كتجارة، أو طلب علم، ولا يقدر على إظهار دينه، ولا على عدم موالاتهم، لا يجوز له ذلك، وعليه تحمل النصوص الواردة في المنع من الإقامة في ديار المشركين.2 وبعد هذا التفصيل ندرك مدى الهوة التي وصل إليها أبناء المسلمين اليوم من حب السفر إلى أرض الأعداء للسياحة والتنزه أو غير ذلك، ومدى موالاتهم ومحبتهم لأعداء الله والإقامة بأرضهم، بل ما يعجب له الأمر ولا يقبله العقل أن الكثير من أبناء المسلمين يسافرون إلى ديار الكفار لتحضير الشهادات العليا في العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية. أما غيرها من العلوم الضرورية التي لا توجد في البلاد الإسلامية فهذه لا بأس بالسفر للحصول عليها للضرورة ولحاجة المسلمين إليها والضرورة تقدر بقدرها.   1 سبق بيانه في الجزء الأول، ص 167. 2 سبق بيانه في الجزء الأول، ص 167. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وقد كتب علماء أفاضل في خطورة هذه المسألة، وبينوا مخاطر الابتعاث على أبناء المسلمين وبخاصة الابتعاث لغير ضرورة، أما إذا كانت هناك ضرورة للابتعاث للإطلاع على بعض العلوم التي لا توجد في البلاد الإسلامية، وقدر المبتعثون على إظهار دينهم فهذا لا بأس به، أما إذا لم يقدروا فلا يجوز لهم الابتعاث حتى لو كانت هناك ضرورة، ولتراجع هذه الكتب في مظانها.1   1 من هذه الكتب: الابتعاث ومخاطره - للشيخ محمد لطفي الصباغ، وحصوننا مهددة من داخلها للدكتور محمد محمد حسين وغيرها كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 المبحث الثاني: أثره في قسمة الغنيمة1 في دار الكفر الحربية أباح الله سبحانه وتعالى الغنيمة لهذه الأمة دون غيرها من الأمم السابقة، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع. فالدليل من الكتاب قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2 وجه الدلالة من الآية: دلت الآية بوضوح على مشروعية الغنيمة وإباحتها للغانمين. قال ابن كثير: "بين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم"3   1 الغنيمة في اللغة الفوز والظفر والربح. المعجم الوسيط 2/664، وكشاف القناع 3/77. أما الغنيمة في الشرع فهي: كل ما أخذ من أموال الكفار المحاربين عنوةً وقهراً حين القتال. انظر: المبدع 3/354، وكشاف القناع 3/77 ومعجم لغة الفقهاء ص339. 2 الأنفال: 41. 3 انظر: تفسير القرآن العظيم 2/310. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وجه الدلالة من الآية: فأمر الله سبحانه عباده المؤمنين بالأكل من الغنيمة وأنها حلال طيب لهم دليل على إباحتها لهم دون غيرهم. قال ابن سعدى: "وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة أن أحل لها الغنائم ولم تحل لأمة قبلها"2 أما الدليل من السنة: فحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" 3 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في إباحة الغنيمة لهذه الأمة دون غيرها من   1 الأنفال: 69. 2 تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن 3/191. 3 أخرجه البخاري 1/70 كتاب التيمم واللفظ له. ومسلم 1/371 كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 503. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الأمم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" ثم ذكر منها إحلال الغنيمة وما أحل له فهو لأمته إلا ما خص به صلى الله عليه وسلم. أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة الإسلامية على مشروعية الغنيمة1. وقد اتفق العلماء على جواز قسمة الغنيمة في دار الإسلام.2 وكذلك اتفقوا على أنه يجوز للإمام أن يجتهد ويبيع الغنيمة أو يقسمها في دار الكفر الحربية إذا رأى أن المصلحة في ذلك.3 واختلف الفقهاء في حكم تقسيم الغنائم في دار الكفر الحربية إلى قولين: القول الأول: لا يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب. وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا محمد بن الحسن- فإنه قال: تكره القسمة، لكن الأفضل عنده ألا تقسم الغنيمة إلا في دار الإسلام، ولا تقسم في دار الحرب.   1 بدائع الصنائع 7/121، وأسهل المدارك 2/ 17، ورحمة الأمة ص 297، والمبدع 3/ 354. 2 المبسوط10/18، وقوانين الأحكام الشرعية ص 168، والأحكام السلطانية للمارودي ص 139. 3 بدائع الصنائع 7/ 121، وفتح القدير 5/ 227، والخرشي على المختصر 3/136، ورحمة الأمة ص 297، والإفصاح لابن هبيرة 2/434. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وقال أبو يوسف: "إن قسمت في دار الحرب جاز وأحب إلي أن تقسم في دار الإسلام. وهو رواية عند الحنابلة"1 وقال الإمام أبو حنيفة: "إذا غنم جند من المسلمين غنيمة في أرض العدو من المشركين فلا يقتسمونها حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها"2 القول الثاني: يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب بل يستحب. وهو مروى عن الأوزاعي وأبي ثور. وهو قول جمهور الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة في الصحيح من المذهب، والظاهرية.3   1 انظر: المبسوط 10/17- 18، وتبيين الحقائق 3/1250، ومختصر الطحاوي ص282، والجوهرة النيرة 2/366، والبحر الرائق 5/91، وفتح القدير 5/224- 225، وبدائع الصنائع 7/121، والخراج ص 176، والاختيار 4/126، ومجمع الأنهر 1/ 641، والإنصاف 4/ 163. 2 انظر: الرد على سير الأوزاعي ص 5. 3 الرد على سير الأوزاعي ص5، والمدونة 3/ 12، وحاشية الدسوقي 2/ 179، والمنتقى على الموطأ 3/ 176، والشرح الكبير للدردير 2/ 179، وحاشية العدوى 2/9، وقوانين ألحكام الشرعية ص 166، والأم 7/302، والمهذب 2/313، ومغنى المحتاج 3/101، والأحكام السلطانية للمارودي ص139، ورحمة الأمة ص297، والمغني 8/421، 447، والإنصاف 4/ 163، والمبدع 3/ 358، وكشاف القناع 3/ 82، والمقنع بحاشيته 1/501، والإفصاح 2/434، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص 150، والمحلى 7/341. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قال الإمام ابن حزم الظاهري: "تعجيل القسمة أولى فإن مطل ذي الحق لحقه ظلم وتعجيل إعطاء كل ذي حق حقه فرض"1 سبب الخلاف: هو اختلافهم في هل الملك لا يثبت في الغنائم إلا بعد الاحراز بدار الإسلام، أو أنه يثبت بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب. بعد الفراغ من القتال، قبل إحرازها بدار الإسلام.2 فمن قال أن الملك لا يثبت في الغنائم إلا بعد الإحراز بدار الإسلام قال لا تجوز قسمة الغنيمة في دار الحرب وهم فقهاء الحنفية. ومن قال: إن الملك يثبت في الغنائم بمجرد الاستيلاء عليها، بعد نهاية القتال. قال: يجوز قسمة الغنيمة في دار الحرب وهم جمهور الفقهاء. الأدلة: أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا بعدم جواز القسمة في دار الحرب. استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول: أ - دليلهم من السنة: 1- حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنائم بدر إلا بعد مقدمه المدينة"3 فدل هذا الحديث على أن الغنيمة لا يجوز قسمتها في دار الحرب   1 المحلى 7/ 342. 2 بدائع الصنائع 7/ 121، وفتح القدير 5/224. 3 المبسوط 10/ 17، والرد على سير الأوزاعي ص 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بعدما رجع إلى المدينة وهي دار إسلام ولم يقسمها في بدر لأنها كانت دار حرب.1 ويدل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لعثمان وطلحة رضي الله عنهما بسهم، فقالا وأجرنا فقال وأجركما، ولم يشهدا وقعة بدر.2 ويؤكد ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه.3 وكذلك طلحة رضي الله عنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتجسس على خبر عير قريش فكان مشغولا بعمل المسلمين فجعله كمن شهد بدرا لأنه كان في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.4 فإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وطلحة رضي الله عنهما من غنيمة بدر مع كونهما لم يشهدا الغزوة دليل واضح على أن الغنيمة لم تقسم في بدر وإنما قسمها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد رجوعه إليها من الغزوة.   1 المبسوط 10/ 17، والرد على سير الأوزاعي ص9، والخراج ص 176. 2 أخرجه البيهقي مطولا عن عروة بن الزبير 9/ 58، وذكره الإمام الشافعي في الأم 7/ 303 بهذا اللفظ. وذكره أيضا أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص 9 بهذا اللفظ. 3 أخرجه البخاري 2/195 باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة. 4 أخرجه البيهقي 9/58، وانظر: حاشية الرد على سير الأوزاعي ص9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 2- حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب"1 وجه الدلالة من الحديث: الحديث يدل على عدم جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب لأن فيها معنى البيع لاشتمالها على المبادلة معنى، وبيع الغنيمة لا يجوز في دار الحرب فكذلك قسمتها.2 3- وبما رواه الزهري ومكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يقسم غنيمة في دار الحرب.3 وهذا يدل على عدم جواز قسمتها في دار الحرب اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقسمها إلا في دار الإسلام ولم يقسمها في دار الحرب.4   1 ذكره الزيلعي في نصب الراية 3/ 408، وقال غريب جدا. وذكره السرخسي في المبسوط 10/18، والموصلي في الاختيار 4/126، وصاحب الغرة المنيفة ص176 ولم أجده في كتب السنن المشهورة. أما الحديث الذي ورد في النهي عن بيع الغنيمة قبل القسمة فأخرجه أحمد 2/387، وأبو داود 3/666 كتاب البيوع باب تفسير العرايا ونصه "عن أبي هريرة رضي الله عنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنائم حتى تقسم" 2 تبيين الحقائق 3/250، والاختيار 4/126، وفتح القدير 4/225، والبحر الرائق 5/90، والغرة المنيفة ص 176. 3 ذكره أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص10، ولم أجده في كتب السنن المعروفة. 4 الرد على سير الأوزاعي ص10، والغرة المنيفة ص 176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 4- وبما رفعه الكلبي1 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة2 فأصاب هنالك عمرو ابن الحضرمي وأصاب أسيرا أو اثنين3 وأصاب ما كان معهم من آدم وزيت4 وتجارة من تجارة أهل الطائف، فقدم بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقسم ذلك عبد الله ابن جحش حتى قدم المدينة وأنزل الله عز وجل في ذلك: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 5، فقبض رسو ل الله صلى الله عليه وسلم المغنم وخمسه. 6 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على عدم جواز قسمة الغنائم في دار الحرب لأن عبد الله بن جحش رضي الله عنه لم يقسم الغنائم التي غنمها في طريقه إلا عندما قدم   1 هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي، ولد بالكوفة عالم بالنسب، والتفسير، والأخبار وأيام العرب، متهم بالكذب وتوفي بالكوفة سنة 146هـ. انظر: تقريب التهذيب 2/ 163 وميزان الاعتدال 13- 6، والوافي بالوفيات 3/ 83. 2 بطن نخلة: قرية من قرى المدينة. معجم البلدان 1/450. 3 الصحيح أنه أصاب أسيرين وهما الحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله كما ذكر ذلك البيهقي في السنن 9/58، وابن إسحاق في السيرة النبوية 1/603، 604. 4 الصحيح وزبيب. كما ذكره البيهقي 9/58. 5 البقرة: 217. 6 أخرجه البيهقي مطولا عن عروة بن الزبير 9/58، وذكره أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص 11، 12 وهذا لفظه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 إلى المدينة دار الإسلام ولم يقسمها في المكان الذي غنمها فيه لأنه كان دار حرب. ب - دليلهم من المأثور: بما رواه مجالد بن سعيد1 عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص قد أمددتك بقوم فمن أتاك منهم قبل أن تتفقأ2 القتلى فأشركه في الغنيمة.3 وجه الدلالة من الأثر: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد أن يشرك المدد في الغنيمة وإشراكهم دليل على أن الغنيمة لاتحرز في أرض الحرب.4 قال أبو يوسف: "وهذا يعلم أنهم لم يحرزوا ذلك في أرض الحرب"5   1 هو: مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، أبو عمرو الكوفي، رواية للأحاديث والأخبار، من أهل الكوفة اختلف في توثيقه. قال البخاري صدوق، وقال ابن حجر ليس بالقوي. توفي سنة 144. تقريب التهذيب 2/ 229، والأعلام 6/277. 2 تتفقأ: الفقأ عبارة عن التميز والتشقق. المصباح المنير 2/479. ومعناه: ما لم يتميز قتلى المشركين من قتلى المسلمين بالدفن، أو ما لم يتفقأ القتلى بتطاول الزمان. الرد على الأوزاعي ص11. 3 أخرجه البيهقي 9/50 وذكره أبو يوسف في الرد على الأوزاعي ص 6. 4 فقه الأوزاعي 2/519. 5 الرد على سير الأوزاعي ص 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 ج - دليلهم من المعقول: من وجهين: الوجه الأول: أن الإمام يجب عليه ألا يشغل بالقسمة في دار الحرب، ولا يشتغل إلا بأمور الحرب، لأن الوقت الذي توزع فيه الغنائم هم في أشد الحاجة إليه، ولأنهم إذا اشتغلوا بتقسيم الغنائم يتكاسلون في أمر الحرب، وربما يتفرقون، فيرجع عليهم العدو مرة أخرى، وهم مشغلون بتوزيع الغنائم.1 الوجه الثاني: أن الغنيمة لا تملك قبل الإحراز بدار الإسلام لأن الملك لا يتم إلا بالاستيلاء، والاستيلاء لم يتم في دار الحرب، ولا يتم إلا بإحراز الغنيمة في دار الإسلام.2 قال المنبجي: "الأصل عندنا إنما يثبت الحق فيها بالإحراز بدار الإسلام ولا تملك إلا بالقسمة وحصولها في أيديهم في دار الحرب لا يثبت لهم فيها حقا"3 ثانيا: أدلة الجمهور الذين قالوا إن الغنيمة تقسم في دار الكفر: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس:   1 المبسوط 10/ 17، 18، وفتح القدير 5/ 224. 2 تبيين الحقائق 3/250، والبحر الرائق 5/91، واللباب في شرح الكتاب 4/125، والاختيار 4/ 126، 127، والخراج لأبي يوسف ص176، والغرة المنيفة ص176. 3 انظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/ 803. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 أ - دليلهم من الكتاب: 1- بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1 وجه الدلالة من الآية: الآية دلت على جواز قسمة الغنائم في دار الحرب، لأن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} يقتضي ثبوت الملك في الغنيمة، وإذا حصل الملك لهم فيه وجبت القسمة لأنه لا معنى للقسمة على هذا التقدير إلا صرف الملك إلى المالك، وذلك جائز بالاتفاق، ولم تفرق الآية في ثبوت الملك بين دار الحرب ودار الإسلام.2 2- وبقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 وجه الدلالة من الآية: أن الأمر بالأكل من الغنيمة في الآية عام ولم يفرق بين أن يكون   1 الأنفال: 41. 2 التفسير الكبير للفخر الرازي 15/ 166. 3 الأنفال: 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ذلك في دار الإسلام أو في دار الحرب، فما غنمتموه حلالا طيبا لكم سواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام. ب - دليلهم من السنة: بفعله صلى الله عليه وسلم حيث كان يقسم الغنائم في دار الحرب قبل رجوعه إلى دار الإسلام من ذلك غزوة بني المصطلق وحنين وخيبر.1 1- فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من2 سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل3، فأردنا العزل وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله فسألناه عن ذلك فقال ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة"4 وجه الدلالة من هذا الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل عند وطء السبايا من غنائم غزوة بني المصطلق فلم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك،   1 الأم 7/ 323، والمنتقى شرح الموطأ 3/ 176، والمغني 8/ 421، 422. 2 السبي: الأسرى من النساء والأطفال، المعجم الوسيط 1/ 415، ومعجم لغة الفقهاء ص240. 3 العزل هو: الإبعاد والتنحي. المصباح المنير 2/ 407، والمعجم الوسيط 2/ 599، والمراد به في الحديث إنزال مني الرجل خارج فرج المرأة. 4 أخرجه البخاري 3/ 37 كتاب المغازي باب غزوة بني المصطلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وهذا دليل على أن الغنائم قد قسمت في دار الحرب. 2- وبحديث أنس رضي الله عنه قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين"1 وجه الدلالة من الحديث: الحديث صريح الدلالة في جواز قسمة الغنائم في دار الحرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين قبل رجوعه إلى دار الإسلام.2 قال البيهقي: "بعد أن ذكر الحديث: وفي هذا دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بها"3 3- وبحديث أنس رضي الله عنه قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس4 ثم قال: "الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين فخرجوا يسعون في السكك فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبي الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي5 ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها"6   1 أخرجه البخاري 2/ 181 كتاب الجهاد باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره. 2 فتح الباري 6/ 182. 3 انظر: السنن الكبرى 9/ 56. 4 غلس: جمع أغلاس وهو ظلمة آخر الليل. انظر: معجم لغة فقهاء ص 333. 5 هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي، صاحبي، حضر كثير من الوقائع، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة عاش إلى خلافة معاوية وتوفي سنة 45هـ، الإصابة 2/161، 162، وطبقات ابن سعد 4/184. 6 أخرجه البخاري 3/49 كتاب المغازي باب غزوة خيبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وجه الدلالة من الحديث: الحديث دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر في طريقه قبل رجوعه إلى المدينة دار الإسلام، فوقوع صفية في سهم دحية ثم صيرورتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجه بها في الطريق بين خيبر والمدينة دليل على أن الغنائم قسمت في دار الحرب قبل الوصول بها إلى دار الإسلام.1 4- عن أبي بردة عن موسى قال: "قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا"2 وجه الدلالة من الحديث: الحديث دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر فيها وقد كانت دار حرب لأنه قسم لأبي موسى رضي الله عنه ومن معه ولم يقسم لمن لم يشهد الغزوة، وقسمه غنائم خيبر فيها دليل على جواز قسمة الغنائم في دار الحرب. ج - دليلهم من المعقول: أن الغنيمة تملك بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب، وعندئذ تجوز قسمتها والدليل على ثبوت الملك في دار الحرب ما يلي: 1- أن سبب الملك الاستيلاء التام وهذا يحصل بمجرد إحرازها بأيدي المسلمين لأننا قهرنا الأعداء ونفيناهم وأثبتنا أيدينا عليها، والاستيلاء يدل على حاجة المستولى فيثبت الملك كما في المباحات.   1 فقه الأوزاعي 2/ 517. 2 أخرجه البخاري 3/ 54 كتاب المغازي باب غزوة خيبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 2- أن ملك الكفار قد زال عنها بمجرد قهرهم وهزيمتهم بدليل أن تصرفهم لا يصح وملكهم لم يزل إلى غير مالك، فعلم أن ملكهم زال إلى الفاتحين، فلو أعتق الكفار رقيقا لم ينفذ عتقهم. 3- أنه لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرا وهذا يدل على زوال ملك الكافر وثبوت الملك لمن قهره1 د - دليلهم من القياس: قاسوا جواز القسمة في دار الحرب على جوازها في دار الإسلام.2 المناقشة: أولا: مناقشة أدلة الحنفية القائلين بعدم جواز قسمة الغنيمة في دار الكفر الحربية: أ - مناقشة أدلتهم من السنة: 1- استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر في المدينة. يرد عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بسير شعب من شعاب وادي الصفراء، قريب من بدر وهو وادي من أو ديتها فيكون تابعا لها لأنه أقرب إليها من المدينة، فبهذا تكون قسمة غنيمة بدر فيها وهي في ذلك الوقت كانت دار حرب.   1 المغني 8/ 422، وفتح الباري 6/ 182، والمقنع بحاشيته 1/ 501. 2 المنتقى شرح الموطأ 3/ 177، والمغني 8/ 422. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وقولهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى عثمان وطلحة رضي الله عنهما من الغنيمة مع أنهما لم يشهدا غزوة بدر، وهذا مما يدل على أنه قسمها في المدينة. يرد عليه: بأن إعطاء من لم يحضر الوقعة من الغنيمة لا يدل على تأخير القسمة إلى دار الإسلام. أما استدلالهم بحديث النهي "عن بيع الغنيمة في دار الحرب" فيرد عليه: بأن هذا الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تذكره كتب الصحاح والسنن المشهورة بل إن الحنفية أنفسهم قالوا بأنه غريب جدا.1 وأيضا حتى لو ثبت الحديث ليس لهم فيه دلالة على أن الغنائم لا تقسم في دار الحرب، لأن معناه النهي عن بيع الغنائم في دار الحرب قبل أن تقسم وهذا ما صرح به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر "حيث إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنائم حتى تقسم"2 وكذلك النهي عن بيع الغنائم في دار الحرب، لا يستوجب النهي عن قسمتها في دار الحرب، لأن هناك فرقا بين البيع والقسمة. وبهذا يتضح لنا أنه لا دلالة للحنفية في هذا الحديث لأنه لم يثبت وحتى لو ثبت ليس لهم فيه دلالة على أن الغنائم لا تقسم في دار الحرب. وكذلك استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنيمة في دار الحرب، غير صحيح، بل الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ما غنم غنيمة إلا وقسمها قبل أن يرجع   1 نصب الراية 3/ 408، وفتح القدير 5/ 224. 2 سبق تخريجه ص 179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 إلى دار الإسلام.1 وأيضا هذا الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تذكره إلا كتبهم2، ولم يذكر في كتب الصحاح والسنن. وعلى فرض ثبوته لا دلالة فيه: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقسم الغنائم في دار الحرب، إما لأنها لم تحرز ويستولي عليها الاستيلاء التام، وإما أن الرسول رأى أن المصلحة هو عدم قسمتها في دار الحرب لئلا تشغل الجيش عن الجهاد فأخر القسمة حتى الرجوع إلى دار الإسلام. ومما لا خلاف فيه بين العلماء أن الإمام إذا رأى أن المصلحة في عدم قسمتها في دار الحرب وإنما هي في تأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام جاز له ذلك أما استدلالهم بقصة عبد الله بن جحش وعمرو بن الحضرمي. فقد رد عليهم الإمام الشافعي بقوله: "وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش وابن الحضرمي، فذلك قبل بدر وقبل نزول الآية، وكانت وقعتهم في آخر يوم من الشهر الحرام فتوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 3 وليس مما خالف فيه الأوزاعي بسبيل) .4   1 الأم 7/ 323. 2 الرد على سير الأوزاعي للإمام أبي يوسف ص 100، والمبسوط 10/19 والغر المنيفة ص 176. 3 الآية 217 من سورة البقرة. 4 الأم 7/335، والسنن الكبرى 9/ 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 قلت: وبهذا يكون استدلالهم بهذه القصة ضعيف لأنها كانت قبل بدر بل قبل نزول آية الغنائم كما أشار إلى ذلك الإمام البيهقي حيث قال: بعد ذكر القصة: "وفي ذلك دلالة على أن ذلك كان قبل نزول الآية في الغنائم"1 ب - مناقشة دليلهم من المأثور: يرد عليه من وجهين: 1- قال الإمام الشافعي: "أن هذا الأثر لم يثبت عن عمر رضي الله عنه وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف" 2 2- وعلى فرض ثبوته ليس فيه ما يدل على أن الغنيمة لا تقسم في دار الحرب، بل غاية ما يدل عليه هو أنه يجوز للإمام أن يشرك المدد في الغنيمة قبل انتهاء القتال، وقبل الاستيلاء على الغنيمة، أما إذا انضموا إلى الجيش بعد انتهاء الحرب وبعد الاستيلاء على الغنيمة وإحرازها بدار الحرب، فلا يشركهم فيها، ولم يتعرض الأثر لقسمة الغنائم لا في دار الحرب ولا في دار الإسلام. ج - مناقشة دليلهم من المعقول: قولهم إن الإمام يجب ألا يشتغل بالقسمة ولا يشتغل إلا بأمور   1 السنن الكبرى 9/ 59. 2 الأم 7/335، والسنن الكبرى 9/50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 الحرب يرد عليه: بأن الاشتغال بتوزيع الغنائم لا يمنع من الاشتغال بأمور الحرب، لأن الإمام لا يوزع الغنائم إلا بعد الانتهاء من الحرب ليعلم بانتهائها تحقق الظفر واستقرار الملك. أما إذا رأى الإمام أن المصلحة هو تأخير قسمة الغنائم عند الرجوع إلى دار الإسلام جاز له ذلك وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.1 وأما قولهم أن الغنيمة لا تملك قبل الإحراز بدار الإسلام لأن ملك لا يتم إلا بالاستيلاء. يرد على ذلك: أن الغنيمة تحرز بدار الحرب ويتم الاستيلاء عليها بمجرد هزيمة الأعداء وقهرهم، وانتهاء الحرب لأن ملك الأعداء قد زال عنها بدليل أن تصرفهم فيها لا يصح.2 وإذا أحرزت وتم الاستيلاء عليها تعجلت قسمتها كيدا للأعداء، وفرحا بالنصر، وحفظا للغنيمة.3 ثانيا: مناقشة أدلة الجمهور القائلين بجواز قسمة الغنائم في دار الحرب: أ - مناقشة دليلهم من الكتاب: 1- قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} 4 الآية لا دلالة فيها   1 الأحكام السلطانية للمارودي ص 139، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص150. 2 المغني 8/ 422. 3 الأحكام السلطانية للمارودي ص 139، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي ص150. 4 الأنفال: 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 على جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب، بل غاية ما تدل عليه الآية هو إباحة الغنيمة للمجاهدين، الخمس منها للأصناف المذكورة في الآية والأربعة أخماس الباقية تقسم بينهم. يجاب عن ذلك: بأننا لا ننكر أن الآية أباحت الغنيمة للمجاهدين ولكن إباحتها يقتضي ثبوت الملك لهم فيها، ومتى ثبت الملك جازت القسمة سواء ملكت في دار الحرب أو في دار الإسلام.1 وكذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} 2 لا تدل على جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب، بل غاية ما تدل عليه هو إباحة الغنائم للمجاهدين وأنها حلال طيب لهم. ويجاب عن ذلك: بأن الأمر بالأكل من الغنيمة جاء عاما ولم يفرق بين أن يكون أكلها في دار الإسلام، أو في دار الحرب ولم يرد ما يخصص هذا العموم، من أن الأكل لا يجوز إلا في دار الإسلام فتبقى الآية على عمومها، وهو إباحة الغنيمة للمجاهدين ولهم قسمتها متى أحرزوها واستولوا عليها سواء كان ذلك في دار الحرب أو في دار الإسلام. ب - مناقشة أدلتهم من السنة: 1- استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم غنائم غزوة بني المصطلق فيها، وكان مكان الغزوة آنذاك دار حرب.   1 التفسير الكبير للفخر الرازي 15/166. 2 الأنفال: 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 يرد على ذلك: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قسم غنائم بني المصطلق قسمها بعد أن افتتح بلادهم، وظهر عليها، وصارت بلادهم دار إسلام بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة يأخذ صدقاتهم.1 قال السرخسي: "وقسم غنائم بني المصطلق في ديارهم، وكان قد افتتحها يعني صيرها دار إسلام، ويدل على ذلك حديث مكحول قال: ما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم إلا في دار الإسلام،2 وفي هذا دليل على أنها لا تقسم في دار الحرب"3 وأجيب عن ذلك: بأن دار بني المصطلق لم تزل دار حرب بعد غزوهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون في نعمهم، وسباهم، وقسم أموالهم وسبيهم في دارهم، سنة خمس، وإنما أسلموا بعدها بزمان ولذلك كان بعثه صلى الله عليه وسلم للوليد ابن عقبة مصدقا سنة عشر، فعندما غزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع عن دارهم كانت دار حرب كما قال الإمام الشافعي.4 قال الباجي: "إن هذا غير صحيح أي كون دار بني المصطلق دار إسلام، لأنهم لم يكونوا مسلمين وقت الغنيمة، ولو كانوا مسلمين ما قسم   1 الرد على سير الأوزاعي ص2، وفتح القدير 5/244، وبدائع الصنائع 7/121، والغرة المنيفة ص 176. 2 سبق تخريجه ص 177. 3 المبسوط 10/19. 4 الأم 7/335. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 النبي صلى الله عليه وسلم غنائمهم والنبي صلى الله عليه وسلم غنم بني المصطلق سنة خمس، وأسلموا سنة عشر وفي سنة عشر بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدقا"1 2- وكذلك استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بالجعرانة وكانت تابعة لمكة وهي دار حرب. يرد عليه: بأن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنائم حنين إلا بعد رجوعه من الطائف، وقسمها بالجعرانة وكانت من دار الإسلام، دليل على أن الغنائم لا تقسم في دار الحرب. وقولهم بأن الجعرانة كانت تابعة لمكة وهي دار حرب. فهذا غير صحيح، لأن الجعرانة كانت من دار الإسلام، لأن غزوة حنين كانت بعد فتح مكة، والجعرانة من نواحي مكة فتكون تابعة لها. وروى أن الأعراب طالبوه بقسمتها، ومع كثرة مطالبتهم أخر القسمة حتى انتهى إلى دار الإسلام، فدل على أنها لا تقسم في دار الحرب.2 وأجيب عن ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بها، لأن الجعرانة كانت على حدود مكة، فهي خارجة عنها وتعتبر تابعة للمكان الذي وقعت فيه غزوة حنين، حتى إن الإمام البيهقي قال: بعد ذكر الحديث   1 المنتقى شرح الموطأ 3/176. 2 المبسوط10/18،19، وبدائع الصنائع 7/121، وفتح القدير 5/224، والغرة المنفية ص 176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة حين قسم غنائم حنين. وفي الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بها.1 وعلى فرض أن الجعرانة تابعة لمكة وتعتبر من دار الإسلام كما قال الحنفية يقال لهم يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر قسمة الغنائم حتى رجع إلى دار الإسلام لأنه رأى أن المصلحة تقتضي التأخير وهذا مما لا خلاف بين العلماء.2 3- أما استدلالهم بأحاديث قسمة غنائم خيبر، فكذلك لا دلالة لهم فيها على جواز قسمة الغنائم في دار الحرب، لأن خيبر بعد الفتح صارت دار إسلام بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الذمة مع أهلها وعاملهم على النخل، وعلى فرض أن جميع سكانها من أهل الذمة تعتبر دار إسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فتحها أجرى فيها أحكام الإسلام، ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر وقسمته أراضيها أشهر من أن يعرف بها، لورود الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا، فكيف تصير دار حرب بعد إجراء أحكام الإسلام فيها.3 قال السرخسي: "وأما خيبر فإنه افتتح الأرض وجرى فيها حكمه، فكانت القسمة فيها بمنزلة القسمة في المدينة، وقسم الغنائم فيها قبل أن   1 السنن الكبرى للبيهقي 9/56. 2 الأحكام السلطانية للماوردى ص 139،والأحكام السلطانية ص 150. 3 الرد على سير الأوزاعي ص 2،3، وبدائع الصنائع 7/12، وفتح القدير 5/224، وتبيين الحقائق 3/250، والغرة المنيفة ص 177. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 يخرج منها، ففي هذا دليل على أن الإمام إذا افتتح بلدة وصيرها دار إسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها، فإنه يجوز له أن يقسم الغنائم فيها وقد طال مقام رسول صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد الفتح وأجرى أحكام الإسلام فيها، فكانت من دار الإسلام، القسمة فيها كالقسمة في غيرها من بقاع دار الإسلام"1 وأجاب الجمهور عن ذلك: بأن خيبر بعدما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم دار حرب، لأنه لم يكن فيها مسلم واحد وما صالح الرسول صلى الله عليه وسلم إلا اليهود وهم على دينهم، وما حول خيبر كله كان دار حرب.2 4- أما استلالهم بحديث أبي موسى رضي الله عنه فلا دلالة لهم فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم له وأصحابه، لأنهم شاركوا في الفتح قبل الهزيمة إحراز الغنيمة والاستيلاء عليها بدار الإسلام لأن خيبر صارت دار لإسلام بعد فتحها.3 ولهذا قال أبو موسىرضي الله عنه: "ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا" وأجيب عن ذلك بأن قسم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى وأصحابه رضي الله عنهم بعد الفتح والاستيلاء على الغنائم، يدل عليه قول أبي موسى: "قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا " ولا يلزم من مشاهدتهم الفتح اشتراكهم فيه.   1 المبسوط 10/19. 2 الأم 7/335، والسنن الكبرى 9/56. 3 فتح القدير 5/226. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ج - مناقشة دليلهم من المعقول: قولهم بأن الغنيمة تملك بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب، هذا غير صحيح، لأن الملك لا يتم إلا بالاستيلاء، والاستيلاء التام لا يثبت إلا بإحراز الغنيمة في دار الإسلام، فما دامت في دار الحرب لم يستحكم الملك.1 أما قولهم بأن الدليل على إحرازها بدار الحرب هو أن ملك الكفار قد زال عنها. فرد عليهم الحنفية بقولهم: قدرة الكفرة على الانتفاع بأموالهم ثابتة لأن الغزاة ماداموا في دار الحرب فالاسترداد ليس بنادر بل هو ظاهر أو محتمل احتمالا على السواء والملك كان ثابتا لهم فلا يزول مع الاحتمال.2 أجاب الجمهور عن ذلك بقولهم: إن الغنيمة تملك ويتم الاستيلاء عليها بمجرد انتهاء القتال وهزيمة الأعداء، وإذا أحرزت وجمعت في دار الحرب تعجل قسمتها، لأن في ذلك كيدا الأعداء وأطيب لقلوب المجاهدين، وأحفظ للغنيمة، وأرفق بهم في التصرف لبلادهم. أما الكفار فقد زال ملكهم عنها بمجرد قهرهم وهزيمتهم ولا يستطيعون الانتفاع منها بشيء.3   1 الغرة المنيفة ص 176، والخراج لأبي يوسف ص 176، واللباب في شرح الكتاب 4/125. 2 بدائع الصنائع 7/121. 3 الخرشي على المختصر خليل 3/136، والأحكام السلطانية للماوردي ص 139، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي ص150، والمغني 8/422. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 د - مناقشة دليلهم من القياس: قياسهم جواز القسمة في دار الحرب على جوازها في دار الإسلام قياس مع الفارق، لأن الغنيمة بمجرد وصولها إلى دار الإسلام يتم إحرازها والاستيلاء عليها، بخلافها في دار الحرب ولأن السلطة والهيمنة في دار الإسلام للمسلمين، بخلافها في دار الحرب، لأنه ربما نتج عن الاشتغال بتقسيم الغنائم في دار الحرب عواقب سيئة من التكاسل عن الجهاد، وتفرقة المجاهدين، فربما أغار عليهم العدو كرة أخرى وهم لاهون بتوزيع الغنائم فهزمهم واستولى على غنائمهم، بخلاف ذلك في دار الإسلام.1 أجيب عن ذلك: بأن القياس صحيح، وليس مع الفارق كما قلتم، لأن الغنيمة كما تملك وتحرز في دار الإسلام فكذلك في دار الحرب، ولأن الاطمئنان يحصل للمجاهدين في دار الحرب بمجرد هزيمة أعدائهم وقهرهم، والاستيلاء على أموالهم، فتقسم الغنائم في دار الحرب كما تقسم في دار الإسلام، بل إنها قسمتها في دار الحرب أولى لأنه ربما نتج حرج ومشقة في حملها إلى دار الإسلام، ولأن الغنيمة حق للمجاهدين وتعجيل الحق لصاحبه أولى من تأخيره، ولأن في قسمتها في دار الحرب كيدا للأعداء وفرحا للمسلمين بالنصر.2   1 المبسوط 10/18،19،وفتح القدير 5/224،225،والغرة المنيفة ص 176. 2 الخرشي على المختصر خليل 3/136، والأحكام السلطانية للماوردي ص 139، والمغني 8/422، والمحلي7/341. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وإذا خيف من سوء العاقبة التي ربما تنتج عن قسمتها في دار الحرب فتأخيرها إلى دار الإسلام جائز بلا خلاف بين العلماء.1 الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء في قسمة الغنيمة في دار الحرب وأدلتهم ومناقشتها، اتضح لي أن الرأي المختار هو جواز قسمة الغنائم في دار الحرب وهو ما ذهب إليه الجمهور- وذلك للأسباب الآتية: 1- لقوة الأدلة التي استدلوا بها من ذلك قسمته صلى الله عليه وسلم غنائم بدر قبل أن يصل إلى المدينة، وغنائم بني المصطلق وحنين وخيبر، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة السابقة. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر"2 وقال الإمام الأوزاعي: "لم يقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أصاب فيها مغنما إلا خمسة وقسمه قبل أن يقفل"3 وقال الإمام الشافعي: "ما علمت للرسول صلى الله عليه وسلم سرية قفلت من موضعها حتى تقسم ما ظهرت عليه وقال: إن أهل المغازى لا يختلفون في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غير مغنم في بلاد الحرب"4   1 تكملة المجموع 18/161، والأحكام السلطانية للماوردي ص139، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص150. 2 أخرجه البخاري 2/193كتاب الجهاد باب الغنيمة لمن شهد الوقعة. 3 الرد على سير الأوزاعي ص 1، والأم 7/335. 4 الأم 7/335. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وقال الإمام الباجي: "لم يزل الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر وعثمان والخلفاء كلهم وجيوشهم في البر والبحر ما قسموا غنيمة قط إلا حيث غنموها وهذا معروف عند أهل السير والمغازي"1 وقال الخرشي: "السنة الماضية التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم والعمل الذي مضى عليه السلف أن الإمام يقسم الغنيمة في أرض العدو"2 وأقوال العلماء هذه تؤكد لنا أن الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قسمة الغنيمة في دار الحرب. 2- ولأن الأدلة التي استدل بها الحنفية على عدم جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب، منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح، فالضعيف منها يسقط به الاستدلال، والصحيح منها لا دلالة لهم فيه، بل غاية ما دل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنيمة في دار الإسلام، وهذا لا يمنع من قسمتها في دار الحرب. ويمكن حمله على النبي صلى الله عليه وسلم أخر القسمة إلى دار الإسلام لأن المصلحة تقتضي التأخير وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. 3- ولأنه ربما نتج عن تأخيرها إلى دار الإسلام الحرج والمشقة، لأن المجاهدين ربما لا يستطيعون حملها وهم في حاجة إليها وهذا مما يوقعهم في الحرج والمشقة وهما مرفوعان عن هذه الأمة بكتاب الله سبحانه وتعالى   1 المنتقى شرح الموطأ 3/176. 2 الخرشي شرح مختصر خليل 3/136. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر" 2 4- ولأن الغنيمة بمجرد انتهاء القتال وهزيمة الأعداء وتفرق شملهم يتم الاستيلاء عليها، فتتعجل متى أحرزت، لأن الغنيمة حق من حقوق المجاهدين وتعجيل الحق لصاحبه أولى من تأخيره. حتى أن بعض الفقهاء كره تأخير قسمتها إلى دار الإسلام، قال النووي: "يستحب قسمتها في دار الحرب ويكره تأخيرها إلى دار الإسلام من غير عذر" 3 5- ولأن قسمة الغنيمة في دار الحرب أنكى للعدو، وأطيب لقلوب المجاهدين، وأحفظ للغنيمة، لأنها ربما تعرضت للضياع أثناء حملها إلى دار الإسلام. وبناء على هذا الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار لا أثر له في قسمة الغنيمة في دار الكفر الحربية فتجوز قسمتها في دار الكفر كما تجوز قسمتها في دار الإسلام. تتمة: ويتفرع عن اختلافهم في جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب مسائل منها:   1 الحج: 78. 2 أخرجه البخاري 1/16 كتاب الإيمان باب الدين يسر. 3 انظر: روضة الطالبين 6/376. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 1- أن المدد الذي يصل إلى دار الحرب بعد انتهاء القتال وإحراز الغنيمة لا يسهم له منها عند الجمهور كما في حديث أبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم له ولأصحابه من الغنيمة لأنهم لم يشهدوا الغزوة1، والغنيمة لمن شهد الوقعة كما قال عمر رضي الله عنه.2 ولأن الغنيمة تملك وتحرز بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب، وإذا ملكت وأحرزت لا حق لهم فيها. وقال الأحناف: المدد الذي يصل إلى دار الحرب بعد انتهاء القتال، يسهم له من الغنيمة لأنها لا تملك إلا بإحرازها في دار الإسلام. 2- ومنها أنه إذا مات أحد الغانمين في دار الحرب يسهم له ويورث نصيبه عند الجمهور. ولا يسهم له ولا يورث نصيبه عند الأحناف. 3- ومنها: أنه إذا أتلف أحد الغانمين شيئا من الغنيمة، يضمنه عند الجمهور وعند الحنفية لا يضمن. 4- ومنها: أن الإمام إذا باع شيئا من الغنيمة بدون حاجة جاز له ذلك عند الجمهور، ولا يجوز عند الحنفية. 5- ومنها: أن الإمام إذا قسم الغنائم في دار الحرب من غير اجتهاد جاز له ذلك عند الجمهور، وعند الحنفية لا يجوز.3   1 أخرجه البخاري 3/55 كتاب المغازي، باب عزوة خيبر. 2 سبق تخريجه ص 186. 3 بدائع الصنائع 7/121، وتأسيس النظر للدبوسي ص 79، وأحكام القرآن للجصاص 3/، وأسهل المدارك 2/12، والأم 7/335 والمغني 8/422. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 الفصل الرابع: اختلاف الدار وأثره في أحكام المعاملات والنكاح المبحث الأول: أثره في التعامل بالربا في دار الكفر الربا من العقود الفاسدة التي يحرم على المسلم التعامل بها لأنه من الكبائر ومن الموبقات المهلكة لصاحبها وقد ثبت تحريمه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين. فدليل التحريم من الكتاب: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.   1 البقرة: 275. 2 البقرة: 276. 3 البقرة: 278. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 فجميع هذه الآيات الكريمات تدل دلالة واضحة على تحريم الربا، وأنه من كبائر الذنوب، والوعيد الشديد لمن يتعامل به من المسلمين في الدنيا يمحق الله به بركة ماله، وفي الآخرة يكون من أصحاب النار الخالدين فيها. أما دليل التحريم من السنة: فبما ثبت عن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء"1 فالحديث يدل دلالة واضحة على أن الربا محرم ومن كبائر الذنوب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من تعامل به، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، ولا يكون إلا على فعل محرم. أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريم التعامل بالربا، وأنه من كبائر الذنوب.2 وقد اتفق الفقهاء على تحريم التعامل بالربا بين المسلمين في دار الإسلام أو في دار الحرب.3   1 أخرجه البخاري 2/8كتاب البيوع باب موكل الربا. ومسلم 3/1219كتاب المساقاة باب لعن آكل الربا وموكله واللفظ له. 2 الاختيار 2/33، وبلغة السالك2/15، والجامع لأحكام القرآن 3/346 والمجموع شرح المهذب 9/391، وكفاية الأخيار 1/152، والمغني 4/46، ومجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية 29/418. 3 بدائع الصنائع 5/192، وفتح القدير 6/178، وأسهل المدارك 2/220، وبلغة السالك 2/15، والمجموع شرح المهذب 9/391، والمغني 4/46، والمبدع 4/156،157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 إلا الإمام أبا حنيفة قال الحربي إذا أسلم ولم يهاجر إلى دار الإسلام يجري الربا بينه وبين المسلم الأصلي، لأن مال المسلم في دار الحرب إذا لم يهاجر إلى دار الإسلام باق على حكم مالهم وهو الإباحة، ألا ترى أنه إذا أتلفه متلف لم يضمن، أما إذا هاجر إلى دار الإسلام ثم عاد إلى دار الحرب لم يجز الربا معه، لأنه قد أحرز ماله بدارنا فصار كأهل الإسلام.1 ولكن قوله هذا خلاف عموم الآيات والأحاديث التي دلت على تحريم التعامل بالربا بين المسلمين في أي مكان وفي كل زمان. أما التعامل بالربا بين المسلم وغير المسلم فلا يخلو ذلك من حالتين: الحالة الأولى: ذا كان هناك أمان بينهما-كالكافر إذا دخل دار الإسلام بأمان - فقد اتفق الفقهاء على تحريم التعامل معه بالربا سواء كان ذمياً أو مستأمناً أخذا وإعطاء على حد سواء.2 لأن تعامل المسلم مع الذميين والمستأمنين في دار الإسلام له حكم تعامل المسلمين بعضهم مع بعض، لوجوب التزام المسلم بالأحكام   1 البحر الرائق 6/147وتبين الحقائق 4/97، والجوهرة النيرة 2/262، وفتح القدير 6/178، وحاشية ابن عابدن 5/186، والاختيار 2/33. 2 حاشية رد المحتار 5/186، وفتح القدير 6/178، والاختيار 2/33، والبناية 6/570، وبدائع الصنائع 5/192، والمقدمات الممهدات2/617، وأحكام القرآن لابن العربي 1/516، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/262، والمجموع شرح المهذب 9/392، ونهاية المهتاج 7/270، وكشاف القناع 3/259، والإفصاح 1/329، والمبدع 4/157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 الشرعية، وعصمة مال المسلمين والمعاهدين من غير المسلمين فيها، لأن عقد الذمة بالنسبة للذميين خلف عن الإسلام في عصمة المال، وفي وجوب التزام أحكام الإسلام في الدنيا فيما يرجع إلى المعاملات، والمستأمنين في دار الإسلام بمنزلة الذميين في ذلك.1 بل إن الفقهاء نصوا على منع المستأمنين والذميين من التعامل بالربا فيما بينهم في دار الإسلام فهذا الإمام السرخسي يقول: "فإن دخل تجار أهل الحرب دار الإسلام بأمان فاشترى أحدهم من صاحبه درهما بدرهمين لم أجز من ذلك إلا ما أجيزه بين أهل الإسلام، وكذلك أهل الذمة إذا فعلوا ذلك لأن مال كل واحد منهم معصوم متقوم ولا يتملكه إلا بجهة العقد وجرمة الربا ثابتة في حقهم، وهو مستثنى من العهد فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى نصارى نجران "من أربى فليس بيننا وبينه عهد"، وكتب إلى مجوس هجر "إما أن تدعوا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله"، فالتعرض لهم بمنعهم من الربا لا يكون غدرا بالأمان، لأنه ثبت أنهم نهو عن الربا كما قال تعالى: {وأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} 2 فيمنعون من التعامل بالربا كما يمنع المسلمون من ذلك.3 هذا فيما إذا كان الكافر هو المستأمن في دار الإسلام. أما إذا كان   1 المبسوط 10/84، وشرح السير الكبير 1/3067، وبدائع الصنائع 6/81، وأحكام القرآن للجصاص 2/436. 2 النساء: 161. 3 المبسوط 14/58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 المسلم هو المستأمن1 -كمن دخل دار الكفر بأمان.   1 المسلم المستأمن هو الذي يدخل ديار الكفار بعقد أمان، لتحقيق بعض الأغراض الدينية كأن يدعوهم إلى الإسلام، ويبين لهم أنه هو الدين الخالص، والصحيح الذي يجب أن يعتنقه جميع البشر، والدنيوية كالسفر للتجارة، أو لطلب العلم وغير ذلك من الأغراض الدنيوية. فالمسلم إذا أراد أن يسافر إلى ديار الكفار لابد له من أمان، يأمن فيه على نفسه وماله كالمستأمن الحربي عندما يدخل دار الإسلام ويعقد الأمان مع المسلمين، فلا بد أن يحصل المسلم على الإذن والرخصة من السلطات المختصة لدخول دار الكفر ليكون آمنا على نفسه وماله، وقد حصل الأمان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم له ولأصحابه في حالات كثيرة منها: 1- أمان المطعم بن عدي للرسول صلى الله عليه وسلم عندما انصرف من الطائف متوجها إلى مكة، فبعث إلى بعض حلفاء قريش ليجيروه في دخول مكة فامتنعوا، فبعث إلى المطعم بن عدي فأجاره حتى دخل مكة وطاف بالبيت وصلى فيه، ثم انصرف إلى منزله آمنا. وكذلك أجار مطعم سعد بن عبادة عندما دخل مكة وتعلقت به قريش. 2- أمان النجاشي للمهاجرين من الصحابة إلى الحبشة. وكذلك أمان أبي البراء عامر بن مالك لبعض الصحابة في موقعة بئر معونة. وغير ذلك كثير. ويجب على المسلم الذي يدخل دار الكفر بأمان أن يلتزم بما في الأمان فلا يتعرض لشيء من دمائهم وأموالهم، لأنه ما مكن من الدخول إلا بشرط عدم التعرض أو الاعتداء على دمائهم وأموالهم، والمسلمون عند شروطهم، وخيانتهم غدر ولا يصلح في ديننا الغدر. فالمسلم المستأمن في دار الكفر مطلوب منه أن يتحلى بالأخلاق والآداب الإسلامية ليعكس بأخلاقه وآدابه سماحة الإسلام فيحبب الناس به ويرغبهم فيه. انظر: عيون الأثر 1/115، 136،2/41، والسيرة النبوية لابن هشام1/ 217، 218، 2/15، وزاد المعاد3/28، 29، وحاشية ابن عابدين 4/166، والخرشي3/116، والأم4/248، ومغنى المحتاج 4/239، والمغني 9/295. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 فقد اختلف الفقهاء في حكم التعامل بالربا بينه وبين الحربي، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل. الحالة الثانية: إذا لم يكن هناك أمان بينهما، كما إذا دخل الحربي دار الإسلام بغير أمان، أو دخل المسلم دار الكفر بغير أمان يعطاه، ففي هذه الحالة اختلف الفقهاء في حكم التعامل بالربا مع الحربي إلى قولين: القول الأول: يباح للمسلم أن يتعامل بالربا مع الحربي في دار الإسلام إذا دخلها بغير أمان، أو في دار الكفر فيما إذا دخلها المسلم بغير أمان. وهو قول فقهاء الحنفية والحنابلة في الرواية.1 قال الزيلعي: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب"2 وقال مجد الدين ابن تيمية: "الربا محرم في دار الإسلام والحرب، إلا بين مسلم وحربي لا أمان بينهما"3 وحجتهم في ذلك أن مال الحربي غير المستأمن مباح الاعتداء بأي صورة من صور الاعتداء بالربا أو السرقة أو الغصب أو غير ذلك، لأنه   1 الاختيار 2/33، وحاشية ابن عابدين 5/186، وبدائع الصنائع5/192، وفتح القدير 6/178، وتبيين الحقائق 4/97، والجوهر النيرة 2/262، والإنصاف 5/52، والفروع 4/147، والمبدع 4/157، والمحرر 1/318. 2 انظر: تبيين الحقائق 4/97. 3 انظر: المحرر 1/318. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 عصمة له، فهو مباح الدم، والمال، وكذلك إذا دخل المسلم داره بدون أمان فله الاعتداء على أمواله بأي نوع من أنواع الاعتداء.1 وقال ابن مفلح بعد أن ذكر إباحة التعامل بالربا بين المسلم والحربي: "لأن أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحا"2 القول الثاني: يحرم التعامل بالربا بين المسلم والحربي مطلقا، أخذا أو عطاء في دار الإسلام، أو في دار الحرب، بأمان أو بدون أمان. وهو قول فقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة في الصحيح من المذهب.3 قال النووي: "ولا فرق في تحريمه، بين دار الإسلام، ودار الحرب، فما كان حراما في دار الإسلام، كان حراما في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمين، أو مسلم وحربي، وسواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره"4 وقال المرادي: "والصحيح من المذهب أن الربا محرم بين الحربي   1 الاختيار 2/33، وبدائع الصنائع 5/191، والبحر الرائق 6/147، وفتح القدير 6/178، والمحرر 1/318، وكشاف القناع 3/259. 2 انظر المبدع 4/157. 3 المدونة الكبرى 4/271، والمقدمات الممهدات 1/178،179، وأحكام القرآن لابن العربي 1/516، والمجموع شح المهذب 9/391 وروضة الطالبين 10/219، والمغني 4/45، والمبدع 4/157، والإنصاف 5/52، وكشاف القناع 3/259. 4 انظر: المجموع شرح المهذب 9/391. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 والمسلم مطلقا"1 وقال البهوتي: "ويحرم الربا بين المسلم والحربي، في دار الإسلام ودار الحرب، ولو لم يكن بينهما أمان" 2 وحجتهم في هذا عموم النصوص من الكتاب والسنة الدالة على تحريم الربا في أي مكان، في دار الحرب أو في دار الإسلام. كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 3 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4. وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء"5 فهذه النصوص من الكتاب والسنة تدل بعمومها على تحريم الربا بين المسلمين وغير المسلمين في دار الإسلام أو في دار الحرب، بأمان أو بدون أمان.6   1 انظر: الإنصاف للمرادي 5/52. 2 انظر: كشاف القناع 3/259. 3 البقرة: 275. 4 البقرة: 278. 5 سبق تخريجه ص 206. 6 انظر: المراجع في حاشية رقم (3) الصفحة السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء في المسألة وأدلتهم اتضح لي أنه ينبغي التفريق بين أمرين: الأمر الأول: إعطاء المسلم الربا للحربي، فهذا لا يجوز، سواء وقع التعامل في دار الإسلام أو في دار الحرب على السواء. وذلك لعموم الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم الربا على المسلم. ولأن المسلم مأمور بالتزام أحكام الإسلام، كيف ما كان حاله، وحيث ما يكون، ومن قواعد الإسلام حرمة هذا النوع من المعاملة، ولأن مال المسلم معصوم في دار الإسلام ودار الحرب، والمسلم مسئول عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعلى ذلك فلا يجوز له أن ينفقه فيما هو محرم كالتعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة. الأمر الثاني: أخذ المسلم الربا من الحربي: وحكم هذا الأخذ حكم أخذ أمواله عن طريق الغنيمة أو السرقة أو الغصب، ونحو ذلك من أنواع الاعتداء، ولما كان أخذ مال الحربي الذي لا أمان له مباحا في دار الإسلام أو في دار الحرب، نظرا لعدم عصمة مال الحربي في هذه الحالة، وإذا كان دمه مباحا فإباحة ماله من باب أولى. لأن الحربي الذي لا أمان له ينصب أشد العداوة للمسلم ويتحين أقرب الفرص للاعتداء على نفسه، فإن لم يستطع فإنه لا يستنكف عن أخذ ماله بكل وسيلة محرمة قهرا إن استطاع، ولأن كلا منهما لا يضمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 مال صاحبه عند الإتلاف، وإذا كانت أموال الحربي الذي لا أمان له مباحة عن طريق الغنيمة أو السرقة، أو نحو ذلك من أنواع الاعتداء، فإباحة ماله برضاه عن طريق الربا من باب أولى. أما حكم التعامل بالربا بين المسلم -الذي دخل دار الحرب بأمان- وببين الحربي فقد اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين: القول الأول: يجوز للمسلم مستأمنا كان أو غير مستأمن أن يتعامل بالربا مع الحربيين في دار الحرب، بل يجوز له التعامل بجميع العقود الفاسدة فيها، فلو باعهم ميتة وقامرهم وأخذ منهم مالاً بالقمار فذلك جائز ويملك ما أخذه من مال بهذا التعامل، والذمي كالمسلم في هذا وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف1، وبه قال عبد الملك ابن الماجشون من المالكية2 وهو رواية للحنابلة في غير المشهور من المذهب إذا لم يكن المسلم مستأمنا، وبعضهم أخذها على ظاهرها مستأمنا كان أو غير   1 بدائع الصنائع 5/192، والمبسوط 14/56، والبحر الرائق 6/147، وتبيين الحقائق 4/97، والجوهرة النيرة 2/262، وفتح القدير 6/178، وحاشية رد المختار 5/186، والاختيار 2/33، والبناية 6/570، وأحكام القرآن للجصاص 2/436، ومجمع الأنهر 2/90، ومشكل الآثار 4/241. 2 أحكام القرآن لابن العربي 1/516. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 مستأمن وينسب هذا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-1. القول الثاني: يحرم على المسلم التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة في أي مكان، حتى في دار الحرب فلا يجوز له أن يتعامل بالربا مع الحربي وغيره في دار الحرب سواء كان المسلم مستأمناً أو غير مستأمن، فالربا محرم عليه في دار الحرب كما هو محرم عليه في دار الإسلام، وهو مروي عن   1 المبدع 4/157، والإنصاف 5/52،53، والفروع 4/147، والمحرر 1/318. وبعد البحث والتنقيب في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المقولة التي نسبتها إليه بعض كتب الحنابلة، لأوثقها من كتبه، لم أجد فيما اطلعت عليه من كتبه، ما نسب إليه من جواز التعامل بالربا بين المسلم مستأمنا كان أو غير مستأمنا مع الحربي في دار الحرب، بل وجدت في بعض كتبه ما يخالف هذه النسبة، فجاء في كتابه الصارم المسلول: "إن الحربي لو عقد عقدا فاسدا من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك، ثم أسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده، ولم يجب عليه رده، ولو لم يكن قبضه لم يجز له أن يقبض منه إلا ما يجوز للمسلم كما دل عليه قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمرهم بترك ما بقي في ذمم الناس ولم يأمرهم برد ما قبضوه، ومعناه أن الحربي من أهل دار الحرب إذا تعامل فيها مع غيره بالربا ثم أسلم قبل الربا، لم يجز له أخذ تلك الزيادة. فإذا كان شيخ الإسلام لا يبيح للحربي الذي تعامل في دار الحرب قبل إسلامه أن يأخذ الزيادة من أهلها بعد أسلم، فإن مقتضى رأيه لا يبيح بالأولى للمسلم الذي دخل دار الحرب بأمان أن يأخذ منهم الربا" انظر: الصارم المسلول ص161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الأوزعي وإسحاق وأبي ثور. وهو قول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب الظاهرية وأبي يوسف من الحنفية.1 الأدلة استدل أصحاب القول الأول الذين قالوا بإباحة التعامل بالربا بين المسلم والحربي في دار الحرب: بالسنة، والمأثور، والمعقول: دليلهم من السنة: 1- بما روي عن مكحول أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب" 2 وجه الدلالة: دل الحديث على إباحة الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى جريان الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب. قال   1 انظر: الشرح الكبير مع الدسوقي 2/179، والمدونة4/271، والمقدمات 1/178- 179، وأحكام القرآن 1/516، والفروق 3/27، والأم 7، والمجموع شرح المهذب9/391، وروضة الطالبين 10/291، والإشراف 1/262، والمغني 4/45، والمبدع 4/157، والإنصاف 5/52،53، والفروع 4/147، وكشاف القناع 3/259، والهداية لأبي الخطاب 1/139، ومطالب أولي النهي 3/188 – 189، والإفصاح 1/329، والمحلى 8/515، والرد على سير الأوزاعي ص 97، والمبسوط 14/56، وحاشية ابن عابدين 5/186، وبدائع الصنائع 5/192. 2 ذكره الزيلعي في نصب الراية 4/44، والسرخسي في المبسوط 14/56، وأبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص 97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 السرخسي: "الحديث دليل على جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب"1 2- وبما ثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: "كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا أوضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله" 2 وجه الدلالة من الحديث: الوضع في الحديث معناه الحط والإسقاط، فدل ذلك على أن ربا العباس كان قائما بمكة، لما كانت دار حرب، حتى وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، لأنه لا يضع إلا ما كان قائما لا ما قد سقط قبل وضعه إياه.3 قال الطحاوي: "ففي ذلك ما قد دل على أن الربا كان حلالا، فيما بين المسلمين والمشركين بمكة لما كانت دار حرب، وهو حينئذ حرام بين المسلمين في دار الإسلام، وفي ذلك ما قد دل على إباحة الربا بين المسلمين وأهل دار الحرب في دار الحرب"4 وقال الجصاص: "وفيه الدلالة على أن العقود الواقعة في دار الحرب،   1 انظر: المبسوط 14/56. 2 أخرجه مسلم 2/889 كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 3 بدائع الصنائع 5/193، ومشكل الآثار 4/244، والجوهر النقي 9/106. 4 انظر: مشكل الآثار 4/ 245. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 إذا ظهر عليها الإمام لا يتعرض عليها بالفسخ، وإن كانت معقودة على فساد، لأنه معلوم أنه قد كان بين نزول الآية، وبين خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ووضع الربا الذي لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح، ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية، مما كان منها بعد نزولها، فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين، إذا ظهر عليها الإمام يفسخ منها ما كان مقبوضا"1 وقال ابن التركماني: "مذهب البيهقي وأصحابه أن البيع المذكور لا يجوز وأن الربا ثابت بين المسلم والحربي، وهذا الحديث يدل على خلاف ذلك وأنه لا ربا بينهما"2 وقال ابن رشد: "هذا استدلال صحيح- أي استدلال الحنفية بالحديث- لأنه لو لم يكن الربا بين المسلمين والمشركين حلالا في دار الحرب لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم وما قبض منه بعد ذلك مردود3 لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} 4 3- وبحديث ركانة رضي الله عنه5 أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه بأعلى مكة فقال له   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/417. 2 انظر: الجوهر النقي مع سنن البيهقي9/106. 3 انظر: المقدمات الممهدات 2/278. 4 البقرة: 279. 5 وهو ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب القرشي المطلبي، أسلم يوم فتح مكة، وتوفي في خلافة عثمان، وقيل توفي سنة 42هـ. انظر: أسد الغابة 2/236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 ركانة هل تصارعني على ثلث غنمي فقال صلى الله عليه وسلم نعم، وصارعه فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أخذ منه جميع غنمه ثم ردها عليه تكرما.1 قال السرخسي: "هذا الحديث دليل على جواز الربا في دار الحرب بين المسلم والحربي" أما دليلهم من المأثور: فبما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى {غُلِبَتِ الرُّومُ} 2. قال له مشركوا قريش يرون أن الروم تغلب فارس فقال نعم فقالوا: هل لك أن تخاطرنا على أن نضع بيننا وبينك خطرا فإن غلبت الروم أخذت خطرنا، وإن غلبت فارس أخذنا خطرك، فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه على ذلك ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال اذهب إليهم فزد في الخطر وأبعد في الأجل ففعل أبو بكر رضي الله عنه وظهرت الروم على فارس فبعث إلى أبي بكر رضي الله عنه أن تعال فخذ خطرك وأخذه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم به فأمره بأكله وهذا القمار لا يحل بين أهل الإسلام، وقد أجازه الرسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر رضي الله عنه وهو مسلم وبين مشركي قريش، لأنه كان بمكة في دار الشرك حيث لا تجري   1 أخرجه أبو داود 4/341 كتاب اللباس بلفظ: "أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم" والترمذي 4/247 كتاب اللباس حديث رقم 1784 بنفس اللفظ ولم أجد هذه اللفظة التي استدلوا بها إلا في المبسوط 14/57. 2 الروم: 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 أحكام المسلمين.1 أما دليلهم من المعقول: فمن ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن أحكام المسلمين لا تجري على الحربيين في دارهم فبأي وجه أخذ منهم المسلمون أموالهم برضا منهم فهو جائز.2 الوجه الثاني: أن المسلم إذا دخل بغير أمان يجوز له أخذ مال الحربي بأي أنواع الاعتداء وبغير طيبة نفسه أي بغير رضاه فإذا أخذه على هذا الوجه بطيبة نفسه كان أولى بالجواز.3 الوجه الثالث: أن الأصل في أموال الحربيين الإباحة، إلا أن الأمان منع من غدرهم وخيانتهم، وأخذ أموالهم بغير رضاهم، أما إذا رضوا بأخذ أموالهم بالربا أو بأي عقد آخر فاسد، فهذا جائز لأنه أخذ مالا مباحا بلا غدر، فيملكه بحكم الإباحة السابقة، ومن ثم إذا رضي الحربي ببذل ماله عن طيب نفس منه زال المعنى الذي حرم لأجله.4   1 انظر: المبسوط 14/57 وهذه القصة أخرجها الترمذي 5/345 كتاب تفسير القرآن بلفظ آخر، وقال هذا حديث صحيح حسن غريب. 2 المبسوط 14/57، وفتح القدير 6/178، والرد على سير الأوزاعي ص 96. 3 الجوهرة النيرة 2/262، وتبيين الحقائق 4/97. 4 فتح القدير 6/178، والبحر الرائق 6/147، والجوهرة النيرة 2/262، والاختيار 2/33، وحاشية ابن عابدين 5/186، وتبيين الحقائق 4/97، وبدائع الصنائع 5/192، والمبدع 4/157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 أدلة أصحاب القول الثاني الذين قالوا بتحريم التعامل بالربا في دار الحرب كدار الإسلام: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس: دليلهم من الكتاب: 1- قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} 1 2- قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2 3- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3 4- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} 4 وجه الدلالة من الآيات: الآيات الكريمات تدل بعمومها على تحريم الربا على المسلمين في   1 البقرة: 275. 2 البقرة: 275. 3البقرة: 278. 4 آل عمران: 130. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 أي مكان في دار الإسلام، أو في دار الحرب، لأنها عامة ولم يرد ما يخصص هذا العموم.1 قال ابن قدامة: "عموم الآيات يقتضي تحريم التفاضل"2 أما دليهم من السنة: 1- فبما روي عن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وقال هم سواء"3 وجه الدلالة من الحديث: فالحديث بعمومه يدل على تحريم التعامل بالربا بين المسلمين والمشركين في دار الإسلام أو في دار الحرب ولم يرد ما يخصص هذا العموم.4 2- وبما روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى"5   1 المبدع 4/157، والمجموع شرح المهذب 9/391، ومطالب أولي النهي 3/188،189، وكشاف القناع 3/259،والإشراف لابن المنذر 1/206،وشرح منتهى الإرادات 2/206. 2 المغني 4/46. 3 سبق تخريجه ص 206. 4 المغني 4/46، والمبدع 4/157، والمجموع شرح المهذب 9/391، 392. 5 أخرجه الإمام مسلم 3/1210كتاب المساقاة باب الربا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 فهذا الحديث أيضا يدل على تحري الربا على المسلمين لأن معنى قوله: "فقد أربى" أي فقد فعل الربا المحرم على المسلمين في دار الإسلام أو في دار الحرب.1 3- وبحديث جابر رضي الله عنه المتقدم فيه: "وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله"2 وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل ربا الجاهلية وأوله ربا العباس وكان مسلما وكانت مكة آنذاك دار حرب، فلم يبح له النبي صلى الله عليه وسلم التعامل بالربا في دار الحرب. أما دليلهم من المعقول: فمن أربعة أوجه: 1- أن ما كان محرما في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب كالخمر وسائر المعاصي، فالمسلم مخاطب بالشريعة الإسلامية وأحكامها في جميع الأماكن من غير فرق بين دار إسلام أو دار حرب، فالربا محرم عله في جميع الديار.3 2- أن الربا من العقود الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام فلم يصح في   1 انظر: المغني 4/46، والمبدع 4/ 157، ومطالب أولى النهي 3/188. 2 سبق تخريجه ص 217. 3 الجوهرة النيرة 2/262، ومطالب أولي النهى 3/188، والمبدع 4/157، والمجموع شرح المهذب 9/391، والمغني 4/46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 دار الحرب كالنكاح الفاسد.1 3- أن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين ثابتة في حق الكفار لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال، قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} 2 فاشتراطه في البيع يوجب فساده كما إذا تبايع المسلم والحربي المستأمن في دار الإسلام.3 4- أن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان فقد وجب عليه الوفاء بالعهد وحرمت عليه خيانتهم، وتعامله معهم بالربا فيه خيانة لهم وأكل لأموالهم، وقد أخذ عليه بأن لا يخون عهدهم، ولا يتعرض لمالهم، ولا لشيء من أمرهم.4 أما القياس: فهو القياس على المستأمن الحربي في دارنا. فالحربي إذا دخل دار الإسلام بأمان وتعامل معه المسلم بالربا لا يجوز باتفاق الفقهاء، فكذلك لا يجوز للمسلم التعامل معه بالربا في دار الحرب.5   1 المجموع شرح المهذب 9/291. 2 النساء: 161. 3 الجامع لأحكام القرآن 6/12، وأحكام القرآن لابن العربي 1/516، وتبيين الحقائق 4/97، وفتح القدير 5/49. 4 الأم 7/326، وأحكام القرآن لابن العربي 1/516. 5 فتح القدير 6/178، وحاشية رد المختار 5/186، والاختيار 2/33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 المناقشة: أولا: مناقشة أدلة الحنفية ومن وافقهم الذين قالوا بإباحة الربا في دار الحرب أولا: مناقشة أدلتهم من السنة: 1- بالنسبة لاستدلالهم بحديث مكحول يرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أن الحديث مرسل غريب كما يقول الأحناف أنفسهم كالزيلعي وابن الهام.1 وقال الإمام الشافعي: "الحديث ليس ثابت ولا حجة فيه"2 وقال الحافظ ابن حجر: "لم أجده"3 وقال النووي: "الحديث مرسل ضعيف فلا حجة فيه"4 وقال العيني: "هذا حديث غريب ليس له أصل مسند"5 وقال الحنابلة: "الحديث مرسل ومجهول، لا نعرف صحته ولم يرد في صحيح، ولا مسند ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل"6   1 انظر: نصب الراية 4/44، وفتح القدير 6/178. 2 انظر: الأم 7/ 359. 3 انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/158. 4 انظر: المجموع شرح المهذب 9/291. 5 انظر: البناية 6/571 6 انظر: المغني 4/46، والمبدع 4/157، ومطالب أولى النهي 3/188،189، وكشاف القناع 3/259. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 أجاب الحنفية عن ذلك فقال السرخسي: "الحديث وإن كان مرسلا فمكحول فقيه ثقة والمرسل من مثله مقبول"1 ونحن لا ننكر بأن مكحول فقيه ثقة لكنه ليس مرسل صحيح حتى يقبل. وبهذا لم يثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: على فرض أن الحديث ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحيح فهو محمول على أن معناه: لا يباح الربا في دار الحرب بين المسلم والحربي، جمعا بين الأدلة كما يقول النووي.2 وقال ابن قدامة: "ويحتمل أن المراد بقوله: "لا ربا النهي عن الربا"3 كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ} 4، قال الإمام السبكي: "واعتضد هذا الاحتمال بالعمومات!! فيكون المراد بلا في الحديث نفي الحل والمشروعية جمعا بين الأدلة"5 2- وكذلك حديث العباس لا دلالة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع من ربا أهل الجاهلية ما أدركه الإسلام من ذلك،   1 انظر: المبسوط 14/56. 2 انظر: المجموع شرح المهذب 9/391. 3 انظر: المغني لابن قدامة 4/46. 4 البقرة: 197. 5 انظر: تكملة المجموع للسبكي 11/229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وكان أول ربا وضعه ربا العباس بن عبد المطلب، وكانت مكة آنذاك دار حرب والعباس مسلم فأبطل رباه فيها.1 وكذلك يمكن الرد على استدلالهم بحديث العباس من وجوه: الوجه الأول: أنه من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس خاصة بأخذ الربا منهم في مكة وهي دار كفر، فتكون الإباحة قضية عين لا يقاس عليها غيرها. الوجه الثاني: أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه فيكفي حمل اللفظ عليه، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا، ولو سلم استمراره عليه، فإنه قد لا يكون عالما بتحريمه فأراد النبيصلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ.2 الوجه الثالث: أنه لا يبعد أن يكون تعامل العباس معهم بربا الفضل دون ربا الجاهلية - ربا الدين- وربا الفضل لم يكن معلوم التحريم لجميع الصحابة رضي الله عنهم لأن تحريمه كان يوم خيبر في السنة السابعة من الهجرة وعلى هذا فربما لم يبلغ العباس رضي الله عنه تحريم ربا البيوع فكان يتعامل به لعدم معرفته بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه حتى أعلن عليه الصلاة والسلام حرمته في خطبته بحجة الوداع، ووضع ربا العباس وكل ربا لم يقبض.3   1 الأم 7/358-359، والرد على سير الأوزاعي ص 96. 2 تكملة المجموع شرح المهذب للسبكي 11/23. 3 أحكام التعامل بالربا ص 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الوجه الرابع: أن العباس رضي الله عنه كان يأخذ الربا - مطلقا- من المشركين بمكة وهو مسلم، لا لأن أخذ الربا من الحربيين حلال جائز في دار الحرب دون دار الإسلام، ولكن الربا وقتئذ لم يكن تحريمه قد استقر، ولم يكن تشريع الإسلام فيه قد اكتمل حتى نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 وذلك بعد إسلام ثقيف وصلحهم في رمضان سنة تسع من الهجرة أي قبل حجة الوداع، أما قبل ذلك فلم يكن تحريمه باتا قاطعا، ولهذا كان العباس رضي الله عنه يتعامل به ويأخذه من المشركين، وهو مسلم مقيم بمكة، حتى أتم الله تشريعه، وقضى بحرمته قضاء مبرما عند نزول الآية الكريمة المشار إليها، عندها امتنعرضي الله عنه عن أخذه وتوقف عن التعامل به، وقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، تأكيدا لحكم الآية وترسيخا للحرمة وبيانا قاطعا للأمة بنهي الإسلام عنه بعدما كمل الدين وتمت الرسالة2 وبهذا يتضح لنا أنه لا دلالة للحنفية في حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وإنما هو حجة عليهم. 2- وكذلك حديث ركانة لا دلالة لهم فيه، وغاية ما يدل عليه   1 البقرة: 278. 2 أحكام التعامل بالربا ص 29/30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم صارع ركانه فصرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. وأيضا اللفظ الذي استدلوا به وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم صارعه على بعض غنمه وأخذها منه عندما صرعه"، لا وجود له فيما اطلعت عليه من كتب السنة والآثار المشهورة، ولم يوجد إلا في كتبهم.1 وأيضا الثابت من الحديث ليس صحيحا بل فيه مقال.2 وعلى فرض ثبوت الحديث ووجود اللفظ الذي استدلوا به، يقال لهم هذا ليس من باب الربا. ثانياً: مناقشة دليلهم من المأثور: استدلالهم بقصة أبي بكر رضي الله عنه غير صحيح، لأنها لم تثبت باللفظ الذي ذكروه فما في السنن والآثار يخالف هذا اللفظ.3 وبهذا يسقط احتجاجهم بهذه القصة. ثالثا: أما أدلتهم من المعقول فيمكن الرد عليها بما يلي: قولهم بأن أحكام المسلمين لا تجري على أهل الحرب في دارهم، نقول لهم نعم أحكام الإسلام لا تجري عليهم إلا إذا كانوا مستأمنين في دار الإسلام، ولكن يقال لهم بأن أحكام الإسلام تجري على المسلم المتعامل بالربا معهم وفي دارهم، ويجب عليه أن يلتزم بهذه الأحكام في أي   1 انظر: المبسوط للسرخسي 14/57. 2 انظر: سنن الترمذي 4/247. 3 انظر: سنن الترمذي 5/345. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 مكان في أنحاء الأرض، وبما أن أحكام الإسلام تجري عليه في دار الحرب فيحرم عليه التعامل بالربا مع الحربيين، لأن الربا محرم في الإسلام ولا يجوز للمسلم أن يتعامل به لا في دار الحرب ولا في دار الإسلام. أما قولهم بأن المسلم إذا دخل دار الحرب بغير أمان فيجوز أخذ أموالهم بغير رضاهم، فهذا مسلم إذا كانت دار حرب، أما إذا كانت دار عهد ودخلها بدون أمان فلا يجوز له التعامل بالربا مع أهلها- فهذا لا يسلم- لأن المسلم حتى لو دخل بغير أمان لا يجوز أن يستبيح دماءهم وأموالهم إلا بحقها وهو فيما إذا أعلنوا الحرب على المسلمين. أما إذا لم يعلنوا الحرب على المسلمين فلا يجوز له استباحة أموالهم وربما كانت هناك معاهدات ومهادنات بينهم وبين المسلمين فيحرم عليه استباحة أموالهم وأخذها بالطرق غير المشروعة. وأما قولهم: بأن الأصل في أموال الكفار الإباحة فهذا احتجاج غير مسلم، لأن الأمان الذي يعطاه المسلم في دار الحرب، يعني أن أهلها قد ائتمنوا على أرواحهم وأموالهم، وذلك يقتضي عدم جواز أخذ شيء من أموالهم بغير وجه حق، أو سبب مشروع، في مقابل التزام أهلها بعدم الاعتداء على نفسه وماله، بأي وجه من أوجه الاعتداء، كما شأن المستأمن في دار الإسلام، وثمرة ذلك انتفاء الإباحة الأصلية لأموالهم فتصير أموالهم معصومة بالنسبة إليهم، بموجب ذلك الأمان، ولا يخفى أن عصمة المال شرعا كما تتحقق بالإسلام فإنها تتحقق بالعهد، والأمان الذي بينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وبينهم عهد معتبر شرعا1 وفي هذا يقول النووي: إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فاقترض منهم شيئا، أو سرق وعاد إلى دار الإسلام لزمه رده. لأنه ليس له التعرض لهم إذا دخل بأمان.2 وقال ابن قدامة: "وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام، فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل، وهو محرم بالإجماع فكذا ههنا"3 ولأن الربا لما كان في الإسلام من الأسباب المحظورة للتملك ومن صور أكل مال الغير بالباطل، لم يجز للمسلم أن يأخذ مال الحربيين في دارهم بعدما وجد الأمان بينه وبينهم فيها، كما لا يحل له بإجماع الفقهاء أن يأخذ به شيئا من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام بأمان.4 واحتجاجهم بأن أموالهم مباحة بالاغتنام هذا فيما إذا أعلنوا الحرب على المسلمين، وهذا لا يلزم منه استباحتها بالعقود الفاسدة، حيث أن الشارع وإن أباح أيضا نساءهم بالسبي لكن لم يجزها بالعقد الفاسد، ومن ثم لا تباح أموالهم بالعقود الفاسدة، ولأن أموالهم لا تباح بالاغتنام إذا كان بينهم وبين المسلمين أمان، وفي هذا يقول ابن العربي: "قلنا إنما يجوز أخذه بوجه جائز   1 أحكام التعامل بالربا ص 25. 2 انظر: روضة الطالبين 10/291 3 انظر: المغني 4/46. 4 أحكام التعامل بالربا ص 25/26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 في الشرع من غلة وسرقة، في سرية فأما إذا أعطي من نفسه الأمان ودخل دارهم فقد تعين عليه أن يفي بأن لا يخون عهدهم، ولا يتعرض لما لهم ولا لشيء من أمرهم، فإن جوز القوم الربا فالشرع لا يجوزه، فإن قال أحدهم إنهم لا يخاطبون بفروع الشريعة فالمسلم مخاطب بها"1 وقال النووي: "ولا يلزم من كون أموالهم تباح بالاغتنام استباحتها بالعقد الفاسد، ولهذا تباح أبضاع نسائهم بالسبي دون العقد الفاسد"2 ولأن تحريم الربا أتى عام شامل لدار الحرب وغيرها، والشارع الحكيم لن يحرم الربا في مكان، ويبيحه في مكان آخر، لأن المسلم يخاطب بأحكام الشريعة الإسلامية في أي بقعة وجد فيها. ثانيا: مناقشة أدلة الجمهور الذين قالوا بتحريم الربا في دار الحرب: رد عليهم الحنفية فقالوا: بالنسبة لعموم الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الربا إنما هو في المال المحرم والمعصوم، أما المال المباح كأموال الكفار في دار الحرب، فيجوز أن تأخذ بأي طريق غير طريق الغدر، فالربا إذا كان برضا منهم فهو مباح معهم، ويبقى العموم في المال المحظور.3 ويمكن أن يجاب عن ذلك:   1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/516. 2 انظر: المجموع شرح المهذب 9/392. 3 انظر: فتح القدير 6/178. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 بأن الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الربا عامة في أي مكان في دار الإسلام أو في دار الحرب لم يرد ما يخصص هذا العموم إلا حديث مكحول وهو مرسل ضعيف لا يقوى على التخصيص، وفي هذا يقول ابن قدامة ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به.1 وأيضا هذا المرسل على فرض صحته فهو محمول على تحريم الربا في دار الحرب.2 أما بالنسبة لقولهم بأن الربا محرم في دار الحرب كما هو محرم في دار الإسلام، يقال لهم هذا بالنسبة للمسلمين فيما بينهم وبين الحربيين إذا كانوا مستأمنين في دارهم، أما الحربيين في دارهم فتباح أموالهم لعدم التزامهم بأحكام الإسلام، وأموالهم مباحة لا عصمة لها، أما في دار الإسلام فهي معصومة بسبب الأمان.3 ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن النصوص الواردة في تحريم الربا عامة من غير فرق بين مكان وآخر، ومسلم وحربي، وأموال الحربيين لا تكون مباحة للمسلم وبخاصة إذا دخل دارهم بأمان فيجب عليه الوفاء بالعهد وعدم الغدر بهم وأكل   1 انظر: المغني 4/46. 2 انظر: المبدع 4/157، والمغني 4/46. 3 انظر: الرد على سير الأوزاعي ص 96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 أموالهم بالباطل ولا تباح له إلا بطريق الاغتنام إذا أعلنوا الحرب على المسلمين.1 وحتى لو جاز للحربي التعامل بالربا فإنه محرم على المسلم الملتزم لأحكام الإسلام في كل مكان أن يتعامل به. أما القياس: فهو قياس مع الفارق: لأن المستأمن الحربي في دار الإسلام ملتزم لأحكام الإسلام، وماله معصوم بسبب الأمان، أما الحربي غير المستأمن فلا عصمة لماله لأنه لم يلتزم لأحكام الإسلام. ويجاب عن ذلك: بأننا لا ننكر بأن الحربي المستأمن ملتزم لأحكام الإسلام، وماله معصوم بالأمان، وعلى العكس الحربي غير المستأمن، لكن القياس ليس من هذه الناحية بل القياس من ناحية التحريم، فالربا كما هو محرم مع الحربي في دار الإسلام، محرم معه في دار الحرب لعموم النصوص من الكتاب والسنة الواردة في التحريم ولم يرد ما يخصص هذا العموم. الرأي المختار: بعد أن عرضنا آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها، يتضح لي أن الرأي المختار هو رأي الجمهور فالربا لا أثر له في اختلاف الدار فهو محرم في دار الحرب كما هو محرم في دار الإسلام. وذلك للأسباب الآتية: 1- لقوة الأدلة التي استدلوا بها كالعموم الوارد في تحريم الربا وغيره   1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/516. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 من العقود الفاسدة في دار الحرب ولم يرد نص صحيح في تخصيص هذا العموم. 2- ولأن الربا محرم في كل مكان كما دلت النصوص على ذلك فلا يصير حراما في مكان دون آخر وإباحة أموال الحربيين عن طريق الغنيمة يختلف عن أخذها بالعقود الفاسدة كعقد الربا. وفي هذا يقول ابن العربي: "إن ما يجوز أخذه بوجه جائز في الشرع من غلة وسرقة في سرية، فأما إذا أعطي من نفسه الأمان ودخل دارهم فقد تعين عليه أن يفي بأن لا يخون عهدهم ولا يتعرض لمالهم، فإن جوز القوم الربا فالشرع لا يجوزه، فإن قال أحد منهم لا يخاطبون بفروع الشريعة فالمسلم مخاطب بها"1 3- ولأن هذا الرأي هو المتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية وسمو تعاليمها وسدها كل الأبواب والطرق للتوصل إلى إباحة الربا المحرم، وحتى يتأثر الناس بأحكامها في أي بقعة من بقاع الأرض. 4- ولأننا لو أخذنا بالرأي المخالف لأدى ذلك إلى إباحة التعامل بالربا مع البنوك والمصارف الأجنبية الكافرة، باعتبار أنها مصارف قوم حربيين وهذا ما يحرمه الشرع. على العكس منه الأخذ برأي الجمهور فإنه يسد الباب لمن تحدثه نفسه بأخذ هذه الفوائد المحرمة باعتبار أنها من قوم حربيين وأنها من   1 أحكام القرآن لابن العربي 1/516. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 المحرمات، التي حرمها الله سبحانه وتعالى، في كتابه وأكد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. ولأن الربا لما كان في الإسلام من الأسباب المحظورة للتملك ومن صور أكل مال الغير بالباطل، لم يجز للمسلم أن يأخذ أموال الحربيين في دارهم بعدما وجد الأمان بينه وبينهم فيها، كما أنه لا يحل له بإجماع الفقهاء أن يأخذ به شيئا من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام بأمان. واحتجاجهم بأن أموالهم مباحة بالاغتنام هذا فيما إذا أعلنوا الحرب على المسلمين، هذا كله فيما إذا دخل المسلم دار الكفر الحربية بأمان، أما إذا دخلها بغير أمان، فكما سبق لا يجوز له أن يعطهم الربا ويجوز له أن يأخذه منهم. وبناء على هذا الاختيار يتضح لنا أنه لا أثر لاختلاف الدار في التعامل بالربا في دار الحرب. فالربا كما يحرم على المسلم التعامل به في دار الإسلام، فكذلك في دار الحرب إذا دخلوها بأمان. وأيضا إذا دخلوها بدون أمان، لا يجوز لهم إعطاء الكفار الربا، ويجوز لهم أخذه منهم، وكذلك في دار الإسلام الحربي إذا دخلها بدون أمان، لا يجوز إعطاءه الربا، ويجوز أخذه منه لأنه لا عصمة له، ولأنه يجوز أخذ ماله عن طريق الغنيمة والغصب ونحو ذلك، أي بدون رضاه، فجوازه عن طريق العقود الفاسدة من باب أولى لأنه برضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 المبحث الثاني: أثره في نكاح الكتابية في دار الحرب النكاح من مقاصد الإسلام الأساسية لما يترتب عليه من مصالح وفوائد وحكم كثيرة كحفظ الدين وتحقيق الأمن وإحصان الزوجين، وحفظ النسل والنسب والقيام على رعاية الأولاد والزوجة إلى جانب غرس كثير من الصفات الطيبة كحسن التعامل والصبر وتحمل المسؤولية، والترابط بين الأسر وتحقيق المودة والسكن والاستقرار بين الزوجين إلى غير ذلك من المقاصد والمصالح العظيمة التي تتحقق في النكاح، وقد رغب الإسلام في نكاح المؤمنة، ومراعاةُ الجانب الديني أهم وأول ما يجب اعتباره في اختيار الزوجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"1. وليحرص المسلم على الزواج بالمسلمة لأنها خير من الكافرة وقد حرَّم الإسلام الزواج بالمشركات فقال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} 2. وقال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 3   1 أخرجه البخاري 3/242 كتاب النكاح ومسلم 2/86 كتاب النكاح حديث 1466. 2 البقرة: 221. 3 الممتحنة:10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وتحريم النكاح بين المسلمين والمشركين ممن لا كتاب لهم محل إجماع بين العلماء.1 وكذلك يحرم زواج الكافر بالمسلمة مطلقاً سواء كان كتابياً أم غيره2. أما زواج المسلم بالكتابية فقد ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف إلى جوازه3، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4 ولما ورد عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم تزوجوا بالكتابيات وأباحوا الزواج بهن5 إلا ما آثر عن ابن عمر رضي الله عنهما   1 تبيين الحقائق 2/109، بداية المجتهد 2/44، المهذب 5612، المغني 7/131. 2 انظر: بدائع الصنائع 2/277، الجامع لأحكام القرآن 3/72، المهذب 2/56، المغني 7/130. 3 المبسوط 4/20، فتح القدير 3/135، المدونة 2/306، السراج السالك 2/154، الكافي لابن عبد البر 1/445، الأم 5/7، روضة الطالبين 7/135، مغني المحتاج 3/187، المبدع 7/70، كشاف القناع 5/84، أحكام أهل الذمة 1/87، المحلى 9/448. 4 المائدة: 5. 5 انظر: السنن الكبرى 7/172، مصنف عبد الرزاق 6/78، 79 كتاب النكاح، مصنف ابن أبي شيبة 4/158، وسنن سعيد بن منصور 1/193، والأم 5/7، والتلخيص الحبير 3/174، الجامع لأحكام القرآن 18/ 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 أنه حرم نكاح المسلم بالكتابية، فقد ثبت في الصحيح عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال: إن الله تعالى حرم المشركات على المؤمنين ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله.1 وقوله هذا حمله بعض العلماء على الكراهة، وأنه كان متوقفاً في ذلك.2 وعلى فرض ثبوته فهو فهم منه واجتهاد ولا يقوى على معارضة الآية التي صرحت بإزاحة نساء أهل الكتاب.3 إن قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4 جاء عاماً في إباحة تزوج نساء أهل الكتاب، لم يفرق بين أن يتزوجها المسلم في دار الإسلام، أو في دار الحرب، ولكن الفرق إنما بين من يتزوجها في دار الإسلام أو في دار الحرب لأن السلطة وغلبة الأحكام والهيمنة في دار الإسلام للمسلمين، فهم الذين يحكمون بما أنزل الله، ويرفعون راية الإسلام، ويظهرون شعائره، فالكتابية في هذه الدار ذمية، تدفع الجزية عن   1 أخرجه البخاري 3/274، 275 كتاب الطلاق باب قوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/325، الجامع لأحكام القرآن 3/68. 3 انظر: السيل الجرار 2/252. 4 المائدة:5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 يد وهي صاغرة ذليلة، وتلتزم بأحكام الإسلام العامة، وتطلع على محاسن الإسلام، وعندئذ يكون ميلها لدين زوجها المسلم أقرب، فالكتابية في هذه الدار تختلف عن الكتابية في دار الحرب التي تكون السلطة فيها والهيمنة وغلبة الأحكام للكفار، لأنهم أهل الحل والعقد، ويحكمون بخلاف شرع الله، بقوانينهم الوضعية، المخالفة للإسلام، والراية المرفوعة والشعائر الظاهرة فيها، هي شعائر الكفر لا الإسلام، فالكتابية الحربية حرة تفعل ما تشاء، بل إن لها السيطرة والسلطة على زوجها في أكثر البلدان الكافرة، وتمسكها بدين أهلها وعقيدتهم وعاداتهم وأخلاقهم، هو الوارد، وتكون أقل ميلا وتمسكا بدين زوجها، لأن المحيط العام بها هو خلاف هذا الدين، بل ربما أثرت على زوجها الذي يعيش بين أحضانها، ليعتنق دينها، وأيضا على أولاده الذين يتربون بين يديها، ويتغذون بلبنها الملوث بالخمر والخنزير بهذا الفرق بين الدارين اختلف العلماء في حكم الزواج بالكتابية في دار الحرب إلى قولين: القول الأول: يباح للمسلمين نكاح نساء أهل الكتاب في دار الحرب مع الكراهة. وهو قول الجمهور الحنفية في الصحيح، والمالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب.1   1 المبسوط 10/96، بدائع الصنائع (2/270، وتبيين الحقائق 2/109، والبحر الرائق 3/109، والفتاوى الهندية 1/288، والفتاوى البزازية1/365، والمدونة2/306، والسراج المالك 2/54، والشرح الصغير2/420، وروضة الطالبين 7/135، والمهذب 2/57، ومغنى المحتاج 3/187، وحاشية الشرقاوي 2/328، وقليوبي وعميرة 3/250، والمبدع 7/71، وكشاف القناع 5/54، وشرح منتهى الإرادات 3/36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 القول الثاني: يحرم على المسلمين نكاح نساء أهل الكتاب في دار الحرب. وهو قول ابن عمر1، وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي، ومجاهد، والثوري، والحكم.2 وبه قال فقهاء الحنفية في رواية، قال ابن عابدين: "إطلاقهم الكراهة في الحربية يفيد أنها تحريمية، والدليل عند المجتهد على أن التعليل يفيد ذلك، ففي الفتح ويجوز تزوج الكتابيات، والأولى أن لا يفعل، وتكره الكتابية الحربية إجماعاً، فقوله: الأولى أن لا يفعل يفيد أن الكراهة تنزيهية في غير الحربية، وما بعده يفيد كراهة التحريم في الحربية تأمل" 3، وهو وجه لفقهاء الحنابلة، قال صاحب المحرر: "لا يحل لمسلم نكاح كافرة إلا حرائر أهل الكتاب غير الحربيات، وفي الحربيات وجهان"4 وقال المرداوي: "قيل يحرم نكاح الحربية مطلقا، وقيل يجوز في دار الإسلام، لا في دار الحرب، وإن اضطر، وهو منصوص كلام أحمد"5.   1 ولعل ما أثر عنه بتحريم نكاح الكتابية يحمل على هذا فليتأمل. 2 الإشراف لابن المنذر 4/91، وأحكام القرآن للجصاص 2/326، والجامع لأحكام القرآن 3/69. 3 انظر: حاشية رد المحتار 3/45. 4 انظر: المحرر في الفقه 2/21. 5 انظر: الإنصاف 8/135. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وقال الخرقي: "ولا يتزوج بأرض العدو إلاّ أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة، ويعزل عنها ولا يتزوج منهم" 1 الأدلة: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بالكتاب، والمعقول: دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2. وجه الدلالة من الآية الكريمة: الآية عامة في إباحة نساء أهل الكتاب للمسلمين، ولم تفرق بين أن يكون الزواج بها في دار الإسلام، أو في دار الحرب، فاختلاف الدار لا أثر له في إباحة الزواج أو تحريمه. قال الجصاص: "وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع، الذميات والحربيات، لشمول الاسم لهن" 3. وقال صاحب البحر المحيط: "عموم الآية يدل على جواز نكاح   1 انظر: مختصر الخرقي ص115. 2 المائدة: 5. 3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/326. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الكتابية الحربية، لاندراجها في عموم {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 1 وقال القاسمي: "استدل بعموم الآية من جوز نكاح الحربيات الكتابيات"2 أما دليلهم على أن الزواج بالكتابية في دار الحرب أشد كراهة منه في دار الإسلام، فاستدلوا على ذلك بالمعقول. وهو: أن نكاح الكتابية المقيمة في دار الحرب، يفضي إلى أمور سيئة منها: - أن زوجها مقيم معها في دار الحرب، وهذا فيه تكثير لسواد الكفار، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أقام مع المشركين ولم يهاجر إلى ديار المسلمين. - أن الكتابية التي في دار الحرب لم تخضع لأحكام الإسلام، بخلاف التي في دار الإسلام، وهذا مما يقوي سلطتها على زوجها، وشدة تأثيرها عليه، فيميل إلى حبها ومودتها، فتفتنه عن دينه، وتخلقه بأخلاقها، وتعوده على عاداتها الفاسدة. - أن الكتابية في دار الحرب تشرب الخمر وتأكل الخنزير وغيرهما من المحرمات، عياناً بياناً، والدين المحيط بها هو الكفر، فميلها إلى دين   1 انظر: البحر المحيط 3/432. والآية 5 من المائدة. 2 انظر: تفسير القاسمي 6/1873. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 أهلها وقومها هو الأقرب، بل ربما أثرت على زوجها، فمال معها، بخلاف الكتابية في دار الإسلام، فإنها تشرب الخمر، وتأكل الخنزير، خفية ولا يسمح لها بالتظاهر به، والدين المحيط بها هو الإسلام بعزته وآدابه السامية، فميلها إلى دين زوجها هو الأقرب. - تنشئة أولاده، فَلَذَات كبده، على دينها الخبيث، وخلقها وعاداتها السيئة، لأنها هي الأقرب لهم من أبيهم، فعطفها وحنانها له تأثير كبير على سلوكهم وأخلاقهم، ولكون الدين المحيط بهم هو الكفر، والخلق والعادات المحيطة بهم هي خلق وعادات الكفار، فهذا أيضا له الأثر البالغ في ميل أبنائه إلى دين أمهم وأخلاقها. - تعريض الولد للاسترقاق، لأنها ربما تكون حاملا منه، فتنتشب الحرب بين المسلمين والكفار، وينتصر المسلمون على عدوهم، وتؤسر الأم، فلا تصدق بأن هذا الحمل من مسلم، فيترتب على ذلك أن يولد الولد رقيقا مملوكا، لمن وقعت الأم في أسره. فلهذه المفاسد وغيرها كثير، كان النكاح بالكتابية في دار الحرب أشد كراهة منه في دار الإسلام.1   1 المبسوط 5/50، وفتح القدير 3/135، ومجمع الأنهر 1/328، وتبيين الحقائق 2/109، والمدونة 2/306، والسراج السالك 2/54، والجامع لأحكام القرآن 3/69، والمهذب 2/57، ومغنى المحتاج 3/187، وحاشية قليوبي وعميرة 3/250، وكشاف القناع 5/54، وشرح المنتهى الإرادات 3/36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني: الذين قالوا بتحريم نكاح الكتابية في دار الحرب. استدلوا بالكتاب، والمأثور، والمعقول. أولا: دليلهم من الكتاب: أ- بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أباح نكاح أهل الكتاب للمسلمين، والمراد بهن في هذه الآية، الذميات دون الحربيات، لأنهن يلتزمن بأحكام الإسلام، ويد فعن الجزية، ويتمكن المسلمون من الركون إليهن، وتطمئن النفوس إلى نكاحهن في الجملة.1 ب- وبقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2 وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر بقتال الكفار من أهل الكتاب الحربيين   1 الجامع لأحكام القرآن 6/79، والبحر المحيط 3/432، والعلاقات الاجتماعية ص62. 2 التوبة: 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الذين لايؤدون الجزية، والأمر بقتالهم يوجب عدم محبتهم ومودتهم، فعلى هذا لا يحل التزوج من نسائهم الحربيات، لأن الزواج مودة ومحبة.1 ج- وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى نفى عن المؤمنين بالله حقا، محبة ومودة أعداء الله، الذين عصوا ربهم، ونصبوا أشد العداوة والبغضاء لعباده المسلمين، وبما أن هذه الصفات المذكورة متحققة في الكتابية الحربية، تكون مندرجة تحت ما نفاه الله عن عباده المؤمنين، من محبة ومودة أعدائه. فبهذا لا يحل التزوج بالحربية، لأن الزواج مودة ومحبة.3 د - وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} 4 وجه الدلالة من الآية: فقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآية أن الخبيثة للخبيث، والعكس، والكتابية الحربية خبيثة، فلا تكون للمسلم الطيب، لأن الطيبين للطيبات.5   1 أحكام القرآن للجصاص 2/326. 2 المجادلة: 22. 3 أحكام القرآن للجصاص2/326، وروح المعاني6/59، والعلاقات الاجتماعية ص36. 4 النور: 26. 5 تفسير الآية القاسمي 6/1874. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ثانيا: دليلهم من المأثور: بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن نكاح الكتابية الحربية، فقال: لا تحل وتلا قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قال: فمن أعطى حل، ومن لا فلا.1 وجه الدلالة: أن ابن عباس رضي الله عنهما حرم الزواج بالكتابية في دار الحرب، مستندا في ذلك إلى كتاب الله عز وجل، فالتي تدفع الجزية هي التي تحل، وهي الذمية، أما الحربية التي لا تدفع الجزية فلا تحل. قال القاسمي: "وهذا الاستدلال دقيق جدا فليتأمل"2 ثالثا: دليلهم من المعقول: من أربعة أوجه:   1- أن المسلم الذي يتزوج الكتابية الحربية، يكون مقيما معها في دار الحرب، مع أنه مأمور بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة منها، فقال 1 أحكام القرآن للجصاص 2/326، والجامع لأحكام القرآن 3/69، وتفسير القاسمي 6/1873، والبحر المحيط 3/432. 2 تفسير القاسمي 6/1873. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1 والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "نا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" والبراءة لا تكون إلا على فعل محرم، فالتزوج بالكتابية الحربية محرم، لأنه يفضي إلى الإقامة معها في دار الحرب وفي هذا مخالفة لأمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم الهجرة منها، وتكثير لسواد الكفار، وتقليل لعدد المسلمين.2 2- أن المسلم الذي يفعل هذا الزواج، يخشى عليه من موالاة أعداء الله ورسوله والمسلمين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن موالاتهم، ومحبتهم، في أكثر من آية. فقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 3 3- لأن المسلم بفعله هذا يعرض نفسه وولده لمخاطر سيئة لا يستطيع الإفلات منها، فربما أثرت عليه وعلى ولده فتخلقوا بأخلاقها، وشبوا على عاداتها وعادات قومها الفاسدة، وأخطر من هذا ربما مالوا إلى دينها وارتدوا عن الإسلام، مع ما يحصل من الاسترقاق لأولاده عندما تؤسر أمهم وهي حامل منه، فلا تصدق بأن هذا الحمل من مسلم. مع ما يحصل للزوج من الانغماس في المحرمات، ومشاهدة المنكرات التي لا يقدر على إنكارها، بل قد يموت قلبه فيقرها، وقد تمارس امرأته   1 النساء: 97. 2 فتح القدير 3/135، والمدونة 2/306، والمهذب 2/57. 3 المائدة: 51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 أنواعا منها، وهو لا يقدر على منعها، بل ربما مع طول الزمن صار مثلها.1 فلهذه المفاسد والمخاطر وغيرها كثير، يحرم على المسلم أن يتزوج بالكتابية في دار الحرب. المناقشة: أ- مناقشة أدلة الجمهور القائلين بإباحة نكاح الكتابية الحربية مع الكراهة: بالنسبة لاستدلالهم بعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم} يقال لهم: بأن الآية خاصة بنكاح الكتابيات في دار الإسلام، وهن الذميات، لأنهن يدفعن الجزية، ويلتزمن بالأحكام الإسلامية العامة، فرجاء إسلامهن هو الأقرب، كما فهم ذلك ابن عباس رضي الله عنهما. والله سبحانه وتعالى عندما أباح نكاحهن للمسلمين، ليس فقط لقضاء العشرة الزوجية معهن، بل الأهم من ذلك هو ميلهن إلى دين أزواجهن وهو الإسلام. أما الكتابية الحربية، فخرجت من عموم الآية، لأنها لم تجر عليها   1 المبسوط 5/50، وفتح القدير 3/135، والمدونة 2/306، والجامع لأحكام القرآن 3/69، والمهذب 2/57، ومغنى المحتاج 3/187. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 الأحكام الإسلامية، ولم تدفع الجزية، فالهدف الذي من أجله أباح الله نكاحها للمسلمين قد لا يحصل، بل ربما حصل العكس، وهو تأثيرها على زوجها المسلم وأولاده، فمالوا إلى دينها ودين قومها، وهو الكفر. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه لا دليل على تخصيص الآية بالذميات، فالآية عامة في إباحة الزواج بالكتابيات حربيات أو ذميات، وهذا هو ما فهمه أكثر أهل العلم.1 ويرد على ذلك: بأن الآثار المروية عن بعض الصحابة في تحريم الزواج بالكتابيات في دار الحرب، وما سبق ذكره من المخاطر والمفاسد التي تعود على المسلمين بزواجهم من الكتابيات الحربيات، قد يخصص العموم، فتخرج الكتابية الحربية من هذا، وتبقى الآية خاصة بالذمية. أما الرد على ماستدلوا به من المعقول على كراهة الزواج بهن كراهة تنزيهية: فيمكن أن يجاب عن ذلك: بأن حمل هذه المفاسد والمخاطر، التي تعود على المسلم، بزواجه من الحربية على الكراهة التحريمية هو الأولى، لأن المسلم الذي يتزوج بالحربية، سيبقى مقيما معها في دار الحرب، والله سبحانه وتعالى أمر   1 أحكام القرآن للجصاص 2/326، والبحر المحيط 3/432، وتفسير القاسمي 6/1873. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 المسلمين بالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1 فبقاء المسلم مع زوجته الحربية في دارها فيه مخالفة لأمر الله بالهجرة، ومخالفة المسلم أمر ربه محرم، وبهذا يكون الزواج بالكتابية الحربية محرم، لأن ما أدى إلى الحرام فهو محرم، والزواج بالكتابية الحربية يؤدي إلى الإقامة في دار الحرب وتكثير سواد الكفار، وهذا محرم. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلمتبرأ من المسلم الذي يقيم بين المشركين، والبراءة لا تكون إلا على فعل محرم، وهو الإقامة مع المشركين في دارهم عندما يتزوج المسلم بالكتابية الحربية ب- مناقشة أدلة القائلين بتحريم الزواج بالكتابية في دار الحرب: بالنسبة لاستدلالهم بالكتاب. فيرد عليه بما يلي: 1- قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ففي هذه الآية لا دلالة على تحريم الزواج بالكتابية الحربية، لأن الآية نص صريح في الإباحة، وجاءت عامة، لم تفرق بين الحربيات والذميات، وتخصيصها بالذميات لا دليل عليه ويجاب عن ذلك:   1 النساء: 97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 بأن عموم الآية يمكن أن تخصصه الآثار المروية عن بعض الصحابة في تحريم الزواج بالحربية، والمفاسد الخطيرة التي تعود على المسلم من الزواج بها، والفرق الكبير بين الزواج بها في دار الإسلام، والزواج بها في دار الحرب، كل ذلك يمكن أن يخصص هذا العموم فتبقى الآية محمولة على الذميات دون الحربيات. وكذلك باقي الآيات التي استدلوا بها، ليس لهم فيها ما يدل على تحريم نكاح الكتابية في دار الحرب. 2- فقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} أمرت بقتال من يمتنع عن دفع الجزية من المشركين، وعدم قتال من يدفعها منهم مع الصغار والذلة، فهذا ما دلت عليه، ولا علاقة لها بتحريم الزواج من الكتابية الحربية.1 يمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الآية الكريمة لها علاقة بتحريم الزواج بالكتابية الحربية، وهذا هو الذي فهمه حبر الأمة رضي الله عنه فقال: من دفع الجزية فقد حل، ومن لم يدفع لا يحل2، وهذا استدلال وجيه، لأن الكتابية الذمية، عندما تدفع الجزية وتلتزم لأحكام الإسلام وآدابه، فهذا من أكبر الدوافع لاعتناقها لدين الإسلام، الذي أباح الله نكاحها للمسلمين، وعلى العكس، الكتابية   1 العلاقات الاجتماعية ص 65. 2 التفسير الكبير 11/148. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الحربية التي لا تدفع الجزية، ولا تجري عليها الأحكام الإسلامية، فرجاء إسلامها بعيد، بل ربما أثرت على زوجها المسلم وأولاده، لاعتناق دينها، والارتداد عن الإسلام. فمن أجل ذلك حرمها حبر الأمة رضي الله عنه للفارق الكبير بينها وبين الكتابية الذمية. وقد أيد القاسمي هذا الاستدلال، فقال هذا الاستدلال دقيق جدا فليتأمل. 3- أما قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 فغاية ما تدل عليه هذه الآية، النهي عن مودة ومحبة أعداء الله، ولا علاقة لها بتحريم الزواج من الكتابية الحربية2، حتى لو شمل النهي مودة ومحبة المسلم لزوجته الكتابية الحربية، إنما يكون ذلك إذا أحبها لدينها وأخلاقها وعاداتها التي تخالف الدين الإسلامي، أما إن أحبها لشخصها، المحبة الطبيعية، التي تكون بين الزوجين، فهذا لا بأس به، ولا يضره بشيء، وعلى فرض أن ذلك شامل للكتابية الحربية فهو محمول على الكراهة التنزيهية.   1 المجادلة: 22. 2 العلاقات الاجتماعية ص 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن النهي عن مودة ومحبة أعداء الله يشمل الكتابية الحربية، لأنها إذا كانت في دارها فهي من ألد الأعداء للإسلام والمسلمين، لأنها ربما تجسست على المسلمين عن طريق زوجها، وربما أثرت عليه ومال إلى دينها، وانضم إلى قومها لمحاربة المسلمين. وبهذا لا يحل نكاحها، لأنه يؤدي إلى المودة والمحبة التي نهى الله عنها في هذه الآية. 4- وأما قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} .. الآية 1. 5- وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ... } الآية 2. فهذه عمومات خصصتها آية المائدة، التي أباحت نكاح الكتابية من غير فرق بين أن يكون ذلك في دار الإسلام، أو في دار الحرب، ولا دلالة لهم فيها على التحريم.3 ثانيا: مناقشة استدلالهم بالمأثور: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن الزواج بالكتابية الحربية لا يحل، لا يقوى على معارضة آية المائدة، التي صرحت بإباحة   1 البقرة: 221. 2 النور: 26. 3 أحكام القرآن للجصاص 2/325، 326، والجامع لأحكام القرآن 3/69، والبحر المحيط 3/432، وتفسير القاسمي 6/1873، 1874. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الكتابية، من غير فرق بين الذمية والحربية، وأيضا يمكن حمل قوله هذا على الكراهة التنزيهية، لا التحريمية، وهذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم. ويجاب عن هذا الرد: بأن ابن عباس رضي الله عنهما لا يمكن أن يقول بخلاف ما في كتاب الله، وآية المائدة الصريحة في إباحة الكتابية فهم منها أنها خاصة بالذمية، دون الحربية، لأن - الذمية- تدفع الجزية، وتلتزم للأحكام الإسلامية. أما حمل قوله بعدم الإباحة على الكراهة التنزيهية فلا دليل على ذلك، بل حمله على التحريمية هو الأولى، لأن أكثر العلماء نقل ذلك عنه فلا يفهم من قوله - لا تحل إلا التحريم ثالثا: مناقشة أدلتهم من المعقول: هذه المفاسد والمخاطر، التي ذكرت بأن المسلم يتعرض لها عند زواجه بالكتابية الحربية، يمكن حملها على الكراهة التنزيهية، وهو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم. لكني أقول بأن حملها على التحريم هو الأولى، لأنها تؤدي إلى فعل الحرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام. الرأي المختار: بعد عرض آراء الفقهاء في حكم الزواج بالكتابية في دار الحرب، وأدلة كل منهم، وما ورد عليها من نقد، اتضح لي بأن الرأي القائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 بتحريم الزواج بالكتابية في دار الحرب، هو الرأي الأولى بالاختيار، وذلك للأسباب الآتية: 1- أنه لا يجوز للمسلم الإقامة في دار الكفر، إذا لم يستطع إظهار شعائر دينه، كما صرحت بذلك الآية الكريمة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1، والسنة المطهرة حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" 2. والمسلم بذهابه إلى ديار الكفار وزواجه بنسائهم الحربيات، يخاف عليه من الإقامة معهم والركون إليهم، والوقوع تحت سيطرتهم ورحمتهم، وهو بفعله هذا يكون مخالفة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من ديارهم، ومخالفة أمرها محرم، ولأن المسلم لا يستطيع أن يظهر شعائر دينه في أرض أعدائه والمحاربين له، والذين يدعون دائما إلى الحرية المطلقة والقوانين الوضعية، فهم يمنعون المسلم أن يحكم زوجته حسب تعاليم الشريعة الإسلامية، والقوامة التي ذكرها الله في كتابه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} 3، فإنها لا توجد في قوانينهم الوضعية، فالمرأة عندهم حرة التصرف، تفعل ما تشاء، وتعاشر من تشاء، وتحب من تشاء، وما دام أنها كذلك، فمما لا شك فيه أنها ستؤثر على   1 النساء: 97. 2 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308. 3 النساء: 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 زوجها بأخلاقها القبيحة وعاداتها السيئة، وربما مال إلى دينها دين الهوان والمذلة، مرتدا عن دين العزة والكرامة. 2- إباحة نكاح الكتابية في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وإن كانت عامة، لم تفرق بين حربية وغيرها، إلا أن من الصحابة رضي الله عنهم من فهم منها أنها خاصة بالذميات، دون الحربيات، - كابن عباس رضي الله عنهما - للفارق الكبير بين الكتابية الذمية، والكتابية الحربية، فالذمية تلتزم بأحكام الإسلام وآدابه، وتدفع الجزية صاغرة ذليلة، والدين المحيط بها هو دين زوجها، فإسلامها هو الأقرب، والذي من أجله أباحها الله للمسلمين، أما الكتابية الحربية فلا تجري عليها أحكام الإسلام، ولا تدفع الجزية، والدين المحيط بها هو الكفر، دين أهلها وقومها فإسلامها غير متوقع، بل ربما أثرت على زوجها وأولاده، بتعرضهم للكفر، وهذا مما يؤيد فهم ابن عباس رضي الله عنهما بأن الآية خاصة بالذمية، والصحابة رضي الله عنهم كما هو معلوم أقرب الناس إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 3- وللخوف على ذرية المسلم من الكتابية الحربية، لأن الأم هي المدرسة التي يتربى فيها الأولاد، فهي بعطفها وحنانها وحبها لهم، وكونها أقرب لهم من أبيهم، ستؤثر عليهم، فينشئون ويتربون على خلقها الفاسد، وعاداتها وعقيدتها السيئة، لأنها تغذيهم بلبها المستخلص من المشروبات والمأكولات المحرمة، كالخمر والخنزير، فهم من الصغر يشبون على أكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وشرب المحرم، وعلى العقائد والأخلاق الباطلة، التي تخالف الدين الإسلامي، فهو بهذا يكون قد غرس لأعداء الإسلام غرسا جاهزا ناضجا ما عليهم إلا أن يقطفوا ثمرة هذا الغرس، ليتقووا به ضد المسلمين، الذين هم أولى بالغرس وثماره، لتكثير سوادهم، وتقليل سواد أعدائهم، ومما لا شك فيه أن حفظ الذرية من أهم متطلبات الحياة، والمقصد الأساسي لحفظ النسل، هو تحقيق عبادة الله وحده، لأنه ما خلقهم إلا لعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 1 ولهذا صرح بعض العلماء بكراهية الزواج، حتى من المسلمة في دار الحرب، وإذا فعل، الأولى أن لا ينجب، ولا يطأ المسلم جاريته في فرجها، كل القصد من ذلك، هو حفظ الذرية المسلمة وعدم تعريضها لأخلاق الكفار وعاداتهم وعقائدهم الباطلة، هذا مع ما يتعرض له المسلم في أرض الكفر من المحرمات والمنكرات ومشاهدة البدع والضلالات، التي لا يستطيع الإفلات منها، لأن امرأته تمارس الكثير منها بل ربما ختمت على قلبه، فرضي بها وأقرها، حتى يرتد عن دينه. وبناءً على هذه المخاطر والمفاسد، وغيرها كثير، أختار القول: بتحريم نكاح الكتابية في دار الحرب، لأن تناول الشيء المباح إذا أدى إلى مفاسد ومخاطر تفوق مصلحته، غلب جانب تلك المفاسد والمخاطر على مصلحته، ومفاسد ومخاطر ومساوىء نكاح المسلم للكتابية في دار الحرب   1 الذاريات: 56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 تفوق المصالح المترتبة على هذا النكاح، بل ربما غطت عليها.1 ولا يجوز للمسلم أن يتزوج بالكتابية في دار الحرب إلا عند الضرورة أي عند الخوف من الوقوع في الزنا، وإذا اضطر المسلم إلى الزواج بها في دار الحرب، فعليه أن يعمل شتى الطرق لعدم الإنجاب. وبهذا الاختيار يتضح لنا بأن اختلاف الدار له أثر في زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب. لأن زواجه منها في دار الإسلام مباح مع الكراهة. أما في دار الحرب، فهو محرم، إلا عند الضرورة، بناءً على القول المختار. أما عند الجمهور فهو مباح، لكن مع الكراهة الشديدة، فحتى على رأي الجمهور، أثر اختلاف الدار في حكم نكاح الكتابية في دار الحرب، ففي دار الإسلام يباح مع الكراهة، وكذلك في دار الحرب لكن مع الكراهة الشديدة، التي قد تصل في بعض الأحوال إلى الكراهة التحريمية. أما زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر في هذا الزمان فالأولى تركه إلا عند الضرورة عندما يخاف المسلم على نفسه من الزنا، فلا بأس أن يتزوج بها، وعليه أن يعمل شتى الطرق لعدم الإنجاب لما يترتب على ذلك من المفاسد والمخاطر التي سبق ذكرها عند الكلام على زواج الكتابية.   1 حكم زواج المسلم بالكتابية ص 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 ولأن غالب الدول الكافرة في هذا الزمان أقرب إلى دار الحرب، وإن كانت ظاهرها أنها دور عهد بينها وبين المسلمين معاهدات وعلاقات يترتب عليها تبادل السفراء والتعامل التجاري والاقتصادي إلا أنها في حقيقة الأمر تحارب المسلمين بطرق خفية غير مباشرة بمد يد العون والمساعدة بالمال والسلاح والرجال للدول المحاربة للمسلمين، وأيضاً إن المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينها وبين المسلمين تتخذ صفة الدوام وليس على أسس وشروط إسلامية وغالب المصالح والفوائد تحظى بها الدول الكافرة، بل إن الضرر الذي يعود على المسلمين من وراء هذه المعاهدات أكثر من النفع، ولا يبالون بتلك المعاهدات والاتفاقات متى ما تهيأت لهم الفرصة في الإضرار بالمسلمين كما هو الحال والمشاهد في الوقت الحاضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 المبحث الثالث: أثره في الفرقة 1 بين الزوجين أجمع العلماء على أنه إذا أسلم الزوج سواء أكان في دار الإسلام أم في دار الكفر وكانت له امرأة كتابية أن إسلامه لا يؤثر في زواجهما، ولا تحصل الفرقة بينهما، ويبقى زواجها على حاله، لأن المسلم يحل له التزوج بالكتابية ابتداء، فكذا يحل له البقاء معها، لأن البقاء معها أسهل من الابتداء بالزواج منها. وكذلك أجمعوا على أنه إذا أسلم الزوجان معا فهما على نكاحهما، سواء كان قبل الدخول، أو بعد الدخول، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام ودار الحرب.2 قال ابن عبد البر رحمه الله: "أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معا في حالة واحدة. أن لهما المقام على نكاحهما، ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع، وقد أسلم خلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤهم، وأقروا على أنكحتهم، ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح ولا عن كيفيته، وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة، فكان يقينا"3   1 الفرقة لغة: الابتعاد والفصل، وفي الشرع: انفصال العلاقة الزوجية بين الزوجين. انظر: المصباح المنير 2/470، والمعجم الوسيط 2/685، وعجم الفقهاء ص 344. 2 بدائع الصنائع 2/336، وبداية المجتهد2/48، وتحفة المحتاج7/328، والمغني 6/613. 3 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وقال ابن القيم: "إذا أسلم الزوجان أو أحدهما، فإن كانت المرأة كتابية لم يؤثر إسلامه في فسخ النكاح، وكان بقاؤه كابتدائه، وإن كانت غير كتابية وأسلم الزوجان معا، فهما على النكاح، سواء قبل الدخول أو بعده، وليس بين أهل العلم في هذا اختلاف"1 أما إذا كان أحد الزوجين في دار الإسلام، وكان ذميا مقيما بها إقامة مؤبدة، أو مستأمنا مقيما بها إقامة مؤقتة، فأسلم دون زوجه الذي في دار الكفر، أو كان مقيما بدار الكفر، فأسلم ثم هاجر إلى دار الإسلام وزوجه الآخر في دار الكفر. فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: أن اختلاف الدارين- دار الإسلام، ودار الكفر- سبب من أسباب الفرقة بين الزوجين، وهو مروي عن الثوري، وبه قال فقهاء الحنفية،2 وإليه إشارة في مذهب الإمام مالك - بل عبارة -كما قال ابن العربي.3 والقرطبي.4   1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/317. 2 المبسوط 5/50،51، بدائع الصنائع 2/338، وتبيين الحقائق 2/176، والبحر الرائق3/229، وفتح القدير 3/291، وشرح معاني الآثار 3/ 256، وأحكام القرآن للجصاص 3/439. 3 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1787. 4 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/63،64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 ومعنى اختلاف الدارين الذي تتحقق به الفرقة عند الحنفية ومن معهم هو أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الإسلام حقيقة أو حكما، بالإسلام أو الذمة، والآخر من أهل دار الكفر - أي كافرا حربيا - كأن يسلم أحد الزوجين في دار الكفر، ثم يهاجر إلى دار الإسلام، أو يخرج أحد الزوجين من دار الكفر إلى دار الإسلام، ذميا، أو مستأمنا، ثم يسلم أو يعقد عقد الذمة، أو يخرج المسلم من دار الإسلام إلى دار الكفر مرتدا عن دينه، أو يخرج الذمي من دار الإسلام إلى دار الكفر ناقضا للعهد، ففي جميع هذه الأحوال تجب الفرقة بين الزوجين، لتباين الدارين بينهما. أما إذا كان الزوجان مسلمين، فخرج أحدهما إلى دار الكفر بأمان أو بغيره، فلا تقع الفرقة، لأنهما من أهل دار واحدة، وإن كان أحدهما مقيما في دار الكفر، والآخر في دار الإسلام، فاختلاف الدار لا أثر له بالنسبة للزوجين المسلمين.1 القول الثاني: أن اختلاف الدارين ليس سببا من أسباب الفرقة بين الزوجين، سواء كان الاختلاف حقيقة أو حكما، بالإسلام أو بالذمة، ولا يفرق بينهما إلا إذا انقضت العدة بدون إسلام المتأخر منهما، فالفرقة حينئذ تقع لاختلاف الدين بينهما، وليس لاختلاف الدار. وهو مروي عن الأوزاعي والليث بن سعد.   1 أحكام القرآن للجصاص3/439، والمبسوط 5/50، 51، وتبيين الحقائق 2/176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وهو قول جمهور الفقهاء المالكية في الصحيح، والشافعية والحنابلة.1 الأدلة: أولا: أدلة الحنفية الذين قالوا إن اختلاف الدار يوجب الفرقة: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول والقياس: أ- دليلهم من الكتاب: 1- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2   1 المدونة 2/313، والتمهيد12/23، وبداية المجتهد 2/49، والمنتقى 3/340، وأحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/63، والأم 5/44، والمهذب2/67، والأشراف4/210، وروضة الطالبين7/148، ومغنى المحتاج3/191، والمغني 6/619، والإنصاف 8/213، والمبدع7/118/، وكشاف القناع5/131، وأحكام أهل الذمة 1/317، ومصنف عبد الرزاق7/172، ومصنف ابن أبي شيبة5/91-105، وفتح الباري 9/421، ومعالم السنن2/74، ونيل الأوطار 6/164. 2 الممتحنة: 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وجه الدلالة من الآية: دلت الآية على وقوع الفرقة بين الزوجين متى اختلفت الدار بينهما من وجوه عديدة: أ- دل قوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..} أن الفرقة تقع بين الزوجة التي أسلمت بدار الكفر، ثم هاجرت إلى دار الإسلام، وبين زوجها الذي تركته بدار الكفر كافرا، فإن الأمر بعدم إرجاعها إلى زوجها الكافر في دار الكفر، دليل على انقطاع العصمة بينهما بسبب اختلاف الدار بينهما. ب- ودل قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} على وقوع الفرقة بين الزوجين، متى اختلفت الدار بينهما، لأن عدم الحل إنما يكون عند رفع النكاح وزواله. ج- ودل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} على وقوع الفرقة بسبب اختلاف الدار، لأن الأمر برد مهر الزوجة المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام على زوجها الكافر المقيم بدار الكفر دليل على انقطاع عصمة الزوجية بينهما، لأن الزوجية لو كانت باقية لما استحق الزوج رد المهر إليه، لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله. د- ودل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على وقوع الفرقة بين الزوجين، بسبب اختلاف الدار لأن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 سبحانه وتعالى أحل المسلمات المهاجرات إلى دار الإسلام للمؤمنين من غير شرط، إلا إعطائهن المهور، وهذا دليل على عدم بقاء زواجهن الأول، لأنه لو كان النكاح الأول باقيا، لما جاز للمؤمنين نكاح المهاجرات بإسلامهن. هـ-ودل أيضا قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} على وجوب الفرقة بين الزوجين، بسبب اختلاف الدار بينهما، لأن الله سبحانه وتعالى نهى المؤمنين أن يمسكوا بعصم الكوافر، فالكافر الذي أسلم في دار الكفر، ثم هاجر إلى دار الإسلام، وترك زوجته الكافرة في دار الكفر، يفرق بينهما، لأن اختلاف الدار أوجب انقطاع العصمة بينهما، والمراد بالعصمة هنا- النكاح- فقد انقطع النكاح بينهما لاختلاف الدار بينهما.1 قال أبو بكر الجصاص رحمه الله: "في هذه الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين، واختلاف الدارين أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب، والآخر من أهل دار الإسلام، وذلك لأن المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب، فقد اختلفت بهما الداران، وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} ، ولو   1 أحكام القرآن للجصاص 3/438، والمبسوط 5/51، والجوهر النقي مع سنن البيهقي 7/189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 كانت الزوجيةِ باقية لكان الزوج أولى بها بأن يكون معها حيث أراد، ويدل أيضا قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يدل عليه أيضا، لأنه أمر برد مهرها على الزوج، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر، لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ولو كان النكاح الأول باقيا لما جاز لها أن تتزوج، ويدل قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، والعصمة: المنع فنهانا أن نمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي"1 ب- دليلهم من السنة: استدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب علي أبي العاص ابن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد"2 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن تباين الدارين يوجب الفرقة بين الزوجين لأن   1 انظر: لأحكام القرآن للجصاص 3/438. 2 أخرجه الترمذي 3/447، كتاب النكاح، باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، حديث رقم 1142، وقال: هذا حديث في إسناده مقال، وابن ماجة 1/647، كتاب النكاح، باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، حديث رقم 2010، والبيهقي 7/188، كتاب النكاح والطحاوي في معاني الآثار 3/205. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 زينب رضي الله عنها كانت مسلمة بدار الإسلام، أما أبو العاص فكان كافرا وبدار الكفر، ففرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردها عليه بالزواج الأول عند إسلامه بل بنكاح جديد ومهر جديد، وهذا مما يدل على وجوب الفرقة في الحال بين الزوجين عند تباين الدار بينهما.1 ج- دليلهم من المأثور: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما أراد أن يهاجر إلى المدينة، نادى بمكة: "ألا من أراد أن تبين منه امرأته، فليلتحق بي- أي - فليصحبني -"2 د- دليلهم من المعقول من أربعة أوجه: الوجه الأول: أن تباين الدارين مفوت لمقاصد النكاح، لأنه مع اختلاف الدار لا يتمكن الزوجان من الانتفاع بالنكاح عادة، فلم يكن لبقائه فائدة فيزول، إذ يكون الزوجان بحال يتعذر معها انتظام التعاون المنشود، كالمسلم إذا ارتد عن الإسلام، ولحق بدار الحرب، فإنه يزول ملكه عن أمواله، وتعتق أمهات أولاده، فكذلك إذا اختلفت الدار بين الزوجين، زالت الفائدة من النكاح.3   1 نصب الراية 3/242، والعلاقات الاجتماعية ص 116. 2 المبسوط 5/51. 3 بدائع الصنائع 2/338، والجوهرة النيرة 2/270. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الوجه الثاني: ولأن أهل دار الحرب كالموتى في حق أهل دار الإسلام، ولهذا لو التحق بهم المرتد جرت عليه أحكام الموتى، فكما لا تتحقق عصمة النكاح بين الحي والميت، فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقة وحكما.1 الوجه الثالث: ولأن الدار اختلفت بين الزوجين حقيقة وحكما، فوجب أن تقع الفرقة بينهما، كالحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمان، ثم أسلمت، فإن الفرقة تقع بينهما وبين زوجها الذي في دار الحرب في الحال.2 الوجه الرابع: ولأن اختلاف الدارين يؤثر في انقطاع العصمة، كما يؤثر في المنع من الميراث، ألا ترى أن الذمي لو مات في دار الإسلام وخلف مالا وله ورثة من أهل الحرب في دار الحرب، لم يستحقوا من إرثه شيئا، وجعل ماله في بيت المال، لاختلاف الدارين، ولو كان ورثته ذميين في دار الإسلام لكانوا هم أحق بتركته من جماعة المسلمين، لأنه لم تختلف الدار بينهم لأن الجميع من أهل دار الإسلام.3   1 المبسوط 5/51، وبدائع الصنائع 2/338، وتبيين الحقائق 2/175، والبحر الرائق 3/229. 2 أحكام القرآن للجصاص 3/439، وبدائع الصنائع 2/339، وأحكام أهل الذمة 1/369. 3 أحكام أهل الذمة 1/371. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 دليلهم من القياس: أن الفرقة تقع بين الزوجين في الحال إذا ثبت أن بينهما رضاع أو نسب. فكذلك إذا اختلف الدار بينهما فرق بينهما في الحال.1 ثانيا: أدلة الجمهور الذين قالوا بأن اختلاف الدارين لا أثر له في الفرقة: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول: أ - دليلهم من الكتاب: بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ..} الآية2. وجه الدلالة من الآية الكريمة: دلت الآية على أن الذي يوجب الفرقة بين المسلمة وزوجها الكافر، هو إسلامها لا هجرتها، لأن الله تعالى قال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، فبين أن العلة هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين.3   1 فتح القدير 3/292. 2 الممتحنة: 10. 3 أحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/63،64، والأم 5/44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 ب - دليلهم من السنة: بحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا"1 وفي لفظ: "رد ابنته زينب على أبي العاص زوجها بنكاحها الأول بعد سنتين ولم يحدث صداقا"2 وفي لفظ: "رد ابنته زينب على أبي العاص، وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقا"3 وجه الدلالة من الحديث: الحديث دل على أن اختلاف الدارين لا أثر له في الفرقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول، دون أن   1 أخرجه أحمد 1/351، وأبو داود 2/675، كتاب الطلاق، باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها، حديث رقم 2240، والترمذي 3/448، كتاب النكاح، باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما حديث رقم 2143، وقال: هذا حديث ليس باسناده بأس وابن ماجة 1/647، كتاب النكاح حديث 2009، والحاكم 2/200، والبيهقي 7/187،كتاب النكاح. 2 أخرجه أحمد 1/351، وأبو داود 2/675، كتاب الطلاق، وابن ماجة 1/447، كتاب النكاح، حديث 2009، والبيهقي 7/187. 3 أخرجه أحمد 1/351، وأبو داود 2/676، كتاب الطلاق، والترمذي 3/448،كتاب النكاح، حديث 1143، والبيهقي7/187، والحاكم2/20، والطحاوي 3/256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 يجدد عقد الزواج بينهما، ولو أن الفرقة وقعت بينهما باختلاف الدارين لما ردها إليه صلى الله عليه وسلم إلا بنكاح جديد.1 قال الخطابي: "الحديث دليل على أن افتراق الدارين لا تأثير له في إيقاع الفرقة، وذلك أن أبا العاص كان بمكة بعد أن أطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفكه أسره، وكان قد أخذ عليه أن يجهز زينب إليه، ففعل ذلك وقدمت زينب المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامت بها"2 2- وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، مشركوا أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركوا أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا تطهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه"3 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن الفرقة لا تقع بين الزوج الكافر وامرأته المسلمة المهاجرة، باختلاف الدار، إلا بعد أن تحيض المرأة وتطهر، ثم يحل نكاحها، وإن أسلم زوجها وهاجر قبل أن تنكح ردت إليه. وفي هذا يقول الإمام البيهقي بعد أن ذكر الحديث: وفي هذا دلالة   1 المغنى 6/619، ومغنى المحتاج 3/191. 2 انظر: معالم السنن للخطابي 2/676. 3 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 244. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 على أن الدار لم تكن تفرق بينهما.1 وقال الإمام ابن القيم: "هذا الحديث هو الفصل في هذه المسألة- أي مسألة اختلاف الدارين-، هل يوقع الفرقة أم لا؟ وهو الصواب فإن شاءت بعد استبرائها بحيضة نكحت، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلام زوجها"2 3- وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أسلمت امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد أسلمت معها وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول"3 وهذا الحديث - أيضا - دل على أن الفرقة لا تقع بين الزوجين إذا اختلفت الدار بينهما في الحال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته مهاجرة بإسلامها زوجها ولكن بعد أن علم بإسلام زوجها ردها عليه، ولو وقعت الفرقة بينهما ما ردها عليه.   1 انظر: السنن الكبرى 7/187. 2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/365. 3 أخرجه أحمد 1/323، وأبو داود 2/674، 675، كتاب الطلاق، حديث 2239، وابن ماجة 1/647، كتاب النكاح، حديث 2008، والحاكم 2/200، كتاب الطلاق وصححه، والبيهقي 7/187، وابن حبان. انظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص 311، كتاب النكاح باب في الزوجين يسلمان، حديث 1280. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 4- وبما روي أن أبا سفيان بن حرب أسلم بمر الظهران1، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر عليها، فكانت بظهوره وإسلام أهلها دار الإسلام، وامرأته هند بنت عتبة كافرة بمكة، ومكة يومئذ دار حرب ثم قدم عليها يدعوها إلى الإسلام، فأخذت بلحيته، وقالت اقتلوا الشيخ الضال، فأقامت أياما قبل أن تسلم، ثم أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وثبتا على النكاح. وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار الإسلام، وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهربا إلى اليمن، وهي دار حرب، ثم جاء فأسلما بعد مدة، وشهد صفوان حنينا وهو كافر، ثم أسلم واستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول.2 قال الإمام الشافعي: "ولم أعلم مخالفا في أن المتخلف عن الإسلام منهما إذا انقضت عدة المرأة قبل أن يسلم، انقطعت العصمة بينهما، سواء خرج المسلم منهما من دار الحرب، وأقام المتخلف فيها، أو خرج المتخلف عن الإسلام، أو خرجا معا، وأقاما معا، لا تصنع الدار في التحليل والتحريم شيئا، إنما يصنعه اختلاف الدينين"3   1 مر الظهران: واد فحل من أودية الحجاز يمر شمال مكة على بعد 22 كيلا وفيه عشرات العيون والقرى ومنها الجموم، وبحرة، وغيرها انظر: معجم المعالم الجغرافية ص 288. 2 الموطأ ص 370، 371، والبيهقي 7/187، الأم 5/244، وأحكام أهل الذمة 1/364. 3 الأم 5/44- 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 ج - دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه: 1- أن عقد النكاح عقد معاوضة، فلا ينفسخ باختلاف الدار كسائر عقود المعاوضات، كالبيع ونحوه.1 2- أن اختلاف الدارين يظهر في انقطاع الولاية، وانقطاع الولاية لا يوجب فسخ النكاح، كاختلاف الولاية في دار الإسلام، فإن النكاح يبقى بين أهل العدل، والبغي والولاية بينهما منقطعة.2 3- ولأن المسلم إذا خرج مستأمنا إلى دار الكفر، لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته مع اختلاف الدار بينهما، وكذلك المستأمن الحربي إذا خرج إلى دار الإسلام مستأمنا، لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته التي هي في دار الكفر.3 المناقشة: أولا: مناقشة أدلة الحنفية: أ - مناقشة أدلتهم من الكتاب: بالنسبة لاستدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ   1 المغني لابن قدامة 6/120. 2 وهذا الدليل ذكره السرخسي والكاساني لهم، ولم أجده في كتبهم. انظر: المبسوط5/51، وبدائع الصنائع2/338. 3 وأيضا هذا الدليل ذكره السرخسي والزيلعي، ولم أجده في كتب المخالفين للأحناف. انظر المبسوط 5/51، وتبيين الحقائق 2/176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..} الآية. يرد عليه: بأن الذي أوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام وزوجها الكافر في دار الكفر، هو إسلامها لا هجرتها، أي هو اختلاف دينها عن دينه، لا دارها عن داره. وفي هذا يقول ابن العربي: "الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها هو إسلامها، لا هجرتها، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين" 1، ووافقه القرطبي، وقال: "هذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها، إسلامها، لا هجرتها، وقال: قال ابن عبد البر: لا فرق بين الدارين، لا في الكتاب ولا في السنة، ولا في القياس، وإنما المراعاة في ذلك الدينان، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار، والله المستعان"2 وقال ابن القيم: "قال الجمهور لا حجة لكم في شيء من ذلك، فإن قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} إنما هو في حال الكفر، ولهذا قال تعالى:   1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1787. 2 الجامع لأحكام القرآن 18/63،64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} ، ثم قال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وأما قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ، فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفة: هذا منسوخ، وإنما كان ذلك قي الوقت الذي كان يجب فيه رد المهر إلى الزوج الكافر إذا أسلمت امرأته، وأما من لم يره منسوخا، فلم يجب عنده رد المهر، لاختلاف الدارين، بل لاختلاف الدين، ورغبة المرأة عن التربص بإسلامه، فإنها إذا حاضت حيضة ملكت نفسها، فإن شاءت تزوجت، وحينئذ ترد عليه مهره، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلامه. وأما قوله تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، فإنما ذلك بعد انقضاء عدتها ورغبتها عن زوجها، وعن التربص بإسلامه، كما قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} 1، والمراد بعد انقضاء عدتها ورضاها. وأما قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، فهذا لا يدل على وقوع الفرقة باختلاف الدار، وإنما يدل على أن المسلم ممنوع من نكاح الكافرة المشركة، ونحن لا نقول ببقاء النكاح مع شركها، بل نقول إنه موقوف، فإن أسلمت في عدتها، أو بعدها، فهي امرأته.2   1 البقرة: 230. 2 انظر: أحكام أهل الذمة 1/368،369. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الآية الكريمة وارد في بيان حكم المؤمنات المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام، مفارقات أزواجهن المشركين في دار الحرب، والحكم الذي وردت به الآية هو وقوع الفرقة بين المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام وبين زوجها الكافر في دار الحرب، وإباحة نكاحها لمن شاءت من المسلمين. فدلالة الآية على وقوع الفرقة باختلاف الدارين واضحة، كما بين ذلك الجصاص في أحكامه.1 وذكر ابن العربي والقرطبي: "أن الإمام مالك أشار إلى هذه الدلالة من الآية الكريمة"2 وقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} ، نص في وقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدار لأن الزوجية لو كانت باقية بينهما لكان هو أحق بها3. وأجيب عن ذلك: بأن الآية الكريمة لا دلالة فيها على وجوب الفرقة بين الزوجين في الحال عند اختلاف الدار بينهما، بل غاية ما تدل عليه، هو أن الذي يوجب الفرقة بين المسلمة وزوجها الكافر، هو إسلامها لا هجرتها، لأن الله تعالى يقول: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 4، فبين أن العلة   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/438. 2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/36،64. 3 الجوهر النقي 7/189. 4 الآية 10 من سورة الممتحنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين.1 وكذلك قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} لا دلالة فيها على وجوب الفرقة بينهما عند اختلاف الدار، بل غاية ما تدل عليه الآية، كما قال ابن القيم: "أن المسلم لا يجوز له أن يتزوج المشركة، وإذا أسلم لا يبقى النكاح بينهما، إلا إذا أسلمت أثناء العدة، أما إذا لم تسلم، فيفرق بينهما لاختلاف الدين بينهما"2. ب- مناقشة أدلتهم من السنة: الحديث الذي استدلوا به، ضعيف الإسناد،3 فقد قال الإمام أحمد عن هذا الحديث بأنه ضعيف أو واه، ولم يسمعه الحجاج4 من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيد العرزمي5، والعرزمي حديثه لا يساوي شيئا، والحديث الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح   1 أحكام القرآن لابن العربي 4/1787، والجامع لأحكام القرآن 18/63. 2 انظر: لأحكام أهل الذمة لابن القيم 1/369. 3 لأن فيه الحجاج بن أرطأة، قال عنه ابن حجر: كثير الخطأ والتدليس. انظر: تقريب التهذيب 1/152. 4 هو الحجاج بن أرطأة بن ثور بن هبيرة النخعي الكوفي، قاض من أهل الكوفة، صدوق كثير الخطأ والتدليس، توفي بخرسان أو بالري سنة 145 هـ تقريبا التهذيب 1/152، وتاريخ بغداد 8/230، وميزان الاعتدال 1/213. 5 هو محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي الفزاري الكوفي، أبو عبد الرحمن، كان يحفظ الحديث ويرويه، وليس بثقة، ضاعت كتبه فحدث من حفظه، فأتى بمناكير، ولد سنة 77 هـ، وتوفي سنة155هـ. تقريب التهذيب 2/187، والأعلام 6/258. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الأول"1 وقال الترمذي: "في اسناده مقال"2، وقال الدارقطني: "هذا الحديث لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول"3 وقال الشوكاني في اسناده: "الحجاج بن أرطأة، وهو معروف بالتدليس وأيضا لم يسمعه من عمرو بن شعيب، كما قال أبو عبيد، وإنما حمله عن العرزمي، وهو ضعيف"4 وقال الألباني: "حديث منكر"5 وعلى فرض صحته، فهو معارض بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي سبق بيانه وهو أصح منه. قال البيهقي: "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: سألت عنه البخاري رحمه الله فقال: حديث ابن عباس أصح في هذا، من حديث عمرو بن شعيب"6 وأجيب عن ذلك: بأن حديث عمرو بن شعيب - وإن كان ضعيفا - إلا أنه يتقوى بغيره من الأدلة التي أوجبت الفرقة بين المسلمة المهاجرة من دار الحرب   1انظر: مسند الإمام أحمد ا/351. 2انظر: سنن الترمذي 3/448. 3انظر: سنن الدارقطني 3/254. 4انظر: نيل الأوطار 6/13. 5انظر: إرواء الغليل 6/341. 6انظر: السنن الكبرى 7/188. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 إلى دار الإسلام، وزوجها الكافر المقيم بدار الحرب. قال ابن التركماني: "الحديث عندنا صحيح"1 وقال ابن عبد البر: "وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول، وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد، والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل، ويؤيده مخالفة ابن عباس رضي الله عنهما لما رواه، كما حكي ذلك عنه البخاري2، أنه قال: إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه3. وقال بعض العلماء: "إن حديث عمرو بن شعيب هو الذي عليه العمل وإن كان حديث ابن عباس رضي الله عنهما أصح إسنادا، لكن لم يقل به أحد من الفقهاء لأن الإسلام كان قد فرق بينهما4، قال تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُن} 5 وقال الترمذي: "قال يزيد بن هارون6 حديث ابن عباس أجود   1 انظر: الجوهر النقي مع السنن الكبرى 7/189. 2 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/24. 3 أخرجه البخاري 2/275، كتاب الطلاق، باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي. 4 انظر نيل الأوطار 6/163. 5 الممتحنة: 10. 6 هو أبو خالد يزيد بن هارون بن زاذان بن ثابت السلمي الواسطي، ولد بواسط سنة118، وكان من حفاظ الحديث الثقات، كان يقول أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث، وتوفي سنة 206 بواسط. تقريب التهذيب 2/372، وتاريخ بغداد 14/337، وتذكرة الحفاظ 1/291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب"1 وأكد صحة حديث عمرو بن شعيب الشعبي، حيث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أبا العاص إلى ابنته زينب إلا بنكاح جديد.2 وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان أصح منه، لكنه منسوخ كما قال ابن عبد البر: "وهذا الخبر -يعني خبر ابن عباس- وإن صح، فهو متروك منسوخ عند الجميع، لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد خروجها من علتها، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض. ومما يدل على أن قصة أبي العاص منسوخة، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ..} الآية، وإجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع كان كافرا، وأن المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر3، قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 4. وعلى فرض أن الحديث ليس منسوخا، يمكن الجمع بين الحديثين،   1 انظر: سنن الترمذي 3/449. 2 التمهيد لابن عبد البر 12/24. 3 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/20،21. 4 النساء: 141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 بأن معنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه بالنكاح الأول، يريد على مثل النكاح الأول من الصداق وغيره، ولم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره1 وأجيب عن ذلك: بأن حديث عمرو بن شعيب لا يقوى ولا يبلغ إلى درجة حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو أصح منه ويعارضه. وقولهم: بأن حديث عمرو بن شعيب وإن كان ضعيفا، فإن الآية تؤيده وتشهد له، فهذا غير مسلم، لأن الآية لا دلالة فيها على وجوب وقوع الفرقة بين الزوجين في الحال، عند اختلاف الدار بينهما. وبهذا يضعف استدلال الحنفية بهذا الحديث. ج - مناقشة استدلالهم بالمأثور: أثر عمر رضي الله عنه الذي استدلوا به، لا وجود له إلا في كتبهم، ولم أجده في كتب السنن والآثار المشهورة، وهذا مما يضعف الاستدلال به. وعلى فرض وجوده، فلا دلالة لهم فيه، لأن عمر رضي الله عنه عندما قال: من أراد أن تبين امرأته منه فليهاجر، قصد بذلك أنها تبين منه الإسلام لا باختلاف الدار، لأن اختلاف الدار لا أثر له في الفرقة وإنما الأثر لاختلاف الدين.   1 التمهيد لابن عبد البر 12/24، ونيل الأوطار 6/163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 د - مناقشة أدلتهم من المعقول: الرد على الوجه الأول: قولهم: بأن تباين الدارين مفوت لمقاصد النكاح، هذا غير صحيح، لأن اختلاف الدار إنما يؤثر في انقطاع الولاية وعدم السيادة وهما لا يوجبان انقطاع الزواج، وليس لهما تأثير في الفرقة، ولهذا لو أسلمت المرأة في دار الكفر، وبقي زوجها الكافر مستأمنا بدار الإسلام، لا تقع الفرقة بينهما بمثل هذا التباين، ولا تقع الفرقة بينهما إلا باختلاف الدين. وكذلك لو دخل المسلم دار الكفر بأمان، لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته المسلمة التي في دار الإسلام، وأيضا لو كان لانقطاع الولاية تأثير على الزواج، لوقعت الفرقة بين الزوجين الذين أحدهما في دار البغي والآخر في دار العدل، وليس كذلك1. الرد على الوجه الثاني: قولهم بأن أهل دار الحرب كالموتى في حق أهل دار الإسلام، هذا غير صحيح، لأن هناك فرقا بين الموت واختلاف الدار، فالموت قاطع للأملاك، ومن بينها عصمة النكاح، أما اختلاف الدار فهو غير قاطع للأملاك، وبهذا يكون لا أثر له في انقطاع العصمة بين الزوجين. الرد على الوجه الثالث:   1 أحكام أهل الذمة 1/367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 قال ابن القيم في الرد عليه: "هذا منتقض بانتقال المسلم إلى دار الحرب، ودخول الحربية إلى دار الإسلام، ودخول الحربي بأمان لتجارة أو رسالة، فإن الفرقة لا تقع، وأما الحربية إذا دخلت دار الإسلام وأسلمت، فالموجب للفرقة هناك اختلاف الدين، دون اختلاف الدارين ألا ترى أنه لو وجد في دار واحدة كان الحكم كذلك؟ 1. الرد على الوجه الرابع: قولهم: بان اختلاف الدارين يقطع الميراث- فالذمي إذا مات في دار الإسلام، وخلف مالا وله ورثة في دار الحرب، لم يستحقوا من ماله شيئا، لاختلاف الدارين بينهم - فكذلك يقطع عصمة النكاح. قال ابن القيم في الرد عليه: "انقطاع الإرث بينهما لم يرجع إلى اختلاف الدارين، لكن رجع إلى قطع الموالاة والنصرة، ولهذا لو كان ذميا في دار الإسلام فدخل قريبة الحربي مستأمنا ليقيم مدة ويرجع إلى دار الحرب لم يتوارثا، وإن كانت الدار واحدة2. أما قياسهم الفرقة بين الزوجين عند اختلاف الدارين بينهما على الفرقة بينهما بنسب أو رضاع فهو قياس مع الفارق وغير معتبر لأن الفرقة بين الزوجين بنسب أو رضاع، قد تكون في دار واحدة بخلاف الفرقة باختلاف الدارين فإنها لا تكون في دار واحدة.   1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/369. 2 انظر: المرجع السابق 1/371. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 ثانيا: مناقشة أدلة الجمهور القائلين بأن الفرقة لا تقع باختلاف الدارين: أ- مناقشة استدلالهم بالكتاب: استدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ..} الآية.1 يرد عليه: بأن الآية دلت على أن الذي أو قع الفرقة اختلاف الدار لا الدين فالآية سيقت لبيان حكم المؤمنات المهاجرات إلى دار الإسلام مفارقات أزواجهن الكفار في دار الحرب، والحكم الذي وردت لأجله هو وقوع الفرقة بين المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام وبين زوجها الكافر في دار الحرب، فدلالة الآية على وجوب الفرقة بين الزوجين باختلاف الدارين واضح لا يمكن إغفاله.2 ويجاب عن ذلك: بأن المؤمنات المهاجرات إلى دار الإسلام، المفارقات لأزواجهن من الكفار، أمر الله بعدم إرجاعهن لأزواجهن، ووجوب الفرقة بينهما إذا لم يسلموا، ليس لكونهن هاجرن من دار الكفر إلى دار الإسلام، بل لكونهن   1 الممتحنة: 10. 2 أحكام القرآن للجصاص 3/438، والمبسوط 5/51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 مؤمنات، فالإيمان هو سبب الفرقة، وليس اختلاف الدار، الذي لا أثر له في وقوع الفرقة، وإنما الأثر لاختلاف الدين، فمتى كان أحد الزوجين كافرا والآخر مؤمنا، فرق بينهما بعد عرض الإسلام على المتأخر منهما، سواء كانا في دار واحدة، أو اختلفت الدار بينهما. ب - مناقشة أدلتهم من السنة: 1- بالنسبة لاستدلالهم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيصلى الله عليه وسلم رد زينب لأبي العاص بالنكاح الأول. فيرد عليه من وجوه: 1- أن الحديث في إسناده ضعف.1 2- أن الحديث فيه اضطراب في المتن، فروي أنه صلى الله عليه وسلم ردها عليه بعد ست سنين من إسلامها، وفي رواية بعد سنتين وهذا مما يضعف الاستدلال به2. 3- أنه على فرض صحته، فهو منسوخ، كما قال ذلك ابن عبد البر في التمهيد، حيث قال: "وإن صح فهو متروك منسوخ عند الجميع، لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد العدة، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض، وهو منسوخ بالآية: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا   1 نصب الراية 3/209، والجوهر النقي مع السنن الكبرى 7/188. 2 سبق تخريجه ص 271. انظر: الجوهر النقي 7/188. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} ومما يدل على أن قصة أبي العاص منسوخة بهذه الآية، إجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع، كان كافرا وأن المسلمة لا تحل أن تكون زوجة لكافر.1 4- وعلى فرض عدم النسخ، فهو معارض بحديث عمرو بن شعيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إليه بنكاح جديد ومهر جديد، وهو الذي عليه العمل عند أكثر العلماء، وإن كان حديث ابن عباس رضي الله عنهما أجود إسنادا منه2. 5- قال ابن الهمام: "إذا أمكن الجمع، فهو أولى من إهدار الحديثين وذلك بحمل قوله: "ردها عليه بالنكاح الأول"، على معنى بسبب كونه سابقا مراعاة لحرمته، كما يقال ضربته على إساءته3، وقيل يمكن الجمع بينهما بحمل قوله: "ردها عليه بالنكاح الأول"، على مثل النكاح الأول من الصداق وغيره، ولم يحدث زيادة أو نقصان"4. وبهذه الأوجه الخمسة، يضعف استدلال الجمهور بهذا الحديث. 2- أما الحديث الآخر: فيرد عليه:   1 انظر: التمهيد لابن عبد البر 12/21، 21. 2 سنن الترمذي 3/448. 3 فتح القدير 3/292. 4 التمهيد 12/24، ونيل الأوطار 6/164، والمبسوط 5/52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 بأن الدار لم تختلف بين الزوجين، حتى يوقع النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة بينهما، فكلاهما من دار واحدة. وأجيب عن ذلك: بأنه رغم هذه الأوجه الخمسة في الرد على حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فهو أصح من حديث عمرو بن شعيب، بل إنه يتقوى بالآية التي دلت على عدم إرجاع المؤمنات المهاجرات إلى دار الإسلام لأزواجهن في دار الكفر، بسبب إيمانهن، وليس بسبب اختلاف الدار بينهم، فالأثر في الفرقة، إنما لاختلاف الدين لا الدار. أما ردهم على الحديث الآخر فيجاب عنه، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقع الفرقة بين الزوجين لأن الدار لم تختلف بينهما، بل لأن الدين لم يختلف بينهما. وحتى لو اختلفت الدار، فلا تقع الفرقة بسببها، بل بسبب اختلاف الدين. أما استدلالهم بقصة إسلام سفيان بن حرب، بمرالظهران، فمردود لأن مرالظهران لم تكن صارت من بلاد الإسلام، لأنها قريبة من مكة وتابعة لها، ومكة كانت دار حرب، فكان حكم ما قرب منها حكمها، فثبت بهذا أن أبا سفيان أسلم في دار حرب، فلم تختلف به وبامرأته الدار، لأنهما جميعا في دار الحرب، وبهذا يخرج الدليل عن محل النزاع.1   1 انظر: أحكام أهل الذمة 1/365. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 قال ابن التركماني: "قلت أسلم أبو سفيان بمرالظهران، وهي من توابع مكة، ومكة لم تكن في ذلك الوقت فتحت، فلم تصر مرالظهران دار إسلام بعد، فلم يختلف بها الدار"1 وعلى فرض أن مرالظهران كانت دار إسلام، فيحمل على أن أبا سفيان لم يكن أسلم إسلاما خالصا، وإنما كان في استجارة الرسول صلى الله عليه وسلم لما شفع له عمه العباس رضي الله عنه وإنما حسن إسلامه بعد الفتح، وبهذا يكون مستأمنا في دار الإسلام، ولا تقع الفرقة بينه وبين زوجته الكافرة. قال السرخسي: "وأما إسلام أبي سفيان، فالصحيح أنه لم يحسن إسلامه2 يومئذ، وإنما أجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشفاعة عمه العباس رضي الله عنه.3 قال ابن القيم في الإجابة عن ذلك: "قال الجمهور أبو سفيان أسلم بمرالظهران عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزلها المسلمون الذين معه، وثبتت أيديهم عليها، وجرت أحكام الإسلام فيها، وإذا كان كذلك كانت من دار الإسلام، وكانت في ذلك بمنزلة المدينة وسائر مدن الإسلام"4 وأجاب الحنفية عن ذلك: بأن مرالظهران قرية من قرى مكة، فتكون تابعة لها، ولم تصر بنزول عسكر المسلمين فيها دار إسلام، وفي   1 انظر: الجوهر النقي 7/186. 2 العلاقات الاجتماعية ص 116. 3 انظر: المبسوط 5/52. 4 انظر: أحكام أهل الذمة 1/365. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 هذا يقول ابن التركماني: "وإذا نزل العسكر بموضع لم تصر دار إسلام، حتى يجري فيه أحكام المسلمين، ويكون بحيث لو أرادوا أن يقيموا فيه ويستوطنوا أمكنهم، ولم تكن مرالظهران بهذه الصفة" وبهذا يعلم أن إسلام أبي سفيان كان في دار الحرب، فلم تختلف بينه وبين امرأته الدار، لأنها كانت كافرة في مكة، ومكة يومئذ دار حرب1. وأجيب عن ذلك: بأنه حتى لو كان مرالظهران من دار الحرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين أبي سفيان وزوجته لكونها أسلمت بعده، وليس لأن الدار لم تختلف بينهما، وحتى لو اختلفت، فلا أثر لها في وقوع الفرقة بين الزوجين، بل الأثر هو لاختلاف الدين. وأيضا لا حجة للجمهور في قصة عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية رضي الله عنهما لأن هروب عكرمة وصفوان إلى اليمن أو الطائف أو الساحل حتى وافاهما نساؤهما، وأخذن لهما الأمان، كان بعد فتح مكة، وبعد أن صارت دار إسلام، وما قرب منها يأخذ حكمها، فساحل البحر قريب منها، والطائف وإن كانت دار كفر، فليس في القصة أنه وصل إليها، بل قصدها، ولعله لم يخرج من دار الإسلام، ولم يصل إليها، وأما اليمن فإنها صارت دار إسلام لإقرار أهل الكتاب فيها بالجزية،   1 انظر: الجوهر النقي 7/186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وبهذا يعلم أن الدار لم تختلف بين هؤلاء وبين نسائهم.1 قال السرخسي: "وعكرمة وحكيم بن حزام، إنما هربا إلى الساحل، وكانت من حدود مكة، فلم يوجد تباين الدارين، فلهذا لم يجدد النكاح بينهما"2 وقال ابن التركماني: "وأما امرأة عكرمة، فخرجت عقيب خروجه فأدركته ببعض الطرق، ولم يتيقن بأن ذلك الموضع معدود من دار الكفر أما صفوان فأدركه عمير بن وهب، وهو يريد أن يركب البحر، فرجع به، وهذا الموضع من توابع مكة وفي حكمها، فلم يختلف به وبزوجه الدار"3 وأجيب عن ذلك: بأن الساحل والطائف، واليمن، حتى لو كانت من دار الإسلام، فاتحاد الدار واختلافه لا أثر له في الفرقة، بل الأثر لاختلاف الدين، ولم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين عكرمة وامرأته، وصفوان وامرأته، لأن الدين لم يختلف بينهم. وقال ابن القيم في الإجابة عن ذلك: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليه أحكام الإسلام   1 تبيين الحقائق 2/175، وأحكام أهل الذمة 1/366. 2 انظر: المبسوط 5/52. 3 انظر: الجوهر النقي مع سنن البيهقي 7/186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 لم يكن دار إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا، ولم تصر دار إسلام بفتح مكة، وكذلك الساحل، وأما اليمن فلا ريب أنه كان قد فشا فيهم الإسلام، ولم يستوثق كل بلادها بالإسلام إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في زمن خلفائه، ولهذا أتوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أرسالاً وفتحوا البلاد مع الصحابة، وعكرمة لم يهرب من الإسلام، إلى بلد إسلام، وإنما هرب إلى موضع يرى أن أهله على دينه.." إلى أن قال: "فالذين أسلموا وهاجروا قبل فتح مكة، لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين نسائهم قطعا مع اختلاف الدار قطعا، ولو لم تكن الآثار متضافرة بذلك، لكان القياس يقتضي عدم التفريق باختلاف الدار، فإن المسلم لو دخل دار الحرب وأقام بها وامرأته مسلمة، أو أقامت امرأة الحربي في دار الحرب، وخرج هو إلى دار الإسلام بأمان لتجارة أو رسالة، فإن النكاح لا ينفسخ"1 ج - مناقشة أدلتهم من المعقول: أ- قياسهم عقد النكاح على عقود المعارضات كالبيع ونحوه، قياس مع الفارق لأن المقصود الأصلي قي عقود المعاوضات هو المال، وهو لا يتأثر بتباين الدار، أما المقصود الأصلي من النكاح، فهو إنجاب الأولاد، وتكوين الأسرة، وهذا المقصود لا يتحقق إلا عند اتحاد الدار دون   1 انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/366، 367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 اختلافهما، ففارق غيره من عقود المعواضات.1 أجيب عن ذلك: بأن القياس صحيح، لأن اختلاف الدار لا أثر في انفساخ عقود المعاوضات من البيع ونحوه، فكذلك لا أثر له في إنفساخ النكاح بين الزوجين ومقصود النكاح يحصل بعد عرض الإسلام على المتأخر منهما، فإما أن يسلم ويلحق بالآخر ويحصل مقصود النكاح، وأما أن يأبى الإسلام، فيفرق بينهما، ويتزوج المسلم منهما، فيحصل أيضا مقصود النكاح. ب- أما قياسهم عدم وقوع الفرقة باختلاف الدارين على عدم وقوعها بين المسلم إذا خرج مستأمنا إلى دار الحرب، وزوجته التي هي في دار الإسلام وبين المستأمن الحربي في دار الإسلام، وزوجته في دار الحرب، فهو قياس مع الفارق، لأن المسلم المستأمن لم تختلف الدار بينه وبين زوجته، فكلاهما من أهل دار الإسلام، وكذلك المستأمن الحربي لم تختلف الدار بينه وبين زوجته، فكلاهما من أهل دار الحرب، ولا يؤثر الأمان في اختلاف الدارين بين الزوجين في هاتين الحالتين. أجيب عن ذلك: بأن اتحاد الدار أو اختلافه، لا أثر له في وقوع الفرقة بين الزوجين، وإنما الأثر لاختلاف الدين، فالمسلم الذي في دار الحرب، لم يفرق بينه   1 العلاقات الاجتماعية ص 116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وبين زوجته التي في دار الإسلام، ليس لأنهما من أهل دار واحدة - وهي دار الإسلام- بل لأن الدين بينهما لم يختلف، فزوجته مسلمة في دار الإسلام، وهو مسلم في دار الحرب، وكذلك الحربي المستأمن في دار الإسلام، لم يفرق بينه وبين زوجته التي في دار الحرب، ليس لأنهما من أهل دار واحدة - هي دار الحرب- بل لأن الدين بينهما لم يختلف، فزوجته كافرة في دار الحرب، وهو كافر في دار الإسلام. إذن فاختلاف الدار لا أثر له في الفرقة، بل الأثر لاختلاف الدين. الرأي المختار: بعد ذكر آراء الفقهاء في اختلاف الدار وأثره في الفرقة، وأدلتهم وما ورد عليها من ردود واعتراضات، تبين لي أن رأي الجمهور: في عدم وقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدار، هو الرأي المختار وذلك للأسباب الآتية: 1- لقوة الأدلة التي استدلوا بها، كالآية التي هي صريحة الدلالة في وجوب الفرقة بين المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام، وبين زوجها الكافر في دار الحرب، وذلك بسبب إيمانها، وليس لاختلاف دارها. 2- ولأن الأدلة التي استدل بها الحنفية على وجوب الفرقة بين الزوجين في الحال عند اختلاف الدار بينهما، غير مسلّمة، وأجيب عنها بالإجابات المعقولة. 3- ولآن في القول بوجوب الفرقة بين الزوجين عند اختلاف الدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 بينهما في الحال، حرجاً ومشقة، كما أن القول بعدم وقوع الفرقة باختلاف الدار بين الزوجين، بل باختلاف الدين، بعد عرض الإسلام على المتأخر منهما فيه تيسير وتخفيف، فالآخذ به هو الموافق لسماحة الشريعة الإسلامية. وهذا الحكم - وهو عدم وقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدار بينهما- ينطبق على دار الكفر في هذا الزمان، حربية كانت أو غير حربية، فالكافر الذي يسلم في دار الكفر، ثم يهاجر إلى دار الإسلام لا تقع الفرقة بينه وبين زوجته بسب اختلاف الدار بينهما، بل تقع باختلاف الدين بعد عرض الإسلام عليها أثناء عدتها، فإن لم تسلم، فرق الإسلام بينهما. وكذلك المرأة التي تسلم في دار الكفر. وأيضا إذا أسلمت الكافرة في دار الكفر، وزوجها الكافر من المقيمين في دار الإسلام، لا تقع الفرقة بينهما لاختلاف الدار، بل تقع لاختلاف الدين بعد عرض الإسلام عليه، فإن أبى فرق الإسلام بينهما. وبهذا الاختيار يتضح أن اختلاف الدار لا أثر له في وقوع الفرقة بين الزوجين، وإنما الأثر لاختلاف الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الفصل الخامس: اختلاف الدار وأثره في الجرائم في دار الكفر المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص في دار الكفر إن إزهاق النفس المؤمنة بغير وجه حق من الجرائم المحرمة ومن كبائر الذنوب، سواء كان ازهاقها في دار الإسلام أو في دار الحرب لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} 1، وقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} 2 فهذه الآيات وغيرها كثير تحرم قتل النفس المؤمنة بغير حق، وأن ذلك من كبائر الذنوب التي يستحق مرتكبها العقوبة في الدنيا والآخرة. ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة" 3. فهذا الحديث وغيره كثير يدل على تحريم دم المسلم إلا بحقه، سواء كان في دار الإسلام أو في دار الحرب.   1 الأنعام: 151، والإسراء: 33. 2 المائدة: 32. 3 أخرجه البخاري 4/188 كتاب الديات، ومسلم 3/1302، كتاب القسامة باب ما يباح به دم المسلم واللفظ له وقد سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 واتفق الفقهاء على وجوب إقامة القصاص على المسلم الذي ارتكب جريمة القتل عمدا في دار الإسلام، متى توفرت شروطه.1 وكذلك اتفقوا على أن المسلم إذا قتل من يظنه حربيا فكان مسلما، أو يرمي إلى صف الكفار فيصيب مسلما، أو تترس2 الكفار بمسلم ويخاف على المسلمين أن لم يرمهم فيرميهم فيقتل المسلم أن هذا لا قصاص فيه، وإنما هو من باب الخطأ، وفيه الكفارة بالاجماع3 لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 4 واختلف الفقهاء في وجوب إقامة القصاص على المسلم إذا ارتكب جريمة القتل في دار الكفر إلى قولين: القول الأول: أن المسلم إذا ارتكب جريمة القتل في دار الكفر فلا قصاص عليه، ولا يخلو القتيل أن يكون واحداً من ثلاثة: 1- أن يكون القتيل حربيا ثم أسلم وأقام في دار الكفر، ولم يهاجر إلى دار الإسلام فلا قصاص على قاتله ولا يجب عليه شيء سوى الكفارة.   1 الاختيار 5/23، وقوانين الأحكام ص 374، وكفاية الأخبار 2/ 95، 96، والمبدع 8/250. 2 التترس: التستر والتوقي- انظر لسان العرب 6/32. 3 الاختيار 5/25، والمنتقى شرح الموطأ 7/100، ومغنى المحتاج 4/13، والمبدع 8/251، والإنصاف 9/447. 4 النساء: 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 2- أن يكون القتيل والقاتل من أهل دار الإسلام، ودخلا دار الكفر بأمان لغرض كتجارة ونحوها، فلا قصاص على القاتل في هذه الحالة. 3- أن يكون القتيل أسيرا في دار الحرب فقتله أسيرٌ مثله فلا قصاص أيضا على القاتل في هذه الحالة. وهذا قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف في إحدى الروايتين عنه1. وهو رواية للإمام أحمد.2 إلا أن الإمام أبا حنيفة خالف الأصحاب في الحالة الأخيرة -أي في القتيل إذا كان أسيراً- فقال: "لا دية ولا كفارة على قاتله، أما الأصحاب فقالوا: تجب الدية والكفارة"3 وهذا القول نسبه الجصاص للحسن بن صالح4، فقال: وقال الحسن ابن صالح من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على   1 بدائع الصنائع 7/105، 132، 133، 237، وأحكام القرآن للجصاص 2/240، 241، وتبيين الحقائق 6/112، وحاشية المختار 6/532. 2 انظر: المغني لابن قدامة 7/648. 3 انظر: نفس مراجع الحنفية السابقة. 4 هو الحسن بن صالح بن حنى الهمداني الثوري الكوفي أبو عبد الله، ثقة، فقيه، ومن رجال الحديث الثقات، رمى بالتشيع، ولد سنة 100هـ، وتوفي سنة 168هـ بالكوفة، له كتب منها: التوحيد، والجامع في الفقه. انظر: تقريب التهذيب 1/166، وميزان الاعتدال 1/230، والأعلام 2/193. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 التحول إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم، يحكم فيه بما على أهل الحرب في ماله ونفسه، إلى أن قال: إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام1 القول الثاني: أن المسلم إذا قتل مسلما آخر في دار الكفر متعمداً وجب عليه القصاص، ولا فرق في وجوبه بين دار الكفر ودار الإسلام. وهو قول جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والظاهرية وأبي يوسف من الحنفية في إحدى الروايتين عنه.2 الأدلة: أولا: استدل الأحناف على عدم وجوب القصاص في دار الكفر، بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول. أ - دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 3.   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/240. 2 مواهب الجليل 6/175، وقوانين الأحكام الشرعية ص 373، والأم 6/35، والأشراف لابن المنذر ص 84، ومغنى المحتاج4/14، ونهاية المحتاج 7/260، والمغني 7/648، والمبدع 8/251، والمحلى 10/360، وأحكام القرآن للجصاص ص 2/241. 3 النساء: 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وجه الدلالة من الآية الكريمة: الآية ظاهرة الدلالة على أن المسلم إذا قتل مسلما متعمدا في دار الكفر لا قصاص عليه، ولاشيء عليه سوى الكفارة، لأن الآية لم تذكر غيرها، فدلت على أن القصاص والدية لا تجب بقتل المسلم في دار الكفر.1 قال الجصاص: "لا يخلو قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، من أن يكون المراد به الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا"2 ب - أما دليلهم من السنة: 1- فما رَوَى أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة3 من جهينة قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم قال: فلما غشيناه4 قال: لا إله إلا الله قال: فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، قال فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقال لي يا أسامة: أقتلته بعد ما قال: لا إله   1 بدائع الصنائع 7/105. 2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/241. 3 الحُرْقة: بضم الحاء وبالراء ثم قاف - وهي بطن من جهينة، وسموا بذلك لوقعة كانت بينهم وبين بني سهم بن مُرَّة بن عوف بن سعد بن ذبيان، فأحرقوهم بالسهام لكثرة من قتلوا منهم. ينظر: نسب معدٍ واليمن الكبير 728. 4 أي لحقنا به حتى تغطى بنا. فتح الباري 12/195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 إلا الله؟ قال: قلت يا رسول الله أنه إنما كان متعوذا1، قال: قتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"2 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في أن المسلم إذا قتل مسلما في دار الحرب لا قصاص عليه ولا دية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة شيئا من ذلك. قال أبو بكر الجصاص: "وهذا الحديث يدل على ما قلناه - أي أنه لا قصاص على المسلم في دار الحرب - لأنه لم يوجب عليه شيئا، وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا.3 2- بما روى عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال: لا تراءى ناراهما" 4.   1 متعوذا: أي معتصما. المصباح المنير 2/437. 2 أخرجه البخاري 4/186- 187، كتاب الديات، واللفظ له. ومسلم 1/97 كتاب الإيمان حديث 159. 3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/243. 4 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فهذا الحديث يدل على أن المسلم الذي لم يهاجر إلى دار الإسلام لا قصاص على قاتله ولا دية، فدمه مباح لأنه لا عصمة له. قال الجصاص: "قوله أنا بريء منه - يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم"1 3- وبما روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"2 فالحديث يدل على أن المسلم الذي يسكن مع المشركين في دارهم أنه مثلهم، والمشرك لا قصاص على من قتله في دار الحرب بالإتفاق، وكذلك المسلم الساكن معه لا قصاص ولا دية على قاتله. 4- بما روى عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين" 3 فهذا الحديث أيضا يدل على أنه لا قصاص على من قتل مسلما في دار الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في الحديث أن الحربي إذا أسلم ولم يهاجر ويفارق الحربيين إلى المسلمين. لم يقبل منه عمله، فيكون مثلهم لا عصمة له، ولا قصاص على من قتله.   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/243. 2 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308. 3 سبق تخريجه ص 164. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 5- وبما روي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال: لا ذمة له" 1 فالحديث أيضا يدل على أن المسلم المقتول في دار الكفر لا قصاص على من قتله ولا دية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث أن من يقيم مع المشركين في دارهم فقد برئت منه الذمة ويكون دمه هدر مثلهم. قال الجصاص: "هو الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون فإن أصيب فلا دية له، لقوله عليه السلام فقد برئت منه الذمة"2 6- وبما روي عن سالم عن أبيه رضي الله عنهما قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة3، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا4، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده   1 أخرجه البيهقي 9/13، وذكره الجصاص في أحكام القرآن 2/242، وقد سبق تخريجه بغير هذا اللفظ في الجزء الأول، ص 308. 2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/242. 3 بنو جذيمة: قبيلة كانت تسكن بأسفل مكة من ناحية يلملم منسوبة إلى ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة. انظر: نسب معد واليمن الكبير470. 4 صبأنا: أي أسلمنا - وصبأ أي خرج من دين إلى دين. انظر: لسان العرب 1/107، 108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد. مرتين" 1 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن المسلم القاتل في دار الحرب، لا قصاص عليه، ولا دية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على خالد رضي الله عنه لا قصاص ولا دية مع أنه قتلهم في دارهم.2 7- وبما روي عن عقبة بن مالك الليثي رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فأغارت على قوم، فشذ رجل من القوم، وأتبعه رجل من السرية ومعه السيف شاهرة، فقال الشاذ: إني مسلم فضربه فقتله، فنمى3 الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا، فقال القاتل: يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا تعرف المساءة في وجهه وقال: إن الله أبى عليّ أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات"4 وجه الدلالة منه: قال أبو بكر الجصاص: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان المقتول، ولم يوجب على قاتله الدية، لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه"5.   1 أخرجه البخاري 3/71، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة. 2 انظر: المحلى 10/368. 3 فنمى: أي وصل. 4 أخرجه أحمد في المسند 4/110، وذكره الجصاص في أحكامه 2/242. 5 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/242، 243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 أما دليلهم من المأثور: فبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} 1، قال: يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار فلا دية له ولكن عتق رقبة مؤمنة 2. قال الجصاص: "هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا، لأنه غير جائز أن يكون مراده المؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار، لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال، وأن كون أقربائه كفاراً لا يوجب سقوط ديته"3 د- ودليلهم من المعقول: 1- أن إمام المسلمين لا يقدر على إقامة القصاص في دار الحرب، لأنه لا ولاية للدولة الإسلامية على محل ارتكاب الجريمة، والوجوب مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام على إقامة القصاص على من يرتكب جريمة القتل في دار الحرب، وإذا انعدمت القدرة، لم تجب العقوبة.4 2- أن القتيل في دار الحرب يورث شبهة بأنه من أهل دار الحرب، ومع وجود الشبهة لا يجب القصاص.5   1 النساء: 92. 2 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/240. 3 المرجع السابق نفسه. 4 انظر: فتح القدير 4/155، وبدائع الصنائع 7/ 131. 5 بدائع الصنائع 7/131. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 3- أن القصاص لم يشرع إلا لحكمة الحياة، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1، والحاجة إلى الأحياء عند قصد القتل لعداوة حاملة عليه، ولا يكون ذلك إلا عند المخالطة ولم توجد هنا.2 4- أن المسلم المقيم في دار الحرب يكثر من سواد الكفار، ويقوي من شأنهم، فهو وإن لم يكن منهم دينا فهو منهم دارا، وهذا يورث الشبهة في عصمته.3 5- لأن الاستيفاء متعذر في دار الحرب إلا بالمنعة، والمنعة منعدمة.4 ثانيا: أدلة الجمهور القائلين بوجوب القصاص على المسلم القاتل في دار الحرب: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس. أ- دليلهم من الكتاب: عموم الآيات التي دلت على وجوب القصاص على القاتل في كل مكان، في دار الحرب أو في دار الإسلام.5   1 البقرة: 179. 2 بدائع الصنائع 7/105. 3 المرجع السابق 7/237. 4 انظر: بدائع الصنائع 7/131. 5 انظر: المغنى 7/648، والمحلى 10/368. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 1- ومن هذه الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .1 فالآية دلت على وجوب القصاص على القاتل في دار الحرب، لأن الخطاب عام لكل حالة من حالات القتل، إذا كان عمدا، ولم تخص دار الإسلام من دار الحرب، فيدخل تحت عمومها المسلم المقتول في دار الحرب، فيجب القصاص على قاتله. 2- وبقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .2 فدلت هذه الآية أيضا بعمومها على أن النفس بالنفس، سواء وقع إزهاقها في دار الإسلام أو في دار الحرب، ولا أثر لاختلاف المكان في وجوب القصاص. 3- وبقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} .3 فهذه الآية دلت بعمومها كغيرها من الآيات، على وجوب القصاص على القاتل في دار الحرب كما يجب ذلك في دار الإسلام، ولم تخص هذه النصوص إحدى الدارين من الأخرى، كما قال ابن حزم.4   1 البقرة: 178. 2 المائدة: 45. 3 الإسراء: 33. 4 انظر: المحلى10/368. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ب - أما دليلهم من السنة: فبعموم الأحاديث التي دلت على وجوب القصاص بين المسلمين في كل مكان، ولا أثر لاختلاف الدار في هذا الحكم، فكما يجب القصاص في دار الإسلام على القاتل المتعمد، فكذلك يجب في دار الحرب.1 ومن هذه الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ومن قتل له قتيل فهو يخير النظرين إما يودي وإما أن يقاد" 2 فبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن ولي المقتول مخير بين القصاص والدية، فأيمهما اختار فهو أحق به، سواء كان القتل في دار الإسلام أو في دار الكفر، وإلى غير ذلك من الأحاديث التي تدل بعمومها على وجوب القصاص على القاتل في دار الكفر، كما يجب ذلك في دار الإسلام.3 ج - أما دليلهم من المعقول: فلأن فعل هذه الجريمة أي جريمة القتل محرم في دار الكفر كما هو في دار الإسلام بالاتفاق، وإذا كان اختلاف الدارين لا يؤثر على تحريم الفعل، فإنه لا يؤثر بالتالي على العقوبة المقررة لهذه الجريمة، جزاءً على إتيان الفعل المحرم.4 د - أما دليلهم من القياس:   1 انظر: المغني 7/648. 2 أخرجه البخاري 4/188، كتاب البيان، واللفظ له، وقد سبق تخريجه ص 317. 3 انظر: المحلى 10/368، والمغني 7/648. 4 انظر: كشاف القناع 6/88، والمهذب 2/241. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 1- فبالقياس على دار الإسلام في وجوب القصاص على القاتل المعتمد: قالوا: أن المسلم القاتل في دار الكفر، قتل من يكافؤه ويساويه عمدا وعدوانا، فيجب عليه القصاص، كما لو قتله في دار الإسلام.1 2 وبالقياس - أيضا - على دار الإسلام في وجوب القصاص على المسلم القاتل عمدا، وإن لم يوجد فيها إمام: قالوا: كما يجب القصاص على المسلم القاتل عمدا في دار الإسلام وجد إمام، أو لم يوجد، فكذلك يجب القصاص عليه في دار الكفر، حتى وإن لم يوجد فيها إمام.2 المناقشة: أولا: مناقشة أدلة الحنفية: أ- أما الآية: فلا دلالة لهم فيها على أنه لا قصاص على من قتل مسلما متعمدا في دار الحرب، لأن معنى الآية الصحيح هو: أن المقتول إذا كان حربيا ثم أسلم وبقي في قومه وهم كفرة، ولم يهاجر إلى دار الإسلام فقتل عن طريق الخطأ، فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير رقبة مؤمنة، وكذلك إذا كان مسلما ودخل دار الحرب فقتل خطأ، فلا دية ولا تجب إلا الكفارة فقط.   1 انظر: المغني 7/648. 2 انظر: المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وهذا المعنى هو الذي عليه أكثر أهل العلم. فيقول صاحب البحر المحيط: "معنى الآية أن المؤمن المقتول خطأ الذي أسلم في دار الحرب ثم قتل ولم يهاجر، فلا قصاص ولا دية، لأن أهله أعداء للمسلمين ولا تجب إلا الكفارة"1 وقال ابن كثير: "معنى الآية أي إذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياءه من الكفار أهل الحرب فلا دية، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير.2 وقال الرازي: "المراد بالآية إن كان المقتول خطأ من سكان الحرب وهو مؤمن، فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير رقبة، فأما وجوب الدية فلا"3 وقال الطبري: "معنى الآية فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم عدو لكم يعني من عداد قوم أعداؤكم في الدين لم يأمنوكم الحرب، على خلافكم في الإسلام وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة"4 وهذا هو المعنى الصحيح للآية عند بعض الصحابة والتابعين، ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وعكرمة ومجاهد والنخعي.5   1 انظر: البحر المحيط 3/324. 2 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/535. 3 انظر: التفسير الكبير 10/234. 4 انظر: جامع البيان 5/207. 5 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/323، وجامع البيان للطبري 5/207، وتفسير القرآن العظيم 1/535. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 قال ابن عباس رضي الله عنهما: فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، الرجل يكون مؤمنا وقومه كفار فلا دية له، ولكن تحرير رقبة مؤمنة، وقال أيضا: فإن كان من أهل دار الحرب وهو مؤمن فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة ولا دية عليه.1 وقال النخعي: "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، هو الرجل يسلم في دار الحرب فيقتل، قال ليس فيه دية وفيه الكفارة" وقال عكرمة: "فإن كان من قوم عدو لكم - يعني المقتول - يكون مؤمنا وقومه كفار، قال: فليس له دية ولكن تحرير رقبة مؤمنة" وقال السدي: "فإن كان من قوم عدو لكم في دار الكفر، فقتل فالواجب تحرير رقبة مؤمنة، وليس له دية" وقال قتادة ومجاهد مثل قولهم.2 وبعد أن بينا المعنى الصحيح للآية عند العلماء، تبين لنا أنه لا دلالة للحنفية فيها على أنه لا قصاص على القاتل المتعمد في دار الحرب، لأن الآية وردت في قتل الخطأ. ب - مناقشة أدلتهم من السنة: أن الأحاديث التي استدلوا بها لا دلالة لهم فيها.. ويرد عليها بما يلي:   1 جامع البيان 5/207، 208. 2 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/323، وجامع البيان 5/207، 208. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 فحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما يمكن أن يرد عليه من وجوه: 1- لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة لا قصاص ولا دية، لأن قتل المسلم كان أثناء المعركة مع الكفار، وقتال الكفار مأذون فيه، والفعل المأذون فيه لا ضمان فيه، فكان فعل أسامة من الفعل المأذون، فلا ضمان عليه كالخاتن والطبيب. 2- أن المقتول كان من العدو قبل أن يسلم، ولم يكن له ولي من المسلمين يأخذ ديته، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .1 3- أن أسامة قتله متأولا لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} 2، فكان معذورا لهذا التأويل، ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يوجب عليه قصاصا، ولا دية، لاعتقاده أن ذلك القتيل لما نطق بالشهادة إنما كان ذلك خوفا من السيف، ولم يكن تحريم القتل في تلك الحالة معلوما لذي أسامة. 4- أن القصاص سقط عن أسامة لأن القتل لم يكن عمدا عدوانا، بل كان من باب الخطأ، وسقطت الدية لأنه من قوم هم عدو للمسلمين كما في الآية 3.   1 النساء: 92. 2 غافر: 85. 3 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/324، وفتح الباري 12/196، والمحلى 10/369، والقصاص في النفس ص 413. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 أما حديث جرير بن عبد الله، وسمرة بن جندب، وبهر بن حكيم، فجميع هذه الأحاديث لا دلالة لهم فيها على ما ذهبوا إليه، لأن غاية ما تدل عليه هذه الأحاديث هو وجوب الهجرة على المسلم المقيم في دار الكفر إلى دار الإسلام إذا لم يأمن على دينه ونفسه وماله - مع أن حديث سمرة ضعيف -كما قال الألباني، وحديث جرير بلفظ من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة1، قال فيه الحجاج وهو مدلس2، وكذلك حديث عقبة وحديث خالد بن الوليد رضي الله عنهما لا دلالة لهم فيهما. لأن القتل الذي حصل فيهما كان من باب الخطأ، وعندئذ يسقط القصاص. وفي هذا يقول ابن حزم الظاهري: "كل هذه الأخبار حجة عليهم لأن خالد لم يقتل بني جذيمة إلا متأولا أنهم كفار ولم يعرف أن قولهم: صبأنا صبأنا إسلام صحيح، وكذلك السرية التي أسرعت بالقتل في خثعم وهم معتصمون بالسجود، وإذ هم متأولون فهم قاتلوا خطأ بلا شك فسقط القود، ثم نظرنا فيهم فوجدناهم كلهم في دار الحرب في قوم عدولنا، فسقطت الدية بنص القرآن، ولم يبقى إلا الكفارة"3   1 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308. 2 انظر: ارواء الغليل 5/30، 32. 3 انظر: المحلى لابن حزم 10/369. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 ج - مناقشة دليلهم من المأثور: أما أثر ابن عباس رضي الله عنهما فلا دلالة فيه إلا من ناحية وجوب الكفارة، فيمن قتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا، أما الدية فلا تجب، لأنه من قوم عدو لنا هذا هو الصحيح من قول ابن عباس رضي الله عنهما. أما قولهم بأنه لا قصاص ولا دية على من قتل مسلما عمدا في دار الكفر فهذا لم تدل عليه الآية.1 د - مناقشة أدلتهم من المعقول: من عدة أوجه: الوجه الأول: لا نسلم إسقاط القصاص عن القاتل في دار الكفر لعدم الولاية والقدرة على إقامة القصاص في دار الكفر، فالإمام بحسب استطاعته يقيم الحدود في دار الكفر، فإن استطاع أن يقيم القصاص على الجاني في دار الكفر، وإذا لم تكن له القدرة الكافية على إقامته في دار الكفر، فله تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام، فالقصاص لا يسقط عن القاتل عمدا بأية حال من الأحوال لا في دار الكفر ولا في دار الإسلام، إلا إذا عفى أولياء المقتول ورضّوا بالدية.   1 انظر: جامع البيان 5/207. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الوجه الثاني: لا نسلم بأن كون القتل في دار الكفر يورث شبهة ومع وجودها يسقط القصاص، لأن الشبهة التي يسقط بها القصاص هي الشبهة في الفعل الذي حصل به القتل، أو الشبهة في القصد إلى القتل، والشبهة في الفعل قد عدمت لأن القتل عمدٌ عدوان. وأما الشبهة قي القصد فلا نقول بوجوب القصاص على المسلم إذا قتل في دار الكفر، إلا إذا كان قاصدا القتل عالما بإسلام المقتول. الوجه الثالث: يرد عليه بأن الحاجة إلى الحياة مطلوبة في كل وقت، ولا نسلم بأنها لا تكون إلا في حالة الاختلاط، إذ يلزم بموجب هذا الاستدلال عدم وجوب القصاص إذا حصل القتل العمد العدوان على معصوم الدم مع تباعد ما بين بلد القاتل والمقتول، حيث لم يوجد الاختلاط. الوجه الرابع: قولهم أن في بقاء المسلم في دار الكفر فيه تكثير لسوادهم ويقوي من شأنهم، وهذا يورث الشبهة في عصمته يقال لهم بأن هذا محمول فيما إذا كان هذا هو مقصده. أما إذا لم يكن يقصد ذلك، بل كانت إقامته بسبب كتجارة أو طلب علم أو غير ذلك فلا شبهة في عصمته، فهو معصوم الدم والمال بإسلامه كغيره من المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 الوجه الخامس: قولهم بأن الاستيفاء في دار الكفر متعذر، يقال لهم بأن تعذر الاستيفاء في دار الكفر لا يمنع من سقوط القصاص، فإن الحق يتعلق بالذمة حتى إمكان الاستيفاء، فالمفلس في ذمته لا يمنع من وجوب الحق عليه، مع أن الاستيفاء حال الإفلاس متعذر فكذلك تعذر استيفاء القصاص في دار الحرب لا يمنع من استيفائه بعد التمكن والقدرة على إقامته حتى ولو بعد الرجوع إلى دار الإسلام.1 ويمكن حمل أدلة الحنفية على حالتين: 1- عدم علم القاتل بإسلام المقتول، فيقتله على أنه كافر، ثم يتبين له بأنه مسلم. 2- أن يكون القتل من باب الخطأ، وفي كلتا الحالتين لا يجب القصاص إجماعا، وهذا ما تدل عليه الآية التي استدلوا بها، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . وكذلك الأحاديث كحديث أسامة وخالد رضي الله عنهما وغيرهما. وبهذا الحمل تجتمع الأدلة ويحصل الأخذ بها جميعا.2   1 انظر: القصاص في النفس ص 415. 2 انظر: المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 حتى أن الإمام الشوكاني أنكر على الحنفية قولهم هذا، فقال: "القول بأنه لا قصاص في دار الحرب لا وجه له من كتاب، ولا سنة، ولا قياس صحيح، ولا إجماع، فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها، فما أوجبه الله على المسلمين من القصاص ثابت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها، مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل، وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الإرش"1 أما قول الحسن بن صالح، فقد رد عليه الجصاص بعد أن نقله عنه بقوله: فأما قول الحسن بن صالح في أن المسلم إذا لحق بدار الحرب فهو مرتد، فإنه خلاف الكتاب والإجماع، لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} 2 فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد إسلامهم، وأوجب علينا نصرتهم بقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 3، ولو كان ما قال صحيحا لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان، وأن يكونوا بذلك مرتدين   1 انظر: السيل الجرار للشوكاني 4/552، والارش هو: الدية. 2 الأنفال: 72. 3 الأنفال: 72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وليس هذا قول أحد.1 ثانيا: مناقشة الحنفية لأدلة الجمهور: أ- يرد على استدلالهم بالعمومات واردة في الكتاب والسنة بأنها مخصصة بما سبق من الأدلة كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، يجاب عن ذلك: بأننا لا نسلم هذا التخصيص لأن الآية لا دلالة فيها على أن المسلم القاتل في دار الكفر لا يقتص منه إذا قتل عمدا، حتى يقال بأنها مخصصة للعمومات الواردة من الكتاب والسنة الدالة على إقامة القصاص في كل مكان سواء في دار الإسلام أو في دار الكفر، بل غاية ما تدل عليه هذه الآية هو أن الحربي إذا أسلم ولم يهاجر ثم قتل في صف الكفار من باب الخطأ، فلا قصاص ولا دية على قاتله، وإنما يجب لقتله الكفارة فقط. وهذا هو المعنى الصحيح للآية، والذي عليه أكثر أهل العلم. ب - مناقشة استدلالهم بالمعقول: وهو قولهم بأن القتل محرم في دار الحرب كما هو محرم في دار الإسلام: أننا لا ننكر بأن فعل هذه الجرائم كالقتل وغيره في دار الحرب من المحرمات، ويجب على المسلم أن يجتنبها ويلتزم بأحكام الإسلام في كل مكان لكن المسألة ليست مسالة تحريم والتزام، وإنما المسألة مسالة وجوب   1 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 إقامة القصاص على القاتل، ولا يجب على الإمام أن يقيم القصاص إلا وهو قادر ومستطيع، ولا قدرة لإمام المسلمين على إقامة القصاص على من ارتكب جريمة القتل في دار الحرب، وإذا انعدمت القدرة لم تجب العقوبة.1 ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن القصاص لا يسقط عن القاتل المتعمد بحجة أنه قتل في دار الكفر، ولإمام المسلمين أن يقيم القصاص بقدر المستطاع، فإن لم يقدر على إقامته في دار الكفر -لأنه لا ولاية له -أمكنه تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام فيمسك المجرم من قبل السلطات المعنية بهذا الشأن، ثم يبعث به إلى داره، وهناك يقام عليه القصاص، وبخاصة في هذا الزمان، فهناك معاهدات واتفاقات دولية بين الدول الإسلامية وغالبية الدول الكافرة على تسليم المجرمين وغيرهم. ج - أما القياس: فيرد عليه بأنه قياس مع الفارق، فالمسلم في دار الإسلام معصوم بإسلامه وبداره، فلا شبهة في عصمته، أما المسلم المقتول في دار الكفر، فقد وجدت شبهة الإباحة في عصمته، وهو انتفاء الدار، حيث أن الإسلام لا يكفي في العصمة، وأيضا بقاؤه بين الكفار فيه شبهة في عصمته، لأنه ربما يريد تكثير سوادهم، وفي ذلك ضرر على المسلمين.2   1 انظر: فتح القدير 5/155، والتشريع الجنائي 1/281. 2 بدائع الصنائع 7/131، 132. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ويجاب عن ذلك: بأن العصمة تحصل للمسلم بمجرد إسلامه، ولا أثر للدار في العصمة، فمتى حصل الإسلام حصلت العصمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله … " الحديث1. وكذلك قياسهم الثاني مع الفارق، لأن هناك فرقا بين المسلم المقتول في دار الإسلام، والمسلم المقتول في دار الكفر، لأن الولاية موجودة والقدرة على إقامة القصاص متحققة، في دار الإسلام بخلاف دار الكفر. الرأي المختار: بعد أن بينا آراء الفقهاء في القصاص من المسلم إذا قتل مسلما عمدا في دار الكفر وأدلتهم ومناقشتها يتبين لي أن الرأي المختار هو رأي الجمهور، وهو أن القصاص لا يسقط عن القاتل المتعمد في دار الكفر. وقد اخترته للأسباب التالية: 1- لقوة أدلتهم وسلامتها من الردود والمناقشات الصحيحة، فقد استدلوا بعموم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب إقامة القصاص على الجاني، ولم تفرق بين كون الجريمة ارتكبت في دار الكفر أو في دار الإسلام، ولم يرد نص صحيح صريح يقوى على تخصيص هذا العموم. 2- ولأن الأدلة التي استدل بها الحنفية غير مسلمة لهم، وقد سبق الرد عليها.   1 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 3- ولأن في الأخذ بهذا الرأي تتحقق الحكمة التي من أجلها شرع القصاص. 4- ولأن في الأخذ بالرأي المخالف فتحا لباب الفساد وانتشار الجرائم من ضعاف الإيمان والمتسترين بالإسلام، الذين يستغلون الفرص. فربما كان هناك عداء بين مسلمين فيحتال أحدهما على الآخر حتى يسافر معه إلى دار الأعداء، ثم يقتله هروبا من القصاص بحجة أنه لا قصاص على القاتل في دار الكفر، كما قال الحنفية. وسدا لهذا الباب وجبت إقامة القصاص في أي مكان متى قدر الإمام على ذلك، ولا يسقط عن الجاني المتعمد بأية حال من الأحوال، إلا في حالة عفو أولياء المقتول. 5- ولأن في إقامة جرائم القصاص وغيرها في دار الكفر -إذا قدر الإمام على ذلك- تحقيقا لأعظم الأهداف، وهو مشاهدة الأعداء لعدالة الإسلام وسماحته، وأن جزاء القاتل هو القتل، وربما يحملهم ذلك على اعتناق أحكامه في عدالته وسماحته، وكونه أصلح الأديان على وجه الأرض. وإذا قيل بأن في إقامة جرائم القصاص وغيرها على المسلم في دار الحرب تنفيراً عن الإسلام، وكذلك أن الإمام لا يتمكن من إقامة القصاص في دار الكفر لعدم القدرة، لأنه لا ولاية له على دار الكفر. أقول: أنه تلافيا لهذه الإحتمالات الواردة، فإنه يمكن تأخير القصاص على القاتل حتى رجوعه إلى دار الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 فقد قال ابن قدامة: "من أتى حدا من الغزاة أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل"1 أي حتى يرجع. وقال البهوتي: "من أتى ما يوجب قصاصا في الغزو، لم يستوف منه في أرض العدو حتى يرجع إلى دار الإسلام"2 وبهذا الاختيار يتبين لنا أنه لا أثر لاختلاف الدار في إقامة جرائم القصاص على المسلم في دار الكفر، فالقصاص يقام على الجاني في دار الكفر كما يقام عليه ذلك في دار الإسلام. وهذا لن يؤثر إلا من ناحية التأخير حتى الرجوع إلى دار الإسلام عند عدم الاستطاعة والقدرة على إقامته في دار الكفر. وهذا كله فيما إذا وقعت الجريمة في دار الكفر الحربية، أما إذا وقعت في دار الكفر غير الحربية، والتي بينها وبين المسلمين معاهدات واتفاقات دولية، فقد تكون إقامة القصاص وغيره على الجاني متيسرة للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، فلا يحتاج إلى تأخير حتى الرجوع إلى دار الإسلام.   1 انظر: المغني لابن قدامة 8/473. 2 انظر: كشاف القناع 6/88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 المبحث الثاني: اختلاف الدار وأثره في جرائم الحدود في دار الحرب لا خلاف بين العلماء في أن الجرائم التي توجب الحد كالزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر، محرم فعلها على المسلم في أي مكان في دار الإسلام أو في دار الحرب. لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} 1. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4.   1 الإسراء: 32. 2 النور: 23. 3 المائدة: 38. 4 المائدة: 90. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 فهذه الآيات الكريمات تدل بعمومها على تحريم فعل هذه الجرائم في أي بقعة من الأرض سواء كانت في دار الإسلام أو في دار الحرب. وفي هذا يقول ابن العربي: "توهم قوم أن ابن الماجشون لما قال أن من زنا في دار الحرب بحربية لم يحد أن ذلك حلال، وهو جهل بأصول الشريعة ومأخذ الأدلة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ..} "1. فلا يباح الوطء إلا بهذين الوجهين -فالخلاف في إقامة الحد- فأما التحريم فهو متفق عليه، فلا تستنزلنكم الغفلة في تلك المسألة.2 وكذلك اتفقوا على وجوب إقامة الحد على من ارتكب هذه الجرائم من المسلمين في دار الإسلام، متى توفرت فيه الشروط.3 واختلفوا في وجوب إقامة الحدود في دار الحرب إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: المسلم أو الذمي إذا ارتكب أحدهما جريمة الزنا، أو القذف، أو السرقة، أو شرب الخمر في دار الحرب، لا يقام عليه الحد، حتى إذا رجع   1 المؤمنون: 5، 6. 2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/516. 3 انظر: بدائع الصنائع 7/33، 40، 65، 131، والمدونة 6/291، ومغنى المحتاج4/150، والمبدع 9/59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 إلى دار الإسلام، لا حد عليه، وإنما سقط الحد بمجرد وقوع الجريمة في دار الحرب، ولا يقام الحد في دار الحرب إلا في حالة واحدة إذا كان الخليفة مع المسلمين في دار الحرب، فيقيم الحدود على مرتكبيها، ولا يؤخرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام. وهذا هو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف1، وبه قال ابن الماجشون من المالكية.2 قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره إلا أن يكون أمام مصر والشام والعراق، أو ما أشبهه، فيقيم الحدود في عسكره. أما أمير السرية: فلا يقيم الحدود لأنه لم يفوض إليه إقامة الحدود، وإنما فوض إليه تدبير الحرب"3 القول الثاني: أن من ارتكب جريمة من جرائم الحدود في دار الحرب كالزنا، أو السرقة، أو القذف أو غيرها، أقيم عليه الحد، ولا يسقط عنه بحجة   1 انظر: بدائع الصنائع 7/131، وشرح السير الكبير 5/1851، والبحر الرائق 5/18، وتبيين الحقائق 3/182، والجوهرة النيرة 2/245، 346، والهداية 2/102، واللاخيار 4/91، وحاشية الشرنبلالي 2/66، والدرر الحكام في غرز الأحكام2/66، وفتح القدير 5/47. 2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 516. 3 الرد على سير الأوزاعي ص80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ارتكابه في دار الحرب، فكما يقام عليه الحد في دار الإسلام، يقام عليه في دار الحرب. قال به الليث بن سعد ويحي الأنصاري وأبو ثور وابن المنذر. وهو قول فقهاء المالكية، والشافعية وأبي يوسف من الحنفية.1 فقد سئل الإمام مالك – رحمه الله - عن أمير الجيش إذا دخل دار الحرب، فسرق الجند بعضهم من بعض، أو شربوا الخمور، أو زنوا، أيقيم عليهم أميرهم الحدود؟ فقال: "يقيم عليهم في أرض الحرب أمير الجيش، وهو أقوى له على الحق، كما تقام الحدود في أرض الإسلام.2 وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "يقيم أمير الجيش الحدود حيث كان من الأرض إذا ولى ذلك، فإن لم يولّ، فعلى الشهود الذين يشهدون على الحد أن يأتوا بالمشهود عليه إلى الإمام، ولّى ذلك ببلاد الحرب، أو ببلاد الإسلام، ولا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام، فيما أوجب الله   1 المدونة 6/291، والخرشي 713، والشرح الكبير 2/166، والجامع لأحكام القرآن لابن العربي 1/516، وجواهر الاكليل 2/293، والمنتقى 7/145، والأم 7/354، والمهذب 2/241، والمجموع 18/120، والاشراف 2/43، والأوسط ص290، وروضة الطالبين 10/141، وسنن البيهقي 9/103، ومغنى المحتاج 4/150، والمقنع بحاشيته 3/451، والرد على سير الأوزاعي ص 80، والجوهرة النيرة 2/245. 2 انظر: المدونة للإمام مالك 6/291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 على خلقه من الحدود"1، وقال أيضا: "قد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد بالمدينة والشرك قريب، وفيها شرك كثير موادعون، وضرب الشارب بحنين والشرك قريب منه"2 وهذا القول قال به الإمام الأوزاعي في غير حد السرقة. فقال رحمه الله: "من تأخر على جيش وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار، أقام الحدود في عسكره، غير القطع حتى يقفل من الدرب، فإذا قفل قطع"3 أي: حتى يرجع إلى دار الإسلام، فإذا رجع أقام حد السرقة. القول الثالث: لا تقام الحدود على المسلمين والذميين في دار الحرب، وإنما تؤخر إقامتها حتى الرجوع إلى دار الإسلام. وهو قول إسحاق بن راهويه وفقهاء الحنابلة والأوزاعي في حد القطع.4   1 انظر: الأم 7/354. 2 انظر: السنن الكبرى للبيهقي 9/103. 3 انظر: الرد على سير الأوزاعي ص 80، والأم 7/354. 4 انظر: المغني والشرح الكبير 10/536، والمبدع 9/59، والأنصاف 10/169، والمقنع بحاشيته 3/451، والإفصاح 2/430، وكشاف القناع6/88، وأعلام الموقعين 3/7، وجامع الترمذي 4/53، 53، والرد على سير الأوزاعي ص 80، والإشراف ورقة 84م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الأدلة: أولا: أدلة الحنفية الذين قالوا بأن الحدود لا تقام في دار الحرب: استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول: أ - دليلهم من السنة: 1- حديث: "لا تقام الحدود في دار الحرب".1 قالوا في وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحدود في دار الحرب ولم يرد به صلى الله عليه وسلم حقيقة عدم الإقامة حسا، لأن كل واحد يعرف أنه لا يمكن إقامة الحد في دار الحرب لانقطاع ولاية الإمام عنها، فكان المراد بعدم الإقامة عدم وجوب الحد.2 2- حديث بسر بن أرطأة3عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع الأيدي في السفر".4   1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية 3/343، وقال غريب، وذكره الأحناف في كتبهم. انظر: الهداية 2/103، والاختيار 4/91، وتبيين الحقائق 3/ 182. 2 انظر: العناية على الهداية 5/46. 3 هو بسر بن أرطأة (أو ابن أبي أرطأة) ، واسمه عمير بن عويمر بن عمران العامري القرشي، يكنى أبا عبد الرحمن، اختلف في صحبته، ولد فبل الهجرة بمكة، وتوفي سنة 86 بدمشق وقيل بالمدينة. انظر: الإصابة 1/152، وتقريب التهذيب 1/96، والأعلام 2/51. 4 أخرجه أبو داود 4/564، كتاب الحدود، باب في الرجل يسرق في الغزو، حديث 4408، والدارمي 2/231، والبيهقي 9/104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وفي رواية أخرى: "لا تقطع الأيدي في الغزو"1. وفي لفظ ثالث: عن جنادة بن أبي أمية2، قال: كنا عند بسر بن أرطأة في البحر، فأتى بسارق يقال له مصدر، قد سرق بختيه3، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن القطع لقطعتك فجلده ثم خلى سبيله.4 وجه الدلالة من الحديث: الحديث ظاهر الدلالة في النهي عن إقامة حد السرقة في دار الحرب، ويقاس عليها سائر الحدود، فلا تقام في دار الحرب.5 3- حديث عطية بن قيس الكلابي6، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا هرب الرجل وقد زنا أو سرق، إلى العدو ثم أخذ أمانا على نفسه فإنه   1 أخرجه أحمد 4/181، والترمذي 4/53، كتاب الحدود حديث 1450، وقال: حديث غريب. 2 هو جنادة بن أبي أمية بن ملك الأزدري، أبو عبد الله، صحابي من كبار الغزاة في العصر الأموي، وتوفي سنة 80 بالشام. الإصابة 1/256، 257، والاستيعاب 1/242، وتقريب التهذيب 1/134. 3 البختية: الأنثى من الإبل. انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 4/564. 4 أخرجه أحمد 4/181، واللفظ له، وأبو داود 4/ 564، كتاب الحدود حديث 4408، والترمذي 4/53، كتاب الحدود حديث 1450، والبيهقي في سننه 9/104. 5 فتح القدير 5/47، ونصب الراية 3/343. 6 هو: عطية بن قيس الكلابي الشامي، أبو يحي، ثقة، مقريء، من الثالثة، مات سنة 121، وقد جاوز المائة، تقريب التهذيب 2/25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 يقام عليه ما فر منه، وإذا قتل في أرض العدو أو زنا أو سرق، ثم أخذ أمانا لم يقم عليه شيء مما أحدث في أرض العدو" 1. فالحديث يدل أيضا على عدم إقامة الحدود في دار الحرب، كما ذكر ذلك السرخسي.2 ج- دليلهم من المأثور: 1- ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله ألا يجلدن أمير الجيش ولا سرية أحدا حتى يخرج إلى الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار.3 وفي البيهقي: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عمير بن سعد الأنصاري4 وإلى عماله، أن لا يقيموا حدا على أحد من المسلمين في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة.5 2- ما روي مكحول عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: لا تقام   1 ذكره محمد بن الحسن في السير الكبير 5/1851، ولم أجده في غيره من كتب الصحاح، والسنن المشهورة. 2 انظر: شرح السير الكبير للسرخسي 5/1851. 3 أخرجه ابن أبي شيبة 9/171، وسعيد بن منصور 2/196، والبيهقي في سنة 9/105، والزيلعي في نصب الراية 3/343. 4 هو: عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري الأوسي، صحابي، شهد فتح الشام، واستعمله عمر على حمص، وكان يسمية نسيج وحده، توفي نحو سنة 45هـ. الإصابة 5/33، وتقريب التهذيب 2/86، وحيلة الأولياء 1/247. 5 أخرجه البيهقي في السنن 9/105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو.1 3- وبما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان ينهى أن تقام الحدود على المسلمين في أرض العدو.2 4- وعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعلينا الوليد بن عقبة3، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم.4 وفي لفظ آخر، عن علقمة قال: أصاب أمير الجيش وهو الوليد بن عقبة شرابا فسكر، فقال الناس لأبي مسعود وحذيفة بن اليمان: أقيما عليه الحد، فقالا: لا نفعل نحن بإزاء العدو، ونكره أن يعلموا فيكون جرأة منهم علينا، وضعفا بنا.5   1 أخرجه البيهقي في السنن 9/105، والزيلعي في نصب الراية 3/343، وذكره محمد بن الحسن في السير الكبير 5/185، وأبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص81، وابن القيم في إعلام الموقعين 3/18. 2 هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك الكوفي النخعي الهمداني، تابعي فقيه العراق في زمانه، شهد صفين وغزا خرسان، وسكن الكوفة، توفي بها سنة 62هـ. انظر: تهذيب التهذيب 7/467، وحيلة الأولياء 2/98، وتاريخ بغداد 12/296. 3 هو: الوليد بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي، أو بدهب، من فتيان قريش وشعرائهم وأجوادهم، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، توفي بالرققة سنة 61هـ. الإصابة 4/277، والأعلام 8/122. 4 أخرجه ابن أبي شيبة 10/103، 104، وسعيد بن منصور 2/197، وابن التركماني في الجوهر النقي 9/105. 5 أخرجه عبد الرزاق 5/192. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 5- وبقصة أبي محجن1رضي الله عنه وستأتي بالتفصيل. فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن اسقاط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن قد يتمسك به من يقول لا حد على مسلم في دار الحرب وهم الحنفية، لأن سعداً أسقط الحد عن أبي محجن عندما رأى منه التوبة النصوح.2 ج - دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: لا تقام الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، أو يرتد عن الإسلام، فينضم إلى الأعداء، فيتقوى شأنهم على المسلمين.3 الوجه الثاني: أنه لا ولاية ولا قدرة لإمام المسلمين على دار الحرب، فكيف يقم الحدود، لأن الوجوب مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام على مسلم   1 هو: أبو محجن الثقفي، صحابي، أسلم سنة 9هـ، أحد الأبطال والشعراء، والكرماء، واسمه: عمرو بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، روى عدو أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي بأذربيجان، وقيل بجرجان سنة30هـ. الإصابة 7/171، والأعلام 5/76. 2 انظر: إعلام الموقعين 2/7. 3 الجوهرة النيرة 2/245، وأعلام الموقعين 3/7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 تلبس بالحد في دار الحرب، فلا حد إذا، أما لو كان الإمام معه في المعسكر، فيقيم الحد عليه، لأنه تحت يده، فالقدرة ثابتة عليه.1 وفي هذا يقول الكاساني: "لأن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب لعدم الولاية، ولو فعل شيئا من ذلك ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحد أيضا، لأن الفعل لم يقع موجبا أصلا" (2) الوجه الثالث: أن المقصود من إقامة الحدود هو الانزجار والارتداع، وولاية الإمام منقطعة في دار الحرب، فيعرى الوجوب عن الفائدة، فإذا أقيم الحد في دار الحرب، لم يحصل مقصوده.3 وفي هذا يقول الزيلعي: ولأنه - أي الحد-لم يجب لذاته، وإنما وجب لمقصوده، وهو الانزجار والاستيفاء فإن لم يمكن الاستيفاء، فلا يجب لخلوه من الفائدة، فامتنع الوجوب لعدم الفائدة، وهو الاستيفاء، فإذا لم ينعقد موجبا من الابتداء، فلا ينقلب موجبا بالخروج.4   1 انظر: فتح القدير 5/47، والعناية على الهداية 5/46، والجوهرة النيرة 2/245، ومجمع الأنهر 1/596. 2 انظر: بدائع الصنائع 7/131. 3 انظر: البحر الرائق 5/18، وفتح القدير 5/47، والسير الكبير 5/1851. 4 انظر: تبيين الحقائق 3/182. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 ثانيا: أدلة المالكية والشافعية الذين قالوا بوجوب إقامة الحدود في دار الحرب: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول، والقياس: أ- دليلهم من الكتاب: عموم الآيات الدالة على وجوب إقامة الحدود على مرتكبيها من غير فرق بين مكان وزمان، والتي منها: 1- قوله تعالى {.. الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1. 2- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2 3- وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3 فقد دلت هذه الآيات الكريمات بعمومها على إقامة الحدود على   1 النور: 2. 2 النور: 4. 3 المائدة: 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 مرتكبيها في كل مكان وزمان، من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب.1 وفي هذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام، فيما أوجب الله على خلقه من الحدود، لأن الله عز وجل يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزاني الثيب الرجم، وحد الله القاذف ثمانين جلدة، لم يستثن من كان في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر، ولم يضع عن أهله شيئا من فرائضه، ولم يبح لهم شيئا مما حرم عليهم ببلاد الكفر، وهو مما يعقله المسلمون ويجتمعون عليه، أن الحلال في دار الإسلام حلال في دار الكفر، والحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئا"2 ب - أما دليلهم من السنة: فقد استدلوا بعموم الأوامر التي يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحدود في كل وقت، وفي أي أرض من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب.3   1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 6/171، والإشراف لابن المنذر 1/43، والأم 7/354 - 355. 2 انظر: الأم 7/354 - 355. 3 المرجع السابق نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 ومن هذه الأحاديث: 1- ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا".1 2- ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم".2 3- وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام".3 4- وبما روى أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين".4 وفي لفظ آخر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين".5   1 أخرجه البخاري 4/173، كتاب الحدود، ولفظه: تقطع اليد في ربع دينار، ومسلم 3/2312، كتاب الحدود، باب السرقة واللفظ له، حديث 1684. 2 أخرجه مسلم 3/1316، كتاب الحدود، باب حد الزنى، حديث 1690. 3 أخرجه البخاري 4/4/181، كتاب الحدود، باب البكران يجلدان وينفيان. 4 أخرجه البخاري 4/171، كتاب الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال. ومسلم 3/1330، كتاب الحدود، باب حد الخمر، واللفظ له حديث 1706. 5 مسلم 3/1331، كتاب الحدود، باب حد الخمر حديث 1706. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الحدود وأقامها بنفسه، وأمره عام غير خاص بمكان دون آخر، أو بزمان دون زمان، فكما تقام الحدود في دار الإسلام، تقام في دار الحرب، وهناك أحاديث صرحت بإقامة الحدود في دار الحرب منها: 5- ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر".1 الحديث ظاهر الدلالة في وجوب إقامة الحدود في الحضر والسفر، والسفر عام يشمل دار الإسلام ودار الحرب. وفي هذا يقول البنا في الفتح الرباني: "الحديث يدل على عدم جواز تأخير إقامة الحد، سواء كان في الحضر أو السفر" قال الحافظ: "وقد احتج به الجمهور على إقامة الحد في السفر والحضر لأنه أصح من حديث بسر، ويشهد لصحته عموم الكتاب والسنة وإطلاقاتهما لعدم الفرق فيها بين القريب والبعيد والمقيم والمسافر، والحديثان إذا تعارضا وجب العمل بأصحهما"2   1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/316 - 426، والإمام أبو داود في مراسيله ص127، والإمام البيهقي في السنن 9/104. 2 نقلا عن بلوغ الأماني بشرح الفتح الرباني 16/115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 6- وبما روي عن عبد الرحمن بن أزهر الزهري1 رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يتخلل الناس، يسأل عن منزل خالد بن الوليد، وأتى بسكران فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم، وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من التراب" 2. فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أمر بإقامة حد الخمر على شاربه في أرض الحرب، وهذا يدل على وجوب إقامة الحدود فيها. ج- أدلتهم من المأثور: 1- بما رواه يحي3بن عروة بن الزبير عن أبيه، أن بعض الصحابة كضرار بن مالك4 رضي الله عنه شربوا الخمر بالشام، فأتى بهم إلى أبي عبيدة بن   1 هو: أبو جبير عبد الرحمن بن أزهر الزهري، صحابي، صغير، مات قبل موقعة الحرة، وله ذكر في الصحيحين مع عائشة رضي الله عنها. انظر: تقريب التهذيب 1/472. 2 السنن الكبرى للبيهقي 9/103. 3 هو: يحي بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عروة، ثقة من السادسة، وله أحاديث في الصحيحين، ضربه إبراهيم بن هشام المخزومي والي المدينة حتى مات سنة 114 تقريبا. انظر: تقريب التهذيب 2/354، والأعلام 8/156. 4 هو: ضرار بن مالك بن أوس بن خزيمة الأسدي أبو الأزور، ويقال أبو بلال، أحد الأبطال في الجاهلية والإسلام، وهو الذي قتل مالك ابن نويرة، وقاتل يوم اليمامة حتى قتل بعد أيام في اليمامة سنة 11هـ. انظر: الإصابة 3/269، والأعلام 3/216. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 الجراح رضي الله عنه فكتب في أمرهم إلى عمر رضي الله عنهفأمره بإقامة الحد عليهم، فدعاهم أبو عبيدة رضي الله عنه فأقام عليهم الحد.1 2- وبما روي عن الليث بن سعد، أنه كان يرى إقامة الحدود في أرض الروم لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 2 وقال أيضا: "ما رأينا ولا سمعنا قديما ولا حديثا ترك الحدود، بل تقام في أرض العدو"3 د- أما دليلهم من المعقول فهو: أن فعل هذه الجرائم كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وغيرها محرم في دار الحرب، كما هو محرم في دار الإسلام، وإذا كانت الداران لا تختلفان في تحريم الفعل، فالواجب أن لا تختلفا في العقوبة التي شرعت لهذه الجرائم.4 هـ - أما دليلهم من القياس: فهو قياس دار الحرب على دار الإسلام، فكما تقام الحدود في دار الإسلام فكذلك تقام في دار الحرب بجامع تحريم الفعل في كل.5   1 أخرجه البيهقي 9/105. 2 المائدة: 41. 3 أخرجه البيهقي 9/106، وذكره ابن المنذر في الأوسط 1/293. 4 الأم 7/355، والمهذب 2/341. 5 الأم 7/355. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 ثالثا: أدلة الحنابلة ومن معهم الذين قالوا بتأخير إقامة الحدود في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام: استدلوا بالسنة، والمأثور، والإجماع، والمعقول، والقياس: أ- دليلهم من السنة: حديث بسر بن أرطأة، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع الأيدي في الغزو". وفي لفظ آخر: "لا تقطع الأيدي في السفر، وقد تقدم بألفاظه الثلاثة "1. قالوا في وجه الدلالة: أن الحديث ظاهر الدلالة في النهي عن إقامة حد القطع في الغزو ويقاس عليه غيره من الحدود، كما فهم ذلك ابن القيم رحمه الله فقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو كما تقدم". أما وجه الدلالة على التأخير إلى دار الإسلام، فيفهم من منعه صلى الله عليه وسلم، من ذلك في دار الحرب، لأن الحد لا يسقط عن مرتكبه أينما كان وأنى ذهب، وهذا الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم كعمر وأبي الدرداء، وهم أقرب الأمة لفه كلام نبيها صلى الله عليه وسلم ومعرفة مراده، وبهذا أخذ ابن القيم   1 سبق تخريجه ص 332. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 رحمه الله وحمل ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم من تأخير الحد تفسيراً للنص وكشفا عن مراده صلى الله عليه وسلم.1 وقد قال ابن القيم -بعد أن ذكر الحديث-: "فهذا حد من حدود الله، وقد نهى عن إقامته في الغزو، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا2. ب - دليلهم من المأثور: 1- بما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله أن لا يجلدن أمير جيش أو سرية ولا رجل من المسلمين حدا، وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار3. وجه الدلالة من هذا الأثر على تأخير الحد حتى الرجوع إلى دار الإسلام ظاهرة، لنهيه رضي الله عنه، عن إقامة الحد على الغزاة إلا إذا قطع الدرب راجعا إلى دار الإسلام، مبينا رضي الله عنه علة التأخير بقوله: لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار.4   1 أعلام الموقعين 3/7، 8، والمبدع 9/59، وكشاف القناع 6/88، والحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 43، 44. 2 انظر: أعلام الموقعين 3/7، 8. 3 سبق تخريجه ص 334. 4 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 2- وبما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان ينهى أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله، حتى يقفل، مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا فإن عقوبة الله من ورائهم.1 وجه الدلالة: أن أبا الدرداء نهى عن إقامة الحدود في الغزو، وإنما تؤخر حتى الرجوع إلى دار الإسلام، مبينا رضي الله عنه علة التأخير. 3- وبما روى علقمة أنه قال: "كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر فاردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أيركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم" وفي لفظ آخر: قال: "أصاب أمير الجيش وهو الوليد بن عقبة شرابا فسكر، فقال الناس لأبي مسعود وحذيفة بن اليمان: أقيما عليه الحد، فقالا: لا نفعل نحن بإزاء العدو ونكره أن يعلموا فيكون جرأة منهم علينا وضعفا بنا"2 وجه الدلالة من الأثر: أن حذيفة رضي الله عنه لم يسقط الحد عن الوليد، ولكنه استنكر عليهم تعجيله وهم بأرض العدو، مخافة أن يطمع فيهم الأعداء، فامتنع عن إقامة   1 سبق تخريجه ص 356. 2 سبق تخريجه ص 335. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الحد عليه لهذه العلة، وعند الرجوع إلى دار الإسلام تزول هذه العلة، فعندئذ يقام الحد. ج - أما دليلهم من الإجماع: فهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تأخير إقامة الحدود في دار الحرب، حتى الرجوع إلى دار الإسلام، كما ذكر ذلك ابن قدامة وابن القيم وابن مفلح1 وغيرهم من فقهاء الحنابلة. د - أما دليلهم من المعقول: فقالوا: لا يقام الحد في دار الحرب خشية أن يلحق المحدود بدار الكفر، ويحمله الغضب على الدخول في الكفر.2 وفي هذا يقول ابن القيم: لا يقام الحد في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق لصاحبه بالمشركين حمية وغضبا.3 هـ - أما دليلهم من القياس: فهو قياس تأخير الحد في دار الحرب على تأخيره في دار الإسلام عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض.   1 انظر: المغني لابن قدامة 8/474، 475، وأعلام الموقعين 3/7، والمبدع 9/59. 2 انظر: المبدع 9/59، والمغنى 8/474، 475. 3 انظر: أعلام الموقعين 3/5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض، فهذا تأخير لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى.1 وقال ابن مفلح: "ولأن تأخيره لعارض من مرض أو شغل جائز، فإذا زال، أقيم عليه لوجود المقتضى السالم عن المعرض"2 وقال ابن قدامة: "وإنما يؤخر لعارض كما يؤخر لمرض أو شغل، فإذا زال العارض أقيم الحد لوجود مقتضيه وانتفاء معارضه"3 وهذا قياس مسلم يفيد مطابقة صريح المعقول لصحيح المنقول قد استوفى شروط القياس وأركانه.4 أما دليلهم على وجوب إقامة الحدود المرتكبة في دار الحرب عند تأخيرها إلى دار الإسلام فهو: عموم الآيات والأحاديث التي دلت على وجوب إقامة الحدود، وأنها لا تسقط عن مرتكبها في دار الإسلام، أو في دار الحر ب، إلا أنها تؤخر إذا ارتكبت في دار الحرب لمصلحة المحدود،   1 انظر: أعلام الموقعين 3/7. 2 انظر: المبدع 9/59. 3 انظر: المغنى 8/474، 475. 4 انظر: الحدود والتعزيرات ص 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وهو الخوف عليه من اللحاق بالكفار.1 ومع أن ابن القيم اختار تأخير الحدود عن المسلمين في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام. إلا أنه استثنى من هذا، أن من كانت له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته التي وقع فيها، وقد ظهرت منه مخايل التوبة النصوح، فإنه يسقط عنه الحد بالكلية.2 وقد استدل على هذا الإستثناء بقصة أبي محجن رضي الله عنه مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: أتى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بأبي محجن رضي الله عنه يوم القادسية، وقد شرب الخمر، فأمر بع إلى القيد، فلما التقى الناس، قال أبو محجن: كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا3 ... وأترك مشدودا عليّ وثاقيا فقال لامرأة سعد4: أطلقيني ولك والله عليّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحم مني، قال: فخلته حتى   1 انظر: المغنى 8/474، والمبدع 9/59، والمقنع بحاشيته 3/ 451، وكشاف القناع 6/88. 2 انظر: أعلام الموقعين 3/7. 3 اسم من أسماء العصا. انظر: معجم لغة الفقهاء ص 370. 4 اسم امرأة سعد المذكورة سلمى، وكانت أولا زوجة للمثنى بن حارثة، وهي ابنة خصفة، الفارس المشهور، ثم تزوجها سعد بعد موت المثنى، وهي ابنة خصفة، وقيل حصفة، وقيل حفصة، انظر: الإصابة 7/171. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 التقى الناس، وكانت بسعد جراحة، فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق البيت1 ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة2، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحا ثم خرج، فجعل لا يجعل على ناحية من العدو، إلاّ هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك، لما يرونه يصنع. وجعل سعد يقول: الضبر ضبرا3 البلقاء والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد، فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرته امرأته -أي امرأة سعد- بما كان من أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام عليّ الحد، وأطهر منها، أما إذ بهرجتني4 فو الله لا أشربها أبدا.5   1 وفي رواية: فوق الغديب. انظر: المراجع السابقة. 2 هو: خالد بن عرفطة بن أبرهة بن السنان الليثي، ويقال القضاعي والعذري، صحابي استنابه سعد على الكوفة، توفي سنة 64هـ. انظر: الإصابة 2/94، 95، وتقريب التهذيب 1/216. 3 قال ابن حجر في الإصابة 7/171، والاستيعاب: الضبر ضبر البلقاء، هو بالضاد المعجمة والياء الموحدة: عدو الفرس، ومن قال بالصاد المهملة، فقد صحف. 4 بهرجتني: أي أهدرتني بإسقاط الحد عني. انظر: النهاية 1/166، وإعلام الموقعين 3/7. 5 أخرج هذه القصة: سعيد بن منصور في سننه 2/197، 198، وابن أبي شيبة في مصنفه 9/170، وعبد الرزاق في مصنفه 9/243، وذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين 3/6،7. وهذه القصة صحيحة الإسناد كما قرره الحافظ ابن حجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وقال ابن القيم في إيضاح وجه الدلالة من هذه القصة، عن سقوط الحد ممن كانت حاله كحال أبي محجن من الإبلاء في الإسلام، والنكاية بالعدو، وظهور مخايل التوبة النصوح منه: والظاهر أن سعدا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى، فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد، لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة، وجعلتها كقطرة نجاسة وقعت في بحر، ولا سيما وقد رأى منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال، إذ لا يظن مسلم اصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله وهو يرى الموت، وأيضا فإنه بتسليمه نفسه ووضع رجله في القيد اختياراً، قد استحق أن يوهب له وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له يا رسول الله أصبت حدا فأقمه عليّ، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال نعم، قال: إذهب فإن الله قد غفر لك حدك.1 وظهرت بركة هذا العفو والإسقاط في صدق توبته، فقال: والله لا أشربها أبدا، وفي رواية أبد الأبد، وقد بريء النبي صلى الله عليه وسلم مما صنع خالد ببني خذيمة، وقال: اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد، ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام. وقال أيضا: وقوله إذ بهرجتني، أي أهدرتني بإسقاط الحد عني، ومنه يبهرج دم ابن الحارث، أي أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصا ولا قياسا   1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/265، بلفظ: اذهب فإن الله قد عفا عنك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 ولا إجماعا ولا قاعدة من قواعد الشرع، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصوب.1 المناقشة: أولا: مناقشة أدلة الحنفية أمناقشة أدلتهم من السنة: بالنسبة لاستدلالهم بحديث: لا تقام الحدود في دار الحرب. يرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوجد في كتب الصحاح والسنن المشهورة، حتى أن الحنفية أنفسهم، قالوا: إنه غير صحيح، فهذا الزيلعي يقول في نصب الراية: حديث غريب.2 وقال ابن الهمام: الحديث لم يعلم له وجود.3 وبهذا يتضح عدم ثبوت هذا الحديث. الوجه الثاني: على فرض وجوده، فالاستدلال به محتمل، وهو على خلاف مدعاهم، فإن مذهبهم سقوط الحد بشرط أن لا يكون الإمام مع العسكر،   1 انظر: إعلام الموقعين 3/7، 8. 2 انظر: نصب الراية 3/343. 3 انظر: فتح القدير 5/47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 والحديث لا إشارة فيه إطلاقا إلى وجوب إقامة الحد مع وجود الإمام في المعسكر في دار الحرب، بل ينافيه، وكذلك الحديث لا تثبت به دعوى سقوط الحد من أصلها، لأن عدم إقامة الحد في دار الحرب لا تستلزم سقوطه، بل تحتمل تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام. ومع هذا الاحتمال يسقط به الاستدلال، بل أن معناه في تأخير الحد أظهر، ويقوي هذا المعنى الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في تأخير الحد، إذا كان مرتبكا في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام. وبهذا يبطل استدلال الحنفية بهذا الحديث رواية ودراية.1 2- وكذلك حديث بسر بن أرطأة، أخرجه الترمذي، وقال غريب2، وسكت عنه أبو داود3، وبسر راوي الحديث اختلف في صحبته.4   1 الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 62، 63. 2 انظر: سنن الترمذي 4/53. 3 انظر: سنن أبي داود 4/563. 4 الإصابة 1/152، فقال يحي بن معين: "بسر رجل سوء"، قال المنذري: "وهذا يدل على أنه عنده لا صحبة له" وقال البيهقي: "وذلك لما اشتهر من سوء فعله في قتال أهل الحرة. نيل الأوطار 7/137، والسنن الكبرى 9/104، 105. وقد تكلم في عدالة بسر بكلام خشن، ذكره الذهبي في الميزان 1/309، وابن حجر في الإصابة 1/152، والشوكاني في نيل الأوطار 7/137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ولكن مع هذا الخلاف في صحة الحديث، وصحبة راويه.. أقول: إن المنع من إقامة القطع في دار الحرب لا يستلزم سقوطه، بل يستلزم تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام، وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم كعمر وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان، وهم أقرب الأمة إلى فهم كلام الرسول صلى الله عليه وسلمو مراده من المنع عن إقامة الحد في أرض الأعداء. 3- أما حديث عطية بن قيس، فهو أيضا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تذكره كتب الصحاح والسنن المشهورة، ولم يذكره إلا محمد بن الحسن في السير الكبير، ولو كان صحيحا وثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكرته الكتب المعينة بالأحاديث. ولكني أقول: على فرض صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو محمول على تأخير الحد إلى أن يرجع المحدود إلى دار الإسلام، لأن لفظ الحديث لم يقم عليه شيء مما أحدث في أرض العدو، وإذا لم يقم في أرض العدو، أخر إلى أرض الإسلام، لأن الحد لا يسقط عن المحدود، لا في دار الحرب، ولا في دار الإسلام، والمنع من إقامته في دار الحرب، لا يفهم منه إلاّ تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام. ب - مناقشة أدلتهم من المأثور: 1- أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استدلوا به ضعيف الاسناد.1 وعلى فرض صحة هذا الأثر، فإنه لا دلالة لهم فيه، لأن عمر رضي الله عنه   1 لأنه من رواية الأحوص بن حكيم بن عمير العنسي، وهو ضعيف من قبل حفظه، كما قال ابن حجر. انظر: تقريب التهذيب 1/49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 منع من إقامة الحدود على المسلمين في أرض الأعداء، خشية أن يلحق المحدود بالكفار ويرتد عن الإسلام، فمن أجل ذلك منع من إقامة الحدود في دار الحرب، وأخرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام، ولم يسقط الحدود في دار الحرب كما ذهب إلى ذلك الحنفية. وقال الإمام الشافعي في الأم: "وما روى عن عمر بن الخطاب، منكر غير ثابت، وهو بعيد أن يحتج بحديث غير ثابت"1 2- أما ما روى عن زيد بن ثابت، فهو كذلك لم يثبت عنه، لأنه من رواية مكحول عنه، ومكحول لم ير زيد بن ثابت، كما قال الإمام الشافعي.2 وعلى فرض صحته، فهو محمول على أن المنع من إقامة الحدود في دار الحرب، ليس المراد منه إسقاطها، بل تأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام، لأن الحد لا يسقط عن مرتكب الجريمة في أي مكان كان، في دار الإسلام، أو في دار الحرب. 3- وكذلك أيضا أثر أبي الدرداء رضي الله عنه لا تثبت به حجة، لأنه ضعيف الإسناد بأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، وهو ضعيف.3   1 انظر: الأم 7/355. 2 انظر: المرجع السابق 7/355، ونقله البيهقي عنه في السنن الكبرى 9/105. 3 انظر: تقريب التهذيب 2/398. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وعلى فرض صحته، فهو يحمل على أن مراد أبي الدرداء رضي الله عنه من منع إقامة الحدود في دار الحرب، هو ليس سقوطها بالكلية، بل تأخيرها إلى حين أن يرجع المحدود إلى دار الإسلام، كما جاء في بعض ألفاظه: حتى يقفل مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار.1 وهذا هو الاحتمال الصحيح لهذا الأثر. 4- أما أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فهو صحيح، لأن جميع رواته ثقات.2 ولكنه مع صحته لا دلالة لهم فيه على سقوط الحدود في دار الحرب، وإنما الذي يفهم من كلام حذيفة رضي الله عنه أن الحد لا يقام أمام الأعداء، لئلا يطمعوا فينا، وإنما يؤخر حتى الرجوع إلى دار الإسلام، لقوله: "لا نفعل ونحن بإزاء العدو، ومفهوم المخالفة، أنا إذا لم نكن بازاء الأعداء وبأرضهم، وكنا بازاء المسلمين وأرضهم عندئذ نقيم الحدود" 5- أما قصة أبي محجن رضي الله عنه، فلا حجة للحنفية فيها، كما يقول ابن القيم، وإنما أسقط سعد الحد عن أبي محجن، لأنه رأى فيه بذل نفسه لله عز وجل والظفر بالأعداء، وبلائه في الإسلام البلاء الحسن، وظهور مخايل التوبة النصوح منه3، فمن أجل ذلك أسقط عنه الحد، أما أن يقال:   1 سنن سعيد بن منصور 2/196. 2 الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 56. 3 أعلام الموقعين 3/7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 إنه أسقطه عنه لأن الجريمة ارتكبت في دار الحرب، فهذا لم يقل به أحد من العلماء. وأيضا هذه الآثار التي استدلوا بها -على فرض صحتها- فإنه لا يمكن أن تقوى على معارضة عموم الآيات والأحاديث التي دلت على وجوب إقامة الحدود من غير فرق بين كون الجريمة ارتكبت في دار الإسلام، أو في دار الحرب. ج - مناقشة دليلهم من المعقول: أما قولهم بأن الحدود لا تقام في دار الحرب مخافة أن يلحق المحدود بالعدو أو يرتد عن الإسلام، فقد رد عليهم الإمام الشافعي بقوله: "فأما قولهم: يلحق بالمشركين، فإن لحق بهم فهو أشقى له، ومن ترك الحد خوف أن يلحق المحدود ببلاد المشركين تركه في سواحل المسلمين ومسالحهم1التي اتصلت ببلاد الحرب مثل طرسوس2" 3. وأقول: إذا كانت هناك مصلحة في تأخير الحد إلى دار الإسلام كأن يخاف لحوق المحدود بدار الحرب، أو ارتداده عن الإسلام، فلا بأس بذلك تفاديا لهذه المخاوف التي قد تلحق بالمحدود.   1 المسالح: جمع مسلحة، وهي المكان الذي يكثر فيه السلاح، كالثغور ونحوها. انظر: معجم لغة الفقهاء ص 429. 2 طرسوس: هي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. انظر: معجم البلدان 4/28. 3 انظر: الأم 7/355. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 2- أما قولهم بأنه لا ولاية ولا قدرة للإمام على دار الحرب، والواجب مشروط بالقدرة: نقول لهم: نسلم أن مناط إقامة الحد هي القدرة، لكن ما الذي أسقطه بالكلية، حتى ولو رجع المحدود إلى دار الإسلام؟، فإن المسلم إذا رجع إلى داره، فهو تحت ولاية وقدرة إمامه، فالولاية والقدرة ثابتة عليه، فإذا لم تقم الحدود، لا في دار الحرب، ولا إلى حين الرجوع إلى دار الإسلام، نكون أهدرنا نصوص الكتاب والسنة، الآمرة بإقامة الحدود، أما إذا قلنا بتأخير إقامة الحد عن مرتكبه في دار الحرب حتى يرجع إلى دار الإسلام، فقد راعينا المصلحة، ولم نهدر الحد بالكلية.1 3 - أما قولهم: بأن المقصود من إقامة الحدود هو الانزجار والارتداع، وإذا أقيم الحد في دار الحرب لا يحصل هذا المقصود، بل ربما يحصل العكس، وهو اللحاق بالأعداء أو الارتداد عن الإسلام، فهذا استدلال وجيه، إلاّ أنه معارض بالعمومات من الكتاب، والسنة الدالة على إقامة الحدود في كل مكان، وفي أي زمان، فيكون فاسد الاعتبار، وأيضا الانزجار يحصل بإقامة الحد على مرتكبه في دار الحرب، عند الرجوع إلى دار الإسلام. ثانيا: مناقشة أدلة المالكية والشافعية: أ- بالنسبة لاستدلالهم بعموم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب   1 الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 إقامة الحدود في كل مكان من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب: يرد عليه بأن هذا العموم معارض بالأدلة الدالة على تأخير الحد حتى الرجوع إلى دار الإسلام التي سبق ذكرها. فإن المصلحة تقتضي تأخير الحد خوفا من لحوق المحدود بالكفار وارتداده عن الإسلام، ولمصلحة المسلمين تكثيرا لصفهم، ومحافظة على سلامة وحدتهم، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم. يجاب عن ذلك: بأن الأدلة التي دلت على وجوب تأخيرها إلى دار الإسلام، لا تقوى على معارضة العموم، أما من ناحية عدم القدرة على إقامتها في دار الحرب أو كانت هناك مصلحة للمحدود في التأخير إلى دار الإسلام، فهذا ما قال به جميع الفقهاء، ما عدا الحنفية. أما حديث عبادة بن الصامت فهو ضعيف الإسناد.1 وعلى فرض صحته، فالحديث لم يصرح بإقامته الحدود في دار الحرب، لأن نص الحديث: "وأقيموا الحدود في السفر والحضر"، والسفر قد يكون داخل الإسلام، فالمراد به إقامة الحدود في السفر، وهو معارض بحديث بسر بن أرطأة، وهو أقوى منه، ويمنع من إقامة الحدود في الغزو.2   1 انظر: مجمع الزوائد 6/252، وتقريب التهذيب 2/398، والفتح الرباني 14/75. 2 المبدع 2919، والمقنع بحاشيته 3/451. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وأجيب عن ذلك: بأننا لا نسلم ضعف الحديث، لأن أسانيد أحمد ثقات، ويشهد له ويعضده شواهد صحيحة، كعموم الآيات والأحاديث الدالة على إقامة الحدود من غير فرق بين القريب والبعيد، والمقيم والمسافر، وقال ابن حجر: "حديث عبادة أصح من حديث بسر، ويقدم عليه"1، ودعوى المعارضة لا تسلم أيضا، فقال الشوكاني: "لا معارضة بين الحديثين، لأن حديث بسر أخص مطلقا من حديث عبادة، فيبني العام على الخاص، وبيان أن السفر المذكور في حديث عبادة أعم مطلقا من الغزو المذكور في حديث بسر، لأن المسافر قد يكون غازيا وقد لا يكون، وأيضا حديث بسر في حد السرقة، وحديث عبادة في عموم الحد"2 أما حديث عبد الرحمن الزهري رضي الله عنه هو لا يقوى على معارضة حديث بسر بن أرطأة، الذي منع من إقامة الحدود في دار الحرب، وأيضا فإن الحديث لم يصرح بإقامة الحد، وإنما صرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حثا عليه التراب، وأمر من عنده فضربوه بما كان في أيديهم، وهذا قد يكون من باب التعزير والتأديب. ولكن يمكن أن يجاب عن هذا: بأن الأحاديث التي صرحت بإقامة الحدود في دار الحرب -ولو كان   1 الفتح الرباني 14/75،16/115. 2 انظر: نيل الأوطار 7/137، 138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 في إسنادها ضعف- فإنها تقوي بعضها البعض، ويشهد لها ويقويها عموم الآيات والأحاديث التي تدل لعمومها على وجوب إقامة الحدود في دار الحرب، وبهذا تسلم هذه الأحاديث من المعارضة وتبقى دلالتها ثابتة على وجوب إقامة الحدود في دار الحرب. وبالنسبة لحديث بسر وغيره من الأحاديث والآثار، فإن المنع فيها من إقامة الحدود لا يستلزم سقوطها، وإنما يستلزم تأخيرها عند الرجوع إلى دار الإسلام، إذا كانت هناك مصلحة للمحدود، وهي مخافة أن يلحق بالعدو أو يرتد عن الإسلام. ج - أما بالنسبة للآثار التي استدلوا بها: فيرد عليها بما يلي: 1- أثر يحي بن عروة ليس في دلالة على إقامة الحدود في دار الحرب، وإنما غاية ما دل عليه هو تأخيرها إلى دار الإسلام، كما يفهم ذلك من الأثر، وأيضا الإمام البيهقي ذكره في باب من زعم ألا تقام الحدود في أرض الحرب حتى يرجع.1 2- وكذلك أثر الليث بن سعد، لا يقوى على معارضة الأحاديث والآثار الدالة على تأخير إقامة الحدود في دار الحرب، حتى الرجوع إلى دار الإسلام، والآية التي استدل بها ليس له فيها دلالة.   1 انظر: السنن الكبرى للبيهقي 9/104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 أما قوله: ما رأينا ولا سمعنا أحدا ترك الحد في الحرب، فيقال له: أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من إقامة الحد في الغزو، كما في حديث بسر، وأمر بتأخير الحدود في دار الحرب، عمر وحذيفة بن اليمان وأبو الدرداء، وقد ترك سعد بن أبي وقاص إقامة الحد على أبي محجن رضي الله عنهم أجمعين وهذا كله يعتبر ناقصا لما قاله الليث بن سعد. وأجيب عن ذلك بأن هذه الآثار تدل على وجوب إقامة الحدود في كل مكان، ويقويها ويشهد لها عموم الكتاب، والسنة. د- أما دليلهم من المعقول: فيرد عليه بما يلي: قولهم بأن فعل هذه الجرائم محرم في دار الحرب، كما هو محرم في دار الإسلام، يقال لهم: هذا بالاتفاق، ولم يخالف فيه أحد، وإنما الخلاف في العقوبة المشروعة لهذه الجرائم، هل تقام على ذلك الفعل في دار الحرب أم لا؟ فقال الحنفية: لا تقام وإنما تسقط لوجود الشبهة، وهو مخافة أن يلحق المحدود بالعدو ويرتد عن الإسلام، والحدود تدرأ بالشبهات. أما الحنابلة فقالوا: تؤخر إلى دار الإسلام لمصلحة المحدود. وأجيب عن ذلك: بأن العقوبة المشروعة لهذه الجرائم كالفعل، ولا تسقط عنه في دار الحرب، كما لا يسقط عنه الذنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 هـ- أما قياس إقامة الحد في دار الحرب على إقامته في دار الإسلام: فهو قياس مع الفارق، لأن الولاية والقدرة على إقامة الحدود ثابتة للإمام ثبوتا كاملا في دار الإسلام، بخلاف دار الحرب، ولأنه توجد شبهة بإقامة الحد في دار الحرب، وهي مخافة أن يلحق المحدود بالكفار، بخلاف دار الإسلام، فلا شبهة عند إقامة الحدود فيها. ثالثا: مناقشة أدلة الحنابلة ومن معهم الذين قالوا بتأخير إقامة الحدود في دار الحرب إلى دار الإسلام: بالنسبة لاستدلالهم بحديث بسر بن أرطأة. يرد عليه من وجهين: الوجه الأول: بأن الحديث مختلف في صحته، فقيل غريب، وقيل راوية لا صحبة له. وقد سبق تفصيل ذلك عند مناقشة أدلة الحنفية.1 الوجه الثاني: لا دلالة لهم فيه على تأخير الحد إلى دار الإسلام، لأن ظاهر الحديث سقوط الحد لا تأخيره، والحال يقتضي البيان، لأن لفظ الحديث: "لا تقطع الأيدي في الغزو".2   1 تقدم ذلك في ص 627، 638. 2 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة من وجهين: الوجه الأول: بالنسبة لدراسة الحديث الإسنادية، قد تبين صحة الإسناد إلى بسر وأن مدارك الكلام في هذا الحديث على بسر، وهو قد صرح بالسماع في هذا الحديث وغيره، فدل تصريحه بالسماع على صحبته وسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا صحح بعض الأئمة هذا الحديث. فقال الذهبي: "الحديث جيد لا يرد هذا أحد، بمثل الكلام في بسر"1 وقال ابن حجر: "إسناده قوي"2 ولعل الظاهر من كلام ابن القيم على هذا الحديث هو تصحيحه.3 وقال الألباني: "إسناده صحيح على ما قيل في ابن أبي أرطأة"4 الوجه الثاني: أن الحديث لم ينه عن إقامة الحدود في دار الحرب، وإنما نهى عن إقامة حد القطع في ظرف خاص، وهو في حالة الغزو، فهذا نهى عن إقامة الحد في حالة الغزو، وليس إسقاطا له، ولأن بعض الصحابة رضي الله   1 نقلا عن فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/417. 2 انظر: الإصابة 1/152. 3 انظر: إعلام الموقعين 3/615. 4 انظر: مشكاة المصابيح بتعليق الألباني 2/299، مع الحدود والتعزيرات ص 52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 عنهم الذين هم أعلم الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومعرفة مراده صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث. أخروا إقامة الحدود عن مرتكبيها في الغزو في قضايا متعددة، كما تقدم أثر عمر وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم أجمعين. فبهذا يكون الحديث سليم الدلالة رواية ودراية، لصراحة لفظه وصحة إسناده.1 ثانيا: مناقشة استدلالهم بالمأثور: أ- أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استدلوا به، ضعيف الإسناد كما سبق.2 وأجيب عن ذلك: بأن هذا الأثر ليس فيه ضعف وخاصة أن له شواهد تقويه، كحديث بسر، وأثر أبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهما. ب- وكذلك أيضا أثر أبي الدرداء لا دلالة فيه، لأنه ضعيف الإسناد كما سبق.3 ويجاب عن ذلك:   1 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 54. 2 انظر: تقريب التهذيب 1/49. 3 انظر: المرجع السابق 2/398. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 بأن ضعف الإسناد لا يضعف من دلالة هذا الأثر، وبخاصة أن له متابعات وشواهد تقوية، ودلالته نصية على تأخير الحد كأثر عمر رضي الله عنهم.1 ج- أما أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لا دلالة لهم فيه، لأنه لم ينص على تأخير الحد إلى دار الإسلام، لأن حذيفة لم يسقط الحد، وإنما استنكر إقامته في أرض العدو. ويجاب عن ذلك: بأن استنكار حذيفة رضي الله عنه تعجيل إقامة الحد في أرض العدو، يدل على تأخير الحد، لأن العلة في استنكاره هي قربهم من العدو، خشية طمعه فيهم، فدل أنه بعد العودة يعود الحكم بالحد لزوال علته، وعليه فإن أثر حذيفة رضي الله عنه دل على تأخير إقامة الحدود في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام.2 ثالثا: مناقشة استدلالهم بالإجماع: قولهم: بأن تأخير الحد إلى دار الإسلام عند وقوع الجريمة في دار الحرب، هو إجماع الصحابة، هذا منقوض، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا على ذلك، كما قال الحنابلة، بل منهم المخالف، ولم يقل بتأخير الحد إلى دار الإسلام، إلا بعض الصحابة كعمر وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم، فكيف يكون هذا إجماعا‍‍‍.   1 انظر: الحدود والتعزيرات ص 55. 2 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 ويرد على هذا: بأن الإجماع المذكور -والله أعلم- هو الإجماع السكوتي1، فإن القول بهذا قد ورد عن جملة من الصحابة رضي الله عنهم في مواجهة آخرين منهم، فلم يظهر في سياق الأخبار خلاف أحد منهم، فصار إذا إجماعا على تأخير الحد.2 رابعا: مناقشة استدلالهم بالمعقول: أما قولهم بأن الحد يؤخر مخافة أن يلحق المحدود بدار الكفر، ويحمله الغضب على الدخول في الكفر. فيرد عليهم بما قاله الإمام الشافعي. حيث قال: "فأما قولهم بأن المحدود يلحق بالمشركين، فإن لحق بهم فهو أشقى له"3 خامسا: مناقشة استدلالهم بالقياس: قياسهم تأخير الحد في دار الحرب إلى دار الإسلام، على تأخيره عن الحامل والمرضى ووقت المرض، قياس مع الفارق، لأن العلة الجامعة بينهما مختلفة، فالعلة من تأخير الحد في دار الحرب، هي مخافة أن يلحق المحدود ببلاد الكفر.   1 الإجماع السكوتي هو: أن يقول بعض المجتهدين قولا في حكم حادثة مثلا، ويسكت باقي المجتهدين مع اشتهار ذلك القول وانتشاره. انظر: روضة الناظر ص 79. 2 انظر: الحدود والتعزيرات ص 57. 3 انظر: الأم 7/355. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 بينما العلة في تأخير الحد عن المريض والحامل، هي مخافة أن يموت المحدود. وأيضا فإن تأخير الحد في دار الحرب يكون من دار إلى دار، بينما تأخير الحد عن المريض وغيره، يكون في نفس الدار، وبهذا يكون القياس غير صحيح، ويسقط الاستدلال به أما استدلال ابن القيم رحمه الله بقصة أبي محجن رضي الله عنه على سقوط الحد عمن كانت حاله كحال أبي محجن رضي الله عنه له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته، وظهرت منه التوبة النصوح، فهذا في النفس منه شيء، لأن الحدود لا تسقط عن مرتكبيها أينما كانوا، ومهما فعلوا من الأعمال الحسنة، والظفر بالأعداء، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث السابقة التي دلت بعمومها على وجوب إقامة الحدود في أي مكان، وفي كل وقت وعلى كل أحد مهما بلغت حسناته، فلم يرد ما يخصص هذا العموم، وأن ما ورد في هذه القصة لا يقوى على تخصيص عموم الكتاب والسنة، ويحتمل أن سعدا لم يسقط الحد عن أبي محجن، وإنما أخره حتى رجع إلى دار الإسلام، وعلى فرض أنه أسقطه عنه، فربما يكون هذا اجتهادا من سعد رضي الله عنه والله أعلم. الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم، وما طرأ عليها من مناقشات وردود، تبين لي أن الرأي الأولى بالاختيار هو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الرأي القائل بوجوب إقامة الحدود في دار الحرب، ولا تسقط عن مرتكبيها، لا في دار الحرب، ولا في دار الإسلام، كما قال المالكية والشافعية. ولكن إذا لم تكن هناك قدرة على إقامتها في دار الحرب، أو كانت هناك مصلحة للمحدود، فلا بأس بتأخيرها، كما قال فقهاء الحنابلة. وقد اخترت هذا الرأي للأسباب التالية: 1- لقوة ما استدلوا به، وهو عموم الآيات والأحاديث السابقة الدالة على وجوب إقامة الحدود في أي مكان من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب، ولم يرد من النصوص ما يخصص هذا العموم. 2- لضعف ما استدل به الحنفية، فلم يسلم لهم دليل صحيح، يدل على إسقاط الحدود التي ترتكب جرائمها في دار الحرب، وكذلك ما استدل به الحنابلة - إلا إذا لم يقدر على إقامتها في دار الحرب، أو إذا كانت هناك مصلحة للمحدود - فهذا دليل قوي في التأخير. 3- ولأن الجريمة شر وفساد في الأرض، وهذا الوصف لاصق بها ولا ينفك عنها أينما كان محل ارتكابها، فجريمة الزنى مثلا، لا يتصور إنفكاكها عن الفساد والشر، سواء ارتكبت في دار الإسلام، أو في دار الحرب، وحيث أن وصف الفعل بالإجرام يبقى قائما، فلا بد أن يترتب عليه أثره، وهو العقاب، وتعذر العقاب المانع لا يسقط العقاب، وإنما ينتظر إمكان استيفائه، كالمدين إذا تعذر استيفاء الدين منه لإفلاسه أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 لغيبته أو لهربه، فإن الدين لا يسقط، وإنما يتأخر الاستيفاء، فكذلك إذا تعذر استيفاء الحدود في دار الحرب، فلا تسقط، وإنما تؤخر إلى دار الإسلام.1 4- وللحرص على الفضيلة والشرف والأمانة وحفظ النفس، وحتى لا يفسح المجال أمام ضعاف الإيمان الذين ينتهزون الفرص للقيام بأعمال إجرامية على العرض والمال، ترجع نتائجها على المجتمع الإسلامي، وخصوصا في هذا الزمان الذي سهل فيه الانتقال والسفر إلى ديار الكفار بأبسط الطرق، لتقدم وسائل النقل الحديثة، كالطائرات والقاطرات وغيرها، فقد يعمل هؤلاء المفسدون أعمالهم الإجرامية ويتذرعون بما جاء في المذهب الحنفي، فيعم الفساد والخراب، ويستفحل الشر. وللأسف أن الذين يقومون بهذه الأعمال يمثلون الإسلام والمسلمين، فتنعكس صورة غير طيبة عن الإسلام بسبب هذه الأعمال، فربما يظن أهل الكفر أن الإسلام يبيح هذه الأشياء، ولم يورد لها عقوبة رادعة، ولكن سدا لهذا الباب، نقول بوجوب إقامة الحدود في دار الكفر، حربية، كانت، أو غير حربية، حسب الاستطاعة والقدرة، أما إذا انتفت، فلا بأس بتأخيرها، حتى الرجوع إلى دار الإسلام. 5- ولأن في الأخذ بهذا الرأي - وهو وجوب إقامة الحدود في دار الحرب حسب القدرة، ولا بأس بتأخيرها إلى دار الإسلام إذا كانت   1 انظر: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 هناك مصلحة- جمعا بين الأدلة وعملا بكل ما ورد منها في هذه المسألة، والعمل بجميع الأدلة أولى من العمل بالبعض وإهمال البعض الآخر. 6- ولأن الإسلام دين العزة والكرامة، لا يجيز لأبنائه التردي في الفواحش والمفاسد، ولا يرضى لهم الانحلال من أخلاقهم ومعتقداتهم بمجرد مغادرتهم دار الإسلام، في الوقت الذي يجب أن يكونوا فيه القدوة الحسنة، والمثل الأعلى في التحلي بآداب الإسلام والتزام أحكامه في ديار الكفار التي يسافرون إليها، لأن أعداء الإسلام ينظرون إلى المسلمين المنحرفين أخلاقيا على أنهم هم أهل الإسلام، وهذا له الأثر السيئ في نفوس الذين يريدون الدخول في الإسلام، لأنهم هم القدوة التي يقتدون بها، والمجرم والفاسد لا يكونان مثلا أعلى يقتدى بهما، بل إن المسلمين بأعمالهم الإجرامية -التي يمكن أن تحدث - في دار الكفر، يصدون عن سبيل الله، وعن طريق الهدى، وفي إهمالهم من تطبيق حدود الله عليهم، تشجيع لغيرهم من أبناء الإسلام الذين يغادرون بلادهم للتحلل من أخلاق الإسلام، والبعد عن منهجه، وعلى العكس من ذلك، وهو إقامة الحدود عليهم أمام أعداء الإسلام ليعرفوا أن الإسلام شرع العقوبة الرادعة لمثل هذه الجرائم، وأنه دين العدالة، والدين الصحيح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأخيرا نقول: إنه يجب إقامة الحدود في كل مكان، من غير فرق بين دار الإسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 ودار الحرب، وينطبق هذا الحكم على ديار الكفار في هذا الزمان، الحربية وغير الحربية. فالمسلم الذي يرتكب جرائم الزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو غيرها في ديار الكفار في هذا الزمان، يجب إقامة الحد عليه، بحسب القدرة والاستطاعة على إقامته، والتي قد تكون متيسرة في دار الكفر غير الحربية -دار العهد- للعهد الذي بين أهلها وبين المسلمين، ولا يحتاج إلى تأخير حتى الرجوع إلى دار الإسلام، أما إذا لم يستطع إمام المسلمين إقامة الحدود في ديار الكفار، وبخاصة الحربية منها، لعدم وجود العلاقة بينها وبين الدول الإسلامية، فلا بأس بتأخيرها حتى رجوع مرتكبيها إلى دار الإسلام، فيقيمها عليهم ولا تسقط عنهم بأية حال من الأحوال، سواء ارتكبت في دار الإسلام، أو في دار الكفر. وبناء على هذا الاختيار يتضح لي أن اختلاف الدار لا أثر له في إسقاط الحدود عن مرتكبي الجرائم في دار الكفر، سواء كانت حربية، أو غير حربية، فالحدود كما يجب إقامتها في دار الإسلام، فكذلك يجب إقامتها في دار الكفر، ولا يؤثر اختلاف الدار إلا من ناحية التأخير، فالإمام إذا لم يقدر على إقامة الحدود في ديار الكفار، فلا بأس بتأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام لأنه لا سلطة ولا قدرة لإقامتها في دار الكفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 الفصل السادس: اختلاف الدار وأثره في الميراث والوصية المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في الميراث المطلب الأول: أثره في الميراث بين غير المسلمين قبل أن نبين هل لاختلاف الدار أثر في الميراث بين غير المسلمين، ينبغي أن نبين معنى اختلاف الدارين، الذي يمنع الميراث وأنواعه، والنوع الذي يمنع الميراث عند القائلين به. أولا: معنى اختلاف الدارين الذي يمنع الميراث عند القائلين به: هو أن يكون كل من الوارث والموروث في دار تخالف الأخرى، في المنعة والملك والسلطة وغلبة الأحكام، مع انقطاع الولاية والعصمة بينهما، كدار الإسلام ودار الكفر، فالذمي الذي في دار الإسلام لا يرث قريبه في دار الكفر والعكس. وبين أجزاء دار الكفر نفسها كالروم والهند، فالكافر الذي في الروم مثلا لا يرث قريبه الكافر في الهند والعكس. أما دار الإسلام فتعتبر وطنا واحدا لجميع المسلمين، فيرث المسلم في أي بلد من بلاد الإسلام قريبه المسلم، لأن الإسلام صير بلاد المسلمين وطنا واحدا، فمهما تباعدت الديار، واختلفت الجنسيات، فلا عبرة بهذا كله، فدار الإسلام وطن واحد لجميع المسلمين، لأن الإسلام جمع بينهم وجعلهم إخوة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ... } 1، وحرم دماء بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا   1 الحجرات: 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 خَطَأً} 1، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا إلتقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" 3. وبهذا فإن المسلم يرث قريبه في أي دار من ديار الإسلام.4 ثانيا: أنواع اختلاف الدارين: النوع الأول: الاختلاف حقيقة وحكما، ويتحقق باختلاف التبعية والإقامة، كأن يكون الوارث حربيا في دار الكفر والمورث ذميا في دار الإسلام. فإذا مات الحربي في دار الكفر وله قريب ذمي في دار الإسلام، أو مات الذمي في دار الإسلام وله قريب حربي في دار الكفر، لم يرث أحدهما من الآخر. لأن الذمي من أهل دار الإسلام والحربي من أهل دار الكفر، فهما وإن اتحدا في الملة، لكن لتباين الدارين بينهما حقيقة وحكما، تنقطع الولاية بينهما، فتنقطع الوارثة المبنية على الولاية، لأن الوارث خلف   1 النساء: 92. 2 النساء: 93. 3 أخرجه البخاري 4/187، كتاب الديانات باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} ومسلم 4/2214 كتاب الفتن حديث 2888. 4 المبسوط 30/33 وحاشية رد المختار 6/ 768، وتبيين الحقائق 6/240، والاختيار 5/116، والبحر الرائق 8/571، وشرح السراجية ص 81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 المورث في ماله ملكا ويدا وتصرفا. وكذلك يتحقق الاختلاف الحقيقي والحكمي بين الكافرين، إذا كان كل منهما في دار مختلفة عن الأخرى، كالروم والهند، لأن دار كل واحد منهما مختلفة عن الأخرى في الملك، والسلطة، والمنعة، والقوة، والجيوش التي تدافع عنها. النوع الثاني: الاختلاف حكما فقط، كالذمي والمستأمن في دار الإسلام، فالمستأمن الحربي لا يرث قريبه الذمي، والذمي لا يرث قريبه المستأمن، لأن داريهما مختلفتان، فالمستأمن من أهل دار الكفر حقيقة ومن أهل دار الإسلام حكماً، والذمي من أهل دار الإسلام حقيقة ومن أهل دار الحرب حكماً. النوع الثالث: الاختلاف حقيقة فقط، كالمستأمن الحربي في دار الإسلام، والحربي في دار الكفر، فإنهما يتوارثان، فالحربي المستأمن في دار الإسلام يرث قريبه الحربي في دار الحرب والعكس.1   1 المبسوط 30/33، وتبيين الحقائق 6/240، ومجمع الأنهر 2/748، واللباب 4/188، والاختيار 5/116، وحاشية ابن عابدين 6//768، والبحر الرائق8/571، وحاشية القنازي مع شرح السراجية ص 81، 82، وأحكام التركات والمواريث لأبي زهرة ص 113. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 أما النوع الذي يمنع الميراث عند القائلين بأن اختلاف الدار مانع من موانع الميراث -وهم فقهاء الحنفية- فهو النوع الأول، أي الاختلاف حقيقة وحكما، كالذمي في دار الإسلام والحربي في دار الحرب، فلا توارث بينهما لانقطاع العصمة والولاية بين داريهما.1 قال ابن عابدين: "إذا مات الحربي في دار الحرب، وله وارث ذمي في دارنا، أو مات الذمي في دارنا وله وارث في دارهم، لم يرث أحدهما من الآخر، لتباين الدارين حقيقة وحكما، وإن اتحدا ملة"2 كذلك يتحقق الاختلاف حقيقة وحكما بين الحربيين، فلا يتوارثون فيما بينهم إذا اختلفت ديارهم في السلطة والمنعة والقوة. قال السرخسي: "أهل الحرب لا يتوارثون إذا اختلفت منعتهم وملكهم، فباختلاف المنعة والملك تختلف الدار فيما بينهم، وبتباين الدار ينقطع التوارث"3. وكذلك النوع الثاني: وهو اختلاف الدارين حكما يمنع التوارث، كالذمي والمستأمن في دار الإسلام، فلا يرث أحدهما الآخر، لأن المستأمن من أهل دار الحرب، والذمي من أهل دار الإسلام، فلا توارث بينهما   1 البحر الرائق 8/571، وحاشية الفناري ص 78، 79، واللباب في شرح الكتاب 4/188، وتبيين الحقائق 6/240. 2 حاشية رد المختار 6/768. 3 المبسوط 3/33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 لتباين الدارين1. قال الزيلعي: "اختلاف الدار يمنع الإرث، والمؤثر هو الاختلاف حكما حتى لا تعتبر الحقيقة بدونه، حتى لا يجري الإرث بين المستأمن والذمي في دارنا ولا في دار الحرب"2 وقال السرخسي: "المستأمن في دار الإسلام لا يجري التوارث بينه وبين الذمي"3 أما النوع الثالث: وهو الاختلاف حقيقة فقط، فلا أثر له في المنع من الميراث، كالمستأمن الحربي في دار الإسلام، والحربي في دار الحرب فيرث أحدهما الآخر.4 وقبل أن نبين آراء الفقهاء في أثر اختلاف الدار في المنع من الميراث بين غير المسلمين ينبغي أن نشير إلى بعض الأحكام المتفق عليها في الميراث ... ومنها: 1- اتفق الفقهاء على أن اختلاف الدار لا أثر له في التوارث بين   1 مجمع الأنهر 2/748، والاختيار 5/86،116، وشرح السراجية ص 78، 81، واللباب 4/188، والبحر الرائق 8/571. 2 انظر: تبيين الحقائق 6/240. 3 انظر: المبسوط 3/33. 4 حاشية ابن عابدين 6/768، وبدر المتقي 2/748، والاختيار 5/116، وتبيين الحقائق 6/240، وشرح السراجية ص 78 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 المسلمين وغير المسلمين1، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 2 2- وكذلك اتفقوا على أن غير المسلمين يتوارثون فيما بينهم إذا كانوا من ملة واحدة.3   1 تبيين الحقائق 6/240، والاختيار 5/116، وأحكام القرآن للجصاص 2/10، وبداية المجتهد 2/295، وقوانين الأحكام الشرعية ص 421، ومغنى المحتاج 3/24، والمغني 6/297، والإفصاح لابن هبير 25/92، والمقنع بحاشيته 2/450. وروي عن معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي: أن المسلم يرث الكافر. انظر: المغني 6/294، وبداية المجتهد 2/295، وشرح السنة 8/364. قال الإمام البغوي بعد أن ذكر حديث أسامة: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم. انظر: شرح السنة 8/364. قلت: والحديث حجة على من خالف، فالمسلم لا يرث الكافر، كما صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. 2 أخرجه البخاري 4/170، كتاب الفرائض باب لا يرث المسلم الكافر ومسلم 3/1233 كتاب الفرائض حديث 1614. 3 تبيين الحقائق 6/240، وبداية المجتهد 2/296، وروضة الطالبين 6/29، والمغني 6/297، وأحكام أهل الذمة 2/442. أما إذا اختلفت مللهم فقال الحنفية والشافعية: أنهم يتوارثون فيما بينهم فالكفر ملة واحدة. وقال المالكية والحنابلة: لا يتوارثون إذا اختلفت مللهم، لأن الكفر ملل شتى. انظر: المبسوط 3/31، وبلغة السالك 2/513، ومغنى المحتاج 3/25، وكشاف القناع 4/478. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وعلى أن الذميين يتوارثون فيما بينهم إذا كانوا في دار الإسلام. 3- وكذلك اتفقوا على أن اختلاف الدار لا أثر له في التوارث بين المسلمين، فالمسلم في دار الإسلام يرث قريبة المسلم الذي في دار الحرب، وكذلك المسلم التاجر أو الأسير- إذا مات في دار الحرب- ورثه قرابته في دار الإسلام.1 إلا أن الحنفية في رواية مرجوحة قالوا: إن المسلم الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر، لا يرث من المسلم الأصلي الذي في دار الإسلام، وكذلك المسلم في دار الإسلام، لا يرث ممن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام، سواء كان في دار الحرب مستأمنا، أو لم يكن، لأن الله سبحانه وتعالى نفى الولاية بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} 2. فلما كانت الولاية بينهما منتفية كان الميراث منتفيا، لأن الميراث مبني على الولاية.3 ويمكن أن يرد على هذا: بأن التوارث بالهجرة كان في ابتداء الإسلام، وقد نسخ حكمه،   1 المبسوط 30/33، وحاشية ابن عابدين 6/768، وشرح السراجية ص 81،82. 2 الآية 72 من سورة الأنفال. 3 حاشية رد المختار 6/768، وحاشية الفناري ص 82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، قال: هذه كانت في المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر1، ثم نسختها: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2 وعن قتادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، قال: لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا، فنسخ ذلك قوله تعالى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} 3، أي من أهل الشرك، فأجيزت الوصية ولا ميراث لهم، وصارت المواريث   1 أخرجه أبو داود 3/338، كتاب الفرائض، وذكره الجصاص في أحكام القرآن 3/75، والطبري في جامع البيان 10/37، 38، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 8/56. 2 الأنفال: 75. 3 الأحزاب: 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 بالملل، والمسلمون يرث بعضهم بعضا من المهاجرين والمؤمنين.1 ولأن هذه الرواية خلاف ما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة من أن المسلم يرث قريبه المسلم في أي مكان وجد في أنحاء الأرض، ولا أثر لاختلاف الدار في ذلك، لأن المسلم ولايته للإسلام، مهما اختلفت داره أو جنسيته، ولأن الهجرة وإن كانت واجبة من دار الحرب إلى دار الإسلام، لكنها ليست شرطا في التوارث بين المسلمين. واختلفوا في اختلاف الدار هل له أثر في منع التوارث بين غير المسلمين؟ إلى قولين: القول الأول: أن اختلاف الدار له أثر في منع التوارث بين غير المسلمين، والمؤثر هو الاختلاف الحقيقي والحكمي، كالذمي إذا مات في دار الإسلام، وقرابته في دار الحرب، لم يرث أحدهم من الآخر. وكذلك الحربي إذا مات في دار الحرب وله قرابة من أهل الذمة في دار الإسلام فإنهم لا يتوارثون فيما بينهم، لأن الذمي من أهل دار الإسلام حقيقة، ومن أهل دار الحرب حكما، والحربي من أهل دار الحرب حقيقة ومن أهل دار الإسلام حكماً إذا كان مستأمناً، فلاختلاف الدارين بينهما حقيقة وحكما، لا يرث أحدهما من الآخر، وإن اتحدا في الملة.   1 جامع البيان 10/37، 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وكذلك الاختلاف الحكمي فقط، كالذمي والمستأمن في دار الإسلام فلا يرث أحدهما من الآخر، لتباين الدارين بينهما، فالذمي من أهل دار الإسلام والمستأمن من أهل دار الحرب. وهو قول فقهاء الحنفية.1 والشافعية في أصح الأوجه، ولكن المؤثر عندهم هو الاختلاف الحقيقي والحكمي، فالذمي في دار الإسلام لا يرث قريبه الحربي في دار الحرب والعكس. أما الاختلاف الحكمي فقط فلا أثر له، فالذمي يرث المستأمن في دار الإسلام وعكسه.2 قال النووي: "فلو كان أحدهما ذميا والآخر حربيا، فطريقان: المذهب وبه قطع الأكثرون لا يتوارثان، لانقطاع الموالاة بينهما، وربما نقل الفرضيون الإجماع على هذا"3   1 المبسوط 10/33، وتبيين الحقائق 6/240، ومجمع الأنهر 2/748، والبحر الرائق 8/57، واللباب في شرح الكتاب 4/188، والاختيار 5/116، وحاشية ابن عابدين 6/768، وحاشية الفناري ص 81، 82، وشرح السراجية ص 78-81. 2 المهذب 2/31، ومغنى المحتاج 3/25، ونهاية المحتاج 6/28، والمجموع شرح المهذب 13/500، وأسنى المطالب 3/16، والسراج الوهاج ص 329. 3 انظر: روضة الطالبين 6/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وهو رواية عن الحنابلة1. قال ابن مفلح: "ولا يرث ذمي حربيا، ولا حربي ذميا، وذكره القاضي، وقاله أكثر أصحابنا، وذكره أبو الخطاب في التهذيب اتفاقا لانقطاع الموالاة بينهما"2 القول الثاني: أن اختلاف الدار لا أثر له في منع التوارث بين غير المسلمين، فالذمي يرث الحربي والعكس، والحربي يرث المستأمن في دار الإسلام، والعكس، والذمي يرث المستأمن في دار الإسلام، والعكس، لكن بشرط اتحاد الدين بين الوارث والمورث. وهو قول المالكية ووجه للشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب.3 الأدلة: أولا: أدلة الحنفية ومن وافقهم: استدلوا بالمعقول والقياس.   1 المغني 6/297، والفروع 5/51، وأحكام أهل الذمة 2/447. 2 انظر: المبدع لابن مفلح 6/234. 3 الشرح الصغير 1/360، وحاشية الدسوقي 2/186، وروضة الطالبين6/29، ومغنى المحتاج 3/25، وأسنى المطالب 3/16، والمغني 6/297، والمبدع 6/234، وكشاف القناع 4/478، والمقنع بحاشيته 2/450، والإنصاف 7/351، والعذب الفائض 1/36،37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 أ- دليلهم من المعقول: قالوا: إن الميراث مبناه على الولاية والمناصرة، وباختلاف الدار تنقطع الولاية والمناصرة بين المتوارثين، فينقطع بانقطاعها التوارث.1 ويرد عليه: بأن انقطاع الولاية بين الدارين لا أثر له في المنع من التوارث، فالكافر يرث الكافر حتى مع انقطاع الولاية بين داريهما.2 ب- دليلهم من القياس: قاسوا انقطاع التوارث بين غير المسلمين عند اختلاف الدار على انقطاع عصمة النكاح بين الزوجين عند تباين الدارين بينهما. قالوا: فكما أن الفرقة تقع بين الزوجين إذا اختلفت الدار بينهما لانقطاع الولاية، فكذلك يمنع التوارث بين الكفار عند تباين الدارين، لانقطاع الولاية بينهما.3 ويرد عليه: بأنه قياس غير صحيح، لآن أصل المقيس عليه غير مسلم به،   1 المبسوط 30/33، وتبيين الحقائق 6/240، وحاشية ابن عابدين 6/768، والاختيار 5/116، وروضة الطالبين 6/29، ومغنى المحتاج 3/25، والمغني 6/297، والمبدع 6/234، وأحكام أهل الذمة 2/444. 2 مغنى المحتاج 3/25، والمغني 6/297، وأحكام أهل الذمة 2/444. 3 المبسوط 30/33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 فاختلاف الدار لا أثر له في الفرقة بين الزوجين، كما سبق بيانه في المبحث الثالث من هذا الباب1، فكيف يصح القياس عليها!!؟. قال ابن قدامة في الرد على ما قاله الحنفية: "جعلهم اختلاف الدار ضابطا للتوريث وعدمه، لا نعلم في هذا كله حجة من كتاب ولا سنة، مع مخالفته لعموم النص المقتضي للتوريث"2 ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس. أ- دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 3 وجه الدلالة من الآية: أن الآية الكريمة دلت على أن الكافر ولي الكافر في أي مكان وجد، وفي أي زمان، والإرث مبني على المناصرة والموالاة، وطالما أنها موجودة بينهم فيرث أحدهم من الآخر مهما اختلفت ديارهم.4   1 صفحة 261. 2 المغني 6/297. 3 الأنفال: 73. 4 حاشية الدسوقي 2/186، ومغنى المحتاج 3/25، والمغني 6/297، والمبدع 6/234، وكشاف القناع 4/478، والعذب الفائض 1/36، 37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 2- قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} 1 وجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل من الناس موالي، يتولونه ويتولاهم، ومن بين هؤلاء الناس الكفار فهم أولياء بعض، يتناصرون ويتوارثون فيما بينهم وإن اختلفت ديارهم.2 ب- دليلهم من السنة: 1- بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" 3 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن أهل الملة الواحدة يتوارثون فيما بينهم، فالمسلم لا يرث إلا المسلم، ودل بمفهومه على أن الكفار يتوارثون فيما بينهم، فالكافر لا يرث إلا الكافر، فاشترط الحديث اتحاد الدين فقط، ولم يذكر اتحاد الدار، وعدم ذكره له دليل على عدم اعتباره في التوارث. 2- وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال   1 النساء: 33. 2 تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان 2/59، وأحكام أهل الذمة 2/442. 3 متفق عليه. وقد سبق تخريجه ص 559. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" 1 وجه الدلالة من الحديث: الحديث يدل بمفهومه على أن أهل الملة الواحدة يتوارثون فيما بينهم وإن اختلفت بينهم الدار.2 قال ابن القيم في وجه الدلالة منه: "ومفهومه يقتضي توارث أهل الملة الواحدة وإن اختلفت ديارهم"3 ج- دليلهم من المعقول: أن ضبط الشرع للتوارث بالملة، وهي الإسلام أو الكفر، دليل على أن المعتبر هو اتحاد الدين فقط دون غيره، لأن مقتضى التوريث قائم وموجود، وهو القرابة، فيجب العمل به ما لم يقم دليل على تحقق المانع.4   1 أخرجه أحمد 2/178، 195، وأبو داود 3/328، كتاب الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر؟ والترمذي 4/424، كتاب الفرائض، حديث 2108، عن طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه وابن ماجة 2/912 كتاب الفرائض حديث 2731. والدارقطني 2/75 بزيادة مختلفتين، وإسناده صحيح كما قال صاحب المحرر. انظر: المحرر في الحديث 2/526. وقال الألباني: "إسناده حسن"انظر: إرواء الغليل 6/120. 2 المغني 6/297، والمبدع 6/234، وكشاف القناع 4/478، ومطالب أولي النهى 4/649. 3 أحكام أهل الذمة 2/443. 4 كشاف القناع 4/478، وأحكام أهل الذمة 2/443، والمبدع 6/234، والمغني 6/297، والعذب الفائض 1/37، ومطالب أولي النهى 4/649. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 د - دليلهم من القياس: قاسوا عدم تأثير اختلاف الدار بين غير المسلمين في الميراث على عدم تأثيره بين المسلمين. فقالوا: إن المسلم يرث المسلم في أي مكان، ولا أثر لاختلاف الدار في ذلك، فكذلك الكافر يرث قريبه الكافر في أي مكان، ولا أثر لاختلاف الدار في ذلك.1 الرأي المختار: الذي أميل إليه في هذه المسألة أن اختلاف الدار لا أثر له في المنع من الميراث بين غير المسلمين، كما ذهب إلى ذلك المالكية والحنابلة في الصحيح، والشافعية في وجه، وذلك للأسباب الآتية: 1- لقوة الأدلة التي استدلوا بها، وهي العمومات من النصوص، التي تقتضي توريث غير المسلمين بعضهم من بعض من غير اشتراط اتحاد الدار فيما بينهم، ولأنه لم يرد من النصوص الأخرى ما يخصص هذا العموم، باشتراط اتحاد الدار لثبوت الإرث بين الكفار. 2- ولأن الأدلة التي استدل بها من خالفهم، من المعقول والقياس لا تقوى على تخصيص هذا العموم، ولا يصح أن يمنع بسببها التوارث بين الكفار لاختلاف الدار بينهم، فيجب العمل إذن بعموم النصوص التي   1 المغني 6/297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 دلت على أن الكفار بعضهم أولياء بعض، ويتوارثون بينهم حتى لو اختلفت ديارهم.1 وبناء على هذا الاختيار يمكن القول بأن هذا الحكم ينطبق على ديار الكفار في هذا الزمان، فالكافر الذي في دار الإسلام، سواء كان ذميا أو مستأمنا يرث قريبه الكافر الذي في دار الكفر، وكذلك الكافر الذي في دار الكفر يرث قريبه الذمي أو المستأمن في دار الإسلام، ولا أثر لاختلاف الدار في منعهم من الميراث، فيتوارثون فيما بينهم، اتفقت ديارهم أو اختلفت، علما بأن أكثر ديار الكفار في هذا الوقت توجد بينها وبين ديار المسلمين معاهدات واتفاقات دولية، والتي بسببها ربما تكون الولاية موجودة غير منقطعة بين الديار، أو بين الكفار أنفسهم.   1 المرجع السابق 6/297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 المطلب الثاني: أثره في ميراث المرتد وفيه فرعان: الفرع الأول: ميراث المرتد في دار الإسلام اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحدا بحال.1 أما مال المرتد في دار الإسلام فله حالتان: الحالة الأولى: فيما إذا ارتد وبقي في دار الإسلام، فإن أمواله توقف، فإن أسلم دفعت إليه بالإتفاق.2 الحالة الثانية: فيما إذا مات أو قتل على ردته، فهل يورث أم لا؟. اختلف الفقهاء في ذلك إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: المرتد إذا قتل أو مات على ردته وترك مالا ورثه عنه ورثته من المسلمين دون الكفار.   1 بدائع الصنائع 7/136، والشرح الصغير 2/513، ومغنى المحتاج 3/25، والعذب الفائض 1/34 2 المرجع السابق نفسه مع المبدع 6/234، والمغني 6/ 298، والإنصاف 7/ 348. إلا أن الحنابلة قالوا لو رجع مسلما قبل قسمة الميراث يرث ترغيبا له في الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وهو مروي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت في رواية رضي الله عنهم أجمعين والحسن البصري وسعيد بن المسيب والنخعي وجابر بن زيد، وعمر بن عبد العزيز، وحماد بن أبي سليمان، والحكم بن عتيبة، والأوزاعي، والثوري، والشعبي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهوية.1 وهو قول فقهاء الحنفية والحنابلة في رواية، إلا أن الإمام أبا حنيفة قال: "ما اكتسبه في حال الردة فهو فيء"2 القول الثاني: إذا مات المرتد أو قتل على ردته، وترك مالا لا يرثه ورثته المسلمون ولا الكفار، وماله يكون فيئا في بيت مال المسلمين. وهو مروي عن عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت في الرواية الأخرى رضي الله عنهم وابن أبي ليلي، وربيعة، وأبي ثور.3   1 مصنف عبد الرزاق 6/105، ومصنف ابن أبي شيبة 12/ 276، والأوسط لابن المنذر 2/136، والإشراف 2/249، والجامع لأحكام القرآن 3/49، والمغني 6/301، وأحكام القرآن للجصاص 2/102، والمحلى 9/305. 2 المبسوط 10/100، وبدائع الصنائع 7/138، وتبيين الحقائق 3/285، والاختيار 4/147، والرد على سير الأوزاعي ص 111/112، والمغني 6/300، والمبدع 6/234، والإنصاف 10/339، والمقنع بحاشيته 3/522. 3 مصنف عبد الرزاق 6/105، والأوسط 2/136، والتمهيد لابن عبد البر9/167، والمغني 6/298. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وهو قول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب.1 وبه قال الإمام أبو حنيفة فيما إذا كان المال مكتسبا بعد الردة.2 وهو قول الظاهرية في ماله الذي ظفر به المسلمون.3 القول الثالث: أن ماله إذا مات أو قتل على ردته، يرثه ورثته الكفار الذين اختار دينهم. وهو مروي عن قتادة وعلقمة4، وذهب إليه فقهاء الحنابلة في رواية5.   1 الكافي لابن عبد البر 2/1090، وبداية المجتهد 2/353، والتمهيد 9/167، والخرشي 8/66، والجامع لأحكام القرآن 3/49، والأم 4/291، وروضة الطالبين 6/30، ومغنى المحتاج3/25، وأسنى المطالب 3/ 16، والمغني 6/300، والمبدع 6/234، ومطالب أولي النهى 6/301، والعذب الفائض 1/34، وكشاف القناع 6/182. 2 بدائع الصنائع 7/138، وتبيين الحقائق 3/285، وحاشية رد المختار 4/347، والاختيار 4/147. 3 المحلى 9/304. 4 التمهيد لابن عبد البر 9/169، والمغني 6/301، وأحكام القرآن للجصاص 2/102. 5 المغني 6/301، والمبدع 6/234، والمسائل الفقهية 2/61، ومطالب أولي النهى 6/301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وهو قول الظاهرية في ماله الذي لم يظفر به المسلمون.1 الأدلة: أولا: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول. أ - دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 2 قال الجصاص في وجه الدلالة: "ظاهر هذه الآية يقتضي توريث المسلم من المرتد، إذ لم يفرق بين الميت المسلم والمرتد"3 2- وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 4 وجه الدلالة من الآية: دلت الآية بعمومها على توريث ذوي الأرحام بعضهم من بعض، ولم تفرق بين المرتد وغيره، لأن صلة الرحم بينه وبينهم باقية، فتكون سببا في بقاء ميراثهم منه.   1 المحلى 6/ 301. 2 النساء: 11. 3 انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/102. 4 الأنفال: 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 3- وبقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 1 قال السرخسي في وجه الدلالة: "والمرتد هالك، لأنه ارتكب جريمة استحق بها قتل نفسه فيكون هالكا"2 ب- دليلهم من السنة: بما روي عن أبي الأسود الدؤلي3 قال: أُتي معاذ بن جبل رضي الله عنه في رجل قد مات على غير الإسلام وترك ابنه مسلما فورثه منه معاذ وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام يزيد ولاينقص" 4 ج- دليلهم من المأثور: 1- بما روي عن علي رضي الله عنه أنه أتي بمستور العجلي، وقد ارتد، فعرض عليه الإسلام، فأبى فقتله، وجعل ميراثه بين ورثته من المسلمين.5   1 النساء: 176. 2 انظر: المبسوط 10 /100. 3 هو: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الديلي، ويقال الدؤلي، الكناني واضع علم النحو، ثقة، فاضل من التابعين، ولد سنة 1 قبل الهجرة، توفي سنة 69 بالبصرة، انظر: تقريب التهذيب 2/ 391، والأعلام 3/ 236. 4 أخرجه أبو داود 3/ 329، والبيهقي 6/ 254، واللفظ له. 5 أخرجه عبد الرزاق 10/339، والبيهقي 6/254، وابن منصور 1/101، وابن أبي شيبة 12/275، 276، والطحاوي 3/266، والدرامي 2/ 277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 2- وبما روي القاسم بن محمد، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ميراثه لورثته من المسلمين"1 3- وبما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه عند رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم من المسلمين.2 فهذه الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن ورثة المرتد من المسلمين هم أحق الناس بتركته3 د - دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن قرابة المرتد من المسلمين أولى بماله، لأنهم يدلونه بسببين: بالإسلام والقرابة، أما المسلمون من غير قرابته، فيدلون بسبب واحد، وذو السببين قدم في الاستحقاق على ذي سبب واحد، فكان الصرف إليهم أولى.4 الوجه الثاني: أن المرتد- لما لم يرثه أقرباؤه المشركون- وجب أن يرثه أقرباؤه   1 أخرجه عبد الرزاق 10/340، والبيهقي 6/255، والدرامي 2/277، والطحاوي 3/266. 2 ذكره ابن قدامة في المغني 6/301، ولم أجده في كتب الآثار التي اطلعت عليها. 3 بدائع الصنائع 7/138، والمسائل الفقهية 2/62، ونيل الأوطار 6/74. 4 المبسوط 10/101، وفتح القدير 4/391، وبداية المجتهد 2/353. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 المسلمون كالمسلم.1 الوجه الثالث: أن الردة ينتقل بها مال المرتد، فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين كما لو انتقل بالموت.2 ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول. أ- دليلهم من الكتاب: عموم الآيات التي نفت الولاية بين المؤمنين والكفار، والميراث مبناه على الولاية، فإذا انتفت، انتفى الميراث.3 كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 5 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ   1 المسائل الفقهية 2/62. 2 المغني 6/ 301. 3 التمهيد 9/ 167، والمغني 6/301. 4 النساء: 144. 5 الأنفال: 73. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 1 فهذه الآيات الكريمات، تنفي الولاية والمناصرة بين المؤمنين والكفار. والميراث مبناه على الولاية والمناصرة، فينتفي بانتفائها. ب- دليلهم من السنة: 1- حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 2 وجه الدلالة من الحديث: الحديث دل بوضوح على منع التوارث بين المسلم والكافر، والكافر والمسلم، والمرتد كافر، فلا يرث ولا يورث.3 2- وبحديث عمرو بن شعيب لا يتوارث أهل ملتين شتى.4 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على أن المرتد لا يرث ولا يورث لأنه كافر.5   1 الممتحنة: 1. 2 متفق عليه، وقد سبق تخريجه ص 382. 3 التمهيد 9/167، ومغنى المحتاج 3/25، والمغني 6/301، والمبدع 6/234، والمسائل الفقهية 2/62. 4 سبق تخريجه ص 382. 5 المغني 6/ 301، والجامع لأحكام القرآن 3/ 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 ج- دليلهم من المأثور: دليلهم من المأثور: بما روي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كتب إلى عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم يسألهما عن ميراث المرتد، فقالا: "لبيت المال"، قال الشافعي: "يعنيان أنه فيء"1 د- دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه: 1- أن المرتد بردته صار كافرا، ولا توارث بين المسلم والكافر. 2- أن الميراث مبناه على الموالاة، ولا موالاة بين المسلم والمرتد، فلا يرث أحدهما من الآخر. 3- أن ماله مال مرتد، سواء كسبه قبل الردة أو بعدها، فيكون فيئا، ولا يمكن جعله لأهل دينه، لأنه لا يرثهم فلا يرثونه، لأنه يخالفهم في الحكم2. ثالثا: أدلة أصحاب القول الثالث: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول.   1 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 254. 2 التمهيد 9/167، والمغني 6/301، والمبدع 6/234، ومغنى المحتاج 3/25، وكشاف القناع 6/182، والمسائل الفقهية 2/62. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 أ- دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1 وجه الدلالة من الآية: دلت الآية على أن الكفار أولياء بعض، والميراث مبناه على المولاة، والمرتد كافر، فورثته الكفار الذين اختار دينهم، هم أولى به فيرثونه ويرثهم.2 ب- دليلهم من السنة: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"3 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث بمفهومه على أن الكافر يرث الكافر، والمرتد كافر، فيجب أن يرثه ورثته من الكفار.4 ج- دليلهم من المعقول: أن المرتد يتفق دينه مع أقربائه الذين اختار دينهم ويجمعهم   1 الأنفال: 73. 2 المحلى 9/307. 3 سبق تخريجه ص 382. 4 المسائل الفقهية 2/92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 الضلال، فيتوارثون فيما بينهم كسائر الكفار.1 المناقشة: أولا: مناقشة أدلة أصحاب القول الأول: أ- بالنسبة لاستدلالهم بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 2 وقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} 3 يرد عليه: بأن العموم في هذه الآيات مخصص بحديث أسامة: "لا يرث المسلم الكافر"، والمرتد كافر، فلا يرثه ورثته من المسلمين.4 ب- أما استدلالهم بفعل معاذ رضي الله عنه استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يزيد ولا ينقص. فيرد عليه: بأن سماع أبي الأسود من معاذ بن جبل رضي الله عنه فيه نظر،   1 المغني 6/ 301، والمحلى 9/307، والمسائل الفقهية 2/62. 2 النساء:11. 3 الأنفال: 75. 4 التمهيد 9/167، ومغنى المحتاج3/25، والمغني 6/301، وأحكام القرآن للجصاص 2/102، 103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 والحديث فيه رواة مجهولون. وبهذا يضعف احتجاجهم به.1 وعلى فرض صحته، فلا دلالة لهم فيه، كما قال الإمام البيهقي: "وإن صح الخبر فتأويله غير ما ذهبوا إليه، لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن الإسلام في زيادة ولا ينقص بالردة"2 ج- مناقشة أدلتهم من المأثور: 1- استدلالهم بأثر علي رضي الله عنه يعترض عليه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الحفاظ لم يحفظوا عن علي رضي الله عنه أنه تعرض للمال، ويمكن أن يكون الذي زاد هذا غلط، وقد ضعف الإمام أحمد هذا الأثر.3 الوجه الثاني: وعلى فرض صحته، فلا حجة لهم فيه، لأنه معارض بقول ابن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وإذا وجد الخلاف، وجب النظر وطلب الحجة، والحجة قائمة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر" 4، قولا عاما مطلقا، والمرتد كافر لا محالة.5   1 السنن الكبرى 6/255، ومعالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 3/329. 2 انظر: السنن الكبرى 6/255. 3 الأم 4/73، 85، والتمهيد 6/167، والسنن الكبرى 6/254. 4 سبق تخريجه ص 382. 5 التمهيد 9/167، والأم 4/73، 85، والسنن الكبرى 6/254. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 الوجه الثالث: يحتمل أن يكون علي رضي الله عنه صرف مال المرتد إلى ورثته لما رأى أن المصلحة في ذلك، لجبر خاطر الورثة، لأن ما صرف إلى بيت المال من الأموال فسبيله أن يصرف في المصالح، وعلي رضي الله عنه كان إمام المسلمين، فله أن يتصرف في ماله كيف يشاء.1 2- أما الأثر المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ففيه مقال، لأن القاسم بن محمد لم يدرك جده، فروايته منقطعة، وكذلك الطريق الآخر الذي رواه عنه الحكم منقطع، لأنه لم يلق ابن مسعود رضي الله عنه وبهذا يضعف استدلالهم بهذا الأثر.2 3- أما الأثر المروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، فلا دلالة لهم فيه، لأن كتب الآثار المشهورة لم تذكره، فربما كان ضعيفا أو لا أصل له، ولأن زيد بن ثابترضي الله عنه زوى عنه بإسناد أقوى: أن مال المرتد يكون فيئا لبيت مال المسلمين.3 د - مناقشة دليلهم من المعقول: قولهم بأن المسلمين يستحقون ماله بالإسلام وحده، أما ورثته فيستحقونه بالإسلام والرحم.   1 التمهيد 9/167، والأم 4/73، 85، والسنن الكبرى 6/254. 2 السنن الكبرى 6/255. 3 السنن الكبرى 6/254. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 يرد عليه: بأن استحقاق المسلمين لمال المرتد، إنما هو عن طريق الفيء، لا كونه إرثا، وبهذا لا اعتبار للرحم هنا.1 وقولهم: بأن قرابة المرتد من المسلمين هم أحق بماله. يقال لهم: بأنه لا حق لهم في ماله، لأنه كافر، والكافر لا يرث ولا يورث2. أما قولهم بأن الردة ينتقل بها مال المرتد، فوجب أن ينتقل إلى ورثته من المسلمين. فيرد عليه: بأن انتقاله إلى بيت المال أولى، لأنه مال كافر والمسلم لا يرث الكافر.3 ثانيا: مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني: أ- استدلالهم بعموم الآيات التي نفت الولاية بين المؤمنين والكفار. يرد عليه:   1 التمهيد 9/167، والجامع لأحكام القرآن 3/49. 2 التمهيد 9/167، ومغنى المحتاج 3/25، والمبدع 6/234. 3 المغني 6/301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 بأن نفى الولاية في الآيات، لا يوجب نفي الميراث، لأن الولاية لا دخل لها في الميراث، ولأن الولاية المنهي عنها في الآيات، هي الولاية بين المؤمنين والكفار الأصليين. وعلى فرض أن لهم دلالة بهذا العموم، فيمكن أن يخرج المرتد من هذا العموم بفعل الصحابة رضي الله عنهم كعلي وابن مسعود، ومعاذ وزيد بن ثابت رضي الله عنهم الذين هم أعلم هذه الأمة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أن معاذا رضي الله عنه عندما ورث الابن المسلم من أبيه الذي مات على غير الإسلام استند في ذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يزيد ولا ينقص، ويبقى سائر الكفار تحت هذا العموم، فلا توارث بينهم وبين المسلمين، هذا إذا كان في هذه الآيات دلالة على نفي الميراث بناء على نفي الولاية.1 ب- أما استدلالهم بحديث أسامة على نفي التوارث بين المرتد وورثته من المسلمين. فيرد على ذلك: بأن الكافر الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، لم يبين لنا فيه أي كافر هو، حيث يحتمل أن يكون الكافر الذي له ملة، كما يحتمل أن يكون أي كافر ذا ملة أو غيرها، فلما احتمل ذلك لم يجز أن يصرف إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدليل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في   1 أحكام القرآن للجصاص 2/102، 103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 حديث عمرو بن شعيب: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"، فعلم بهذا أنهصلى الله عليه وسلم أراد الكافر ذا الملة، فلما رأينا الردة ليست بملة، رأينا أن المرتدين لا يرث بعضهم بعضا، لأن الردة ليست بملة، فيبقى التوارث بينهم وبين ورثتهم من المسلمين.1 ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الحديث نص صريح في منع التوارث بين المسلم والكافر، والكافر والمسلم، والمرتد سواء كان صاحب ملة، أو لم يكن، فهو كافر، بل كفره أغلظ وأشد، لأنه اطلع على الإسلام دون غيره من الكفار، فلهذا لا توارث بينه وبين ورثته من المسلمين، وماله يكون فيئا لبيت مال المسلمين. ج- أما استدلالهم بأثر ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. فيرد عليه: بأنه محمول على أن مال المرتد لبيت المال إذا لم يكن له ورثة يرثونه، أو أنه يوضع في بيت المال حتى يحصى ورثة المرتد، ثم يدفع إليهم، وعلى فرض ضعف هذا الاحتمال فهو لا يقوى على معارضة عموم الآيات السابقة، وهي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}   1 شرح معاني الآثار 3/265، 266، وأحكام القرآن للجصاص 2/102، 103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، التي دلت بعمومها على توريث المسلم من المرتد، لأن صلة الرحم بينه وبينهم باقية.1 ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الاحتمال الذي ذكروه ضعيف، لأن المسلم –كذلك- إذا لم يكن له ورثة وضع ماله في بيت مال المسلمين. د- مناقشة أدلتهم من المعقول: مما لا شك فيه أن المرتد بمجرد ردته أصبح كافرا، ولا يرث أحدا جزاءً له على ذلك، أما ورثته من المسلمين فلا ذنب لهم، وجناية المرتد على نفسه، لا على ورثته، لأنه ربما قصد بردته حرمانهم من الميراث وهذا فيه إضرار عليهم، ولأن ورثته المسلمين ربما كانوا فقراء يحتاجون إلى ماله الذي هم أحق به من غيرهم، فلماذا نحرمهم منه؟ أما الموالاة، فلا دخل لها في الميراث، لأن الموالاة المنهي عنها بين المسلم والمرتد، إنما محبته ومودته. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن المرتد كافر لا يرث ولا يورث، قصد حرمان الورثة أو لم يقصد، لحديث أسامة رضي الله عنه السابق.   1 أحكام القرآن للجصاص 2/102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 أما ورثته إذا كانوا فقراء فيصرف عليهم من بيت مال المسلمين، ولا يشفع لهم ذلك باستحقاق إرث المرتد. ثالثا: مناقشة أدلة أصحاب القول الثالث: أ- استدلالهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فيرد عليه: بأن الآية لا دلالة لهم فيها على أن المرتد يرثه ورثته من الكفار، لأن غاية ما دلت عليه الآية أن الكفار أولياء بعض يتناصرون فيما بينهم ويتوادون فيما بينهم، ولا دخل للولاية في الميراث. وعلى فرض أن الآية فيها دلالة على أن الكفار يتوارثون فيما بينهم، إنما يكون ذلك بين الكفار الأصليين أصحاب الملل، أما المرتد فلا ملة له، فبهذا لا توارث بينه وبين ورثته الكفار، ولأن ورثته من المسلمين لا يرثونه، الذين هم أحق الناس بماله، فحرمان ورثته الكفار من ميراثه من باب أولى. ب- أما استدلالهم بمفهوم حديث أسامة، على أن الكفار يتوارثون فيما بينهم. فهو وإن دل على ذلك، لكن المراد الكفار الأصليين، أما المرتدون فلا توارث بينهم. ج- أما قولهم بأن المرتدين يتوارثون فيما بينهم كسائر الكفار. فيرد عليه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 بأن حكم المرتد يختلف عن حكم الكافر الأصلي، إذ المرتد لا يقر عليه، ولا تحل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي، فدل على أنهما مختلفان، فلا يرثه الكافر الأصلي كما لا يرثه المرتد.1 الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء في مال المرتد، إذا مات أو قتل في دار الإسلام وأدلتهم، وما ورد عليها من إجابات واعتراضات، يتضح لي أن ما قاله الإمام أبو حنيفة من أن مال المرتد -إذا كان مكتسبا في حال الردة- فهو فيء لبيت مال المسلمين، وأما إذا كان مكتسبا قبل الردة فهو لورثته من المسلمين. هو الرأي المختار للأسباب الآتية: 1- لأن ماله بعد الردة مال كافر، والكافر لا يرث المسلم ولا يرثه المسلم، لأن حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه نص صريح في هذا، وهو مخصص لعموم الآيات السابقة. 2- أما ماله قبل الردة فهو مال مسلم، وورثته من المسلمين هم الأحق به من غيرهم لأنهم يدلون بسببين للإرث، هما الإسلام والقرابة. ولأن المرتد -وإن كان جانيا في ردته فهو على نفسه لا على ورثته من المسلمين الذين لا ذنب لهم في ذلك، وحرمانهم من ماله الذي اكتسبه قبل الردة فيه ضرر عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا ضرر ولا   1 المغني 6/ 301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 ضرار 1،فالمسلم الوارث لم يفعل من جانبه ما يستحق العقاب فلماذا نمنعه من الميراث؟. ولأن المرتد ربما ارتد لقصد حرمان الورثة من الميراث، ولكن تفاديا لهذا القصد السيئ، نقول بأنه ميراثه المكتسب قبل الردة يكون لورثته من المسلمين، سواء قصد حرمانهم أو لم يقصد. ولأن ورثة المرتد من المسلمين ربما كان لهم يد العون والمساعدة في ماله الذي اكتسبه قبل الردة، فهم أحق به من غيرهم، لأنهم ربما كانوا سببا في وجوده. ولأن مال المرتد المكتسب قبل الردة سواء قلنا بأنه لورثته من المسلمين أو لبيت المال، لا فرق، لأن مصيره إلى المسلمين، لكن الورثة منهم أحق به من غيرهم لقرابتهم منه. 3- ولأن في الأخذ بهذا الرأي جمعا بين الأدلة، والعمل بغالب الأدلة أولى من العمل ببعضها، وإهمال البعض الآخر.   1 أخرجه مالك في الموطأ ص409 وأحمد في المسند 1/313، وابن ماجة 2/784، والحاكم 2/57، والبيهقي 6/69، والدارقطني 3/77. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 الفرع الثاني: في ميراث المرتد إذا لحق بدار الحرب اختلف الفقهاء في مصير مال المرتد إذا لحق بدار الحرب إلى قولين: القول الأول: إذا لحق المرتد بدار الحرب، وقف ماله كما لو كان في دار الإسلام فإن أسلم، دفع إليه، وإن مات، صار فيئا لبيت مال المسلمين، إلا أن ماله الذي اكتسبه في دار الحرب، يكون مباحا كدمه. وهو قول جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.1 القول الثاني: أن المرتد إذا لحق بدار الحرب، حكم بموته، وزال ملكه عن أمواله، وصار لورثته من المسلمين، كما لو مات أو قتل على ردته. وهو قول فقهاء الحنفية، إلا أن الإمام أبا حنيفة، فرق بين ما اكتسبه قبل الردة وبعدها، فما كان قبلها فهو لورثته من المسلمين، وما كان بعدها فهو فيء لبيت مال المسلمين.   1 الخرشي 8/ 66، والتمهيد 9/167، وقوانين الأحكام الشرعية ص 394، والمجموع شرح المهذب 18/19، وروضة الطالبين 6/30، 10/80، والمهذب 2/286، ومغنى المحتاج 4/142، والمغني 6/302، والإنصاف 10/344، والمقنع بحاشيته 3/522، 523، وكشاف القناع 6/182،183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 استدل الجمهور بالمعقول، والقياس: دليلهم من المعقول: 1- أن المرتد حر من أهل التصرف ويبقى ملكه بعد إسلامه، فلم يحكم بزوال ملكه، كما لو لم يرتد.1 2- ولأن ذهاب المرتد إلى دار الحرب نوع غيبة، لا تؤثر في زوال ملكه عن أمواله.2 أما استدلالهم بالقياس، فكذلك من وجهين: 1- بالقياس على دار الإسلام، قالوا: فكما تكون أموال المرتد موقوفة إذا ارتد وبقي في دار الإسلام، فكذلك تكون أمواله في دار الإسلام موقوفة إذا لحق بدار الحرب، لأنه لم يمت ولم بقتل، ولا يورث ولا تكون أمواله فيئا لبيت مال المسلمين إلا بعد موته أو قتله على ردته.3 2- أما دليلهم على أن ما اكتسبه في دار الحرب يكون مباحاً القياس على الحربي، قالوا فكما تكون أموال الحربي مباحة في دار الحرب ولا عصمة له، فكذلك المرتد أمواله مباحة في دار الحرب، ولا عصمة له.4   1 المغني 6/303. 2 المبسوط 10/103. 3 المقنع بحاشيته 3/ 522- 523، والمبسوط 10/103. 4 الإنصاف 10/344. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 أدلة الحنفية: استدلوا على أن لحاق المرتد بدار الحرب بمنزلة موته، بالمعقول، والقياس. دليلهم من المعقول: أن المرتد بمجرد لحاقه بدار الحرب تنقطع عصمته، وتباح أمواله، سواء كانت في دار الحرب أو في دار الإسلام، لأن الولاية منقطعة بين دار الإسلام ودار الحرب.1 أما القياس: فهو قياسهم المرتد على الحربي. قالوا: إن المرتد إذا لحق بدار الحرب، صار حربيا حقيقة وحكما، لأنه قد أبطل حياة نفسه بدار الحرب حين لحق بها، وصار حربا على المسلمين، والحربي كالميت في حق المسلمين، لقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} 2، فكذلك المرتد يصير كالميت في حق المسلمين عند لحاقه بدار الحرب، فتزول أملاكه عن أمواله المتروكة في دار الإسلام، لأن زوال الملك عن المال بالموت حقيقة، لكونه مالا فاضلا عن حاجته لانتهاء حاجته بالموت، وعجزه عن الانتفاع به، وقد وجد هذا المعنى في اللحاق،   1 الاختيار 4/147. 2 الأنعام: 122. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 لأن المال الذي في دار الإسلام خرج من أن يكون منتفعاً به في حقه لعجزه عن الانتفاع به فكان في حكم المال الفاضل عن حاجته،، لعجزه عن قضاء حاجته به، فكان اللحاق بمنزلة الموت في كونه مزيلا للملك.1 الرأي المختار: قول الجمهور هو المختار، من أن اختلاف الدار لا أثر له في مال المرتد، إذا لحق بدار الحرب فإذا لم يمت أو يقتل على ردته في دار الإسلام أو في دار الحرب فماله الذي في دار الإسلام يبقى موقوفاً، سواء بقي في دار الإسلام أو لحق بدار الحرب، فإن أسلم دفعت إليه أمواله، وإن مات أو قتل تقسم بين ورثته من المسلمين على الاختيار السابق في الحالة الأولى من الفرع الأول. لأن المرتد إذا لحق بدار الحرب لم يزل حيا يرزق، فكيف نقسم أمواله بين ورثته من المسلمين وهو لم يمت، مع أن الميراث من شروطه تحقق موت المورث؟، وانقطاع الولاية والعصمة بين الدارين لا أثر له في مال المرتد الذي تركه في دار الإسلام، وإنما أثره في ماله الذي اكتسبه في دار الحرب، فهو مباح، لأنه بلحاقه بدار الحرب صار حربيا، والحربي لا عصمة له في دمه وماله، فكذلك المرتد الذي لحق بدار الحرب. وقياسهم اللحاق بدار الحرب على الموت قياس مع الفارق، لأن الموت مزيل للأملاك وبه يتحقق الميراث، أما اللحاق بدار الحرب فلا يزيل الأملاك ولا يتحقق به الميراث. وبهذا لا يصح قياس اللحاق على الموت.   1 بدائع الصنائع 7/137، والمبسوط 10/103، والاختيار 4/147. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وبهذا يتضح أن اختلاف الدار لا أثر له في مال المرتد الذي تركه في دار الإسلام، وإنما أثره في ماله الذي اكتسبه في دار الحرب فهو مباح كدمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 المبحث الثاني: أثره في الوصية 1 للحربي إن الإنسان الذي أعطاه الله المال قد يفوته الشيء الكثير من فضائل الخير وعمل الصالحات، غرورا منه بطول الأجل، وقد تفجأه المنية قبل أن يؤدى ما وجب عليه ويقوم بما أمر به، فكان من حكمة الشارع أن شرع الوصية، ليتمكن المرء من تدارك ما فاته من خصال الخير وفضائل الأعمال التي تعود عليه، وعلى أفراد مجتمعه بالخير الكثير والنفع الكبير، ففي الوصية صلة الرحم للأقربيين غير الوارثين، وفيها توسعة على أصحاب الحاجات من الفقراء والمساكين، فلهذه العواقب الحسنة وغيرها كثير، شرع الله الوصية، وقد ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة. فدليل مشروعيتها من الكتاب قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} 2   1 الوصية في اللغة هي: الجعل والأمر، تقول أوصيت إليه بمال، جعلته له، وأوصيته بالصلاة: أمرته بها. انظر: المصباح المنير 2/ 662. أما الوصية شرعا: فهي تمليك بحق مضاف لما بعد الموت. انظر: تبيين الحقائق 6/182، وحاشية الدسوقي 4/422، ومغنى المحتاج 3/39، وكشاف القناع 4/335. 2 البقرة: 180. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على مشروعية الوصية لمن ترك مالا بعد موته. أما دليل مشروعيتها من السنة: فحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد يوصي فيه يبيت ليلتين إلا وصيته عنده" 1 فالحديث ظاهر الدلالة على مشروعية الوصية لمن له مال يريد أن يوصى به بعد مماته.2 ولا خلاف بين الفقهاء في جواز وصية المسلم للمسلم، وغير المسلم لمثله، كوصية الذمي للذمي، والمستأمن للمستأمن للأدلة السابقة.3 أما وصية المسلم لغير المسلم، فلا يخلو غير المسلم، إما أن يكون ذميا أو حربيا، فإن كان الموصى له ذميا فلا خلاف بين الفقهاء في صحة الوصية له.4   1 أخرجه البخاري 2/124 كتاب الوصايا، ومسلم 3/1249 كتاب الوصية حديث 1627. 2 معالم السنن مع سنن أبي داود 3/282. 3 بدائع الصنائع 7/341، ومواهب الجليل 6/365، ومغنى المحتاج 3/39،43، والمغني 6/103، والمبدع 6/100. 4 بدائع الصنائع 7/341، وتبيين الحقائق 6/183، وبلغة السالك2/، وجواهر الإكليل 2/317، والمهذب 1/589، ومغنى المحتاج3/43، والمغني 6/103، والإنصاف 7/ 298، إلا أنه لا تصح الوصية للذمي بما لا يصح تملكه له كالعبد المسلم والمصحف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 قال ابن حزم: "الوصية للذمي جائزة ولا نعلم في هذا خلافا"1 والدليل على ذلك: قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2 فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية لم ينه المسلمين عن بر الذميين والإقساط إليهم. والوصية لهم من البر فكانت جائزة.3 وقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} 4. قال بعض العلماء: "هو- أي المعروف وصية المسلم لليهودي والنصراني"5. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "في كل كبد رطبة أجر" 6، فالحديث يدل بعمومه على   1 انظر: المحلى لابن حزم 9/322. 2 الممتحنة: 8. 3 بدائع الصنائع 7/341، وتبيين الحقائق 6/183. 4 الآية 6 من سورة الأحزاب. 5 المغني 6/ 103، والمقنع بحاشيته 2/ 367. 6 أخرجه البخاري 2/52، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء. ومسلم 4/1761 كتاب السلام، حديث 2244 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 جواز الوصية للذمي، لأن الوصية له إذا كان محتاجا أو فقيرا من الأجر1، ولأن الوصية من باب تقديم المعروف إليهم، وهذا جائز، ولأنه تصح له الهبة فصحت الوصية له كالمسلم.2 وكذلك اتفقوا على صحة وصية الذمي للمسلم، إلا بشيء لا تجوز الوصية به كالخمر والخنزير ونحو ذلك كالوصية للكنائس.3 والدليل على ذلك: أن وصية المسلم للذمي جائزة بالاتفاق، فجوازها من الذمي للمسلم من باب أولى. ولأن الكفر لا ينافي أهلية التمليك، ألا ترى أنه يصح بيع الكافر وهبته فكذا وصيته. ولأن الوصية من الذمي للمسلم عطية من مالك يملكها ملكا تاما، ولم يوجد هناك مانع فتكون جائزة لصدورها من أهلها في محلها.4   1 المحلى 9/322. 2 بدائع الصنائع 7/341، والمغني 6/103، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353. 3 بدائع الصنائع 7/335، وتبيين الحقائق 6/183، وحاشية ابن عابدين 6/655، والخرشي 8/168، وقوانين الأحكام الشرعية ص439، ومغنى المحتج 3/39، وتحفة المحتاج 7/13، والمغني 6/103، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353. 4 بدائع الصنائع 7/335، والمقدمات الممهدات 9/350، وتبيين الحقائق 6/183، والمغني 6/103، 104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 هذا إذا كان الموصى له ذميا، أما إذا كان حربيا، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الحربي مستأمنا في دار الإسلام. وفي هذه الحالة اختلف الفقهاء في صحة الوصية له من المسلم أو الذمي إلى قولين: القول الأول: تصح الوصية من المسلم والذمي للمستأمن الحربي في دار الإسلام. وهو قول الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية في رواية 1. القول الثاني: لا تصح وصية المسلم والذمي للمستأمن في دار الإسلام. وبه قال سفيان الثوري والحنفية في رواية.2   1 مواهب الجليل 6/365، وقوانين الأحكام الشرعية ص 439، والخرشي 8/168، والمهذب 1/589، ومغنى المحتاج3/43، وحاشية الجمل4/43، والمغني 6/104، والمبدع 6/ 32، وكشاف القناع 4/353، وبدائع الصنائع 7/341، والمبسوط 28/93، والهداية 4/257. 2 مصنف ابن أبي شيبة 11/231، والمبسوط 28/93، وبدائع الصنائع7/341، وتبيين الحقائق 6/183، والهداية 4/257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 الأدلة: أولا: أدلة الجمهور على جواز الوصية للمستأمن الحربي: استدلوا بنفس الأدلة السابقة التي دلت على جواز الوصية للذمي. وقالوا: إن المستأمن ما دام في دار الإسلام فهو كالذمي، والوصية تجوز للذمي فكذلك المستأمن. وكون الذمي من المقيمين في دار الإسلام إقامة مؤبدة، والمستأمن من المقيمين فيها إقامة مؤقتة، لا أثر له في جواز الوصية، ولكونها تمليكا كسائر عقود التمليكات الجائزة، كالبيع والإجارة.1 ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بما يلي: 1- أن المستأمن وإن كان في دار الإسلام إلا أنه من أهل الحرب، ويمكنه الرجوع إلى داره في أي وقت شاء، ولا يتمكن من إطالة المقام في دار الإسلام، وما دام أنه من أهل دار الحرب، فلا تصح الوصية له، لأن اختلاف الدارين له تأثير في انقطاع العصمة والموالاة.2 2- ولأن الوصية للحربي مستأمنا كان أو غيره فيها إعانة له على المسلمين، وإعانة الحربي لا تجوز.3   1 بدائع الصنائع 7/335، 341، والهداية 4/257، ومجمع الأنهر 2/717، والخرشي 8/168، ومغنى المحتاج 3/43، والمغني 6/104. 2 المبسوط 28/93. 3 بدائع الصنائع 7/341، وتبيين الحقائق 6/183، والهداية 4/257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وأجابوا عن دليل الجمهور: أن قياسهم المستأمن على الذمي قياس مع الفارق. لأن الذمي من أهل دار الإسلام، والمستأمن من أهل دار الحرب، فالوصية له فيها ضرر على المسلمين، لأنه ربما أعان بها أهل داره عليهم، بخلاف الوصية للذمي. ولأن القصد من الوصية منفعة الموصى له، والمستأمن الحربي لا تأمن عداوته، فكيف يوصي المسلم لعدوه لينتفع بوصيته ضده؟.1 والذي أختاره هو: عدم صحة الوصية للمستأمن الحربي لا من المسلم ولا من الذمي، لأنه من أهل دار الحرب، وقد يعين أهل داره بما يوصي له به من أهل دار الإسلام. ولأن القصد من الوصية منفعة الموصى له، ولا يتوقع من المستأمن أن يصرف الوصية فيما ينفع المسلمين، بل ربما صرفها فيما يضرهم. ولأن في الوصية له تمكين له من الكيد والإيقاع بالمسلمين، فالوصية للمستأمن الحربي، لا يأتي من ورائها غالبا إلا الضرر بالمسلمين. فمن أجل هذه المضار التي تنتج من وراء الوصية للمستأمن الحربي أقول: بأن الأولى أن لا يوصي له من قبل المسلمين والذميين. أما إذا أمن جانب الضرر من قبل المستأمن، وكان في ذلك مصلحة كتأليفه للإسلام، وحاجته للمال، كأن يكون فقيرا فلا بأس   1 المبسوط 28/ 93، والهداية 4/257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 بالوصية له، لأن في كل كبد رطبة أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.1 أما وصية الحربي للمسلم أو الذمي، فلا خلاف بين الفقهاء في جوازها2. الحالة الثانية: أن يكون الموصى له حربيا غير مستأمن. وفي هذه الحالة اختلف الفقهاء أيضا في صحة الوصية له من المسلم أو الذمي إلى قولين: القول الأول: لا تصح الوصية من المسلم والذمي للحربي غير المستأمن. وهو مروي عن سفيان الثوري.3 وهو قول فقهاء الحنفية، ورواية للمالكية، ووجه للشافعية، ورواية عن الحنابلة.4   1 سبق تخريجه ص 425. 2 الهداية 4/257، وبدائع الصنائع 7/335، ومواهب الجليل 6/365، والمهذب 1/589، وتحفة المحتاج 7/13، والمغني 6/104، والمبدع 6/32. 3 مصنف ابن أبي شيبة 11/231. 4 بدائع الصنائع 7/341، والمبسوط28/93، والجوهرة النيرة 2/391، وتبيين الحقائق 6/183، ومجمع الأنهر 2/193، وحاشية رد المختار 6/655، وبلغة السالك 2/466، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4/426، ومغنى المحتاج 3/43، والمهذب 1/589، وتحفة المحتاج 7/13، وأسنى المطالب 3/32، والإنصاف 7/221، 222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 القول الثاني: تصح الوصية للحربي غير المستأمن من المسلم أو الذمي. وهو قول المالكية في المشهور، وأصح الأوجه عند الشافعية، والحنابلة قي ظاهر المذهب.1 الأدلة: أولا: أدلة المانعين من الوصية للحربي غير المستأمن: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول. أ- دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2   1 مواهب الجليل 6/356، والخرشي على مختصر خليل 8/168، وقوانين الأحكام الشرعية ص 439، والمهذب 1/589، وحاشية الجمل 4/42، ومغنى المحتاج 3/43، وحاشيتي قليوبي وعميرة 3/159، والمغني 6/104، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353، والمقنع بحاشيته 2/367، والإنصاف 7/298. 2 الآيتان 8،9 من سورة الممتحنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وجه الدلالة من الآية: دلت الآية على جواز البر لأهل الذمة، لأنهم ليسوا من أهل قتالنا، وعدم جوازه للحربيين لأنهم ممن يقاتلنا، والوصية نوع من البر فلا تجوز لهم.1 ب - دليلهم من السنة: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 2 وجه الدلالة من الحديث: يدل الحديث على أنه لا توارث بين المسلم والكافر، والوصية فيها شبه بالميراث فلا تصح للكافر الحربي.3 ج- دليلهم من المعقول من أربعة أوجه: 1- أن في جواز الوصية من المسلمين والذميين للحربيين تقوية وإعانة لهم على حرب المسلمين، والضرر بهم وهذا غير جائز.4 2- أن القصد بالوصية نفع الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربي،   1 المبسوط 28/93، وتبيين الحقائق 6/183، والمقدمات الممهدات 9/355. 2 سبق تخريجه ص 382. 3 الجوهرة النيرة 2/391، والمقدمات الممهدات 9/355. 4 تبيين الحقائق 6/183، وحاشية رد المختار 6/655، وبدائع الصنائع 7/341. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وأخذ ماله، فلا معنى للوصية له.1 3- ولأن المسلم والذمي من أهل دار الإسلام، أما الحربي فهو من أهل دار الحرب، فاختلف الدار بينهما، وباختلافها تنقطع العصمة والموالاة، والوصية مبناها على ذلك فلا يصح.2 4- ولأن الحربي في داره كالميت في حقنا، والوصية للميت باطلة.3 ثانيا: أدلة المجيزين الوصية للحربي: استدلوا بالسنة، والقياس. أ- دليلهم من السنة: 1- بحديث ابن عمر رضي الله عنهما رأى عمر حلة4 على رجل تباع فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءت الوفد، فقال: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر: كيف   1 المهذب 1/589، ومغنى المحتاج 3/43، وحاشية رد المختار 6/655، والجوهرة النيرة 2/391. 2 المبسوط 28/93. 3 حاشية رد المختار 6/655. 4 الحلة: بضم الحاء جمع حلل وحلال، وهي الثوب الجديد الجيد. انظر: معجم لغة الفقهاء ص 184. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال إني لم أكسكها لتلبسها، تبيعها أو تكسوها، فكساها عمر أخا له بمكة مشركا"1 وجه الدلالة من الحديث: دل الحديث على جواز صلة المشركين الحربيين بالهدية لهم والبر بهم، لأن عمر رضي الله عنه أهدى الحلة لأخيه وكان مشركا بمكة، وكانت حينذاك دار حرب، وبما أن الوصية نوع من أنواع الصلة، فهي جائزة لهم2. 2- وبحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة3 أفأصل أمي؟ قال: "نعم صلي أمك" 4 وجه الدلالة من الحديث:   1 أخرجه البخاري 2/95، كتاب الهبة، باب الهدية للمشركين. 2 المغني 6/104، والمبدع 6/32، وكشاف القناع 4/353، والمقنع بحاشيته 2/367. 3 وهي راغبة: قيل معناها: أنها راغبة في شيء تأخذه من أسماء وهي على شركها، وقيل: المعنى أنها راغبة في دينها، أو راغبة في القرب من مجاورتها والتودد منها، وقيل: معناها هاربة من قومها. انظر: فتح الباري 5/ 234. 4 أخرجه البخاري 2/66، كتاب الهبة باب الهدية للمشركين، واللفظ له ومسلم 2/696، كتاب الزكاة، حديث 1003. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 دل الحديث على جواز صلة المشرك الحربي، لأن أسماء أعطت أمها وهي مشركة حربية والوصية نوع من أنواع الصلة فتجوز للحربي.1 ب - دليلهم من القياس: 1- قياس تمليك الوصية للحربي على جواز تمليكها للذمي والمستأمن.2 2- قياس جواز الوصية للحربي على جواز الهبة له. قالوا قد حصل الإجماع على صحة الهبة للحربي، فكذلك تصح الوصية له، لأنها في معناها بجامع أن كلا منهما تمليك بلا عوض.3 المناقشة: أولا: مناقشة أدلة المانعين: أ- استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ... } الآية.4 يرد عليه: بأن النهي في الآية المراد به النهي عن تولي أهل الحرب، ومودتهم   1 المغني 6/104، والمبدع 6/32. 2 المهذب 1/589. 3 المغني 6/104،والمبدع 6/32، وكشاف القناع 2/353، والمقنع بحاشيته 2/367. 4 الممتحنة: 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 ولم تتعرض الآية للنهي عن البر والوصية لهم، فلا دلالة فيها على منع الوصية.1 وأجيب عن ذلك: بأنه كما دل أول الآية على جواز البر لمن لم يقاتل المسلمين من الكفار، وهم الذمييون وهذا بالاتفاق، فقد دل آخر الآية على عدم جواز بر من يقاتل المسلمين من الكفار وهم الحربيون، مع النهي عن موالاتهم ومحبتهم، والبر والوصية لهم من محبتهم ومودتهم فلا تجوز لهم. ب- أما حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه فلا دلالة لهم فيه على منع الوصية للحربيين، لأن غاية ما يدل عليه الحديث هو منع التوارث بين المسلمين والكفار، والعكس، ولم يمنع من الوصية للحربي، ولم يتطرق إلى ذكرها. وأجيب عن ذلك: بأن المنع من التوارث بين المسلمين والكفار، قد يتناول المنع من الوصية لهم، وبخاصة الحربيين، لأن الوصية قرينة الميراث، ولأن كلا منهما تمليك مضاف إلى ما بعد الموت. ج- مناقشة أدلتهم من المعقول: يرد عليها: بأن هذه الأدلة محمولة على عدم جواز الوصية للحربي إذا خيف   1 المغني 6/104، وكشاف القناع 4/353، والمقنع بحاشيته 2/367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 منه ولم يؤمن جانبه من الإضرار بالمسلمين، فحينئذ لا تجوز الوصية له. أما إذا أمن جانبه من عدم الإضرار بالمسلمين، فلا بأس بالوصية له، لأنه ربما كانت هناك مصلحة بسببها كتأليفه للإسلام، ودخوله فيه ومن ثم إعانته المسلمين وتقويتهم. وأجيب عن ذلك: بأن الحربي لا يؤمن غالبا، فإضراره بالمسلمين يتوقع منه في أي لحظة فلذلك لا تجوز الوصية له، حتى لا تكون سببا له في إعانة أهل داره وتقويتهم على المسلمين. ثانيا: مناقشة أدلة المجيزين الوصية للحربي: أ - مناقشة استدلالهم بالسنة: 1- بالنسبة لاستدلالهم بحديث ابن عمر رضي الله عنهما. يرد عليه: بأنه لا دلالة لهم في هذا الحديث، لأنه غاية ما دل عليه الحديث هو جواز الهدية للمشركين، وبالأخص القريب منهم، لأن الموهوب كان أخا للواهب، وهذا ما فهمه الإمام البخاري رحمه الله حيث بوب لهذا بجواز الهدية للمشركين، والهدية غير الوصية، لأن الهدية تكون في حال الحياة، وبهذا لا يمكن أن نلحق الضرر بالمسلمين، أو يعين بها قومه ضد المسلمين. أما الوصية فهي تمليك مضاف لما بعد الموت، وغالبا ما تكون بالمال، فإلحاق الضرر بالمسلمين بسببها ممكن وإعانة أهل داره وتقويتهم على المسلمين متوقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وأيضاً قياسهم الوصية للحربي على الهدية والهبة له قياس مع الفارق لأن الوصية تخالف الهدية كما سبق. وفاسد الاعتبار، لأنه في مقابلة النصوص الصريحة التي نهت عن بر من يقاتل المسلمين من الكفار، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1 وكذلك حديث أسماء رضي الله عنها لا دلالة لهم فيه على جواز الوصية للحربي، لن الحديث الوارد في جواز الصلة والهدية للمشرك القريب، لأن الموهوبة أم الواهبة، ولم يتطرق إلى ذكر الوصية، وقياسها على الهدية مع الفارق، كما سبق، ويمكن أن يحمل الحديث على فرض أنه يدل على جواز الوصية للحربي، على أن أسماء رضي الله عنها فعلت ذلك لوجود المصلحة، كتأليف أمها للإسلام، ومن ثم دخولها فيه، وبهذا ينتفي الضرر المتوقع منها. وبهذا يضعف احتجاج المجيزين الوصية للحربي بهذين الحديثين. ب - أما قياسهم جواز الوصية للحربي على جوازها للذمي. فيرد عليه: بأنه قياس نع الفارق، لأن الذمي من أهل دار الإسلام، تجري عليه الأحكام الإسلامية العامة، ويدفع الجزية عن ذل وصغار، بخلاف الحربي   1 الآية 9 من سورة الممتحنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 فإنه من أهل دار الحرب، ولا تجري عليه الأحكام الإسلامية، وأيضا جواز البر لأهل الذمة والوصية لهم هذا ثابت بالاتفاق، لورود النصوص الصحيحة الدالة على ذلك كما سبق. أما الحربي فإن النصوص دلت على عدم جواز بره والوصية له، لأن ذلك من مودته وموالاته، وقد نهينا عن ذلك، وبهذا يخالف الذمي. وأيضا الوصية للذمي لا يتوقع منها الضرر على المسلمين، بخلافها للحربي فضررها متوقع، لأنه من أعداء المسلمين، وفي الوصية إعانة وتقوية له على حرب المسلمين، وبهذا لا يصح قياس الحربي على الذمي في الوصية أو غيرها للفارق الكبير بينهما، وبهذا يضعف استدلالهم بهذا القياس. 2- وكذلك قياسهم الوصية على الهبة والهدية، قياس مع الفارق، لأن الهبة غير الوصية، فالهبة تكون في حال الحياة بخلاف الوصية فإنها عهد مضاف لما بعد الموت، والهدية غالبا ما تكون بغير المال فضررها غير متوقع، وعلى عكس منها الوصية، وبهذا يضعف استدلالهم أيضا بهذا القياس. الرأي المختار: وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها، اتضح لي أن القول بمنع الوصية للحربي هو الرأي المختار، وذلك للأسباب الآتية: 1- لقوة الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا الرأي، كالآية الكريمة وغيرها من الأدلة السابقة، بخلاف أدلة المجيزين، فأحاديثهم وإن كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 صحيحة إلا أنه لا دلالة لهم فيها على جواز الوصية للحربي، وغاية ما تدل عليه هو جواز الهدية للمشركين، والهدية خلاف الوصية. 2- ولأن الوصية المقصد الحقيقي منها هو منفعة الموصى له، طلبا للأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى والحربي أمرنا بقتله وأخذ ما له تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، فلا معنى للوصية له. 3- ولأن الوصية للحربي فيها إعانة له على الضرر بالمسلمين وتقوية أهل داره عليهم. 4- ولأن الوصية للحربي قد تكون ذريعة الإحسان إليه، ومحبته، وموالاته، وقد نهينا عن ذلك، وبهذا لا تجوز الوصية له. 5- ولأن الوصية يفعلها الإنسان في الغالب لاستدراك ما فاته من الأعمال الصالحة، ولم يفت المسلم شيئا يستدركه بعدم وصيته للحربي. وبناء على هذا الاختيار نقول: إن هذا الحكم وهو عدم جواز الوصية للحربي في دار الحرب، ينطبق على دار الكفر في هذا الوقت، فلا تجوز وصية المسلم للكافر فيها، لأنه من أعداء المسلمين، والوصية له معناها محبته ومنفعته، وكيف يعقل أن يحسن وينفع المسلم عدوه ليتقوى عليه. وأيضا بناء على هذا الاختيار، يتضح أنه لا أثر لاختلاف الدار في الوصية للحربي، فكما لا تجوز الوصية له في دار الإسلام، فكذلك لا تجوز له في دار الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 إلا إذا كان مستأمنا في دار الإسلام، وأمن جانبه من عدم إلحاق الضرر بالمسلمين، وكانت هناك مصلحة كتأليفه للإسلام، لأنه ربما دخل فيه وأصبح عونا للمسلمين. ففي هذه الحالة لا بأس بجواز الوصية له، وبهذا يؤثر اختلاف الدارين في الوصية المستأمن الحربي، فتجوز له في دار الإسلام بالشرط السابق، أما في داره، دار الكفر فلا تجوز مطلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 الخاتمة وبعد أن منّ الله عليّ بإتمام هذا البحث ألخص فيما يلي أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال دراستي لهذا البحث - وهي: 1) أن الجهاد بمعناه العام هو بذل الوسع والطاقة في مجاهدة الأعداء كالنفس والشيطان، والكفار، والمنافقين وهو فرض عين على كل فرد من أفراد الأمة، ولا ينوب في جهاد النفس والشيطان أحد عن أحد. 2) أن تعريف الجهاد بمعناه الخاص هو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله ونشر دينه وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريف الجهاد فهو تعريف شامل لكل أنواع الجهاد فيشمل جهاد الإنسان لنفسه، وجبرها على طاعة الله، وجهاد الشيطان الذي هو ألد أعداء المسلمين، وجهاد الكفار في سبيل نشر الدين الإسلامي. 3) أن الجهاد بمعناه الخاص وهو جهاد الكفار فرض كفاية، إذا قامت به طائفة من المسلمين قياما كافيا سقط الإثم عن الباقين وإلا أثموا جميعا. ولا يكون الجهاد بمعناه الخاص فرض عين إلا في ثلاثة مواضع: أ- إذا هجم الأعداء على بلاد المسلمين، ونزلوا بها، تعين على كل فرد من أفراد المسلمين جهادهم، ودفع ضررهم. ب- إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، تعين على كل فرد من المسلمين الثبات أمام الأعداء، ويحرم عليه الفرار من أمامهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ج-إذا عين إمام المسلمين قوما للجهاد، واستنفرهم لذلك، وجب عليهم أن يطيعوه وينفروا إلا من له عذر قاطع. 4) أن الجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمته، ونشر دينه، يعد من أفضل الأعمال بعد فروض الأعيان، لأن المجاهد يضحي بأغلى ما يملك، وهي نفسه العزيزة المحبوبة إليه، ويجود بها وهذا أقصى غاية الجهود، كل ذلك لتكون كلمة الله هي العليا مع نيل ما أعده الله للمجاهدين، في الدنيا من النصر والغنيمة، وفي الآخرة بالجنة التي هي من أهم وأعظم جزاء يعده الله سبحانه وتعالى لعباده المجاهدين في سبيله. 5) أن الله سبحانه وتعالى له الحكم التام، والحكمة البالغة فيما خلقه وشرعه، وقد شرع الله الجهاد لحكم كثيرة من أهمها إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، ورفع رايته ونشر دينه في جميع أنحاء الأرض، فلم يشرع الله الجهاد لحب الغلبة أو الشهرة، أو التسلط أو الانتقام. وكذلك شرع الجهاد لرد أي اعتداء واقع على دار الإسلام من قبل الأعداء ولإنقاذ المستضعفين والمظلومين من المسلمين، الذين يعيشون تحت سلطان دولة ظالمة غير مسلمة. وكذلك شرع الجهاد لإرهاب الأعداء وإذلالهم، وكيدهم وإغاظتهم ولتربية النفوس المؤمنة على الصبر والثبات، والطاعة والقوة، وبذل النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله. وكذلك شرع الجهاد لمنع الفتن التي قد تحدث داخل المجتمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 الإسلامي من قبل المسلمين أنفسهم، فتهدد أمانه، وكيانه ونظامه، كالردة، والبغي، والحرابة. 6) أن الشريعة الإسلامية منذ نشأتها اتخذت العقيدة الإسلامية أساسا لبناء المجتمع وإقامة الدولة وتقسيم الناس، وعلى هذا الأساس الذي قامت عليه صار الناس في نظرها صنفين، مسلمين، وغير مسلمين، وصارت الأرض تنقسم إلى دارين: دار الإسلام، وهي الدار التي يتسلط عليها المسلمون وتغلب فيها أحكامهم، فالشرط الأساسي لاعتبار الدار دار إسلام هو كونها محكومة بحكم الشريعة الإسلامية وتحت سيادة المسلمين وسلطانهم، ولا يشترط أن يكون سكان هذه الدار كلهم أو معظمهم من المسلمين ما دام السلطان فيها للمسلمين، وتجري فيها أحكامهم. وهذه الدار يسكنها نوعان من الناس المسلمون وهم أهلها وأصحاب الحل والعقد فيها، وغير المسلمين وهم الذميون الذين ارتبطوا مع الدولة الإسلامية بعقد الذمة، ويقيمون فيها إقامة مؤبدة ويدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون ويلتزمون لأحكام الشريعة الإسلامية العامة، كل ذلك من أجل الإطلاع إلى محاسن الإسلام، وآدابه السامية، وأنه أصلح الأديان على وجه الأرض، والذي يجب أن يعتنقه جميع البشر، وليس المقصود من عقدها هو تحصيل المال فحسب، وكذلك المستأمنون الذين يقيمون فيها إقامة مؤقتة فهم من سكانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 7) أن الجزية وضعت صغارا وإذلالاً للكفار، وما قيل من أن الصغار في الآية ليس هو الذل والهوان، وإنما تؤخذ الجزية منهم برفق كأخذ الدين فهذا غير صحيح، لأن الذل والهوان هو المعنى الدائم للصغار ولا ينفك عنه أبدا. 8) وقد اخترت أن عقد الذمة لا يعقده إلا الإمام أو نائبه، لأنه من العقود المهمة التي تحتاج إلى سعة نظر، وحسن تدبير وهذا في الغالب لا يوجد إلا في الإمام أو نائبه كما اخترت أن عقد الذمة يجوز لجميع أصناف غير المسلمين ولا يختص بأهل الكتاب فقط، وهذا من أكبر الدلائل على سماحة الشريعة الإسلامية مع غير المسلمين واتساع نطاقها لهم. 9) أن من أهم الحقوق التي تجب لأهل الذمة الوفاء بالعهد لهم، والمحافظة على أرواحهم، وأعراضهم وأموالهم، وحمايتهم من أي اعتداء يقع عليهم من قبل المسلمين أو من غيرهم. ومن أهم الواجبات التي تجب عليهم الالتزام للأحكام الإسلامية العامة وبذل الجزية عن ذل وصغار، وعدم التعرض للمسلمين بما فيه إهانة لدينهم أو ارتكاب الجرائم في دارهم، وأن لا يعينوا أعداءهم من أهل الحرب، أو يأووا جاسوسهم. 10) أن من أصناف أهل العهد أهل الأمان، وهم في الغالب المستأمنون الذين يدخلون دار الإسلام بأمان لغرض ما، كتجارة وصناعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وحرفة وغيرها، ويقيمون فيها إقامة مؤقتة وكذلك يطلق الأمان على المسلم الذي يدخل ديار الكفار بأمان. ولا يعقد الأمان العام مع غير المسلمين إلا الإمام أو نائبه، أما الخاص فيعقده أي فرد من أفراد الرعية، متى توافرت فيه الشروط كالإسلام والعقل والبلوغ. ومع أني اخترت أنه يجوز لكل فرد من أفراد الرعية حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى، أن يعقد الأمان الخاص مع غير المسلمين حتى ولو بدون إذن الإمام، أقول بأنه لا ينبغي أن يعطى الفرد من الرعية الحق في عقد الأمان العام أو الخاص مع غير المسلمين في هذا الزمان إلا بعد الإذن من الإمام أو من يقوم مقامه. وكذلك ينعقد الأمان بكل لفظ يفيد مقصوده سواء كان صريحا أو كنائي، أو بإشارة أو برسالة، وأيضا مدة الأمان لا تتحدد بمقدار معين من الزمان، فهي من الأمور الاجتهادية التي يقدرها الإمام باجتهاده بحسب الحاجة والمصلحة التي تعود على المسلمين، فلا يتقيد الأمان بمدة معينة، وأيضا المستأمن بمجرد رجوعه إلى داره - دار الكفر- ينتقض أمانه ولا يدخل دار الإسلام إلا بأمان جديد، وكذلك إذا ارتكب الجرائم في دار الإسلام كالقتل والسرقة والزنا، انتقض عهده ويرجع إلى داره بعد أخذ عقابه. 11) لا بأس بدخول التجار الكفار والرسل إلى ديار الإسلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 بدون تقدم أمان، إذا أخرج التاجر أو الرسول ما يدل على أنه تاجر أو رسول، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في معاملة رسل الأعداء وتجارهم. أما في الوقت الحاضر فلم تجر العادة بدخول التجار أو الرسل أو السفراء إلى ديار الإسلام، بغير أمان، فلا بد من ترخيص سابق بالدخول إلى الديار الإسلامية شأنهم في ذلك شأن غيرهم من المستأمنين. 12) المستأمنون يتمتعون بكامل الحقوق التي يتمتع بها أهل الذمة من حق العصمة في النفس والمال، وحق الحرية في التنقل من مكان لآخر داخل الأراضي الإسلامية ما عدا الأماكن التي وردت النهي في منع المشركين من دخولها، وحق الحرية الدينية، فليس لأحد من المسلمين التعرض لهم ولما يدينون به، وكذلك لهم حق التمتع بالمرافق العامة وغيرها. أما الواجبات التي تلتزمهم فمن أهمها احترام أحكام الشريعة الإسلامية. والمحافظة على الأمن والنظام العام في دار الإسلام، والامتناع عن ارتكاب الجرائم، وإظهار المحرمات في دار الإسلام، وعدم التعامل بالمعاملات المحرمة في الشريعة الإسلامية. 13) أما دار الكفر فهي الدار التي تغلب فيها أحكام الكفر ويتسلط عليها ويحكمها غير المسلمين فالشرط الأساسي لتمييز الدار هو وجود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 السلطة وغلبة الأحكام، فإن كانت الأحكام والسلطة إسلامية، كانت الدار دار إسلام، أما إذا كانت الأحكام والسلطة غير إسلامية، فالدار دار كفر. 14) أن دار الكفر تنقسم إلى قسمين: أ- دار كفر حربية: وهي الدار التي تنصب العداء التام للإسلام والمسلمين، ولا فرق بين أن تعلن ذلك أو لا تعلنه ولا توجد بينها وبين المسلمين معاهدات أو علاقات دولية، فالعلاقات بينها وبين المسلمين علاقة عداء وحرب. أما دار الكفر - غير الحربية - دار العهد- فهي الدار التي عقد أهلها العهد بينهم وبين المسلمين بعوض أو بدون عوض، بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين، أي أن العلاقة بين أهلها وبين المسلمين علاقة سلمية لا حربية. وهذا العهد ينبغي أن تكون مصلحة المسلمين هي الراجحة وتكون مدته معينة وبشروط إسلامية. أما دور الكفر في هذا الزمان والتي بينها وبين الدول الإسلامية، معاهدات وعلاقات دولية، فلا ينطبق عليها تعريف دار العهد بالشروط التي ذكرها علماء الإسلام ومنها أن تكون مدة العهد مؤقتة، لأن هذه المعاهدات والعلاقات تقوم على غير شروط إسلامية، والمصلحة الراجحة فيها تكون لصالح الكفار، وكذلك مدتها غالبا ما تكون مؤبدة غير مقيدة بزمن معين، إلى جانب مساعدة هذه الدول المعاهدة للمسلمين أعداءهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 بالمال والرجال والسلاح، ومتى رأت المصلحة في نقض العلاقة بينها وبين الدول الإسلامية، نقضت هذه العلاقة والاتفاقية بدون إنذار أو إشعار، وهذه فيها شبه بدار العهد من ناحية المعاهدات والاتفاقات الدولية التي بينها وبين المسلمين، ولكنها في الحقيقة دار حرب بل أشد. 15) أن من أصناف أهل العهد أهل الهدنة، وهم أهل الحرب الذين تقع المصالحة بينهم وبين المسلمين على ترك القتال مدة معلومة بعوض منهم أو من المسلمين عند الضرورة، أو بغير عوض بحسب المصلحة التي تعود على المسلمين ولا يعقد الهدنة مع المشركين إلا الإمام أو نائبه، ولا يصلح لأحد من أفراد الرعية أن يعقده، لأنه من العقود المهمة التي تحتاج إلى سعة نظر وتقدير للمصالح العامة، وتدبير للقضايا الحربية، وهذا كله لا يمكن توافره غالبا إلا في الإمام أو من يقوم مقامه، وكذلك يجب أن تتحقق المصلحة للمسلمين من عقد الهدنة عند إبرام العقد، وإن استمرت المصلحة طيلة بقاء العقد فهذا لا بأس به، أما إذا لم تستمر فلا ننقض إليهم عهدهم، ويبقى العقد صحيحا حتى ولو لم تستمر المصلحة معه طيلة بقائه، وكذلك يجب أن يخلو عقد الهدنة من الشروط الفاسدة الممنوعة في الشريعة الإسلامية، وأيضا لا بأس بعقد الهدنة على أي مدة بدون تحديد لها وإن طالت، بحسب المصلحة والحاجة التي يراها الإمام. 16) أن دار الكفر الحربية وغير الحربية، تنقلب وتصير دار إسلام بمجرد إظهار الأحكام الإسلامية فيها وتسلط المسلمين عليها. أما دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 الكفر الحربية فتصير دار عهد بمجرد وجود العلاقات السلمية بينها وبين المسلمين بعقد المعاهدات والاتفاقات. أما بالنسبة لتغير الوصف عن دار الإسلام إلى دار كفر، ولن يتغير هذا الوصف إن شاء الله ما تمسك المسلمون بعقيدتهم الإسلامية، وجاهدوا في الله حق جهاده، فهو أيضا يكون بغلبة أحكام الكفر فيها وتسلط غير المسلمين عليها، وكذلك دار الإسلام إذا تسلط عليها الكفار تنقلب إلى دار كفر حتى ولو كان معظم سكانها من المسلمين. 17) أن القول بأن تقسيم الأرض إلى دارين، دار إسلام، ودار كفر، لا دليل عليه، قول باطل ومردود، لأن الكتاب والسنة والإجماع قد دلت على أن الأرض داران دار إسلام ودار كفر. وله أثر في تباين الأحكام الشرعية. 18) لا يجوز للمستأمنين وغيرهم من الكفار استيطان الحجاز، أما دخوله للتجارة ولمصلحة المسلمين فهذا لا بأس به، ومن غير تقييد بمدة، بحسب ما يراه ولي أمر المسلمين من الحاجة والمصلحة التي تعود على المسلمين، فيحدد لهم مدة الدخول بدون استيطان، وله أن يوكل من يقوم مقامه بهذه المهمة وهو ما عليه العمل في الوقت الحاضر. أما باقي الجزيرة العربية من غير الحجاز فلا بأس بإقامة غير المسلمين فيها واستيطانهم لها، ما لم يكن في سكناهم وإقامتهم ما يهدد مصالح المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 19) ولا يجوز أيضا للمستأمنين أو غيرهم من الكفار دخول الحرم المكي، أما دخولهم المسجد النبوي وغيره من المساجد، فلا بأس به إذا أُمن جانبهم من العبث بها أو تخريبها، أو الفساد فيها، وكان في دخولهم مصلحة راجحة. 20) أن اختلاف الدار له أثره في وجوب القصاص على المستأمن في دار الإسلام لأنه عندما كان في داره - دار الكفر- لا يقتص منه، لعدم التزامه للأحكام الإسلامية، لكنه عندما دخل دار الإسلام بأمان اختلف الحكم بالنسبة له، فوجب عليه القصاص إذا ارتكب ما يوجبه في حق المسلمين أو غيرهم من الذميين والمستأمنين المقيمين فيها. وكذلك أثر اختلاف الدار في وجوب القصاص له من غير المسلمين المقيمين في دار الإسلام كالذميين والمستأمنين. أما من المسلمين فلا أثر لاختلاف الدار في وجوب القصاص، فالمسلم لا يقتل بالكافر المستأمن أو غيره، سواء كان القتل في دار الإسلام أو في دار الكفر. 21) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب الدية بقتل المستأمن في دار الإسلام سواء كان القتل من المسلمين أو من غيرهم كالذميين والمستأمنين المقيمين فيها. لأن المستأمن قبل الأمان كان حربيا مباح الدم والمال، فلا قصاص ولا دية ولا كفارة بقتله، لكنه عندما دخل دار الإسلام بأمان اختلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 الحكم بالنسبة له، فأصبح معصوم الدم والمال وعلى قاتله من غير المسلمين القصاص في العمد، والدية في الخطأ، أما المسلم فلا يقتل بالمستأمن لعدم المساواة بينهما، لكن الشريعة الإسلامية لم تهدر دمه بل أوجبت الدية على قاتله من المسلمين تعويضا لدمه المعصوم في دار الإسلام. وكذلك أثر اختلاف الدار في وجوب الكفارة على المسلم بقتل المستأمن، لأنه عندما كان في داره كان دمه هدرا ولا عصمة له، ولا تجب بقتله دية ولا كفارة، ولما اختلفت الدار وأصبح في دار الإسلام بأمان وجبت الكفارة على المسلم بقتله، أما وجوب الكفارة على المستأمن فلا أثر لاختلاف الدار في ذلك، لأن الكفارة لا تجب على المستأمن لا في دار الإسلام ولا في دار الكفر. 22) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب إقامة حد الزنى على المستأمن في دار الإسلام سواء كان المزني بها مسلمة أو كافرة. 23) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب إقامة حد القذف على المستأمن في دار الإسلام، إذا قذف مسلماً أو مسلمة. أما إذا قذف مستأمنا آخر أو ذميا فلا أثر لاختلاف الدار في وجوب إقامة الحد عليه، إلا من ناحية تأديبه وزجره للمحافظة على أعراض المعصومين في دار الإسلام من الذميين والمستأمنين المقيمين فيها، وكذلك للمحافظة على دار الإسلام من انتشار الفساد فيها. 24) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب إقامة حد السرقة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 المستأمن في دار الإسلام، إذا سرق من مال المسلمين أو الذميين أو المستأمنين المقيمين في دار الإسلام. وكذلك أثر اختلاف الدار في وجوب إقامة حد السرقة على المسلم السارق من مال المستأمن، فمال المستأمن في دار الإسلام يختلف عنه في دار الكفر، فماله في دار الإسلام معصوم بأمانه يقام الحد على من سرقه، أما في دار الكفر فماله مباح ولا يقام الحد على من سرقه. 25) أن اختلاف الدار له أثر في إقامة حد الحرابة على المستأمن في دار الإسلام إذا قطع الطريق على سكان دار الإسلام من المسلمين أو غيرهم. وكذلك أثر اختلاف الدار في إقامة حد الحرابة على قاطع الطريق على المستأمن في دار الإسلام، مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا آخر. 26) أن اختلاف الدار له أثر في ارتكاب جريمة البغي من المستأمن في دار الإسلام. وكذلك أثر اختلاف الدار في ارتكاب جريمة التجسس من المستأمن في دار الإسلام. 27) أن اختلاف الدار له أثر في وجوب الهجرة على العاجزين عن إظهار دينهم في دار الكفر، وكذلك أثر اختلاف الدار في كراهية السفر إلى دار الكفر من غير حاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 28) أن اختلاف لا أثر له في قسمة الغنيمة في دار الكفر الحربية، فكما تجوز قسمتها في دار الإسلام، فكذلك تجوز القسمة في دار الحرب، ولا أثر لاختلاف الدار في ذلك. 29) أن اختلاف الدار لا أثر له في التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة في دار الكفر، فالربا وغيره من العقود المحرمة، يحرم على المسلمين التعامل به في أي مكان كان في دار الإسلام أو في دار الكفر إذا دخلوها بأمان، أما إذا دخلوها بغير أمان فلا يجوز لهم أيضا إعطاء الربا للكفار، ويجوز لهم أخذه منهم. وكذلك لا أثر لاختلاف الدار في إباحة أخذ مال الحربي غير المستأمن بالربا أو بغيره، فكما يباح أخذ ماله في دار الإسلام إذا دخلها بغير أمان فكذلك يباح أخذه في دار الكفر إذا دخلها المسلمون بغير أمان ولا أثر لاختلاف الدارين في ذلك. 30) أن اختلاف الدار لا أثر له في جواز نكاح الكتابية في دار الإسلام، وإنما أثره في نكاحها في دار الحرب، لأن نكاحها في دار الإسلام مباح مع الكراهة أما في دار الحرب فهو محرم على القول الذي اخترته. وكذلك أثر اختلاف الدار في نكاح الكتابية في دار الكفر في هذا الزمان، لأن نكاحها في دار الإسلام مباح مع الكراهة، أما في دار الكفر في هذا الزمان فهو محرم بناء على الرأي الذي اخترته ما لم تدعو الضرورة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 31) أن اختلاف الدار لا أثر له في وقوع الفرقة بين الزوجين، وإنما الأثر لاختلاف الدين، فإذا أسلم أحد الزوجين في دار الكفر ثم هاجر إلى دار الإسلام لا يفرق بينهما، بسبب اختلاف الدار، وإنما تقع الفرقة بينهما لاختلاف دينهما، وكذلك إذا أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام والآخر في دار الكفر فرق بينهما، بعد عرض الإسلام على المستأخر منهما - لاختلاف الدين بينهما، ولا أثر لاختلاف الدارين في ذلك. 32) أن اختلاف الدار لا أثر له في إقامة جرائم القصاص على المسلم في دار الكفر فالجاني المتعمد يقتص منه في دار الكفر كما يقتص منه في دار الإسلام، إلا عند عدم القدرة والاستطاعة على إقامة القصاص في دار الكفر فلا بأس بتأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام، ولم يؤثر اختلاف الدار إلا من هذه الناحية. 33) أن اختلاف الدار لا أثر له في إسقاط الحدود عن مرتكبيها في دار الكفر، فالحدود كما تجب إقامتها في دار الإسلام، فكذلك تجب إقامتها في دار الكفر، ولم يؤثر اختلاف الدار في جرائم الحدود في دار الكفر إلا من ناحية التأخير فالإمام إذا لم يقدر على إقامة الحدود في دار الكفر فلا بأس بتأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام. 34) أن اختلاف الدار لا أثر له في منع التوارث بين المسلمين، وغير المسلمين فالمسلم يرث قريبه المسلم سواء كان في دار الإسلام أو في دار الكفر، وكذلك الكافر يرث قريبه في أي مكان في دار الإسلام أو في دار الكفر، فلا أثر لاختلاف الدارين في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 35) أن اختلاف الدار لا أثر له في مال المرتد الذي تركه في دار الإسلام فما كسبه قبل الردة سواء بقي في دار الإسلام أو لحق بدار الكفر يوقف، فإن مات أو قتل على ردته فهو لورثته من المسلمين، أما ما كسبه بعد الردة فهو فيء لبيت مال المسلمين. ولم يؤثر اختلاف الدار إلا في ماله الذي اكتسبه في دار الحرب فهو مباح كدمه. 36) أن اختلاف الدار لا أثر له في جواز الوصية للحربي غير المستأمن فكما لا تجوز الوصية له في دار الإسلام فكذلك لا تجوز له في دار الحرب. أما إذا كان الحربي مستأمناً في دار الإسلام، فقد أثر اختلاف الدار في جواز الوصية له إذا أمن جانبه من عدم إلحاق الضرر بالمسلمين، وكانت هناك مصلحة من الوصية، كتأليفه للإسلام ومن ثم دخوله فيه، أو كان فقيراً محتاجاً. هذا أهم ما تيسر تدوينه وجمعه في هذا البحث، وأسأل الله أن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من اطلع عليه، وأن يغفر لي خطأي إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 فهرس المصادر والمراجع المطبوعة أولا: كتب التفسير وعلوم القرآن 1) أحكام القرآن: لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، المتوفى سنة (370) هـ، طبعة بالأوفست عن الطبعة الأولى. الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت. 2) أحكام القرآن: تأليف: عماد الدين علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي، المتوفى سنة (504) هـ. تحقيق: موسى محمد علي، وعزت علي عطية. الناشر: دار الكتب الحديثة. 3) أحكام القرآن: تأليف: الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204) هـ. تحقيق: محمد زهر الكوثري. الناشر: دار الكتب العلمية بيروت سنة 1395هـ. 4) أحكام القرآن: لأبي بكر محمد بن عبد الله العربي، المتوفى سنة (543) هـ تحقيق: علي محمد البجاوى. الناشر: دار المعرفة بيروت. 5) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للعلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي المتوفى سنة (1393هـ) . مطبعة المدني سنة 1386هـ. 6) البحر المحيط في تفسير القرآن الكريم: تأليف: محمد بن يوسف، الشهير بأبي حيان المتوفى سنة (754هـ) الطبعة الثانية 1398هـ. الناشر: دار الفكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 7) تفسير أبو السعود. تأليف: قاضي القضاة أبي السعود بن محمد العمادي الحنفي، المتوفى سنة 982هـ، تحيق عبد القادر أحمد عطا، الناشر: مكتبة الرياض الحديثة بالرياض، مطبعة السعادة. 8) تفسير آيات الأحكام. تأليف الشيخ محمد السايس، طبع مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بالأزهر بمصر سنة 1372هـ/ 1953م. 9) تفسير القرآن العظيم. تأليف: الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي، المتوفى سنة 774هـ. تحقيق: د/محمد أحمد البناء وآخرين، طبعة دار الشعب. 10) التفسير الكبير: تأليف: محمد بن عمر بن حسين القرشي الرازي المتوفى سنة (606هـ) ، الطبعة الأولى، المطبعة البهية بمصر سنة 1357هـ. 11) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المتوفى سنة (1376هـ) ، حققه وطبعه ونسقه وصححه محمد زهري النجار، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض - المملكة العربية السعودية. 12) جامع البيان في تفسير القرآن: تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري. المتوفى سنة (310هـ) الطبعة الثالثة بالأوفست سنة 1398هـ عن الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة 1323هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 13) الجامع لأحكام القرآن: تأليف أبي عبد الله محمد أحمد القرطبي ن المتوفى سنة (671هـ) الطبعة الثانية بمطبعة وزارة التربية والتعليم بمصر سنة 1377هـ. الناشر: دار الكتب المصرية. 14) روح المعاني في تفسير القرآن: تأليف: شهاب الدين محمود بن عبد الله بن محمد الألوسي، المتوفى سنة (1270هـ) إدارة الطباعة المنبرية القاهرة سنة 1345هـ. 15) زاد المسير في علم التفسير: تأليف: أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. المتوفى (597هـ) الطبعة الأوللا سنة 1385هـ. المكتب الإسلامي. دمشق. 16) غرائب القرآن: تأليف: نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري المتوفى سنة (728هـ) ، تحقيق ومراجعة إبراهيم عطوة عوض، طبع بشركة، ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الأولى سنة 1381هـ. 17) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: تأليف: العلامة محمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة 1250هـ، الناشر: دار المعرفة - بيروت. 18) في ظلال القرآن: تأليف: الشهيد سيد قطب. الناشر: دار أحياء التراث العربي بيروت لبنان. الطبعة السابعة سنة 1391هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 19) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل: تأليف: أبي القاسم جار الله محمود بن عمرو الزمخشري المتوفى (538هـ) طبع بشركة، ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الأخيرة سنة 1392هـ. 20) محاسن التأويل ـ المعروف بتفسير القاسمي: تأليف: محمد جمال الدين القاسمي، المتوفى سنة (1332هـ) . تحقيق: نحمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى 1376هـ دار إحياء الكتب العربية. ثانيا: كتب الحديث وشروحه وعلومه 21) أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: تأليف الشيخ تقي الدين أبي الفتح الشهير بابن دقيق العيد، المتوفى سنة (702هـ) - دار الكتب العلمية - بيروت. 22) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: تأليف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى سنة 1399هـ، الناشر: المكتب الإسلامي ببيروت. 23) الباعث الحثيث شرح اختصار وعلوم الحديث: للحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي، المتوفى سنة 774هـ. تأليف الأستاذ: أحمد محمد شاكر. الطبعة الثانية دار الكتب العلمية ببيروت / لبنان. 24) بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني: تأليف الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا المتوفى سنة (1371هـ) . الناشر: دار الشهاب القاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 25) بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام: تأليف الحافظ أحمد بن علي العسقلاني الشهير بابن حجر المتوفى سنة 852هـ مطبوع مع شرح سبل السلام، تحقيق إبراهيم عصر، الناشر: دار الحديث القاهرة. 26) تحفة الأحوذى شرح جامع الترمذي: للعلامة: محمد بن عبد الرحمن المباركفورى. المتوفى سنة 1353هـ طبعة دار الاتحاد العربي سنة 1384هـ الناشر: المكتبة السلفية. 27) تحفة الأشراف: للإمام أبي الحجاج يوسف بن الزكي بن عبد الرحمن بن يوسف المزي المتوفى سنة 742هـ. الناشر: الدار القيمة بومباي ـ الهند 1389هـ. 28) التعليق المغني على سنن الدارقطني: تأليف محمد شمس الحق آبادي، مطبوع بذيل سنن الدارقطني تحقيق عبد الله هاشم سنة 1386هـ. الناشر: دار المحاسن بالقاهرة. 29) التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: تأليف الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ طبع في المطبعة العربية بباكستان. 30) الجوهر النقي في الرد على البيهقي: تأليف علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني المتوفى سنة (745هـ) مطبوع بذيل السنن الكبرى سنة 1354هـ. الناشر: دار الفكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 31) الدراية في تخريج أحاديث الهداية: تأليف الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ تصحيح: عبد الله هاشم اليماني. طبع مطبعة الفجالة الجديدة بالقاهرة سنة 1384هـ. 32) رياض الصالحين: تأليف: افمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676هـ. الناشر: دار المأمون للتراث. الطبعة الثانية. 33) سبل السلام في شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام: تأليف العلامة محمد إسماعيل الصنعاني ـ المتوفى سنة 1182هـ مطبوع مع المتن بلوغ المرام المتقدم. 34) سنن ابن ماجة: تأليف: الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني المتوفى سنة 275هـ، تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: دار إحياء التراث العربي ـ بيروت سنة 1395هـ. 35) سنن أبي داود: تأليف الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة (275هـ) الطبعة الأولى سنة 1389هـ تعليق عزت الدعاس. الناشر: دار الحديث. بدمشق. 36) سنن الترمذي: تأليف: الحافظ أبي عسى محمد بن عيسى الترمذي. المتوفى سنة 279هـ تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. الناشر: دار الفكر - بيروت سنة 1400هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 37) سنن الدارقطني: تأليف الحافظ علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة (385هـ) طبع بمطبعة الأنصاري بالهند سنة 1310هـ. الناشر: دار المحاسن للطباعة بالقاهرة. 38) سنن الدارمي: تأليف أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255هـ. تحقيق عبد الله هاشم اليماني. الناشر: حديث أكادمي - الباكستان. 39) سنن سعيد بن منصور: تأليف: الحافظ سعيد بن منصور بن شعبة الخرساني المكي المتوفى سنة 227هـ القسم الأول من المجلد الثالث تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. الطبعة الأولى سنة 1405هـ. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. 40) السنن الكبرى: تأليف: الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. المتوفى سنة 458هـ مطبوع بذيله الجوهر النقي المتقدم. 41) سنن النسائي: تأليف: الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفي سنة (303هـ) الطبعة الأولى سنة 1348هـ. الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت. 42) شرح السنة: تأليف: أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، المتوفى سنة (516هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش. الطبعة الأولى سنة 1390هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 43) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك: تأليف: محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ـ المتوفى سنة (1122هـ) ، الناشر: دار المعرفة، بيروت سنة 1398هـ. 44) شرح صحيح مسلم: تأليف: محي الدين يحيى بن شرف الدين النووي. المتوفي سنة (676هـ) . الناشر: المطبعة المصرية ومكتبتها. 45) شرح معاني الآثار: للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي. المتوفي سنة (321هـ) ، تحقيق: محمد زهري النجار، الطبعة الأولى سنة 1399هـ. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. 46) صحيح بن خزيمة: للحافظ أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي المتوفي سنة 311هـ. تحقيق: د/محمد مصطفى الأعظمي. الطبعة الثانية سنة 1401هـ طبع شركة الطباعة العربية السعودية المحدودة بالرياض. 47) صحيح البخاري: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفي سنة 256هـ طبعة معادة بالأوفست سنة 1978م ومعه حاشية السندي. الناشر: دار المعرفة ببيروت. 48) صحيح الجامع الصغير: تأليف الإمام. السيوطي بتحقيق: محمد ناصر الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي ـ دمشق 1388هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 49) صحيح مسلم: للإمام مسلم بن الحجاج القشيري المتوفي سنة (261هـ) تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: دار إحياء التراث العربي ببيروت. 50) عمدة القارئ شرح صحيح البخاري: تأليف بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني المتوفي سنة 855هـ الطبعة الأولى عام 1392هـ. طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. 51) عون المعبود شرح سنن أبي داود: للعلامة محمد شمس الحق العظيم آبادي. تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. الطبعة الثانية عام 1388هـ. الناشر: المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 52) فتح الباري شرح صحيح البخاري: للحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ. تحقيق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز. طبعة سنة 1380هـ بالمطبعة السلفية بالقاهرة. الناشر: رئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية. 53) الفتح الرباني لترتيب سنن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: تأليف أحمد بن عبد الرحمن البنا المتوفي سنة (1371هـ) . الناشر: دار الشهاب القاهرة. 54) فيض القدير شرح الجامع الصغير: تأليف: محمد حسن ضيف الله -المدرس بالأزهر الشريف- شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ط1 1383هـ. 55) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: تأليف: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفي سنة 807هـ الطبعة الثالثة سنة 1402هـ. الناشر: دارالكتاب العربي ببيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 56) المحرر في الحديث: للحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المتوفي سنة 744هـ. تحقيق د/ يوسف المرعشلي ومحمد سليم وجمال الذهبي. الطبعة الأولى 1405هـ. الناشر: دار المعرفة ببيروت. 57) المراسيل مع الأسانيد: تأليف الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. المتوفي سنة 275هـ دراسة وتحقيق الشيخ عبد العزيز عزالدين. الناشر: دار القلم - بيروت - لبنان. 58) المستدرك على الصحيحين: للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المتوفي سنة 405هـ. الناشر: دار الفكر بيروت سنة 1398هـ. 59) مسند أحمد بن حنبل: للإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المتوفي سنة 241هـ. الطبعة الرابعة سنة 1403هـ. الناشر: المكتب الإسلامي ببيروت. 60) مسند الشافعي: للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفي سنة (204هـ) رتبه على أبواب الفقه المحدث محمد عابد السندي، نشره وصححه يوسف الحسني وعزت العطار سنة 1370. الناشر: دار الكتب العلمية ببيروت. 61) مشكل الآثار: تأليف الإمام أحمد بن محمد بن سلامة المعري الحنفي المعروف بالطحاوي المتوفي سنة (321هـ) . الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة بالهند سنة 1333هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 62) المصنف: للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفي سنة 211هـ الطبعة الأولى سنة 1392هـ. تحقيق: حبي بالرحمن الأعظمي، الناشر: المكتب الإسلامي بدمشق. 63) المصنف: للحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المتوفي سنة (235هـ) الطبعة الثانية سنة 1399هـ. تحقيق: عبد الخالق الأفغاني. الناشر: الدار السلفية بومباي الهند. 64) معالم السنن (شرح سنن أبي داود) : للعلامة: أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي المتوفي سنة 388هـ، الطبعة الثانية 1401هـ. الناشر ك المكتبة العلمية - بيروت. 65) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك: لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، المتوفي سنة 494هـ الطبعة الثالثة بالأوفست سنة 1403هـ معادة من الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1332هـ. الناشر: دار الكتب العرب بيروت لبنان. 66) المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم: لمجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية الحرائي المتوفي سنة (728هـ) طبع ونشر: الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض - المملكة العربية السعودية 1403هـ. 67) المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود: تأليف: محمود محمد السبكي المتوفي سنة (807هـ) . الطبعة الأولى سنة 1451 بمطبعة الاستقامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 68) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفي سنة 807هـ، تحقيق: محمد عبد الرزاق حمزة. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. 69) الموطأ: للإمام مالك بن أنس الأصبحي. المتوفي سنة (179هـ) . رواية يحيى بن يحيى الليثي. الطبعة الأولى سنة 1405هـ. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. 70) نصب الراية لأحاديث الهداية: لجمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي المتوفي سنة (762هـ) الطبعة الثانة بالأوفست من الطبعة الأولى سنة 1357هـ الناشر: دار المأمون بالقاهرة. 71) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار: للعلامة محمد بن علي الشوكاني المتوفي سنة (1250هـ) . الناشر: مكتبة الدعوة الإسلامية - شباب الأزهر. ثالثا: كتب الفقه (أ) : الفقه الحنفي 72) الاختيار لتعليل المختار: تأليف: عبد الله بن محمود بن مودود الحنفي المتوفي سنة (683هـ) الطبعة الثالثة سنة 1395هـ. الناشر: دار المعرفة ببيروت. 73) الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان: لزين العابدين إبراهيم بن نجيم الحنفي المتوفي سنة (970هـ) . الناشر: دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1400هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 74) البحر الرائق في كنز الدقائق: تأليف: لزين العابدين إبراهيم بن نجيم الحنفي المتوفي سنة (970هـ) . الطبعة الثانية. الناشر: دار المعرفة ببيروت. 75) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: تأليف: علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكساساني. المتوفي سنة (587هـ) الطبعة الثانية سنة 1402هـ. الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت. 76) بدر المنتقى في شرح الملتقى: تأليف: محمد بن محمد البهنسي. مكبوع مع مجمع النهر. الناشر: دار إحياء التراث العربي. 77) البناية في شرح الهداية: تأليف: أبي محمد محمود بن احمد العيني المتوفي سنة (855هـ) . تصحيح المولوي محمد عمر. الطبعة الأولى سنة 1401÷ـ. الناشر: دار الفكر ببيروت. 78) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: تأليف: فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي المتوفي سنة (743هـ) ، الطبعة الثانية معادة بالأوفست من الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق بمصر سنة 1313هـ. الناشر: دار الفكر ببيروت. 79) تحفة الفقهاء: تأليف: محمد بن أحمد السمرقندي المتوفي سنة (540هـ) ، الطبعة الأولى سنة 1405هـ. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 80) الجوهرة النيرة على مختصر القدوري: تأليف: أبي بكر علي الحدادي العبادي المتوفي سنة (800هـ) . طبعة محمد عارف سنة 323هـ. 81) حاشية رد المحتار على الدار المختار (المعروف بحاشية ابن عابدين) : تأليف: محمد أمين بن عمر الدمشقي، الشهير بابن عابدين المتوفي سنة (1252هـ) الطبعة الثانية سنة 1386هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. 82) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: تأليف: أحمد بن محمد الشلبي. المتوفي سنة (1021هـ مطبوع بهامش تبيين الحقائق المتقدم. 83) الحجة على أهل المدينة: لأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة (189هـ) . تعليق مهدي حسن القادري. الطبعة الثالثة سنة 1403هـ. الناشر: عالم الكتب ببيروت. 84) الخراج: لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفي سنة (182هـ) المطبعة السلفية بالقاهرة. الطبعة الثانية سنة 1352هـ. 85) الدرر الحكام شرح غرر الأحكام: تأليف: القاضي محمد بن فراموز الشهير بملا الحنفي المتوفي سنة 885هـ طبع سنة 1329هـ بمطبعة أحمد كامل بدار السعادة. 86) الرد على سير الأوزاعي: تأليف: الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفي سنة (182هـ) الناشر: دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. عني بتصحيحه والتعليق عليه أبو الوفا الأفغاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 87) السير الكبير: تأليف: الإمام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي المتوفي سنة 189هـ، تحقيق عبد العزيز أحمد. طبع بمطبعة شركة الإعلانات الشرقية سنة 1972م. 88) شرح السراجية في علم الفرائض: للإمام علي بن محمد بن علي الجرجاني المعروف بالسيد الكبير، المتوفي سنة 816هـ. مطبعة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ـ بغداد سنة 1399هـ. 89) شرح السير الكبير: لمحمد بن احمد السرخسي المتوفي سنة (483هـ) تحقيق عبد العزيز أحمد مطبعة شركة الإعلانات الشرقية سنة 1972م. 90) العناية على الهداية: تأليف: محمد بن محمد بن محمود البابرتي المتوفي سنة 876هـ. مطبوع بهامش شرح فتح القدير. 91) الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل أبي حنيفة: تأليف سراج الدين أبي حفص الغزنوي الحنفي المتوفي سنة (773هـ) ، الطبعة الأولى سنة 1406هـ الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت. 92) الفتاوى البازية: تأليف: محمد بن محمد بن شهاب الدين المعروف بابن البزاز الحنفي المتوفي سنة 827هـ مطبوع بهامش الفتاوى الهندية الآتية. 93) الفتاوى الهندية: تأليف: العلامة نظام وجماعة من علماء الهند ـ الطبعة الثالثة بالأوفست 1393هـ معادة على الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة 1310هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 94) فتح القدير على الهداية: تأليف محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بالكمال ابن الهمام المتوفي سنة 681هـ. الناشر: دار إحياء التراث العربي. 95) كشف الحقائق شرح كنز الدقائق: تأليف عبد الكريم الأفغاني المتوفي سنة 1326هـ. الناشر: المطبعة الأدبية بمصر الطبعة الأولى سنة 1318هـ. 96) اللباب في شرح الكتاب: تأليف الشيخ عبد الغني الميداني، المتوفي سنة 1298هـ. الناشر: دار الحديث الطبعة الرابعة 1399هـ. 97) اللباب في الجمع بين السنة والكتاب: لأبي محمد علي بن زكريا المبنجي المتوفي سنة 686هت تحقيق: د/ محمد فضل المراد. الطبعة الأولى سنة 1403هـ. الناشر: دار الشروق بجدة. 98) المبسوط: لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفي سنة 483هـ الطبعة الثالثة سنة 1398هـ الناشر: دار المعرفة ببيروت. 99) مختصر الطحاوي: لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفي سنة 321هـ تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني. سنة 1370هـ. مطبعة دار الكتاب العربي بالقاهرة. 100) الهداية شرح بداية المبتدي: لأبي الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفي سنة 593هـ الناشر: المكتبة الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 (ب) الفقه المالكي 101) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك: لأبي بكر بن حسن الشناوي. الطبعة الثانية. الناشر: دار الفكر. 102) الإشراف على مسائل الخلاف: للقاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي المتوفي سنة (422هـ) الطبعة الأولى بمطبعة الإدارة. 103) بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي المتوفي سنة (595هـ) . الطبعة الرابعة سنة 1398هـ. الناشر: دار المعرفة ببيروت. 104) بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك: تأليف أحمد بن محمد الصاوي المتوفي سنة (1421هـ) . الناشر: دار المعرفة بيروت سنة 1398هـ. 105) التاج والإكليل: تأليف أبي عبد الله محمد بن يوسف العبدري المتوفي سنة (897هـ) الطبعة الأولى سنة 1329هـ مطبعة السعادة بمصر. 106) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: تأليف: برهان الدين غبراهيم بن علي بن محمد المشهور بابن فرحون، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده القاهرة سنة 1378هـ. 107) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لأبي يوسف عمر بن عبد الله بن عبد البر المتوفي سنة (463هـ) . الطبعة الأولى مطبعة فضالة المحمدية بالمغرب. 108) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل: تأليف الشيخ صالح عبد السميع الأزهري. الناشر: دار إحياء الكتب العربية بمصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 109) حاشية الدسوقي على شرح الكبير: تأليف: محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المتوفي سنة (1230هـ) . الطبعة الأولى. الناشر: دار إحياء الكتب العربية بمصر. 110) حاشية العدوى على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي يزيد القيرواني: تأليف: الشيخ علي بن أحمد الصعيدي العدوى المتوفي سنة (1189هـ) . الناشر: دار المعرفة ببيروت. 111) السراج السالك شرح أسهل المدارك: تاليف: عثمان بن حسنين برى الجعلي. الطبع الأخيرة سنة 1402هـ. الناشر دار الفكر. 112) شرح الخرشي على مختصر خليل: تأليف: محمد بن عبيد الله بن علي الخرشي المتوفي سنة (1101هـ) . الطبعة الثانية 1317هـ طبع بالمطبعة الأميرية بمصر. 113) الشرح الصغير على أقرب المسالك: تأليف الشيخ أحمد محمد الدردير المتوفي سنة (1201هـ) وهو مطبوع بهامش حاشية الدسوقي. الناشر: مطبعة عيسى الحلبي. 114) الشرح الكبير: تأليف أبي البركات أحمد محمد الدردير المتوفي سنة (1201هـ) وهو مطبوع بحاشية الدسوقي. الناشر: دار الفكر. 115) شرح منح الجليل على مختصر خليل: تأليف الشيخ محمد بن أحمد بن محمد عليش المتوفي سنة (1299هـ) . الناشر: مكتبة النجاح - طرابلس/ليبيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 116) الفروق: للإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي المشهور بالقرافي. الناشر: عالم الكتب. 117) قوانين الحكام الشرعية: تأليف: محمد بن أحمد بن جزي المالكي المتوفي سنة (741هـ) . دار العلم للملايين بيروت. 118) الكافي في فقه أهل المدينة: لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر المتوفي سنة 463هـ. طبع بمطابع دار الهدى سنة 199هـ. 119) كفاية الطالب الرباني: 120) المدونة الكبرى: للإمام مالك بن أنس الأصبحي. المتوفي سنة (179هـ) . الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1323هـ. 121) المقدمات الممهدات: تأليف: أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفي سنة (520هـ) الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1325هـ. 122) مواهب الجليل بشرح مختصر خليل: تأليف: أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب المتوفي سنة (954هـ) الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بمصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 (ج) الفقه الشافعي: 123) الإجماع: للعلامة أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر المتوفي سنة (318هـ) الطبعة الأولى سنة 1402هـ. الناشر: دار طيبة الرياض. 124) الأحكام السلطانية والولايات الدينية: تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي المتوفي سنة 450هـ الطبعة الثالثة مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. 125) أسنى المطالب: تأليف: أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي. الناشر: المكتبة افسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ. 126) أعلام الساجد بأحكام المساجد: تأليف: محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المتوفي سنة 794هـ. طبع مطابع الأهرام سنة 1403هـ القاهرة. 127) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: تأليف: محمد بن أحمد الشربيني الشافعي المتوفي سنة 977هـ. الناشر: دار المعرفة - بيروت. 128) الأم: للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفي سنة 204هـ. الطبعة الأولى سنة 1400هـ. الناشر: دار الفكر. 129) الأنوار لأعمال الأبرار: تأليف: يوسف بن إبراهيم الاردبيلي المتوفي سنة 799هـ. طبع بالمطبعة الميمنية بمصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 130) تحرير الأحكام في تدبير أه الإسلام: تأليف: بدر الدين بن جماعة المتوفي سنة 733هـ تحقيق عبد المجيد معاز. إشراف الدكتور عبد الغني محمد عبد الخالق جامعة الأزهر رسالة دكتوراه عام 1395هـ. 131) تحفة المحتاج: تأليف شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي. المكتبة التجارية الكبرى. 132) تكملة المجموع: التكملة الأولى للإمام السكبي. أما الثانية فهي لمحمد بخيت المطيعي. النشر دار الفكر. 133) حاشية إعانة الطالبين: تأليف أبيبكر محود الدمياطي. الطبعة الثانية 1356هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. 134) حاشية الباجوري على شرح ابن القاسم: تأليف: إبراهيم البيجوري. الناشر: مطبعة مصطفى الحلبي سنة 1343هـ. 135) حاشية البجيرمي على الخطيب: تأليف الشيخ سليمان بن محمد البجيرمي المتوفي سنة 1221هـ. مطبعة مصطفى البابي بمصر سنة 1370هـ. 136) حاشية الجمل على شرح المنهج: تأليف الشيخ سليمان بن عمر العجبلي المعروف بالجمل المتوفي سنة 1204هـ الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت لبنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 137) حاشية الشرقاوي على التحرير: تأليف الشيخ عبد الله بن حجازي الشرقاوي الشافعي المتوفي سنة 1226هـ الطبعة الأولى 1360هـ مطبعة مصطفى الحلبي بمصر. 138) حاشية قليوبي وعميرة: تأليف الشيخين عميرة وأحمد القليوبي المتوفي سنة 1096هـ طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518